مطمع الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس

الفتح بن خاقان، أبو نصر

مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس تأليف الوزير الكاتب أبي نصر الفتح بن محمد بن عبيد الله بن خاقان ابن عبد الله القيسي الإشبيلي المتوفى سنة هـ م وهو مما لم يذكر في قلائد العقيان

(مطمح الْأَنْفس ومسرح التأنس فِي ملح أهل الأندلس تأليف الْوَزير الْكَاتِب أبي نصر الْفَتْح بن مُحَمَّد بن عبيد الله بن خاقَان ابْن عبد الله الْقَيْسِي الإشبيلي الْمُتَوفَّى سنة 529 هـ 1135 م وَهُوَ مِمَّا لم يذكر فِي قلائد العقيان)

فارغة

بسم الله الرحمن الرحيم خطبة الكتاب

(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم خطْبَة الْكتاب) أما بعد حمدا لله الَّذِي أشعرنا إلهاما وصير لنا أفهاما وَيسر لنا برود آدَاب ونشرنا للأنبعاث إِلَى إِثْبَاتهَا والانتداب وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد الَّذِي بَعثه رَحْمَة ونبأه منَّة ونعمة وَسلم تَسْلِيمًا فَإِنَّهُ كَانَ بالأندلس أَعْلَام فتنُوا بِسحر الْكَلَام ولقو مِنْهُ كل تَحِيَّة وَسَلام فشعشعوا الْبَدَائِع وروقوها وقلدوها بمحاسنهم وطوقوها ثمَّ هووا فِي مهاوي المنايا وانطووا بايدي الرزايا وَبقيت مآثرهم غير مثبتة فِي ديوَان وَلَا مجملة فِي تصنيف أحد من

الاعيان تجتلي فِيهِ الْعُيُون وتجتني مِنْهُ زهر الْفُنُون إِلَى أَن اراد الله إِظْهَارًا أعجازها واتصال صدورها بأعجازها فحللت من الْوَزير ابي الْعَاصِ حكم بن الْوَلِيد عِنْد من رحب وَأهل وأعل بمكارمه وأنهل وندبني إِلَى أَن أجمعها فِي كتاب وأدركني من التنشط إِلَى إقبال مَا ندب إِلَيْهِ وَكِتَابَة مَا حث عَلَيْهِ فأجبت رغبته وحليت بالإسعاف لبته وَذَهَبت إِلَى إبدائها وتخليد عليائها وامليت مِنْهَا فِي بعض الْأَيَّام ثَلَاثَة أَقسَام الْقسم الاول يشْتَمل على سرد غرر الوزراء وتناسق دُرَر الْكتاب والبلغاء الْقسم الثَّانِي يشْتَمل على محَاسِن أَعْلَام الْعلمَاء وأعيان الْقُضَاة والفهماء الْقسم الثَّالِث يشْتَمل على سرد محَاسِن الادباء النوابغ النجباء وسميتها مطمح الْأَنْفس ومسرح التأنس فِي ملح أهل الأندلس وابقيتها لِذَوي

الْآدَاب ذكرا وَلأَهل الْإِحْسَان فخرا يساجلون بهَا أهل الْعرَاق ويحاسنون بمحاسنها الشَّمْس عِنْد الْإِشْرَاق وَالله أسأله إلهام الْمَقْصد وانفراج بَابه الموصد بمنه وَكَرمه

فارغة

الْقسم الأول الوزراء

فارغة

الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم 3 - (الْحَاجِب جَعْفَر بن عُثْمَان المصحفي) تجرد للعليا وتمرد فِي طلب الدُّنْيَا حَتَّى بلغ المنى وتسوغ

ذَلِك الجنى فسما دون سَابِقَة وارتقى إِلَى رُتْبَة لم تكن لبنيته بمطابقة فالتاح فِي أفياء الْخلَافَة وارتاح إِلَيْهَا بعطفه كنشوان السلافة واستوزره الْمُسْتَنْصر وَعنهُ كَانَ يسمع بِهِ ويبصر فَأدْرك بذلك مَا اِدَّرَكَ وَنَصّ لأمانيه الحبائل والشرك واقتنى وادخر وأزرى بِمن سواهُ وسخر واستعطفه الْمَنْصُور بن ابي عَامر ونجمه

غائر لم يلح وسره مَكْتُوم لم يبح فَمَا عطف وَلَا جنى من رَوْضَة دُنْيَاهُ وَلَا قطف فَأَقَامَ فِي تَدْبِير بالأندلس مَا أَقَامَ والأندلس متغيرة والأذهان فِي تكيف سعده متحيرة فناهيك من ذكر خلد وَمن فَخر تقلد وَمن صَعب رَاض وَجَنَاح فتْنَة هاض وَلم يزل بنجاد تِلْكَ الْخلَافَة معتقلا وَفِي مطالعها متنقلا إِلَى أَن توفّي الحكم فانتفض عقده الْمُحكم وانبرت إِلَيْهِ النوائب وتسددت إِلَيْهِ من الخطوب سِهَام صوائب واتصل إِلَى الْمَنْصُور ذَلِك الْأَمر واختص بِهِ كَمَا مَال بالوليد بن يزِيد أَخُوهُ الْغمر وأناف فِي تِلْكَ الْخلَافَة كَمَا شب قبل الْيَوْم عَن طوقه عَمْرو وانتدب

للمصحفي بصدر قد كَانَ أوغره وساءه وصغره فاقتص من تِلْكَ الاساءة وأغص حَلقَة بِأَيّ مساءة فأخمله ونكبه وأرجله عَمَّا كَانَ الدَّهْر أركبه وألهب جوارحه حزنا وَنهب لَهُ مدخرا ومختزنا وَدَمرَ عَلَيْهِ مَا كَانَ حاط وأحاط بِهِ من مكروهه مَا أحَاط وَغير سِنِين فِي مهوى تِلْكَ النكبة وجوى تِلْكَ الْكُرْبَة يَنْقُلهُ الْمَنْصُور مَعَه فِي غَزَوَاته ويعتقله بَين ضيق المطبق ولهواته إِلَى أَن تكورت شمسه وفاضت بَين أثْنَاء المحن نَفسه وَمن بديع مَا حفظ لَهُ فِي نكبته قَوْله يستريح من كربته (صبرت على الْأَيَّام لما تولت ... وألزمت نَفسِي صبرها فاستمرت) (فواعجبا للقلب كَيفَ اعترافه ... وللنفس بعد الْعِزّ كَيفَ استذلت)

(وَمَا النَّفس إِلَّا حَيْثُ يَجْعَلهَا الْفَتى ... فَإِن طمعت تاقت وَإِلَّا تسلت) (وَكَانَت على الْأَيَّام نَفسِي عزيزة ... فَلَمَّا رَأَتْ صبري على الذل ذلت) (فَقلت لَهَا يَا نفس موتِي كَرِيمَة ... فقد كَانَت الدُّنْيَا لنا ثمَّ ولت) وَكَانَ لَهُ أدب بارع وخاطر إِلَى نظم القريض مسارع فَمن محَاسِن انشاده الَّتِي بعثها ايناس دهره باسعاده قَوْله (لعينيك فِي قلبِي عَليّ عُيُون ... وَبَين ضلوعي للشجون فنون) (لَئِن كَانَ جسمي مخلقا فِي يَد الْهوى ... فحبك عِنْدِي فِي الْفُؤَاد مصون) (وَله وَقد أصبح عاكفا على حمياه هاتفا بإجابة دُنْيَاهُ مرتشفا ثغر الْأنس متنسما رياه وَالْملك يغازله بِطرف كحيل والسعد

قد عقد عَلَيْهِ من إكليل يصف لون مدامه وَمَا تعرف لَهُ مِنْهَا دون ندامه (صفراء تطرق فِي الزّجاج فَإِن سرت ... فِي الْجِسْم دبت مثل صل لادغ) (خفيت على شرابها فَكَأَنَّمَا ... يَجدونَ ريا من إِنَاء فارغ) وَمن شعره فِي السفرجل الَّذِي قَالَه فِيهِ مشبها وَغدا بِهِ لنائم البديع منبها قَوْله يصف سفرجلة وَيُقَال إِنَّه ارتجله (ومصفرة تختال فِي ثوب نرجس ... وتعبق عَن مسك ذكي التنفس) (لَهَا ريح مَحْبُوب وقسوة قلبه ... ولون محب حلَّة السقم مكتسي) (فصفرتها من صفرتي مستعارة ... وأنفاسها فِي الطّيب أنفاس مؤنسي) (وَكَانَ لَهَا ثوب من الزغب أغبر ... على جسم مصفر من التبر أملس) (فَلَمَّا استتمت فِي الْقَضِيب شبابها ... وحاكت لَهَا الأوراق أَثوَاب سندس) (مددت يَدي باللطف أبغي اجتناءها ... لأجعلها ريحانتي وسط مجلسي)

(فبزت يَدي غصبا لَهَا ثوب جسمها ... وأعريتها باللطف من كل ملبس) (وَلما تعرت فِي يَدي من برودها ... وَلم تبْق إِلَّا فِي غلالة نرجس) (ذكرت بهَا من لَا أبوح بِذكرِهِ ... فأذبلها فِي الْكَفّ حر التنفس) وَله وَقد أَعَادَهُ الْمَنْصُور إِلَى المطبق والشجون تسرع إِلَيْهِ وتسبق معزيا لنَفسِهِ مجتزيا بإسعاد أمسه (أجازي الزَّمَان على حَاله ... مجازاة نَفسِي لأنفاسها) (إِذا نفس صاعد شفها ... تَوَارَتْ بِهِ دون جلاسها) (وَإِن عكفت نكبة للزمان ... عطفت بنفسي على رَأسهَا) وَمِمَّا حفظ لَهُ فِي استعطافه واستنزاله للمنصور واستلطافه قَوْله (عَفا الله عَنْك إِلَّا رَحْمَة ... تجود بعفوك إِن أبعدا) (لَئِن جلّ ذَنْب وَلم اعْتَمدهُ ... فَأَنت أجل وَأَعْلَى يدا)

(ألم تَرَ عبدا عدا طوره ... وَمولى عَفا ورشيدا هدى) (ومفسد أَمر تلافيته ... فَعَاد فَأصْلح مَا أفسدا) (أَقلنِي أقالك من لم يزل ... يقيك وَيصرف عَنْك الردى) قَالَ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل كَاتب الْمَنْصُور سرت بأَمْره لتسليم جَسَد جَعْفَر إِلَى أَهله وَولده والحضور على إنزاله فِي ملحده فنظرته وَلَا أثر فِيهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء يواريه غير كسَاء خلق لبَعض البوابين فَدَعَا لَهُ مُحَمَّد بن مسلمة بغاسل فَغسله وَالله على فردة بَاب اقتطع من جَانب الدَّار وَأَنا اعْتبر من تصرف الأقدار وَخَرجْنَا بنعشه إِلَى قَبره وَمَا مَعنا سوى إِمَام مَسْجده المستدعى للصَّلَاة عَلَيْهِ وَمَا تجاسر أحد منا للنَّظَر إِلَيْهِ وَإِن لي فِي شَأْنه لخبرا مَا سمع بِمثلِهِ طَالب وعظ وَلَا وَقع فِي سمع وَلَا تصور فِي لحظ وقفت لَهُ فِي طَرِيقه من قصره أَيَّام نَهْيه وَأمره اروم أَن أناوله قصَّة كَانَت بِهِ مُخْتَصَّة فوَاللَّه مَا تمكنت من الدنو مِنْهُ بحيلة لكثافة موكبه وَكَثْرَة من حف بِهِ وَأخذ النَّاس السكَك عَلَيْهِ وأفواه الطّرق داعين وجارين بَين يَدَيْهِ وساعين حَتَّى ناولت قصتي بعض كِتَابه الَّذين نصبهم جناحي موكبه لأخذ الْقَصَص فَانْصَرَفت وَفِي نَفسِي مَا فِيهَا من الشرق بِحَالهِ والغصص فَلم تطل الْمدَّة حَتَّى غضب عَلَيْهِ الْمَنْصُور واعتقله وَنَقله مَعَه فِي الْغَزَوَات وَحَملَة وَاتفقَ

أَن نزلت بجليقية إِلَى جَانب خبائه فِي لَيْلَة نهى الْمَنْصُور فِيهَا عَن وقود النيرَان ليخفي على الْعَدو أَثَره وَلَا ينْكَشف إِلَيْهِ خَبره فَرَأَيْت وَالله عُثْمَان ابْنه يسفه دَقِيقًا قد خلطه بِمَاء يُقيم بِهِ أوده ويمسك بِسَبَبِهِ رمقه بِضعْف حَال وَعدم زَاد وَهُوَ يَقُول (تَأَمَّلت صرف الحادثات فَلم أزل ... أَرَاهَا توفّي عِنْد موعدها الحرا) (فَللَّه أَيَّام مَضَت بسبيلها ... فَإِنِّي لَا انسى لَهَا أبدا ذكرا) (تجافت بهَا عَنَّا الْحَوَادِث بُرْهَة و ... وأبدت لنا مِنْهَا الطلاقة والبشرا) (ليَالِي لم يدر الزَّمَان مَكَانهَا ... وَلَا نظرت مِنْهَا حوادثه شزرا) (وَمَا هَذِه الْأَيَّام إِلَّا سحائب ... على كل أَرض تمطر الْخَيْر والشرا) وَكَانَ مِمَّا أعين بِهِ ابْن أبي عَامر على جَعْفَر المصحفي ميل الوزراء إِلَيْهِ وايثارهم لَهُ عَلَيْهِ وسعيهم فِي ترقيه وَأَخذهم بالعصبية فِيهِ فَإِنَّهَا وَإِن لم تكن حمية اعرابية فقد كَانَت سلفية سلطانية يَقْتَضِي الْقَوْم فِيهَا سَبِيل سلفهم وَيمْنَعُونَ بهَا ابتذال شرفهم غادروها سيرة

وخلفوها عَادَة أثيرة تشاح الْخلف فِيهَا تشاح أهل الدّيانَة وصانوا بهَا مَرَاتِبهمْ أعظم صِيَانة وَرَأَوا أَن أحدا لَا يلْحق فِيهَا غَايَة وَلَا يتلَقَّى لَهَا رأية فَلَمَّا اصْطفى الحكم الْمُسْتَنْصر بِاللَّه جَعْفَر بن عُثْمَان واصطنعه وَوَضعه من أثرته حَيْثُ وَضعه وَهُوَ نزيع بَينهم ونابغ فيهم حسدوه وذموه وخصوه بالمطالبة وعموه وَكَانَ أسْرع هَذِه الطَّائِفَة من أعالي الوزراء وأعاظم الدولة إِلَى مهاودة الْمَنْصُور عَلَيْهِ والانحراف عَنهُ إِلَيْهِ آل أبي عَبدة وَآل شَهِيد وَآل فطيس من الْخُلَفَاء وَأَصْحَاب الردافة وأولي الشّرف والإنافة

وَكَانُوا فِي الْوَقْت أزمة الْملك وقوام الْخدمَة ومصابيح الْأمة وأغير الْخلق على جاه وَحُرْمَة فأحظوا مُحَمَّد بن أبي عَامر مشايعة ولبعض اسبابه الجامعة مُتَابعَة وشادوا بناءه وقادوا إِلَى عنصره سناءه حَتَّى بلغ الأمل والتحف يَمِينه بمناه واشتمل وَعند التئام هَذِه الْأُمُور لِابْنِ أبي عَامر استكان جَعْفَر بن عُثْمَان للحادثة وايقن بالنكبة وَزَوَال الْحَال وانتقال الرُّتْبَة وكف عَن اعْتِرَاض مُحَمَّد وشركته فِي التَّدْبِير وانقبض النَّاس من الرواح إِلَيْهِ والتبكير وانثالوا على ابْن أبي عَامر فخف موكبه وغار من سَمَاء الْعِزّ كوكبه وتوالى عَلَيْهِ سعي ابْن أبي عَامر وَطَلَبه إِلَى أَن صَار يَغْدُو إِلَى قرطبة وَيروح وَلَيْسَ بِيَدِهِ من الحجابة إِلَّا اسْمهَا وَابْن أبي عَامر مُشْتَمل على رسمها حَتَّى محاه وهتك ظله وأصحاه قَالَ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل رَأَيْته يساق إِلَى مجْلِس الوزراء للمحاسبة رَاجِلا فَأقبل يدرم وجوارحه باللواعج تضطرم وواثق الضاغط ينهره والزمع والبهر قدها ضاه وقصرا خطاه فَسَمعته يَقُول رفقا بِي فستدرك مَا تحبه وتشتهيه وَترى مَا كنت ترتجيه وَيَا لَيْت أَن الْمَوْت بيع

فأغلى الله سومه حَتَّى يردهُ من قد أَطَالَ عَلَيْهِ حومه ثمَّ قَالَ (لَا تأمنن من الزَّمَان تقلبا ... إِن الزَّمَان بأَهْله يتقلب) (وَلَقَد أَرَانِي والليوث تخافني ... وأخافني من بعد ذَاك الثَّعْلَب) (حسب الْكَرِيم مذلة ومهانة ... أَلا يزَال إِلَى لئيم يطْلب) فَلَمَّا بلغ الْمجْلس جلس فِي آخِره دون أَن يسلم على أحد أَو يُومِئ إِلَيْهِ بِعَين أَو يَد فَلَمَّا أَخذ مَجْلِسه تسرع إِلَيْهِ الْوَزير مُحَمَّد بن حَفْص بن جَابر فعنفه واستجفاه وَأنكر عَلَيْهِ ترك السَّلَام وجفاه وجعفر معرض عَنهُ إِلَى أَن كثر القَوْل مِنْهُ فَقَالَ لَهُ يَا هَذَا جهلت المبرة فاستجهلت معلمها وكفرت الْيَد فقصدت بالأذى وَلم ترهب مقدمها وَلَو أتيت نكرا لَكَانَ غَيْرك أدرى وَقد وَقعت فِي أَمر مَا أَظُنك تخلص مِنْهُ وَلَا يسعك السُّكُوت عَنهُ ونسيت الأيادي الجميلة والمبرات الجليلة فَلَمَّا سمع مُحَمَّد بن حَفْص ذَلِك من قَوْله قَالَ هَذَا البهت بِعَيْنِه وَأي اياديك الغر الَّتِي مننت بهَا وعنيت أَدَاء واجبها أيد كَذَا أم يَد كَذَا وَعدد أَشْيَاء أنكرها مِنْهُ أَيَّام إمارته وَتصرف

الدَّهْر طوع إِشَارَته فَقَالَ جَعْفَر هَذَا مَا لَا يعرف وَالْحق الَّذِي لَا يرد وَلَا يصرف رفعي الْقطع عَن يمناك وتبليغي لَك إِلَى مناك فأصر مُحَمَّد بن حَفْص على الْجحْد فَقَالَ جَعْفَر أنْشد الله من لَهُ علم بِمَا أذكرهُ الا اعْترف بِهِ وَلَا يُنكره وَأَنا احوج إِلَى السُّكُوت وَلَا تحجب دَعْوَتِي فِي الملكوت فَقَالَ الْوَزير أَحْمد بن عَبَّاس قد كَانَ بعض مَا ذكرته يَا أَبَا الْحسن وَغير هَذَا اولى بك وَأَنت فِيمَا أَنْت فِيهِ من محنتك وطلبك فَقَالَ أحرجني الرجل فتكلمت وأحوجني إِلَى مَا بِهِ أعلمت فَأقبل الْوَزير ابو الْوَلِيد مُحَمَّد بن جهور على مُحَمَّد بن حَفْص وَقَالَ أَسَأْت إِلَى الْحَاجِب وأوجبت عَلَيْهِ غير الْوَاجِب أَو مَا علمت أَن منكوب السُّلْطَان لَا يسلم على أوليائه لِأَنَّهُ إِن فعل ألزمهم الرَّد لقَوْله تَعَالَى {وَإِذا حييتُمْ بِتَحِيَّة فَحَيوا بِأَحْسَن مِنْهَا أَو ردوهَا} فَإِن فعلوا اطاف بهم من انكار السُّلْطَان مَا يخْشَى وَيخَاف لِأَنَّهُ تأنيس

الوزير ابو العباس أحمد بن عبد الملك بن عمر بن شهيد

لمن أوحش وتأمين لمن أَخَاف وَإِن تركُوا الرَّد اسخطوا الله فَصَارَ الْإِمْسَاك أحسن وَمثل هَذَا لَا يخفى على أبي الْحسن فانكسر مُحَمَّد ابْن حَفْص وخجل مِمَّا أَتَى بِهِ من النَّقْص وبلغه أَن أَقْوَامًا توجعوا لَهُ وتفجعوا مِمَّا وَصله فَكتب إِلَيْهِم (أحن إِلَى أنفاسكم فأظنها ... بواعث أنفاس الْحَيَاة إِلَى نَفسِي) (وَإِن زَمَانا صرت فِيهِ مُقَيّدا ... لأثقل من رضوى وأضيق من رمس) 3 - (الْوَزير ابو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الْملك بن عمر بن شَهِيد) مفخر الْإِمَامَة وزهر تِلْكَ الكمامة حَاجِب النَّاصِر عبد الرَّحْمَن وحامل الوزارتين على سموهما فِي ذَلِك الزَّمَان اسْتَقل

بالوزارة على ثقلهَا وَتصرف فِيهَا كَيفَ شَاءَ على حد نظرها والتفات مقلها فَظهر على أُولَئِكَ الوزراء واشتهر مَعَ كَثْرَة النظراء وَكَانَت إِمَارَة عبد الرَّحْمَن أسعد إِمَارَة بعد عَنْهَا كل نفس بالسوء أَمارَة فَلم يطرقها صرف وَلم يرمقها بمحذور طرف ففرع النَّاس فِيهَا هضاب الْأَمَانِي ورباها ورتعت ظباؤها فِي ظلال ظباها وَهُوَ اسد على براثنه رابض وَبَطل أبدا على قَوَائِم سَيْفه قَابض يروع الرّوم طيفه ويجوس خلال تِلْكَ الديار خَوفه ويروى من نجيعهم كل آونة سَيْفه وَابْن شَهِيد ينْتج الآراء ويلقحها وينتقد تِلْكَ الأنحاء وينقحها والدولة مُشْتَمِلَة بفنائه متجملة بسنائه وَكَرمه منتشر على الآمال ويكسو الْأَوْلِيَاء بذلك الْإِجْمَال وَكَانَ لَهُ أدب تزخر لججه وتبهر حججه وَشعر رَقِيق لَا ينْقد ويكاد من اللطافة يعْقد فَمن ذَلِك قَوْله (ترى الْبَدْر مِنْهَا طالعا وكأنما ... يجول وشاحاها على لُؤْلُؤ رطب) (بعيدَة مهوى القرط مخطفة الحشا ... ومفعمة الخلخال مفعمة الْقلب)

(من اللاء لم يرحلن فَوق رواحل ... وَلَا سرن يَوْمًا فِي ركاب وَلَا ركب) (وَلَا أبرزتهن المدام لنشوة ... فتشدو كَمَا تشدو القيان على الشّرْب) وَكَانَت بَينه وَبَين الْوَزير عبد الْملك بن جهور مُتَوَلِّي الْأَمر مَعَه ومشاركة فِي التَّدْبِير إِذا حضر مَوْضِعه مُنَافَسَة لم تنفصل لَهما بهَا مداخلة وَلَا مُلَابسَة وَكِلَاهُمَا يتربص بِصَاحِبِهِ دَائِرَة السوء ويغص بِهِ غصص الْأُفق بالنوء فاجتاز يَوْمًا إِلَى ربضه وَمَال إِلَى زيارته وَلم تكن من غَرَضه فَلَمَّا استأمر عَلَيْهِ تَأَخّر خُرُوج الْأذن إِلَيْهِ فَثنى عنانه حنقا من حجابه وضجرا من حجابه وَكتب إِلَيْهِ معرضًا وَكَانَ يلقب بالحمار (أَتَيْنَاك لَا عَن حَاجَة عرضت لنا ... إِلَيْك وَلَا قلب إِلَيْك مشوق) (ولكننا زرنا بِفضل حلومنا ... حمارا تولى برنا بعقوق) فَرَاجعه ابْن جهور يغض مِنْهُ بِمَا كَانَ يشيع عَنهُ بِأَن جده أَبَا هِشَام كَانَ بيطارا بِالشَّام بقوله

الوزير أبو القاسم محمد بن عباد

(حجبناك لما زرتنا غير تائق ... بقلب عَدو فِي ثِيَاب صديق) (وَمَا كَانَ بيطار الشآم بِموضع ... يُبَاشر فِيهِ فرنا بخليق) وَمن قَوْله يتغزل (حَلَفت بِمن رمى فَأصَاب قلبِي ... وَقَلبه على جمر الصدود) (لقد أودى تذكره بمثلي ... وَلست أَشك أَن النَّفس تودي) (فقيد وَهُوَ مَوْجُود بقلبي ... فوا عجبا لموجود فقيد) 3 - (الْوَزير أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد بن عباد) هَذِه بَقِيَّة منتماها فِي لخم ومرتماها إِلَى مفخر ضخم

وجدهم الْمُنْذر بن مَاء السَّمَاء ومطلعهم من جو تِلْكَ السَّمَاء وَبَنُو عباد مُلُوك أنس بهم الدَّهْر وتنفس مِنْهُم عَن أعبق الزهر وعمروا ربع الْملك وَأمرُوا بِالْحَيَاةِ والهلك ومعتضدهم أحد من أَقَامَ وأقعد وتبوأ كَاهِل الإرهاب واقتعد وافترش من عريسته وافترس من مَكَائِد فريسته وزاحم بِعُود وهز كل طود وأخمل كل ذِي زِيّ وشارة وختل بِوَحْي وَإِشَارَة ومعتمدهم كَانَ أَجود الْأَمْلَاك وَأحد نيرات تِلْكَ الأفلاك وَهُوَ الْقَائِل وَقد شغل عَن منادمة خَواص دولته بمنادمة العقائل

(لقد حننت إِلَى مَا اعْتدت من كرم ... حنين أَرض إِلَى مستأخر الْمَطَر) (فهاتها خلعا أرضي السماح بهَا ... محفوفة فِي أكف الشّرْب بالبدر) وَهُوَ الْقَائِل وَقد حن فِي طَرِيقه إِلَى فريقه (أدَار النَّوَى كم طَال فِيك تلذذي ... وَكم عقتني عَن دَار أهيف أغيد) (حَلَفت بِهِ لَو قد تعرض دونه ... كماة الاعادي فِي النسيج المسرد) (لجردت للضرب المهند فانقضى ... مرادي وَعز مَا مثل حد المهند) وَالْقَاضِي أَبُو الْقَاسِم هَذَا جدهم وَبِه سفر مجدهم وَهُوَ الَّذِي اقتنص لَهُم الْملك النافر واختصم مِنْهُ بالحظ الوافر فَإِنَّهُ أَخذ الرياسة من أَيدي جبابر وأضحى من ظلالها أَعْيَان أكَابِر عِنْدَمَا عِنْدَمَا أناخت بهَا أطماعهم واصاخت إِلَيْهَا اسماعهم وامتدت إِلَيْهَا من مستحقيها الْيَد وأتلعوا أجيادا زانها الْجيد وفغر عَلَيْهَا فَمه حَتَّى هجا بَيت العبدى وتصدى إِلَيْهَا من تحضر وتبدى فاقتعد سنامها وغاربها وَأبْعد عَنْهَا عجمها وأعاربها وفاز من الْملك بأوفر حِصَّة وعدت سمته بِهِ صفة مُخْتَصَّة فَلم يمح رسم الْقَضَاء وَلم يتسم بسمة الْملك مَعَ ذَلِك النّفُوذ والمضاء وَمَا زَالَ يحمي حوزته ويجلو غرته حَتَّى حوته الرجام وخلت مِنْهُ تِلْكَ الآجام وانتقل الْملك إِلَى ابْنه المعتضد

وَحل مِنْهُ فِي روض نمق لَهُ ونضد وَلم يعمر فِيهِ وَلم يدم ولاه وَتسَمى بالمعتضد بِاللَّه وارتمى إِلَى أبعد غايات الْجُود بِمَا أناله وأولاه لَوْلَا بَطش فِي اقْتِضَاء النُّفُوس كدر ذَلِك المنهل وعكر أثْنَاء ذَلِك صفو العل والنهل وَمَا زَالَ للأرواح قَابِضا وللوثوب عَلَيْهَا رابضا يخطف أعداءه اختطاف الطَّائِر من الوكر وينتصف مِنْهُم بالدهاء وَالْمَكْر إِلَى أَن أفْضى الْملك إِلَى ابْنه الْمُعْتَمد فاكتحل مِنْهُ طرفه الرمد وَأحمد مجده وتقلد مِنْهُ أَي باس ونجده وندى بِهِ لحق مناه وَأقَام فِي الْملك ثَلَاثًا وَعشْرين سنة لم تعدم مِنْهُ فِيهَا حَسَنَة وَلَا سيرة مستحسنة إِلَى أَن غلب على سُلْطَانه وَذهب بِهِ من أوطانه فَنقل إِلَى حَيْثُ اعتقل فَأَقَامَ كَذَلِك إِلَى أَن مَاتَ ووارته بَريَّة أغمات وَكَانَ للْقَاضِي جده أدب غض وَمذهب مبيض ونظم يرتجله كل حِين ويبعثه أعطر من الرياحين فَمن ذَلِك قَوْله يصف النيلوفر (يَا ناظرين لذا النيلوفر البهج ... وَطيب مخبره فِي الفوح والأرج)

الوزيرابو عبد الله محمد بن عبد العزيز كاتب المنصور رحمه الله تعالى وزير المنصور عبد العزيز ورب السبق في وده والتبريز ومنقض الأمور ومبرمها ومخمد الفتن ومضرمها اعتقل بالدهي واستقل بالأمر والنهي على انتهاض بين الأكفاء واعتراض المحو لرسومه والإعفاء

(كَأَنَّهُ جَام در فِي تألقه ... قد أحكموا وَسطه فصا من السبج) 3 - (الوزيرابو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز كَاتب الْمَنْصُور رَحمَه الله تَعَالَى وَزِير الْمَنْصُور عبد الْعَزِيز وَرب السَّبق فِي وده والتبريز ومنقض الْأُمُور ومبرمها ومخمد الْفِتَن ومضرمها اعتقل بالدهي واستقل بِالْأَمر وَالنَّهْي على انتهاض بَين الْأَكفاء وَاعْتِرَاض المحو لرسومه والإعفاء فاستمر غير مراقب وَأمر مَا شَاءَ غير ممتثل للعواقب ينتضي عَزَائِمه انتضاء فَإِن ألمت من الْأَيَّام مظْلمَة أَضَاء إِلَى أَن أودى وغار مِنْهُ الْكَوْكَب الأهدى فانتقل الْأَمر إِلَى ابْنه أبي

بكر فناهيك من أبي عرف ونكر بقد اربى على الدهاة وَمَا صبا إِلَى الظبية وَلَا إِلَى المهاة واستقل بالهول يقتحمه والامر يسديه ويلحمه فَأَي ندى أَفَاضَ وَأي أَجْنِحَة بمدى هاض فانقادت إِلَيْهِ الآمال بِغَيْر خطام ووردت من نداه ببحر طام وَلم يزل بالدولة قَائِما وموقظا من بهجتها مَا كَانَ نَائِما إِلَى أَن صَار الْأَمر إِلَى الْمَأْمُون بن ذِي النُّون اسد الحروب ومسد الثغوب والدروب فاعتمد عَلَيْهِ واتكل ووكل إِلَيْهِ الْأَمر غير وكل فَمَا تعدى الوزارة إِلَى الرياسة وَلَا تردى بِغَيْر التَّدْبِير والسياسة فَتَركه مستبدا وَلم يجد من ذَلِك بدا وَكَانَ ابو بكر

هَذَا ذَا رفْعَة غير متضائلة وآراء لم تكن آفلة أدْرك بهَا مَا أحب وَقطع غارب كل منافس وَجب إِلَى أَن طَلْحَة الْعُمر وأنضاه وأغمده الَّذِي انتضاه فخلى الْأَمر إِلَى ابنيه فتبلدا فِي التَّدْبِير وَلم يفرقا بَين الْقَبِيل والدبير فغلب عَلَيْهِمَا الْقَادِر بن ذِي النُّون وجلب إِلَيْهِمَا كل خطب مَا خلا الْمنون فانجلوا بَعْدَمَا ألقوا مَا عِنْدهم وتحلوا وَكَانَ لأبي عبد الله نظم مستبدع يوضع بَين الجوانح ويودع فَمن ذَلِك مَا رَاجع بِهِ أبن عبد الْعَزِيز وَكتب إِلَيْهِ يعاتبه بِقِطْعَة أَولهَا (يَا أحسن النَّاس آدابا وأخلاقا ... وَأكْرم النَّاس أغصانا وأوراقا) (وَيَا حَيا الأَرْض لم نكبت عَن سُنَنِي ... وسقت نحوي إرعادا وإبراقا)

(وَيَا سنا الشَّمْس لم أظلت فِي بَصرِي ... وَقد وسعت بِلَاد الله إشراقا) (من أَي بَاب سعت غير الزَّمَان إِلَى ... رحيب صدرك حَتَّى قيل قد ضاقا) (قد كنت أحسبني فِي حسن رَأْيك لي ... أَنِّي أخذت على الْأَيَّام ميثاقا) (فَالْآن لم يبْق لي بعد انحرافك مَا ... آسى عَلَيْهِ وأبدي مِنْهُ إشفاقا) فَأَجَابَهُ ابْن عبد الْعَزِيز بِهَذِهِ الْقطعَة (مَا زلت أوليك إخلاصا وإشفاقا ... وأنثني عَنْك مهما غبت مشتاقا) (وَكَانَ من أملي أَن اقتنيك أَخا ... فأخفق الأمل المأمول إخفاقا) (فَقلت غرس من الإخوان أكلؤه ... حَتَّى أرى مِنْهُ إثمارا وإيراقا) (فَكَانَ لما زهت أزهاره وَدنت ... أثماره حنظلا مرا لمن ذاقا) (فلست اول إخْوَان سقيتهم ... صفوي وأعلقتهم بِالْقَلْبِ إعلاقا)

الوزير الكاتب أبو مروان عبد الملك بن إدريس الخولاني

(فَمَا جزوني بإحساني وَلَا عرفُوا ... قدري وَلَا حفظوا عهدا وميثاقا) 3 - (الْوَزير الْكَاتِب أَبُو مَرْوَان عبد الْملك بن إِدْرِيس الْخَولَانِيّ) علم من أَعْلَام الزَّمَان وَعين من أَعْيَان الْبَيَان باهر الفصاحة طَاهِر الجناب والساحة تولى التحبير أَيَّام الْمَنْصُور والإنشاء وأشعر بدولته الأفراح والإنتشاء وَلبس الْعِزَّة مدَّتهَا ضافية الْبُرُودَة وَورد بهَا النِّعْمَة صَافِيَة الْوُرُود وامتطى من جِيَاد التَّوْجِيه أعتق من لَاحق والوجيه وَتَمَادَى طلقه وَلَا أحد يلْحقهُ إِلَى أَيَّام المظفر فَمشى على سنَنه وَتَمَادَى السعد يترنم على فننه إِلَى أَن قتل المظفر صهره

عِيسَى بن القطاع صَاحب دولته وأميرها المطاع وَكَانَ ابو مَرْوَان قديم الاصطناع لَهُ والانقطاع إِلَيْهِ فاتهم مَعَه وَكَاد أَن يَذُوق الْحمام ويجرعه إِلَّا أَن احسانه شفع وَبَيَانه منع وَدفع فحط عَن تِلْكَ الرتب وَحمل إِلَى طرطوشة على القتب فَبَقيَ هُنَالك معتقلا فِي برج من أبراجها نائي الْمُنْتَهى كَأَنَّمَا يُنَاجِي السها قد بعد ساكنه عَن الانيس فعد من النَّجْم بِمَنْزِلَة الجليس تمر الطُّيُور دونه وَلَا تجوزه وَيرى مِنْهُ الثرى وَلَا يكَاد يحوزه فَبَقيَ فِيهِ دهر أَلا يرتقي إِلَيْهِ راق وَلَا

يُرْجَى لبثه راق إِلَى أَن أخرج مِنْهُ إِلَى ثراه واستراح مِمَّا عراه فَمن بديع مَا قَالَه قَوْله يصف المعقل الَّذِي فِيهِ اعتقل (يأوي إِلَيْهِ كل أَعور ناعق ... وتهب فِيهِ كل ريح صَرْصَر) (ويكاد من يرقى إِلَيْهِ مرّة ... من عمره يشكو انْقِطَاع الْأَبْهَر) وَدخل لَيْلَة على الْمَنْصُور والمنصور قد اتكأ وارتفق وَحكى بمجلسه ذَلِك الْأُفق وَالدُّنْيَا بمجلسه ذَلِك مسوقه وَأَحَادِيث الْأَمَانِي بِهِ منسوقة فَأمره بالنزول فَنزل فِي جملَة الْأَصْحَاب وَالْقَمَر يظْهر ويحتجب فِي السَّحَاب والأفق يَبْدُو بِهِ أغر ثمَّ يعود مُبْهما وَاللَّيْل يتَرَاءَى مِنْهُ أشقر ثمَّ يعود أدهما وابو مَرْوَان قد انتشى وجال فِي ميدان الْأنس وَمَشى وَبرد خاطره قد دبجه السرُور ووشى فأقلقه ذَلِك المغيب والألتياح وأنطقه ذَلِك السرُور والارتياح فَقَالَ (أرى بدر السَّمَاء يلوح حينا ... فيبدو ثمَّ يلتحف السحابا) (وَذَلِكَ أَنه لما تبدى ... وَأبْصر وَجهك استحيا فغابا)

الوزير الأجل أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور

(مقَال لَو نمى عِنْدِي إِلَيْهِ ... لراجعني بذا حَقًا جَوَابا) وَله فِي مُدَّة اعتقاله وتردده فِي قَيده وعقاله (شحط المزار فَلَا مَزَار ونافرت ... عَيْني الهجوع فَلَا خيال يعتري) (أزرى بصبري وَهُوَ مشدود القوى ... وألان عودي وَهُوَ صلب المكسر) (وطوى سروري كُله وتلذذي ... بالعيش طي صحيفَة لم تنشر) (هَا إِنَّمَا القى الحبيب توهما ... بضمير تذكاري وَعين تذكري) (عجبا لقلبي يَوْم راعتني النَّوَى ... ودنا وداع كَيفَ لم يتفطر) 3 - (الْوَزير الْأَجَل أَبُو الحزم جهور بن مُحَمَّد بن جهور)

وَبَنُو جهور أهل بَيت وزارة اشتهروا كاشتهار ابْن هُبَيْرَة فِي فَزَارَة وَأَبُو الحزم أمجدهم فِي المكرمات وأنجدهم فِي الملمات ركب متون الْفُتُون فراضها وَوَقع فِي بحور المحن فخاضها منبسط غير منكمش لَا طائش اللِّسَان وَلَا رعش وَقد كَانَ وزر فِي الدولة العامرية فشرفت بجلاله وَاعْتَرَفت باستقلاله فَلَمَّا انقرضت وعاقت الْفِتَن واعترضت تخلى عَن التَّدْبِير مدَّتهَا وخلى لخلافة تَدْبِير الْخلَافَة وشدتها وَجعل يقبل مَعَ أُولَئِكَ الوزراء وَيُدبر

وينهل الْأَمر مَعَهم وَيُدبر غير مظهر للانفراد وَلَا مقصر فِي ميدان ذَلِك الطراد إِلَى أَن بلغت الْفِتْنَة مداها وسوغت مَا شَاءَت رداها وَذهب من كَانَ يخد فِي الرياسة ويخب وَيسْعَى فِي الْفِتْنَة ويدب وَلما ارْتَفع ذَلِك الوبال وادبر ذَلِك الإقبال راسل أهل التَّقْوَى مستمدا بهم ومعتمدا على بَعضهم تحيلا مِنْهُ وتمويها وتداهيا على أهل الْخلَافَة وذويها وَعرض عَلَيْهِم تَقْدِيم المعتد هِشَام وأومض مِنْهُ لأهل قرطبة برق خلب يشام بعد سرعَة التياثها وتعجيل انتكاثا فأنابوا إِلَى الْإِجَابَة وَأَجَابُوا إِلَى استرعائه الوزارة

والحجابة وتوجهوا مَعَ ذَلِك الإِمَام وألموا بقرطبة أحسن إِلْمَام فَدَخَلُوهَا بعد فتن كَثِيرَة واضطرابات مستثيرة والبلد مقفر وَالْجَلد مُسْفِر فَلم يبْق غير يسير حَتَّى جبذ واضطرب أره فَخلع واختطف من الْملك وانتزع وَانْقَضَت الدولة الأموية وَارْتَفَعت الدولة العلوية وَاسْتولى على قرطبة عِنْد ذَلِك ابو الحزم ودبرها بالجد والعزم وضبطها ضبطا أَمن خائفها وَرفع طَارق تِلْكَ الْفِتْنَة وطائفها وخلا لَهُ الجو فطار وَاقْتضى اللبانات والأوطار فَعَادَت لَهُ قرطبة إِلَى أكمل حالاتها وانجلى بِهِ نوء استجلالاتها وَلم تزل بِهِ مشرقة وغصون الأمل فِيهَا مورقة إِلَى أَن توفّي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة فانتقل الْأَمر إِلَى ابْنه أبي الْوَلِيد واشتمل مِنْهُ على

طارف وَتَلِيدُ وَكَانَ لأبي الحزم أدب ووقار وحلم سَارَتْ بهَا الْأَمْثَال وَعدم فِيهَا الْمِثَال وَقد اثْبتْ من شعره مَا هُوَ لَائِق وَفِي سَمَاء الْحسن رائق وَذَلِكَ قَوْله فِي تَفْضِيل الْورْد

(الْورْد أحسن مَا رات عَيْني وأذكى ... مَا سقى مَاء السَّحَاب الجائد) (خضعت نواوير الرياض لحسنه ... فتذللت تنقاد وَهِي شوارد) (وَإِذا تبدى الْورْد فِي أغصانه ... يزهو فَذا ميت وَهَذَا حَاسِد)

الوزير ذو الوزارتين أبو عامر بن الفرج

(وَإِذا أَتَى وَفد الرّبيع مبشرا ... بِطُلُوع صفحته فَنعم الْوَافِد) (لَيْسَ المبشر كالمبشر باسمه ... خبر عَلَيْهِ من النُّبُوَّة شَاهد) (وَإِذا تعرى الْورْد من اوراقه ... بقيت عوارفه فهن خوالد) وَله وَقد وقف على قُصُور الامويين وَقد تقوضت أبنيتها وعوضت من أنيسها بالوحوش أفنيتها (قلت يَوْمًا لدار قوم تفانوا ... أَيْن سكانك العزاز علينا) (فأجابت هُنَا أَقَامُوا قَلِيلا ... ثمَّ سَارُوا وَلست أعلم أَيّنَا) 3 - (الْوَزير ذُو الوزارتين أَبُو عَامر بن الْفرج) من ثنية رياسة وعترة نفاسة مَا مِنْهُم الْأَمْن

حدى بالإمارة وتردى بالوزارة واضاء فِي آفَاق الدول ونهض بَين الْخَيل والخول وَأَبُو عَامر هَذَا أحد أمجادهم ومتقلد نجادهم فاتهم أدبا ونبلا وباراهم كرما تخاله وَبلا إِلَّا أَنه بَقِي وذهبوا وَلَقي من الْأَيَّام مَا رهبوا فعاين نكرها وَشرب عكرها وجال فِي الْآفَاق واستدر أخلاف الارزاق وأجال للرِّجَال قداحا مُتَوَالِيَات الإخفاق فأخمل قدره وتوالى عَلَيْهِ جور الزَّمَان وغدره فاندفنت آثاره وعفت أخباره وَقد أثبت لَهُ بعض مَا قَالَه وحاله قد ادبرت والخطوب إِلَيْهِ قد انبرت أَخْبرنِي الْوَزير الْحَكِيم أَبُو مُحَمَّد الْمصْرِيّ وَهُوَ الَّذِي آواه وَعِنْده اسْتَقَرَّتْ نَوَاه وَعَلِيهِ كَانَ قادما وَله كَانَ منادما أَنه رغب إِلَيْهِ فِي أحد الْأَيَّام بِأَن يكون من جملَة ندمائه وَأَن لَا يحجب عَنهُ

وَتَكون منَّة من أعظم نعمائه فَأَجَابَهُ بالإسعاف واستساغ مِنْهُ مَا كَانَ يعاف لعلمه بقلته وافرط خلته فَلَمَّا كَانَ ظهر ذَلِك الْيَوْم كتب إِلَيْهِ (هَا قد أهبت بكم وكلكم هوى ... وأحقكم بالشكر مني السَّابِق) (فالشمس أَنْت وَقد أظل طُلُوعهَا ... فَاطلع وَبَين يَديك فجر صَادِق) وَكَانَ لَهُ ابْن مكبود قد أعياه علاجه وتهيأ للْفَسَاد مزاجه فَدلَّ على خمر قديمَة فَلم يعلم بهَا إِلَّا عِنْد حكم وَكَانَ وسيما وللحسن قسيما فَكتب إِلَيْهِ (أرسل بهَا مثل ودك ... أرق من مَاء خدك) (شَقِيقَة النَّفس فانضح ... بهَا جوى ابْني وَعَبْدك) وَكتب معتذرا عَمَّا جناه منذرا)

الوزير أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد الأشجعي

(مَا تغيبت عَنْك إِلَّا لعذر ... ودليلي فِي ذَاك حرصي عليكا) (هبك أَن الْفِرَار من عظم ذَنْب ... أتراه يكون إِلَّا اليكا) 3 - (الْوَزير أَبُو عَامر أَحْمد بن عبد الْملك بن شَهِيد الْأَشْجَعِيّ) عَالم بأقسام البلاغة ومعانيها حائز قصب السَّبق فِيهَا لَا يُشبههُ أحد من أهل زَمَانه وَلَا ينسق مَا نسق من در الْبَيَان وجمانه توغل فِي شعاب البلاغة وطرقها وَأخذ على متعاطيها مَا بَين مغْرِبهَا ومشرقها لَا يقاومه عَمْرو بن بَحر وَلَا ترَاهُ يغترف إِلَّا من بَحر من انطباع مَشى فِي طَرِيقه بأمد بَاعَ وَله الْحسب الْمَشْهُور وَالْمَكَان الَّذِي لم يعده للظهور وَهُوَ من ولد الوضاح المتقلد تِلْكَ المفاخر

والاوضاح صَاحب الضَّحَّاك يَوْم المرج وراكب ذَلِك الْهَرج وابو عَامر حفيده هَذَا من ذَلِك النّسَب ونبغ لَا يراش إِلَّا مَعَ ذَلِك الغرب وَقد أثبت لَهُ مِمَّا هُوَ بِالسحرِ لَاحق ولنور المحاسن مَا حق فَمن ذَلِك قَوْله (إِن الْكَرِيم إِذا نابته مَخْمَصَة ... أبدى إِلَى النَّاس ريا وَهُوَ ظمآن) (يحني الضلوع على مثل اللظى حرقا ... وَالْوَجْه غمر بِمَاء الْبشر ملآن) وَهُوَ مَأْخُوذ من قَول الرضي (مَا إِن رَأَيْت كمعشر صَبَرُوا ... عزا على الأزلات والأزم)

(بسطوا الْوُجُوه وَبَين أضلعهم ... حر الجوى ومآلم الْكَلم) وَله أَيْضا (كلفت بالحب حَتَّى لَو دنا أَجلي ... لما وجدت لطعم الْمَوْت من ألم) (كلا الندى والهوى قدما ولعت بِهِ ... ويلي من الْحبّ أَو ويلي من الْكَرم) وَأَخْبرنِي الْوَزير أَبُو الْحُسَيْن بن سراج وَهُوَ بمنزل الْوَزير ابي عَامر بن شَهِيد وَكَانَ من البلاغة فِي مدى غَايَة الْبَيَان وَمن الفصاحة فِي أَعلَى مَرَاتِب التِّبْيَان وَكُنَّا نحضر مجْلِس شرابه وَلَا نغيب عَن بَابه وَكَانَ لَهُ بِبَاب الصومعة من الْجَامِع مَوضِع لَا يُفَارِقهُ اكثر نَهَاره

وَلَا يخليه من نثر درره وأزهاره فَقعدَ فِيهِ لَيْلَة سبع وَعشْرين من رَمَضَان فِي لمة من إخوانه وأئمة سلوانه وَقد حفوا بِهِ ليقطفوا نخب أدبه وَهُوَ يخلط لَهُم الْجد بهزل وَلَا يفرط فِي انبساط مشتهر وَلَا انقباض جزل وَإِذا بِجَارِيَة من اعيان أهل قرطبة مَعهَا من جواريها من يَسْتُرهَا ويواريها وَهِي ترتاد موضعا لمناجاة رَبهَا وتبتغي منزلا لاستغفار ذنبها وَهِي متنقبة خائفة مِمَّن يرقبها مترقبة وأمامها طِفْل لَهَا كَأَنَّهُ غُصْن آس أَو ظَبْي يمرح فِي كناس فَلَمَّا وَقعت عينهَا على أبي عَامر ولت سريعة وتولت مروعة خيفة أَن يشبب بهَا أَو يشهرها باسمها فَلَمَّا نظرها قَالَ قولا فضحها بِهِ وشهرها (وناظرة تَحت طي القناع ... دَعَاهَا إِلَى الله وَالْخَيْر دَاع) (سعت خُفْيَة تبتغي منزلا ... لوصل التبتل والانقطاع) (وجالت بموضعنا جَوْلَة ... فَحل الرّبيع بِتِلْكَ الْبِقَاع)

(أتتنا تبختر فِي مشيها ... فَجلت بواد كثير السبَاع) (وريعت حذارا على طفلها ... فناديت يَا هَذِه لَا تراعي) (غزالك تفرق مِنْهُ الليوث ... وتنصاع مِنْهُ كماة المصاع) (فَوَلَّتْ وللمسك من ذيلها ... على الأَرْض خطّ كَظهر الشجاع) وَله يتغزل (اصباح شيم أم برق بدا ... أم سنا المحبوب أورى زندا) (هَب من مرقده منكسرا ... مسبلا للكم مرخ للردا) (يمسح النعسة من عَيْني رشا ... صائد فِي كل يَوْم أسدا) (أوردته لطفا آيَاته ... صفوة الْعَيْش وارعته ددا) (فَهُوَ من دلّ عراه زبدة ... من مريج لم يخالط زبدا) (قلت هَب لي يَا حَبِيبِي قبْلَة ... تشف من غمك تبريح الصدى) (فانثنى يَهْتَز من مَنْكِبه ... مائلا لطفا وَأَعْطَانِي اليدا) (كلما كلمني قبلته ... فَهُوَ إِمَّا قَالَ قولا رددا)

(كَاد أَن يرجع من لثمي لَهُ ... وارتشاف الثغر مِنْهُ ادردا) (وَإِذا استنجزت يَوْمًا وعده ... أمطل الْوَعْد وَقَالَ اصبر غَدا) (شربت أعطافه مَاء الصِّبَا ... وسقاه الْحسن حَتَّى عربدا) (فَإِذا بت بِهِ فِي رَوْضَة ... أغيد يقرو نباتا أغيدا) (قَامَ فِي اللَّيْل بجيد اتلع ... ينفض اللمة من دمع الندى) (وَمَكَان عَازِب عَن جيرة ... اصدقاء وهم عين العدا) (ذِي نَبَات طيب أعرافه ... كعذار الشّعْر فِي خد بدا) (تحسب الهضبة مِنْهُ جبلا ... وحدور المَاء مِنْهُ أبردا) وَبَات لَيْلَة بِإِحْدَى كنائس قرطبة وَقد فرشت بأضغاث آس وعرشت بسرور واستئناس وقرع النواقيس يبهج سَمعه وبرق الحميا يسرج لمعه والقس قد برز فِي عَبده الْمَسِيح متوشحا

بالزنانير أبدع توشيح قد هجروا الأفراح واطرحوا النعم كل اطراح (لَا يَعْمِدُونَ إِلَى مَاء بآنية ... إِلَّا إغترافا من الغدران بِالرَّاحِ) وَأقَام بَينهم يعملها حميا كَأَنَّمَا يرشف من كأسها شفة لميا وَهِي تنفح لَهُ بأطيب عرف كلما رشفها أعذب رشف ثمَّ ارتجل بَعْدَمَا ارتحل فَقَالَ (ولرب حَان قد شممت بديره ... خمر الصِّبَا مزجت بِصَرْف عصيره) (فِي فتية جعلُوا السرُور شعارهم ... متصاغرون تخشعا لكبيره) (والقس مِمَّا شَاءَ طول مقامنا ... يَدْعُو بِعُود حولنا بزبوره) (يهدي لنا بِالرَّاحِ كل مصفر ... كالخشف خفره التماح خفيره) (يتَنَاوَل الظرفاء فِيهِ وشربهم ... لسلافه وَالْأكل من خنزيره)

وَقَالَ يرثي القَاضِي ابْن ذكْوَان نجيب ذَلِك الأوان فِي الْفِتْنَة وَقد افتن فِي الْآدَاب وَسن فِيهَا سنة ابْن دأب وَمَا فَارق ربع الشَّبَاب شرخه وَلَا استمجد فِي الكهولة عفاره وَلَا مرخه وَكَانَ لأبي عَامر هَذَا قسيم نَفسه ونسيم أنسه (ظننا الَّذِي نَادَى محقا بِمَوْتِهِ ... لعظم الَّذِي انجى من الرزء كَاذِبًا) (وخلنا الصَّباح الطلق لَيْلًا وَإِنَّمَا ... هبطنا خداريا من الْحزن كاربا) (ثكلنا الدجى لما اسْتَقل وإننا ... فقدناك يَا خير الْبَريَّة ناعبا) (وَمَا ذهبت إِن حصل الْمَرْء نَفسه ... ولكنما الْإِسْلَام أدبر ذَاهِبًا) (وَلما ابى إِلَّا التَّحَمُّل رائحا ... منحناه أَعْنَاق الْكِرَام ركائبا)

(يسير بِهِ النعش الْأَعَز وَحَوله ... أباعد راحو للمصاب اقاربا) (عَلَيْهِ حفيف للملائك اقبلت ... تصافح شَيخا ذَاكر الله تَائِبًا) (تخال لفيف النَّاس حول ضريحه ... خليط قطا وافى الشَّرِيعَة هَارِبا) (إِذا مَا امتروا سحب الدُّمُوع تفرعت ... فروع البكا عَن بارق الْحزن لاهبا) (فَمن ذَا لفصل القَوْل يسطع نوره ... إِذا نَحن ناوينا الالد المناوبا) (وَمن ذَا ربيع الْمُسلمين يقوتهم ... إِذا النَّاس شاموها بروقا كواذبا) (فيا لهف قلبِي آه ذَابَتْ حشاشتي ... مضى شَيخنَا الدفاع عَنَّا النوائبا) (وَمَات الَّذِي غَابَ السرُور لمَوْته ... فَلَيْسَ وَإِن طَال السرى مِنْهُ آيبا) (وَكَانَ عَظِيما يطْرق الْجمع عِنْده ... ويعنو لَهُ رب الكتيبة هائبا) (وَذَا مقول عضب الغرارين صارم ... يروح بِهِ عَن حومة الدّين ضَارِبًا) (ابا حَاتِم صَبر الأديب فإنني ... رايت جميل الصَّبْر أحلى عواقبا)

(وَمَا زلت قدما ترهب الدَّهْر سطوة ... وصعبا بِهِ يعيي الخطوب المصاعبا) (سأستعتب الايام فِيك لَعَلَّهَا ... لصِحَّة ذَاك الْجِسْم تطلب طَالبا) (لَئِن أفلت شمس المكارم عَنْكُم ... لقد أسأرت بَدْرًا لَهَا وكوكبا) ودبت إِلَيْهِ ايام العلويين عقارب بَرِئت بهَا من أباعد وأقارب واجهة بهَا صرف قطوب وانبرت إِلَيْهِ مِنْهَا خطوب نبا لَهَا جنبه عَن المضجع وَبَقِي بهَا يأرق وَلَا يهجع إِلَى أَن علقته من الاعتقال حباله وعقلته فِي عقال أذهب مَاله فَأَقَامَ مرتهنا وَلَقي وَهنا وَقَالَ (قريب بمحتل الهوان مجيد ... يجود ويشكو حزنه فيجيد) (نعى صبره عِنْد الإِمَام فيا لَهُ ... عَدو لأبناء الْكِرَام حسود) (وَمَا ضره إِلَّا مزاح ورقة ... ثنته سَفِيه الذّكر وَهُوَ رشيد) (جنى مَا جنى فِي قبَّة الْملك غَيره ... وطوق مِنْهُ بالعظيمة جيد) (وَمَا فِي إِلَّا الشّعْر أثْبته الْهوى ... فَسَار بِهِ فِي الْعَالمين فريد)

(افوه بِمَا لم آته متعرضا ... لحسن الْمعَانِي تَارَة فأزيد) (فَإِن طَال ذكري بالمجون فإنني ... شقي بمنظوم الْكَلَام سعيد) (وَهل كنت فِي العشاق أول عَاقل ... هوت بحجاه أعين وخدود) (وَإِن طَال ذكري بالمجون فَإِنَّهَا ... عظائم لم يصبر لَهُنَّ جليد) (فِرَاق وسجن واشتياق وذلة ... وجبار حفاظ عَليّ عتيد) (فَمن مبلغ الفتيان إِنِّي بعدهمْ ... مُقيم بدار الظَّالِمين وحيد) (مُقيم بدار ساكنوها من الْأَذَى ... قيام على جمر الْحمام قعُود) (وَيسمع للجنان فِي جنباتها ... بسيط كترجيع الصدى ونشيد) (وَلست بِذِي قيد يرن وَإِنَّمَا ... على اللحظ من سخط الإِمَام قيود) (وَقلت لصداح الْحمام وَقد بَكَى ... على الْقصر إلفا والدموع تجود) (الا أَيهَا الباكي على من تحبه ... كِلَانَا معنى بالخلاء فريد) (وَهل أَنْت دَان من محب نأى بِهِ ... عَن الالف سُلْطَان عَلَيْهِ شَدِيد) (فَصَفَّقَ عَن ريش الجناحين وَاقِفًا ... على الْقرب حَتَّى مَا عَلَيْهِ مزِيد) (وَمَا زَالَ يبكيني وأبكيه جاهدا ... وللشوق من دون الضلوع وقود) (إِلَى أَن بَكَى الجدران من طول شجون ... وأجهش بَاب جانباه حَدِيد) (أطاعت أَمِير الْمُؤمنِينَ كتائب ... تصرف فِي الْأَمْوَال كَيفَ تُرِيدُ)

(فللشمس عَنْهَا بِالنَّهَارِ تَأَخّر ... وللبدر شحنا بالظلام صدود) (الا إِنَّهَا الايام تلعب بالفتى ... نحوس تهادى تَارَة وسعود) (وَمَا كنت ذَا أيد فأذعن ذَا قوى ... من الدَّهْر مبد صرفه ومعيد) (وراضت صعابي سطوة علوِيَّة ... لَهَا بارق نَحْو الندى ورعود) (تَقول الَّتِي من بَيتهَا كف مركبي ... أقْربك دَان أم نواك بعيد) (فَقلت لَهَا أَمْرِي إِلَى من سمت بِهِ ... إِلَى الْمجد اباء لَهُ وجدود) وَلَزِمتهُ آخر عمره عِلّة دَامَت بن سِنِين وَلم تُفَارِقهُ حَتَّى تركت أعضاءه قد حنين وأحسب أَن الله أَرَادَ بهَا تمحيصه وإطلاقه من ذَنْب كَانَ قنيصه فطهره تَطْهِيرا وَجعل ذَلِك على الْعَفو لَهُ ظهيرا فَإِنَّهَا أقعدته حَتَّى حمل فِي المحفة وعادته حَتَّى غَدَتْ لرونقه مشتفة وعَلى ذَلِك فَلم يعطل لِسَانه وَلم يبطل إحسانه وَمَا زَالَ يستريح إِلَى القَوْل ويزيح مَا كَانَ يجده من الغول وَآخر شعر

قَالَه قَوْله (وَلما رَأَيْت الْعَيْش لوى بِرَأْسِهِ ... وأيقنت أَن الْمَوْت لَا شكّ لَا حَقي) (تمنيت أَنِّي سَاكن فِي عباءة ... بِأَعْلَى مهب الرّيح فِي رَأس شَاهِق) (أرد سقيط الظل فِي فضل عيشتي ... وحيدا وأحسو المَاء ثني المعالق) (خليلي من رام الْمنية مرّة ... فقد رمتها خمسين قولة صَادِق) (كَأَنِّي وَقد حَان ارتحالي لم أفز ... قَدِيما من الدُّنْيَا بلمحة بارق) (فَمن مبلغ عني ابْن حزم وَكَانَ لي ... يدا فِي ملماتي وَعند مضايقي) (عَلَيْك سَلام الله إِنِّي مفارق ... وحسبك زادا من حبيب مفارق) (فَلَا تنس تأبيني إِذا مَا ذَكرتني ... وتذكار أيامي وَفضل خلائقي) (وحرك لَهُ بِاللَّه مهما ذَكرتني ... إِذا غيبوني كل سهم غرانق) (عَسى هامتي فِي الْقَبْر يتسمع بعضه ... بترجيع شاد أَو بتطريب طَارق) (فلي فِي ادكاري بعد موتِي رَاحَة ... فَلَا تمنعوها لي علالة راهق) (وَإِنِّي لأرجو الله فِيمَا تقدّمت ... ذُنُوبِي بِهِ مِمَّا درى من حقائق)

الوزير الكاتب أبو المغيرة عبد الوهاب بن حزم

3 - (الْوَزير الْكَاتِب أَبُو الْمُغيرَة عبد الْوَهَّاب بن حزم) وَبَنُو حزم فتية علم وأدب وثنية مجد وَحسب وَأَبُو الْمُغيرَة هَذَا فِي الْكِتَابَة أوحد لَا ينعَت وَلَا يحد وَهُوَ فَارس الْمِضْمَار حامي ذَلِك الذمار وَبَطل الرعيل واسد ذَلِك الغيل نسق المعجزات وَسبق فِي المعضلات الموجزات إِذا كتب وشى المهارق ودبج وَركب من بَحر البلاغة الثبج وَكَانَ هُوَ وَأَبُو عَامر بن شَهِيد خليلي صفاء وحليفي وَفَاء لَا ينفصلان فِي رواح وَلَا مقيل وَلَا يفترقان كمالك وَعقيل فَكَانَا بقرطبة رافعي ألوية الصبوة وعامري أندية السلوة إِلَى أَن اتخذ أَبُو عَامر فِي حبالة الردى وعلق وَغدا رهنة فِيهَا قد غلق فَانْفَرد أَبُو الْمُغيرَة بذلك الميدان واسترد من سبقه مَا فَاتَهُ مُنْذُ زمَان فَلم تذكر لَهُ مَعَ أبي عَامر حَسَنَة وَلَا سرت لَهُ فقرة وَإِن كَانَت مستحسنة لتعذر ذَلِك وامتناعه بشفوف ابي عَامر

الوزير ابو عامر محمد بن عبد الله بن محمد بن مسلمة

وامتداد بَاعه وَأما شعر أبي الْمُغيرَة فمرتبط بنثره ومختلط زهره بدره وَقد اثْبتْ لَهُ مِنْهَا فنونا تجن بهَا الأفهام جنونا فَمن ذَلِك قَوْله (ظعنت وَفِي احداجها من شكلها ... عين فضحن بحسنهن العينا) (مَا أنصفت فِي جنب توضح إذقرت ... ضيف الوداد بلابلا وشجونا) (اضحى الغرام قطين ربع فُؤَاده ... إِذْ لم يجد بالرقمتين قطينا) وَله أَيْضا (لما رَأَيْت الْهلَال منطويا ... فِي غرَّة الْفجْر قَارن الزهرة) (شبهته والعيان يشْهد لي ... بصولجان انثنى لضرب كرة) 3 - (الْوَزير ابو عَامر مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن مسلمة)

بَيت شرف باذخ ومفخر على ذوائب الجوزاء شامخ وزروا للخلفاء وانتجعتهم الأدباء واتبعتم العظماء وانتسبت لَهُم النعماء وتنفست عَن نور بهجتهم الظلماء وَأَبُو عَامر هَذَا هُوَ جوهرهم المنتخل وجوادهم الَّذِي لَا يبخل زعيمهم الْمُعظم وسلك مفخرهم المنظم وَكَانَ فَتى المدام ومستفتى الندام وَأكْثر من النَّعْت للراح وَالْوَصْف وآثر الأفراح والقصف وَأرى قينات السرُور مجلوة وآيات الْحسن متلوة وَله كتاب سَمَّاهُ بحديقة الارتياح فِي وصف حَقِيقَة الراح واختص بالمعتضد اختصاصا جرعه رداه وصرعه فِي مداه فقد كَانَ فِي المعتضد من عدم تحفظه بالارواح وتهاونه باللوام فِي ذَلِك واللواح فاطمأن إِلَيْهِ أَبُو عَامر واغتر وَأنس إِلَى مَا بِسم من مؤانسته وافتر حَتَّى أمكنته فِي اغتياله فرْصَة وَلم يعلق فِيهَا حِصَّة وَلم يُطلق عَلَيْهِ إِلَّا أَنه زلت بِهِ قدمه فَسقط فِي الْبحيرَة وانكفا وَلم يعلم بِهِ إِلَّا بَعْدَمَا طفا فَاخْرُج وَقد قضى وأدرج مِنْهُ

فِي الْكَفَن حسام الْمجد منتضى فَمن محاسنه قَوْله يصف السوسن وَهُوَ مِمَّا أبدع فِيهِ وَأحسن (وسوسن راق مرآه ومخبره ... وَجل فِي أعين النظار منظره) (كَأَنَّهُ أكؤس البلور قد صنعت ... مسندسات تَعَالَى الله مظهره) (وَبَينهَا ألسن قد طوقت ذَهَبا ... من بَينهَا قَائِم بِالْملكِ يؤثره) وَله أَيْضا (حج الحجيج منى ففازوا بالمنى ... وَتَفَرَّقَتْ عَن خيفه الأشهاد) (وَلنَا بِوَجْهِك حجَّة مبرورة ... فِي كل يَوْم تَقْتَضِي وتعاد) وَاجْتمعَ بجنة بِخَارِج اشبيلية مَعَ اخوان لَهُ علية فَبينا هم يديرون الراح وَيَشْرَبُونَ من كأسها الأفراح والجو صَاح إِذا بالأفق قد غيم وَأرْسل الديم بَعْدَمَا كسا الجو بمطارف اللاذ وأشعر الغصون زهر قباذ وَالشَّمْس منتقبة بالسحاب والرعد يبكيها

بزمزمة كالانتحاب فَقَالَ (يَوْم كَأَنَّهُ سَحَابَة ... لبست عمامات الصوامت) (حجبت بِهِ شمس الضُّحَى ... بمثال أَجْنِحَة الفواخت) (والغيث يبكي فقدها والبرق يضْحك ضحك شامت) (والرعد يخْطب مفصحا ... والجو كالمخزون سَاكِت) وَخرج إِلَى تِلْكَ الخميلة وَالربيع قد نشر رداه ونثر على معاطف الغصون نداه فَأَقَامَ بهَا وَقَالَ (وخميلة رقم الزَّمَان أديمها ... بمفضض ومقسم ومشوب) (رشفت قبيل الصُّبْح ريق غمامة ... رشف الْمُحب مراشف المحبوب) (وطردت فِي أكنافها ملك الصِّبَا ... وَقَعَدت واستوزرت كل أديب) (وأدرت فِيهَا اللَّهْو حق مَدَاره ... مَعَ كل وضاح الجبين مهوب)

الوزير الكاتب أبو حفص أحمد بن برد

3 - (الْوَزير الْكَاتِب أَبُو حَفْص أَحْمد بن برد) هَذِه ثنية غذيت بالأدب وربت فِي اسمى الرتب مَا مِنْهُم إِلَّا شَاعِر كَاتب ولازم لباب السُّلْطَان راتب لم يزل فِي الدولة العامرية بسبق يذكر وَحقّ لَا يُنكر وَأَبُو حَفْص هَذَا بديع الْإِحْسَان بليغ الْقَلَم وَاللِّسَان مليح الْكِتَابَة فصيح الخطابة وَله رِسَالَة السَّيْف والقلم وَهُوَ أول من قَالَ بِالْفرقِ بَينهمَا وشعره مثقف المباني مرهف كالحسام الْيَمَانِيّ وَقد أثبت مِنْهُ مَا يُلْهِيك سَمَاعا ويريك الْإِحْسَان لماعا فَمن ذَلِك قَوْله يصف البهار (تَأمل فقد شقّ البهار كمائما ... وأبرز عَن نواره الخضل الندي)

(مداهن تبر فِي أنامل فضَّة ... على أَذْرع مخروطة من زبرجد) وَله يصف معشوقا أهيف الْقد ممشوقا أبدى صفحة ورد وبدا فِي ثوب لازورد (لما بدا فِي لازور ... دي الْحَرِير وَقد بهر) (كَبرت من فرط الْجمال ... ل وَقلت وَقلت مَا هَذَا بشر) (فَأَجَابَنِي لَا تنكرن ... ثوب السَّمَاء على الْقَمَر) وَله ايضا عَفا الله عَنهُ (قلبِي وقلبك لَا محَالة وَاحِد ... شهِدت بذلك بَيْننَا الألحاظ) (فتعال فلنغظ الحسود بوصلنا ... إِن الحسود بِمثل ذَاك يعاظ) وَله ايضا إِلَى من ودعه وأودع فُؤَاده من الْهوى مَا أودعهُ (يَا من حرمت لذاذتي بمسيرة ... هذي النَّوَى قد صعرت لي خدها)

الوزير الكاتب أبو جعفر اللمائي

(زود جفوني من جمالك نظرة ... وَالله يعلم إِن رَايَتك بعْدهَا) 3 - (الْوَزير الْكَاتِب أَبُو جَعْفَر اللمائي) إِمَام من أَئِمَّة الْكِتَابَة ومفجر ينبوعها وَالظَّاهِر على مصنوعها بمطبوعها إِذا كتب نثر الدُّرَر فِي المهارق ونمت فِيهَا أنفاسه كالمسك فِي المهارق وانطوى ذكره على انتشار إحسانه وَقصر أمره مَعَ امتداد لِسَانه فَلم تطل لدوحته فروع وَلَا اتَّصل لَهَا فِي نهر الْإِحْسَان كروع فاندفنت محاسنه من الإهمال فِي قبر وانكسرت الآمال بِعَدَمِ بدائعه كسرا بعد جبر وَكَانَ كَاتب عَليّ بن حمود الْعلوِي وَذكر أَنه كَانَ يرتجل بَين يَدَيْهِ وَلَا يروي فَيَأْتِي على البديه مِمَّا يتقبله الْمَرْوِيّ ويبديه فَمن ذَلِك مَا كتب بِهِ معتنيا من بعض رسائله

روض الْعلم فِي فنائك مونق وغصن الْأَدَب بمائك مُورق وَقد قذف بَحر الْهِنْد درره وَبعث روض نجد زهره فأهدى ذَلِك على يَدي فلَان الْجَارِي فِي حَمده على مباني قَصده وَمن شعره قَوْله (ألما فديتكما نستلم ... منَازِل سلمى على ذِي سلم) (منَازِل كنت بهَا نازلا ... زمَان الصِّبَا بَين جيد وفم) (أما يجدن الثرى عاطرا ... إِذا مَا الرِّيَاح تنفسن ثمَّ) وَكتب أَيْضا غُصْن اياديك عِنْدِي ناضر وَروض شكرك لدي زَاهِر وريح اخلاصي لَك صبا وزمن املي فِيك صبا فَأَنا

الوزيرأبو عبدة حسان بن مالك بن أبي عبدة

شَارِب مَاء اخائك متفيء ظلّ وفائك جَان ثَمَر فرع طَابَ أكله وأجناني الْبر قَدِيما اصله فسقاني إِكْرَاما برقة ورواني افضالا ودقة وَأَنت الطالع فِي فجاجه السالك لمنهاجه سهم فِي كنَانَة الْمجد صائب وَنجم فِي سَمَاء الْعِزّ ثاقب إِن ابتغت العدا نوره أحرق وَإِن رميتم بِهِ أصبت الحدق وَفُلَان اخْتَلَّ مَا عهدته من أمره وطما عَلَيْهِ مَا عَلمته من بحره فَإِن سبح فِيهِ غرق وَإِن شرب مِنْهُ شَرق فَإِن مددت يَد اعتناء نجيته وَإِن لحظته بِعَين احتفاء أحييته 3 - (الوزيرأبو عَبدة حسان بن مَالك بن أبي عَبدة) من بَيت جلالة وعترة اصالة كَانُوا مَعَ عبد الرَّحْمَن الدَّاخِل وتوغلوا مَعَه فِي متشعبات تِلْكَ المداخل وَسعوا فِي الْخلَافَة حَتَّى حضر مبايعها وَكثر مشايعها وجدوا فِي الْهُدْنَة وانعقادها وأخمدوا نَار

الْفِتْنَة عِنْد اتقادها فأبرمت عراها وارتبطت أولاها وأخراها فظهرت الْبيعَة واتضحت وأعلنت الطَّاعَة وأفصحت وصاروا تَاج مفرقها ومنهاج طرقها وَأَبُو عَبدة هَذَا مِمَّن بلغ الوزارة وأدركها وَحل مطْلعهَا وفلكها مَعَ اشتهار فِي اللُّغَة والأداب وانخراط فِي سلك الشُّعَرَاء وَالْكتاب وابداع لما ألف وانتهاض بِمَا تكلّف وَدخل على الْمَنْصُور وَبَين يَدَيْهِ كتاب ابْن السّري وَهُوَ بِهِ كلف وَعَلِيهِ معتكف فَخرج من عِنْده وَعمل على مِثَاله كتابا سَمَّاهُ بِكِتَاب ربيعَة وَعقيل جرد لَهُ من ذهنه أَي سيف صقيل وأتى بِهِ منتسخا مصورا فِي ذَلِك الْيَوْم من الْجُمُعَة الْأُخْرَى وأبرزه وَالْحسن يتبسم عَنهُ ويتعرى فسر بِهِ الْمَنْصُور وأعجب وَلم يغب عَن بَصَره سَاعَة وَلم يحتجب وَكَانَ لأبي عَبدة بعد هَذِه الْمدَّة حِين أدجت الْفِتْنَة لَيْلهَا وأزجت أبلها وخيلها اغتراب كاغتراب الْحَارِث بن مضاض واضطراب بَين القوافي والمواضي كالحية النضناض ثمَّ اشْتهر بعد وافتر لَهُ

السعد وَفِي تِلْكَ الْمدَّة يَقُول يتشوق إِلَى أَهله (سقى بَلَدا أَهلِي بِهِ وأقاربي ... غواد بأثقال الحيا وروائح) (وهبت عَلَيْهِم بالْعَشي وبالضحى ... نواسم برد والظلال فوائح) (تذكرتهم والنأي قد حَال دونهم ... وَلم أنس لَكِن أوقد الْقلب لافح) (وَمِمَّا شجاني هَاتِف فَوق أيكة ... ينوح وَلم يعلم بِمَا هُوَ نائح) (فَقلت اتئد يَكْفِيك أَنِّي نازح ... وَأَن الَّذِي أهواه عني نازح) (ولي صبية مثل الْفِرَاخ بقفرة ... مضى حاضناها فاطحتها الطوائح) (إِذا عصفت ريح اقامت رؤوسها ... فَلم يلقها إِلَّا طيور بوارح) (فَمن لصغار بعد فقد أَبِيهِم ... سوى سانح فِي الدَّهْر لَو عَن سانح) واستوزره المستظهر عبد الرَّحْمَن بن هِشَام الْمُسَمّى بالخلافة أَيَّام الْفِتْنَة فَلم يرض بِالْحَال وَلم يمض فِي ذَلِك الانتحال وتثاقل عَن الْحُضُور فِي كل وَقت وتغافل فِي ترك الْغرُور

بذلك المقت وَكَانَ المستظهر يستبد بِأَكْثَرَ تِلْكَ الْأُمُور دونه وينفرد مغيبا عَنهُ شؤونه فَكتب إِلَيْهِ (إِذا غبت لم أحضر وَإِن جِئْت لم أسل ... فسيان مني مشْهد ومغيب) (فَأَصْبَحت تيميا وَمَا كنت قبلهَا ... لتيم وَلَكِن الشبيه نسيب) وَمن شعره فِي المهرجان (أرى المهرجان قد استبشر ... غَدَاة بَكَى المزن واستعبرا) (وسربلت الأَرْض أفواهها ... وجللت السندس الأخضرا) (وهز الرِّيَاح صنابيرها ... فضوعت الْمسك والعنبرا) (تهادى بِهِ النَّاس ألطافه ... وسام الْمقل بِهِ المكثرا) وَله أَيْضا (رَأَتْ طالعا للشيب بَين ذوائبي ... فَعَادَت بأسراب الدُّمُوع السواكب) (وَقَالَت أشيب قلت صبح تجاربي ... أنار على أعقاب ليل نوائبي)

الوزيرالفقيه ابو أيوب بن أبي أمية واحد الأندلس الذي طوقها فخارا وطبقها بأوانه افتخارا ما شئت من وقار لا تحيل الحركة سكونه ومقدار يتمنى مخبر أن يكونه

وَلما مَاتَ قَالَ الْوَزير أَبُو عَامر بن شَهِيد يرثيه رحمهمَا الله تَعَالَى (أَفِي كل عَام مصرع لعَظيم ... أصَاب المنايا حادثي وقديمي) (وَكَيف اهتدائي فِي الخطوب إِذا دجت ... وَقد فقدت عَيْنَايَ ضوء نُجُوم) (مضى السّلف الوضاح إِلَّا بَقِيَّة ... كغرة مسود الْقَمِيص بهيم) (فَإِن ركبت مني اللَّيَالِي هضيمة ... فقبلي مَا كَانَ اهتضام تَمِيم) (أَبَا عَبدة إِنَّا غدرناك عِنْدَمَا ... رَجعْنَا وغادرناك غير ذميم) (أنخذل من كُنَّا نرود بأرضه ... ونكرع مِنْهُ فِي إِنَاء عُلُوم) (ويجلو الْعَمى عَنَّا بأنوار رَأْيه ... إِذا أظلمت ظلماء ذَات غموم) (كَأَنَّك لم تلقح برِيح من الحجى ... عقائم أفكار بِغَيْر عقيم) (وَلم نعتمد مغناك غدوا وَلم نزر ... رواحا لفصل الحكم دَار حَكِيم) 3 - (الوزيرالفقيه ابو أَيُّوب بن أبي أُميَّة وَاحِد الأندلس الَّذِي طوقها فخارا وطبقها بأوانه افتخارا مَا شِئْت من وقار لَا تحيل الْحَرَكَة سكونه وَمِقْدَار يتَمَنَّى مخبر أَن يكونه

إِذا لَاحَ رَأَيْت الْمجد مجتمعا وَإِن فَاه أضحى كل شَيْء مستمعا تكتحل مِنْهُ مقل الْمجد وتنتحل الْمَعَالِي أَفعاله انتحال ذِي كلف بهَا وَوجد لَو تَفَرَّقت فِي الْخلق سجاياه لحمدت الشيم واستسقيت بمحياه لما استمسكت الديم ودعي للْقَضَاء فَمَا رَضِي وأعفي عَنهُ فَكَأَنَّهُ استقضي لَدَيْهِ تثبت الْحَقَائِق وتنبت العلائق وَبَين يَدَيْهِ يسْلك عين الجدد ويدع اللدد اللدد وَله ادب إِذا حَاضر بِهِ فَلَا الْبَحْر إِذا عصف وَلَا أَبُو عُثْمَان ابْنه إِذا صنف مَعَ حلاوة مؤانسة تستهوي الجليس وتهوي حَيْثُ شَاءَت بالنفوس وَأما تحبيره وإنشاؤه ففيهما للسامع تحييره وانتشاؤه وَقد أثبت لَهُ بدعا يثنى إِلَيْهَا الْإِحْسَان جيدا وأخدعا فَمن ذَلِك قَوْله فِي منزل حلّه متنزها (يَا منزل الْأنس أهواه وآلفه ... حَقًا لقد جمعت فِي صحنك الْبدع) (لله مَا اصطنعت نعماك عِنْدِي فِي ... يَوْم نعمت بِهِ والشمل مُجْتَمع)

وَحل منية صهره الْوَزير أبي مَرْوَان بن الدب بعدوة اشبيلية المطلة على النَّهر الْمُشْتَملَة على بَدَائِع الزهر وَهُوَ معرس ببنته فَأَقَامَ فِيهَا أَيَّامًا متأنسا ولجذوة السرُور مقتبسا فأولاه من التحف وَأهْدى إِلَيْهِ من الطّرف مَا غمر كَثْرَة وبهر نفاسة واثره فَلَمَّا ارتحل وَقد اكتحل من حسن ذَلِك الْموضع بِمَا اكتحل كتب إِلَيْهِ (قل للوزير وَأَيْنَ الشُّكْر من منن ... جَاءَت على سنَن تترى وتتصل) (غشيت مغناك وَالرَّوْض الأنيق بِهِ ... يندى وَصوب الحيا يهمي وينهمل) (وجال طرفِي فِي ارجائه مرحا ... وفْق اخْتِيَاري يستعلي ويستفل) (يَدْعُو بلفتته حَيْثُ ارتمى زهر ... عَلَيْهِ من منثني أفنانه كلل) (مَحل أنس نعمنا فِيهِ آونة ... من الزَّمَان وواتانا بِهِ الأمل) وَحل بعد ذَلِك متنزها بهَا على عَادَته فاحتفل فِي مُوالَاة ذَلِك الْبر وإعادته فَلَمَّا رَحل كتب إِلَيْهِ

(يَا دَار أمنك الزَّمَان ... صروفه ونوائبه) (وَجَرت سعودك بِالَّذِي ... يهوي نزيلك دائبه) (فلنعم مثوى الضَّيْف أَنْت ... إِذا تحاموا جَانِبه) (خطر سأرت بِهِ الديار ... وأذعنت لَك ناصبه وَله فِيهِ أَيْضا (أمسك دارين حياك النسيم بِهِ ... أم عنبر الشحر أم هذي الْبَسَاتِين) (بشاطئ النَّهر حَيْثُ النُّور مؤتلق ... والراح تعبق أم تِلْكَ الرياحين) وصنع ولد ابْن عبد الغفور رِسَالَة سَمَّاهَا ب الساجعة حذا بهَا حَذْو أبي الْعَلَاء المعري فِي الصاهل والشاحج وَبعث بهَا إِلَيْهِ فعرضها عَلَيْهِ فأقامت عِنْده أَيَّامًا ثمَّ استدعاها مِنْهُ فصرفها إِلَيْهِ وَكتب مَعهَا يَقُول من النثر بكر زففتها أعزّك الله نَحْوك وهززت

الوزيرابو القاسم بن عبد الغفور فتى زكا فرعا وأصلا وأحكم البلاغة معنى وفصلا وجرد من ذهنه على الأعراض نصلا قدها به وفراها وقدح زند المعالي

بمقدمها سناك وسروك فَلم ألفظها عَن شبع وَلَا جهلت ارتفاعها عَمَّا يجتلي من نوعها ويستمع وَلَكِن لما أنسته من أنسك بانتجاعها وحرصك على ارتجاعها دفعت فِي صدر الولوع وَتركت بَينهَا وَبَين مجاثمها تِلْكَ الربوع حَيْثُ الادب غض وَمَاء البلاغة مرفض فأسعد أعزّك الله بكرتها وسلها عَن أفانين معرتها بِمَا تقطفه من ثمارك وتغرفه من بحارك وترتاح لَهُ ولإخوانه من نتائج افكارك وَإِنَّهَا لشنشنة اعرفها فِيكُم من أخزم وموهبة حزتموها وأحرزتم السَّبق فِيهَا مُنْذُ كم إِن شَاءَ الله تَعَالَى 3 - (الوزيرابو الْقَاسِم بن عبد الغفور فَتى زكا فرعا وأصلا وَأحكم البلاغة معنى وفصلا وجرد من ذهنه على الْأَعْرَاض نصلا قدها بِهِ وفراها وقدح زند الْمَعَالِي

حَتَّى أوراها مَعَ صون يرتديه وَلَا يكَاد يبديه وشبيبة ألحقته بالكهول واقفرت مِنْهُ ربعهَا المأهول وَشرف ارتداه وَسلف اقتفى اثره الْكَرِيم واقتداه وَله شعر بديع السرد مفوف الْبرد وَقد أثبت لَهُ مِنْهُ مَا ألفيت وبالدلالة عَلَيْهِ اكتفيت فَمن ذَلِك قَوْله (تركت التصابي للصَّوَاب وَأَهله ... وَبَين الطلى للبيض والسمر للسمر) (مدامي مدادي والكؤوس محابري ... وندماي اقلامي ومنقلتي سَفَرِي) وَله أَيْضا (لَا تنكروا أننا فِي رحْلَة أبدا ... نحث فِي نفنف طورا وَفِي هدف) (فدهرنا سدفة وَنحن أنجمها ... وَلَيْسَ يُنكر مجْرى النَّجْم فِي السدف) (لَو أَسْفر الدَّهْر لي اقصرت عَن سفر ... وملت عَن كلفي بِهَذِهِ الكلف) وَله من قصيدة (رويدك يَا بدر التَّمام فإنني ... أرى العيس حسرى وَالْكَوَاكِب ظلعا)

الوزيرأبو مروان عبد الملك بن مثنى

(كَأَن أَدِيم الصُّبْح قد قد أنجما ... وغودر درع اللَّيْل فِيهَا مرقعا) (فَإِنِّي وَإِن كَانَ الشَّبَاب محببا ... إِلَيّ وَفِي قلبِي أجل وأوقعا) (لآنف من حسن بشعري مفترى ... وآنف من حسن بشعري قنعا) 3 - (الوزيرأبو مَرْوَان عبد الْملك بن مثنى) كثير القعاقع قَلِيل البراقع يذهب إِلَى التقعير ويرغب فِي التوعير كتب إِلَى ابْن عكاشة وَقد مر على قلعة رَبَاح يُعلمهُ بِعَدَمِ الراح

الوزيرأبو يحيى رفيع الدولة بن صمادح من ثنية إمارة وإلى عليها السعد حجه واعتماره انتجعوا انتجاع الأنواء واستطعموا في المحل واللأواء وأبو يحيى هذا

(يَا فريدا دون ثَان ... وهلالا فِي العيان) (عدم الراح فَصَارَت ... مثل دهن البلسان) فَبعث إِلَيْهِ مِنْهَا وَكتب إِلَيْهِ (يَا فريدا لَا يجارى ... بَين أَبنَاء الزَّمَان) (جَاءَ من شعرك روض ... جاده صوب الْبَيَان) (فبعثناها سلافا ... كسجاياك الحسان) 3 - (الوزيرأبو يحيى رفيع الدولة بن صمادح من ثنية إِمَارَة وَإِلَى عَلَيْهَا السعد حجه واعتماره انتجعوا انتجاع الأنواء واستطعموا فِي الْمحل واللأواء وَأَبُو يحيى هَذَا

فجر ذَلِك الصَّباح وضوء ذَلِك الْمِصْبَاح التحف بالصون وارتدى وَرَاح على الانقباض واغتدى فَمَا تَلقاهُ إِلَّا سالكا جددا وَلَا ترَاهُ إِلَّا لابسا سؤددا وَله أدب كالروض إِذا أَزْهَر وَالصُّبْح إِذا أَسْفر وَقفه على النسيب وَصَرفه إِلَى المحبوبة والحبيب فَمن ذَلِك قَوْله (يَا عَابِد الرَّحْمَن كم لَيْلَة ... أرقتني وجدا وَلم تشعر) (إِذْ كنت كالغصن ثنته الصِّبَا ... وصحن ذَاك الخد لم يشْعر) وَقَوله أَيْضا (مَا لي وللبدر لم يسمح بزورته ... لَعَلَّه ترك الْإِجْمَال أَو هجرا) (إِن كَانَ ذَاك لذنب مَا شَعرت بِهِ ... فَأكْرم النَّاس من يعْفُو إِذا قدرا) وَقَوله ايضا (وأهيف لَا يلوي على عتب عَاتب ... وَيَقْضِي علينا بالظنون الكواذب) (يحكم فِينَا أمره فنطيعه ... ونحسب مِنْهُ الحكم ضَرْبَة لازب)

وَقَوله أَيْضا (وعلقته حُلْو الشَّمَائِل مَاجِنًا ... خنث الْكَلَام مرنح الأعطاف) (مَا زلت أنصفه وَأوجب حَقه ... لكنه يَأْبَى عَن الْإِنْصَاف) وَقَوله أَيْضا (حبيب مَتى ينأى عَن الْعين شخصه ... يكَاد فُؤَادِي أَن يطير من الْبَين) (ويسكن مَا بَين الضلوع إِذا بدا ... كَأَن عَليّ قلبِي تمائم من عين) وَقَوله أَيْضا (افدي أَبَا عَمْرو وَإِن كَانَ جانيا ... عَليّ ذنوبا لَا تعدد بالبهت) (فَمَا كَانَ ذَاك الود إِلَّا كبارق ... أَضَاء لعَيْنِي ثمَّ أظلم فِي الْوَقْت) وَكتب إِلَيّ يهنئني بقدوم من سفر

الوزيرأبو الوليد بن حزم واحد دونه الجمع وهو للجلالة بصر وسمع روضة علاه رائقة السنا ودوحة بهاه طيبة الجنى لم يتزر بغير الصون ولم يشتهر بفساد بعد الكون مع نفس برئت من الكبر وخلصت خلوص التبر مع عفاف التحف به برودا وما ارتشف به ثغرا برودا فعفت

(قدمت أَبَا نصر على حَال وَحْشَة ... فَجَاءَت بك الآمال واتصل الْأنس) (وقرت بك العينان واتصل المنى ... وفازت على يأس ببغيتها النَّفس) (فأهلا وسهلا بالوزارة كلهَا ... وَمن رَأْيه فِي كل مظْلمَة شمس) 3 - (الوزيرأبو الْوَلِيد بن حزم) وَاحِد دونه الْجمع وَهُوَ للجلالة بصر وَسمع رَوْضَة علاهُ رائقة السنا ودوحة بهاه طيبَة الجنى لم يتزر بِغَيْر الصون وَلم يشْتَهر بِفساد بعد الْكَوْن مَعَ نفس بَرِئت من الْكبر وخلصت خلوص التبر مَعَ عفاف التحف بِهِ برودا وَمَا ارتشف بِهِ ثغرا برودا فعفت مواطنه وَمَا استرابت ظواهره وَلَا بواطنه وَأما شعره فَفِي قالب الْإِحْسَان أفرغ وعَلى وَجه الِاسْتِحْسَان يلقى ويبلغ وَكتب إِلَيْهِ ابْن زهر (أأبا الْوَلِيد وَأَنت سيد مذْحج ... هلا فَككت أَسِير قَبْضَة وعده) (وحياة من أمد الْحَيَاة بوصله ... وذهابها حتما بأيسر صده) (لأقاتلنك إِن قطعت بمرهف ... من جفْنه وبصعدة من قده)

فَرَاجعه أَبُو الْوَلِيد (لبيْك يَا أَسد الْبَريَّة كلهَا ... من صَادِق عَبث المطال بوعده) (يمْضِي بِأَمْرك سَاءَ أَو سر القضا ... ويفل حد النائبات بحده) (إيه ووافقت الصِّبَا فِي معرض ... ذهب المشيب بهزله وبجده) (فطفقت أسأله عَن الظبي الَّذِي ... راقت لحاظ الْأسد زرقة خَدّه) (فاستعجمت شحا عَلَيْهِ وَرَحْمَة ... لفؤاد مَوْلَاهُ ومهجة عَبده) (يَا قَاتل الابطال دُونك مرهفا ... من جفْنه أَو صعدة من قده) (فلألقينك إِن رجعت بِذِمَّة ... من عَهده وشفاعة من عِنْده) (حَتَّى يرد علاك طعمة وَصله ... وحشاي أَن سامحت نهزة صده) وَكتب إِلَيْهِ أَيْضا أَبُو الْوَلِيد (أأبا الْعَلَاء وَتلك دَعْوَة عابث ... ولعلها سَبَب إِلَى أَن تعتبا) (داويت قلبِي من هَوَاك لعِلَّة ... فَأبى وَلست اسوم قلبِي مَا أَبى) (أتصامما عَمَّا اقول ووثبة ... عَمَّا أُرِيد فمرحبا بك مرْحَبًا)

(أتجزع من دمعي وَأَنت أسلته ... وَمن نَار أحشائي وَأَنت لهيبها) (وتزعم أَن النَّفس غَيْرك علقت ... وَأَنت وَلَا من عَلَيْك حبيبها) (إِذا طلعت شمس عَليّ بسلوة ... أثار الْهوى بَين الضلوع غُرُوبهَا) وَله أَيْضا (وعلقته من حَيْثُ لم يدر مَا الْهوى ... غريرا فَلَا وصل لَدَيْهِ وَلَا هجر) (يمِيل بعطفيه النسيم صبَابَة ... ويرنو إِلَى مَا فَوق لباته الْبَدْر) (وَفِي لحظه سحر وَلم يرد بابلا ... وَفِي فَمه خمر وَلم يدر مَا الْخمر) (يرْجم فِي الظَّن من غير رِيبَة ... ويوهمه دمعي فَيسْأَل مَا الْأَمر) (وَمن شيم العشاق أَو خدع الْهوى ... قُلُوب براها الشوق أدمعها حمر) (فَلَمَّا صفا أَو كَاد إِلَّا تعلة ... تصدى لَهَا الواشي وأحكمها الدَّهْر) (ونادته افلاذي على عَادَة الْهوى ... فَصم كَأَن الصَّوْت فِي أُذُنه وقر) (فَأَعْرَضت صفحا عَنهُ أَو شرقا بِهِ ... وداريت حَتَّى شكّ فِي سري الْجَهْر) (فَقَالُوا سلو عَن أَو ملل عرا ... وَيَا بئس مَا ظنُّوا وَلَو خذل الصَّبْر) (وَمَا عرفت إِلَّا الْوَفَاء سجيتي ... وَإِن أَنْكَرُوا ظلما فَلم يقم الْعذر) وَله أَيْضا (مُحَمَّد كم أغالط فِيك نَفسِي ... فَلَا أَدْرِي أأسلو أم أهيم)

(فأخفض عَنْك طرفِي خوف واش ... يعرض بِي فيشمت أَو يلوم) (وَكم من سلوة هجمت وكادت ... وَلَكِن الْهوى خلق عَظِيم) (وَكَيف بهَا وَقد وقف الْهوى بِي ... مَوَاقِف يستطير بهَا الْحَلِيم) (وَكم تَأتي تلاطفه الْأَمَانِي ... فيأبى لَا يسير وَلَا يُقيم) (وَكنت هَمَمْت لَو لم تصطفيني ... جفون لَا يبل بهَا سقيم) (فَمن شغف تراقبك الدراري ... وَيَأْخُذ من معاطفك النسيم) وَله ايضا (وَكم لَيْلَة ظافرت فِي ظلها المنى ... وَقد طرفت من أعين الرقباء) (وَفِي ساعدي حُلْو الشَّمَائِل مترف ... يدين بيأس تَارَة ورجاء) (أطارحه خوف العتاب وَرُبمَا ... تغاضب فاسترضيته ببكاء) (وَقد عابثته الراح حَتَّى رمت بِهِ ... لَقِي بَين ثنيي بردتي وردائي) (وَفِي لَحْظَة من سُورَة الكأس فَتْرَة ... تمت إِلَى الحاظه بولاء) (على حَاجَة فِي الْحبّ لَو شِئْت نلتها ... وَلَكِن حمتني عفتي وسنائي)

وَله أَيْضا (إِنَّا إِذا رفعت سَمَاء عجاجة ... وَالْحَرب تقعد بالردى وَتقوم) (وتمرد الْأَبْطَال فِي جنباتها ... وَالْمَوْت من فَوق النُّفُوس يحوم) (برقتْ لَهُم منا الحتوف كَأَنَّمَا ... نَحن الْأَهِلّة والسهام نُجُوم) وَله أَيْضا (لله أَيَّام على وَادي الْقرى ... سلفت لنا والدهر ذُو ألوان) (والراح تَأْخُذ من معاطف أغيد ... أَخذ الصِّبَا من عطف غُصْن البان) (حَتَّى إِذا ضرب الظلام رواقه ... وخشيت فِيهِ طوارق الْحدثَان) (قمنا نؤمل غير ذَلِك منزلا ... والراح تقصر خطْوَة فتدان) (ويروم قَول أبي الْوَلِيد وَرُبمَا ... أخفت مكانة لامه الواوان) (والبدر يرمقني بمقلة حَاسِد ... لَو يَسْتَطِيع لَكَانَ حَيْثُ يراني)

وَله أَيْضا (وهويته حُلْو الشَّمَائِل مترفا ... نشوان يعثر فِي فضول التيه) (أطوي الْهوى شحا عَلَيْهِ وَرَحْمَة ... والدمع ينشر كل مَا أطويه) (وَلكم صدرت فعارضتني نشوة ... من ورد وجنته وخمرة فِيهِ) وَله أَيْضا (إِلَيْك أَبَا حَفْص وَمن عَن ملالة ... ثنيت عناني والحبيب حبيب) (مقَالا يطير الْجَمْر عَن جنباته ... وَمن تَحْتَهُ قلب عَلَيْك يذوب) (مَضَت لَك فِي أفياء ظِلِّي قولة ... لَهَا بَين أحناء الضلوع دَبِيب) (وَلَكِن أَبى إِلَّا إِلَيْك إلتفافة ... فَزَاد عَلَيْهِ من هَوَاك رَقِيب) (وَكم بَيْننَا لَو كنت تحمد مَا مضى ... إِذا الْعَيْش غض وَالزَّمَان قشيب) (وَتَحْت جنَاح الْغَيْم أحشاء رَوْضَة ... بهَا لخفوق العاصفات وجيب) (وللزهر فِي ظلّ الرياض تَبَسم ... وللطير مِنْهَا فِي الغصون نحيب)

القسم الثاني من كتاب مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح اهل الاندلس وهو يشتمل على محاسن أعلام العلماء وأعيان القضاة والفهماء رحمهم الله وهو مما لم يذكر في قلائد العقيان

تمّ الْقسم الأول (الْقسم الثَّانِي من كتاب مطمح الْأَنْفس ومسرح التأنس فِي ملح اهل الاندلس وَهُوَ يشْتَمل على محَاسِن أَعْلَام الْعلمَاء وأعيان الْقُضَاة والفهماء رَحِمهم الله وَهُوَ مِمَّا لم يذكر فِي قلائد العقيان)

فارغة

الفقيه العالم أبو مروان عبد الملك بن حبيب السلمي

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم (الْفَقِيه الْعَالم أَبُو مَرْوَان عبد الْملك بن حبيب السّلمِيّ) أَي شرف لأهل الاندلس ومفخر وَأي مرهف على ملحد أزرى بِالْإِسْلَامِ أَو سخر خلدت مِنْهُ الأندلس فَقِيها عَالما أعَاد مجاهل

جهلها معالما وَأقَام فِيهَا للعلوم سوقا نافقة وَنشر مِنْهَا ألوية خافقة وجلا عَن الالباب صدا الكسل وشحذها شحذ الصوارم والأسل وَتصرف فِي فنون الْعُلُوم وَعرف كل مَعْلُوم وَسمع بالأندلس وتفقه حَتَّى صَار اعْلَم من بهَا وأفقه وَلَقي أنجاب مَالك وسلك من مناظراتهم أوعر المسالك حَتَّى أجمع عَلَيْهِ الإتفاق وَوَقع على تفضيله الإصفاق وَيُقَال إِنَّه لَقِي مَالِكًا آخر عمره وروى عَنهُ عَن سعيد بن الْمسيب ان سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام كَانَ يركب الرّيح من اصطخر إِلَى بَيت الْمُقَدّس فيتغدى بهَا ثمَّ يعود فيتعشى باصطخر وَله فِي الْفِقْه كتاب الْوَاضِحَة وَمن أَحَادِيثه غرائب قد تحتل بهَا للزمان نحور وترائب وَقَالَ مُحَمَّد بن لبَابَة فَقِيه الأندلس عِيسَى بن دِينَار وعالمها

عبد الْملك بن حبيب وراويها يحيى بن يحيى وَكَانَ عبد الْملك قد جمع إِلَى علم الْفِقْه والْحَدِيث علم اللُّغَة وَالْإِعْرَاب وَتصرف فِي فنون الأداب وَكَانَ لَهُ شعر يتَكَلَّم بِهِ سحرًا وَيرى ينبوعه بذلك منفجرا وَتُوفِّي بالأندلس فِي رَمَضَان سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَخمسين سنة بَعْدَمَا دوخ الأَرْض وَقطع طولهَا وَالْعرض وجال فِي اكنافها وانْتهى إِلَى أطرافها وَمن شعره قَوْله (صَلَاح أَمْرِي وَالَّذِي أَبْتَغِي ... هَين على الرَّحْمَن فِي قدرته) (ألف من الْحمر وأقلل بهَا ... لعالم أربى على بغيته)

وَكتب إِلَى مُحَمَّد بن سعيد الزجالي رِسَالَة وَوَصلهَا بِهَذِهِ الأبيات (كَيفَ يُطيق الشّعْر من أَصبَحت ... حَالَته الْيَوْم كَحال الْغَرق) (وَالشعر لَا يسلس إِلَّا على ... فرَاغ قلب واتساع الْخلق) (فاقنع بِهَذَا القَوْل من شَاعِر ... يرض من الْحَظ بِأَدْنَى الْعُنُق) (فضلك قد بَان عَلَيْهَا كَمَا ... بَان لأهل الأَرْض ضوء الشَّفق) (أما ذمام الود مني لكم ... فَهُوَ من المحتوم فِيمَا سبق) وَلم يكن لَهُ علم بِالْحَدِيثِ يعرف بِهِ صَحِيحه من معتله وَلَا يفرق بَين مستقيمه ومختله وَكَانَ غَرَضه الْإِجَازَة وَأكْثر رواياته غير مستجازة قَالَ ابْن وضاح قَالَ إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر أَتَى صَاحبكُم

الفقيه القاضي أبو الحسن منذر بن سعيد البلوطي رحمه الله تعالى

الاندلسي يَعْنِي عبد الْملك هَذَا بغرارة مَمْلُوءَة فَقَالَ لي هَذَا علمك قلت لَهُ نعم مَا قَرَأَ عَليّ مِنْهُ حرفا وَلَا قرأته عَلَيْهِ وَحكي أَنه قَالَ فِي دُخُوله الْمشرق وَحضر مجْلِس بعض الأكابر فازدراه من رَآهُ (لَا تنظرن إِلَى جسمي وقلته ... وَانْظُر لصدري وَمَا يحوي من السّنَن) (فَرب ذِي منظر من غير معرفَة ... وَرب من تزدريه الْعين ذُو فطن) (وَرب لؤلؤة فِي عين مزبلة ... لم يلق بَال لَهَا إِلَّا إِلَى زمن) (الْفَقِيه القَاضِي أَبُو الْحسن مُنْذر بن سعيد البلوطي رَحمَه الله تَعَالَى) آيَة حَرَكَة فِي سُكُون وبركة لم تكن معدة وَلَا تكون وَآيَة

سفاهة فِي تحلم وجهامة ورع فِي طي تَبَسم إِذا جد وجد وَإِذا هزل نزل وَفِي كلتا الْحَالَتَيْنِ لم ينزل للورع عَن مرقب وَلَا اكْتسب إِثْمًا وَلَا احتقب ولي قَضَاء الْجَمَاعَة بقرطبة ايام عبد الرَّحْمَن ناهيك من عدل أظهر وَمن فضل أشهر وَمن جور قبض وَمن حق رفع وَمن بَاطِل خفض وَكَانَ مهيبا صليبا صَارِمًا غير جبان وَلَا عَاجز وَلَا مراقب لأحد من خلق الله فِي اسْتِخْرَاج حق وَرفع ظلم وَاسْتمرّ فِي الْقَضَاء إِلَى أَن مَاتَ النَّاصِر لدين الله ثمَّ ولي ابْنه الحكم فأقره وَفِي خِلَافَته توفّي بعد أَن استعفى مرَارًا فَمَا أعفي لم تحفظ عَلَيْهِ مُدَّة ولَايَته قَضِيَّة جور وَلَا عدت عَلَيْهِ فِي حكومته زلَّة وَكَانَ غزير الْعلم كثير الادب متكلما بِالْحَقِّ متبينا بِالصّدقِ وَله كتب مؤلفة فِي السّنة وَالْقُرْآن والورع وَالرَّدّ على أهل الْأَهْوَاء والبدع وَكَانَ خَطِيبًا بليغا وشاعرا محسنا ولد سنة ثَلَاث وَسبعين وَمِائَتَيْنِ عِنْد ولَايَة الْمُنْذر بن مُحَمَّد وَتُوفِّي يَوْم

الْخَمِيس لليلتين بَقِيَتَا من ذِي الْقعدَة سنة خمس وَخمسين وثلاثمائة وَمن شعره فِي الزّهْد قَوْله (كم تصابى وَقد علاك المشيب ... وتعامى عمدا وَأَنت اللبيب) (كَيفَ تلهو وَقد أَتَاك نَذِير ... أَن سَيَأْتِي الْحمام مِنْك قريب) (ياسفيها قد حَان مِنْهُ رحيل ... بعد ذَاك الرحيل يَوْم عصيب) (إِن للْمَوْت سكرة فارتقبها ... لَا يداويك أَن أتتك طَبِيب) (كم تواني حَتَّى تصير رهينا ... ثمَّ تَأْتِيك دَعْوَة فتجيب) (بِأُمُور الْمعَاد انت عليم ... فاعملن جاهدا لَهَا يَا أريب) (وتذكر يَوْمًا تحاسب فِيهِ ... إِن من يذكر فَسَوف ينيب) (لَيْسَ من سَاعَة من الدَّهْر إِلَّا ... للمنايا عَلَيْك فِيهَا رَقِيب) وَذكر أَن أول سَببه فِي التَّعَلُّق بالناصر لدين الله ومعرفته بِهِ وزلفاه أَن النَّاصِر لما احتفل لدُخُول ملك الرّوم صَاحب الْقُسْطَنْطِينِيَّة بقصر قرطبة الاحتفال الَّذِي اشْتهر ذكره وانبهر أمره

أحب أَن يقوم الخطباء وَالشعرَاء بَين يَدَيْهِ بِذكر جلالة مقعدة وَوصف مَا تهَيَّأ لَهُ من توطد الْخلَافَة وَرمى الْمُلُوك بآمالها وَتقدم إِلَى الْأَمِير الحكم ابْنه باعداد من يقوم لذَلِك من الخطباء ويقدمه أَمَام نشيد الشُّعَرَاء فَتقدم الحكم إِلَى ابي عَليّ الْبَغْدَادِيّ ضيف الْخلَافَة وأمير الْكَلَام وبحر اللُّغَة أَن يُقَام فَقَامَ رَحمَه الله وَأثْنى على الله وَصلى على النَّبِي ثمَّ انْقَطع وبهت فَمَا وصل إِلَّا قطع ووقف ساكتا متفكرا وتشوف لَا نَاسِيا وَلَا متذكرا فَلَمَّا رأى ذَلِك مُنْذر بن سعيد قَامَ من ذَاته بِدَرَجَة من مرقاته فوصل افْتِتَاح أبي عَليّ الْبَغْدَادِيّ بِكَلَام عَجِيب ونادى من الاحسان فِي ذَلِك الْمقَام كل مُجيب وَقَالَ أما بعد فَإِن لكل حَادِثَة مقَاما وَلكُل

مقَام مقَال وَلَيْسَ بعد الْحق إِلَّا الضلال وَإِنِّي قُمْت فِي مقَام كريم بَين يَدي ملك عَظِيم فاصغوا إِلَيّ بأسماعكم وألقنوا عَليّ بأفئدتكم معاشر الْمَلأ إِن من الْحق أَن يُقَال للمحق صدقت وللمبطل كذبت وَإِن الْجَلِيل تَعَالَى فِي سمائه وتقدس بصفاته واسمائه أَمر كليمه مُوسَى صلى الله على نَبينَا وَعَلِيهِ وعَلى جَمِيع الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ أَن يذكر قومه بنعم الله عز وَجل عِنْدهم وَأَنا أذكركم نعم الله تَعَالَى عَلَيْكُم وتلافيه لكم بخلافة أَمِير الْمُؤمنِينَ الَّتِي أمنت سربكم وَرفعت خوفكم وكنتم قَلِيلا فكثركم ومستضعفين فقواكم ومستذلين فنصركم ولاه الله رعايتكم وَأسْندَ إِلَيْهِ إمامتكم أَيَّام ضربت الْفِتْنَة سرادقها على الْآفَاق وأحاطت بكم تشعل النِّفَاق حَتَّى صرتم فِي مثل حدقة الْبَعِير مَعَ ضيق الْحَال ونكد الْعَيْش والتغيير فاستبدلتم بخلافته من الشدَّة والرخاء وانتقلتم بيمن سياسته إِلَى كنف الْعَافِيَة بعد استيطان الْبلَاء ناشدتكم الله يَا معشر الْمَلأ ألم تكن الدِّمَاء مسفوكة فَأَمَّنَهَا وَالْأَمْوَال منتهبة فأحرزها وحصنها الم تكن الْبِلَاد خرابا فعمرها وثغور الْمُسلمين مهتضمة فحماها ونصرها فاذكروا آلَاء الله

عَلَيْكُم بخلافته وتلافيه جمع كلمتكم بعد افتراقها بإمامته حَتَّى أذهب الله عَنْكُم غيظكم وشفى صدوركم وصرتم يدا على عَدوكُمْ بطوية خَالِصَة وبصيرة ثَابِتَة وافرة فقد فتح الله عَلَيْكُم ابواب البركات وتواترت عَلَيْكُم أَسبَاب الفتوحات وَصَارَت وُفُود الرّوم وافدة عَلَيْكُم وأمال الأقصين والأدنين إِلَيْكُم يأْتونَ من كل فج عميق وبلد سحيق لأخذ حَبل بَينه وَبَيْنكُم ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا وَلنْ يخلف الله وعده وَلِهَذَا الْأَمر مَا بعده وَتلك أَسبَاب ظَاهِرَة تدل على امور باطنة دليلها قَائِم وجفنها غير نَائِم (وعد الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَعمِلُوا الصَّالِحَات ليَستَخْلِفنهم فِي الأَرْض كَمَا اسْتخْلف الَّذين من قبلهم وليمكنن لَهُم دينهم الَّذِي ارتضى لَهُم وليبدلنهم من بعد خوفهم

أمنا} وَلَيْسَ فِي تَصْدِيق مَا وعد الله عز وَجل ارتياب وَلكُل نبأ مُسْتَقر وَلكُل أجل كتاب فاحمدوا الله أَيهَا النَّاس على آلائه وَسَلُوهُ الْمَزِيد من نعمائه فقد أَصْبَحْتُم بيمن خلَافَة أَمِير الْمُؤمنِينَ أيده الله بالعصمة والسداد وألهمه بخالص التَّوْفِيق سَبِيل الرشاد أحسن النَّاس حَالا وأنعمهم بَالا واعزهم قرارا وأمنعهم دَارا وأكثفهم جمعا وأجملهم صنعا لَا تهاجون وَلَا تذارون وَأَنْتُم بِحَمْد الله على أعدائكم ظاهرون فاستعينوا على صَلَاح أحوالكم بالمناصحة لامامكم والتزام الطَّاعَة لخليفتكم وَابْن عَم نَبِيكُم فَإِن من نزع يَده من الطَّاعَة وسعى فِي فرقة الْجَمَاعَة ومرق من الدّين فقد خسر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة إِلَّا ذَلِك هُوَ الخسران الْمُبين وَقد علمْتُم مَا أحَاط بكم فِي جزيرتكم هَذِه من ضروب الْمُشْركين وصنوف الْمُلْحِدِينَ

والساعين فِي شقّ عصاكم وتفريق ملاكم وهتك حرمتكم وتوهين دَعْوَة نَبِيكُم وعَلى جَمِيع النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ أَقُول قولي هَذَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأنْشد يَقُول (مقَال كَحَد السَّيْف وسط المحافل ... فرقت بِهِ مَا بَين حق وباطل) (بقلب ذكي ترتمي جنباته ... كبارق رعد عِنْد رعش الأنامل) (فَمَا دحضت رجْلي وَلَا زل مقولي ... وَلَا طاش عَقْلِي يَوْم تِلْكَ الزلازل) (بِخَير إِمَام كَانَ أَو هُوَ كَائِن ... لمقتبل أَو فِي العصور الْأَوَائِل) (وَقد حدقت نحوي عُيُون أخالها ... كَمثل سِهَام اثبتت فِي الْمقَاتل) (ترى النَّاس أَفْوَاجًا يؤمُّونَ دَاره ... وَكلهمْ مَا بَين رَاض وآمل) (وُفُود مُلُوك الرّوم وسط فنائه ... مَخَافَة بَأْس أَو رَجَاء لنائل) (فعش سالما أقْصَى حَيَاة معمر ... فَأَنت غياث كل حاف وناعل)

فَقَالَ العلج بِهَذَا وَالله كَبْش الدولة وَخرج النَّاس يتحدثون عَن حسن مقَامه وثبات جنانه وبلاغة لِسَانه وَكَانَ الْخَلِيفَة النَّاصِر لدين الله أَشد تَعَجبا مِنْهُ وَأَقْبل على ابْنه الحكم وَلم يكن يثبت مَعْرفَته فَسَأَلَهُ عَنهُ فَقَالَ الحكم هَذَا مُنْذر بن سعيد البلوطي فَقَالَ وَالله لقد أحسن مَا أنشأ وَلَئِن أبقاني الله تَعَالَى لأرفعن من ذكره فضع يدك يَا حكم عَلَيْهِ واستخلصه وذكرني بِشَأْنِهِ فَمَا للصنيعة مَذْهَب عَنهُ فَلَمَّا ابتنى النَّاصِر الْجَامِع بالزهراء ولاه الصَّلَاة فِيهِ وَالْخطْبَة ثمَّ توفّي مُحَمَّد بن أبي عِيسَى القَاضِي فولاه قَضَاء الْجَمَاعَة بقرطبة وَأقرهُ على الصَّلَاة بالزهراء وَكَانَ الْخَلِيفَة النَّاصِر كلفا بعمارة الأَرْض وَإِقَامَة معالمها وانبساط مياهها واستجلابها من أبعد بقاعها وتخليد الْآثَار الدَّالَّة على قُوَّة ملكه وَعزة سُلْطَانه وعلو همته فأفضى بِهِ الإغراق فِي ذَلِك إِلَى ابتناء مَدِينَة الزهراء الْبناء الشَّائِع ذكره الذائع خَبره

الْمُنْتَشِر فِي الأَرْض أَثَره واستفرغ وَسعه فِي تنجيدها وإتقان قُصُورهَا وزخرفة مصانعها فانهمك فِي ذَلِك حَتَّى عطل شُهُود الْجُمُعَة بِالْمَسْجِدِ الْجَامِع الَّذِي اتَّخذهُ فَأَرَادَ القَاضِي مُنْذر بن سعيد رَحمَه الله وَجه الله فِي أَن يعظه ويقرعه فِي التأنيب ويغض مِنْهُ بِمَا يتَنَاوَلهُ من الموعظة بفصل الخطابة والتذكير بالإنابة فابتدأ أول خطبَته بقوله تَعَالَى {أتبنون بِكُل ريع آيَة تعبثون وتتخذون مصانع لَعَلَّكُمْ تخلدون وَإِذا بطشتم بطشتم جبارين فَاتَّقُوا الله وأطيعون وَاتَّقوا الَّذِي أمدكم بِمَا تعلمُونَ أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم عَظِيم} وَوصل ذَلِك بِكَلَام جزل وَقَول فصل جاش بِهِ صَدره وَقذف بِهِ على لِسَانه بحره وأفضى فِي ذَلِك إِلَى ذمّ المشيد والاستغراق فِي زخرفته والإسراف فِي الْإِنْفَاق عَلَيْهِ فَجرى فِي ذَلِك طلقا وتلافيه قَوْله تَعَالَى {أَفَمَن أسس بُنْيَانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بُنْيَانه على شفا جرف هار فانهار بِهِ فِي نَار جَهَنَّم وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين لَا يزَال بنيانهم الَّذِي بَنو رِيبَة فِي قُلُوبهم إِلَّا ان تقطع قُلُوبهم وَالله عليم حَكِيم} وأتى بِمَا

شاكل الْمَعْنى من التخويف بِالْمَوْتِ والتحذير مِنْهُ وَالدُّعَاء إِلَى الله عز وَجل فِي الزّهْد فِي هَذِه الدُّنْيَا الفانية والحض على اعتزالها والتبيين لظَاهِر مَعَانِيهَا وَالتَّرْغِيب فِي الْآخِرَة ومغانيها وَالتَّقْصِير عَن طلب اللَّذَّات وَنهي النَّفس عَن اتِّبَاع الشَّهَوَات وتلا من الْقُرْآن الْعَظِيم مَا يُوَافقهُ وجلب من الحَدِيث والأثر مَا يشاكله ويطابقه حَتَّى بَكَى النَّاس وخشعوا وضجوا وَتَضَرَّعُوا وأعلنوا الدُّعَاء إِلَى الله تَعَالَى فِي التَّوْبَة والابتهال فِي الْمَغْفِرَة فَعلم الْخَلِيفَة أَنه هُوَ الْمَقْصُود بِهِ وَالْمُعْتَمد بِسَبَبِهِ فاستجدى وَبكى وَنَدم على مَا سلف مِنْهُ من فرطه واستعان بِاللَّه من سخطه واستعصمه برحمته إِلَّا أَنه وجد على مُنْذر بن سعيد لغلظ مَا قرعه بِهِ فَشَكا ذَلِك إِلَى وَلَده الحكم بعد انْصِرَافه وَقَالَ وَالله لقد تعمدني مُنْذر بخطبته

وأسرف فِي ترويعي وأفرط فِي تقريعي وَلم يحسن السياسة فِي وعظي وصيانتي عَن توبيخه واستشاط غيظا عَلَيْهِ وَأقسم أَن لَا يُصَلِّي خَلفه الْجُمُعَة أبدا فَقَالَ لَهُ الحكم وَمَا الَّذِي يمنعك من عزل مُنْذر ابْن سعيد والاستبدال مِنْهُ بِغَيْرِهِ فزجره وانتهره وَقَالَ لَهُ أمثل مُنْذر بن سعيد فِي فَضله وورعه وَعلمه وحلمه لَا أم لَك يعْزل فِي إرضاء نفس ناكبة عَن الرشد سالكة غير الْقَصْد هَذَا مَا لَا يكون وَإِنِّي لاستحيي من الله تَعَالَى أَن أجعَل بيني وَبَينه شَفِيعًا فِي صَلَاة الْجُمُعَة مثل مُنْذر بن سعيد وَلكنه وَقد نَفسِي وَكَاد أَن يذهبها وَالله لَوَدِدْت أَنِّي أجد سَبِيلا إِلَى كَفَّارَة يَمِيني بملكي بل يُصَلِّي بِالنَّاسِ حَيَاته وحياتنا فَمَا أظننا نتعاض مِنْهُ أبدا وعزله قوم من إخوانه لتكنيته لرجل كَانَ يسبه فَقَالَ

(لَا تعجبوا من أنني كنيته ... من بعد مَا قد سبنا وآذانا) (فَالله قد كنى ابا لَهب وَمَا ... كناه إِلَّا خزية وَهَوَانًا) وَمن قَوْله فِي الزّهْد (ثَلَاث وَسِتُّونَ قد جزتها ... فَمَاذَا تؤمل أَو تنْتَظر) (وَحل عَلَيْك نَذِير المشيب ... فَمَا ترعوي أَو فَمَا تزدجر) (تمر لياليك مرا حثيثا ... وَأَنت على مَا أرى مُسْتَمر) (فَلَو كنت تعقل مَا يَنْقَضِي ... من الْعُمر لاعتضت خيرا بشر) (فَمَا لَك لَا تستعد إِذا ... لدار الْمقَام وَدَار الْمقر) (أترغب عَن فَجْأَة للمنون ... وَتعلم أَن لَيْسَ مِنْهَا مفر) (فإمَّا إِلَى جنَّة أزلفت ... وَإِمَّا إِلَى سقر تستعر) وقحط النَّاس فِي بعض السنين آخر مُدَّة النَّاصِر لدين الله أَمِير الْمُؤمنِينَ فَأمر القَاضِي مُنْذر بن سعيد بالبروز إِلَى الاسْتِسْقَاء بِالنَّاسِ فتأهب لذَلِك وَصَامَ بَين يَدَيْهِ ثَلَاثَة أَيَّام تنفلا وإنابة واستجداء وَرَهْبَة

وَاجْتمعَ النَّاس لَهُ فِي مصلى الربض بقرطبة بارزين إِلَى الله تَعَالَى فِي جمع عَظِيم وَصعد الْخَلِيفَة النَّاصِر فِي أَعلَى مصانع الْقصر المشرفة ليشارك النَّاس فِي الدُّعَاء إِلَى الله تَعَالَى والضراعة فَلَمَّا سرح طرفه فِي مَلأ النَّاس وَقد شخصوا إِلَيْهِ بِأَبْصَارِهِمْ قَالَ يَا ايها النَّاس وكررها مُشِيرا بِيَدِهِ فِي نواصيهم ثمَّ قَالَ {سَلام عَلَيْكُم كتب ربكُم على نَفسه الرَّحْمَة أَنه من عمل مِنْكُم سوءا بِجَهَالَة ثمَّ تَابَ من بعده وَأصْلح فَأَنَّهُ غَفُور رَحِيم} {أَنْتُم الْفُقَرَاء إِلَى الله وَالله هُوَ الْغَنِيّ الحميد إِن يَشَأْ يذهبكم وَيَأْتِ بِخلق جَدِيد وَمَا ذَلِك على الله بعزيز} فَضَجَّ النَّاس بِالدُّعَاءِ وَارْتَفَعت الْأَصْوَات بالاستغفار والتضرع إِلَى الله تَعَالَى بالسؤال وَالرَّغْبَة فِي إرْسَال الْغَيْث وَوصل الْحَال وَمضى على تَمام خطبَته فأفزع النُّفُوس بوعظه وانبعث الاخلاص

بتذكيره فَمَا أتم خطبَته حَتَّى بللهم الْغَيْث وَذكروا أَن رَسُول الْخَلِيفَة النَّاصِر لدين الله جَاءَهُ غَدَاة ذَلِك الْيَوْم فحركه لِلْخُرُوجِ وَذكر عزمه عَلَيْهِ وَالسَّابِقُونَ متسابقون إِلَى الْمصلى فَقَالَ للرسول وَكَانَ من خَواص حلفاء الصفاء إِلَيْهِ فيا لَيْت شعري مَا الَّذِي يصنعه الْخَلِيفَة سيدنَا فَقَالَ لَهُ مَا رَأينَا قطّ أخشع مِنْهُ فِي يَوْمنَا هَذَا إِنَّه لمنتبذ حائر مُنْفَرد بِنَفسِهِ لابس أخشن الثِّيَاب مفترش التُّرَاب قد رمى بِهِ على رَأسه ولحيته وَبكى واعترف بذنوبه وَهُوَ يَقُول هَذِه ناصيتي بِيَدِك أتراك تعذب الرّعية وَأَنت أحكم الْحَاكِمين لن يفوتك شَيْء مني قَالَ فتهلل وَجه القَاضِي مُنْذر بن سعيد عِنْدَمَا سمع من قَوْله وَقَالَ يَا غُلَام احْمِلْ الممطر مَعَك فقد اذن الله تَعَالَى بالسقيا إِذا خشع جَبَّار الأَرْض فقد رحم جَبَّار السَّمَاء وَكَانَ كَمَا قَالَ فَلم ينْصَرف النَّاس إِلَّا عَن السقيا

قَالَ وَكَانَ القَاضِي مُنْذر بن سعيد من ذَوي الصلابة فِي أَحْكَامه والمهابة فِي أقضيته وَقُوَّة الْقلب فِي الْقيام بِالْحَقِّ فِي جَمِيع مَا يجْرِي على يَدَيْهِ لَا يهاب فِي ذَلِك الْأَمِير الْأَعْظَم فَمن دونه وَمن مَشْهُور مَا جرى لَهُ فِي ذَلِك قصَّته الْمَشْهُور فِي أَيْتَام أخي نجدة حدث بهَا جمَاعَة من أهل الْعلم وَالرِّوَايَة وَهِي أَن الْخَلِيفَة النَّاصِر لدين الله عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد احْتَاجَ إِلَى شِرَاء دَار بقرطبة لحظية من نِسَائِهِ تكرم عَلَيْهِ فَوَقع استحسانه على دَار كَانَت لأَوْلَاد زَكَرِيَّا أخي نجدة وَكَانَت بِقرب النشارين فِي الربض الشَّرْقِي مُنْفَصِلَة عَن دوره يتَّصل بهَا حمام الْعَامَّة لَهُ غلَّة وَاسِعَة وَكَانَ أَوْلَاد زَكَرِيَّا أخي نجدة أيتاما فِي حجر القَاضِي فارسل الْخَلِيفَة لَهُ من قَومهَا بِعَدَد مَا طابت بِهِ نَفسه وَأرْسل أُنَاسًا أَمرهم بمداخله وَصِيّ الْأَيْتَام فِي بيعهَا عَلَيْهِم فَذكر أَنه لَا يجوز إِلَّا بِأَمْر القَاضِي إِذْ لم يجز بيع الأَصْل إِلَّا عَن رَأْيه ومشورته فَأرْسل الْخَلِيفَة إِلَى القَاضِي مُنْذر فِي بيع هَذِه الدَّار فَقَالَ

لرَسُوله البيع على الْأَيْتَام لَا يَصح إِلَّا لوجوه مِنْهَا الْحَاجة وَمِنْهَا الوهي الشَّديد وَمن الْغِبْطَة فَأَما الْحَاجة فَلَا حَاجَة لهَؤُلَاء الايتام إِلَى البيع وَأما الوهي فَلَيْسَ فِيهَا وَأما الْغِبْطَة فَهَذَا مَكَانهَا فَإِن أَعْطَاهُم أَمِير الْمُؤمنِينَ فِيهَا مَا تستبين بِهِ الْغِبْطَة أمرت وصيهم بِالْبيعِ وَإِلَّا فَلَا فَنقل جَوَابه هَذَا إِلَى الْخَلِيفَة فأظهر الزّهْد فِي شِرَاء الدَّار طَمَعا أَن يتوخى رغبته فِيهَا وَخَافَ القَاضِي أَن تنبعث مِنْهُ عَزِيمَة تلْحق الْأَوْلَاد سورتها فَأمر وَصِيّ الايتام بِنَقْض الدَّار وَبيع انقاضها فَفعل ذَلِك وَبَاعَ الأنقاض وَكَانَت لَهَا قيمَة أَكثر مِمَّا قومت بِهِ للسُّلْطَان فاتصل الْخَبَر بِهِ فعز عَلَيْهِ خرابها وَأمر بتوقيف الْوَصِيّ على مَا أحدثه فِيهَا فأحال الْوَصِيّ على القَاضِي أَنه أمره بذلك فَأرْسل عِنْد ذَلِك للْقَاضِي مُنْذر بن سعيد وَقَالَ لَهُ أَنْت أمرت بِنَقْض دَار أخي نجدة فَقَالَ لَهُ نعم قَالَ لَهُ وَمَا دعَاك إِلَى ذَلِك قَالَ أخذت فِيهَا يَقُول الله تبَارك وَتَعَالَى (أما السَّفِينَة فَكَانَت لمساكين يعْملُونَ فِي الْبَحْر فَأَرَدْت أَن أعيبها وَكَانَ وَرَاءَهُمْ ملك يَأْخُذ كل

سفينة غصبا} مقوموك لم يقدروها إِلَّا بِكَذَا وَبِذَلِك تعلق وهمك فقد نض فِي أنقاضها أَكثر من ذَلِك وَبقيت القاعة وَالْحمام فضلا وَنظر الله تَعَالَى للأيتام فَصَبر الْخَلِيفَة عبد الرَّحْمَن على مَا أَتَى من ذَلِك فَقَالَ نَحن أول من انْقَادَ إِلَى الْحق فجزاك الله تَعَالَى عَنَّا وَعَن أمانتك خيرا قَالَ وَكَانَ على متانته وجزالته حسن الْخلق كثير الدعابة فَرُبمَا سَاءَ ظن من لَا يعرفهُ حَتَّى إِذا رام أَن يُصِيب من دينه شَعْرَة ثار لَهُ ثورة الاسد الضاري فَمن ذَلِك مَا حدث بِهِ سعيد ابْنه قَالَ قعدنا لَيْلَة من ليَالِي شهر رَمَضَان الْمُعظم مَعَ أَبينَا للإفطار بداره البرانية فَإِذا بسائل يَقُول يَا أهل هَذِه الدَّار الصَّالح أَهلهَا اطعمونا من عشائكم أطْعمكُم الله تَعَالَى من ثمار الْجنَّة هَذِه اللَّيْلَة وَيكثر من ذَلِك فَقَالَ القَاضِي أَن اسْتُجِيبَ لهَذَا السَّائِل فِيكُم فَلَيْسَ يصبح منا وَاحِد

وَحكى عَنهُ قَاسم بن أَحْمد الْجُهَنِيّ أَنه ركب يَوْمًا لحيازة أَرض محبسة فِي ركب من وُجُوه الْفُقَهَاء وَأهل الْعَدَالَة فيهم أَبُو إِبْرَاهِيم اللؤْلُؤِي ونظراؤه قَالَ فسرنا نقفوه وَهُوَ أمامنا وأمامه أمناؤه يحملون خرائطه وذووه عَلَيْهِم السكينَة وَالْوَقار وَكَانَت الْقُضَاة حِينَئِذٍ لَا تراكب وَلَا تماشى فَعرض لَهُ فِي بعض الطَّرِيق كلاب مَعَ مستوحمة وَهِي تلعق هنها وتدور حولهَا فَوقف وَصرف وَجهه إِلَيْنَا وَقَالَ ترَوْنَ يَا اصحابنا مَا أبر الْكلاب بالهن الَّذِي تلعقه وتكرمه وَنحن لَا نَفْعل ذَلِك ثمَّ لوى عنان دَابَّته وَقد اضحكنا وَبَقينَا متعجبين من هزله وَحضر عِنْد الحكم الْمُسْتَنْصر بِاللَّه يَوْمًا فِي خلْوَة لَهُ فِي بُسْتَان الزهراء على بركَة مَاء طافحة وسط رَوْضَة نافحة فِي يَوْم شَدِيد الوهج وَذَلِكَ إِثْر منصرفة من صَلَاة الْجُمُعَة فَشَكا إِلَى الْخَلِيفَة من وهج الْحر الْجهد وَبث مِنْهُ مَا تجَاوز الْحَد فَأمره بخلع ثِيَابه وَالتَّخْفِيف عَن جِسْمه فَفعل وَلم يطف ذَلِك مَا بِهِ فَقَالَ لَهُ

الصَّوَاب أَن تنغمس فِي وسط الصهريج انغماسه يبرد بهَا جسمك وَلَيْسَ مَعَ الْخَلِيفَة إلاّ الْحَاجِب جَعْفَر الْخَادِم الصقلبي أَمِين الْخَلِيفَة الحكم لَا رَابِع لَهُم فَكَأَنَّهُ استحيا من ذَلِك وانقبض عَنهُ وقارا وأقصر عَنهُ إقصارا فَأمر الْخَلِيفَة حَاجِبه جعفرا بسبقه إِلَى النُّزُول فِي الصهريج ليسهل الْأَمر فِيهِ على القَاضِي فبادر جَعْفَر لذَلِك وَألقى بِنَفسِهِ فِي الصهريج وَكَانَ يحسن السباحة فَجعل يجول يَمِينا وَشمَالًا فَلم يسع القَاضِي إِلَّا إِنْفَاذ أَمر الْخَلِيفَة فَقَامَ وَألقى بِنَفسِهِ خلف جَعْفَر ولاذ بالقعود فِي درج الصهريج وتدرج فِيهِ بعض تدريج وَلم ينبسط فِي السباحة وجعفر يمر مصعدا ومصوبا فَدَسَّهُ الحكم على القَاضِي وَحمله على مساجلته فِي العوم وَهُوَ يعجزه فِي اخلاده إِلَى الْقعُود ويعابثه بإلقاء المَاء عَلَيْهِ وَالْإِشَارَة بالجذب إِلَيْهِ وَهُوَ لَا ينبعث مَعَه وَلَا يُفَارق مَوْضِعه إِلَى أَن كلمة الحكم وَقَالَ لَهُ مَا لَك لَا تساعد الْحَاجِب فِي فعله وتقعد مَعَه وتتقبل صنعه فَمن أَجلك نزل وبسببك تبذل فَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الْحَاجِب

سلمه الله لَا هوجل مَعَه وَأَنا بِهَذَا الهوجل الَّذِي معي يعقلني ويمنعني من أَن أجول مَعَه مجاله فاستفرغ الحكم ضحكا من نادرته ولطف تعريضه بِجَعْفَر وخجل جَعْفَر فِي قَوْله وسبه سبّ الْأَشْرَاف وخرجا من المَاء وَأمر لَهما الْخَلِيفَة بخلع ووصلهما بصلات سنية تشاكل كل وَاحِد مِنْهُمَا وَذكر أَن الْخَلِيفَة الحكم قَالَ لَهُ يَوْمًا لقد بَلغنِي أَنَّك لَا تجتهد للأيتام وَأَنَّك تقدم لَهُم أوصياء سوء يَأْكُلُون أَمْوَالهم قَالَ نعم وَإِن أمكنهم نيك أمهاتهم لم يعفوا عَنْهُن قَالَ وَكَيف تقدم مثل هَؤُلَاءِ قَالَ لست أجد غَيرهم وَلَكِن أحلني على اللؤْلُؤِي وَأبي إِبْرَاهِيم وَمثل هَؤُلَاءِ فَإِن أَبَوا أجبرتهم بِالسَّوْطِ والسجن ثمَّ لَا تسمع إِلَّا خيرا وَمن أَخْبَار مُنْذر بن سعيد المحفوظة لَهُ مَعَ الْخَلِيفَة عبد الرَّحْمَن فِي انكاره عَلَيْهِ الْإِسْرَاف فِي الْبناء أَن عبد الرَّحْمَن كَانَ قد اتخذ لسطح القبيبة الصُّغْرَى الَّتِي كَانَت مائلة على الصرح الممرد الْمَشْهُور شَأْنه بقصر الزهراء قراميد ذهب وَفِضة أنْفق عَلَيْهَا مَالا جسيما وَجعل سقفها صفراء فاقعة إِلَى بَيْضَاء ناصعة تسلب

الْأَبْصَار بمطارح أنوارها المشعشعة وَجعل فِيهَا إِثْر تَمامهَا لأهل مَمْلَكَته مشهدا فَقَالَ لِقَرَابَتِهِ وَمن حَضَره من الوزراء وَأهل الْخدمَة مفتخرا عَلَيْهِم بِمَا صنعه من ذَلِك مَعَ مَا يتَّصل بِهِ من الْبَدَائِع الفتانة هَل رَأَيْتُمْ قبلي أَو سَمِعْتُمْ من فعل مثل فعلي هَذَا أَو قدر عَلَيْهِ فَقَالُوا لَا وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَإنَّك لأوحد فِي شَأْنك كُله لَا سَبَقَك فِي مبتدعاتك هَذِه ملك رَأَيْنَاهُ وَلَا انْتهى إِلَيْنَا خَبره فأبهجه قَوْلهم وبينما هُوَ كَذَلِك سارا ضَاحِكا إِذْ دخل عَلَيْهِ القَاضِي مُنْذر بن سعيد واجما ناكس الرَّأْس فَلَمَّا أَخذ مَجْلِسه قَالَ لَهُ كَالَّذي قَالَ لوزرائه من ذكر السّقف واقتداره على إبداعه فَأَقْبَلت دموع القَاضِي تنحدر على لحيته وَقَالَ لَهُ وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا ظَنَنْت أَن الشَّيْطَان أَخْزَاهُ الله يبلغ مِنْك هَذَا الْمبلغ وَلَا أَن تمكنه من قيادك هَذَا التَّمْكِين مَعَ مَا أَتَاك الله وفضلك على الْعَالمين حَتَّى ينزلك منَازِل الْكَافرين قَالَ فاقشعر عبد الرَّحْمَن من قَوْله وَقَالَ أنظر مَا تَقول وَكَيف أنزلني مَنَازِلهمْ قَالَ نعم أَلَيْسَ الله تبَارك وَتَعَالَى يَقُول (ولوا أَن يكون

الفقيه الأجل القاضي أبو عبد لله محمد بن أبي عيسى

النَّاس أمة وَاحِدَة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضَّة ومعارج عَلَيْهَا يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عَلَيْهَا يتكئون} قَالَ فَوَجَمَ الْخَلِيفَة عبد الرَّحْمَن ونكس راسه مَلِيًّا ودموعه تجْرِي على لحيته خشوعا لله تبَارك وَتَعَالَى وندما ثمَّ أقبل على مُنْذر وَقَالَ لَهُ جَزَاك الله تَعَالَى يَا قَاضِي خيرا عَنَّا وَعَن الْمُسلمين وَالدّين وَكثر فِي النَّاس أمثالك فَالَّذِي قلت وَالله الْحق وَقَامَ من مَجْلِسه ذَلِك هُوَ يسْتَغْفر الله تَعَالَى وَأمر بِنَقْض سقف الْقبَّة وَأعَاد قرمدها تُرَابا (الْفَقِيه الْأَجَل القَاضِي أَبُو عبد لله مُحَمَّد بن أبي عِيسَى) من بني يحيى بن يحيى اللَّيْثِيّ وَهَذِه ثنية علم وعقل وَصِحَّة ضبط وَنقل كَانَ علم الأندلس وعالمها الندس ولي الْقَضَاء

بقرطبة بعد رحْلَة رَحلهَا إِلَى الْمشرق وَجمع فِيهَا من الرِّوَايَات وَالسَّمَاع كل مفترق وجال فِي آفَاق ذَلِك الْأُفق لَا يسْتَقرّ فِي بلد وَلَا يستوطن فِي جلد ثمَّ كرّ إِلَى الأندلس فَسَمت رتبته وتحلت بالأماني لبته وَتصرف فِي ولايات أَحْمد فِيهَا مَنَابه واتصلت بِسَبَبِهَا بالخليفة اسبابه وولاه الْقَضَاء بقرطبة فتولاه بسياسة محمودة ورياسة فِي الدّين مبرمة القوى مجهودة وَالْتزم فِيهَا الصرامة فِي تَنْفِيذ الْحُقُوق والحزامة فِي إِقَامَة الْحُدُود والكشف عَن الْبَينَات فِي السِّرّ والصدع بِالْحَقِّ فِي الْجَهْر لم يستلمه مخادع وَلم يكده مخاتل وَلم يهب ذَا حُرْمَة وَلَا داهن ذَا مرتبَة وَلَا اغضى لأحد من أَسبَاب السُّلْطَان وَأَهله حَتَّى تحاموا جَانِبه فَلم يَجْسُر أحد مِنْهُم عَلَيْهِ وَكَانَ لَهُ نصيب وافر من الادب وحظ من البلاغة إِذا نظم وَإِذا كتب وَمن ملح شعره مَا قَالَه عِنْد أوبته من غربته (كَأَن لم يَك بَين وَلم تَكُ فرقة ... إِذا كَانَ من بعد الْفِرَاق تلاق) (كَأَن لم تؤرق بالعراقين مقلتي ... وَلم تمر كف الشوق مَاء مآق) (وَلم أزر الْأَعْرَاب فِي جنب أَرضهم ... بِذَات اللوى من رامة وبراق)

(وَلم أصطبح بالبيد من قهوة الندى ... وكأس سَقَاهَا فِي الأزاهر سَاق) وَله ايضا (مَاذَا أكابد من ورق مغردة ... على قضيب بِذَات الْجزع مياس) (رددن شجوا شجا قلب الخلي فَهَل ... فِي عِبْرَة ذرفت فِي الْحبّ من باس) (ذكرنه الزَّمن الْمَاضِي بقرطبة ... بَين الْأَحِبَّة فِي أَمن وإيناس) (هم الصبابة لَوْلَا همة شرفت ... فصيرت قلبه كالجندل القاسي) وَله أَخْبَار تدل رقة الْعرَاق والتغذي بِمَاء تِلْكَ الْآفَاق فَمِنْهَا أَنه خرج إِلَى حُضُور جَنَازَة بمقابر قُرَيْش وَرجل من بني حدير كَانَ يواخيه لَهُ منزل فعزم عَلَيْهِ فِي الْميل إِلَيْهِ وعَلى أَخِيه فَنزلَا عَلَيْهِ فأحضر لَهما طَعَاما وَأمر جَارِيَة لَهُ بِالْغنَاءِ فغنت تَقول (طابت بِطيب لثاتك الأقداح ... وزها بحمرة خدك التفاح)

(وَإِذا الرّبيع تنسمت أرواحه ... طابت بِطيب نسيمك الْأَرْوَاح) (وَإِذا الحنادس ألبست ظلماؤها ... فضياء وَجهك فِي الدجى مِصْبَاح) فكتبها القَاضِي فِي ظهر يَده وَخرج من عِنْده قَالَ يُونُس بن عبد الله فَلَقَد رَأَيْته يكبر للصَّلَاة على الْجِنَازَة والأبيات مَكْتُوبَة على ظهر كَفه وَكَانَ يلقب بالمقربلة فَرفعت إِلَيْهِ إمرأة متظلمة كتابا تتظلم فِيهِ من الْمَعْرُوف بالقباحة خَال ولي الْعَهْد الحكم تذكر أَنه غصبهَا حَقًا لَهَا يجاوره فِي ضيعته ورسمت الْكتاب بِعَيْبِهِ وذمه وَالدُّعَاء عَلَيْهِ كل ذَلِك تسميه بلقبه فَلم يفك القَاضِي كتابها لضَعْفه واضطرابه فَأخذ القَاضِي مظلمتها من لسانها وكرم المشكو بِهِ لعظمته بِأَن أخر الْإِرْسَال فِيهِ وَكتب إِلَيْهِ على ظهر كتابها يحِيل عَلَيْهِ

فِيمَا تضمنه من الشكوى ويحضه على إنصافها وارسلها بِالْكتاب إِلَيْهِ فَلَمَّا قَرَأَهُ إجابه تَحت الْفَصْل الَّذِي كتبه إِلَيْهِ يحِيل على وَكيله ويتبرأ من إساءته إِلَى الْمَرْأَة دون بَيِّنَة يكلفها وَلَا يَمِين ويعدد على القَاضِي فِيمَا قابله بِهِ فسَاء ذَلِك القَاضِي وَعز عَلَيْهِ إهماله ذَلِك من نَفسه فَلَمَّا ركب إِلَى الزهراء وَخرج من عِنْد الْخَلِيفَة وَقصد إِلَى القباحة وَنزل عَلَيْهِ وَاعْتذر إِلَيْهِ مِمَّا عدده وَأقسم لَهُ أَنه لم يسْتَوْف الْكتاب الْمَرْفُوع إِلَيْهِ وَلَا وقف عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدي لَا تكترث لهَذَا فقلما نجا مِنْهُ أحد إِنِّي أعرفك أَن لقبي المقربلة ولقب وَالِدي مرتكش ولجدي وَالله لقب لست أعرفهُ وَأخي أَبُو عِيسَى يعرفهُ وَهُوَ غَائِب فَإِذا وصل كتبت بِهِ إِلَيْك فَضَحِك القباحة من قَوْله واثنى عَلَيْهِ على طيب خلقه وَجَاء فِي بعض الايام من بادية حمل دَقِيق عَلَيْهِ قفص دَجَاج وَكَانَ على بَابه الْمَعْتُوه الْمَعْرُوف بِابْن شمس الضُّحَى وَكَانَ فِي ولَايَة القَاضِي من صغره إِلَى أَن شاخ وَبلغ السن الطَّوِيل وَإِلَى أَن مَاتَ أسفه مَا يكون وَكَانَ من شَأْنه مواظبة دَار الْقُضَاة فِي كل وَقت شاكيا أوصابه فَلَمَّا رأى الدَّجَاج قَالَ يَا قَاضِي أَعْطِنِي دجَاجَة مِنْهُنَّ لَا

بُد وَالله أَن تُعْطِينِي دجَاجَة مِنْهُنَّ وَكَانَ لَا يقدر على رده إِذا علق بإرادته وَإِلَّا جَاءَ من حمقه بالعجب العجاب فَأمر القَاضِي فَأعْطِي دجَاجَة فَأَخذهَا وَمر بهَا فَرحا يفخر بعطية القَاضِي فَمر بدرب بني ابي زيد شَرْقي الْمَسْجِد الْجَامِع فَإِذا بِرَجُل متفقة يلقب بديك الْبَادِيَة جَالس على بَاب دَاره يطْلب فكاهة فَقَالَ للمعتوه من أَيْن لَك هَذِه الدَّجَاجَة يَا فلَان فَقَالَ أعطانيها القَاضِي وَالله السَّاعَة فَأَخذهَا من يَده وَجعل يجسها فَقَالَ خُذْهَا إِلَيْك القَاضِي أعطاكها مقربلة وَلَا خير لَك فِيهَا فَانْصَرف إِلَيْهِ عَاجلا وَقل لَهُ إِنَّهَا مقربلة فيبدلها بسمينة فالشيء عِنْده كثير فَرجع إِلَيْهِ الْمَعْتُوه بهَا وأصابه فِي جمَاعَة وَقَالَ لَهُ يَا قَاضِي هَذِه الدَّجَاجَة مقربلة فأبدلها لي بسمينة فَعرف القَاضِي هَذِه الدَّاخِلَة وَقَالَ لَهُ هَاتِهَا حَتَّى أَرَاهَا فَأَخذهَا وجسها وَقَالَ لَهُ صدقت فَمن ايْنَ عرفت أَنَّهَا مقربلة بَعْدَمَا مضيت بهَا فَقَالَ لَهُ قَالَهَا لي ذَلِك الْفَقِيه الَّذِي عِنْد درب بني أبي زيد قَالَ لَهُ وَمَا صفته فوصف لَهُ صفة اسْتدلَّ بهَا على أَنه الملقب بديك الْبَادِيَة فَأمر فأبدلت لَهُ بِأُخْرَى وَقَالَ لَهُ أرجع إِلَى ذَلِك الرجل فأعرضها عَلَيْهِ وَقل لَهُ قد أبدلها القَاضِي وسله أَن يعطيك الديك الَّذِي سيق لَهُ

من الْبَادِيَة أمس فَإِنَّهُ لَا يصلح لهَذِهِ الدَّجَاجَة غَيره فيأتيك مِنْهُ نسل حسن فَانْقَلَبَ الْمَعْتُوه إِلَى ذَلِك الرجل وَأَتَاهُ وَهُوَ فِي جمَاعَة والدجاجة مَعَه وَقَالَ لَهُ قد أبدل القَاضِي الدَّجَاجَة وَلَكِن أَعْطِنِي أَنْت ديك الْبَادِيَة الَّذِي أَتَاك أمس فَيكون زوجا لهَذِهِ الدَّجَاجَة فانتهره الزيدي وَتغَير لَونه فازداد الْمَعْتُوه علوقا بِهِ وحنقا عَلَيْهِ وَجعل يبكي ويلطم وَجهه وَيحلف أَن لَا يَزُول إِلَّا بالديك وَكَانَ يَأْتِي مِنْهُ عِنْد الْمَنْع مَا لَا صَبر عَلَيْهِ فاضطر الزيدي إِلَى أَن دخل فَاخْرُج لَهُ ديكا من دَاره افتداء مِنْهُ فَأَخذه وَانْطَلق عَنهُ وَقَالَ أَصْحَاب القَاضِي مُحَمَّد بن أبي عِيسَى ركبنَا لبَعض الْأَمر فِي موكب حافل من وُجُوه النَّاس إِذْ عرض لنا فَتى متأدب قد خرج من بعض الْأَزِقَّة سَكرَان يتمايل فَلَمَّا رأى القَاضِي هابه وَأَرَادَ الإنصراف فخانته رِجْلَاهُ فاستند إِلَى الْحَائِط واطرق فَلَمَّا قرب القَاضِي رفع رَأسه ثمَّ أنشأ يَقُول (أَلا أَيهَا القَاضِي الَّذِي عَم عدله ... فأضحى بِهِ فِي الْعَالمين فريدا) (قَرَأت كتاب الله تسعين مرّة ... فَلم أر فِيهِ للشراب حدودا)

الفقيه أبو عبد الله بن أبي زمنين

(فَإِن شِئْت أَن تجلد فدونك منكبا ... صبورا على ريب الزَّمَان جليدا) (وَإِن شِئْت أَن تَعْفُو تكن لَك منَّة ... تروح بهَا فِي الْعَالمين فريدا) (وَإِن أَنْت تخْتَار الْحَدِيد فَإِن لي ... لِسَانا على هجو الزَّمَان حديدا) فَلَمَّا سمع القَاضِي شعره وميز أدبه أعرض عَنهُ وَترك الْإِنْكَار عَلَيْهِ وَمضى لشأنه وَالله تَعَالَى أعلم (الْفَقِيه أَبُو عبد الله بن أبي زمنين) فَقِيه متبتل وزاهد لَا منحرف إِلَى الدُّنْيَا وَلَا متنقل هجرها هجر المنحرف وَحل أوطانه فِيهَا مَحل الْمُعْتَرف لعلمه بارتحاله عَنْهَا وتقويضه وإبداله مِنْهَا وتعويضه فَنظر بِقَلْبِه لَا بِعَيْنِه وانتظر

يَوْم فِرَاقه وَبَينه وَلم يكن لَهُ بعد ذَلِك بهَا اشْتِغَال وَلَا فِي شعاب تِلْكَ المسالك إيغال وَله تواليف فِي الْوَعْظ والزهد وأخبار الصَّالِحين تدل على تخليته عَن الدُّنْيَا واتراكه والتفلت من حبائل الاغترار وإشراكه وشعره يدل على التأهب للإرتحال ويستدل بِهِ على ذَلِك الإنتحال فَمن ذَلِك قَوْله (الْمَوْت فِي كل حِين ينشر الكفنا ... وَنحن فِي غَفلَة عَمَّا يُرَاد بِنَا) (لَا تطمئِن إِلَى الدُّنْيَا وبهجتها ... وَإِن توشحت من أثوابها الحسنا) (أَيْن الْأَحِبَّة وَالْجِيرَان مَا فعلوا ... أَيْن الَّذين هم كَانُوا لنا سكنا) (سقاهم الدَّهْر كأسا غير صَافِيَة ... فصيرتهم لأطباق الثرى رهنا) (تبْكي الْمنَازل مِنْهُم كل منسجم ... بالمكرمات وترثي الْبر والمننا) (حسب الْحمام لَو أبقاهم وأمهلهم ... أَلا يظنّ على معلوة حسنا)

الفقيه أبو مروان عبد الملك الطبني

(الْفَقِيه أَبُو مَرْوَان عبد الْملك الطبني) وَمن ثنية شرف وَحسب وَمن أهل حَدِيث وأدب إِمَام فِي اللُّغَة مُتَقَدم فارع لأعلى رتب الشّعْر متسنم لَهُ رِوَايَة بالأندلس ورحلة إِلَى الْمشرق ثمَّ عَاد وَقد توج بالمعارف المفرق وَأقَام بقرطبة علما من أعلامها ومتسنما لترفعها وإعظامها تؤثره الدول وتصطفيه أملاكها الأول وَمَا زَالَ فِيهَا مُقيما وَلَا برح عَن طَرِيق أمانيها مُسْتَقِيمًا إِلَى أَن اغتيل فِي إِحْدَى اللَّيَالِي بقضية يطول شرحها وَلَا يَنْقَضِي برحها فَأصْبح مقتولا فِي فرَاشه مذهولا كل أحد من انبساط الخطوب إِلَيْهِ على انكماشه وَقد أثبت من محاسنه مَا يعجب السَّامع وتصغي إِلَيْهِ المسامع فَمن ذَلِك قَوْله (وضاعف مَا بِالْقَلْبِ يَوْم رحيلهم ... على مَا بِهِ مِنْهُم حنين الاباعر)

(واصبر عَن أحباب قلب ترحلوا ... أَلا إِن قلبِي سَائِر غير صابر) وَلما رَجَعَ إِلَى قرطبة وَجلسَ ليرى مَا احتقبه من الْعُلُوم اجْتمع إِلَيْهِ فِي الْمجْلس خلق عَظِيم فَلَمَّا رأى تِلْكَ الْكَثْرَة وَمَا لَهُ عِنْدهم من الأثرة قَالَ (إِنِّي إِذا حضرتني ألف محبرة ... يكتبن حَدثنِي طورا وَأَخْبرنِي) (نادت بعقوتي الاقلام بمعلنة ... هذي المفاخر لَا قعبان من لبن) وَكتب إِلَى ذِي الوزارتين الْكَاتِب أبي الْوَلِيد بن زيدون (أَبَا الْوَلِيد وَمَا شطت بِنَا الدَّار ... وَقل منا ومنك الْيَوْم زوار) (وبيننا كل مَا تدريه من ذمم ... وللصبا ورق خضر وأنوار) (وكل عتب واعتاب جرى فَلهُ ... بَدَائِع حلوة عِنْدِي وآثار) (فاذكر أَخَاك بِخَير كلما لعبت ... بِهِ اللَّيَالِي فَإِن الدَّهْر دوار)

الفقيه العالم أبو عمر أحمد بن عبد ربه رحمه الله تعالى

(الْفَقِيه الْعَالم أَبُو عمر أَحْمد بن عبد ربه رَحمَه الله تَعَالَى) عَالم سَاد بِالْعلمِ وَرَأس واقتبس بِهِ من الخطوة مَا اقتبس وَشهر بالأندلس حَتَّى سَار إِلَى الْمشرق ذكره واستطار شرر الذكاء فكره وَكَانَت لَهُ عناية بِالْعلمِ وثقة وَرِوَايَة لَهُ متسقة وَأما الْأَدَب فَهُوَ كَانَ حجَّته وَبِه غمرت الأفهام لجته مَعَ صِيَانة وورع وديانة ورد ماءها فكرع وَله التَّأْلِيف الْمَشْهُور الَّذِي سَمَّاهُ ب العقد وحماه عَن عثرات النَّقْد لِأَنَّهُ أبرزه مثقف الْقَنَاة مرهف الشباة تقصر عَنهُ ثواقب الالباب وتبصر السحر مِنْهُ فِي كل بَاب وَله شعر انْتهى منتهاه وَتجَاوز سماك الْإِحْسَان وسهاه أَخْبرنِي أَبُو مُحَمَّد بن حزم أَنه مر بقصر من قُصُور قرطبة لبَعض الرؤساء فَسمع مِنْهُ غناء أذهب لبه وألهب قبله فَبَيْنَمَا هُوَ وَاقِف تَحت الْقصر إِذْ رش بِمَاء من أعاليه فاستدعى رقْعَة وَكتب إِلَى صَاحب الْقصر بِهَذِهِ الْقطعَة

(يَا من يضن بِصَوْت الطَّائِر الغرد ... مَا كنت احسب هَذَا الْبُخْل فِي أحد) (لَو أَن أسماع أهل الأَرْض قاطبة ... أصغت إِلَى الصَّوْت لم ينقص وَلم يزدْ) (فَلَا تضن على سَمْعِي وَمن بِهِ ... صَوتا يجول مجَال الرّوح فِي الْجَسَد) (أما النَّبِيذ فَإِنِّي لست أشربه ... وَلست آتِيك إِلَّا كسوتي بيَدي) وعزم فتي كَانَ يتألفه وخامره كلفه على الرحيل فِي غده فأذهبت عزمته قوى جلده فَلَمَّا اصبح عاقته السَّمَاء بالأنواء وساقته مكْرها إِلَى الثواء فاستراح أَبُو عمر من كمده وأنفسح لَهُ من التواصيل ضائق أمده فَكتب إِلَى الْمَذْكُور العازم على البكور (هلا ابتكرت لبين أَنْت مبتكر ... هَيْهَات يَأْبَى عَلَيْك الله وَالْقدر) (مَا زلت أبْكِي حذار الْبَين ملتهبا ... حَتَّى رثى لي فِيك الرّيح والمطر)

(يَا بردة من حيامزن على كبد ... نيرانها بغليل الشوق تستعر) (آلَيْت أَن لَا أرى شمسا وَلَا قمرا ... حَتَّى أَرَاك فَأَنت الشَّمْس وَالْقَمَر) وَمن شعره الَّذِي صرح بِهِ تَصْرِيح الصب وبرح فِيهِ من وقائع اسْم الْحبّ قَوْله (الْجِسْم فِي بلد وَالروح فِي بلد ... يَا وَحْشَة الرّوح بل يَا غربَة الْجَسَد) (إِن تبك عَيْنَاك لي يَا من كلفت بِهِ ... من رَحْمَة فهما سهماك فِي كَبِدِي) وَمن قَوْله (ودعتني بِزَفْرَةٍ واعتناق ... ثمَّ قَالَت مَتى يكون التلاق) (وبدت لي فاشرق الصُّبْح مِنْهَا ... بَين تِلْكَ الْجُيُوب والأطواق) (يَا سقيم الجفون من غير سقم ... بَين عَيْنَيْك مصرع العشاق) (إِن يَوْم الْفِرَاق أفظع يَوْم ... لَيْتَني مت قبل يَوْم الْفِرَاق) وَله أَيْضا (يَا ذَا الَّذِي خطّ الْجمال بخده ... خطين هاجا لوعة وبلابلا) (مَا صَحَّ عِنْدِي أَن لحظك صارم ... حَتَّى لبست بعارضيك حمائلا)

أخيرني بعض الْعلية أَن الْخَطِيب أَبَا الْوَلِيد بن عباد حج فَلَمَّا أنصرف تطلع إِلَى لِقَاء المتنبي واستشرف وَرَأى أَن لقيَاهُ فَائِدَة يكتسبها وحلة فَخر لَا يحتسبها فَصَارَ إِلَيْهِ فَوَجَدَهُ فِي مَسْجِد عَمْرو بن الْعَاصِ ففاوضه قَلِيلا ثمَّ قَالَ انشدني لمليح الأندلس وَيَعْنِي أبن عبد ربه فأنشده (يَا لؤلؤا يسبي الْعُقُول أنيقا ... ورشا بتقطيع الْقُلُوب رَفِيقًا) (مَا إِن رَأَيْت وَلَا سَمِعت بِمثلِهِ ... درا يعود من الْحيَاء عقيقا) (وَإِذا نظرت إِلَى محَاسِن وَجهه ... أَبْصرت وَجهك فِي سناه غريقا) (يَا من تقطع خصره من رقة ... مَا بَال قَلْبك لَا يكون رَقِيقا) فَلَمَّا اكمل إنشاده استعاده مِنْهُ وَقَالَ يَا ابْن عبد ربه لقد تَأْتِيك الْعرَاق حبوا وَله أَيْضا (ومعذر نقش الْجمال بخده ... حسنا لَهُ بِدَم الْقُلُوب مضرجا) (لما تَيَقّن أَن سيف جفونه ... من نرجس جعل النجاد بنفسجا) وَله أَيْضا رَحمَه الله

(وساحبة فضل الذيول كَأَنَّهَا ... قضيب من الريحان فَوق كثيب) (إِذا مَا بَدَت من خدرها قاصاحبي ... أطعني وَخذ من وَصلهَا بِنَصِيب) وَله أَيْضا (هيج الشوق دواعي سقمي ... وكسا الْجِسْم ثِيَاب الْأَلَم) (أَيهَا الْبَين اقلني مرّة ... فَإِذا عدت فقد حل دمي) (يَا خلي الذرع نم فِي غِبْطَة ... إِن من فارقته لم ينم) (وَلَقَد هاج بقلبي سقما ... حب من لَو شَاءَ داوى سقمي) وَبلغ سنّ عَوْف بن محلم واعترف بذلك اعْتِرَاف متألم عِنْدَمَا وهت شدته وبليت جدته وَهُوَ آخر شعر قَالَ ثمَّ عثر فِي أذيال الردى وَمَا استقال (كلاني لما بِي عاذلي كفاني ... طويت زماني بُرْهَة وطواني) (بليت وأبلتني اللَّيَالِي وَكرها ... وصرفان للأيام معتوران) (وَمَا لي لَا أبلي لسَبْعين حجَّة ... وَعشر أَتَت من بعْدهَا سنتَانِ) (فَلَا تسألاني عَن تباريح علتي ... ودونكما مني الَّذِي تريان)

(وَإِنِّي بحول الله راج لفضله ... ولي من ضَمَان الله خير ضَمَان) (وَلست أُبَالِي من تباريح علتي ... إِذا كَانَ عَقْلِي بَاقِيا ولساني) وَفِي أَيَّام إقلاعه عَن صبوته وارتجاعه عَن تِلْكَ الْغَفْلَة وأوبته وانثنائه عَن الصِّبَا والمجون إِلَى صفاء تَوْبَته محص أشعاره فِي الْغَزل بِمَا ينافيها وقص من قوادمها وخوافيها باشعار فِي الزّهْد على أعاريضها وقوافيها مِنْهَا الْقطعَة الَّتِي أَولهَا (هلا ابتكرت لبين أَنْت مبتكر ... ) محصها بقوله (يَا قَادِرًا لَيْسَ بِعَفْو حِين يقتدر ... مَاذَا الَّذِي بعد شيب الراس تنْتَظر) (عاين بقلبك إِن الْعين غافلة ... عَن الْحَقِيقَة وَاعْلَم أَنَّهَا سقر) (سَوْدَاء تزفر بِمن غيظ إِذا سعرت ... للظالمين فَلَا تبقي وَلَا تذر) (لَو لم يكن لَك غير الْمَوْت موعظة ... لَكَانَ فِيهِ عَن اللَّذَّات مزدجر) (أَنْت الْمَقُول لَهُ مَا قلت مبتدئا ... هلا ابتكرت لبين انت مبتكر)

الفقيه أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي

(الْفَقِيه أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْحسن الزبيدِيّ) إِمَام اللُّغَة وَالْإِعْرَاب وكعبة الْآدَاب أوضح مِنْهَا كل إِبْهَام وفضح دون الْجَهْل بهَا مَحل الأوهام وَكَانَ أحد ذَوي الإعجاز وأسعد أهل الِاخْتِصَار والإيجاز نجم والاندلس فِي إقبالها والأنفس أول تهممها بِالْعلمِ واهتبالها فنفقت لَهُ عِنْدهم البضاعة واتفقت على تفضيله الْجَمَاعَة وأشاد الحكم بِذكرِهِ فأورى بذلك زناد فكرة وَله اخْتِصَار الْعين للخليل وَهُوَ مَعْدُوم النظير والمثيل ولحن الْعَامَّة وطبقات النَّحْوِيين وَكتاب الْوَاضِح وسواها من كل تأليف مخجل لمن أَتَى بعده فاضح وَله شعر مَصْنُوع ومطبوع كَأَنَّمَا يتفجر من خاطره ينبوع وَقد اثْبتْ لَهُ مِنْهُ مَا يقترح وَلَا يطْرَح فَمن ذَلِك قَوْله

(كَيفَ بِالدّينِ القويم ... لَك من أم تَمِيم) (وَلَقَد كَانَ شِفَاء ... من جوى الْقلب السقيم) (يشرق الْحسن عَلَيْهَا ... فِي دجى اللَّيْل البهيم) وَكتب مراجعا (أغرقتني فِي بحور فكر ... فكدت مِنْهَا أَمُوت غما) (كلفتني عامضا عويصا ... أرجم فِيهِ الظنون رجما) (مَا زلت أسرو السجوف عَنهُ ... كأنني كاشف لظلما) (أقرب من لَيْلَة وأنأى ... مستبصرا تَارَة وأعمى) (حَتَّى بدا مشرق الْمحيا ... لما اعتلى طالعا وتما) (لله من منطق وجيز ... قد جلّ قدرا ودق فهما) (أخلصت لله فِيهِ قولا ... سلمت لله فِيهِ حكما) (إِذْ قلت قَول امْرِئ حَكِيم ... مراقب للإله علما) (الله رَبِّي ولي نَفسِي ... فِي كل بؤس وكل نعمي) وَكتب إِلَى أبي مُسلم بن فَهد وَكَانَ كثير التكبر عَظِيم التجبر متعثرا لِسَانه مقفرا من المعالم جنانه

(ابا مُسلم إِن الْفَتى بفؤاده ... ومقوله لَا بالمراكب واللبس) (وَلَيْسَ وَرَاء بِالْمَرْءِ يُغني قلامة ... إِذا كَانَ مَقْصُورا على قصر النَّفس) (وَلَيْسَ يُفِيد الْعلم والحلم والحجى ... أَبَا مُسلم طول الْقعُود على الْكُرْسِيّ) واستدعاه الحكم الْمُسْتَنْصر بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ فَعجل إِلَيْهِ واسرع وَفرع لَدَيْهِ من ربى الآمال مَا فرع فَلَمَّا طَالَتْ نَوَاه واستطالت عَلَيْهِ لوعته وجواه وحن إِلَى مُسْتَقِرَّة بإشبيلية ومثواه اسْتَأْذن الحكم فِي اللحوق بهَا فلومه ولواه فَكتب إِلَى من كَانَ يألفه ويهواه (وَيحك يَا سلم لَا تراعي ... لَا بُد للبين من مساع) (لَا تحسبيني صبرت إِلَّا ... كصبر ميت على النزاع) (مَا خلق الله من عَذَاب ... اشد من وَقْفَة الْوَدَاع) (مَا بَينهَا وَالْحمام فرق ... لَوْلَا المناحات والنواعي)

الفقيه أبو محمد علي بن حزم

(إِن يفْتَرق شملنا وشيكا ... من بعد مَا كَانَ فِي اجْتِمَاع) (فَكل شَمل إِلَى افْتِرَاق ... وكل شعب إِلَى انصداع) (وكل قرب إِلَى بعاد ... وكل وصل إِلَى انْقِطَاع) (الْفَقِيه أَبُو مُحَمَّد عَليّ بن حزم) فَفِيهِ مستنبط وَنبيه بقياسه مُرْتَبِط مَا تكلم تقليدا وَلَا تعدى اختراعا وتوليدا مَا تمنت بِهِ الأندلس أَن تكون كالعراق وَلَا حنت الْأَنْفس مَعَه إِلَى تِلْكَ الأفاق اقام بوطنه وَمَا برح عَن عطنه فَلم يشرب مَاء الْفُرَات وَلم يقف عيشة الثمرات وَلكنه اربى على من من ذَلِك غذي وأزرى على من هُنَالك قد نعل وحذي تفرد

بِالْقِيَاسِ واقتبس نَار المعارف أَي اقتباس فناظر بِمَا نطق بِهِ وقاس وصنف وَحبر حَتَّى أفنى الانقاس ونبذ الدُّنْيَا وَقد تصدت لَهُ بأفتن محيا وأهدت إِلَيْهِ أعبق عرف وريا وخلع الوزارة وَقد كسته ملاها وألبسته حلاها وتجرد للْعلم وَطَلَبه وجد فِي اقتناء نخبه وَله تآليف كَثِيرَة وتصانيف أثيرة مِنْهَا الإيصال إِلَى فهم كتاب الْخِصَال وَكتاب الْأَحْكَام لأصول الْأَحْكَام وَكتاب الْفَصْل فِي الْملَل والأهواء والنحل وَكتاب مَرَاتِب الْعُلُوم وَغير ذَلِك مِمَّا لم يظْهر مثله من هُنَالك مَعَ سرعَة الْحِفْظ وعفاف اللِّسَان واللحظ وَفِيه يَقُول خلف بن هَارُون (يَخُوض إِلَى الْمجد والمكرمات ... بحار الخطوب وأهوالها) (وَإِن ذكرت للعلا غَايَة ... ترقى إِلَيْهَا وأهوى لَهَا) وَله فِي الْأَدَب سبق لَا يُنكر وبديهة لَا يعلم أَنه روى فِيهَا وَلَا فكر وَقد أثبت من شعره مَا يعلم أَنه أوحد وَمَا مثله فِيهِ أحد فَمن ذَلِك قَوْله

(وَذي عذل فِيمَن سباني حسنه ... يُطِيل ملامي فِي الْهوى وَيَقُول) (أَمن حسن وَجه لَاحَ لم تَرَ غَيره ... وَلم تدر كَيفَ الْجِسْم أَنْت قَتِيل) (فَقلت لَهُ أسرفت فِي اللوم فاتئد ... فعندي رد لَو أَشَاء طَوِيل) (الم تَرَ أَنِّي ظاهري وأنني ... على مَا بدا حَتَّى يقوم دَلِيل) وَله أَيْضا (هَل الدَّهْر إِلَّا مَا عرفنَا وأنكرنا ... فجائعه تبقى ولذاته تفنى) (إِذا مكنت فِيهِ مَسَرَّة سَاعَة ... تولت كمر الطّرف واستخلفت حزنا) (إِلَى تبعات فِي الْمعَاد وموقف ... نود إِلَيْهِ أننا لم نَكُنْ كُنَّا) (حصلنا على هم وإثم وحسرة ... وَفَاتَ الَّذِي كُنَّا نلذ بِهِ عَنَّا) (حنين لما ولى وشغل بِمَا أَتَى ... وهم بهَا يغشى فعينك لَا تهنا) (كَأَن الَّذِي كُنَّا نسر بِكَوْنِهِ ... إِذا حققته النَّفس لفظ بِلَا معنى) وَله أَيْضا (ولي نَحْو أكناف الْعرَاق صبَابَة ... وَلَا غرو أَن يستوحش الكلف الصب) (فَإِن ينزل الرَّحْمَن رحلي بَينهم ... فَحِينَئِذٍ يَبْدُو التأسف وَالْكرب)

(هُنَالك تَدْرِي أَن للْعَبد قصَّة ... وَإِن كساد الْعلم آفته الْقرب) وَله أَيْضا (لَا تشمتن حاسدي إِن نكبة عرضت ... فالدهر لَيْسَ على حَال بمترك) (ذُو الْفضل طورا ترَاهُ تَحت ميقعة ... وَتارَة قد يرى تاجا على ملك) وَله ايضا (لَئِن أَصبَحت مرتحلا بشخصي ... فروحي عنْدكُمْ أبدا مُقيم) (وَلَكِن للعيان لطيف معنى ... لذا سَأَلَ المعاينة الكليم)

الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد السلام الخشني

(الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد السَّلَام الْخُشَنِي) كَانَ فصيح اللِّسَان جزيل الْبَيَان وَكَانَ أنوفا منقبضا عَن السُّلْطَان لم يتشبث بدنيا وَلم ينْكث لَهُ مبرم عليا دَعَاهُ الْأَمِير مُحَمَّد إِلَى الْقَضَاء فَلم يجب وَلم يظْهر رَجَاءَهُ المحتجب وَقَالَ أَبيت عَن أَمَانَة هَذِه الدّيانَة كَمَا أَبَت السَّمَوَات وَالْأَرْض عَن حمل الْأَمَانَة إباية إشفاق لَا إباية عصيان ونفاق وَكَانَ الْأَمِير قد أَمر الوزراء بإجباره أَو حمل السَّيْف إِن تَمَادى على تأبيه وإصراره فَلَمَّا بلغه قَوْله هَذَا أَعْفَاهُ وَكَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ علم النّسَب واللغة وَالْأَدب وَرِوَايَة الحَدِيث وَكَانَ مَأْمُونا ثِقَة وَكَانَت الْقُلُوب بعلى محبته متفقة وَله رحْلَة دخل فِيهَا الْعرَاق ثمَّ عَاد إِلَى هَذِه الْآفَاق وعندما اطمأنت دَاره

الفقيه أبو محمد عبد الله بن محمد المعروف بابن الفرضي القاضي

وَبلغ اقصى مناه مَدَاره قَالَ (كَأَن لم يَك بَين وَلم تَكُ فرقة ... إِذا كَانَ من بعد الْفِرَاق تلاق) (كَأَن لم تؤرق بالعراقين مقلتي ... وَلم تمر كف الشوق مَاء مآق) (وَلم ازر الْأَعْرَاب فِي جنب أَرضهم ... بِجنب اللوى من رامة وبراق) (وَلم اصطبح فِي البيد من قهوة النَّوَى ... كؤوسا سقانيها الْفِرَاق دهاق) (الْفَقِيه أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن الفرضي القَاضِي) كَانَ حَافِظًا عَالما كلفا بالرواية رَحل فِي طلبَهَا وتبحر فِي المعارف بِسَبَبِهَا مَعَ حَظّ من الْأَدَب كثير واختصاص بنظيم مِنْهُ ونثير

حج وبرع فِي الزهادة والورع فَتعلق باستار الْكَعْبَة يسْأَل الله الشَّهَادَة ثمَّ فكر فِي الْقَتْل ومرارته وَالسيف وحرارته فَأَرَادَ أَن يرجع وَيسْتَقْبل الله فاستحيا وآثر نعيم الْآخِرَة على شقاء الدُّنْيَا فأصيب فِي تِلْكَ الْفِتَن مكلوما وَقتل مَظْلُوما أَخْبرنِي من رَآهُ فِي جملَة الْقَتْلَى وَهُوَ بآخر رَمق فَسَمعهُ يَقُول بِصَوْت ضَعِيف لَا يكلم أحد فِي سَبِيل الله وَالله أعلم بِمن يكلم فِي سَبيله إِلَّا جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة وجرحه يثعب اللَّوْن لون دم وَالرِّيح ريح مسك كَأَنَّهُ يُعِيد الحَدِيث على نَفسه ثمَّ قضى وَمِمَّا قَالَ فِي طَرِيقه يتشوق إِلَى فريقه

الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مسرة

(مَضَت لي شهور مُنْذُ غبتم ثَلَاثَة ... وَمَا خلتني أبقى إِذا غبتم شهرا) (وَمَالِي حَيَاة بعدكم استلذها ... وَلَو كَانَ هَذَا لم أكن فِي الْهوى حرا) (وَلم يسلني طول التنائي عَلَيْكُم ... بلَى زادني وجدا وجدد لي ذكرا) (يمثلكم لي طول شوقي إِلَيْكُم ... ويدنيكم حَتَّى أناجيكم سرا) (سأستعتب الدَّهْر المفرق بَيْننَا ... وَهل نافعي أَن صرت أستعتب الدهرا) (أعلل نَفسِي بالمنى فِي لقائكم ... وأستسهل الْبر الَّذِي جبت والبحرا) (ويؤنسني طي المراحل عَنْكُم ... أروح على أَرض وأغدو على أُخْرَى) (وتالله مَا فارقتكم عَن قلى لكم ... وَلكنهَا الاقدار تجْرِي كَمَا تجْرِي) (رعتكم من الرَّحْمَن عين بَصِيرَة ... وَلَا كشفت أَيدي النَّوَى عَنْكُم سترا) وَله أَيْضا (إِن الَّذِي أَصبَحت طوع يَمِينه ... إِن لم يكن قمرا فَلَيْسَ بِدُونِهِ) (ذلي لَهُ فِي الْحبّ من سُلْطَانه ... وسقام جسمي من سقام جفونه) (الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن مَسَرَّة) كَانَ على طَريقَة فِي الزّهْد وَالْعِبَادَة سبق فِيهَا وانتسق

فِي سلك محتذيها وَكَانَت لَهُ إشارات غامضة وعبارات عَن منَازِل الْمُلْحِدِينَ غير داحضة وَوجدت لَهُ مقالات ردية واستنباطات مردية نسب بهَا إِلَيْهِ رهق وَظهر لَهُ فِيهِ مزحل عَن الرشد ومزهق فتتبعت مصنفاته بالحرق واتسع فِي استباحتها الْخرق وغدت مهجورة على التالين محجورة وَكَانَ لَهُ تنميق فِي البلاغة وتدقيق لمعانيها وتزويق لأغراضها وتشييد لمبانيها وَمن شعره مَا كتب بِهِ إِلَى أبي بكر باللؤلؤي يستدعيه فِي يَوْم مطروطين (اقبل فَإِن الْيَوْم يَوْم دجن ... إِلَى مَكَان كالضمير مكني) (لَعَلَّنَا نحكم فِيهِ أشهى فن ... فَأَنت فِي ذَا الْيَوْم أمشى مني)

الفقيه أبو بكر بن القوطية صاحب الأفعال في اللغة والعربية

(الْفَقِيه أَبُو بكر بن الْقُوطِيَّة صَاحب الْأَفْعَال فِي اللُّغَة والعربية) مِمَّن لَهُ سلف وثنية كلهَا شرف وَأَبُو بكر هَذَا أحد الْمُجْتَهدين فِي الطّلب والمشتهرين بِالْعلمِ وَالْأَدب والمنتدبين للْعلم والتصنيف والمرتبين لَهُ بِحسن التَّرْتِيب والتأليف وَكَانَ لَهُ شعر بنية وَأَكْثَره أَوْصَاف وتشبيه فَمن ذَلِك قَوْله فِي زمن الرّبيع (ضحك الثرى وبدالك استبشارة ... فاخضر شَاربه وطر عذاره) (ورنت حدائقة وزرر نبته ... وتعطرت أنواره وثماره) (واهتز ذابل كل مَاء قراره ... لما أَتَى متطلعا آذاره) (وتعممت صلع الربى بنباته ... وترنمت من عجمة أطياره)

الفقيه القاضي الأجل يونس بن عبد الله بن مغيث قاضي الجماعة بقرطبة

(الْفَقِيه القَاضِي الْأَجَل يُونُس بن عبد الله بن مغيث قَاضِي الْجَمَاعَة بقرطبة) فَاضل ورع مبرز فِي النساك والزهاد دَائِم الأرق فِي التخشع والسهاد مَعَ التحقق بِالْعلمِ وَالتَّمَيُّز بفضله والتحيز إِلَى فِئَة الْوَرع وَأَهله وَله تصانيف فِي الزّهْد والتصوف مِنْهَا كتاب المنقطعين إِلَى الله وَكتاب الْمُجْتَهدين وأشعار فِي هَذَا الْمَعْنى مِنْهَا قَوْله (فَرَرْت إِلَيْك من ظلمي لنَفْسي ... وأوحشني الْعباد وَأَنت أنسي) (قصدت إِلَيْك مُنْقَطِعًا غَرِيبا ... لتؤنس وَحْدَتي فِي قَعْر رمسي) (وللعظمى من الْحَاجَات عِنْدِي ... قصدت وَأَنت تعلم سر نَفسِي) وَلما أَرَادَ الْمُسْتَنْصر بِاللَّه غَزْو الرّوم سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وثلاثمائة تقدم إِلَى وَالِده أبي مُحَمَّد بالكون فِي

صحبته ومسايرته فِي غزوته فَاعْتَذر بِعُذْر يجده وألم لَا ينجده فَقَالَ لَهُ الحكم إِن ضمن لي أَن يؤلف فِي أشعار خلفائنا بالمشرق والأندلس مثل كتاب الصولي فِي أشعار بني الْعَبَّاس أعفيته من الْغُزَاة وجازيته أفضل المجازاه فَأَجَابَهُ إِلَيْهِ على أَن يؤلفه بِالْقصرِ فَزعم أَنه رجل مزور وَأَن ذَلِك الْموضع مُمْتَنع على من يلم بِهِ ويزور فألفه بدار الْملك المطلة على النَّهر وأكمله فِيمَا دون شهر وَتُوفِّي والمستنصر بعد فِي غزاته وَمن شعره قَوْله (أَتَوا حَسبه إِذْ قيل جد نحوله ... فَلم يبْق من لحم عَلَيْهِ وَلَا عظم) (فعادوا قَمِيصًا فِي فرَاش فَلم يرَوا ... وَلَا لمسوا شَيْئا يدل على جسم) (طواه الْهوى فِي ثوب سقم من الضنى ... وَلَيْسَ بمحسوس بِعَين وَلَا وهم) وَله أَيْضا رَحمَه الله

الفقيه أبو الحسن علي بن أحمد المعروف بابن سيدة

(ديار عَلَيْهَا من بشاشة أَهلهَا ... بقايا تسر النَّفس أنسا ومنظرا) (ربوع كساها المزن من خلع الحيا ... برودا وحلاها من النُّور جوهرا) (تسرك طورا ثمَّ تشجوك تَارَة ... فترتاح تأنيسا وتشجى تذكرا) (الْفَقِيه أَبُو الْحسن عَليّ بن أَحْمد الْمَعْرُوف بِابْن سيدة) إِمَام فِي اللُّغَة والعربية وَهَمَّام فِي الفئة الأدبية وَله فِي ذَلِك أوضاع للأفهام من أخلاقها استدرار واسترضاع حررها تحريرا وَأعَاد طرف الذكاء بهَا قريرا وَكَانَ مُنْقَطِعًا إِلَى الْمُوفق صَاحب دانيه

وَبهَا أَدْرَاك أمانيه وَوجد تجرده للْعلم وفراغه وَتفرد بِتِلْكَ الإراغة وَلَا سِيمَا كِتَابه الْمُسَمّى بالمحكم فَإِنَّهُ أبدع كتاب وَأحكم وَلما مَاتَ الْمُوفق رائش جنَاحه ومثبت غرره وأوضاحه خَافَ من ابْنه إقبال الدولة وأطاف بِهِ مَكْرُوها بعض من كَانَ حوله فناشته للطلب حيات مساورة ففر إِلَى بعض الْأَعْمَال الْمُجَاورَة وَكتب إِلَيْهِ مِنْهَا مستعطفا (أَلا هَل إِلَى تَقْبِيل راحتك الْيُمْنَى ... سَبِيل فَإِن الْأَمْن فِي ذَاك واليمنا) (فتنضى هموم طلحته خطوبها ... وَلَا غاربا يبْقين وَلَا متْنا) (غَرِيب نأى أهلوه عَنهُ وشفه ... هواهم فأمسى لَا يقر وَلَا يهنا) (فيا ملك الْأَمْلَاك اني محلأ ... عَن الْورْد لَا عَنهُ أذاد وَلَا أدنى) (تحققت مَكْرُوها فَأَقْبَلت شاكيا ... لعمري أماذون لعبدك أَن يعْنى)

الفقيه أبو محمد غانم بن الوليد المخزومي المالقي

(وَإِن تتأكد فِي دمي لَك نِيَّة ... فَإِنِّي سيف لَا أحب لَهُ جفنا) (إِذا مَا غَدا من حر سَيْفك بَارِدًا ... فَقدما غَدا من برد نعماكم سخنا) (وَهل هِيَ إِلَّا سَاعَة ثمَّ بعْدهَا ... ستقرع مَا عمرت من نَدم سنا) (وَمَا لي من دهري حَيَاة ألذها ... فتعتدها نعمى عَليّ وتمتنا) (إِذا ميتَة أرضتك عَنَّا فهاتها ... حبيب إِلَيْنَا مَا رضيت بِهِ عَنَّا (الْفَقِيه أَبُو مُحَمَّد غَانِم بن الْوَلِيد المَخْزُومِي المالقي) عَالم متفرس وفقيه مدرس وأستاذ مجود وَإِمَام لأهل الأندلس مجود وَأما الْأَدَب فَكَانَ جلّ شرعته وَرَأس بغيته مَعَ فضل وَحسن طَريقَة وجد فِي جَمِيع أُمُوره وَحَقِيقَة وَله شعر (صير فُؤَادك للمحبوب منزلَة ... سم الْخياط مجَال للمحبين)

الفقيه الإمام العالم الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر

(وَلَا تسَامح بغيضا فِي معاشرة ... فقلما تسع الدُّنْيَا بغيضين) وَله أَيْضا (الصَّبْر أولى بوقار الْفَتى ... من قلق يهتك ستر الْوَقار) (من لزم الصَّبْر على حَاله ... كَانَ على أَيَّامه بِالْخِيَارِ) (الْفَقِيه الإِمَام الْعَالم الْحَافِظ أَبُو عمر يُوسُف بن عبد الله بن عبد الْبر) إِمَام الأندلس وعالمها الَّذِي التاحت بِهِ معالمها صحّح الْمَتْن والسند وميز الْمُرْسل من الْمسند وَفرق بَين الْمَوْصُول والقاطع وكسا الْملَّة مِنْهُ نور سَاطِع حصر الروَاة وأحصى الضُّعَفَاء مِنْهُم والثقات وجد فِي تَصْحِيح السقيم وجدد مِنْهُ مَا كَانَ كالكهف والرقيم مَعَ

معاناة الْعِلَل وإرهاف ذَلِك الْعِلَل والتثقيف للمؤتلف والتنببيه على الْمُخْتَلف وَشرح المقفل واستدراك الْمُغَفَّل وَله فنون هِيَ للشريعة رتاج وَفِي مفرق الْملَّة تَاج أشهرت للْحَدِيث ظبى وفرعت لمعرفته ربى وهبت لتفهمه شمالا وصبا وَكَانَ ثِقَة وَكَانَت الْأَنْفس على تفضيله متفقه وَأما أدبه فَلَا تعبر لجته وَلَا تدحض حجَّته وَله شعر لم أجد مِنْهُ إِلَّا مَا نفث بِهِ أَنفه وَأوصى فِيهِ من تخلفه فَمن ذَلِك قَوْله وَقد دخل إشبيلية فَلم يلق فِيهَا مبرة وَلم ير من أَهلهَا تهلل أسرة فَأَقَامَ بهَا حَتَّى أخلقه مقَامه وأطبقه اغتمامه فارتجل وَقَالَ (تنكر من كُنَّا نسر بِقُرْبِهِ ... وَصَارَ زعاقا بَعْدَمَا كَانَ سلسلا) (وَحقّ لِجَار لم يُوَافقهُ جَاره ... وَلَا لاءمته الدَّار أَن يتحولا)

(بليت بحمص وَالْمقَام ببلدة ... طَويلا لعمري مخلق يُورث البلى) (إِذا هان حر عِنْد قوم أَتَاهُم ... وَلم ينأ عَنْهُم كَانَ أعمى وأجهلا) (وَلم تضرب الْأَمْثَال إِلَّا لعالم ... وَمَا عُوقِبَ الْإِنْسَان إِلَّا ليعقلا) وَله أَيْضا يُوصي ابْنه بمقصورة (تجاف عَن الدُّنْيَا وهون لقدرها ... ووف سَبِيل الدّين بالعروة الوثقى) (وسارع بتقوى الله سرا وجهرة ... فَلَا ذمَّة أقوى هديت من التَّقْوَى) (وَلَا تنس شكر الله فِي كل نعْمَة ... يمن بهَا فالشكر مستجلب النعمى) (فدع عَنْك مَا لَا حَظّ فِيهِ لعاقل ... فَإِن طَرِيق الْحق أَبْلَج لَا يخفى) (وشح بأيام بَقينَ قَلَائِل ... وَعمر قصير لَا يَدُوم وَلَا يبْقى) (ألم تَرَ أَن الْعُمر يمْضِي موليا ... فجدته تبلى ومدته تفنى) (نَخُوض ونلهو غَفلَة وجهالة ... وننشر أعمالا وأعمارنا تطوى) (تواصلنا فِيهِ الْحَوَادِث بالردى ... وتنتابنا فِيهِ النوائب بالبلوى) (عجبت لنَفس تبصر الْحق بَينا ... لَدَيْهَا وتأبى أَن تفارق مَا تهوى) (وتسعى لما فِيهِ عَلَيْهَا مضرَّة ... وَقد علمت أَن سَوف تجزى بِمَا تسْعَى) (ذُنُوبِي أخشاها وَلست بآيس ... وربى أهل أَن يخَاف وَأَن يُرْجَى) (وَإِن كَانَ رَبِّي غافرا ذَنْب من يشا ... فَإِنِّي لَا أَدْرِي أأكرم أم أخزى)

الفقيه الأجل الحافظ أبو بكر بن العربي

(الْفَقِيه الْأَجَل الْحَافِظ أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ) علم الْأَعْلَام الطَّاهِر الأثواب الباهر الْأَلْبَاب الَّذِي أنسى ذكاء إِيَاس وَترك التَّقْلِيد للْقِيَاس وأنتج الْفَرْع من الأَصْل وَغدا فِي يَد الْإِسْلَام أمضى من النصل سقى الله بِهِ الأندلس بَعْدَمَا أجدبت من المعارف وَمد عَلَيْهَا مِنْهُ الظل الوارف وَكَسَاهَا رونق نبله وسقاها ريق وبله وَكَانَ أَبوهُ بإشبيلية بَدْرًا فِي فلكها وصدرا فِي مجْلِس ملكهَا واصطفاه مُعْتَمد بني عباد اصطفاه الْمَأْمُون لِابْنِ أبي دؤاد

وَوَلَاء الولايات الشَّرِيفَة وبواه الْمَرَاتِب المنيفة فَلَمَّا أقفرت حمص من ملكهم وخلت وألقتهم مِنْهَا وتخلت رَحل بِهِ إِلَى الْمشرق وَحل فِيهِ مَحل الْخَائِف الْفرق فجال فِي أكنافه وأجال قداح الرَّجَاء فِي اسْتِقْبَال الْعِزّ واستئنافه فَلم يسْتَردّ ذَاهِبًا وَلم يجد كمعتمد باذلا لَهُ وواهبا فَعَاد إِلَى الرِّوَايَة وَالسَّمَاع وَمَا اسْتَفَادَ من آمال تِلْكَ الأطماع وَأَبُو بكر إِذْ ذَاك فِي ثرى الذكاء قضيب مَا دوح وَفِي روض الشَّبَاب زهر مَا صوح فألزمه مجَالِس الْعلم رائحا وغاديا ولازمه سائقا إِلَيْهَا وحاديا حَتَّى اسْتَقَرَّتْ بِهِ مجالسه واطردت لَهُ مقايسه فجد فِي طلبه واستجد بِهِ أَبوهُ متمزق أربه فأدركه حمامة ووارته هُنَاكَ رجامه وَبَقِي أَبُو بكر متفردا وللطاب متجردا حَتَّى أصبح فِي الْعلم وحيدا وَلم تَجِد عَنهُ رياسته محيدا فكر إِلَى الأندلس فَحلهَا والنفوس إلية متطلعة ولأنبائه متسمعة فناهيك من

حضوة لَقِي وَمن عزة سقِِي وَمن رفْعَة سما إِلَيْهَا ورقي وحسبك من مفاخر قلدها وَمن محَاسِن أنس نبتها فِيهَا وخلدها وَقد أثبت من بديع نظمه مَا يهز أعطافا وترده الإفهام نطاقا فَمن ذَلِك قَوْله يتشوق إِلَى بَغْدَاد ويخاطب فِيهَا أهل الوداد (أمنك سرى وَاللَّيْل يخدع بِالْفَجْرِ ... خيال حبيب قد حوى قصب الْفَخر) (جلا ظلم الظلماء مشرق نوره ... وَلم يخبط الظلماء بالأنجم الزهر) (وَلم يرض بِالْأَرْضِ البسيطة مسحبا ... فَصَارَ على الجوزاء إِلَى فلك يسري) (وحث مطايا قد مطاها بعزة ... فأوطأها قسرا على قنة النسْر) (فَصَارَت ثقالا بالجلالة فَوْقهَا ... وسارت عجالا تتقي ألم الزّجر)

الفقيه أبو بكر بن أبي الدوس رحمه الله

(وَجَرت على ذيل المجرة ذيلها ... فَمن ثمَّ يَبْدُو مَا هُنَالك لمن يسري) (وَمَرَّتْ على الجوزاء تُوضَع فَوْقهَا ... فآثر مَا مرت بِهِ كلف الْبَدْر) (وساقت أريج الْخلد من جنَّة الْعلَا ... فدع عَنْك رملا بالأنيعم يستذري) (فَمَا حذرت قيسا وَلَا خيل عَامر ... وَلَا أضمرت خوفًا لِقَاء بني ضمر) (سقى الله مصرا وَالْعراق وَأَهْلهَا ... وبغداد والشامين منهمل الْقطر) (الْفَقِيه أَبُو بكر بن أبي الدوس رَحمَه الله) من أبدع النَّاس خطا وأصحهم نقلا وضبطا اشْتهر بالإقراء وَاقْتصر بذلك على الْأُمَرَاء وَلم ينحط لسواهم ومطل النَّاس بذلك

ولواهم وَكَانَ كثير التَّحَوُّل عَظِيم التجول لَا يسْتَقرّ فِي بلد وَلَا يستظهر على حرمانه بجلد فقذفته النَّوَى وطردته عَن كل ثوا ثمَّ اسْتَقر آخر عمره بأغمات وَبهَا مَاتَ وَكَانَ لَهُ شعر بديع يصونه أبدا وَلَا يمد بِهِ يدا أَخْبرنِي من دخل عَلَيْهِ بالمرية فَرَآهُ فِي غَايَة إملاق وَفِي ثِيَاب أَخْلَاق وَقد توارى فِي منزله توارى المذنب وَقعد عَن النَّاس قعُود مجتنب فَلَمَّا علم مَا هُوَ فِيهِ وَعلم ترفعه عَمَّن يجتديه عاتيه فِي ذَلِك الاعتزال وَآخذه حَتَّى استنزله بفيض الاستنزال وَقَالَ لَهُ هلا كتبت إِلَى المعتصم فَمَا فِي ذَلِك مَا يصم فَكتب إِلَيْهِ (إِلَيْك أَبَا يحيى مددت يَد المنى ... وقدما غَدَتْ عَن جود غَيْرك تقبض)

الفقيه القاضي أبو الفضل جعفر بن محمد بن يوسف الألم

(وَكَانَت كنور الْعين يلمع بالدجى ... فَلَمَّا دَعَاهُ الصُّبْح لباه ينْهض) (الْفَقِيه القَاضِي أَبُو الْفضل جَعْفَر بن مُحَمَّد بن يُوسُف الْأَلَم) كهل الطَّرِيقَة وفتى الْحَقِيقَة تدرع الصيانة وبرع فِي الْوَرع والديانة وتماسك عَن الدُّنْيَا عفافا وَمَا تماسك التماسا بِأَهْلِهَا والتفافا فاعتقل النهى وتنقل فِي مراتبها حَتَّى اسْتَقر فِيهَا فِي السها وعطل أَيَّام الشَّبَاب ومطل فِيهَا سعاد وَزَيْنَب والرباب إِلَّا سَاعَات وَقفهَا على المدام وعطفها إِلَى الندام حَتَّى تخلى عَن ذَلِك واترك وَأدْركَ من المعلومات مَا أدْرك وتعرى من الشُّبُهَات وسرى إِلَى الرشد مستيقضا من تِلْكَ السنات وَله تصرف فِي شَتَّى الْفُنُون وَتقدم فِي

معرفَة الْمَفْرُوض والمسنون وَأما الْأَدَب فَلم يجاره فِي ميدانه أحد وَلم يستول على إحسانه فِيهِ حصر وَلَا حد وجده أَبُو الْحجَّاج الأعلم هُوَ خلد مِنْهُ مَا خلد وَمِنْه تقلد مَا تقلد وَقد أثبت لأبي الْفضل هَذَا مَا يسقيك مَاء الْإِحْسَان زلالا ويريك سحر الْبَيَان حَلَالا فَمن ذَلِك مَا كتب بِهِ إِلَيّ وَقد مَرَرْت على شنتمرية بَعْدَمَا رَحل عَنَّا وانتقل واعتقل من نوانا وبيننا مَا اعتقل فشنتمرية هَذِه دَاره وَبهَا كمل هلاله وابداره وَبهَا استقضى وشيم وضاؤه وانتضي فالتقينا بهَا على ظهر وتعاطينا ذكر ذَلِك الدَّهْر فجددت من شوقه مَا كَانَ قد شب عَن طوقه فرامني على الْإِقَامَة وسامني على ذَلِك بِكُل كَرَامَة فأبيت إِلَّا النَّوَى وانثنيت عَن الثوا بذلك المثوى فودعني وَدفع إِلَيّ تِلْكَ الْقطعَة حِين شيعني (بشراي أطلعت السُّعُود على ... آفَاق أنسي بدرها كملا) (وكسا أَدِيم الأَرْض مِنْهُ سنا ... فَسكت بسائطها لَهُ حللا)

(إيه أَبَا نصر وَكم زمن ... قصر ادكارك عِنْدِي الأملا) (هَل تذكرُونَ والعهد يخجلني ... هَل تذكرُونَ أيامنا الأولا) (أَيَّام نعثر فِي أعنتنا ... ونجر من أبرادنا حللا) (وَنحل روض الْأنس مؤتنقا ... وَتحل شمس مرادنا الحملا) (ونرى ليالينا مساعفة ... تَدْعُو إِلَيْنَا رفقنا الجفلى) (زمن نقُول على تذكره ... مَا تمّ حَتَّى قيل قد رحى) (عرضت لزورتكم وَمَا عرضت ... إِلَّا لتمحق كل مَا فعلا) ووافيته عَشِيَّة من العشايا أَيَّام ائتلافنا وعودنا إِلَى مجْلِس الطّلب واختلافنا فرأيته مستشرقا متطلعا يرتاد موضعا يُقيم بِهِ لثغور الْأنس مرتشفا ولثديه مرتضعا فحين مقلني تقلدني إِلَيْهِ واعتقلني وملنا إِلَى رَوْضَة قد سندس الرّبيع بساطها ودبج درانك أوساطها وأشعرت النُّفُوس فِيهَا بسرورها وانبساطها فَأَقَمْنَا بهَا نتعاطى كؤوس أَخْبَار ونتهادى أَحَادِيث جهابذة وأحبار إِلَى أَن نثر زعفران الْعشي وأذهب الْأنس خوف الْعَالم الوحشي فَقُمْت وَقَامَ وعوج الرعب من ألسنتنا مَا كَانَ استقام وَقَالَ

(وَعَشِيَّة كالسيف إِلَّا حِدة ... بسط الرّبيع بهَا لنعلي خَدّه) (عاطيت كأس الْأنس فِيهَا وَاحِدًا ... مَا ضرَّة أَن كَانَ جمعا وَحده) وتنزه يَوْمًا بحديقة من حدائق الحضرة قد اطرد نهرها وتوقد زهرها وَالرِّيح يسطقه فينظم بلبه المَاء ويتبسم بِهِ فتختاله كصفحة خضرَة السَّمَاء فَقَالَ (انْظُر إِلَى الأزهار كَيفَ تطلعت ... بسماوة الرَّوْض المجود نجوما) (وتساقطت فَكَأَن مسترقا دنا ... للسمع فانقضت عَلَيْهِ رجوما) (وَإِلَى مسيل المَاء قد رقمت بِهِ ... صنع الرِّيَاح من الْحباب رقوما) (ترمي الرِّيَاح لَهَا نثيرا زهره ... فتمده فِي شاطئيه رقيما) وَله يصف قلم يراعة وبرع فِي صفته أعظم براعة (ومهفهف ذلق صَلِيب المكسر ... سَبَب لنيل الْمطلب المتعذر) (متألق تنبيك صفرَة لَونه ... بقديم صحبته لآل الْأَصْفَر) (مَا ضرَّة إِن كَانَ كَعْب يراعه ... وبحكمه اطردت كعوب السمهري)

وَله عِنْدَمَا شَارف الكهولة واستأنف قطع صرة كَانَت مَوْصُولَة (أما أَنا فقد أرعويت عَن الصِّبَا ... وعضضت من نَدم عَلَيْهِ بناني) (وأطعت نصاحي وَرب نصيحة ... جَاءُوا بهَا فلججت فِي الْعِصْيَان) (أَيَّام أسحب من ذيول شبيبتي ... مرحا وأعثر فِي فضول عناني) (وَأجل كأسي أَن ترى مَوْضُوعَة ... فعلى يَدي أَو فِي يَدي نَدْمَانِي) (أَيَّام أَحْيَا بالغواني والغنا ... وأموات بَين الراح وَالريحَان) (فِي فتية فرضوا اتِّصَال هواهم ... فمناهم دن من الأدنان) (هزت علاهم أريحيات الصِّبَا ... فَهِيَ النسيم وهم غصون البان) (من كل مخلوع الأعنة لم يبل ... فِي غيه بتصارف الْأَزْمَان) وَله حِين أقلع وأناب وودع ذَلِك الجناب وتزهد وتنسك وَتمسك من طَاعَة الله بِمَا تمسك وثاب يَوْمًا يتجرد من أمله وينفرد فِيهِ بِعَمَلِهِ (الْمَوْت يشغل ذكره ... عَن كل مَعْلُوم سواهُ) (فاعمر لَهُ ربع ادكا ... رك بالعشية والغداه)

(واكحل بِهِ طرف اعتبارك ... طول أَيَّام الْحَيَاة) (قبل ارتكاض النَّفس مَا ... بَين الترائب واللهاه) (فَيُقَال هَذَا جَعْفَر ... رهن بِمَا كسبت يَدَاهُ) (عصفت بِهِ ريح الْمنون ... فصيرته كَمَا ترَاهُ) (فضعوه فِي أَكْفَانه ... وَدعوهُ يجني مَا جناه) (وتمتعوا بمتاعه ال ... مخزون واحووا مَا حواه) (يَا مصرعا مستبشعا ... بلغ الْكتاب بِهِ مداه) (لقِيت فِيهِ بِشَارَة ... تشفي فُؤَادِي من جواه) (وَلَقِيت بعْدك خير من ... نباه رَبِّي واجتباه) (فِي دَار خفض مَا اشتهت ... نفس الْمُقِيم بِمَا أَتَاهُ) وَله من النثر يصف فرسا انْظُر إِلَيْهِ سليم الْأَدِيم كريم الْقَدِيم كَأَنَّمَا نَشأ بَين الغبراء واليحموم نجم إِذا بدا وَوهم إِذا عدا يسْتَقْبل بغزال ويستدبر برال ويتحلى بشيات تقسيمات الْجمال وَله يصف سرجا من النثر بزَّة جِيَاد ومركب أجواد جميل

الظَّاهِر رحيب مَا بَين القادمة وَالْآخر كَأَنَّمَا قد من الخدود أديمه واختص باتقان الحبك تقويمه وَله فِي وصف لجام من النثر متناسب الأشلاء صَحِيح الانتماء إِلَى ثريا السَّمَاء فكله نكال وسائره جمال وَله وصف رمح من النثر مطرد الكعوب صَحِيح اتِّصَال الْغَالِب والمغلوب أَخ يَنُوب كلما استنيب ويصيب وَله فِي وصف الْقَمِيص من النثر كافوري الْأَدِيم بابلي الرسوم تباشر مِنْهُ الجسوم مَا يُبَاشر الرَّوْض من النسيم وَله فِي وصف الْبَغْل من النثر مقرف النّسَب مستخبر الشّرف آمن الكبب ان ركب امْتنع اعتماله أَو ركب اسْتَقل بِهِ أَخْوَاله وَله فِي وصف حمَار (من النثر) وثيق المفاصل عَتيق النهضة إِذا ونت المراسل تمّ الْقسم الثَّانِي من الْكتاب مطمح الْأَنْفس ومسرح التأنس بِحَمْد الله تَعَالَى وعونه وَحسن توفيقه وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه

القسم الثالث من كتاب مطمح الأنفس ومسرح التأنس في الأعيان من الأدباء وبالله المستعان وعليه التكلان وهو مما يذكر في قلائد العقيان

(الْقسم الثَّالِث من كتاب مطمح الْأَنْفس ومسرح التأنس فِي الْأَعْيَان من الأدباء وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَان وَعَلِيهِ التكلان وَهُوَ مِمَّا يذكر فِي قلائد العقيان)

صفحة فارغه

الأديب الشاعر النبيه أبو عمر يوسف بن هارون المعروف بالرمادي

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم (الأديب الشَّاعِر النبيه أَبُو عمر يُوسُف بن هَارُون الْمَعْرُوف بالرمادي) شَاعِر مفلق انفرج لَهُ من الصِّنَاعَة المغلق وومض لَهُ برقها المؤتلق وسال بِهِ طبعه كَالْمَاءِ المندفق فأجمع على تفضيله الْمُخْتَلف والتنق فَتَارَة يحزن وَأُخْرَى يسهل وَفِي كلتيهما بالبديع يعل وينهل فاشتهر عِنْد الْعَامَّة والخاصة بانطباعه فِي الْفَرِيقَيْنِ وإبداعه فِي

الطَّرِيقَيْنِ وَكَانَ هُوَ وَأَبُو الطّيب متعاصرين وعَلى الصِّنَاعَة متغايرين وَكِلَاهُمَا من كِنْدَة وَمَا مِنْهُمَا إِلَّا من اقتدح فِي الْإِحْسَان زنده وَمَا قصر عَنهُ إِحْسَان وَلَا جَازَ بَينهمَا تَفْضِيل إِنْسَان وَتَمَادَى بِأبي عمر طلق الْعُمر حَتَّى أفرده صَاحبه ونديمه وهريق شبابه واستشن أديمه فَفَارَقَ تِلْكَ الْأَيَّام وبهجتها وَأدْركَ الْفِتْنَة فَخَاضَ لجتها وَأقَام فرقا من هيجانها شرقا بأشجانها وَلَحِقتهُ مِنْهَا فاقة نهكته وبعدت عَنهُ الْإِفَاقَة حَتَّى أهلكته وَقد أثبت من محاسنه مَا يُعْجِبك سرده وَلَا يمكنك نَقده فَمن ذَلِك قَوْله (شطت نواهم بشمس فِي هوادجهم ... لَوْلَا تلألؤها فِي ليلهن عشوا) (شكت محاسنها عَيْني وَقد غدرت ... لِأَنَّهَا بضمير الْقلب تنجمش) (شعر وَوجه تباري فِي افتخارهما ... بِحسن هَذَا وَذَاكَ الرّوم والحبش) (شَككت فِي سقمي مِنْهَا أَفِي فرشي ... مِنْهَا نكست وَإِلَّا الطيف والفرش)

وَله أَيْضا (فِي أَي جارحة أصون معذبي ... سلمت من التعذيب والتنكيل) (إِن قلت فِي عَيْني فثم مدامعي ... أَو قلت فِي قلبِي فثم غليلي) (لَكِن جعلت لَهُ المسامع مسكنا ... وحجبته عَن عذل كل عذول) (وَثَلَاث شيبات نَزَلْنَ بمفرقي ... فَعلمت أَن نزولهن رحيلي) (طلعت ثَلَاث فِي طُلُوع ثَلَاثَة ... واش وَوجه مراقب وثقيل) (فعذلتني عَن صبوتي فلئن ذللت ... فقد سَمِعت بذلة المعذول) (إِن كنت ودعت التصابي عَن قلى ... وبدت برأسي حجَّة لعذول) (فقد اغتدي وَالصُّبْح فِي توريسه ... تقضي الْعُيُون لَهُ بِوَجْه عليل) (بأقب لون الآبنوس مفضض ... فِي غرَّة مِنْهُ وَفِي تحجيل) (مُسْتَغْرق لصفات زيد الْخَيل وَال ... غنوي والمربي والضليل)

(يزهى بتحلية اللجام كَمَا زهى ... ملك محلى الرَّأْس بالإكليل) (فَلهُ الملاحظ من حبيب هَاجر ... للصب أَو متكبر لذليل) وَمِنْهَا (وكأنما فل الخطوب بحازم ... فل الْجِيَاد بحدة المفلول) (حَتَّى إِذا صدنَا الوحوش فَلم نَدع ... مِنْهُنَّ غير معالم وطلول) (قَامَت قوائمه لنا بِطَعَامِنَا ... غضا وَقَامَ الْعرف بالمنديل) وَمِنْهَا (ومكبل لم يجترم جرما وَلَا ... دَانَتْ سحائبه بِغَيْر كبول) (متدرع بالوشي إِلَّا أَن مد ... رعه يحاك عَلَيْهِ غير طَوِيل) (فَكَأَن بلقيساً عَلَيْهَا وشيها ... فِي الصرح رَافِعَة لفضل ذيول)

(متقلب كتقلب المرتاع يقسم ... لَحْظَة فِي الجول بعد الجول) (حَتَّى إِذا مَا السرب عَن لطرفه ... أَو مَا نجا فيتيه خل سبيلي) (أَرْسلتهُ فِي إثرهن كأنهن ... عصين لي أمرا وَكَانَ رَسُولي) (ولت سرَاعًا ثمَّ شدّ وَرَاءَهَا ... فَكَأَنَّهُ بَطل وَرَاء رعيل) (عجلت فأدركها ردى فِي إثْرهَا ... إِن الردى قيد لكل عجول) (فَقضى على سبعين ضار خطمه ... هُوَ عقدَة التَّعْبِير فِي التَّمْثِيل) وَمِنْهَا (حَتَّى إِذا حمل السَّحَاب بجيده ... لم تحتمله فَرَائض الْمَحْمُول) وَله أَيْضا يتغزل (أومى لتقبيل الْبسَاط خنوعا ... فَوضعت خدي فِي التُّرَاب خضوعا) (مَا كَانَ مذْهبه الخنوع لعَبْدِهِ ... إِلَّا زِيَادَة قلبه تقطيعا) (قُولُوا لمن أَخذ الْفُؤَاد مُسلما ... يمنن عَليّ بردة مصدوعا) (العَبْد قد يعْصى وأحلف أنني ... مَا كنت إِلَّا سَامِعًا ومطيعا) (مولَايَ يحيى فِي حَيَاة كاسمة ... وَأَنا أَمُوت صبَابَة وولوعا)

(لاتنكروا غيث الدُّمُوع فَكل مَا ... ينْحل من جسمي يكون دموعا) وَكَانَ كلفا بفتى نَصْرَانِيّ استسهل لِبَاس زناره وَالْخُلُود مَعَه فِي ناره وخلع بروده لمسوحه وتسوغ الْأَخْذ عَن مسيحه وَرَاح فِي بيعَته وَغدا من شيعته وَلم يشرب نصِيبه حَتَّى حط عَلَيْهِ صليبه فَقَالَ (أدرها مثل ريقك ثمَّ صلب ... كعادتكم على وهمي وكاسي) (فَيَقْضِي مَا أمرت بِهِ اجتلابا ... لمسروري وَزَاد خنوع راسي) وَله أَيْضا فِي مثله (وَرَأَيْت فَوق النَّحْر درعا ... فاقعا من زعفران) (فزجرته لونا سقامي ... بالنوى والزجر شاني) (يَا من نأى عني كَمَا ... تنأى الْعُيُون الفرقدان) (فَأرى بعيني الفرقدين ... وَلَا أرَاهُ وَلَا يراني)

(لَا قدرت لَك أوبة ... حَتَّى يؤوب القارظان) (هَل ثمَّ الا الْمَوْت فَردا ... لَا تكون منيتان) وَله أَيْضا رَحمَه الله (أشْرب الكأس يَا نصير وهات ... إِن هَذَا النَّهَار من حسناتي) (بِأبي غرَّة ترى الشَّخْص فِيهَا ... فِي صفاء أصفى من الْمرْآة) (ينْزح النَّاس نَحْوهَا بازدحام ... كازدحام الحجيج فِي عَرَفَات) (هَاتِهَا يَا نصير إِنَّا اجْتَمَعنَا ... بقلوب فِي الدّين مختلفات) (إِنَّمَا نَحن فِي مجَالِس لَهو ... نشرب الراح ثمَّ أَنْت مواتي) (فَإِذا مَا انْقَضتْ دنانة ذَا اللَّهْو ... اعتمدنا مَوَاضِع الصَّلَوَات) (لَو مضى الدَّهْر دون رَاح وقصف ... لعددنا هَذَا من السَّيِّئَات) وشاعت عَنهُ أشعار فِي دولة الْخلَافَة وَأَهْلهَا سدد إِلَيْهِم صائبات نبلها وسقاهم كؤوس نهلها أوغرت عَلَيْهِ الصُّدُور ونفرت عَلَيْهِ المنايا وَلَكِن لم يساعدها الْمَقْدُور فسجنه الْخَلِيفَة دهرا وأسلكه من النكبة وعرا فاستعطفه أثْنَاء ذَلِك واستلطفه وأجناه كل

زهر من الاحسان وأقطفه فَمَا أصغى إِلَيْهِ وَلَا ألغى موجوته عَلَيْهِ وَله فِي السجْن أشعار صرح فِيهَا ببثه وأفصح فِيهَا عَن جلّ الْخطب لفقد صبره ونكثه فَمن ذَلِك قَوْله لَك الْأَمْن من شجو يزِيد تشوقي (فوافوابنا الزهراء فِي حَال خَالع ... الْأَئِمَّة لاستيغالهم فِي التَّوَثُّق) (وحولي من أهل التأدب مأتم ... وَلَا جؤذر إِلَّا بِثَوْب مشقق) (فَلَو أَن فِي عَيْني الْحمام كروضها ... وَإِن كَانَ فِي ألوانه غير مُشفق) (ونادى حمامي مهجتي لتغافلت ... فَهَلا أجابت وَهُوَ عِنْدِي لمحنق) (أعيني إِن كَانَت لدمعي فضلَة ... تثبت صبري سَاعَة فتدفقي) (فَلَو ساعدت قَالَت أَمن قلَّة الأسى ... تنقت دموعي أم من الْبَحْر تستقي) وَمِنْهَا (تكلفني أَن أَعتب الدَّهْر أَنَّهَا ... لجاهلة من لي بأعتاب محنق) (وَقَالَت تظن الدَّهْر يجمع بَيْننَا ... فَقلت لَهَا من لي بِظَنّ مُحَقّق) (ولكنني فِيمَا زجرت بمقلة ... زجرت اجْتِمَاع الشمل بعد التَّفَرُّق)

(فقد كَانَت الأشفار فِي مثل بَعدنَا ... فَلَمَّا الْتَقت بالطيف قَالَت سنلتقي) (أباكية يَوْمًا وَلم يَأْتِ وقته ... سينفد قبل الْيَوْم دمعك فارفقي) (ومذ لم تريني أَنْت فِي ثوب ضائع ... لعمري لقد حفت بعي ممزق) وَقَالَ أَيْضا فِي السجْن (نسائلها هلا كَفاك نحوله ... ونصبته أَو دمعة وهموله) (تكنفه همان شجو وصبوة ... فَبلغ واشية المنى وعذوله) (فَإِن تستبن فِي وَجهه هم سجنه ... فقد غَابَ فِي الأحشاء عَنْك دخيله) (معنى بكتمان الحبيب وحبه ... فَإِن يقتل الكتمان فَهُوَ قتيله) وَمِنْهَا (وأقبلن من نَحْو الحبيب كَأَنَّمَا ... تحاشد نحوي جفْنه ونصوله) (دَعونِي أَشمّ بِالْبَابِ برق أحبتي ... قواما فَلم يسمع بِذَاكَ وَكيله) (يعم فَلَا يألوا حصارا لَعَلَّه ... سيودي فيودي بثه وأليله) (فَلَو كَانَ فِي هَذَا الْحصار سميه ... لأنساه طول السَّبع فِي الْيَوْم طوله) (لقد راعني سجني فشط ولودنا ... من السجْن لم يسهل عَليّ دُخُوله) (يعز على الْورْد النَّضِير حُلُوله ... وَلم يَك عِنْد المستهام نُزُوله)

وَله أَيْضا (على كبري تهمي السَّحَاب وتذرف ... وَمن جزعي تبْكي الْحمام وتهتف) (كَأَن السَّحَاب الواكفات غواسلي ... وَتلك على فقدي نوائح هتف) (أَلا ظعنت ليلى وَبَان قطينها ... ولكنني بَاقٍ فلوموا وعنفوا) (وآنست فِي وَجه الصَّباح لبينها ... نحولا كَأَن الصُّبْح مثلي مدنف) (وَأقرب عهد رشفة بلت الحشا ... فَعَاد شتاء بَارِدًا وَهُوَ صيف) (وَكَانَت على خوف فَوَلَّتْ كَأَنَّهَا ... من الردف فِي الْقَيْد الخلاخل ترسف) وَله أَيْضا (مقلتي ضرجتك بالتوريد ... فدعي لي قلبِي وَمِنْهَا استفيدي) (هَذِه الْعين ذنبها مَا ذكرنَا ... أَي ذَنْب لقلبي المعمود) (لَو تردت بِحجَّة الْعين مَاذَا ... لم تعاقب بالدمع والتسهيد) (بلغ الياسمين فِي الْقدر أَن قد ... لف من خدها بورد نضيد) (كل شَيْء أَتُوب عَنهُ وَلَا تَوْبَة ... لي من هوى الحسان الغيد) (من لعان مِنْهُنَّ غير طليق ... وَسَقِيم مِنْهُنَّ غير معود) (شهِدت أدمعي بوجدي وزورن ... لشاني إِذا خانه مجلودي) (أَيهَا اللائمي على الْحبّ مهلا ... هَل تلام الْحمام فِي التغريد)

وَله أَيْضا (فقدت دموعي يوسفا فِي حسنه ... فَغَدَوْت يعقوبا بِشدَّة وجده) (وعميت مِمَّا قد لقِيت من البكا ... حَتَّى مسحت على الجفون بِبرْدِهِ) وَله أَيْضا (قبلته قُدَّام قسيسه ... شربت كاسات بتقديسه) (يقرع قلبِي عِنْد ذكرى لَهُ ... من فرط شوقي قرع ناقوسه) وسجن مَعَه غُلَام من أَوْلَاد العبيد فِيهِ مجَال وَفِي نفس متأملة من لوعته أَو جال فَكتب يُخَاطب الْمُوكل بِبَاب السجْن بِقِطْعَة مِنْهَا (حبيسك مِمَّن أتلف الْحبّ قلبه ... ويلذع قلبِي حرقة دونهَا الْجَمْر) (هِلَال وَفِي غير السَّمَاء طلوعه ... وريم وَلَكِن لَيْسَ مَسْكَنه القفر) \ (تَأَمَّلت عَيْنَيْهِ فخامرني السكر ... وَلَا شكّ فِي أَن الْعُيُون هِيَ الْخمر) (أناطقه كَيْمَا يَقُول وَإِنَّمَا ... أناطقه عمدا لينثر الدّرّ) (أَنا عَبده وَهُوَ المليك كَمَا اسْمه ... فلي مِنْهُ شطر كَامِل وَله الشّطْر)

الأديب أبو القاسم محمد بن هانىء

(الأديب أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد بن هانىء) علق خطير وَروض أدب مطير غاص فِي طلب الْغَرِيب حَتَّى أخرج دره الْمكنون وبهرج بافتنانه كل الْفُنُون وَله نظم تتمنى الثريا أَن تتوج بِهِ وتتقلد وَيَوَد الْبَدْر أَن يكْتب فِيهِ مَا اخترع وَولد زهت بِهِ الأندلس وتاهت وحاسنت ببدائعه الأشمس وباهت فحسد الْمغرب فِيهِ الْمشرق وغص بِهِ من الْعرَاق وشرق غير أَنه نبت بِهِ أكنافها وشمخت عَلَيْهِ أنافها وبرئت مِنْهُ وزوى الْخَيْر فِيهَا عَنهُ لِأَنَّهُ سلك مَسْلَك المعري وتجرد من التدين وعري وَأبْدى

الغلو وتعدى الْحق المجلو فمجته الْأَنْفس وأزعجته الأندلس فَخرج على غير اخْتِيَار وَمَا عرج على هَذِه الديار إِلَى أَن وصل الزاب واتصل بِجَعْفَر بن الأندلسية مأوى تِلْكَ الجنسية فناهيك من سعد ورد عَلَيْهِ فكرع وَمن بَاب ولج فِيهِ وَمَا قرع فَاسْتَرْجع عِنْده شبابه وانتجع وبله وربابه وتلقاه بتأهيل ورحب وسقاه صوب تِلْكَ السحب وأفرط فِي مدحه لَهُ فِي الغلو وَزَاد وَفرغ عِنْده تِلْكَ المزاد وَلم يتورع وَلَا ثناه ذُو ورع وعَلى هَذِه الهنة فَلهُ بَدَائِع يتحير فِيهَا ويحار ويخال لرقتها أَنَّهَا أسحار فَإِنَّهُ اعْتمد التَّهْذِيب والتحرير وَاتبع فِيهَا الفرزدق مَعَ جرير وَأما تشبيهاته فخرق فِيهَا الْمُعْتَاد وَمَا شَاءَ مِنْهَا اقتاد وَقد أثبت لَهُ مَا تحن لَهُ الأسماع وَلَا تتمكن مِنْهَا الأطماع ذَلِك قَوْله

(أليلتنا إِذْ أرْسلت واردا وحفا ... وبتنا نرى الجوزاء فِي أذنها شنفا) (وَبَات لنا سَاق يقوم على الدجى ... بشمعة صبح لَا تقط وَلَا تطفا) (اغن غضيض خفف اللين قده ... وثقلت الصَّهْبَاء أجفانه الوطفا) (وَلم يبْق إرعاش المدام لَهُ يدا ... وَلم يبْق إعنات التثني لَهُ عطفا) (نزيف نضاه السكر إِلَّا ارتجاحه ... إِذا كل عَنْهَا الْخضر حملهَا الردفا) (يَقُولُونَ حقف فَوْقه خيزرانة ... أما يعْرفُونَ الخيزرانة والحقفا) (جعلنَا حشايانا ثِيَاب مدامنا ... وقدت لنا الأزهار من جلدهَا لحفا) (فَمن كبد توحي إِلَى كبد هوى ... وَمن شفه تومي إِلَى شفة رشفا) وَمِنْهَا (كَأَن السماكين اللَّذين تراهما ... على لبدتيه ضامنان لَهُ حتفا) (فَذا رامح يهوي إِلَيْهِ سنانة ... وَذَا أعزل قد عض أنمله لهفا) (كَأَن سهيلا فِي مطالع أفقه ... مفارق إلْف لم يجد بعده إلفا) (كَأَن بني نعش ونعشاً مطافل ... بوجرة قد أضللن فِي مهمة خشفا) (كَأَن سهاها عاشق بَين عود ... فآونة يَبْدُو وآونة يخفى)

(كَأَن قدامى النسْر والنسر وَاقع ... قصصن فَلم تسم الخوافي بِهِ ضعفا) (كَأَن أَخَاهُ حِين حوم طائرا ... أَتَى دون نصف الْبَدْر فاختطف النصفا) (كَأَن ظلام اللَّيْل إِذْ مَال ميله ... صريع مدام بَات يشْربهَا صرفا) (كَأَن عمودا الصُّبْح خاقَان معشر ... من التّرْك نَادَى بالنجاشي فاستخفى) (كَأَن لِوَاء الشَّمْس غرَّة جَعْفَر ... رأى الْقرن فازدادت طلاقته ضعفا) وَله أَيْضا (فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر ... وأمدكم فلق الصَّباح المسفر) (وجنيتم ثَمَر الوقائع يانعا ... بالنصر من علق الْحَدِيد الْأَحْمَر) (أبني العوالي السمهرية وَالسُّيُوف ... المشرفية والعديد الْأَكْثَر) (من مِنْكُم الْملك المطاع كَأَنَّهُ ... تَحت السوابغ تبع فِي حمير)

(جَيش تقدمه الليوث وفوقها ... كالغيل من قصب الوشيج الْأَخْضَر) (وكأنما سلب القشاعم ريشها ... مِمَّا يشق من العجاج الأكدر) (لحق الْقبُول مَعَ الدبور وَسَار فِي ... جمع الهرقل وعزمة الْإِسْكَنْدَر) (فِي فتية صدأ الْحَدِيد لباسهم ... فِي عبقري البيد جنَّة عبقر) (وَكَفاهُ من حب السماحة أَنه ... مِنْهُ بِموضع مقلة من محجر) (نعماؤه من رَحْمَة ولباسه ... من جنَّة وعطاؤه من كوثر) وَله أَيْضا من قصيدة فِي جَعْفَر بن عَليّ

(أَلا أَيهَا الْوَادي الْمُقَدّس بالندى ... وَأهل الندى قلبِي إِلَيْك مشوق) (وَيَا أَيهَا الْقصر المنيف قبابه ... على الزاب لَا يسدد إِلَيْك طَرِيق) (وَيَا ملك الزاب الرفيع عماده ... بقيت لجمع الْمجد وَهُوَ فريق) (فَمَا أنس لَا أنس الْأَمِير إِذا غَدا ... يروع بحورا ملكه ويروق) (وَلَا الْجُود يجْرِي من صفيحة وَجهه ... إِذا كَانَ من ذَاك الجبين شروق) (وهزته للمجد حَتَّى كَأَنَّمَا ... جرت فِي سجاياه الْعَذَاب رحيق) (أما وَأبي تِلْكَ الشَّمَائِل إِنَّهَا ... دَلِيل على أَن النجار عَتيق) (فَكيف بصبر النَّفس عَنهُ ودونه ... من الأَرْض مغبر الفجاج عميق) (فَكُن كَيفَ شَاءَ النَّاس أَو شِئْت دَائِما ... فَلَيْسَ لهَذَا الْملك غَيْرك فَوق) (وَلَا تشكر الدُّنْيَا على نيل رُتْبَة ... فَمَا نلتها إِلَّا وَأَنت حقيق) وَله من قصيدة (خليلي ايْنَ الزاب مني وجعفر ... وجنة عدن بنت عَنْهَا وكوثر) (فقبلي نأى عَن جنَّة الْخلد آدم ... فَمَا راقه من جَانب الأَرْض منظر)

(لقد سرني أَنِّي أَمر بِبَالِهِ ... فيخبرني عَنهُ بذلك مخبر) (وَقد سَاءَنِي أَنِّي أرَاهُ ببلدة ... بهَا منسك مِنْهُ عَظِيم ومشعر) (وَقد كَانَ لي مِنْهُ شَفِيع مُشَفع ... بِهِ يمحص الله الذُّنُوب وَيغْفر) (أَتَى النَّاس أَفْوَاجًا إِلَيْك كَأَنَّمَا ... من الزاب بَيت أَو من الزاب محشر) (فَأَنت لمن قد مزق الله شَمله ... ومعشره والأهل أهل ومعشر) وَله أَيْضا (أَلا طرقتنا والنجوم ركود ... وَفِي الْحَيّ أيقاظ وَهن هجود) (وَقد أعجل الْفجْر الملمع خطوها ... وَفِي أخريات اللَّيْل مِنْهُ عَمُود) (سرت عاطلا غَضَبي على الدّرّ وَحده ... وَلم يدر نحر مَا داهاه وجيد) (فَمَا بَرحت إِلَّا وَمن سلك أدمعي ... قلائد فِي لباتها وعقود) (وَيَا حسنها فِي يَوْم نضت سوالفا ... تريع إِلَى أترابها وتحيد) (ألم يأتها أَنا كبرنا عَن الصِّبَا ... وَأَنا بلينا وَالزَّمَان جَدِيد) (وَلَا كالليالي مَا لَهُنَّ مواثق ... وَلَا كالغواني مَا لَهُنَّ عهود) وَمِنْهَا (وَلَا كالمعز ابْن النَّبِي خَليفَة ... لَهُ الله بالفخر الْمُبين شَهِيد)

وَله أَيْضا (قد مَرَرْنَا على مغانيك تِلْكَ ... فَرَأَيْنَا بهَا مشابه مِنْك) (عارضتها المها الخواذل سربا ... عِنْد أجراعها فَلم تسل عَنْك) (لَا يرع للمها بذلك سرب ... أشبهتك فِي الْوَصْف إِن لم تكنك) (كن عذيري فقد رَأَيْت معاجي ... يَوْم تبْكي بالجزع ولهى وأبكي) (بحنين مرجع وتشك ... وأنين موجع كتشكي) وَله قصيدة يمدح بهَا جَعْفَر بن عَليّ بن رمان (قفا فلأمر مَا سرينا وَلَا نسري ... وَإِلَّا نرى مشي القطا الْوَارِد الكدر) (قفا نتبين أَيْن ذَا الْبَرْق مِنْهُم ... وَمن أَيْن تَأتي الرّيح طيبَة النشر) (لَعَلَّ ثرى الْوَادي الَّذِي كنت مرّة ... أزورهم فِيهِ تضوع للسَّفر) (وإلافما وَاد يسيل بعنبر ... وَإِلَّا فَمَا تدير الركاب وَلَا نَدْرِي)

(أكل كناس بالصريم تظنه ... كناس الظباء الدعج والشدن العفر) (وَهل عجبوا أَنِّي أسائل عَنْهُم ... وهم بَين أحناء الجوانح والصدر) (وَهل علمُوا أَنِّي أيمم أَرضهم ... وَمَالِي بهَا غير التعسف من خبر) (ولي سكن تَأتي الْحَوَادِث دونه ... فيبعد عَن عَيْني وَيقرب من فكري) (إِذا ذكرته النَّفس جَاشَتْ بِذكرِهِ ... كَمَا عثر الساقي بجام من الْخمر) (فَلَا تسألاني عَن زماني الَّذِي خلا ... فوا لعصر إِنِّي بعد يحيى لفي خسر) (وآليت لَا أعطي الزَّمَان مقادتي ... إِلَى مثل يحيى ثمَّ أغضي على الْوتر) (حنيني إِلَيْهِ ظَاعِنًا ومخيما ... وَلَيْسَ حنين الطير إِلَّا إِلَى الوكر) وَله من قصيدة (فتكات طرفك أم سيوف أَبِيك ... وكؤوس خمرك أم مراشف فِيك) (أجلاد مرهفة وفتك محاجر ... لَا أَنْت راحمه وَلَا أهلوك) (يَا بنت ذِي السَّيْف الطَّوِيل نجاده ... أكذا يجوز الحكم فِي ناديك) (عَيْنَاك أم مغناك موعدنا وَفِي ... وَادي الْكرَى أَلْقَاك أم واديك) وَقَالَ أَيْضا (أحبب بهاتيك القباب قبابنا ... لَا بالحداة وَلَا الركاب ركابا)

(فِيهَا قُلُوب العاشقين تخالها ... عنما بأيدي الْبيض أَو عنابا) (وَالله لَوْلَا أَن يعنفني الْهوى ... وَيَقُول بعض العاذلين تصابى) (لكسرت دملجها بِضيق عناقها ... ورشفت من فِيهَا البرود رضابا) (بنتم فلولا أَن أغير لمتي ... عَبَثا وألقاكم عَليّ غضابا) (لخضبت شيباً فِي مفارق لمتي ... ومحوت محو النقس عَنهُ شبَابًا) (وخضبت مبيض الْحداد عَلَيْكُم ... لَو أنني أجد الْبيَاض خضابا) (وَإِذا أردْت على المشيب وفادة ... فاحثت مطيك دونه الأحقابا) (فلتأخذن من الزَّمَان حمامة ... ولتبعثن إِلَى الزَّمَان غرابا) وَمِنْهَا (قد طيب الأقطار طيب ثنائه ... من أجل ذَا تَجِد الثغور عذَابا) (لم تدنني أَرض إِلَيْك وَإِنَّمَا ... جِئْت السَّمَاء ففتحت أبوابا)

الأديب أبو عمر أحمد بن فرج الجياني

(وَرَأَيْت حَولي وَفد كل قَبيلَة ... حَتَّى توهمت الْعرَاق الزابا) (أَرضًا وطِئت الدّرّ من رضراضها ... والمسك تربا والرياض جنابا) (وَرَأَيْت أجبل أرْضهَا منقادة ... فحسبتها مدت إِلَيْك رقابا) (سد الإِمَام بهَا الثغور وَقبلهَا ... هزم النَّبِي بقومك الأحزابا) (الأديب أَبُو عمر أَحْمد بن فرج الجياني) مُحرز الخصل مبرز فِي كل معنى وَفصل متميز بِالْإِحْسَانِ متحيز إِلَى فِئَة الْبَيَان ذكي الْخلد مَعَ قُوَّة الْعَارِضَة والْمنَّة الناهضة حضر مجْلِس بعض الْقُضَاة حَتَّى إِن أَهله لَا يَتَكَلَّمُونَ فِي إِلَّا رمزا وَلَا يخاطبون إِلَّا إِيمَاء فَلَا تسمع لَهُم ركزا فَكلم فِيهِ خصما لَهُ كلَاما

استطال بِهِ عَلَيْهِ لفضل بَيَانه وطلاقة لِسَانه فَفَارَقَ عَادَة الْمجْلس فِي رفض الأنفة وخفض الْحجَّة المؤتنفة وهز عطفه وحسر عَن ساعده وَأَشَارَ بِيَدِهِ مَادًّا بهَا لوجه خَصمه خَارِجا عَن حد الْمجْلس ورسمه فهم الأعوان بتقويمه وتثقيفه ووزعهم وَهبة مِنْهُ وخشية حَتَّى تنَاوله القَاضِي بِنَفسِهِ وَقَالَ لَهُ مهلا عافاك الله اخْفِضْ صَوْتك واقبض يدك وَلَا تفارق مركزك وَلَا تعد حَقك وأقصر من أسبابك وإدلالك بأدابك فَقَالَ لَهُ مهلا يَا قَاضِي أَمن المخدرات أَنا فاخفض صوتي واستريدي وأغطي معاصمي لديك أم من الْأَنْبِيَاء أَنْت فَلَا يجْهر بالْقَوْل عنْدك وَذَلِكَ لم يَجعله الله إِلَّا لرَسُوله لقَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم فَوق صَوت النَّبِي وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بالْقَوْل كجهر بَعْضكُم لبَعض أَن تحبط أَعمالكُم وَأَنْتُم لَا تشعرون} وَلست بِهِ وَلَا كَرَامَة وَقد ذكر الله أَن النُّفُوس تجَادل فِي الْقِيَامَة فِي موقف الهول الَّذِي لَا يعد لَهُ مقَام وَلَا يشبه انتقامه انتقام

فَقَالَ تَعَالَى {يَوْم تَأتي كل نفس تجَادل عَن نَفسهَا} إِلَى قَوْله تَعَالَى {وهم لَا يظْلمُونَ} لقد تعديت طورك وعلوت فِي منزلتك وَإِنَّمَا الْبَيَان بِعِبَارَة اللِّسَان وبالنطق يستبين الْحق من الْبَاطِل وَلَا بُد فِي الْخِصَام من إفصاح الْكَلَام وَقَامَ وَانْصَرف فبهت القَاضِي وَلم يحر جَوَابا وَكَانَ فِي الدولة صَدرا من أعيانها وناسق دُرَر تبيانها نفق فِي سوقها وصنف وقرط محاسنها وشنف وَله الْكتاب الرَّائِق الْمُسَمّى بالحدائق وأدركه فِي الدولة سعي ورفض لَهُ فِيهَا الرَّعْي واعتقله الْخَلِيفَة وأوثقه فِي مَكَان أَخِيه فَلم يُومِض لَهُ عَفْو وَلم يشب كدر حَالَة صفو حَتَّى قضى معتقلا ونعى للنائبات نعيا مثكلا وَله فِي السجْن أشعار كَثِيرَة وأقوال مبدعات منيرة فَمن ذَلِك مَا أنْشدهُ أَبُو مُحَمَّد بن حزم يصف خيالا طرقه بَعْدَمَا

أسهره الوجد وأرقه (بِأَيِّهِمَا أَنا فِي الشُّكْر بَادِي ... بشكر الطيف أم شكر الرقاد) (سرى وازداد فِي أملي وَلَكِن ... عففت فَلم أجد مِنْهُ مرادي) (وَمَا فِي النّوم من حرج وَلَكِن ... جريت من العفاف على اعتيادي) وَله أَيْضا (وطائعة الْوِصَال عففت عَنْهَا ... وَمَا الشَّيْطَان فِيهَا بالمطاع) (بَدَت فِي اللَّيْل سافرة فباتت ... دياجي اللَّيْل سافرة القناع) (وَمَا من لَحْظَة إِلَّا وفيهَا ... إِلَى فتن الْقُلُوب لَهَا دواعي) (فملكت النهى جمحات شوقي ... لأجري بالعفاف على طباعي) (وَبت بهَا مبيت الطِّفْل يظما ... فيمنعه الْفِطَام من الرَّضَاع)

الأديب أبو عبد الله محمد بن الحداد

كَذَاك الرَّوْض لَيْسَ بِهِ لمثلي ... سوى نظر وشم من مَتَاع) (وَلست من السوائم مهملات ... فَاتخذ الرياض من المراعي) وَله أَيْضا (للروض حسن فقف عَلَيْهِ ... واصرف عنان الْهوى إِلَيْهِ) (أما ترى نرجسا نضيرا ... يرنو إِلَيْهِ بمقلتيه) (نشر حَبِيبِي على رباه ... وصفرتي فَوق وجنتيه) وَله أَيْضا (بمهلكة يستهلك الْحَمد عفوها ... وَيتْرك شَمل الْعَزْم وَهُوَ مبدد) (ترى عاصف الْأَرْوَاح فِيهَا كَأَنَّهُ ... من الأين يمشي ظالع أَو مُقَيّد) (الأديب أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْحداد) شَاعِر مادح وعَلى أيك الندى صادح لم ينطقه إِلَّا معن أَو

صمادح فَلم يرم مثواهما وَلم ينتجع سواهُمَا وَاقْتصر على المرية وَاخْتصرَ قطع المهامة وخوض الْبَريَّة فعكف فِيهَا ينثر درره فِي ذَلِك المنتدى ويرتشف أبدا ثغور ذَلِك الندى مَعَ تميزه بِالْعلمِ وتحيزه إِلَى فِئَة الْوَقار والحلم وانتمائه إِلَى آيَة سلف ومذهبه مَذَاهِب أهل الشّرف وَكَانَ لَهُ لسن ورواء حسن يَشْهَدَانِ لَهُ بالنباهة ويقلدان كَاهِله مَا شَاءَ من الوجاهة وَقد أثبت لَهُ بعض مَا قذفه من درره وفاه بِهِ من محَاسِن غرره فَمن ذَلِك قَوْله (إِلَى الْمَوْت رَجْعِيّ بعد حِين فَإِن أمت ... فقد خلدت خلد الزَّمَان مناقبي) (وذكري فِي الْآفَاق طَار كَأَنَّهُ ... بِكُل لِسَان طيب عذراء كاعب) (فَفِي أَي علم لم تبرز سوابقي ... وَفِي أَي فن لم تبرز كتائبي) وَحضر مجْلِس المعتصم بِحُضُور ابْن اللبانة فَأَنْشد فِيهِ

قصيدا أبرز بِهِ من عرى الإجسان مَا لم ينفصم وَاسْتمرّ فِيهَا يستكمل بدائعها وقوافيها فَإِذا هُوَ قد أغار على قصيدة ابْن الْحداد الَّذِي أَوله (عجى بالحمى حَيْثُ الخماص الْعين ... ) فَقَالَ ابْن الْحداد مرتجلا (حاشا لعدلك يَا ابْن معن أَن يرى ... فِي سلك غَيْرِي دري الْمكنون) (وإليكها تَشْكُو استلاب مطيها ... عج بالحمى حَيْثُ الخماص الْعين) (فاحكم لَهَا واقطع لِسَانا لَا يدا ... فلسان من سرق القريض يَمِين) وَله أَيْضا (يَا غَائِبا خطرات الْقلب محضره ... الصَّبْر بعْدك شَيْء لست أقدره) (تركت قلبِي واشواقي تفطره ... ودمع عَيْني وأحداقي تحدره) (لَو كنت تبصر فِي تدمير حالتنا ... إِذن لأشفقت مِمَّا كنت تبصره) (فالعين دُونك لَا تحلى بلذتها ... والدهر بعْدك لَا يصفو تكدره)

(أُخْفِي اشتياقي وَمَا أطويه من أَسف ... على المرية والأنفاس تظهره) وَله أَيْضا (إِن المدامع والزفير ... قد أعلنا مَا فِي الضَّمِير) (فعلام أُخْفِي ظَاهرا ... سقمي عَليّ بِهِ ظهير) (هَب لي الرضى من ساخط ... قلبِي بساحته الْأَسير) وَله أَيْضا (أَيهَا الْوَاصِل هجري ... أَنا فِي هجران صبري) (لَيْت شعري أَي نفع ... لَك فِي إدمان ضري) وَله أَيْضا (يَا مشبه الْملك الْجَعْدِي تسميه ... ومخجل الْقَمَر البدري أنوارا) وَله أَيْضا (تطالبني نَفسِي بِمَا فِيهِ صونها ... فأعصي ويسطو شوقها فأطيعها) (وَوَاللَّه مَا يخفى عَليّ ضلالها ... وَلكنهَا تهوى فَلَا أستطيعها

وَله أَيْضا (استودع الرَّحْمَن مستودعي ... شوقا كَمثل النَّار فِي أضلعي) (أترك من أَهْوى وأمضي كَذَا ... وَالله مَا أمضي وقلبي معي) (وَلَا نأى شخصك عَن ناظري ... حينا وَلَا نطقك عَن مسمعي) وَقَالَ أَيْضا (لَعَلَّك بالوادي الْمُقَدّس شاطىء ... فكالعنبر الْهِنْدِيّ مَا أَنا واطىء) (وَإِنِّي فِي رياك وَاجِد ريحهم ... فَروح الْهوى بَين الجوانح ناشىء) (ولي فِي السرى من نارهم ومنارهم ... هداه حداة والنجوم طوافىء) (لذَلِك مَا حنت ركابي وحمحمت ... عرابي وَأوحى سَيرهَا المتباطىء) (وَيَا حبذا من آل لبنى مَوَاطِن ... وَيَا حبذا من أَرض لبنى مواطىء) (وَلَا تحسبوا غيدا حوتها مقاصر ... فَتلك قُلُوب ضمنتها جآجىء) (وَفِي الكلل اللَّاتِي لعزة ظَبْيَة ... تحف بهَا زرق العوالي الكوالىء) (أفاتكة الألحاظ ناسكة الْهوى ... ورعت وَلَكِن لحظ عَيْنَيْك خاطىء) (وَآل الْهوى جرحي وَلَكِن دِمَاءَهُمْ ... دموع هوَام والجروح مآقيء)

الأديب الأسعد بن بليطة

(وَكَيف أعاني كلم طرفك فِي الحشا ... وَلَيْسَ لتمزيق المهند رافىء) (وَمن أَيْن أَرْجُو برْء نَفسِي من الْهوى ... وماكل ذِي سقم من السقم بارىء) وَله أَيْضا (بخافقة القرطين قَلْبك خافق ... وَعَن خرس القلبين دمعك نَاطِق) (وَفِي مشرق الصدغين للبدر مغرب ... وللفكر حالات وللعين شارق) (وَبَين حَصى الْيَاقُوت مَاء وسامة ... محلاة عَنهُ الظباء السوابق) (وحشو قباب الرقم أحوى مقرطق ... كَمَا آس روض عطفه والقراطق) (غزال ربيب فِي المقاصر كانس ... وخوط لَبِيب بالغرائر وارق) (الأديب الأسعد بن بليطة) سرد الْبَدَائِع أحسن السرد وافترس الْمَعَالِي كالأسد الْورْد وأبرز

دُرَر المحاسن من صدفها وَحَازَ من بَحر الإجادة وشرفها ومدح ملوكا طوقهم من مدائحه قلائد وزف إِلَيْهِم مِنْهَا خرائد وجلاها عَلَيْهِم كواعب بالألباب لواعب فأسالت العوارف وَمَا تقلص لَهُ من الحظوة ظلّ وارف وَقد أثبت لَهُ مَا يعْتَرف بِحقِّهِ وَيعرف مِقْدَار سبقه فَمن ذَلِك قَوْله (برامة ريم زارني بعد مَا شطا ... تقنصته بالحلم فِي الشط فاشتطا) (رعى من أفانين الْهوى ثَمَر الحشا ... جنيا وَلم يرع العهود وَلَا الشرطا) (خيال لمرقوم غرير برامة ... تأوبني بالرقمتين لَدَى الأرطى) (فأكسبني من خدها رَوْضَة الجنى ... وألدغني من صدغها حَيَّة رقطا) (وباتت ذراعاها نجادا لعاتقي ... إِذا مَا التقاها الْحَيّ غنى لَهَا لَغطا) (وسل اهتصاري غصنها من مخصر ... طواه اضصنى طي الطوامير فامتطا) (وَقد غَابَ كحل اللَّيْل فِي دمع فجرة ... إِلَى أَن تبدى الصُّبْح فِي اللمة الشمطا)

وَمِنْهَا فِي وصف الديك (وَقَامَ لَهَا ينعي الدجى ذُو شَقِيقَة ... يُدِير لنا من بَين أجفانه سقطا) إِذا صَاح أصغي سَمعه لأذانه ... وبادر ضربا من قوادمه الإبطا) (كَأَن أنو شرْوَان أَعْلَاهُ تاجه ... وناطت عَلَيْهِ كف مَارِيَة القرطا) (سبى حلَّة الطاووس حسن لباسها ... وَلم يكفه حَتَّى سبى المشية البطا) وَمن غزلها (غلامية جَاءَت وَقد جعل الدجى ... لخاتم فِيهَا فص غَالِيَة خطا) (فَقلت أحاجيها بِمَا فِي جفونها ... وَمَا فِي الشفا اللعس من حسنها الْمُعْطى) (محيرة الْعَينَيْنِ من غير سكرة ... مَتى شربت ألحاظ عَيْنَيْك اسفنطا) (أرى نكهة المسواك فِي حمرَة اللمى ... وشاربك المخضر بالمسك قد خطا) (عَسى قزَح قبلته فإخالة ... على الشّفة اللمياء قد جَاءَ مختطا) وَله أَيْضا (لَو كنت شاهدنا عَشِيَّة أمسنا ... والمزن يبكينا بعيني مذنب)

الأديب أبو بكر عبادة بن ماء السماء

(وَالشَّمْس قد مدت أَدِيم شعاعها ... فِي الأَرْض تجنح غير أَن لم تغرب) وَله أَيْضا (وتلذ تعذيبي كَأَنَّك خلتني ... عودا فَلَيْسَ يطيب مَا لم يحرق) وَهُوَ مَأْخُوذ من قَول ابْن زيدون (تظنوني كالعود حَقًا وَإِنَّمَا تطيب لكم أنفاسه حِين يحرق) (الأديب أَبُو بكر عبَادَة بن مَاء السَّمَاء) من فحول الشُّعَرَاء وأئمتهم الكبراء كَانَ منتجعا بِشعرِهِ متوجعا من صروف دهره وَكَانَت لَهُ همة أَطَالَت همه وَأَكْثَرت كمده وغمه

وَله من قصيدة فِي يحيى بن عَليّ بن حمود أَمِير الْمُؤمنِينَ (يؤرقني اللَّيْل الَّذِي أَنْت نَائِمَة ... فتجهل مَا ألْقى وطرفك عَالِمَة) (وَفِي الهودج المرقوم وَجه طوى الحشا ... عَن الْحسن فِيهِ الْحسن قد حَار راقمه) (إِذا شَاءَ وَقفا أرسل الْحسن فَرعه ... يضلهم عَن مَنْهَج الْقَصْد فاحمه) (أظلما رَأَوْا تَقْلِيده الدّرّ أم زروا ... بِتِلْكَ الآلىء انهن تمائمة) (الأديب أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَائِشَة) اشْتهر صونا وعفافا وَلم يخْطب بعقيلة حظوة زفافا فآثر انقباضا

وسكونا وَاعْتمد إِلَيْهَا ركونا إِلَى أَن أنهضه أَمِير الْمُسلمين إِلَى بساطه فَهَب من مرقد خموله وشب لبلوغ مأمولة فَبَدَا مِنْهُ فِي الْحَال انزواء فِي تُسنم تِلْكَ الرسوم والتواء وقعود عَن مَرَاتِب الْأَعْلَام وجمود لَا يحمد فِيهِ وَلَا يلام إِلَّا أَن أَمِير الْمُسلمين أيده الله تَعَالَى ألْقى عَلَيْهِ مِنْهُ محبَّة جلبت إلبه مسرى الظُّهُور ومهبه وَكَانَ لَهُ أدب وَاسع المدى يَانِع كالزهر بلله الندى ونظم مشرق الصفحة عبق النفحة إِلَّا أَنه قَلِيلا مَا كَانَ يحل ربعه ويذيل لَهُ طبعة وَقد اثْبتْ لَهُ مِنْهُ مَا يدع الْأَلْبَاب حائرة والقلوب إلية طائرة فَمن ذَلِك قَوْله فِي لَيْلَة سمحت لَهُ بفتى كَانَ يهواه ونفحت لَهُ هبة وصل بردت جواه (لله ليل بَات عِنْدِي بِهِ ... طوع يَدي من مهجتي فِي يَدَيْهِ) (وَبت أسقيه كؤوس الطلا ... وَلم أزل أسهر شوقا إِلَيْهِ) (عاطيته حَمْرَاء ممزوجة ... كَأَنَّهَا تعصر من وجنتيه)

وَله فِيهِ وَقد طرزت غلالة خَدّه وَركب من عارضة سِنَان على صعدة قده (إِذا كنت تهوى خَدّه وَهُوَ رَوْضَة ... بِهِ الْورْد غض والأقاح مفلج) (فزد كلفا فِيهِ وفرط صبَابَة ... فقد زيد فِيهِ من عذار بنفسج) وَخرج من بلنسية إِلَى منية الْوَزير الْأَجَل أبي بكر بن عبد الْعَزِيز وَهِي من أبدع منَازِل الدُّنْيَا وَقد مدت عَلَيْهَا أدواحها الأفيا وأهدت إِلَيْهَا أزهارها الْعرف والريا وَالنّهر قد غص بِمِائَة وَالرَّوْض قد خص بِمثل أنجم سمائه وَكَانَت لبني عبد الْعَزِيز فِيهَا أطراب تهَيَّأ لَهُم فِيهَا من الْأَيَّام آرَاب فلبسوا فِيهَا الْأنس حَتَّى أبلوه ونشروا فِيهَا السرُور وطووه أَيَّام كَانُوا بذلك الْأُفق طلوعا لم تضم عَلَيْهِم النوائب ضلوعا فَقعدَ أَبُو عبد الله مَعَ لمة من الأدباء تَحت دوحة من أدواحها فَهبت ريح أنس من أرواحها سطت بأعصارها وأسقطت لؤلؤها على باسم أزهارها فَقَالَ (ودوحة قد علت سَمَاء ... تطلع أزهارها نجوما) (هفا نسيم الصِّبَا عَلَيْهَا ... فَأرْسلت فَوْقنَا رجوما) (كَأَنَّمَا الجو غَار لما ... بَدَت فأغرى بهَا النسيما)

وَكَانَ فِي زمن عطلته وَوقت اصفراره وعلته ومقاساته من الْعَيْش أنكده وَمن التخوف أجهده كثيرا مَا ينشرح بِجَزِيرَة شقر ويستريح ويستطيب تِلْكَ الرّيح ويجول فِي أجارع واديها وينتقل من نواديها إِلَى بواديها فَإِنَّهَا صَحِيحَة الْهَوَاء قَليلَة الأدواء خضلة العشب والأزاهر قد أحَاط بهَا نهرها كَمَا تحيط بالمعاصم الأساور والأيك قد نشرت ذوائبها على صفيحة وَالرَّوْض قد عطر جوانبه بريحة وَأَبُو إِسْحَاق بن خفاجة هُوَ كَانَ منزع نَفسه ومصرع أنسه بِهِ نفح لَهُ بالمنى عبق وشذا وَمسح عَن عُيُون مسراته القذى وَغدا على مَا كَانَ وَرَاح وَجرى متهافتا فِي ميدان ذَلِك المراح قريب عهد بالفطام ودهره ينقاد فِي خطام فَلَمَّا اشتعل رَأسه شيبا وزرت عَلَيْهِ الكهولة جيبا أقصر عَن تِلْكَ الهنات واستيقظ من تِلْكَ

السنات وشب عَن ذَلِك الطوق وَاقْتصر على الحنين والشوق وقنع بِأَدْنَى تَحِيَّة وَمَا يستشعره بِوَصْف تِلْكَ العهاد من أريحية فَقَالَ (الا خلياني والأسى والقوافيا ... ارددها شجوي وأجهش باكيا) (أآمن شخصا للمسرة باديا ... وأندب رسما للشبيبة بَالِيًا) (تولى الصِّبَا الا توالي فكرة ... قدحت بهَا زندا وَمَا زلت واريا) (وَقد بَان حُلْو الْعَيْش إِلَّا تعله ... تُحَدِّثنِي عَنْهَا الْأَمَانِي خَالِيا) (وَيَا برد هَذَا المَاء هَل مِنْك قَطْرَة ... تهل فيستسقى غمامك صاديا) (وهيهات حَالَتْ دون حزوى وَأَهْلهَا ... لَيَال وَأَيَّام تخال لياليا) (فَقل فِي كَبِير عَاده صائد الظبا ... إلَيْهِنَّ مهتاجاً وَقد كَانَ ساليا) (فيا رَاكِبًا يسْتَعْمل الخطو قَاصِدا ... الاعج بشقر رائحا أَو مغاديا) (وقف حَيْثُ سَالَ النَّهر ينساب أرقما ... وهب نسيم الأيك ينفث راقيا)

الأديب أبو عامر بن عقال

(وَقل لأثيلات هُنَاكَ وأجرع ... سقيت أثيلات وحييت وَاديا) (الأديب أَبُو عَامر بن عقال) كَانَ لَهُ ببني قَاسم تعلق وَفِي سَمَاء دولتهم تألق فَلَمَّا خوت نجومهم وعفت رسومهم انحط عَن ذَلِك الْخُصُوص وَسقط سُقُوط الطَّائِر المقصوص وَتصرف بَين وجود وَعدم وتحرف قَاعِدا حينا وحينا على قدم وَفِي خلال حَاله وأثناء انتحاله لم يدع حَظه من الحبيب وَلَا ثني لَحْظَة عَن الغزال الربيب وَلم يزل يطير وَيَقَع والدهر يخْفض حَالَة وَيرْفَع إِلَى أَن رقاه الْأَمِير إِبْرَاهِيم بن يُوسُف بن

تاشفين أسمى ربوة وَأَقْعَدَهُ أبهى حظوة فَأدْرك عِنْده رُتْبَة أَعْلَام التحبير والإنشاء وَترك الدَّهْر قلق الحشا وتسنم منزلَة لَا يتسنمها إِلَّا من تطهر من درنه وَجمع إحسانه فِي ميدان حرنه والحظوظ أَقسَام لَا تسام وَالدُّنْيَا انارة واعتام وصفاء يتلوه قتام وَقد أثبت لَهُ بعض مَا انتقيته وَالَّذِي أَخَذته مباين لما أبقيته فَمن ذَلِك قَوْله (يَا وَيْح أجسام الْأَنَام ... لما تطِيق من الْأَذَى) (خلقت لتقوى بالغذاء ... وسقمها ذَاك الغذا) (وتنال أَيَّام السَّلامَة ... بِالْحَيَاةِ تلذذا) (فَإِذا انْقَضى زمن الصِّبَا ... وَرمى المشيب فأنفذا) (وجد السقام إِلَى المفاصل ... والجوانح منفذا)

حذا فِي هَذِه القصيدة حَذْو الصابي حَيْثُ يَقُول (وجع المفاصل وَهُوَ أيسر ... مَا لقِيت من الْأَذَى) (رد الَّذِي استحسنته ... وَالنَّاس من حظي كَذَا) وَله يعْتَذر من تَأْخِير زِيَارَة اعتمدها ومواصلة اعتقدها فعاقته عَنْهَا حوادث لوته وعدته عَن ذَلِك وثنته وَهُوَ قَوْله (بَيْنَمَا كنت راجيا للقائه ... والتشفي بالبشر من تلقائه) (وترقبت فِي سَمَاء نزاعي ... قمر الْأنس طالعا من سمائه) (فتدلهت وانزويت حَيَاء ... مِنْهُ والعذر لِسَانه) وَله فصل كتب بِهِ عَن الْأَمِير إِبْرَاهِيم يصف إجَازَة أَمِير الْمُسلمين الْبَحْر سنة خمس عشرَة وَخَمْسمِائة وَفِي السَّاعَة الثَّانِيَة من يَوْم الْجُمُعَة كَانَ جَوَازه أيده الله تَعَالَى من مرسى جَزِيرَة

الأديب أبو القاسم المنيشي

طريف على بَحر سَاكن قد ذل بعد استصعابه وَسَهل بعد أَن رأى الشامخ من هضابه وَصَارَ حَيَّة مَيتا وهذرة صمتا وجبالة لَا ترى فِيهَا عوجا وَلَا أمتا وَضعف تعاطيه وَعقد السّلم بَين موجه وشاطيه فَعبر آمنا من سطواته متملكا لصهواته على جواد يقطع الجروف سبحا ويكاد يسْبق الرّيح لمحا لم يحمل لجاما وَلَا سرجا وَلَا عهد غير اللجة الخضراء مرجا عنانة فِي رجله وهدب الْعين يَحْكِي بعض شكله فَللَّه دره من جواد لَهُ جسم وَلَيْسَ لَهُ فؤاد يخرق الْهَوَاء وَلَا يرهبه ويركض المَاء وَلَا يشربه (الأديب أَبُو الْقَاسِم المنيشي) أحد أَبنَاء الحضرة المتصرفين فِي أشبه الْأَعْمَال المتعرفين مَا

يَأْتِيهِ الْعمَّال لم يفرع ربوة ظُهُور وَلم يقرع بَاب ملك مَشْهُور ونكب عَن المقطع الجزل إِلَى الْغَرَض الفسل وَلَيْسَ من شَرط كتابي هَذَا إِثْبَات بذاءه وَلَا أَن يقف حذاءه وَقد أثبت لَهُ مَا هُوَ عِنْدِي نَافق ولغرضي مُوَافق فَمن ذَلِك قَوْله (يَا رَوْضَة باتت الأنداء تخدمها ... أَتَى النسيم وَهَذَا أول السحر) (إِن كَانَ قدك غصنا فالثراء بِهِ ... مثل الكمائم قد زرت على الزهر) (إربا ببرديك عَن ورد وَعَن زهر ... واغن بقرطيك عَن شمس وَعَن قمر) (يَا قَاتل الله لحظي كم شقيت بِهِ ... من حَيْثُ كَانَ نعيم النَّاس بِالنّظرِ) وَله يصف زرزورا (أمنبر ذَاك أم قضيب ... يفرغه مصقع خطيب)

(يختال فِي بردتي شباب ... لم يتوضح بهَا مشيب) (كَأَنَّمَا ضخمت عَلَيْهِ ... أبراده مسكه وَطيب) (أخرس لمنه فصيح ... أبله لكنه لَبِيب) (جهم على أَنه وسيم ... صَعب على أَنه أريب) وَله من رثاء فِي والدتي رَحمَه الله عَلَيْهَا (يَا ناصحي غير مفتات وَبِي شجن ... على النصائح والنصاح مفتات) (لَا أستجيب وَلَو ناديت من كثب ... قد وقرتني تعلات وعلات) (إِن كَانَ رَأْيك فِي بري وتكرمتي ... بِحَيْثُ قد ظَهرت فِيهِ عَلَامَات) (لَا ترض لي غير شجو لَا أفارقه ... فَذَاك أختاره وَالنَّاس أشتات) (يَا ذَا الوزارة من مثنى وَوَاحِدَة ... لله مَا اصطنعت مِنْك الوزارات) (لله مِنْك أَبَا نصر أَخُو جلد ... إِذا ألمت ملمات مهمات) وَمِنْهَا (أستودع الله نورا ضمه كفن ... كَمَا تواري بدور التم هالات)

الأديب أبو الحسن البرقي

(قَضَت وليت شَبَابِي كَانَ موضعهَا ... هَيْهَات لَو قضيت تِلْكَ اللبانات) (مَضَت وَلَيْسَ لكم من دونهَا أحد ... هلا وَقد أعذرت فِيهَا المروءات) (الأديب أَبُو الْحسن البرقي) بلنسي الدَّار نَفِيس الْمِقْدَار لم أعلم لَهُ بشرف وَلم أسمع لَهُ عَن سلف ورد إشبيلية سنة خمس وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة فاتصل بِابْن زهر فناهيك من حَظّ مسك أذفر وَمن وَجه صبح أَسْفر أدْرك بِهِ الرغائب وتملك بِسَبَبِهِ الْحَاضِر وَالْغَائِب وَكَانَ مجلو المؤانسة حُلْو المجالسة وَقد أثبت لَهُ بعض مَا وجدته لَهُ فِي الغلمان

وأنشدته فِي ذَلِك الزَّمَان (إِن ذكرت الْعَتِيق هاجك شوق ... رب شوق يهيجه الإذكار) (يَا خليلي حدثاني عَن الركاب ... سحيرا أأنجدوا أم أَغَارُوا) (شغلونا عَن الْوَدَاع وولوا ... مَا عَلَيْهِم لَو ودعوا ثمَّ سَارُوا) (أَنا أهواهم على كل حَال ... عدلوا فِي هواهم أم جاروا) وعلق بإشبيلية فَتى يعرف بِابْن الْمَكْر صَار بِهِ طريحا بَين أَيدي الْفِكر وَمَا زَالَ يقاسي هَوَاهُ ويكابد جواه حَتَّى اكتسى خَدّه بالعذار وانمحت عَنهُ بهجة آذار فَقَالَ (الْآن لما صوحت وجناته ... شوكاوأضحت سلوة العشاق) (وَاسْتَوْحَشْت تِلْكَ المحاسن واكتست ... أنوار وَجهك واهن الْأَخْلَاق) (أمسيت تبذل لي الْوِصَال تصنعا ... خلق اللَّئِيم وشيمة المذاق)

الأديب أبو الحسن علي بن جودي

(هلا وصلت إِذْ الشَّمَائِل قهوة ... وَإِذ الْمحيا رَوْضَة الأحداق) (فلكم أطلت غرام قلب موجع ... كم قد ألب إِلَيْك بالأشواق) (مَا كنت إِلَّا الْبَدْر لَيْلَة تمه ... حَتَّى قَضَت لَك لَيْلَة بمحاق) (لَاحَ العذار فَقلت وجد نازح ... إِن ابْن دأيه مُؤذن بِفِرَاق) وَله فِيهِ مناقضا لهَذَا الْغَرَض مُعَارضا للوعة سلوة الَّذِي عرض (أجيل الطّرف فِي خد نضير ... يردد ناظري نَظَرِي إِلَيْهِ) (إِذا رمدت بحمرته جفوني ... شفاها مِنْهُ أَخْضَر عارضيه) (الأديب أَبُو الْحسن عَليّ بن جودي) برز فِي الْفَهم وأحرز مِنْهُ أوفر سهم وَله أدب وَاسع مداه يَانِع كالروض بلله نداه إِلَّا أَنه سَهَا فأسرف وزها بِمَا لَا

يعرف وتصدى إِلَى الدّين بالإفتراء وَلم يراقب الله فِي ذَلِك الإجتراء واشتهرت عَنهُ أَقْوَال سدد إِلَى الْملَّة نضالها وأيد بهَا ضلالها فعظمت بِهِ المحنة وتكيفت لَهُ فِي كل نفس إحْنَة وَمَا زَالَ يتدرج فِيهَا وينتقل حَتَّى عثر وَمَا كَاد يسْتَقلّ فَمر لَا يلوي على تِلْكَ النواحي وفر لَا ينثني إِلَى اللوائم واللواحي وَمَا زَالَ يركب الْأَهْوَاء ويخوضها ويذلل النُّفُوس بهَا ويروضها حَتَّى أسمحت بعض الإسماح وكفت عَن ذَلِك الجماح فاستقر عِنْد ابْن مَالك فآواه ومهد لَهُ مثواه وَجعله فِي جملَة من اخْتصَّ من المبطلين واستخلص من المعطلين فكثيرا مَا يصطفيهم وَلَا يدْرِي أيدخرهم أم يقتنيهم وَقد أثبت لأبي الْحسن هَذَا (سل الركب عَن نجد فَإِن تَحِيَّة ... لساكن نجد قد تحملهَا الركب)

(وَإِلَّا فَمَا بَال الْمطِي على الوجى ... خفافا وَمَا للريح مرجعهارطب) وَله أَيْضا (أحن إِلَى ريح الشمَال فَإِنَّهَا ... تذكرنا نجدا وَمَا ذكرنَا نجدا) (تمر على ربع أَقَامَ بِهِ الْهوى ... وَبدل من أهليه جاثمة ربدا) وَله أَيْضا (إِذا ارتحلت غربية فاعرضا لَهَا ... فبالغرب من نهوى لَهُ الْبَلَد الغربا) (لقد سَاءَنِي أَنِّي بعيد وأننا ... بأرضين شَتَّى لَا مزارا وَلَا قربا) (يفجعنا إِمَّا بعاد مبرح ... وَإِمَّا أُمُور باعثات لنا كربا) وَله أَيْضا (لقد هيج النيرَان يَا أم مَالك ... بتدمير ذكرى ساعدتها المدامع)

(عَشِيَّة لَا أَرْجُو لقاءك عِنْدهَا ... وَلَا أَنا إِن يدنو مَعَ اللَّيْل طامع) وَله أَيْضا (حننت إِلَى الْبَرْق الْيَمَانِيّ وَإِنَّمَا ... نعالج شوقا مَا هُنَالك هانيا) (فيا رَاكِبًا يطوي الْبِلَاد تحملن ... تحيتنا إِن كنت تلجأ لاقيا) (ليالينا بالجزع جزع محجر ... سقى الله يَا فيحاء تِلْكَ اللياليا) (وَمَا ضرّ صحبي وَقْفَة بمحجر ... أحيي بهَا تِلْكَ الرسوم البواليا) وَله أَيْضا (خليلي من نجد فَإِن بنجدهم ... مصيفاً لبيت العامري ومربعا) (الا رجعا عَنْهَا الحَدِيث فإنني ... لأغبط من ليلى الحَدِيث المرجعا) (عَزِيز علينا يَا ابْنه الْقَوْم أننا ... غَرِيبَانِ شَتَّى لَا نطيق التجمعا) (فريق هوى منا يمَان ومشئم ... يحاول يأسا أَو يحاول مطمعا) (كأنا خلقنَا للنوى وكأنما ... حرَام على الْأَيَّام أَن تتجمعا)

فارغة

فارغة

فارغة

فارغة

فارغة

فارغة

فارغة

الأديب أبو جعفر بن النبي

(الأديب أَبُو جَعْفَر بن النَّبِي) رَافع راية القريض وَصَاحب آيَة التَّصْرِيح فِيهِ والتعريض أَقَامَ شرائعه وَأظْهر بدائعه إِذا نظم أزرى بنظم الْعُقُود واتى بأحن من رقم البرود وَكَانَ أليف غلْمَان وحليف كفر لَا إِيمَان وَمَا نطق متشرعاً وَلَا رَمق متورعاً وَلَا أعتقد حشرا وَلَا صدق بعثا وَلَا نشرا تنسك مَجْنُونا وفتكاً باسم التقى وَقد هتكه هتكاً لَا يُبَالِي كَيفَ ذهب وَلَا بِمَا تمذهب، وَكَانَت لَهُ أهاجي جرع بهَا صابا

وَدرع مِنْهَا أوصابا وَقد أثبت لَهُ مَا يرتشف ريقا وَيشْرب تَحْقِيقا فَمن ذَلِك قَوْله يتغزل (من لي بغرة فاتن يختال فِي ... حلل الْجمال إِذا بدا وحليه) (لَو شمت فيومضح النَّهَار شعاعها ... مَا عَاد جنح اللَّيْل بعد مضيه) (شَرقَتْ لآلي الْحسن حَتَّى خلصت ... ذهبيه فِي الخد من فضيه) (فِي صفحتيه من الْجمال أزاهر ... غذيت بوسمي الحيا ووليه) (سلت محاسنه لقتل محبه ... من سحر عَيْنَيْهِ حسام سميه) وَله فِيهِ (وَكَيف لَا يزْدَاد قلبِي ... من جوى الشوق خبالا) (وَإِذا قلت عَليّ ... بهر النَّاس جمالا)

(هُوَ كالغصن وكالبدر ... قواما واعتدالا) (أشرق الْبَدْر كمالا ... وانثنى الْغُصْن اختيالا) ا (إِن من رام سلوي ... عَنهُ قد رام محالا) (لست أسلو عَن هَوَاهُ ... كَانَ رشدا أَو ضلالا) (قل لمن قصر فِيهِ ... عذل نَفسِي أَو أطالا) (دون أَن تدْرك هَذَا ... تسلب الْأُفق الهلالا) وَكنت بميروقة وَقد حلهَا متسما بِالْعبَادَة وَهُوَ أسرى إِلَى الْفُجُور من خيال أبي عبَادَة وَقد لبس أسمالا وَأنس النَّاس مِنْهُ أقوالا لَا أفعالا سُجُوده هجود واقراره بِاللَّه جحود وَكَانَت لَهُ رابطة لم يكن للوازمها مرتبطا وَلَا بسكناها مغتبطا سَمَّاهَا بالعقيق وسمى فَتى كَانَ يعشقه بالحمى وَكَانَ لايتصرف إِلَّا فِي صِفَاته وَلَا يقف إِلَّا بعرفاته وَلَا يؤرقه إِلَّا جواه وَلَا يشوقه إِلَّا هَوَاهُ فَدخلت عَلَيْهِ يَوْمًا لأزوره وَأرى زوره فَإِذا أَنا بِأحد دَعَاهُ محبوبه ورواة

تَشْبِيه قَالَ لَهُ كنت البارحة بحماه وَذكر لَهُ خَبرا ورى بِهِ عني وعماه فَقَالَ (تنفس بالحمى مطلول أَرض ... فأودع نشره نشرا شمالا) (فصبحت الْعُيُون إِلَيّ كسلى ... تجرر فِيهِ أردانا خضالا) (أَقُول وَقد شممت الترب مسكا ... بنفحتها يَمِينا أَو شمالا) (نسيم جَاءَ يبْعَث مِنْك طيبا ... ويشكوا من محبتك اعتلالا) وَلما تقرر عِنْد نَاصِر الدولة من أمره مَا تقرر وَتردد على سَمعه انتهاكه وتكرر أخرجه من بَلَده ونفاه وطمس رسم فسوقه وعفاه فأقلع إِلَى الْمشرق وَهُوَ جَار فَلَمَّا صَار من ميروقة على ثَلَاث مجار نشات لَهُ ريح صرفته عَن وجهته إِلَى فقد مهجته فَلَمَّا لحق بميروقة أَرَادَ نَاصِر الدولة استباحته وابراء الدّين مِنْهُ وإراحته

ثمَّ آثر صفحة وأخمد ذَلِك الحنق ولفحه وَأقَام أَيَّامًا ينْتَظر ريحًا علها تزجيه ويستهديها لتخلصه وتنجيه وَفِي أثْنَاء بلوته لم يتجاسر على اتيانه أحد من أخوته فَقَالَ يخاطبهم (أحبتنا الألى عتبوا علينا ... فأقصرنا وَقد أزف الْوَدَاع) (لقد كُنْتُم لنا جذلاوأنسا ... فَهَل فِي الْعَيْش بعدكم انْتِفَاع) (أَقُول وَقد صدرنا بعد يَوْم ... أشوق بالسفينه أم نزاع) (إِذا طارت بِنَا حامت عَلَيْكُم ... كَأَن قُلُوبنَا فِيهَا شراع) وَله يتغزل (بني الْعَرَب الصميم إِلَّا رعيتم ... مآثركم بآثار السماح) (رفعتم نَاركُمْ فعشا إِلَيْهَا ... بوهن فَارس الْحَيّ الوقاح)

(فَهَل فِي الْقَعْب فضل تنضحوه ... بِهِ من مَحْض ألبان اللقَاح) (لَعَلَّ الرُّسُل شابته الثنايا ... بشهد من ندى نور الأقاح) وَله أَيْضا (وكأنما رشأ الْحمى لما بدا ... لَك فِي مضلعه الْحَدِيد الْمعلم) (غضب الْغَمَام قسية فأراكها ... من حسن معطفه قويم الأسهم) وَله أَيْضا (نظرت إِلَيْهِ فاتقاني بمقلة ... ترد إِلَى نحري صُدُور رماح) (حميت الجفون النّوم يَا رشأ الْحمى ... وأظلمت أيامي وَأَنت صباحي) وَله أَيْضا (قَالُوا تصيب طيور الجو أسهمه ... إِذا رَمَاهَا فَقُلْنَا عندنَا الْخَبَر) (تعلمت قوسها من قَوس حَاجِبه ... وأيد السهْم من ألحاظه الْحور) (يروح فِي بردة كالنقس حالكة ... كَمَا أَضَاء بجنح اللَّيْلَة الْقَمَر) (وَرُبمَا راق فِي خضراء مورقة ... كَمَا تفتح فِي أوراقه الزهر)

الأديب أَبُو الْحسن بن لِسَان) شَاعِر سمح متقلد بِالْإِحْسَانِ متشح أم الْمُلُوك والرؤساء ويمم تِلْكَ الْعِزَّة القعساء فانتجع مواقع خَيرهمْ واقتطع مَا شَاءَ من ميرهم وتمادت أَيَّامه إِلَى هَذَا الأوان فجالت بِهِ فِي ميدان الهوان فكسد نفَاقه وارتدت آفاقه وتوالى عَلَيْهِ حرمانه وإخفاقه وأدركته وَقد حنته سنونه وانتظرته منونهومحاسنها كعهدها فِي الأتقاد وَبعدهَا من الانتقاد وَقد أثبت لَهُ مَا يعذب جنى وقطافا ويستعذب استنزالا واستلطافا فَمن ذَلِك قَوْله يستنجد الْأَمِير الْأَجَل أَبَا إِسْحَاق ابْن أَمِير الْمُسلمين (قل للأمير ابْن الْأَمِير بل الَّذِي ... أبدا بِهِ فِي المكرمات وَفِي الندى) (والمجتنى بالرزق وَهِي بنفسج ... ورد الْجراح مضعفا ومنضدا)

(جاءتك آمال العفاة ظوامئا ... فَاجْعَلْ لَهَا من مَاء جودك موردا) (وانثر على المداح سبيك إِنَّهُم ... نثروا المدائح لؤلؤا وزبرجدا) (فَالنَّاس إِن ظلمُوا فَأَنت هُوَ الْحمى ... وَالنَّاس إِن ضلوا فَأَنت هُوَ الْهدى) أَخْبرنِي وَزِير السُّلْطَان أَن هَذِه الْقطعَة لما ارْتَفَعت اعتنت بجملة الشُّعَرَاء وشفعت فأنجز لَهُم الْمَوْعُود وأورق لَهُم ذَلِك الْعود وَكثر اللَّغط فِي تعاظيمها واستجادة نظيمها وَحصل لَهُ بهَا ذكر وانصقل لَهُ بِسَبَبِهَا فكر وَله من قِطْعَة يصف بهَا سَيْفا (كل نهر توقدت شفرتاه ... كاتقاد الشهَاب فِي الظلماء) (فَهُوَ مَاء قد ركبت فَوق نَار ... أَو كنار قد ركبت فَوق مَاء) وَكتب الي معزيا عَن والدتي والى الله تَعَالَى عَلَيْهَا الرَّحْمَة (على مثله من مصاب وَجب ... على من أضيب بِهِ الْمُنْتَخب)

(وقلب فروق وخلب خفوق ... وَنَفس تشب وهم نصب) (فقد خَشَعت للتقى هضبة ... ذوائبها فِي صميم الْعَرَب) (من الجاعلات محاريبها ... هوادجها أبدا والقتب) (من القائمات بِظِل الدجى ... وَلَا من تسامر إِلَّا الشهب) (فكم رَكْعَة أَثَرهَا فِي الدجى ... تناجي بهَا رَبهَا من كثب) (وَكم سكبت فِي آوان السُّجُود ... مدامع كالغيث لما انسكب) (وَقد خلفت ولدا باسلا ... فصيحا إِذا مَا قرا أَو كتب) (تفل السيوف بأقلامه ... وَيكسر صم القنا بالقصب) وَكَانَ الْقَائِد أَبُو عَمْرو عُثْمَان بن يحيى بن إِبْرَاهِيم أعزه الله أجل من جال فِي خلد واستطال على جلد رشأ يحيى الصب باحتشامه وَيسْتَرد الْبَدْر بلثامه ويزري بالغصن تثنيه ويثمر الْحسن لَو دنت قطوفه لمجتنيه مَعَ لوذعية تخالها جريالا وسجية يختال فِيهَا الْفضل اختيالا وَكَانَ قد بعد أنسنا بحمص

وانتصى من تِلْكَ القمص وَكَانَ بثغر الأشبونة أدام الله حراستها فسده وَلم ينفرج لنا من الْأنس بعده مَا يسد مسده إِلَى أَن صدر فأسرع إِلَيْنَا وابتدر فالتقينا وبتناها لَيْلَة نَام عَنْهَا الدَّهْر وغفل وَقَامَ لنا بِمَا شِئْنَا فِيهَا وتكفل فَبينا نَحن نفض ختامها وننفض عَنَّا غُبَار الوحشة وقتامها إِذْ أَنا بِابْن لِسَان هَذَا وَقد دخل أُذُنه علينا فأمرناه بالنزول والتقينا بترحيب وأنزلناه بمَكَان من المسرة رحيب وسقيناه صغَارًا وكبارا وأرينا إعظاما وإكبارا فَلَمَّا شرب طرب وَكلما كرعها التحف السلوة وتدرعها وَمَا زَالَ يشرب أقداحا وينشد فِينَا أمداحا ويفدي بِنَفسِهِ ويستهدي الاستزادة من أنسه فهتكنا الظلام بِمَا أهداه من البديع واجتلينا محاسنه كالصريع وانصلت ليلته عَن أتم مَسَرَّة وأعم مبرة وارتحل عُثْمَان أعزه الله تَعَالَى إِلَى ثغره وَأقَام بُرْهَة من دهره فمشيت بهَا إِلَيْهِ مجددا عهدا ومتضلعا من مؤانسته شَهدا فَكتب ابْن لِسَان هَذِه الْقطعَة من قصيدة يذهب إِلَى

شكره ويجتهد فِي تَجْدِيد ذكره (مَا شام إِنْسَان إِنْسَان كعثمان ... وَلَا لبغيته من حسن إِحْسَان) (بدر السِّيَادَة يَبْدُو فِي مطالعه ... من المحاسن محفوفا بشهبان) (لَهُ التَّمام وَمَا بالأفق من قمر ... متمم دون أَن يرْمى بِنُقْصَان) (بِهِ الشبيبه تزهى من نضارتها ... كَمَا تساقط طل فَوق بُسْتَان) (مصفر الْحسن للأبصار ناصعة ... كَأَنَّهُ فضَّة شيبت بعقيان) (نبئت عَنهُ بأنباء إِذا نفحت ... تعطلت نفحات الْمسك والبان) (قَامَت عَلَيْهِ براهين تصدقها ... كالشكل قَامَ عَلَيْهِ كل برهَان) (قد زَادهَا ابْن عبيد الله من وضح ... مَا زَادَت الشَّمْس نور الْفجْر للراني) (بِاللَّه بلغه تسليمي إِذا بلغت ... تِلْكَ الركاب وَعجل غير ليان) (وليت أَنِّي لَو شاهدت أنسكما ... على كؤوس وطاسات وكيزان) (فألفظ الْكَلم المنثور بَيْنكُمَا ... كَأَنَّمَا هُوَ من در ومرجان) (لله دَرك يَا ذَا الخطتين لقد ... خططت بالمدح فِيهِ كل ديوَان) (كلاكما الْبَحْر فِي جود وَفِي كرم ... أَو الغمامة تقشيع لظمآن)

بيت شعر ونباهة وأبو بكر ممن تنبه خاطره للبدائع أي انتباهة وله أدب باهر ونظم كما سفرت أزاهر وقد أثبت له جمالا يبلغ آمالا فمن ذلك قوله وقد اجتمعنا ليلة لم يضرب لها وعد ولم يغرب عنها سعد وهو قعدي قد شب عن طوق الأنس في الندي وما قال خالي عمرو ولا عدي

(إِن كَانَ فَارس هيجاء ومعترك ... فَأَنت فَارس إفصاح وتبيان) (فاذكر أَبَا نصر الْمَعْمُور منزله ... بالرفد مَا شِئْت مَا مثنى ووحدان) (قصائدا لأخي ود وَإِن نزحت ... بك الركاب إِلَى اقصى خُرَاسَان) (الأديب ابو بكر عبد الْمُعْطِي بن مُحَمَّد بن الْمعِين) بَيت شعر ونباهة وَأَبُو بكر مِمَّن تنبه خاطره للبدائع أَي انتباهة وَله أدب باهر ونظم كَمَا سفرت أزاهر وَقد أثبت لَهُ جمالا يبلغ آمالا فَمن ذَلِك قَوْله وَقد اجْتَمَعنَا لَيْلَة لم يضْرب لَهَا وعد وَلم يغرب عَنْهَا سعد وَهُوَ قعدي قد شب عَن طوق الْأنس فِي الندي وَمَا قَالَ خَالِي عَمْرو وَلَا عدي والكهولة قد قَبضته وأقعدته عَن ذَلِك وَمَا أنهضته (إِمَام النثر والمنظوم فتح ... جَمِيع النَّاس ليل وَهُوَ صبح) (لَهُ قلم جليل لَا يجارى ... يقر يفضله سيف ورمح)

(يباري المزن مَا سحت سماحا ... وَإِن شحت فَلَيْسَ لَدَيْهِ شح) وَكَانَ مرتسما فِي عَسْكَر قرطبة وَكَانَ ابْن سراج يَأْتِي بِكُل مَا يَبْغِي خيفة من لِسَانه ومحافظة على إحسانه فَلَمَّا خرج إِلَى أقليش خرج مَعَه وَجعل يُسَايِر من شيعَة فَلَمَّا حصلوا بفحص سرادق وَهُوَ مَوضِع توديع المفارق للمفارق قرب مِنْهُ أَبُو الْحُسَيْن بن سراج لوداعه وأنشده فِي تفرق الشمل وانصداعه (هم رحلوا عَنَّا لأمر لَهُم عَنَّا ... فَمَا أحد مِنْهُم على أحد حنا) (وَمَا رحلوا حَتَّى استقادوا نفوسنا ... كَأَنَّهُمْ كَانُوا أَحَق بهَا منا) (فيا سَاكِني نجد لتبعد داركم ... ظننا بكم ظنا فأخلفتم الظنا) (غدرتم وَلم أغدر وخنتم وَلم أخن ... وقلتم وَلم أَعتب وجرتم وَمَا جرنا) (وأقسمتم أَن لَا تخونون فِي الْهوى ... فقد وذمام الْحبّ خنتم وَمَا خنا) (ترى تجمع الْأَيَّام بيني وَبَيْنكُم ... ويجمعنا دهر نعود كَمَا كُنَّا) فَلَمَّا استتم إنشاده لحق بالسلطان وَاعْتذر إِلَيْهِ بمريض خَلفه وَهُوَ يخَاف تلفه فَأذن لَهُ بالانصراف وَكتب إِلَى ابي الْحُسَيْن بن سراج

(أما والهدايا مَا رحلنا وَلَا حلنا ... وَإِن عَن من دون الترحل مَا عَنَّا) (تركنَا ثَوَاب الْغَزْو وَالْقَصْد للعدا ... على مضض منا وعدنا كَمَا كُنَّا) (وَلَيْسَ لنا عَنْكُم على الْبَين سلوة ... وَإِن كَانَ أَنْتُم عنْدكُمْ سلوة عَنَّا) وجمعتنا عَشِيَّة بربض الزجالي بقرطبة ومعنا لمه من الأخوان وَهُوَ فِي جُمْلَتهمْ مناهض لأعيانهم وجلتهم بِفضل أدبه وَكَثْرَة نسبه فَجعل يرتجل ويروي وينثر محَاسِن الْآدَاب ويطوي ويمتعنا بِتِلْكَ الْأَخْبَار ويقطعنا مِنْهَا جَانب اعْتِبَار ويطلعنا على إقبال الْأَيَّام وعَلى الإدبار ثمَّ قَالَ (أيا ابْن عبيد الله يَا ابْن الأكارم ... لقد بخلت يمناك صوب الغمائم) (لَك الْقَلَم الْأَعْلَى الَّذِي عطل القنا ... وفل ظبات المرهفات الصوارم) (وأخلاقك الزهر الأزاهر بالربى ... ترف بشؤبوب الغيوث السواجم) (بقيت لتشييد المكارم والعلى ... تظاهرها بالسالف المتقادم) وَاجْتمعَ عِنْد أَبِيه لمة من أهل الْأَدَب وَذَوي الْمنَازل والرتب فِي عَشِيَّة غيم أعقب مَطَرا وَخط فِيهِ الْبَرْق أسطرا وَالْبرد يتساقط كدر

من نظام ويتراءى كثنايا غادة ذَات ابتسام وَهُوَ غُلَام مَا نضا برد شبابه وَلَا انتضى مرهف آدابه فَقَالَ معرضًا بهم ومتعرضا لتحَقّق أدبهم (كَأَن الْهَوَاء غَدِير جمد ... بِحَيْثُ البروق تذيب الْبرد) (خيوط وَقد عقدت فِي الْهَوَاء ... وراحة ريح تحل العقد) وَشرب فِي دَار ابْن الأعلم فِي يَوْم لم ير الدَّهْر فِيهِ إساءة وليل نسخ نور أنسه مساءه وَمَعَهُمْ جملَة من الشُّعَرَاء وَجَمَاعَة من الوزراء مِنْهُم أَبنَاء القبطرنة فَوَقع بَينهم عتاب وتعذال وامتهان فِي ميدان المشاجرة وابتذال آل بِهِ إِلَى تَجْرِيد السَّيْف وتكدير مَا صفا بذلك الْخيف فسكنوه بالاستنزال وثنوه عَن ذَلِك النزال ووالوا الكؤوس فِي وداده وَكفوا بذلك بعض احتداده حَتَّى مَالَتْ بِهِ نشوته وحالت بَينه وَبَين حتفه سلوته فَقَالَ (قل للوزيرين أَنِّي مخلص لَهما ... فِي السِّرّ والجهر من عوديهما عودي) (وَشَاهد الصدْق لي مَا فِي ضميرها ... فَلَيْسَ يخلص ود غير مودود) وَحضر مَعَهم فِي مجْلِس سواهُ انْتَشَر بِهِ من المحاسن مَا كَانَ طواه فبنيا هم يَأْخُذُونَ بأطراف الْأَحَادِيث ويغدرون فِي تِلْكَ الدماثيث إِذْ قعد إِلَيْهِم رجل طَوِيل اللِّحْيَة قصير الادراك قَلِيل

التخلي والاتراك فَكل عاين سخفه فحاول وَصفه فَمَا وَافق أحدهم الْمَعْنى وَمَا كَانَ فِيهِ ممطر وَلَا مغنى فَقَالَ (ولحية فِي طولهَا ميل ... قصر عَن ادراكها الطول) وَقَالَ تهنئة بنيروز (هُوَ النيروز أمك للتهاني ... وللبشرى بمقتبل الزَّمَان) (فهناك الْمُهَيْمِن مَا حباه ... ويحبوه على ناء ودان) (فَإِن تَكُ سَابِقًا فِي كل فضل ... كَمَا سبق المبرز فِي الرِّهَان) (سبقت فَمَا تضاهى فِي سناء ... أشف بِهِ الشجاع على الجبان) (حللت من العلى أَعلَى مَحل ... تقاصر عَن علاهُ الفرقدان) (فَظَاهر بالمكارم والمعالي ... مُظَاهرَة المهند للسنان) (لهمت بِكُل مكرمَة وبر ... إِذا مَا هام غَيْرك بالغواني) (وسدت الْعَالمين نهى وعليا ... مذاعا فِي الاقاصي والاداني) (وحلما راجحا بهضاب رضوى ... وعزما مثل بارقة الْيَمَان) (وجودا فائضا فِي كل حِين ... إِذا ضن الحيا والمرزمان)

(ونثرا معجزا فِي كل فن ... ونظما غض من نظم الجمان) (فَمن عبد الحميد وَمن عَليّ ... وَمن سَالم أَو الْحسن بن هاني) (وَمن أَوْس بن حَارِثَة وَقس ... وَقيس وَابْنه والأحمران) (فدمت مهنأ فِي كل حِين ... عَزِيز الْجَار مألوف المغاني)

تمّ الْقسم الثَّالِث من كتاب مطمح الْأَنْفس ومسرح التأنس فِي مفاخر أهل الأندلس وبتمامه كمل الْكتاب بعون الله الْملك الْوَهَّاب فِي ثَالِث شهر ربيع الأول سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ على يَد كَاتبه عَليّ بن أَحْمد الدماصي اللَّهُمَّ أَغفر لَهُ وَلمن علمه ولوالديهما وَلكُل الْمُسلمين

§1/1