مضمار الحقائق وسر الخلائق

المَلِك المَنْصُور

بسم الله الرحمن الرحيم

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَبِه أستعين سنة خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة فِيهَا غلت الأسعار جدا بالعراق وَاشْتَدَّ الْمحل وَكثر الجدب وَكَانَت الغلات كَثِيرَة والحبوب مَوْجُودَة غير أَن النَّاس رفعوا أَيْديهم عَن البيع وَسبب ذَلِك أَن ظهير الدّين أَبَا بكر [مَنْصُور] بن الْعَطَّار صَاحب المخزن كَانَ قد تحكم فِي دولة الْخَلِيفَة تحكما زَائِدا وَاسْتولى على جَمِيع الْمُعَامَلَات الواسطية وَضمن الْبِلَاد سائرها وَمنع البيع من خَزَائِن الغلات والحبوب فاشتدت بغضته فِي قُلُوب النَّاس وخاصة أَرْبَاب دولة الْخَلِيفَة وَكَانُوا يَقُولُونَ سَبَب غلو الأسعار مَنعه لبيع الغلات وفيهَا كثر الوباء حَتَّى مَاتَ من الْخلق مَا لَا يُحْصى كَثْرَة

اخلافة الناصر لدين الله

وفيهَا بسطت يَد الشريف يَمِين الدّين الْهَاشِمِي مشرف الدِّيوَان الْعَزِيز فِي الدولة وَوَقعت المشاحنة بَينه وَبَين ظهير الدّين بن الْعَطَّار وفيهَا مرض المستضىء بِأَمْر الله وَاشْتَدَّ بِهِ الْمَرَض وَكَثُرت الأراجيف بِمَوْتِهِ وَلم يتَحَقَّق النَّاس ذَلِك وَكَانَت الْأَسْوَاق تغلق فِي أَكثر الْأَوْقَات لَا يَجْسُر أحد أَن يَبِيع وَيَشْتَرِي فَكَانَت وَفَاته أول لَيْلَة من ذِي الْقعدَة من السّنة وَكَانَت خِلَافَته تسع سِنِين وَسِتَّة أشهر وأحدا وَعشْرين يَوْمًا أَوْلَاده أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد النَّاصِر لدين الله وَأَبُو مَنْصُور وزيره رَئِيس الرؤساء (2 ا) خلَافَة النَّاصِر لدين الله أَمِير الْمُؤمنِينَ صلوَات الله عَلَيْهِ وَذكر مُخْتَصر من إيالته ومحاسن سيرته وَذكر مَا تجدّد فِي أَيَّامه للبيت الأيوبي من الفتوحات والغزوات وَغير ذَلِك وَالشَّام ومصر واليمن ذكرته مفصلا أختم بِهِ كتابي هَذَا الموسوم بِكِتَاب الْمِضْمَار وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَان وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل هُوَ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد النَّاصِر لدين الله أَمِير الْمُؤمنِينَ ثَبت الله

دَعوته بن الإِمَام أبي مُحَمَّد الْحسن المستضىء بِأَمْر الله بن الإِمَام أبي المظفر يُوسُف المستنجد بِاللَّه بن الإِمَام أبي عبد الله مُحَمَّد المقتفى لأمر الله بن الإِمَام أبي الْعَبَّاس أَحْمد المستظهر بِاللَّه بن الإِمَام أبي الْقَاسِم عبد الله المقتدى بِاللَّه بن مُحَمَّد ذخيرة الدّين وَلَيْسَ بِإِمَام بن الإِمَام أبي جَعْفَر عبد الله الْقَائِم بن الإِمَام أبي الْعَبَّاس أَحْمد الْقَادِر بِاللَّه بن الإِمَام جَعْفَر المقتدر ابْن الإِمَام أبي الْعَبَّاس المعتضد بن مُحَمَّد الْمُوفق وَلَيْسَ بِإِمَام بن الإِمَام أبي الْفضل جَعْفَر المتَوَكل بن الإِمَام أبي أسحق مُحَمَّد المعتصم بن هَارُون الرشيد بن مُحَمَّد الْمهْدي بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله ابْن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب بن هَاشم بُويِعَ لَهُ يَوْم الْأَحَد مستهل ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة صَبِيحَة الْيَوْم الْمَذْكُور وَتَوَلَّى عقد الْبيعَة ذُو الرياستين مجد الدّين أَبُو الْفضل هبة الله بن عَليّ بن هبة الله بن الصاحب أستاذ الدَّار وظهير الدّين أَبُو بكر مَنْصُور بن الْعَطَّار صَاحب المخزن وَحضر فِي الْبيعَة الْعلية ضِيَاء الدّين الشهرزوري أتفق ذَلِك أَوَان وُصُوله برسالة الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين وخطب لَهُ بِمَدِينَة السَّلَام بِبَغْدَاد وَنَثَرت الدَّنَانِير على المنابر بجوامعها وسيرت الْكتب مَعَ الرُّسُل إِلَى الْبِلَاد الإسلامية فَأرْسل صدر الدّين عبد الرَّحِيم بن إِسْمَعِيل ابْن إِسْمَعِيل

ابْن أبي سعد شيخ الشُّيُوخ النَّيْسَابُورِي إِلَى أتابك بهلوان مُحَمَّد ابْن أيلدكز بهمذان فَبَثَّ الدعْوَة الهادية فِي تِلْكَ الْبِلَاد من أصفهان وَجَمِيع بِلَاد خُرَاسَان وأذربيجان وسيرت رسل الْخلَافَة أَيْضا إِلَى الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب فَأَقَامَ الدعْوَة الهادية الإمامية فِي جَمِيع الْبِلَاد والثغور وَالشَّام والديار المصرية وَحضر شعراء الدِّيوَان الْعَزِيز على جاري الْعَادة لتهنئة مَوْلَانَا الإِمَام النَّاصِر لدين الله أَمِير الْمُؤمنِينَ عِنْد جُلُوسه فِي الْخلَافَة فِي ذِي الْقعدَة فَأَنْشد كل مِنْهُم كَلمته فَمن ذَلِك الْأَجَل أَمِين الدولة مُحَمَّد بن عبد الله سبط التعاويذي وَكَانَ من أفاضل الشُّعَرَاء المقدمين ذكرتها بِتَمَامِهَا لاستحسانها وَهِي (طَاف يسْعَى بهَا على الْجلاس ... كقضيب الأراكة المياس) (بدر تمّ غازلت من لحظه لَيْلَة ... نادمته غزال الكناس) (ذللته لي المدام فأمسى ... لين الْعَطف بعد طول شماس) (بَات يجلو عَليّ رَوْضَة حسن ... بت مِنْهَا مَا بَين ورد وآس) (أمزج الكأس من جناه وَكم ليله ... صد مزجت بالدمع كامي) (لَا يبت ذَلِك الحبيب بِمَا بت (م) أعاني من لوعة وأقاسي)

(قلقي من وشاحه وبقلبي ... مَا بخلخاله من الوسواس) (أَي برح لَو كَانَ لي مسعد فِيهِ ... وجرح لَو كَانَ لي مِنْهُ آسى) (من تناسى عهد الشَّبَاب فَإِنِّي ... لحميد من عَهده غير ناسي) (أخلق الدَّهْر جدتي وغدت منكوبة ... بعد مرّة أمراسى) (يَا نَهَار المشيب من لي وهيهات ... بلَيْل الشبيبة الديماسي) (حَال بيني وَبَين لهوى وإطرابي ... دهر أحَال صبغة رَأْسِي) (ورأي الغانيات شيبي فأعرضن ... وقلن الشَّبَاب خير لباسي) (كَيفَ لَا يفضل السوَاد وَقد أضحى ... شعارا على بني الْعَبَّاس) (أُمَنَاء الله الْكِرَام وَأهل الْجُود ... والحلم والتقى والباس) (عُلَمَاء الدّين الحنيف وأعلام ... الْهدى والضراغم الأشواس) (أيد الله دينه بجبال ... منهمو شمخ الْجبَال رواسي) (واصطفاهم من كل أغلب مشبوب ... الذراعين للعدي فراس)

(فهمو الآمرون بِالْعَدْلِ والحاكمون ... النَّاس بالقسطاس) (وَلَقَد زينت الْخلَافَة مِنْهُم ... بِإِمَام الْهدى أبي الْعَبَّاس) (ملك جلّ قدسه عَن مِثَال ... وتعالت آلاؤه عَن قِيَاس) (هاشمي لَهُ زئير ينسى ... الْأسود الزئير فِي الأخياس) (وسماح يُغني الْبِلَاد إِذا الأنواء ... ضنت بصوبة الرجاس) (جمع الْأَمْن فِي إيالته مَا ... بَين ذِئْب الغضا وظبي الكناس) (وعنى خاضعا لعزته كل ... أبي القياد صَعب المراس) (بَث فِي الأَرْض رأفة بدلت وحشه ... سارى الظلام بالإيناس) (غادرت جفوة اللَّيَالِي صفوا ... وألانت قلب الزَّمَان القاسي) (بيد النَّاصِر الإِمَام استجابت ... بعد مطل مِنْهَا وَطول شماس) (رد تدبيرها إِلَيْهِ فأضحى ... ملكهَا وَهُوَ ثَابت الأساس)

(يَا لَهَا بيعَة أَجدت من الْإِسْلَام ... بالي رسومه الأدراس) (ولى الله أمرهَا فَلهُ الْمِنَّة ... فِيهَا عَلَيْهِ لَا للنَّاس) (جمعتنَا على خَليفَة حق ... نبوي الأعراق والأغراس) (فِي مقَام ذلت لهيبته الْأَعْنَاق ... ذل النقاد للهرماس) (زَالَ فِيهِ الْحجاب عَن ملك عَار ... من الْعَار للتقى لِبَاس) (ورأينا برد النَّبِي على منْكب ... طود من الْأَئِمَّة رَأْسِي) (ماليا هَدْيه مَوَاقِف من نور ... جلال يضىء كالنبراس) (فَلهُ فِي الرّقاب عهد وَلَاء ... مُحكم العقد محصد الأمراس) (يَا مبيد العدى وَيَا طارد الْمحل ... نداه وَقَاتل الإفلاس) (حجَّة الله أَنْت وَالسَّبَب الْمَمْدُود ... مَا بَينه وَبَين النَّاس) (أَنْت أَحييت رمة الْعدْل والجود ... وأنشرتها من الأرماس) (جدت قبل السُّؤَال عفوا وكأي ... من يَد لَا تدر بالأبساس)

(وأرحت الزَّوْرَاء من جور مزور ... عَن الْخَيْر فَاجر مكاس) (أنفًا لِلْإِسْلَامِ مِنْهُ وَمن أشياعه ... عصبَة الْخَنَا الأرجاس) (رد فِي نَحره انتقامك مَا فو قه ... من سهامه الأنكاس) (دنست بُرْهَة بأفعاله الدُّنْيَا ... فطهرتها من الأدناس) (بك عاذت من شَرّ شَيْطَانه الوسواس ... فِيهَا بمكرة الخناس) (واشتكت داءها العضال فألفتك ... لأدوائها الطَّبِيب الآسي) (فابق للدّين ناصرا وارم بالإرغام ... جد الْأَعْدَاء والأتعاس) (واستمعها عذراء شَرط التهاني ... واقتراح الندمان والجلاس) (حملت من أُرِيح مدحك نشرا ... هِيَ مِنْهُ مسكية الأنفاس) (مدحا فِيك لي ستبقى على الدَّهْر ... بَقَاء التَّنْزِيل فِي الأطراس) (مَا أميطت راحه يراع وَمَا خطت ... يَمِين رقشا على قرطاس) وَبعد الْبيعَة الشَّرِيفَة بأيام برز الْأَمر الشريف ببسط يَد مجد الدّين ابْن الصاحب وَحكم فِي الدولة ونفذت أوامره فِي جَمِيع أَرْبَاب الدولة

ذكر وقعة ظهير الدين بن العطار وقتله

وَتقدم إِلَيْهِ بِبيع الغلات والحبوب على النَّاس فَفتح الخزائن وَأطلق البيع فِيهَا وَأمر أَن يعْطى الأجناد أَرْزَاقهم من الْحِنْطَة وَالشعِير والحبوب فَفعل ذَلِك فرخصت الأسعار وَكَثُرت الْخيرَات وَفرج الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَن النَّاس مَا كَانُوا فِيهِ من الْقَحْط وَالْمحل وَشدَّة الْجُوع ببركة قدومه وإيالته الميمونة وأنفذ إِلَى الْبِلَاد الواسطية السفن الْكِبَار مَمْلُوءَة طَعَاما من سَائِر الْحُبُوب وتلا ذَلِك تَوَاتر الأمطار والمدود وَكَثْرَة الخصب وَانْقَضَت سنو الجدب عِنْد ولَايَته وَكَانَ النَّاس يسمون أَيَّامه العيسوبية لذهاب مَا كَانُوا فِيهِ من شدَّة الْقَحْط بمدا أَيَّامه الزاهرة زيدت شرفا ذكر وقْعَة ظهير الدّين بن الْعَطَّار وَقَتله وَكَانَ هَلَاكه يَوْم الْخَامِس من ذِي الْقعدَة ذكر السَّبَب فِي ذَلِك كَانَ خَالص الْخَادِم من خَواص الحضرة الشَّرِيفَة فبرز الْأَمر العالي أَن يُوقع لَهُ بلحف الْجَبَل والبندنجين وَمَا يجْرِي مَعهَا فنفذ أستاذ الدَّار أَبُو الْفضل بن الصاحب إِلَيْهِ يَأْمُرهُ بالتوقيع لخالص الْخَادِم كَمَا أَمر أَمِير

الْمُؤمنِينَ فاستعظم ذَلِك وَلم يمتثل المراسم النَّبَوِيَّة فَكَانَ فِي جَوَاب ذَلِك التَّقَدُّم بِالْقَبْضِ على ابْن الْعَطَّار وَنَقله إِلَى التَّاج الْعَتِيق فعذب بأنواع الْعَذَاب وَمَات بعد أَيَّام فَحمل لَيْلًا إِلَى دَار أُخْته فَجَعَلته فِي تَابُوت وأرادت إِخْرَاجه خُفْيَة لِئَلَّا يعلم بِهِ أحد فَجعل أستاذ الدَّار على إِخْرَاجه عينا من حَيْثُ لَا يعلم بِهِ وَنبهَ الأعوام على إِخْرَاجه وأوقف جماعته على بَاب النوبي ينتظرون خُرُوجه وَكَانَ النَّاس يبغضونه لما كَانَ يَبْدُو مِنْهُ فِي سنى الْمحل من منع البيع الْعَام على النَّاس والضمانات الْجَارِيَة فِي أَيَّامه وَمَا كَانَ يجْرِي مِنْهُ فِي حق الأجناد والمماليك فَلَمَّا خرج تَابُوت ابْن الْعَطَّار وَلَيْسَ وَرَاءه أحد يؤبه لَهُ وَوصل خَارج بَاب النوبى من دَار الْخَلِيفَة أَشَارَ بعض من كَانَ الْعين على خُرُوجه إِلَى الْعَوام والمماليك هَذَا تَابُوت ابْن الْعَطَّار فتكاثرت الْعَوام على أَخذه وَألقى من رُءُوس الحمالين وَكسر وَأخرج من التابوت ومزقت أَكْفَانه وربطوا فِي إِحْدَى رجلَيْهِ حبلا من لِيف وَجعلُوا يسحبونه فِي الْأَسْوَاق والدروب بِمَدِينَة السَّلَام وَكَانُوا ينادون عَلَيْهِ وَفعل بِهِ كَمَا فعل بِابْن القرايا المشد حَتَّى إِن من النَّاس من قطع خِنْصره وَأذنه وَكَانَ ذَلِك فِي الْخَامِس عشر من ذِي الْقعدَة كَمَا ذكرنَا استدعاء فَخر الدولة بن الْمطلب بَين يَدي النَّاصِر لدين الله ليستوزر وَذَلِكَ فِي الشَّهْر الْمَذْكُور من السّنة كَانَ فَخر الدولة بن الْمطلب رجلا عَالما زاهدا ورعا كثير الْمَعْرُوف مَشْهُورا بالصلاح والتقى فَلَمَّا كَانَت الْأَيَّام المستنجدية سقى الله عهودها

الرضْوَان دَعَاهُ ليستوزره فَامْتنعَ وَطلب الْإِقَالَة فَلم يفعل مَا امْر وقصته مَشْهُورَة بذلك فَلَمَّا كَانَت الْأَيَّام المستضية طُولِبَ بِمَا طُولِبَ بِهِ من قبل فَسَأَلَ أَن لَا يُكَلف ذَلِك فَلَمَّا أنعم الله تَعَالَى على عباده بِالْأَيَّامِ الناصرة لدين الله أَمر بإحضار فَخر الدولة بن الْمطلب فَحَضَرَ بَين يَدي السدة الشَّرِيفَة النَّبَوِيَّة وخدم فَلَمَّا اسْتَقل بِهِ الْمَكَان تقدم إِلَيْهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ بِأَن يكون لَهُ وزيرا ومشيرا لمكانته من الدّين وَالْعلم وَالْبَيْت فَلَمَّا سمع كَلَامه قبل الأَرْض وخدم وَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَمْلُوك رجل شيخ وَمَا يجوز أَن يفتح لَهُ كتابا بعد الْعَصْر فَقَالَ لَهُ بهاء الدّين صندل الْخَادِم أجب أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ لَيْسَ لَك فِي إجَابَتِي مصلحَة لأننى لَو قبلت هَذِه الْولَايَة مَا كنت أقرك على مَا بِيَدِك من الإقطاع والولايات بل كنت أجريك على قَاعِدَة بِلَال وأزيل عَنْك هَذِه الثِّيَاب وأمنعك من الرّكُوب وَبَين يَديك سيوف مَشْهُورَة فَضَحِك أَمِير الْمُؤمنِينَ من قَوْله وَقَالَ لَهُ تُشِير عَليّ بِمن يصلح فَقَالَ هَذَا أصلح من عنْدك وَأَشَارَ إِلَى مجد الدّين بن الصاحب وَهُوَ إِذْ ذَاك أستاذ الدَّار العزيزة فَضَاقَ صدر أستاذ الدَّار من قَول فَخر الدولة وَلم يُعجبهُ ذَلِك فَقَالَ لَهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ لم لَا يرضيك قَوْله وَهِي أرفع دَرَجَة فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا أبيع حضوري فِي هَذِه الْخدمَة بالدنيا وَمَا فِيهَا وَسَأَلَ أَن يقر على خدمته وَهِي أستاذية الدَّار فأقره على ذَلِك وَكَانَ أعظم النَّاس مكانة عِنْده إِلَى أَن قتل

ثمَّ قَالَ لَهُ شَرّ علينا بِمن نوليه فَقَالَ فَخر الدولة إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن يول سُلَيْمَان بن جاووش نَائِب وزارة فرأيه أعلا فأحضر سُلَيْمَان بن جاووش وَكَانَ يلقب بحسام الدّين إِلَى التَّاج الشريف وَمن كَانَ يخْتَص بالديوان الْعَزِيز من أَرْبَاب الدولة والأجناد ليقضوا شهر المستضئ بِاللَّه رَحْمَة الله عَلَيْهِ ورضوانه وَكَانَ على حسام الدّين بن جاووش قلنسوة فَخلع عَلَيْهِ جُبَّة وعمامة بَيْضَاء وخلع على أَرْبَاب الدولة كَافَّة فِي ذَلِك الْيَوْم وَركب ورتب نَائِب وزارة فبقى يَنُوب فِي الدِّيوَان الْعَزِيز شهرا فَوجدَ عَلَيْهِ أستاذ الدَّار ابْن الصاحب لكَونه كَانَ يقف فِي تقدماته فَعَزله ورتب عوضه ابْن البُخَارِيّ وَذَلِكَ فِي محرم سنة سِتّ وَسبعين وسنذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى وفيهَا أقطع آل تنبه الشطرنجي واسطا وَأعْطى قيطرمش شحنكية بَغْدَاد أجمع وفيهَا صرف ابْن طَلْحَة من حجبة الْبَاب الشريف ورتب عوضه قوام الدّين بن زِيَادَة وفيهَا رتب ابْن شبيب صَاحب مخزن ورتب زين الدّين مشرف مخزن أَيْضا ورتب ابْن جَعْفَر صَاحب بَاب الْمَرَاتِب وَأقر أَبُو عَليّ بن الْوَكِيل

ذكر ما تجدد للسلطان

على عمله صَاحب ديوَان وَأقر أَمِين الدّين مهيمنا على إشراف الدِّيوَان الْعَزِيز وفيهَا خلع التشريفات الجميلة على آل تنبه الشطرنجي وقيطرمش شحنة بَغْدَاد وَسيف الدّين طغلو شحنة الْخَواص وميزوا على جمَاعَة المماليك والأمراء ذكر مَا تجدّد للسُّلْطَان بِالشَّام ومصر فِي هَذِه السّنة من الْأَحْوَال والغزوات وَدخلت هَذِه السّنة وَالسُّلْطَان نَازل على تل القَاضِي ببانياس وَعَسْكَره الْمَنْصُور فِي كل يَوْم يُصْبِحُونَ بلد الْعَدو ويشنون الغارات وينقلون مَا يجدونه من الغلات وَكَانَ الْعَام كثير الجدب حَتَّى لم يبْق بِتِلْكَ الْبِلَاد لَهُم إِلَّا الْيَسِير وَكَانَ الْمُقدم على الْعَسْكَر عز الدّين فرخشاه بن شاهناه بن أَيُّوب ابْن أخي السُّلْطَان وَكَانَ مخيمه على بعد من السرادق السلطاني قدامه فجَاء إِلَى السُّلْطَان وَمَعَهُ جمَاعَة من الْأُمَرَاء وَقد أَجمعُوا رَأْيهمْ على أَن يُغيرُوا على

ذكر وقعة مرج عيون

بلد الْعَدو فِي ليلتهم بكرَة غدهم ويرحلون عَن ذَلِك الْمَكَان فصوب لَهُم السُّلْطَان رَأْيهمْ وَقَالَ نعم الرَّأْي الَّذِي رَأَيْتُمُوهُ والرأي أَن تنهضوا فِي هَذِه اللَّيْلَة وتزمعوا على دُخُول بلد الفرنج فتجمعون مَا تخلف فِي موَاضعهَا المتفرقة وَإِذا عدتم سَالِمين إِن شَاءَ الله تَعَالَى رحلنا صوب الْبِقَاع ذكر وقْعَة مرج عُيُون وَكَانَت يَوْم الْأَحَد ثامن محرم وَلما نَهَضَ المسملون لَيْلَة الْيَوْم الْمَذْكُور أصبح السُّلْطَان بكرَة يَوْمه رَاكِبًا وَمَعَهُ صمصام الدّين أجك وَإِلَى بانياس فِي موكب خَفِيف وَجمع كثير ووقف على الطَّرِيق فَوجدَ فِي تِلْكَ الغياض سروحا من الأبقار والأغنام جافلة وقصده فِي تِلْكَ الْحَال رَاع فَأخْبرهُ أَنه شَاهد عَسْكَر الْكَافِر قد عبروا بِالْقربِ على قصد العلاقة فاستبعد السُّلْطَان ذَلِك وَقَالَ لَو كَانَ ذَلِك صَحِيحا لجانا الجاسوس فَبينا هُوَ كَذَلِك إِذْ جَاءَهُ من أَوَائِل الْعَسْكَر من أخبرهُ بِصِحَّة الْخَبَر فَرجع إِلَى المخيم وَقت الظّهْر وَكَانَ فِي اسطبله خُيُول شَتَّى عتاق وَغير عتاق فبذلها لخواصه وَقَالَ اركبوا وأدركو الْعَدو وَصَاح بعسكره وحلقته فَسَار فيهمَا موفقا بالنصر فَأَشْرَف على الْقَوْم وهم فِي ألف رمح وَعشرَة آلَاف

مقَاتل مَا بَين فَارس وراجل وَكَانَ فِي جُمْلَتهمْ بادين بن بارزان فبرز فِي مقدمتهم وحملوا حَملَة وَاحِدَة كالجبل الْعَظِيم وكادوا أَن يظفروا وَطعن فِيهَا صمصام الدّين أجك فَثَبت السُّلْطَان أمامهم وردهم إِلَى ورائهم فَوَلوا الأدبار منهزمين فركبهم السَّيْف فأسروا من كَانَ لَهُ أجل حُصَيْن وَدخل اللَّيْل وَنَجَا ملكهم هَارِبا فَذكر أَنه حمله أحدهم على ظَهره وسرى بِهِ تَحت اللَّيْل وَرجع السُّلْطَان إِلَى مخيمه وَقد مضى من اللَّيْل أَكْثَره ثمَّ أذن بِتَقْدِيم الْأُسَارَى فَأول من قدم مِنْهُم بادين بن بارزان ثمَّ قدم أود مقدم الداوية الْكَبِير وَكَانَ مَشْهُورا شجاعا شَدِيد الْبَأْس وأحضر ابْن القومصية وأخو صَاحب جبيل وَكَانَ كثير النهوض إِلَى ثغور الْإِسْلَام وأحضر جمَاعَة من مقدميهم الأكابر وقيدوا بالقيود الثقال ثمَّ عرض المأسورين فَكَانُوا مِائَتَيْنِ ونيفا وَسبعين من الفرسان المقدمين سوى من أسره آسره وَكَانَ فِي خيمته وَلم يسمع بِهِ وَسوى من لم يذكر من الأتباع ثمَّ نقل الْأُسَارَى إِلَى دمشق فاعتقلوا فَأَما ابْن بارزان فَإِنَّهُ بعد سنة بذل فِي نَفسه مائَة وَخمسين

ذكر سبب غيبة والدي الملك المظفر

ألف دِينَار وَإِطْلَاق ألف أَسِير من الْمُسلمين فَكَانَ الْفَقِيه ضِيَاء الدّين عِيسَى مأسورا عِنْدهم من نوبَة الرملة فالتزم أَن يُؤَدِّي من قطيعته الْمَذْكُورَة القطيعة الَّتِي عرف بهَا فكاكه وَأما هُوَ ابْن القومصية فَإِنَّهُ افتكته أمه بِخَمْسَة وَخمسين ألف دِينَار صورية وَأما أود مقدم الداوية فَإِنَّهُ مَاتَ فِي سجنه فطلبت جيفته فَأَخَذُوهَا بِإِطْلَاق أَسِير وَطَالَ أسر البَاقِينَ فَمنهمْ من هلك فِي الْأسر وَمِنْهُم من خرج بقطيعة وأمان وَكَانَت لعز الدّين فرخشاه فِي هَذِه النّوبَة الْيَد الْبَيْضَاء وَالْبَلَاء الْمَذْكُور ذكر سَبَب غيبَة وَالِدي الْملك المظفر سقى الله عهوده الرضْوَان عَن هَذِه النّوبَة وَذَلِكَ أَن سُلْطَان الرّوم السلاجقة قلج أرسلان أرسل فِي طلب حصن رعبان يدعى أَنه من بِلَاده وَإِنَّمَا أَخذه مِنْهُ نور الدّين بِغَيْر أَمر

وَأَن وَلَده الْملك الصَّالح قد أنعم بِهِ عَلَيْهِ فَأبى ذَلِك الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين فَجهز قلج أرسلان عسكرا وَنزل على حصاره فندب السُّلْطَان الْملك المظفر إِلَى لقائهم بِجَمَاعَة يسيرَة وَكَانَ جُمْلَتهمْ ثَمَانِي مائَة فَارس وَكَانَ عَسْكَر قلج أرسلان نيفا وَعشْرين ألف فَارس مجتمعة على النهب والغارة فَسَار بِمن مَعَه من الْعدة الْيَسِيرَة الْمَذْكُورَة حَتَّى أشرف على عَسْكَر قلج أرسلان لَيْلًا وَقد تلاحق بِهِ من أَصْحَابه نَحْو من مِائَتَيْنِ وَالْبَاقُونَ فِي إثرهم لم يتَّفق اجْتِمَاعهم جملَة وَاحِدَة لِأَن طريقهم كَانَت وعرة لم يَسِيرُوا معظمها إِلَّا رجالة فَلَمَّا أشرف عَلَيْهِم ضربت كوساته وبوقاته فركض بِمن مَعَه وخالط الْقَوْم وَذَلِكَ فِي سوق الربض وَكَانَ لعسكر قلج أرسلان من فرسانهم ثَلَاثَة آلَاف فِي حِصَار الْحصن فحين وَقع الصَّالح تحادروا عَلَيْهِ وضايقوه وَمن مَعَه فَأَشَارَ إِلَى غُلَامه بِأَن يُعْطِيهِ قنطاريته فَنَاوَلَهُ إِيَّاهَا فَحمل عَلَيْهِم وَقَالَ إِنَّا الْملك المظفر ثمَّ طعن فَارِسًا فأرداه وَحمل أَصْحَابه فِي إثره فكسروا فُرْسَانًا فَلَمَّا نظر الْقَوْم إِلَى ذَلِك انْهَزمُوا من بَين يَدَيْهِ عَن آخِرهم وَوَقع الصَّالح بهم فَجعل يتبع بَعضهم بَعْضًا وَتركُوا خيامهم بِمَا فِيهَا من أثقالهم وَمِنْهُم من أَصَابَهُ بذلك واسر من مقدميهم بذلك جمَاعَة فَلَمَّا أصبح خلع عَلَيْهِم وَأعْطِي كل وَاحِد مِنْهُم فرسا يحملهُ وسير النجب من هُنَاكَ إِلَى السُّلْطَان والكتب تخبره بِمَا رزقه الله من النَّصْر وَالظفر بعسكر قلج أرسلان وَوَافَقَ ذَلِك مَا من الله تَعَالَى بِهِ على السُّلْطَان من ظفره

بالإفرنج فِي مرج عُيُون وسارت بذلك البشائر إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام وسيرت كَلِمَات الشُّعَرَاء إِلَيْهِ من أقاصي الْبِلَاد وأدانيها فَمن ذَلِك كلمة أَمِين الدولة أبي الْفَتْح مُحَمَّد بن عبد الله التعاويذي الْبَغْدَادِيّ وَهُوَ من شعراء الدِّيوَان الْعَزِيز بِمَدِينَة السَّلَام سَيرهَا إِلَيْهِ فِي السّنة الْمَذْكُورَة إِلَى دمشق وَهِي (إِن كَانَ دينك فِي الصبابة ديني ... فقف الْمطِي برملتي بيرين) (والثم ثرى لَو شارفت فِي هضبه ... أَيدي الركاب لثمته بجفوني) (وَأنْشد فُؤَادِي فِي الظباء معرضًا ... فبغير غزلان الصريم جنوني) (ونشيدتي بَين الْخيام وَإِنَّمَا ... غالطت عَنْهَا بالظباء الْعين) (لَوْلَا العدى لم أكن عَن ألحاظها ... وقدودها بحوازن وغصون) (لله مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ قبابهم ... يَوْم النَّوَى من لُؤْلُؤ مَكْنُون) (من كل تائهة على أترابها ... بالْحسنِ غانية عَن التحسين) (خود ترى قمر السَّمَاء إِذا بَدَت ... مَا بَين سالفة لَهَا وجبين) (غادين مَا لمعت بروق ثغورهم ... إِلَّا استهلت بالدموع شؤوني) (إِن ينكروا نفس الصِّبَا فَلِأَنَّهَا ... مرت بِزَفْرَةٍ قلبِي المحزون)

(وَإِذا الركائب فِي الحبال تلفتت ... فحنينها لتلفتي وحنيني) (يَا سلم إِن ضَاعَت عهودي عنْدكُمْ ... فَأَنا الَّذِي اسْتوْدعت غير أَمِين) (أَو عدت مغبونا فَمَا أَنا فِي الْهوى ... لكمو بِأول عاشق مغبون) (رفقا فقد عسف الْفِرَاق بِمُطلق ... العبرات فِي أسر الغرام رهين) (مَالِي وَوصل الغانيات أرومه ... وَلَقَد بخلن عَليّ بالماعون) (وعلام أَشْكُو والدماء مطاحة ... بلحاظهن إِذْ الْجمال ديوني) (هَيْهَات مَا للبيض فِي ود امْرِئ ... أرب وَقد أربي على الْخمسين) (وَمن البلية أَن تكون مطالبي ... جدوى بخيل أَو وَفَاء خؤون) (لَيْت الضنين على الْمُحب بوصله ... لقن السماحة من صَلَاح الدّين) (ملك إِذا علقت يَد بزمامه ... علقت بحيل فِي الْحفاظ متين) (قاد الْجِيَاد معاقلا وَإِن اكْتفى ... بمعاقل من رَأْيه وحصون) (وَأعد للأعداء كل مهند ... ومثقف ومضاعف موصون)

(سهرت جفون عداهُ خيفة ماجد ... خلقت صوارمه بِغَيْر جفون) (لَو أَن لليث الهزبر سطاه لم ... يلجأ إِلَى غَابَ لَهُ وعرين) (وَالْبَحْر لَو مزجت بِهِ أخلاقه ... لغدت مياه الْبَحْر غير أجون) (وَالْأَرْض لَو شيبت بِطيب ثناه لم ... تنْبت سوى الخيري والنسرين) (والدهر لَو أعداه حسن طباعه ... ماشين من أبنائه بضنين) (قسما لقد فضل ابْن أَيُّوب الحيا ... بسماح كف بالنضار هتون) (مخلوقة من سؤدد وندى وَقد ... خلق الْأَنَام سلالة من طين) (يَا من إِذا نزل الْوُفُود بِبَابِهِ ... نزلُوا بجم من نداه معِين) (أضحت دمشق وَقد حللت بجوها ... مأوى الطريد وموئل الْمِسْكِين) (وغدت بعدلك وَهِي أكْرم منزل ... تلقى الرّحال بِهِ وَخير قطين) (يثنى عَلَيْك المعدمون بهَا كَمَا ... تثنى الرياض على الساحب الجون) (لَك عفة فِي قدرَة وتواضع ... فِي عزة وشراسة فِي لين)

(قسمت يَمِينك فِي الورى الأرزاق والآجال ... بَين منى وَبَين منون) (وأريتنا بجميل صنعك مَا روى الراوون ... عَن أُمَم خلت وقرون) (وضمنت أَن تحيى لنا أيامهم ... بالمكرمات فَكنت خير ضمين) (كَاد الأعادي أَن يصيبك كيدها ... لَو لم تكدك برأيها المأفون) (تخفى عداوتها وَرَاء بشاشة ... فتشف عَن نظر لَهَا مشفون) (دفنت حبائل مكْرها فرددتها ... تذوي بغيظ صدورها المدفون) (وَعلمت مَا أخفوا كَأَن قُلُوبهم ... أفضت إِلَيْك بسرها المخزون) (كمنوا وَكم لَك من كمين سَعَادَة ... فِي الْغَيْب يظْهر من وَرَاء كمين) (فهوت نُجُوم سعودهم وَقضى لَهُم ... بالنحس طَائِر جدك الميمون) (فتمل دولتك الَّتِي حكمت لَهَا ... الأقدار بالتأييد والتمكين)

ذكر النزول على بيت الأحزان

وَمِنْهَا بعد أَبْيَات يذكر فِيهَا حَاله ويصف من كَلمته (وأقصد حمى ملك عَزِيز جَاره ... سامي الذؤابة شامخ الْعرنِين) (واهد الثَّنَاء إِلَى أغر فسيح أقطار ... المحامد بالثناء قمين) ذكر النُّزُول على بَيت الأحزان وَذَلِكَ فِي شهر ربيع الآخر من السّنة وَلما أحكم الفرنج خذلهم الله بِنَاء بَيت الأحزان فكر السُّلْطَان فِي نَفسه وَنَدم على مَا فرط فِي تَركهم فِي مبدأ الْأَمر فراسل الفرنج على أَن يهدموا الْحصن فَإِن ضَرَره يكون على الْإِسْلَام فَقَالُوا لَا سَبِيل إِلَى هَدمه فراجعهم على أَن يشرعوا فِي هَدمه وَإِلَّا سرت إِلَيْكُم بعساكر الْإِسْلَام فَلَمَّا تحققوا عزمه وَعَلمُوا أَن لَا بُد لَهُ من ذَلِك قَالُوا إِن كَانَ لَا بُد من ذَلِك فَأَعْطِنَا مَا غرمنا عَلَيْهِ من الْأَمْوَال فَإنَّا قد غرمنا عَلَيْهِ مَالا كَبِيرا فبذل لَهُم أَولا سِتِّينَ ألف فَلم يقبلُوا فَبلغ مَعَهم إِلَى أَن بذل لَهُم

مائَة ألف دِينَار فَلَمَّا سمعُوا ذَلِك داخلهم الطمع وَكَانَ سَبَب ذَلِك الداوية فَإِنَّهُم كَانُوا يمدون من بالحصن بالأموال والنفقات وَجَمِيع مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فَلَمَّا رأى السُّلْطَان ذَلِك جمع الْأُمَرَاء من أَصْحَابه وأولي الرَّأْي والمشورة وعرفهم مَا ذكره الفرنج من امتناعهم وطمعهم وَهل يزيدهم مَالا فَقَالُوا الصَّوَاب أَن تعطيهم رضاهم من المَال ويهدم الْحصن فَقَالَ لَهُم مَا أفعل شَيْئا وَلَا أبرم أمرا إِلَّا بمشاورة ابْن أخي الْملك المظفر عمر وَكَانَ المظفر فِي حماة قد شرع فِي إصْلَاح قلعتها وتحصينها فَأرْسل السُّلْطَان إِلَيْهِ جمَاعَة من الْأُمَرَاء إِلَى حماة ليحضروا عِنْده ويستنيروا بِهِ ويأخذوا رَأْيه ويعرفوه مَا يكون عَلَيْهِ الْعَمَل فَلَمَّا وصل المنفذون إِلَى حماة حَضَرُوا بَين يَدَيْهِ وسلموا غليه كتاب السُّلْطَان وشاوروه فِيمَا أرْسلُوا بِهِ فَقَالَ مَا آرى هَذَا رَأيا صَالحا ثمَّ كتب إِلَى السُّلْطَان كتابا يذكر فِيهِ إِن هَذَا الرَّأْي الَّذِي قد أزمعت عَلَيْهِ لَيْسَ بِشَيْء وَإِن الله تَعَالَى يَسْأَلك عَن إعطائهم هَذَا المَال وَأَنه قَادر على الْمسير إِلَيْهِم والرأي أَن نصرف هَذَا المَال إِلَى الأجناد ونرغبهم فِي الْجِهَاد وتسير بعساكرك وتنزل عَلَيْهِ وَالله تَعَالَى فِي معونتك ونصرتك ثمَّ خلع على الْجَمَاعَة الَّذين جَاءُوا إِلَيْهِ وَأمرهمْ بالسير إِلَى السُّلْطَان فَلَمَّا وصلوا إِلَيْهِ سلمُوا إِلَيْهِ الْكتاب وعرفوه مَا قَالَ لَهُم شفاها فَقَالَ هَذَا هُوَ الرَّأْي السديد ثمَّ أحضر الْأَمْوَال وأرسلها إِلَى سَائِر التركمان والأجناد فِي الْبِلَاد

وأنفذ التخوت وَالْخلْع والتشريفات وَالْخَيْل إِلَيْهِم حَتَّى جَاءُوا إِلَى سَائِر التركمان الَّذين هم غربي الْفُرَات وشرقيها وسلموا الْأَمْوَال إِلَيْهِم وَالْخلْع وَمَا عدا ذَلِك ورغبوهم فِي الْجِهَاد فسارعوا إِلَى أَمر السُّلْطَان وَجَاء مِنْهُم خلق كثير وَكتب إِلَى سَائِر الْأَطْرَاف والأمكنة فَاجْتمع عِنْده من الْأُمَرَاء والأجناد والتركمان أُلُوف كَثِيرَة وَسَار وَالِدي الْملك المظفر من حماة بجماعته مُتَوَجها إِلَى دمشق فَكَانَ وُصُوله إِلَيْهَا فِي أول يَوْم من شهر ربيع الآخر فسر السُّلْطَان بقدومه وَخرج لتلقيه وَأعد التركمان مَا احتاجوا إِلَيْهِ من الدَّقِيق وَغَيره وَجَمِيع مَا احتاجوا إِلَيْهِ ثمَّ أَمر النَّاس بالرحيل فَخرج فِي جَيش كالبحر الزاخر وَكَانَ خُرُوجه من دمشق يَوْم الْخَمِيس خَامِس شهر ربيع الآخر ونزوله على الْحصن يَوْم الثُّلَاثَاء حادي عشرَة قَرِيبا مِنْهُ وَكَانَ جَمِيع من حوله قد احتمى فِيهِ وغلقوا بَابه ثمَّ إِن السُّلْطَان ركب بكرَة إِلَى ضيَاع صفد وَكَانَت قلعة صفد يَوْمئِذٍ للداوية فَأمر بِقطع كرومها وَحمل مَا هُنَاكَ من الأخشاب لعمل المنجنيقات وَعَاد إِلَى المخيم بعد الظّهْر وَخرج بعد الْعَصْر وَجمع الْأُمَرَاء وعارض برأيهم رَأْيه فَقَالَ لَهُ عز الدّين جاولي الْأَسدي تَأذن لنا فِي الزَّحْف قبل الِاشْتِغَال بِنصب المجانيق حَتَّى نذوق قِتَالهمْ ونستعرض أَحْوَالهم فَرُبمَا تلوح لنا مِنْهُم فرْصَة فَقَالَ السُّلْطَان استخيروا الله عز وَجل وافعلوا مَا بدا لكم فَمشى النَّاس إِلَى الزَّحْف ودنوا من الباسورة

فتخاذل من كَانَ بهَا من الفرنج وانهزموا ودخلوا الْحصن وَأَغْلقُوا الْأَبْوَاب وأحاط النَّاس بِالْحَائِطِ وَملك وَالِدي الْملك المظفر الباسورة بِرِجَالِهِ وَبَاتُوا طوال اللَّيْل يَحْرُسُونَ والفرنج على شرافات الْحصن يرْمونَ بسهامهم ويتبعونها بشهب النيرَان وأصحابنا على الْحفاظ فَخرج جمَاعَة وَالسُّلْطَان يمدهُمْ وينجدهم وَكَانَ بعض المماليك قد سمع من وَرَاء الْبَاب صَوت الْحِجَارَة فَعلم أَن الفرنج يبيتُونَ خلف الْبَاب وَأَنَّهُمْ قد أوقدوا خلف كل بَاب نَارا ليحموا بهَا أنفسهم فَعلم حِينَئِذٍ ضعفهم فجَاء الْمَمْلُوك وَأعلم وَالِدي فتيقن وَالِدي أَخذ الْموضع وَأعلم السُّلْطَان بذلك فَبَاتَ النَّاس تِلْكَ اللَّيْلَة فِي أَشد جِهَاد ثمَّ إِن السُّلْطَان فرق الْبناء على الْأُمَرَاء فَأخذ عمى عز الدّين فرخشاه الْجَانِب القبلي وَجمع عَلَيْهِ النقابين والحجارين وَجَاء الجاندارية وَرَاء

الجفاتي وَأخذ السُّلْطَان النقب فِي الْجَانِب الشمالي وأنهض إِلَيْهِ الحجارين وَأخذ نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن شيركوه بِقُرْبِهِ نقبا ورتب السُّلْطَان الرُّمَاة على الخَنْدَق يمْنَعُونَ الفرنج من إِخْرَاج رُءُوسهم من وَرَاء ستائر السُّور فكم من جريح وطريح حَتَّى اسْتَقر النقابون فِي مواضعهم فَمَا زَالَت المعاول تعْمل والصخور تتخلخل حَتَّى استقامت النقوب فَمَا انْقَضى يَوْم الْأَحَد حَتَّى تمّ النقب السلطاني وعلق وحشى الْحَطب لَيْلَة الِاثْنَيْنِ وأحرق فَظن أَنه يتضعضع وَكَانَ النقب فِي طول ثَلَاثِينَ ذِرَاعا وَفِي عرض ثَلَاثَة أَذْرع وَكَانَ عرض السُّور تِسْعَة أَذْرع فَأصْبح النَّاس يَوْم الِاثْنَيْنِ والسور على حَاله لم يتضعضع فأشفقوا لذَلِك وَضعف يقينهم إِذْ لَا سَبِيل لَهُم إِلَّا تعميق النقب وتوسيعه للنيران الملتهبة فِيهِ فَأخْرج السُّلْطَان صرة فِيهَا ثَلَاثمِائَة دِينَار مصرية وَتركهَا على يَد عز الدّين جاولي وَقَالَ من أَتَانَا بقربة من المَاء أعْطى دِينَارا وَكَانَ المَاء بِقُرْبِهِ فَرَأَيْت النَّاس يتسابقون بِالْقربِ والأوعية حَتَّى أطفؤوها وَبرد مَا كَانَ فِي النقب مِنْهَا فَعَاد النقابون وعمقوه وعلقوه وحشوه واستظهروا فِيهِ يومي الثُّلَاثَاء وَالْأَرْبِعَاء ثمَّ أحرقوه وَوصل فِي ذَلِك الْيَوْم أَن الفرنج قد اجْتَمعُوا بطبرية بِجمع كثيف

وعالم كثير فماج النَّاس وأسرعوا من الضّيَاع فَلَمَّا أَصْبَحْنَا يَوْم الْخَمِيس الرَّابِع وَالْعِشْرين من الشَّهْر الْمَذْكُور وَقد تَعَالَى النَّهَار وَإِذا بالجدار قد انقض فتباشر النَّاس وضجوا بِالتَّكْبِيرِ والتهليل وتسابق النَّاس إِلَى الثلمة يركب بَعضهم بَعْضًا وَكَانَ الفرنج قد جمعُوا من وَرَاء ذَلِك الْجِدَار الْوَاقِع حطبا فَلَمَّا سقط رموا بِهِ نَارا ليحموا بهَا أنفسهم فَلَمَّا أَن سقط الْجِدَار دخلت الرّيح من تِلْكَ الثلمة عَادَتْ النَّار عَلَيْهِم وأحرقت الْبيُوت الدانية مِنْهَا فَاجْتمعُوا إِلَى الْجَانِب الْبعيد مِنْهَا وصاحوا الْأمان وتسلق النَّاس الْجِدَار وأطلقوا أَيْديهم بِمن فِي الْحصن فَقتلُوا وأسروا وقيدوا وَجلسَ السُّلْطَان وأحضر عِنْده الأساري فَمن كَانَ مِنْهُم مُرْتَدا أَو راميا أَمر بِضَرْب عُنُقه وَكَانَ فِي الْحصن من الْمُسلمين فِي الْأسر نَحْو من مائَة أَسِير قد جمعوهم للعمارة وَقطع الْحِجَارَة واستبشر السُّلْطَان بِمَا من الله تَعَالَى عَلَيْهِ من النَّصْر وَفَرح النَّاس وَاتفقَ لسعادته أَن رَسُول القومص كَانَ عِنْده فِي تِلْكَ السَّاعَة وَهُوَ يعاين مَا يجْرِي على أهل مِلَّته من الْبلَاء والهلاك وَكَانَ الْحر شَدِيدا فأنتنت أشلاء الْقَتْلَى فَأمر السُّلْطَان بتسيير البَاقِينَ من الأسرى إِلَى دمشق وَمُبشرا للنَّاس بِمَا أتاح الله تَعَالَى للْمُسلمين من الْفَتْح وَالظفر وَأقَام فِي مخيمه والأموات قد جافت وَقَالَ لَا أَبْرَح من مَكَاني حَتَّى أهدم الْموضع فَقَسمهُ أذرعا على الْأُمَرَاء وَلم يزل مَكَانَهُ حَتَّى كمل خرابه وَكَانَ قد حفر الفرنج فِي أَعلَى التل جبا وَاسِعًا وَبَنوهُ بِالْحِجَارَةِ وأحكموه حَتَّى نبع معينه فَأمر السُّلْطَان بهدمه وطمه وَرجع إِلَى دمشق مؤيدا منصورا

وَكَانَ الْمقَام على الْحصن فِي أَيَّام فَتحه وَبعدهَا أَرْبَعَة عشر يَوْمًا وَحين دخل النَّاس إِلَى دمشق مرض أَكثر النَّاس مِمَّا أَصَابَهُم من نَتن ذَلِك الْموضع وَمَات جمَاعَة من الْأُمَرَاء وَلما اسْتَقر السُّلْطَان بِدِمَشْق أَتَتْهُ التهنئة من النَّاس من كل مَكَان بِفَتْح الْحصن الْمَذْكُور وَمَا رزقه الله تَعَالَى من النَّصْر وَالظفر بالعدو وامتدحه جمَاعَة من الشُّعَرَاء فَكَانَ من جُمْلَتهمْ أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد الساعاتي الْخُرَاسَانِي من أهل دمشق امتدحه بِهَذِهِ القصيدة (بحدك أعطاف القنا تتعطف ... وطرف الأعادي دون مجدك يطرف) (شهَاب هدى فِي ظلمَة الشَّك ثاقب ... وَسيف إِذا مَا هزك الله مرهف) (وقفت على حصن الْمَخَاض وَإنَّهُ ... لموقف حق لَا يوازيه موقف) (فَلم يبد وَجه الأَرْض بل حَال دونه ... رجال كآساد الشرى وَهِي تزحف)

ذكر غارة عز الدين فرخشاه على صفد

(وجرداء سلهوب وردع مضاعف ... وأبيض هندي ولدن مثقف) (وَمَا رجعت أعلامك الصفر سَاعَة ... إِلَى أَن غَدَتْ أكبادها السود ترجف) (كبا من أعاليه صَلِيب وبيعة ... وشاد بِهِ دين حنيف ومصحف) وَمِنْهَا (أيسكن أوطان النَّبِيين عصبَة ... تمين لَدَى أيمانها وَهِي تحلف) (نصحتكموا والنصح فِي الدّين وَاجِب ... ذَروا بَيت يَعْقُوب فقد جَاءَ يُوسُف ذكر غَارة عز الدّين فرخشاه على صفد وَذَلِكَ فِي ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة كَانَ عمي عز الدّين فرخشاه ذَا رَأْي سديد وفعال حميدة وَلما أَرَادَ الله تَعَالَى أَن يذل أهل صفد بغارته تِلْكَ جمع من رجال بانياس وَمَا حولهَا من الْأَعْمَال من جرت عَادَته بِالْحَرْبِ فَصبح صفد صباح الْأَرْبَعَاء ثامن عشر الشَّهْر فسبى وسلب وغنم غنيمَة كَبِيرَة وتوغل عَلَيْهِم فِي الربض فَأحرق مِنْهُ مَوَاضِع شَتَّى وَكَانَ قد أعجلهم عَن الالتجاء إِلَى القلعة فَأسر مِنْهُم جمَاعَة أثخن فيهم الْجراح وَعَاد منصورا إِلَى المخيم السلطاني

فصل من كتاب عَن السُّلْطَان إِلَى الرَّسُول بِبَغْدَاد فِي الْمَعْنى ورأينا أَن البدار إِلَى الْحُلُول بدارهم وإحلال الخزي بهم فِي تعجل دمارهم فرْصَة لفريضة الْجِهَاد منتهزة وعدة من الله تَعَالَى فِي قهر عداته منتجزة وغنيمة لِلْإِسْلَامِ محرزة ونصرة فِي أقرب أمد بأنجح أمل بعون الله موجزة لَا سِيمَا والصوارم قد قلقت فِي أغمادها واللهاذم قد علقت عرى اجتهادها فِي جهادها والعزائم قد رمضت مضَارب مظانها والسوابق قد ضمرت فِي مضمارها شوقا إِلَى إخرابها وَالْبيض والسمر قد اهتزت أعطافها إِلَى الانتشاء من طلاء الطلى والارتعاء فِي اكلاء الكلا والاكتساء من النجيع القاني محمر الْحلَل والحلى وألسنة الأسنة قد خطبت عقائل المعاقل وخطبت على أَعْوَاد العوامل الذوابل وطيور السِّهَام المبرية المريشة إِلَى أوكارها من الْمقل نازعة نازية والأقدار بِمَا تجْرِي بِهِ من نصْرَة الْإِسْلَام زاهية والمنايا بأماني المغرورين من أهل الشّرك هازية وهممنا الْعَالِيَة بدين الدّين متقاضية وَإِلَى حَاكم الْقَضَاء فِي اقتضائه مقاضية وَهَذِه سنة قد هبت فِيهَا النُّصْرَة من سنتها ومحت سَيِّئَة اللَّيَالِي بحسناتها وَبَلغت نعم الله تَعَالَى فِيهَا مُنْتَهى منتها وأظهرت فرْصَة الانتهاز لَهَا آيَة مكنتها وَمِمَّا يبرهن على هَذَا القَوْل ويبهر الْأَنَام بشكر هَذَا الطول مُقَدّمَة فِي النَّصْر يدل على أَن نتائجها الْفتُوح الْأَبْكَار وباكورة فِي الظفر سمح بهَا الْقدر تبشر بِأَن جرت بمساعفتنا الأقدار وَذَلِكَ أَن والدنا عز الدّين فرخشاه أَحْيَاهُ الله تَعَالَى وأبقاه نَهَضَ من الْعَسْكَر بِرَأْس المَاء فِي الْحَاضِرين بعسكرنا عِنْده واستصحب رِجَاله بانياس مَعَه وأغار على صفد بكرَة الْأَرْبَعَاء ثامن عشر ذِي الْقعدَة عِنْد سلخ الصَّباح فسَاء صباح الْمُنْذرين وَكَانُوا فِي مساكنهم غارين وبحصانتها مغترين فَأذن إقدامه بِشَتٍّ شملها وَدخل الْمَدِينَة على حِين غَفلَة من أَهلهَا وَسَقَى عطاش الْبيض وظماء الظبى من ورد وريدهم وَرَوَاهَا

وأحرق أرباضها فدمدم عَلَيْهِم رَبهم بذنبهم فسواها وأعجلهم عَن الالتجاء إِلَى القلعة والاحتماء بالتلعة فسفح ذَلِك السفح دِمَاءَهُمْ وسبى ذَرَارِيهمْ وَنِسَائِهِمْ وسَاق أغنامهم وأبقارهم وَخرب عَلَيْهِم بل أحرق دِيَارهمْ وأشعل تِلْكَ الْأَمَاكِن نَارا وأدركتها دَعْوَة نوح {رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا} فَأَعَادَ عَلَيْهِم لَيْلًا ثَانِيًا بمثارين من نقع ودخان وَأقَام فِيهَا المأتم بنكايتين من أسر وإثخان وَعَاد إِلَى المخيم مشكور الخيم موفور النعم ظَاهر الرَّايَة باهر الْآيَة غَانِم الْجند غَالب الْجد كريم الظفر حميد الْأَثر وَقد كف كف الْكفْر وهد ركن النكر وسفرت وُجُوه الْإِسْلَام بِهَذِهِ الْبُشْرَى بشرا وَطَابَتْ قُلُوب الْمُؤمنِينَ وَطَابَتْ أرجاء الرَّجَاء بأرج نجاحهم بشرا فَهَذِهِ صفة صفد عِنْد النهضة إِلَيْهَا والإشراف عَلَيْهَا فَكيف وَالسُّيُوف قد طَابَ ريها من طبرية وعاينت هِيَ وَأَخَوَاتهَا منا البلية والقدس ينْتَظر إقدامنا ويستشرف اعتزامنا ونأمل من الله أَن ينجز ميعاد نَصره وَيفتح لنا الْبَلَد الْمَوْعُود بحصره فَحِينَئِذٍ نهيئ سلك السَّاحِل وتتبدد عقوده ونستلخص من أَيدي الْمُشْركين بعون الله تَعَالَى حُقُوقه وحدوده وفيهَا توجه أَبُو يَعْقُوب يُوسُف بن عبد الْمُؤمن بِنَفسِهِ إِلَى بِلَاد إفريقية فَفتح قفصة وَحمل واليها على بن الْمعز بن المعتز ومسعود بن زِمَام أَمِير الْعَرَب وَرجع إِلَى المهدية

واقعة شرف الدين قراقوش المظفري

وَاقعَة شرف الدّين قراقوش المظفري وَفِي هَذِه السّنة كَانَ خُرُوج شرف الدّين قراقوش إِلَى نَاحيَة طرابلس وحد نفوسة وَوصل إِلَى السويقة فِي الْيَوْم الرَّابِع من صفر من السّنة الْمَذْكُورَة وتلقاه أُمَرَاء ذُبَاب حميد بن جَارِيَة وَكَانَ عظيمهم وَرَئِيسهمْ المطاع وشكر بن ثاقب وَبدر بن هَدِيَّة وَفرج بن مُنَبّه وَعلي بن طلحاب وثائر بن روق وحبوس بن جماز وَجَمِيع بن مُوسَى ومناس بن عَمْرو وعريف بن سِنَان وَجَمَاعَة من مقدميهم يطول بذكرهم الْكتاب وَأَقَامُوا وإياه بالسويقة عشرَة أَيَّام يستحضرون الْقَبَائِل من ذُبَاب ويستحلفونهم على الْخدمَة والنصح وَسَار وإياهم حَتَّى نزل بر ليطن وَهِي قُصُور حَسَنَة على مرحلة من السويقة فِي وطاة كَثِيرَة الزَّيْتُون وعيون المَاء ورحل مِنْهَا فَنزل الطابية وَأقَام بهَا يَوْمَيْنِ ورحل عَنْهَا فَنزل لبدة وَأقَام بهَا ثَلَاثَة أَيَّام ورحل عَنْهَا فَنزل مسلاتة وَهِي جبل إِلَى نَاحيَة نفوسة فَأَقَامَ بهَا يَوْمًا وَاحِدًا وَنزل مِنْهَا إِلَى الوطا الَّذِي لبلاط طرابلس وانهالت عَلَيْهِ دباب من كل مَكَان حَتَّى صَار فِي خَمْسَة ألف مِنْهُم وَمَعَهُ من أَصْحَابه أَرْبَعمِائَة فَارس أتراك وأكراد وأكادش

وَكَانَ نَاصِر الدّين قد جمع زغب وانحاز إِلَى جبل نفوسة إِلَى نَاحيَة مَا عرمس وَترك شَرق جبل نفوسة خوفًا من شرف الدّين وَلم يزل شرف الدّين مُقيما بِتِلْكَ النواحي أَرْبَعَة عشر يَوْمًا وَتقدم إِلَى وَاد يُقَال لَهُ محسن فَنزل فِيهِ وقلعة أم الْعِزّ مطلة عَلَيْهِ فَأَقَامَ بِهِ يَوْمَيْنِ ثمَّ ارتحل بعجلة حميد بن جَارِيَة ولزه كثيرا فِي المصاف وَبعد أَن جرى بَينه وَبَين حميد كَلَام كثير من جملَته أَن قَالَ لَهُ شرف الدّين يَا أَمِير إِنَّمَا قصدي أَن أستفسد جمَاعَة من الأتراك الَّذين عِنْد إِبْرَاهِيم ويقل أَصْحَابه ونقوى عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ يَا شرف الدّين أَنا سُلْطَان إِن أَنْت أَقمت وَلم تتقدم علمت أَنَّك وَصَاحِبك متعاملان علينا وتريد أَن تصالحه وتصالح زغب وتكونون كلكُمْ علينا يدا وَاحِدَة فَقَالَ لَهُ شرف الدّين أرحل لأجل هَذَا الْكَلَام غير أَنَّك سترى أَصْحَابك وَقد تفللوا عَنْك وعادوا عَلَيْك وعلينا إِن جرى لنا أيسر سَبَب وَكَانَ شرف الدّين خَائفًا من أَصْحَاب المبارز لِئَلَّا يخامروا فَأَرَادَ أَن يتَوَقَّف حَتَّى يستفسد من أَصْحَاب إِبْرَاهِيم جمَاعَة تكون خيرا لَهُ مِنْهُم وَمَا يبْقى عَلَيْهِ بَأْس وَالَّذِي خافه وَقع فِيهِ لأجل استعجال حميد لَهُ فَسَار بدباب ليلته وَنزل إِبْرَاهِيم وَاديا يُقَال لَهُ أرقطين وَأصْبح شرف الدّين بجمعه مُقَابلا لَهُ فَركب العسكران وَوَقع المصاف وحملت دباب على زغب فتأخرت قَلِيلا ووقف إِبْرَاهِيم وَكَانَ فِي القلبوقوفا جيدا وَكَانَ عَالما بإقدام شرف الدّين وَأَنه إِذا حمل لَا يرد رَأس فرسه فألبس تشاهيره لغلام لَهُ وأركبه فرسا كَانَ لَهُ أَشهب وَتَركه وَاقِفًا فِي مَوْضِعه

وحاد عَن وسط الطّلب الَّذِي لَهُ قَالَ شرف الدّين عِنْدَمَا وقف طلب إِبْرَاهِيم وَسَأَلَ عَن حليته وإيش ملبوسه وَعَن فرسه الَّذِي هُوَ رَاكِبه فعرفوه بذلك فَقَالَ لمن يَثِق بِهِ لَا بُد لي من إِبْرَاهِيم فَحمل وَتَبعهُ من أَصْحَابه أَرْبَعُونَ فَارِسًا إِلَى أَن أخرق طلب إِبْرَاهِيم وزعزعه عَن مَكَانَهُ الَّذِي كَانَ فِيهِ وَلحق صَاحب الحصان الْأَشْهب الَّذِي عَلَيْهِ تشاهير إِبْرَاهِيم فطعنه فأرداه عَن فرسه وَهُوَ يظنّ أَنه إِبْرَاهِيم فَلَمَّا وَقع قَالَ لَهُ زنهار يَا خوند فَقَالَ لَهُ مَا أَنْت إِبْرَاهِيم فَقَالَ لَا فبصق عَلَيْهِ وَقَالَ شه عَلَيْك وانحرف وَكَانَ أَصْحَاب المبارز سَبْعَة نفر قد طلبُوا التقفيز ومنعهم حُضُور شرف الدّين مَعَهم فِي الطّلب فَلَمَّا حمل وخلا لَهُم الْموضع قفزوا الْجمع وَمن مَعَهم مرّة وَاحِدَة وَكَانُوا يزِيدُونَ على مائَة فَارس وصاحوا نَاصِر الدّين يَا مَنْصُور وصاروا قَرِيبا من طلبه فَردُّوا رُؤُوس خيولهم إِلَى نَاحيَة الْقِتَال فتراجع أَصْحَاب إِبْرَاهِيم وهم دباب وَقد قفزوا فظنوا أَن الْجَمِيع يَفْعَلُونَ كَمَا فعل أُولَئِكَ فانتشرت دباب وهم فِي خَمْسَة ألف فَارس وطلبتها زعب فَقلعت مِنْهُم جمَاعَة ووصلوا إِلَى أثقال شرف الدّين فانتهبوها وانتهبت مَعَهم أَيْضا دباب مَا قدرت عَلَيْهِ وَلما رَأَتْ الأتراك مَا فعلته دباب خَافُوا الْقَتْل فقوم قفزوا وَقوم أخذُوا وَصَارَت الكسرة على شرف الدّين وَعَاد فَلم يجد ثقلا وَلَا شَيْئا

وَكَانَ لَهُ من الأثقال شَيْء عَظِيم وَلَقَد حَدثنِي من أَثِق بِهِ أَن شرف الدّين حلف لَهُ بِاللَّه تَعَالَى أَن الَّذِي كَانَ تَحت ثقله لنَفسِهِ ألفا وثلاثمائة جمل وَأما الأتراك فللواحد أَرْبَعُونَ جملا وَثَلَاثُونَ جملا وَأَقل وَأكْثر وَأما شرف الدّين فَإِنَّهُ رَجَعَ إِلَى نَاحيَة محسن وَمَعَهُ مائَة وَأَرْبَعُونَ فَارِسًا من أَصْحَابه فَحسب كل مِنْهُم عَلَيْهِ درعه ولامة حربه وفرسه وَلم يبْق لوَاحِد مِنْهُم شَيْء يلْبسهُ وَلَا يَأْكُلهُ وَبَقِي حميد مَعَه مازال فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا عَسْكَر كَيفَ رَأَيْت حَدِيثي وَمَا فعله أَصْحَابك وقبيلتك غدروا بِنَا وَأخذُوا مَا لنا ودوابنا وَقد حضرت لنصرتهم وَلم يقدر أَن يَقُول لَهُ أَكثر من هَذَا فَقَالَ لَهُ حميد لقد غدر الملاعين وَالله تَعَالَى ينْتَقم مِنْهُم ولابد من دَائِرَة تَدور عَلَيْهِم وَكَانَ حميد شجاعا بطلا فَارِسًا متكلما ممولا وَبَات بمحسن فأحضر لَهُ حميد وَمن كَانَ فِيهِ من الْعَرَب من دباب مَا أكلُوا ورد عَلَيْهِ إِنْسَان خيمة كَانَت لبَعض أَصْحَابه أَخذهَا فِي جملَة مَا أَخذه نضربوها لَهُ وَأصْبح راحلا طَالبا طرابلس الْمَدِينَة نَفسهَا وَقد ثاب إِلَيْهِ فِي اللَّيْل من أَصْحَابه قريب من أَرْبَعِينَ فَارِسًا وَصَارَ أَصْحَابه يتواصلون إِلَيْهِ مِنْهُم من أطلقهُ إِبْرَاهِيم وَمِنْهُم من كَانَ منحازا فوصل إِلَيْهِ وَنزل على تاجرة بلد قريب من مَدِينَة طرابلس فتحهَا وَأَخذهَا فنهب مِنْهَا أَمْوَالًا عَظِيمَة فَلَمَّا رَأَتْ زعب أَن أَصْحَاب إِبْرَاهِيم لَا يبْقى مِنْهُم أحد أشاروا عَلَيْهِ بِأَن ينفذ إِلَى شرف الدّين ويصالحه وَيُعْطِيه شَرْقي نفوسه وَيَأْخُذ غربية فَعلم

أَن فِي ذَلِك الْمصلحَة فنفذ إِلَيْهِ وراسله فِي الْمُصَالحَة وَلم تزل المراسلة بَينهمَا إِلَى أَن اسْتَقر أَن يَأْخُذ شرف الدّين مقرة وعربان وقلعة أم الْعِزّ ويفرن وسماح وَيكون من سماح إِلَى غربي نفوسة لإِبْرَاهِيم وَمهما فتح كَانَ بَينهمَا فاختلفا على ذَلِك وأطلع شرف الدّين نِسَاءَهُ إِلَى قلعة أم الْعِزّ وَبقيت قلعة تيركب لإِبْرَاهِيم وَصَارَ شرف الدّين فِي الوطا يَأْخُذ الْبِلَاد أَخذ دواره وزواغة ولمايه وسيرة فِي كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ بِلَاد كَبِيرَة وَأقَام بَاقِي سنته فِي بِلَاد طرابلس وَأمنت دباب من غَارة إِبْرَاهِيم فَصَارَت فِي كل وَقت تسرق أَصْحَاب شرف الدّين وَمن لقوه من الأتراك مُنْفَردا قَتَلُوهُ وَعلم شرف الدّين غدرهم ونحسهم وَكَانَت زغب قد غربت بعد أَن قَالَت لإِبْرَاهِيم من الرَّأْي أَن تغرب مَعنا فَإِن شرف الدّين فِي قُوَّة وَهُوَ قَلِيل الْغدر مَا يَأْخُذ لَك شَيْئا من بلادك وتملك فِي الغرب مَوَاضِع وَتَأْخُذ أَمْوَالًا إِلَى أَن يتَبَيَّن شرف الدّين نحس دباب وغدرهم فَيَعُود إِلَى مصالحتك والاتفاق أَنْت وَهُوَ وَنحن وَنخرج دباب من الْبِلَاد فَأبى عَلَيْهِم فَمَضَوْا بعد أَن وَدعوهُ وداع من لَا يعود يلتقى فَلَمَّا أحس شرف الدّين كَمَا ذكرُوا بغدر دباب ونحسهم وانهم قد أمنُوا من زغب وَإِبْرَاهِيم عزم على التَّغْرِيب إِلَى دمر وقطماطة وزريقا وَقَابِس وَمَا إِلَى تِلْكَ الْبِلَاد وَتوجه إِلَى دمر وَذَلِكَ فِي مُسْتَقْبل سنة سِتّ وَسبعين وَسَنذكر قصَّته فِي مَكَانهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى

وفيهَا عزل سُلَيْمَان بن جاووش عَن نِيَابَة الوزارة وَسبب ذَلِك أَن أستاذ الدَّار أَبَا الْفضل كَانَ يكرههُ فَحسن للخليفة عَزله وَقَالَ إِن هَذَا رجل قد كبر وَعجز عَن التَّدْبِير للدولة فَتقدم إِلَيْهِ يسْتَبْدل بِهِ من شَاءَ فَتقدم أستاذ الدَّار إِلَى مقرب الدّين بن بختيار بإحضار أبي المظفر هبة الله بن مُحَمَّد بن البُخَارِيّ فَأحْضرهُ لَيْلًا إِلَى دَار الْخَلِيفَة فبقى فِي الدَّار ثَلَاثَة أَيَّام وَلَا يعلم أحد ثمَّ أنفذ فِي الْيَوْم الثَّالِث فَأمر بعزل سُلَيْمَان بن جاووش فعزل من الدِّيوَان الْعَزِيز وَركب ابْن البُخَارِيّ فَجَلَسَ فِي الدِّيوَان نَائِب وزارة وأفردت لَهُ الدَّار الَّتِي كَانَت لِابْنِ هُبَيْرَة فِي المطبق فَكَانَ لَا يخرج عَن أوَامِر أستاذ الدَّار وَلَا ينْفَرد بِأَمْر دونه وفيهَا تراخت الأسعار جدا وَكَثُرت الأمطار وأخصبت الْبِلَاد ونمت الزروع وفيهَا أَمر الْخَلِيفَة بِالْخلْعِ والتشريفات على الْأُمَرَاء وأرباب الدولة وضاعف أرزاق المماليك وَغَيرهم وفيهَا أَمر بِإِخْرَاج السرادق الشريف وَكَانَ سرادقا عَظِيما لم يعْمل مثله وَكَانَ من الأطلس الْمُخْتَلف الألوان وَأمر أَن يضْرب السرادق عِنْد الكشك الْجَدِيد قَرِيبا من الميدان وَأَن يخرج الْأُمَرَاء والمماليك وأرباب الدولة خيامهم فَتضْرب هُنَاكَ وَتقدم إِلَى أَرْبَاب الدولة أَن يتأهبوا للرُّكُوب فِي الْخدمَة الشَّرِيفَة وَأَن يحضروا إِلَى بَاب النَّصْر وَركب النَّاس لامتثال الْأَمر وَذَلِكَ فِي أول شهر ربيع الأول من السّنة وحضروا إِلَى بَاب النَّصْر فَفتح لَهُم وَخرج الخدم وتقدموا إِلَى الْأُمَرَاء وأرباب الدولة بِالدُّخُولِ إِلَى الْحرم وَأَن يكون مقامهم فِي بُسْتَان الْأَرْبَعين فَدَخَلُوا وَكَانَ فِي جُمْلَتهمْ

الْأَمِير قَاسم بن مهنا الْعلوِي الْحُسَيْنِي أَمِير مَدِينَة الرَّسُول صلوَات الله عَلَيْهِ وَسَلَامه فَخرج الْخَلِيفَة وَعَلِيهِ جُبَّة بَيْضَاء وطيلسان أَبيض وَبَين يَدَيْهِ أستاذ الدَّار أَبُو الْفضل بن الصاحب والخدم وَبَين يَدَيْهِ عَن يَمِينه وَعَن شِمَاله فَقَامَ النَّاس وقبلوا الأَرْض وخدموا ودعوا وَكَانَ أَوَّلهمْ خدمَة جلال الدّين أَبُو المظفر بن البُخَارِيّ نَائِب الوزارة فَتقدم وَقبل الأَرْض ثمَّ قبل الركاب الشريف ثمَّ تلاه الْأُمَرَاء وأرباب الدولة فخدموا ودعوا والخليفة لَا يرد على وَاحِد مِنْهُم جَهرا وَلَا يسمع مِنْهُ منطقا حَتَّى تقدم الْأَمِير قَاسم أَمِير الْمَدِينَة فَقبل الأَرْض ثمَّ قبل الركاب الشريف ثمَّ دَعَا وَأحسن وأبلغ فِي دُعَائِهِ فَوقف لَهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ ورد عَلَيْهِ السَّلَام جَهرا وَرفع يَده فوضعها عَلَيْهِ وَأحسن لَهُ الْبُشْرَى ثمَّ مضى رَاكِبًا وَالنَّاس بَين يَدَيْهِ مشَاة حَتَّى خرج من بَاب النَّصْر فَأَشَارَ إِلَى أستاذ الدَّار أبي الْفضل بالركوب فَركب ثمَّ ركب بعده نَائِب الوزارة ثمَّ الْأُمَرَاء وأرباب الدولة وَسَار فَخرج إِلَى ظَاهر بَغْدَاد إِلَى أَن وصل إِلَى الميدان الَّذِي فِيهِ الكشك فَدخل إِلَيْهِ وَلم يدْخل مَعَه إِلَّا أستاذ الدَّار ابْن الصاحب ثمَّ دخل إِلَى الكشك فبقى فِيهِ ذَلِك الْيَوْم وَبَات فِيهِ فَلَمَّا أصبح ركب فِي الميدان وَجعل يسير فِيهِ ثمَّ أذن للنَّاس من الْأُمَرَاء وأرباب الدولة بِالدُّخُولِ إِلَى الميدان فَدَخَلُوا فَكَانَ أستاذ الدَّار عَن يَمِينه وَابْن البُخَارِيّ عَن شِمَاله ثمَّ إِنَّه خرج فِي يَوْمه ذَلِك إِلَى الصَّيْد وَمَعَهُ جمَاعَة الْأُمَرَاء والمماليك وَلم يخرج مَعَه من أَرْبَاب الدولة سوى أستاذ الدَّار ابْن الصاحب وَكَانَ فِي كل يَوْم يتصيد وَيرجع إِلَى الكشك فَلم يزل ذَلِك إِلَى يَوْم الْجُمُعَة فَتوجه إِلَى جَامع الرصافة لصَلَاة الْجُمُعَة وَكَانَ يَوْمًا مشهودا فَلَمَّا قضى صَلَاة الْجُمُعَة وَكَانَ الْخَطِيب يَوْمئِذٍ أَبُو الْفرج بن المنصوري أَمر أَن تهَيَّأ لَهُ

سمارية خَفِيفَة فَنزل بهَا وَسَار فِي دجلة والأمراء فِي السماريات بَين يَدَيْهِ يَسِيرُونَ فِي خدمته وَكَانَ الْخَلِيفَة جَالِسا فِي صدر السمارية فِي قبَّة سَوْدَاء وأستاذ الدَّار قَائِم بَين يَدَيْهِ وَكَذَلِكَ جمَاعَة ثمَّ أَفَاضَ من كرمه على جَمِيع من كَانَ من اصحاب ابْن قرا أرسلان مَا لم ينْحَصر من مركوب وكراع وَثيَاب ومتاع وَغير ذَلِك وَعمل وَالِدي الْملك المظفر لِابْنِ قَرَأَ أرسلان دَعْوَة جميلَة أَيْضا وَحمل لَهُ عشرَة آلَاف دِينَار ثمَّ عمل نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن شيركوه ابْن عَم السُّلْطَان صَلَاح الدّين لَهُ دَعْوَة عَامَّة وأفاض عَلَيْهِ مَالا جزيلا وَكَذَلِكَ عمى عز الدّين فرخشاه عمل لَهُ دَعْوَة وأوسع لَهُ الْعَطاء وَلمن كَانَ مَعَه وَلم يزل السُّلْطَان هُنَاكَ فِي تِلْكَ الْأَيَّام يبْذل الْجُود فِي اقتناء المحامد إِلَى أَن وصلت رسل قلج أرسلان بِالطَّاعَةِ والإذعان لما أَرَادَهُ السُّلْطَان من أَمر نور الدّين بن قَرَأَ أرسلان وَكَانَ المنفذ من جَانِبه الْأَمِير اخْتِيَار الدّين حسن بن عفراس وَكَانَ كَبِيرا مقدما عِنْد ملك الرّوم وَكتب لَهُ السُّلْطَان عهدا أكد فِيهِ الشَّرَائِط بالِاتِّفَاقِ فِيمَا بَينهمَا وَانْصَرف هُوَ وَأَصْحَابه بالتحف وَالْخلْع والتشريفات الجميلة وَعَاد كل مِنْهُم إِلَى جِهَته

ذكر دخول السلطان

ذكر دُخُول السُّلْطَان إِلَى بلد الأرمن ونزوله على حصن العانقر وفتحه وَلما انْفَصل الْأَمر بَينه وَبَين قلج أرسلان توجه إِلَى بلد الأرمن لاستئصاله وَذَلِكَ أَن متملك الأرمن ابْن لاون استمال قوما من التركمان ليكونوا فِي مرَاعِي بَلَده وأمنهم على ذَلِك فَلَمَّا استقروا لم يشعروا بِهِ إِلَّا وَقد صبحهمْ بغدره فأسرهم واستحوذ على أَمْوَالهم وَكَانَت شكاية الْمُسلمين قد كثرت عَلَيْهِ من سوء أَفعاله بهم فَرَأى السُّلْطَان الأولى دُخُول ولَايَته فَسَار إِلَيْهِ بعساكره المنصورة وخيم على النَّهر الْأسود وأباحهم بِلَاد الأرمن وَكَانَ بِقُرْبِهِ حصن القابوس وعَلى ذَلِك الْجَبَل قلعة شامخة وَهِي من الْحُصُون الحصينة والمعاقل المنيعة وَكَانَ الأرمني قد أَمر أَهلهَا بالنزوح عَنْهَا وأضرمها نَارا فبادر النَّاس إِلَى إِخْرَاج غلاتها وإبراز مودعاتها فَانْتَفع الْعَسْكَر بالزاد والعلف وَأمرهمْ السُّلْطَان بهدم الْحصن وتخريبه فخربوه فَمَا برح حَتَّى صَار عاليه سافله وَعفى آثاره وَأقَام على عزم الدُّخُول إِلَى بِلَادهمْ وأذعن ابْن لاون

بِالطَّاعَةِ وَأرْسل بِإِطْلَاق الْأُسَارَى الْمُسلمين من التركمان فَلم يقنع مِنْهُ بعد ذَلِك إِلَّا بِخَمْسِمِائَة أَسِير فَأطلق الْحَاضِرين عِنْده وَنفذ الرهائن على خلاص البَاقِينَ وَاسْتقر الْأَمر على ذَلِك وَكتب لَهُ الْأمان وَكفى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال وَكَانَ هَذَا من لطف الله تَعَالَى لِأَن الْوَقْت متعسر والقوت مُتَعَذر والعلف مَعْدُوم ذكر وَفَاة سيف الدّين غَازِي بن مودود بن زنكي ووصلنا رَسُول مُجَاهِد الدّين قيماز وَنحن مخيمون على كوك سو من حُدُود الرّوم فخبر السُّلْطَان بِمَوْت سيف الدّين غَازِي صَاحب الْموصل وجلوس أَخِيه عز الدّين مَسْعُود مَكَانَهُ وَكَانَ الرَّسُول فَخر الدّين أَبُو شُجَاع بن الدهان الْبَغْدَادِيّ وَمَعَهُ نُسْخَة الْيَمين الَّتِي حلف السُّلْطَان لَهُ بهَا فَقَالَ نَسْأَلك إبْقَاء أَخِيه على ولَايَته وَلَا تغير عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ يميننا منوطة بأيام الْحَيَاة وَولَايَة أَخِيه عز الدّين بِغَيْر عهد مِنْهُ وَلَا عقد

وَنحن نرى رَأينَا فِيمَا نعتمده بعد مطالعة الدِّيوَان فِي ذَلِك وَأعَاد الرَّسُول بالإكرام وَشرع فِي الْعود إِلَى الشَّام ثمَّ رَحل السُّلْطَان بالنصر وَالظفر وَسَار على أَعمال حلب وَكَانَ وُصُوله إِلَى أَعمال حماة فِي النّصْف الأول من جمادي الْآخِرَة من السّنة ثمَّ رَحل من أَرض حماة مُتَوَجها إِلَى حمص فَضرب مخيمه على عاصيها بِالْقربِ مِنْهَا وجاءته رسل الْأَطْرَاف والجوانب بالتهنئة لَهُ بِمَا رزقه الله تَعَالَى من النَّصْر وجاءه الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء وَالشعرَاء يهنئونه ويمتدحونه فَكَانَ فِي جُمْلَتهمْ الْفَقِيه الْمُهَذّب ابْن أسعد الْموصِلِي وَكَانَ غزير الْفضل وافر الْعلم وَكَانَ السُّلْطَان كلما عبر حمص أَمر لَهُ بِمِائَة دِينَار مصرية وخلعة وعمامة فمما مدح السُّلْطَان بِهِ قصيدة مستحسنة مطْلعهَا (أما وجفونك المرضى الصِّحَاح ... وسكرة مقلتيك وَأَنت صاحي) (وَمَا فِي فِيك من برد وَشهد ... وَفِي خديك من ورد وَرَاح) (لقد أَصبَحت فِي العشاق فَردا ... كَمَا أَصبَحت فَردا فِي الملاح) (فَمَا أسلو هَوَاك بنهي ناه ... وَلَا أَهْوى سواك للحي لاحي) (وَلَا فل الملام غرار غيي ... وَلَا ثلم العتاب شبا جماحي) (أما للائمين عَلَيْك عقل ... فيشتغلوا بعشاق القباح)

(أَطَعْت هوى الملاح طوال دهري ... وَمن يطع الْهوى يعْص الملاحي) (فيا سقمي بِذِي طرف سقيم ... وَيَا قلقي من القلق الوشاح) (يهز الْغُصْن فَوق نقا ويرنو ... بِحَدّ ظبا ويبسم عَن أقاحي) (مليح الْوَجْه معشوق المراح ... وحلو اللَّفْظ معسول المزاح) (يحب الراح رَائِحَة بكأس ... ويهوى الكأس كاسية براح) (وَقد غرس الْقَضِيب على كثيب ... فأثمر بالظلام وبالصباح) (وَمَال مَعَ الوشاة وَلَا عَجِيب ... لغصن أَن يمِيل مَعَ الرِّيَاح) (ألام على افتضاحي فِيهِ لَكِن ... يُقيم عذاره عذر افتضاحي) (أَلَيْسَ لحاظه جرحت فُؤَادِي ... فَلَا بَرِئت وَلَا اندملت جراحي) (إِذا مَا زَاد تعذيبي وهجري ... يزِيد إِلَيْهِ شوقي وارتياحي) (وَكم يهواه من عان معنى ... ييت يخَاف إِطْلَاق السراح) (وَلَيْلَة زارني بعد إزورار ... على حكمي عَلَيْهِ واقتراحي)

(فبتنا لَا الدنو من الدنايا ... نرَاهُ وَلَا الجنوح من الْجنَاح) (يُدِير كؤوس فِيهِ ومقلتيه ... فيسكرني عَن السكر الْمُبَاح) (وَكَانَت لَيْلَة لَا حسوب فِيهَا ... عَليّ وَلَا اجتراء على الجتراح) (وَمَا من شيمتي خلعي عِذَارَيْ ... وَلَا لبس الخلاعة من مراحى) (قَطعنَا اللَّيْل فِي عتب وشكوى ... إِلَى أَن قيل حَيّ على الْفَلاح) (ولاح الصُّبْح يَحْكِي فِي سناه ... صَلَاح الدّين يُوسُف ذَا الصّلاح) (هُوَ الْملك الَّذِي أورى زنادى ... وفازت عِنْد رُؤْيَته قداحي) (يقرب جوده أقْصَى الْأَمَانِي ... وَيضمن بشره أَسْنَى النجاح) (ومبسوط بنائله يَدَاهُ ... إِذا انقبضت بِهِ أَيدي الشحاح) (وَلما ضَاقَ حد عَن مداه ... لقيناه بآمال فساح) (فَمن هرم وَكَعب وَابْن سعد ... رُعَاة الشَّاة وَالنعَم المراح) (جواد بالبلاد وَمَا حوته ... إِذا جادوا بألبان اللقَاح)

(وأبلج يستهين الْمَوْت يلقى ... بصفحة وَجهه بيض الصفاح) (ويخشى من دنو الْعَار فِيهِ ... وَلَا يخْشَى من الْأَجَل المتاح) (وقوال إِذا الْأَبْطَال فرت ... مَكَانك ثبتة مَا من براح) (ببأس مذهل الْأسد الضواري ... وسيب مخجل سيل البطاح) (فللاحين والراجين مِنْهُ ... أعز حمى وَأكْرم مسماح) (من النَّفر الَّذين إِذا تجلوا ... أعادو اللَّيْل أحلى من صباح) (أَضَاء الدَّهْر بعد دجاه نور ... يلوح على وجوههمو الصَّباح) (تفيض بطُون راحتهم نوالا ... ويستلم الْمُلُوك ظُهُور رَاح) (إِذا مَا لاقوا الْأَعْدَاء عَادوا ... بآي النَّصْر وَالظفر الصراح) (بأرماح محطمة وبيض ... مثلمة وأعراض صِحَاح) (ليفد حَيَاء وَجهك كل وَجه ... إِذا سُئِلَ الندى جهم وقاح) (مُلُوك جلهم مغرى بظُلْم ... ومشغول بلهو أَو مزاح)

(إِذا مَا جالت الْأَبْطَال ولي ... وَيقدم نَحْو جائلة الوشاح) (يرى الْإِنْفَاق فِي الْخيرَات خسرا ... وَأَنت ترَاهُ من خير الرباح) (همو جمعُوا وَقد فرقت لَكِن ... جمعت بِهِ الرِّجَال مَعَ السِّلَاح) (وبون بَين مَالك بَيت مَال ... وَمَالك رق أَمْلَاك النواحي) (وباغ أَن ينَال بِلَا رجال ... كباغ أَن يطير بِلَا جنَاح) (قرنت شجاعة وتقى وعلما ... إِلَى كرم الْخَلَائق والسماح) (وَقد أثنت عَلَيْك ظى المواضي ... كَمَا تثنى بألسنة فصاح) (وَكم ذللت من ملك عَزِيز ... وَكم دوخت من حَيّ لقاح) (وَكم لظباك من يَوْم اغتباق ... من الْأَعْدَاء أَو يَوْم اصطباح) (تبيح حمى الْمُلُوك وتستبيه ... وَمَا تحميه لَيْسَ بمستباح) (وَمَا خضع الفرنج لديك حَتَّى ... رَأَوْا مَالا يُطَاق من الكفاح)

(وَمَا سألوك عقد الصُّلْح ودا ... وَلَكِن خوف معلمة رداح) (مَلَأت بِلَادهمْ سهلا وحزنا ... أسودا تَحت غابات الرماح) (على مُعْتَادَة جوب الموامي ... دواح بالملا بيض الأداحي) (الا يَا سيل مخجل كل سيل ... تظل المحجرات لَهُ صواحي) (وَيَا غيث الْبِلَاد إِذا اقشعرت ... وضن الْغَيْث فِي شَهْري قماح) (تركت بني الزَّمَان وَلم أسلهم ... وَلم أر أَهله أهل امتداحي) (وَقلت للإغبات الْعَيْش روحي ... إِلَى بَاب ابْن أَيُّوب تراحى) (وَلم أنكح لئيما بنت فكر ... وإنكاح اللئام من السفاح) (وَقد جاءتك يَا كفوا كفيا ... تزف إِلَيْك طالبة امتياح) (وَقد صادفت بَحر ندى فراتا ... فَمَا طلبي لأوشال ملاح) (سَأَلتك أَن تجود جديب حَالي ... فأمرع مرتعي واخضر ساحي) (وَلَوْلَا جود كفك كل حِين ... يروي غلتي وجوي التياحي)

(بقيت مدى الزَّمَان حَلِيف فقر ... خميصا عَارِيا ظمآن ضاحي) (وَمَا اشكو الزَّمَان وَأَنت فِيهِ ... وَإِن أَصبَحت مقصوص الْجنَاح) (فقد ضَاعَت عُلُوم طَال فِيهَا ... غدوي وَاسْتمرّ لَهَا رواحي) (أرى الْمُتَقَدِّمين الْيَوْم دوني ... فيؤلمني خمولي وأطراحي) (وأشجي من ضيَاع الْعُمر حَتَّى ... أغص ببارد المَاء القراح) (وأعجب من صروف الدَّهْر حَتَّى ... أكاد أَقُول مازمني بصاحي) (أيظهر فِي السَّمَاء ضحى سهاها ... ويخفي وَهِي طالعة براح) (عَسى نعماك تسكنني دمشقا ... وَذَاكَ لكل مَا لقِيت ماحي) (أعيش معاشر الْعلمَاء عمري ... وأرباب المحابر والسماح) (بقيت منعما أبدا وأضحى ... عداك بِكُل ضاحية أضاحي) ثمَّ إِن السُّلْطَان أَقَامَ بحمص إِلَى آخر جمادي الْآخِرَة وَتوجه إِلَى دمشق فَكَانَ دُخُوله فِي أول رَجَب.

ذكر وصول رسل الخلافة الإمامية الناصرة لدين الله

ذكر وُصُول رسل الْخلَافَة الإمامية الناصرة لدين الله وَكَانَ وُصُول الرَّسُول من دَار الْخلَافَة المكرمة صدر الدّين شيخ الشُّيُوخ أبي الْقَاسِم عبد الرَّحِيم وَمَعَهُ شهَاب الدّين بشير الْخَادِم الْخَاص إِلَى دمشق فِي شهر رَجَب بعد أَيَّام من قدوم السُّلْطَان وَمَعَهُ التَّفْوِيض والتقليد والتشريف وَكَانَ وُصُوله إِلَى دمشق كَيَوْم عيد فَتَلقاهُ السُّلْطَان بالتعظيم والتبجيل وترجل لَهُ وَأبْدى الخضوع وترجل عِنْد ذَلِك شيخ الشُّيُوخ وَبشير الْخَاص وسلما عَلَيْهِ من أَمِير الْمُؤمنِينَ صلوَات الله عَلَيْهِ فَقبل الأَرْض ثمَّ ركبُوا ودخلوا دمشق فأنزله السُّلْطَان أكْرم منزل وَركب ثَانِي يَوْم وُصُوله بموكبه وَعَلِيهِ الملابس النَّبَوِيَّة والتشريفات الإمامية وَكَانَ قد عزم على قصد الديار المصرية فَحسن لشيخ الشُّيُوخ مصاحبته ورغبه فِي زِيَارَة الشَّافِعِي رضوَان الله عَلَيْهِ فَمضى فِي صحبته إِلَى مصر للزيارة وَتوجه مِنْهَا إِلَى مَكَّة شرفها الله تَعَالَى وَذَلِكَ بعد ماسير السُّلْطَان فِي جَوَاب رسَالَته إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز ضِيَاء الدّين الشهرزورى صُحْبَة شهَاب الدّين بشير فصل من الْكتاب السلطاني إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز المنفذ على يَد ضِيَاء الدّين وَذَلِكَ بعد اسْتِيفَاء أَقسَام الْخدمَة الإمامية قد سبقت مطالعته بِمَا انْتهى إِلَيْهِ من أَدَاء الْفَرْض وتقبيل الأَرْض والإفاضة فِي شكر مَا أفيض عَلَيْهِ من التشريفات الَّتِي اسحبته ذيل الفخار وأصحبته الشّرف السَّامِي الْمنَار وأحظته بالإيثار وحضته على الْعُبُودِيَّة الحميدة الْآثَار المأمونة العثار وَمَا أسعده وَقد خص برسالة الْجَانِب المحروس الصدري شيخ الشُّيُوخ شرقا وغربا وسفارته الَّتِي زَادهَا وَجه

ذكر رحيل السلطان إلى مصر

استبشاره سفورا وأمد استظهاره واستنصاره قُوَّة وظهورا وطرف استبصاره ضِيَاء ونورا فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ قد تناهى فِي الْعُبُودِيَّة إِلَى مدى لَا مزِيد عَلَيْهِ لمستزيد وَلَا مطمع فِي توقل هضباته لمريد غير أَنه بالوفود الصدرى ارْتَفع قدره وانشرح صَدره ونظم فِي سلك الْأَبْرَار أمره وسر سره وَنصر نَصره وتوالى لما أولاه مَوْلَانَا الإِمَام من مقدم مثله عَلَيْهِ شكره وأطلعه على أَسبَاب فِي الْإِخْلَاص مَا تَجِد سوى الْخَادِم لَهَا أَهلا وَعَاد ببركة قدومه كل صَعب سهلا وَأصْبح أمله مِنْهُ بعبء النجح مُسْتقِلّا واستجلى بغرته الْمُبَارَكَة عزة الْبركَة واستحلى لعزة قدومه الميمون عزة المملكة وَقد توجه الْخَادِم إِلَى الديار المصرية لتجديد النّظر فِيهَا وترتيب مصالحها وتوخيها وَمِنْه وَقد ندب القَاضِي ضِيَاء الدّين الشَّهْر زورى يَنُوب عَنهُ فِي رفع الْأَدْعِيَة وَالْقِيَام بشرائط الْعُبُودِيَّة وَقرر مَعَه من أَسبَاب الخلوص أسرار الْعُمُوم وَالْخُصُوص مَا ينهيه وينتهى إِلَى غَايَة الْحَد فِيهِ ذكر رحيل السُّلْطَان إِلَى مصر وَلما تمّ عزمه على قصد الديار المصرية خص عمى عز الدّين فرخشاه بالنيابة عَنهُ فِي الشَّام وقلده أَمر الأجناد وَولَايَة الْأَعْمَال وَأمر وَالِدي الْملك المظفر بِالرُّجُوعِ إِلَى حماة وملازمة ثغرها وَالنَّظَر فِي أمورها وترتيب أحوالها وَكَانَ خُرُوجه من دمشق يَوْم الِاثْنَيْنِ ثامن عشر شهر الله

واقعة قراقوش المظفرى في هذه السنة

الأصب رَجَب ووصوله إِلَى الْقَاهِرَة يَوْم الْخَمِيس ثَالِث عشر شعْبَان واستقبله من بهَا من العساكر والأكابر وَكَانَ نَائِبه بهَا يَوْمئِذٍ أَخُوهُ الْملك الْعَادِل وَأقَام السُّلْطَان بِمصْر مشتغلا بمصالح الدّين والدولة وَالْجُلُوس فِي دَار الْعدْل يومى الْإِثْنَيْنِ وَالْخَمِيس لتشييد منار الْحق وتفريج الكرب وإسداء الْمَعْرُوف وكشف الْمَظَالِم فَلم يزل بِمصْر إِلَى آخر السّنة الْمَذْكُورَة وفيهَا عَاد السَّيِّد أَبُو يَعْقُوب إِلَى مراكش وَذَلِكَ فِي أواخرها وَاقعَة قراقوش المظفرى فِي هَذِه السّنة وفيهَا توجه شرف الدّين قراقوش إِلَى دمر ورزيقا وَقَابِس وَذَلِكَ بَعْدَمَا نفذ إِلَى إِبْرَاهِيم وجدد فِيمَا بَينهمَا الْيَمين والمواثيق بِأَنَّهُ لَا يغدر أحد مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ وَقَالَ تركت هَذِه الْبِلَاد وَأَهلي بقلعة أم الْعِزّ فِي وديعتك وَأَنا مُتَوَجّه فَإِن فتح الله تَعَالَى على واستغنيت عَنْهَا أَعطيتك الْجَمِيع وَسَار فوصل إِلَى دمر وَكَانَ بهَا مقدم سُلْطَان يُقَال لَهُ عُثْمَان وَله قلعة منيعة وبلاد كَثِيرَة فاستولى على الْبِلَاد كلهَا وبقى عُثْمَان فِي القلعة فَلم يقدر عَلَيْهَا وَكَانَ بدمر إِنْسَان مقدم يُسمى فروخا لَهُ قلعة لَيست بالحصينة وَكَانَ عدوا لعُثْمَان فوصل إِلَى شرف الدّين وأطاعه وحالفه وَعلم عُثْمَان بذلك فَقَامَتْ قِيَامَته وَخرج من قلعته يستنفر البربر وَيَقُول لَهُم إِنَّمَا هَؤُلَاءِ الغز قافلة فَلَمَّا سمع شرف الدّين بِخُرُوج عُثْمَان من قلعته

وإبعاده عَنْهَا قَالَ إِن لم أدْرك الفرصة مِنْهَا الْآن مَا أَعُود أقدر عَلَيْهَا فَرَحل من الْموضع الَّذِي كَانَ فِيهِ واستقبل طريقها فَلَمَّا وَصلهَا أَخذ ربضها من سَاعَته وَأطلق يَده بِالْقَتْلِ فَقتل من البربر الَّذين بهَا مَا زَادَت عدته على ألفى رجل وَكَانَ سكان هَذَا الْجَبَل وجبل نفوسة ومطماطة وزنزفا وملاقة ومقرة وعربان وَكلهمْ خوارج يلعنون عليا عَلَيْهِ السَّلَام وَلما رآي أهل القلعة مَا حل بِأَهْل الربض من الْقَتْل والنهب ارتاعوا واعتقدوا أَن لَا منجا لَهُم وَكَانُوا غير خبراء بِحِفْظ القلاع فراسلوه على أَنهم يأمنون على أنفسهم وَأَمْوَالهمْ فَأَمنَهُمْ وانتهز الفرصة فِي يومهم وَمَا جَاءَ اللَّيْل حَتَّى خَرجُوا من القلعة بِمَا قدرُوا عَلَيْهِ وأطلقوا جملَة من خيلهم ومتاعهم وبقى الثّقل من الْغلَّة والأثاث فَأخذ مِنْهُ مَا قدر عَلَيْهِ وَبقيت القلعة فِي يَده وَسمع عُثْمَان مَا جرى فِي قلعته وربضها فضاقت عَلَيْهِ الأَرْض وَمَا كَانَ لَهُ سَبِيل إِلَّا مراسلة شرف الدّين قراقوش وسؤاله الْعَفو عَنهُ وَأَن يكون غُلَاما لَهُ وَأَن يكون الْجَبَل كُله فِي طَاعَته فَأَمنهُ وَأَعَادَهُ إِلَى قلعته وخلع عَلَيْهِ وأحضر لَهُ أهل الْجَبَل من أطاعه مِنْهُم واستحلفه على الطَّاعَة وَأعْطى الْبِلَاد الأجناد إقطاعات وَسَار بِهِ إِلَى مَا بقى من القلاع العاصية فَنزل على قلعة الْعَطش وَهِي قلعة عَجِيبَة حكى لي بعض أَصْحَابِي مِمَّن أَثِق بِهِ بعد مَا أقسم بِاللَّه أَنه مَا رأى بِالشَّام قلعة أَعلَى مِنْهَا وَلَا أحصن فَنزل تحتهَا وَهِي عالية جدا لَا يصل إِلَيْهَا النشاب فَأَقَامَ تحتهَا ثَمَانِيَة عشر يَوْمًا لَا يقاتلها لِأَنَّهَا لَا تقَاتل فاتفق فِي الْيَوْم التَّاسِع عشر أَن إنْسَانا من عبيد شرف الدّين تحيل وتسلق فِي الْجَبَل الَّذِي عَلَيْهِ القلعة وَلم يزل يتسلق من مَوضِع إِلَى مَوضِع إِلَى أَن قَارب سورها واختبى تَحت قلاعة لَا يصل إِلَيْهِ حجر لِأَن النشاب عِنْدهم قَلِيل

فَلَمَّا رأى النَّاس ذَلِك العَبْد قد تسلق انهالوا فِي دفْعَة وَاحِدَة وصعدوا الْجَبَل كَمَا صعد العَبْد فَصَارَ عِنْده جمَاعَة وَمَا كَانَ نصر أهل القلعة كَون أُولَئِكَ صَارُوا فِي ذَلِك الْموضع إِلَّا ان الله تَعَالَى خذلهم فَلَمَّا شَاهد من بالقلعة أُولَئِكَ نادوا وطلبوا الْأمان فَقطع عَلَيْهِم فطيعة أَعْطوهُ مبلغها وأبقاهم على حَالهم فِي قلعتهم بعد أَن استحلفهم على الطَّاعَة واقطع عَملهَا الأجناد ورحل عَنْهَا إِلَى قلعة يُقَال لَهَا أم لَامة فَنزل قَرِيبا مِنْهَا وَهِي فِي الحصانة على حَالَة لَا يقدر الْإِنْسَان عَلَيْهَا فَأَقَامَ تحتهَا مُدَّة شهر وَهُوَ لَا يقدر على قتالها بل يغنم الأجناد من الْبِلَاد وينهبون الضّيَاع وَيَأْخُذُونَ البربر يَقْتُلُونَهُمْ بِالسَّيْفِ وَالدُّخَان فِي المغاير وَكَانَ صَاحب هَذِه القلعة لَهُ نسب مُتَّصِل بمناية قبيل من البربر فِي جبل من جبال قفصة يزِيدُونَ على عشْرين ألف راجل فنفذ إِلَيْهِم واستمرت كتبه إِلَيْهِم يستدعيهم فوصلوا بعد هَذِه الْمدَّة وَأَصْبحُوا فِي باكر يومهم يَنْسلونَ من كل حدب من الْجَبَل فَرَأى شرف الدّين وَأَصْحَابه مَا نالهم من كَثْرَة البربر وَكَانَت الطرقات الَّتِي ينزلون مِنْهَا من الْجَبَل كلهَا وعرة وَلم يكن بهَا طَرِيق سهل إِلَّا طَرِيق وَاحِدَة تقدر الْخَيل على الركض فِيهَا والصعود فِيهَا فَاسْتَقْبلهَا شرف الدّين بِجَمَاعَة مِمَّن مَعَه وبقى جمَاعَة فِي الخيم قَائِمين لحفظها وَلم يكن بالعاجز إِلَى أَن وصل إِلَى تِلْكَ الطَّرِيق وَقصد من كَانَ بهَا نازلا فَانْهَزَمُوا طالعين من حَيْثُ كَانُوا نزلُوا فلحق مِنْهُم جمَاعَة قَتلهمْ هُوَ وَأَصْحَابه وَأخذُوا عشْرين رجلا أسرى وَكَانَ من الْأُسَارَى صبى أَمْرَد مليح الصُّورَة عَلَيْهِ شعر طَوِيل كثيف وَجَاء إِلَى الْخَيْمَة وَقد انهزم كل من جَاءَ من الرجالة من كل طَرِيق نزلُوا مِنْهَا بانهزام من هَزَمه شرف الدّين من الطَّرِيق السهلة فَلَمَّا وقف

تَحت القلعة وَقد أشرف أَهلهَا مِنْهَا عَلَيْهِم كلهم من نَاحيَة الخيم قَالَ الْأَمِير جندار أقتل وَاحِدًا وَاحِدًا فَلم يزل يقتل وَاحِدًا وَاحِدًا إِلَى أَن قدم الصَّبِي الْأَمْرَد وَهُوَ مَعَ ذَلِك يضْحك غير مكثرت بِالْقَتْلِ فصاح أهل القلعة أَمْسكُوا عَن قَتله وَنزل وَاحِد من القلعة وَقَالَ لشرف الدّين نَحن نفتدي هَذَا مِنْك بِعشْرَة ألف دِينَار فَقَالَ شرف الدّين مَا أفعل فَبَلغهُ إِلَى عشْرين ألف دِينَار فَقَالَ مَا أفعل ثمَّ قَالَ لأمير جندار اضْرِب عُنُقه فصاحوا من القلعة لَا تفعل نَحن نفتديه بِمَا تُرِيدُ فَقَالَ لَا سَبِيل إِلَى تَركه ثمَّ ضربه أَمِير جندار ضَرْبَة أبان بهَا رَأسه عَن جسده فَمَا استتم قتل البَاقِينَ إِلَّا وَقد نزل من القلعة شيخ أحسن مَا يكون بَين الشُّيُوخ وَجَاء إِلَى شرف الدّين وَقَالَ هَذِه مَفَاتِيح هَذِه القلعة خُذْهَا بَارك الله لَك فِيهَا فَأَنا صَاحبهَا فَعجب شرف الدّين من ذَلِك وَمَا أعْطى أَمَانًا وَلَا قولا فَلم يكن شرف الدّين بالعاجز أَن نفذ فِي فوره من قبل أَن يتقصى من الشَّيْخ مَا سَبَب ذَلِك فجَاء من أَصْحَابه مائَة رجل طلعوا إِلَى القلعة وَحين صَارُوا بهَا أنزلوا من كَانَ فِيهَا وَأَغْلقُوا بَابهَا وَكَانَ بهَا ذخائر عَظِيمَة ثمَّ إِن شرف الدّين أحضر الشَّيْخ وتقصى مِنْهُ بعد ذَلِك وَقَالَ لَهُ يَا شيخ مَا السَّبَب الَّذِي أوجب أَن تُعْطى هَذِه القلعة الَّتِي مَا يقدر عَلَيْهَا أحد من غير عهد وَلَا أَمَان فَقَالَ إِن فِي قصتي عجبا هَذَا الشَّاب الْأَمْرَد الَّذِي قتلته وَلَدي وَمَا كَانَ لي ولد غَيره وَكَانَ بَينه وَبَين أَوْلَاد أخي معاداة وَكنت أوثر أَن تكون هَذِه القلعة لَهُ فَلَمَّا قتلته

علمت أنني إِن تركت القلعة فِي يَدي وأصابني الْمَوْت أَخذهَا أَوْلَاد أخي بعد وَلَدي وَمَا آثرت ذَلِك وآثرت أَن أمنعهم من ذَلِك بعده وسلمتها إِلَيْك فرق لَهُ شرف الدّين عِنْد ذَلِك وَقَالَ لَو أعلم هَذَا مَا قتلته وَأخذ شرف الدّين مِنْهَا أَمْوَالًا وذخائر عَظِيمَة ورحل عَنْهَا بعد مَا سلمهَا للشَّيْخ واستحلفه أَنه مَتى طلبَهَا وسير إِلَيْهِ من يكون فِيهَا سلمهَا إِلَيْهِ وَتوجه شرف الدّين إِلَى قلعة حسن فَنزل عَلَيْهَا أَيَّامًا وَلم يقدر مِنْهَا على شَيْء وَكَانَ أَهلهَا ينزلون فيقاتلون فِي الوطا فَرَحل عَنْهَا وَمضى إِلَى نَاحيَة جِهَة مطاطة ونازلها وَهِي بلد مَا بَين قابس وقفصة وَإِلَى قابس أقرب مِقْدَار نصف نَهَار فَنزل عَلَيْهَا وقاتلها أَيَّامًا وَدخلت سنة سبع وَسبعين وَخمْس مائَة فِيهَا نقل المستضئ قدس الله روحه من الدَّار الَّتِي كَانَ مَدْفُونا فِيهَا إِلَى الدَّار العتيقة لبَعض الْجِهَات غربي دجلة من بَغْدَاد عِنْد رَأس الجسر مجاورة لجامع فَخر الدولة بن الْمطلب وَكَانَت الْعَادة أَن يدْفن الْخُلَفَاء بمقابر قُرَيْش بالمحلة الْمَعْرُوفَة بالرصافة إِلَّا المستضئ رضوَان الله عَلَيْهِ فَإِنَّهُ ذكر عَنهُ أَنه أوصى بذلك وَقيل إِن الإِمَام النَّاصِر لدين الله صلوَات الله عَلَيْهِ اخْتَار هَذِه الْحَال لأجل خريدة أَمِير الْمُؤمنِينَ لِئَلَّا تبعد عَلَيْهَا زيارته وَلَا تَجِد من بدله بعد الطَّرِيق فَاخْتَارَ ذَلِك لقُرْبه وَأقَام للموضع فراشين وبوابين فَلَا يقدر أحد على الدُّخُول لزيارته إِلَّا بِإِذن وأوقف عَلَيْهِ وقوفا كَثِيرَة وَجعل لتربته الرَّاتِب من الشموع والوظائف من المخزن الشريف وَعمل على ضريحه صندوقا من الساج وَغرم عَلَيْهِ مبلغا من المَال

وَلما أَرَادَ الْخَلِيفَة أيد الله دولته حمل الإِمَام المستضئ بِأَمْر الله من الدَّار الَّتِي كَانَ مَدْفُونا بهَا إِلَى التربة الْمَذْكُورَة فِي الْجَانِب الغربي من بَغْدَاد أَمر بِأَن تهبأ السَّفِينَة الْمَعْرُوفَة بالزبزب وَقد غرم عَلَيْهَا مَالا جزيلا وَهِي عَجِيبَة الصَّنْعَة يجدف بهَا ملاحون عدَّة جمَاعَة مِنْهُم يجدفون فِي الْهوى من مؤخرها وَجَمَاعَة يجدفون فِي المَاء من صدرها فبرز الْأَمر النَّبَوِيّ بِحُضُور أَرْبَاب الدولة وَأهل الْعلم والصوفية والقراء وأشراف النَّاس على طبقاتهم لتحويل الإِمَام السعيد المستضئ بِأَمْر الله فَحَضَرَ النَّاس واكترى كل وَاحِد مِنْهُم سفينة على قدر وَسعه وَأخذُوا من الشموع مَا لَا يُحْصى حصرا وَلَا عدَّة فَأشْعلَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة فَكَانَ الشط بأسره من كلا جانبيه لَا يرى فِيهِ مَوضِع خَال إِلَّا وَفِيه سفينة أَو سمارية يزحم بَعْضهَا بَعْضًا فَكَانَت الدجلة تتقد من الْجَانِبَيْنِ كشعلة نَار من كَثْرَة الشموع الَّتِي أشعلت فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَكَانَ النَّاس قيَاما فِي أماكنهم والقراء يقرءُون الْقُرْآن وَأهل بَغْدَاد من الْجَانِبَيْنِ لَا يُحْصى عدتهمْ إِلَّا الله تَعَالَى بِحَيْثُ لم يتَخَلَّف عَن الْخُرُوج فِي تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَّا من هُوَ عَاجز لم يقدر على الْخُرُوج وَكَانَ أستاذ الدَّار أَبُو الْفضل بن الصاحب هُوَ الْمُبَاشر لهَذِهِ الْحَال والمرتب لَهَا فَنقل رضوَان الله عَلَيْهِ وَدفن بَاقِي ليلته وأحضرت الربعات فَكَانَ النَّاس يقرءُون ويختمون وَالْعُلَمَاء يعظمون وَاحِد بعد وَاحِد إِلَى أَن مَضَت ثَلَاثَة أَيَّام بلياليهن وهم فِي التربة الْمَذْكُورَة فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الثَّالِث آخِرَة نَهَاره حضر عماد الدّين صندل الْخَادِم الْخَاص وَتقدم إِلَى النَّاس بالانكفاء فَتَفَرَّقُوا

ذكر ما جرى وتجدد للملك الناصر صلاح الدين من الأحوال بمصر والشام

وَفِي هَذِه السّنة تقدم النَّاصِر لدين الله ينْقض السَّفِينَة الْمَذْكُورَة الْمَعْرُوفَة بالزبزب وَقَالَ لَا حَاجَة أَن تكون هَذِه بالدجلة بِإِزَاءِ التَّاج الشريف لترقب من يَمُوت يحمل بهَا وَإِنِّي كلما رَأَيْتهَا تكدرت عَليّ الْحَيَاة وَإِذا مت مَا يتَعَذَّر أَن يعْمل مثلهَا فَأمر ينقضها فنقضت وَكَانَ قد غرم عَلَيْهَا أَمْوَالًا عَظِيمَة وَكَانَت من أحسن السفن المركوبة وَكَانَ إِذا ورد إِلَى بَغْدَاد سُلْطَان وتغلب على دَار الْخلَافَة وَأَرَادَ الْحُضُور إِلَى الْخدمَة فَلَا يركب إِلَى التَّاج الشريف إِلَّا فِي هَذِه السَّفِينَة ذكر مَا جرى وتجدد للْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين من الْأَحْوَال بِمصْر وَالشَّام وَدخلت سنة سبع وَسبعين وَخَمْسمِائة وَالسُّلْطَان مُقيم بِالْقَاهِرَةِ مواظب على تَرْتِيب أَحْوَال الديار المصرية ناشر للعدل فِي الرّعية باذل لمعروفه وَمَا يسديه من مَكَارِم أخلاقه لقاصديه إِذْ وصلته الْأَخْبَار بِمَا تجدّد فِي الشَّام من موت الْملك الصَّالح إِسْمَعِيل بن نور الدّين مَحْمُود ذكر وَفَاة الْملك الصَّالح صَاحب حلب قد سبق قَوْلنَا من قبل فِي ذكر الْملك الصَّالح إِسْمَعِيل بن مَحْمُود بن زنكي وَمَا آل إِلَيْهِ أمره بعد وَفَاة أَبِيه من سوء تَدْبِير مدبريه فحين وصل السُّلْطَان من مصر إِلَى الشَّام لما وَصله من احتلال الثغور وَأَرَادَ إِصْلَاحه وَأَن يضمه

إِلَيْهِ فصده عَن ذَلِك بعض مماليك أَبِيه وَظهر مِنْهُ التأبي فَأخذت بِلَاده بلجاجهم واقتنع بحلب وَلم يزل يحكم المسئولين عَلَيْهِ إِلَى أَن قضى نحبه فأسرع ابْن عَمه عز الدّين مَسْعُود صَاحب الْموصل إِلَى حلب فاستولى على خزانته وَعلم أَنه لَا يسْتَقرّ لَهُ بهَا أَمر فَرغب أَخَاهُ عماد الدّين زنكي صَاحب سنجار فِي تعويضها لَهُ بحلب فتسلمها وَسلم سنجار إِلَيْهِ وَلما سمع السُّلْطَان بِمصْر بوفاة الْملك الصَّالح وبلغه مَا جرى بعد وَفَاته نَدم على الْبعد عَن الشَّام وَشرع فِي التَّوَجُّه من مصر إِلَى الشَّام فَكتب إِلَى وَالِدي الْملك الظفر رضوَان الله عَلَيْهِ كتابا وَكُنَّا حِينَئِذٍ بحماة وَمَا يجْرِي مَعهَا من الْأَعْمَال والولايات يَأْمُرهُ بالتأهب والنهوض بعسكره ويعرفه أَنه سيدركه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَكَانَ نَائِبه بِدِمَشْق عمى عز الدّين فرخشاه قد نَهَضَ إِلَى الكرك فِي مُقَابلَة الإبرنس بهَا وَكَانَ يحدث نَفسه أَن يقْصد تيماء فِي الْبَريَّة وَاعد لذَلِك الأزواد والروايا فَعرف السُّلْطَان اشْتِغَاله بِتِلْكَ الْجِهَة وَكتب أَيْضا كتابا إِلَى الْأَمِير معِين الدّين عبد الرَّحْمَن بن أنر صَاحب الراوندان يَأْمُرهُ أَن يكون فِي مساعدة وَالِدي وَتَحْت رَأْيه ومعاضدته وَكَانَ ذَلِك فِي الْعشْر الآخر من شعْبَان من السّنة مصدره صدرت هَذِه

الْمُكَاتبَة إِلَى حَضْرَة الْأَمِير وَنعم الله عندنَا وارفة الظلال وافرة النوال سائفة الزلَال سابغة الأذيال فائضة المنال رابضة فِي حمى الاسْتقَامَة والاعتدال مستزادة منا بالشكر على الْمَزِيد مستدامة فِي تأييدها على التأييد وَالْحَمْد لله على ذَلِك حمدا يُؤمن شَمل نظامه من التبديد وَيُؤذن لمنهج نهج حِدته بالتحديد وَعِنْدنَا من الارتياح إِلَى بهجته واجتلاء أنوار غرته مَا يشْهد بِهِ ضَمِيره الْكَرِيم وَالله سُبْحَانَهُ هُوَ الشَّهِيد الْعَلِيم والاجتماع بِحَمْد الله قد قرب بعيده وَقصر متطاول أمده ومديده والتداني لكل مَا جنته يَد التنائي كَاف والشفاء الْمُقدر لكل مختل ومعتل مُسَدّد وَورد الِاعْتِدَاد بِهِ بِحَمْد الله صَاف ورداء الالتحاف بالاحتفال لمودته ضاف وَقد عرف مَا تجدّد من وَفَاة صَاحب حلب وَهِي ولاتينا الَّتِي لَا نثنى عَنْهَا عنان الطّلب فَإِنَّهَا فِي تقليدنا من أَمِير الْمُؤمنِينَ صلوَات الله عَلَيْهِ وَمَا تركناها للْملك الصَّالح بعد التَّصَرُّف فِيهَا وَحُصُول حصونها ومعاقلها فِي أَيْدِينَا إِلَّا رِعَايَة لحقوق أَبِيه ورغبة فِيهِ وَلَا مَانع الْآن عَنْهَا من يَمِين معقودة وَلَا عدَّة معهودة وَقد وَفينَا للمتوفى بعهده وأرجأنا الْيَوْم مَعَه الْأَمر إِلَى غده والآن فقد سفر لنا وَجه الْحق وَبَان ودنا لنا مصعبه وأصحب ودان وولدنا تَقِيّ الدّين هُنَاكَ بِالْقربِ وعساكرنا جَارِيَة على حكمه ومعذوقة عزائمنا بماضي عزمه فلتكن أَيْدِيكُم متساعدة متعاضدة ونياتكم وعزماتكم على التعاون متعاقدة والقلوب وَاحِدَة والعساكر فِي استخلاص الْحق مترادفة متوافدة والأمير أولى من توفر بِرَأْيهِ الصائب وعزمه الثاقب على هَذَا الْأَمر المهم وَجرى من مألوف نَفَقَته ومعهود مناصحته على الرَّسْم وَنحن واصلون بعون الله تَعَالَى على الْأَثر بالنصر وَالظفر والعديد الأوفر والعتاد الْأَكْثَر وقادمون فِي همة وعساكر جمة ومضاء عزمه لَا عائق لما بلغت وُجُوه اللهاذم وَلَا مَانع بِحَمْد الله يجلى عَن وردهَا ظماء الصوارم ومعين الدّين أوفى معِين وأندى يَمِين وأروى وأعذب معِين وَأقرب قرين وَأَشْجَع لَيْث عرين فلينهض بِنَفسِهِ وَعَسْكَره ويوثق فِي هَذَا الْمقَام حسن أَثَره وَيعْمل عمل الْمَرْء لنَفسِهِ وينتصف ليومه من أمسه

ذكر مكاتبة سلطانية إلى مجد الدين ابن الصاحب أستاذ دار الخلافة المعظمة يصف فيها بلاءه في الإسلام وجهاده ونصيحته للدولة العباسية ويذكر فيها غدر المواصلة ومن تقدمهم

ذكر مُكَاتبَة سلطانية إِلَى مجد الدّين ابْن الصاحب أستاذ دَار الْخلَافَة المعظمة يصف فِيهَا بلاءه فِي الْإِسْلَام وجهاده ونصيحته للدولة العباسية وَيذكر فِيهَا غدر المواصلة وَمن تقدمهم ذكرنَا ذَلِك مُخْتَصرا نسختها أدام الله إقبال سامي مجْلِس الصاحب وأندى سعاداته وأيد بالنجح إراداته وحلى بالمكارم والمحامد سجاياه وعاداته وأنجز بنصر أولياءه وكبت عداته وَلَا زَالَت أَمْدَاد الزِّيَادَة لَهُ والسعادة نامية وآماد عزه فِي سَمَاء مجده مترامية وأعين مناويئه فِي مناره عَن الطموح إِلَى ذرى فخاره متغاشية متعامية وديم الْكَرم فِي فضاء فضائله من سَمَاء سماحه هامرة هامية مَا سفر وَجه وَتوجه سفر وَقدر أَمر وَقد أَمر بعد مَا أصدر مَمْلُوك الدَّار العزيزة ثَبت الله قَوَاعِد مجدها وَشد بعرى النَّصْر معاقد سعدها مطالعاته الَّتِي أعرب فِيهَا عَن صَاحب الْموصل وَأَنه قد طمع فِي حلب وطمح إِلَيْهَا وَمد عين التَّعَدِّي بالاحتواء عَلَيْهَا وَأَنه نكث الْأَيْمَان المبرمة ونقضها وَترك المراقبة الَّتِي فَرضهَا الله بِأَن رفضها فَإِن حلب وأعمالها دَاخِلَة فِي ولايتنا دُخُولا يشْهد بِهِ الْمِثَال وينطق بِحقِّهِ المنشور العال الْموقع لَهُ من مقرّ العظمة والجلال بلغه أَنه بلغ الْفُرَات وقطعه قَاطعا لما أَمر الله بِهِ أَن يُوصل من الْعَهْد وجسر على عبور جسره بل خسر حَيْثُ جَاوز حد التَّعَدِّي بتعدي الْحَد وَوصل إِلَى حلب ممتريا حلف الْخلاف متنكبا طَرِيق الْإِنْصَاف وَقد أحوجته قلَّة عسكره إِلَى الاستكثار بِمن فِي الْبَلَد من الأجناد والأشباه من رعية الْبِلَاد هَذَا وذوو التَّمْيِيز وَأهل الرّيّ والمشورة من أُمَرَاء الْعَسْكَر الْحلَبِي لم يرْضوا وَلم يرفعوا بِهِ رَأْسا وَمَا ازدادوا بِهِ إِلَّا استيحاشا لَا استئناسا وَمن حلف لَهُم حَيْثُ أكرهوه حلف على الْمقَام إِن طابت نَفسه بخدمته أَو مُفَارقَته إِلَيْنَا والانحياز عَن

جِهَته وَمن هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاء مِمَّن هُوَ أحماهم حَقِيقَة وأحقهم حمية وآباهم نفسا وأنفسهم آبية من فَارقه متاركا وشاققه مباكتا وَذهب مغاضبا وتحيز إِلَى جانبنا وَأعْرض عَنهُ جانبا وَوصل إِلَى نوابنا بِالشَّام متوسلا إِلَيْنَا لنَفسِهِ بآرائه وآرابه ورسولا عَمَّن وَرَاءه من رفقائه وَأَصْحَابه وشاع أَيْضا أَن عَسْكَر حلب أغار على الراوندان وَهِي أحد مَا فِي عَملنَا وتصرفنا لَهُ ولولايته شَامِل ورسولهم عِنْد الفرنج يستنجدهم فِي شغلنا ويغريهم ويبذل لَهُم الرغبات ويضريهم وَقد راسل الحشيشية وَالْمرَاد من الرسَالَة غير خَافَ وَالْعلم بالمعتاد مِنْهَا كَاف وَمَا تهَيَّأ للمذكور الْوُصُول إِلَى حلب إِلَّا بِسَبَب غيبَة ابْن أخينا فِي أقْصَى بِلَاد الفرنج فِي أول بَريَّة الْحجاز وَقد نَهَضَ إِلَيْهِم بالعسكر مُعْتَرضًا لَهُم فِي الْمجَاز فَإِن طاغيتهم جمع خيله وَرجله وَاسْتعْمل فِي الاستكثار من الزَّاد والآلات وَالْعدَد منته وجهله وحدثته نَفسه الخبيثة بِقصد نيماء وَهِي دهليز الْمَدِينَة على ساكنها السَّلَام واغتنم كَون الْمَدِينَة مخصبة فِي هَذَا الْعَام فقفى ابْن أخينا أَثَره وَأخذ عَلَيْهِ مورده ومصدره وعارض بالعسكر الْمَنْصُور عدوه المخذول وَعَسْكَره وَذَلِكَ بعد أَن أنضى عزمه وأمضى ركابه وجهده وَمنع الْكَافِر المخذول وَصد قَصده وَلم يعلم بوفاة ولد نور الدّين رَحمَه الله إِلَّا بعد عودته من نهضته وَقد حسن بِحَمْد الله أثر عزمته واستنقذ بركَة وَجهه فِي غزوته وَلم يشك هُوَ وَلَا غَيره أَن صَاحب

الْموصل لَا يتَعَرَّض للبلاد لأمرين أَحدهمَا أَنه لَا يتَصَرَّف إِلَّا على الْأَوَامِر الشَّرِيفَة المطاعة الَّتِي تَأمر بِالْوَفَاءِ وتنهى عَن الْغدر وَالْآخر أَنه لَا ينْقض يَمِينا لَيْسَ فِي نقضهَا وَجه من الْغدر وَالْعجب أننا نحامي عَن قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مشتغلين بهمة وَالْمَذْكُور يُنَازع فِي ولَايَة هِيَ لنا ليأخذها بيد ظلمه وَكم بَين من يحارب الْكفْر وَيحمل إِلَيْهِم قواصم الْآجَال وَبَين من يتخذهم بطانة دون الْمُؤمنِينَ وَيحمل إِلَيْهِم كرائم الْأَمْوَال وَبَين بعيد من دَار الْخلَافَة المعظمة يفترض الطَّاعَة ويستفرغ فِي مراضيها الِاسْتِطَاعَة وَلَا يحل وَلَا يعْقد إِلَّا بمراشدها وَلَا يقوم وَلَا يعْقد إِلَّا بمراصدها وَلَا يصدر وَلَا يُورد إِلَّا عَن مصادرها ومواردها وَبَين آخر يدعى أَنه أقرب جِيرَانهَا وَلَا يمت بل لَا يَمُوت إِلَّا بعصيانها ويخطب لأهل الْخلاف على الْخلَافَة ويجهر بأسمائها وينشر فِي ولَايَته راية أعدائها وكل يعْمل على شاكلة أسلافه فَهُوَ يمري بيد المراء كعادتهم العادية أخلاف أحلافه وَنحن لَا نتدين إِلَّا بِطَاعَة الإِمَام وَلَا نرى ذَلِك إِلَّا من أَرْكَان الْإِسْلَام هَذَا مَعَ مَا نعد فِي الْملَّة الحنيفية والدولة الهادية العباسية مِمَّا لَا يعد مثله أَو لَا لأبي مُسلم لِأَنَّهُ أقدم ثمَّ ضام وأمال ثمَّ آلام ووالي ثمَّ ونى وَجل وجلا ثمَّ أخل وأخلى وَلَا يعد آخرا لطغر لبك فَإِنَّهُ نصر وَنصب ثمَّ حجر وحجب وَقد عرف مَا فضلنَا الله تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِمَا فِي نصر الدولة وَقطع من كَانَ يُنَازع الْخلَافَة رداءها وإساغته الغصة الَّتِي ذخر الله لَا ساغته فِي سبقه بِنَا إِيَّاهَا

وتطهير المنابر من رِجْس الأدعياء وإطلاع أنوار السمات كاشفة ظلم تِلْكَ الْأَسْمَاء وإنارة صباح الْهدى بعد امتداد رواق الضَّلَالَة المدلهمة الظلماء وَلم نَفْعل مَا فَعَلْنَاهُ لأجل الدُّنْيَا فَلَا معنى للاعتداد بِمَا الْجَزَاء عَنهُ بِالْحُسْنَى متوقع فِي العقبى غير أَن التحدث بِنِعْمَة الله وَاجِب والتبجح بِالْخدمَةِ الشَّرِيفَة والأفتخار بالتوفيق لَهَا على السجية غَالب وَلَا غنى عَن بروز الْأَوَامِر الشَّرِيفَة إِلَى الْمَذْكُور بِأَن يلْزم حَده وَلَا يتَجَاوَز حَقه فَلَا ولَايَة لَهُ من خَليفَة يقْتَرن بِهِ بهاء المضاء وَلَا وراثة لَهُ فِي أَرض الله فَإِن الأَرْض لله يُورثهَا من يَشَاء فَإِن أطَاع وأناب وَرجع عَن الْخَطَأ وعاود الصَّوَاب وَترك الْحق لأَهله وَأخذ الْوَفَاء فِي سلوك سبله وَإِلَّا فَمَا قصدنا إِلَّا أَن نقاتله وَهُوَ لأمر الْخلَافَة المعظمة مُخَالف وَنحن طائعون والمشار إِلَيْهِ متصامم وَنحن سامعون وَكفى بالمحق نصْرَة أَنه على الرشد الْكَامِل وبالمبطل خذلانا أَنه طَالب للباطل فصل مِنْهُ هَذَا وَمَا بِنَا بِحَمْد الله قُصُور عَن أَن نصده عَن قَصده ونرديه ثوب الْعَجز برده ونكيل لَهُ بصاعه ونعثره فِي عثير إسراعه ونحسم داءه وَإِن أعضل مَرضا ونرميه بسهام من عِنْد الله تَعَالَى لَا تقبل غَيره غَرضا وَلَا شكّ أَن التحارب يحيره والإدبار يَصْحَبهُ فِيمَا يدبره وَقد طالع الدِّيوَان الْعَزِيز بطبه مستشفيا ولشرح قصَّته مُسْتَوْفيا ولعذره فِي جَمِيع الْأَحْوَال مبليا وَلَا غناء عَن نظره السَّامِي ليَكُون للمراد مُتَوَلِّيًا ولراية الْحق معليا لَا زَالَ لذخائر الْحَمد مقتنيا ولقواعد الْمجد متبنيا ورأيه أسمى إِن شَاءَ الله تَعَالَى

ذكر مسير سيف الإسلام ظهر الدين طغتكين إلى اليمن

ذكر مسير سيف الْإِسْلَام ظهر الدّين طغتكين إِلَى الْيمن وَذَلِكَ لما كَانَ يجْرِي بَين الْأَمِير عز الدّين عُثْمَان بن الزنجاري وَإِلَى عدن وَبَين الْأَمِير حطَّان بن منقذ الْكِنَانِي وَإِلَى زبيد من الْفِتَن والأمور الَّتِي تكون مَعهَا عَاقبَتهَا إِلَى فَسَاد الدول فأحضر السُّلْطَان أَخَاهُ سيف الْإِسْلَام طغتكين وَقرر مَعَه أيمضي إِلَى الْيمن وَينظر فِي أُمُور بلادها ويتولاها ويولي ويعزل ويستبدل فَسَار إِلَى الْيمن فحين علم بِهِ حطَّان خَافَ مِنْهُ وَأَوَى إِلَى بعض الْحُصُون فتحصن مِنْهُ واستكن مِنْهُ ومازال يمنيه ويرغبه فِي الْولَايَة بَين يَدَيْهِ وحطان يسْأَل الْإِذْن بالمضي إِلَى الشَّام فَأذن لَهُ فَجمع حطَّان جَمِيع أَمْوَاله وذخائره من ذهب وَفِضة وجواهر ويواقيت وآلات وَعدد وخيول عراب وَأمر غلمانه أَن تاتي بالجمال فحملها جَمِيع الْأَمْوَال وَظن أَنه ينجو بذلك وَركب ليسير بِمَالِه إِلَى الشَّام فَأمر برده إِلَيْهِ ليودعه فَلَمَّا دخل إِلَيْهِ اعتقله وسير وَرَاء مَاله وخزانته وأثقاله من ردهَا إِلَيْهِ فاستولى عَلَيْهَا ثمَّ أنفذه إِلَى بعض المعاقل فحبسه ثمَّ قَتله وَفِيمَا ذكر للسُّلْطَان من خبر مَاله وذهبه مَا يُغني عَن تفاصيل جملَته نَيف وَسَبْعُونَ غلافا من غلف الزرد وَكَانَت مَمْلُوءَة بِالذَّهَب الْأَحْمَر وَقوم الْمَأْخُوذ بِأَلف ألف دِينَار

ذكر البطسة الفرنجية الواقعة إلى بحر دمياط والظفر بها وذلك بعد غدر من الفرنج في أواخر السنة المذكورة

وَأما الْأَمِير عُثْمَان الزنجاري فَإِنَّهُ لما سمع بِسيف الْإِسْلَام ظهير الدّين طغتكين تجهز إِلَى الشَّام وَفَارق الْيمن ذكر البطسة الفرنجية الْوَاقِعَة إِلَى بَحر دمياط وَالظفر بهَا وَذَلِكَ بعد غدر من الفرنج فِي أَوَاخِر السّنة الْمَذْكُورَة كَانَ السُّلْطَان قد عقد هدنة مَعَ الفرنج فَنَكَثُوا قبل انْقِضَائِهَا تعرضا للفتنة وَجرى عِنْد ذَلِك من الاتفاقات الْحَسَنَة أَن بطسة عَظِيمَة من المراكب الفرنجية مقفلة من بلد لَهُم يُقَال لَهُ بوليه تحتوي على أَلفَيْنِ وَخمْس مائَة نفس من رِجَالهمْ وأبطالهم وأتباعهم وهم على قصد زِيَارَة الْقُدس فألقتهم الرّيح إِلَى ثغر دمياط فغرق مِنْهُم شطرهم وَسلم الْبَاقُونَ فأسروا جَمِيعًا فَحصل فِي الْأسر مِنْهُم ألف وسِتمِائَة وَسَبْعُونَ نفسا فذل لتِلْك الْوَاقِعَة جَانب الْكفْر وَاتفقَ ذَلِك أَمَام اهتمام السُّلْطَان بِالْمَسِيرِ إِلَى الشَّام لما جرى فِيهِ من الاختلال بِمَوْت صَاحب حلب وغدر صَاحب الْموصل وتجهز بعساكره المنصورة لقصده وَوَافَقَ ذَلِك دُخُول سنة ثَمَان وَسبعين وَخَمْسمِائة وَسَنذكر الْحَادِثَة فِيهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَاقعَة شرف الدّين قراقوش المظفري فِي هَذِه السّنة وَلما دخلت سنة سبع وَسبعين رَحل شرف الدّين عَن جِهَة مطماطة وَمضى

إِلَى إفريقية وَنزل على اربس وَهِي مَدِينَة عَظِيمَة وَقد اجْتمع مَعَه جمَاعَة من الْعَرَب من مرداس وَمن الرجالة وَأقَام عَلَيْهَا أَيَّامًا وَعمل عَلَيْهَا منجنيقا فَلم يقدر عَلَيْهَا ورحل عَنْهَا إِلَى سوبيريه وَلم ينزل عَلَيْهَا بل أغار على بلادها وترددت إغاراته على اربس وبلادها وَمَا حولهَا أشهرا وَجعل يرحل من مَوضِع إِلَى مَوضِع لِأَنَّهَا كَانَت أَيَّام الرّبيع إِلَى أَن انْقَضى الرّبيع وَجَاء الصَّيف فَرَحل وأوغل فِي بِلَاد إفريقية وانتهب مِنْهَا مَا قدر عَلَيْهِ وغنم أَصْحَابه الْغَنِيمَة الْعَظِيمَة وَعَاد إِلَى قفصة بمكاتبة كَانَت من بعض شيوخها إِلَيْهِ وواعده لَيْلَة بِعَينهَا لِأَن الْمُوَحِّدين كَانُوا قد أخذوها من بني الربذ فِي سنة خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة وَأَهْلهَا كثير وفيهَا من أَصْحَاب ابْن عبد الْمُؤمن جمَاعَة فوصل إِلَيْهَا فِي اللَّيْلَة الَّتِي واعده الشَّيْخ على شرفتها فَمَا تهَيَّأ لَهُ ذَلِك بل عمل السلاليم الَّتِي أعدهَا للشرفة وطلع أَصْحَابه فشعر بهم الموحدون وَجَاءُوا إِلَيْهِم فأنزلوهم أَشد إِنْزَال وَكَانَ الشَّيْخ على السُّور فَأَخذه مَعَه وَقبض عَلَيْهِ وَقَيده وَترك فِي رقبته غلا ورحل عَن قفصة فَلَمَّا أبعد عَنْهَا أطلقهُ وَقَالَ لَهُ عملت بك مَا عملت خشيَة عَلَيْك حَتَّى لَا يُقَال عَنْك إِنَّك عاملت على الْمَدِينَة فَتقْتل وَأَنا بعد إِن شَاءَ الله أرجوك فِي وَقت غير هَذَا وعاهده وَمضى وطالت مُدَّة إِقَامَة شرف الدّين يتَرَدَّد بأفريقية وَانْقطع خَبره الصَّحِيح عَن نَاصِر الدّين إِبْرَاهِيم ووصلته أَخْبَار سارة بِأَن قراقوش هلك فسارع فِي النُّزُول على قلعة أم الْعِزّ وحاصرها وَكَانَت خَالِيَة من الرِّجَال وَإِنَّمَا كَانَ فِيهَا النسوان وَمَعَهُمْ الحسام البقش أحد أَصْحَاب شرف الدّين وثقاته وَمَعَهُ

نفر قَلِيل فَلم يزل حَتَّى أَخذ القلعة وَأخذ جَمِيع مَا كَانَ فِيهَا من ذخائر شرف الدّين وأمواله وَأخرج النسوان مِنْهَا ووكل عَلَيْهِنَّ وعَلى الحسام البقش وتركهم فِي مَوضِع وَاتفقَ أَن شرف الدّين عِنْد رحيله عَن أم لَامة توجه إِلَى بلد القيروان وَنزل على مَوضِع يُقَال لَهُ السِّكَّة فِي أَوَاخِر سنة سبع وَنصب عَلَيْهَا منجنيقا وقاتله وَكَانَ مَعَه من الْعَرَب سليم الشريد فِي قريب من ألف فَارس وَقد وَصله حميد بن جَارِيَة فِي هَذِه السّنة فِي مِائَتي فَارس وَترك قبيلته لما استضعفوه واستهانوه فَلم يشعروا فِي أول النَّهَار إِلَّا وَالْحَرب قد قَامَت بَين حميد والشريد وَكَانَ الشريد أَكثر من حميد فَوَقَعت حمية قراقوش لحميد فنفذ عسكرا عونا لحميد فَلَمَّا شَعرت مَشَايِخ الشريد بذلك ارتحلت عَنهُ وَتركته وَحميد فَمَا بعدوا إِلَّا وعسكر الْمُوَحِّدين فيهم أحد أَوْلَاد عبد الْمُؤمن يُقَال لَهُ أَبُو مُوسَى فِي نَحْو من عشرَة ألف فَارس وَعشرَة ألف راجل وَمَا عِنْد شرف الدّين قراقوش خبر مِنْهُم حَتَّى أطل الْعَسْكَر من نَاحيَة الْجَبَل وَنزل الوطاء فندم على مُفَارقَة الشريد وَنفذ يستصرخهم فعادوا غليه خيالة من غير أهل وَتركُوا أهلهم ومضوا لحالهم ووصلوا إِلَيْهِ وَقَالُوا يَا شرف الدّين يَا سُلْطَان نَحن لَك على مَا تحب إِن طردتنا نزحنا وَإِن استدنيتنا حَضَرنَا وشال الْعَسْكَر أثقاله وَبَقِي المنجنيق ولز وُصُول الْعَسْكَر وَالنَّاس يَقُولُونَ يَا خوند أطلنا الْعَسْكَر وَهُوَ يَقُول وَالله مَا أروح إِلَّا بالمنجنيق وَلم يزل حَتَّى رَفعه على الْجمال وَضرب لمقدم عَسْكَر الْمُوَحِّدين خيمة وَاحِدَة ووقف الْعَسْكَر بأسره فَسئلَ بعد ذَلِك عَن الْخَيْمَة مَا كَانَ سَبَب ضربهَا فَقَالُوا نزل السَّيِّد يلبس فِيهَا لَامة حربه

وَنفذ شرف الدّين الشهَاب ابْن الْمُقدم وَجعله مقدما على الشاليشية وَأَرَادَ أَن يبصر كَيفَ حَرْب الْمُوَحِّدين وطمعوا فيهم فرموا مِنْهُم جمَاعَة وَأتوا بخيولهم إِلَى شرف الدّين فَزَاد الطمع وَنفذ الْعَرَب الشريد وذباب وَأَصْحَاب حميد فَصَارَ الْجَمِيع قَرِيبا من ألف وَخمْس مائَة فَارس وَوَقع الطراد بَينهم وطمعوا فِي الْمُوَحِّدين ونفذوا إِلَى شرف الدّين أَن يقدم إِلَيْهِم وَكَانَ شرف الدّين قد نفذ الثّقل وأوصله إِلَى رجائل الْعَرَب وَعَاد وَمَعَهُ ثَلَاثمِائَة فَارس فأطل على الْقِتَال وَحمل حَملَة وَاحِدَة بِمن مَعَه وَمن كَانَ تقدمه فانكسر الموحدون وارحت عَلَيْهِم الكرة ولازال الطراد فيهم وَالْأَخْذ إِلَى مَدِينَة القيروان فَدَخلَهَا السَّيِّد أَبُو مُوسَى مقدم الْعَسْكَر وَعَاد شرف الدّين ظافرا وغنم عسكره وأسروا جمَاعَة من المقدمين فَكَانَ مِمَّن أسر ابْن مثنى صَاحب ديوَان أفريقية وَالْقَاضِي قية وَالْقَاضِي ابْن ماسكة قَاضِي إفريقية وَجَمَاعَة كَبِيرَة مِنْهُم من فدى نَفسه بِخَمْسَة ألف دِينَار وَسِتَّة ألف دِينَار إِلَى الف وَأما ابْن الْمثنى فَإِنَّهُ كَانَ قد أَخذه بعض الْعَرَب يُسمى نعيم فنفذ إِلَيْهِ شرف الدّين أَخذه وَأَعْطَاهُ ألفي دِينَار وَتَركه فِي خيمة فترددت الرسائل بَينهمَا فِي الْفِدَاء فَقطع على نَفسه خَمْسَة وَسِتِّينَ ألف دِينَار عينا وبأربعين ألف مَتَاعا من عمل سوسة والمهدية وَمَا بَات شرف الدّين فِي تِلْكَ اللَّيْلَة الَّتِي كَانَت الكسرة فِي يَوْمهَا حَتَّى اخذ السِّكَّة الَّتِي كَانَ يحاصرها لاستسلام أَهلهَا وَقطع عَلَيْهِ عشْرين ألف دِينَار فَرَحل عَنْهَا وَقطع القيروان وَنزل بَينهَا وَبَين المهدية على بلد يُسمى لودر فَلم يزل عَلَيْهَا إِلَى أَن استوفى مَا كَانَ قطعه على ابْن مثنى وَأطْلقهُ من هُنَاكَ وَمن أعجب الْأَشْيَاء أَن بعض الأتراك أَخذ قماشا فِي الكسرة فَكَانَ لكاتب السَّيِّد أبي مُوسَى فَوجدَ فِيهَا أوراقا وكتبا من الْأَطْرَاف وَوجد فِيهِ كتابا وَقد وصل من قابس إِلَى السَّيِّد يذكر فِيهِ أَن إِبْرَاهِيم نزل على أم الْعِزّ وَأَخذهَا وَأنزل نسَاء قراقوش مِنْهَا لما بعد عَهده بِخَبَرِهِ فَدخل على شرف

الدّين من ذَلِك أَمر عَظِيم وَمَا كَانَ بُد لَهُ من الْعود إِلَى بِلَاد طرابلس لأجل مَا سَمعه عَن إِبْرَاهِيم فَعَاد مظفرا قد كسر الْمُوَحِّدين وغنم هُوَ وَأَصْحَابه الْغَنِيمَة الْعَظِيمَة وَاتفقَ فِي طَرِيقه بزغب الَّذين كَانُوا يكونُونَ مَعَ إِبْرَاهِيم فتراسل وإياهم وَحضر إِلَيْهِ أمراؤهم وَقد تقدّمت أَسمَاؤُهُم فتحالف مَعَهم وَكَانَ حميد فَارقه عِنْدَمَا نزل بالجهة وَسَار إِلَى قبيلته وَكَانُوا بنواحي هراره وَكَانَت رعب على مَوضِع يُقَال لَهُ رَدِيف وَهُوَ مَوضِع مليح من عمل قابس وَاقع فِيمَا بَينهَا وَبَين جبلي مطماطة وقلعة حسن فَلَمَّا اتّفق مَا بَين شرف الدّين وَبَين زغب فرج عَنْهُم لِأَن ذُبَاب عِنْدهَا عذر عَظِيم ومكر وخداع وزغب عِنْدهَا عذر وَفَاء ومحبة فِي الأتراك لِأَن ذبابا أعداؤهم وهم خلق كثير يكون فِي خَمْسَة ألف فَارس وزغب مَا تزيدعلى ألف ومائتي فَارس إِلَّا أَن زغب عِنْدهم شجاعة وفروسية وَإِن كَانَ فِي ذُبَاب كَذَلِك إِلَّا أَن زغب إِذا كَانَت مَعَ الغز لَا يقابلها أحد وَسَار شرف الدّين وهم مَعَه إِلَى بِلَاد طرابلس فوصلها وَسمع بِهِ إِبْرَاهِيم وَتحقّق رُجُوعه فَقَامَتْ قِيَامَته وَلم يكن شرف الدّين عَاجِزا وَلَا متوانيا فِي أمره إِذْ سارع إِلَى الْجَبَل جبل نفوسه وطلع إِلَى إِبْرَاهِيم من عقبَة يُقَال لَهَا مكردمين وَسَار إِلَى جادوا فَمَا اسْتَطَاعَ إِبْرَاهِيم أَن يقاتله فَترك الْبِلَاد وَنزل إِلَى قلعته تنزلت وتحصن بهَا وَنزل عَلَيْهِ شرف الدّين وَهِي قلعة لَا تقَاتل لِأَنَّهَا نائية فِي وسط وَاد عَظِيم لَا يقدر أحد على الطُّلُوع إِلَيْهَا وَلَا الْقِتَال إِلَّا أَن بعض الْجبَال الَّتِي حولهَا تشرف عَلَيْهَا فجَاء شرف الدّين إِلَى ذَلِك الْجَبَل وَنصب عَلَيْهِ منجنيقا وَرمى بِهِ فَمَا وصل إِلَيْهَا فطول سَهْمه وَرمى بِهِ فَلم يصل إِلَيْهَا بل زَاد على الأول فتحيل فِي سهم طَوِيل وَضرب بِهِ فَوَقع حجره فِي وسط القلعة فَمَا قدر إِبْرَاهِيم أَن يُقيم وَطلب الْأمان وَخرج حَاجِبه جمال الدّين وَطلب أَمَانًا لإِبْرَاهِيم فَشرط عَلَيْهِ أَن يتَوَجَّه إِلَى طرابلس ينزل فِيهَا فِي مركب إِلَى الديار المصرية فتوقف شرف الدّين عَلَيْهِ فِي الْأمان وَقَالَ مَا آخذه إِلَّا أَسِيرًا هَذَا الغادر الماكر فَلم يزل الأتراك يسْأَلُون فِيهِ إِلَى أَن أعطَاهُ

يَده وَحلف لَهُ بِرَأْس الْملك المظفر أَنه لَا يضرّهُ فَخرج فِي ليلته وَلم يجْتَمع بِهِ وسيره مَعَ سِتِّينَ فَارِسًا إِلَى مَدِينَة طرابلس فوصلها ودخلها وَكَانَ صَاحبهَا ابْن مطروح عبد الْمجِيد مُطيعًا لِابْنِ عبد الْمُؤمن صَاحب الْمغرب فَلَمَّا اجْتمع بِهِ إِبْرَاهِيم حسن لَهُ التَّوَجُّه إِلَى ابْن عبد الْمُؤمن وسفره فِي مركب إِلَى تونس وَكَانَ فِيهَا وَال يُقَال لَهُ عبد الْوَاحِد فَتَلقاهُ ملقى حسنا وَأَعْطَاهُ مَالا كثيرا وجهزه وسيره إِلَى مراكش وَكَانَ صَاحبهَا ابْن عبد الْمُؤمن يُوسُف إِذْ ذَاك وَملك قراقوش مَا كَانَ بيد إِبْرَاهِيم وأضافه إِلَى مَا كَانَ فِي يَده وَلما أحس حميد بن جَارِيَة مقدم ذُبَاب بِأَن قراقوش قد حَالف زغب قَامَت قِيَامَته وَأخذ فِي عداوته وَصَارَت ذُبَاب تقتل من لقِيت من الأجناد وتغار على جمَالهمْ فِي مراعيها وَتَأْخُذ قوافلهم فَقضى ذَلِك أَن شرف الدّين أظهر عَدَاوَة حميد وَنفذ إِلَيْهِ إِن أردْت صادقتي فَترد مَا أَخَذته قبيلتك فَقَالَ حميد لَا قدرَة لي على ذَلِك فَقَالَ لَهُ شرف الدّين انْعَزل عَنْهُم بِمن أطاعك فَأبى وَعلمت ذُبَاب بِإِظْهَار الْعَدَاوَة لشرف الدّين فَصَارَت كلهَا طَوْعًا لَهُ وَكَانَت ذُبَاب إِذا رَأَتْ حميدا قد عادى ملكا أَطَاعَته وَإِذا صَادِق ملكا بغضته وَعلمت الشريد بعداوة شرف الدّين وذباب فانحازت إِلَيْهِ وحالفته مَعَ زغب وَكَذَلِكَ عَوْف حالفته وَكَانَت سليم كلهَا الَّتِي بطرابلس إِذا جَاءَ لذباب عَدو انْحَازَتْ إِلَيْهِ لِأَن ذُبَاب أبدا كَثِيرَة الْأَذَى لسليم لكثرتها وسأذكر واقعته فِي موضعهَا من سنة ثَمَان وَسبعين وَخَمْسمِائة إِن شَاءَ الله تَعَالَى

سنة ثمان وسبعين وخمس مائة

سنة ثَمَان وَسبعين وَخمْس مائَة فِيهَا برز الْأَمر الشريف بِأَن لَا يستخدم فِي الدِّيوَان كتاب النَّصَارَى وَلَا أحد من أهل الذِّمَّة وَكَانُوا يستخدمون فِي الدِّيوَان وَفِي المخزن لِاسْتِيفَاء الْأَمْوَال وَرفع الْحساب من قبل فَلَمَّا ولى الإِمَام النَّاصِر لدين الله صلوَات الله عَلَيْهِ رأى أَن فِي ذَلِك إذلالا للْمُسلمين فَوَقع إِلَى أستاذ الدَّار أَمِين الصاحب يَقُول لَهُ إِن الله تَعَالَى نفى أَن يكون للْكَافِرِ على الْمُسلم سَبِيل وَفِي اسْتِخْدَام أهل الْكتاب إهانة للْمُسلمين فَلَا يستخدم أحد فِي شَيْء من الْأَعْمَال ورتب عوضهم من يصلح من الْمُسلمين فَكتب إِلَيْهِ أستاذ الدَّار إِن هَذِه الْحَال تحْتَاج إِلَى التَّأَمُّل فِي حَال من يرتب وَفِي الصَّبْر على هَؤُلَاءِ للْكتاب إِلَى أَن يُؤْخَذ مَا عِنْدهم من أصُول الْأَمْوَال بِحَيْثُ لَا يعلمُونَ ولعلهم إِن علمُوا أسقطوا كثيرا من حُقُوق الدِّيوَان فَوَقع إِلَيْهِ النَّاصِر لدين الله مَا إِلَى هَذَا سَبِيل وَلَو ذهب أصل بَيت المَال وَلَا يبْقى أحد من الْكفَّار فِي شَيْء من الْأَعْمَال فَأخْرج جَمِيع من كَانَ بِخِدْمَة الدِّيوَان من أهل الْكتاب كأولاد النظام وَغَيرهم من النَّصَارَى من أَوْلَاد زطينا وَابْن الْأَشْقَر كَاتب ديوَان الْعرض وشفع ابْن البُخَارِيّ نَائِب الوزارة بِابْن الْأَشْقَر كَاتب ديوَان الْعرض ليبقى على حَالَته وَذكر أَنه ثِقَة عفيف فَوَقع الْخَلِيفَة هَذَا ابْن الْأَشْقَر مَاتَ مَا الَّذِي يصنع بعده فِي ديوَان الْعرض فَتقدم بِإِخْرَاجِهِ من الدِّيوَان بعد أَن عرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام فَأبى وَكَانَ لَهُ ولد فَدخل إِلَى ابْن البُخَارِيّ

وَهُوَ جَالس فِي الدِّيوَان فِي مَلأ من النَّاس وَقَالَ يَا مَوْلَانَا أَنا رجل قد رغبت فِي دين الْإِسْلَام لأجل خدمَة أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأَنا أشهد أَلا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن كل دين غير الْإِسْلَام بَاطِل فَأَشَارَ إِلَيْهِ ابْن البُخَارِيّ بِالْجُلُوسِ فَجَلَسَ ثمَّ كتب إِلَى الْخَلِيفَة بِصُورَة الْحَال فَوَقع الْخَلِيفَة إِلَيْهِ إِنَّمَا منعنَا من اسْتِخْدَام الْكفَّار لأجل كفرهم فَمن أسلم يُعَاد إِلَى خدمته وَهَذَا يخلع عَلَيْهِ ويستخدم فِي ديوَان الْعرض عوضا عَن أَبِيه وَيُقَال لكل من صرفنَا من خدمتنا إِن أحب الدُّخُول فِي الْإِسْلَام فيعاد إِلَى خدمته ويشرف وَمن لم يفعل لَا يُمكن من خدمَة تتَعَلَّق بِنَا وَالسَّلَام وانحسمت الْمَادَّة فِي ذَلِك وَكَانَت هَذِه مَعْدُودَة من مَكَارِم أَخْلَاق أَمِير الْمُؤمنِينَ النَّاصِر لدين الله لِأَنَّهُ لم يسْبق إِلَيْهَا وَلم يعتمدها سواهُ وفيهَا تقدم الْأَمر بِالْقَبْضِ على كَمَال الدّين أبي مفضل بن الْوَزير الْفرج بن رَئِيس الرؤساء وَحمل إِلَى دَار الخفاش فِي التَّاج الْعَتِيق وَطلبت مِنْهُ أَمْوَال جمة فَلم يعْتَرف بِشَيْء وَأخذ مَا كَانَ فِي دَاره من المَال فَكَانَ مِقْدَاره عشْرين ألف دِينَار وَأخذت من دَاره خزانَة من الْكتب النفيسة فبيعت بمبالغ وَتَوَلَّى بيعهَا أَبُو السعادات الْوَكِيل ابْن النَّاقِد وتكررت الْمُطَالبَة لِابْنِ رَئِيس الرؤساء بِالْمَالِ وَهُوَ يدافع عَن ذَلِك وَكَانَ أستاذ الدَّار ابْن الصاحب يزري عَلَيْهِ ويعادي بَيته قَدِيما وحديثا وَكَانَ يخَاف مِنْهُ لِأَنَّهُ كَانَ رجلا جبارا عَارِفًا بأحوال الْملك وتدبيره وَكَانَ قد نَشأ فِي دَار الْخلَافَة حَاكما وَكَانَ أَبوهُ الْوَزير مَعَ شيخوخته يتدبر بِرَأْيهِ مَعَ صغر سنه فَتقدم أستاذ الدَّار إِلَى عبد الْملك النَّائِب وَكَانَ قد عرف بالظلم والقساوة لِأَنَّهُ مُنْذُ نَشأ فِي

بَاب النوبى يخْدم بَين يَدي الْحجاب أَن يتَوَلَّى أمره وعذابه فَتَركه فِي مطمورة وَكَانَ يضْربهُ من رَأسهَا بطوابيق القرميد حَتَّى هلك فَعرف الْخَلِيفَة بِمَوْتِهِ فَقيل لَهُ إِنَّه كَانَ بِهِ ذرب وَكثر عَلَيْهِ فَمَاتَ فَتقدم بِأَن يَرْمِي فِي دجلة لَيْلًا فَرمى وَلم يعلم بِهِ إِلَى مُدَّة وَكَانَ مَوته أعظم الْأُمُور على اهل بَيته لِأَنَّهُ كَانَ يخَاف مِنْهُ وتطرق الْأَذَى إِلَى بَيت رَئِيس الرؤساء وَدخل عَلَيْهِم الْأَذَى وتبرجت نِسَاؤُهُم بعد الخدر وَتَزَوَّجت إِحْدَى بَنَات كَمَال الدّين بِرَجُل يعرف بِابْن ملك كَانَ جنديا وتصوف بعد أَن كَانَت مُسَمَّاهُ على ابْن قطب الدّين قايماز وَفسخ أَبوهَا النِّكَاح وَقَالَ لَيْسَ هَذَا بكفء ثمَّ تناهت الْحَال بِهَذَا الْبَيْت وَأَهله إِلَى أَن صَارُوا من أدون النَّاس حَالا وَكَانَ أهل بَغْدَاد إِذا شاهدوا وَاحِدًا من نِسَائِهِم أَو صبيانهم يَقُولُونَ سُبْحَانَ مزيل النعم ويذكرون قدم هَذَا الْبَيْت وَكَانَ أستاذ الدَّار يتتبع جَمِيع من كَانَ من أَنْسَاب هَذَا الْبَيْت وأقاربه والمتعلقين بِهِ ماعدا عز الدّين أَبَا مَنْصُور بن رَئِيس الرؤساء فَإِنَّهُ كَانَ يقربهُ ويحضره عِنْده ويكلفه ذكر أَهله ويوقع فِي نفس الْخَلِيفَة أَنهم يبغضونه من زمن وفيهَا تقدم أَمِير الْمُؤمنِينَ النَّاصِر لدين الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بختان ولديه ولي الْعَهْد أبي نصر مُحَمَّد والأمير أبي جَعْفَر على أعز الله أنصارهما فَأمر بِحُضُور أَرْبَاب الدولة وَجَمَاعَة من الْأُمَرَاء الْخَواص وَمن

جرت عَادَته حُضُور دَار الْخلَافَة وَأمر بِحُضُور المغنين والمطربين وَأَصْحَاب الملاهي وَتقدم بِعَمَل خوان غرم عَلَيْهِ مَال جزيل لَا يحصره عد وَلَا وصف لكثرته وَمَا صنع عَلَيْهِ وبقى النَّاس على مَا هم عَلَيْهِ من الْفَرح وَالسُّرُور والطرب سَبْعَة أَيَّام بلياليهن فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْم السَّابِع أَمر بِالْخلْعِ والتشريفات فَأول من خلع عَلَيْهِ مجد الدّين أَبُو الْفضل ابْن الصاحب خلع عَلَيْهِ جُبَّة أطلس بقطى ومقيار مسمط بِذَهَب عراقي وَأعْطى سَيْفا مذهبا واعتقد النَّاس أَنَّهَا خلعة الوزارة وَجعل النَّاس يترقبون ركُوبه فَركب وَدخل إِلَى الدَّار العزيزة على جاري عَادَته ثمَّ خلع على جمَاعَة الْأُمَرَاء وأرباب الدولة وَحضر للتهنئة جمَاعَة من الشُّعَرَاء والفضلاء وَمِنْهُم الْأَجَل أَمِين الدولة جمال الْكتاب أَبُو الْفَتْح مُحَمَّد بن عبد الله الْكَاتِب سبط التعاويذي فَقَالَ يمدحه ويهنئه بختان ولديه أبي نصر وَأبي جَعْفَر (ختان جرى بِالْيمن والنجح طَائِره ... موارده محمودة ومصادره) (قَضَت بتباشير السرُور صدوره ... ونيل المنى أعجازه وأواخره) (بطالع سعد لَا تغيب نجومه ... وزائن حَظّ لَا تغيب بشائره) (فيالك من يَوْم تَكَامل حسنه ... فرقت حَوَاشِيه وراقت مناظره) (حوى شرفا يبْقى على الدَّهْر ذكره ... إِذا فنيت أدواره وأعاصره) (يتيه على الْأَيَّام فضلا وسؤددا ... فَلَو فاخرته أفحمتها مفاخره)

(أفيض على الدُّنْيَا بِهِ ثوب بهجة ... فأمست عَلَيْهَا ضافيات حبايره) (فَفِي كل قلب غِبْطَة تستفزه ... ونشوة شكر من سرُور تخامره) (لقد سفك الْإِسْلَام فِيهِ وَحكمه ... دَمًا جلّ أَن يلقى ثرى الأَرْض قاطره) (وَلَوْلَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَإنَّهُ ... بإيثاره فِي طَاعَة الله هادره) (لخرت على الترب السَّمَاء وزلزت ... رواسيه إجلالا وغيضت زواخره) (أيقضي على وتر سليل خِلَافه ... كتائبه من حوله وعساكره) (وتحنى عَلَيْهِ فِي يَد العلج مدية ... وخرصاته من دونهَا وبواتره) (وَمَا فراقت بيض السيوف غموده ... وَلَا حملت أَسد العرين صوامره) (وَلكنه الْإِسْلَام ينقاد طَائِعا ... لَهُ كل جَبَّار تطاع أوامره) (لِيهن أَبَا الْعَبَّاس لله نعْمَة ... تراوحه مَوْصُولَة وتباكره) (سيبلو وشيكا مِنْهُمَا لَيْث غابة ... تمزق أشلاء الأعادي أظافره)

(وغيث سماح يملؤ الأَرْض ودقه ... وتروي صدى الهيم الظماء مواطره) (همو أُمَرَاء الْمُؤمنِينَ عليهمو ... إِذا ريع سرب الْملك تثني خناصره) (وهم عدد الْإِسْلَام إِن عَن حَادث ... كفوه وهم أعضاؤه وذخائره) (بهاليل من آل النَّبِي تأشبت ... عناصرهم فِي خندف وعناصره) (نجارهمو يَوْم الفخار نجاره ... وأحسابهم أحسابه ومآثره) (يطيعهم الدَّهْر المطاع قَضَاؤُهُ ... وترهبهم أحداثه ودوائره) (لقد سَار فِينَا سيرة عمرية السياسة ... فالتأييد فِيهَا يسايره) (إِمَام لتقوى الله وَالْعدْل كُله ... وللبذل وَالْمَعْرُوف فِي النَّاس سايره) (كريم الْمحيا وَالشَّمَائِل يلتقي ... بأبوابه بَادِي الثَّنَاء وحاضره) (أَضَاءَت لنا بشرا أسرة وَجهه ... وشفت عَن الْخلق الْكَرِيم سرائره) (وأوسع جاني الذَّنب عفوا وَإِن غَدَتْ ... تضيق عَلَيْهِ فِي السماح معاذره) (هُوَ النَّاصِر الدّين المنيف بِسَيْفِهِ ... وآرائه وَالله بِالْغَيْبِ ناصره)

(فخرت على أَبنَاء دهري بمدحه ... وَعظم قدري أنني الْيَوْم شاعره) (أصوغ لَهُ حلى المديح وَلم تكن ... لتحسن إِلَّا فِي علاهُ جواهره) (فَلَا زَالَت الأقدار تجْرِي بأَمْره ... وَيدْفَع عَن حوبائه مَا يحاذره) (وَلَا بَرحت فِي الْخَافِقين أواهلا ... بدعوته أعواده ومنابره) وفيهَا تقدم الْخَلِيفَة إِلَى مُجَاهِد الدّين خَالص الْخَادِم أَن ينظر فِي نهر ملك ويرتب فِيهِ من شَاءَ من النواب والعمال وَالْكتاب وَجَمِيع مَا يحصل من معاملات نهر الْملك يعرض على يَده وَمن جَانِبه وَفرض لَهُ عَن نظره برسم الشحنكية مَالا وَتقدم لَهُ بِسيف ركاب أُسْوَة بأرباب الدولة وَسَأَلَ أَن يركب بسيوف مَشْهُورَة فِي ركابه إِذا ركب فِي الْبَلَد فَأذن لَهُ فِي ذَلِك وَسبب الإنعام فِي حَقه خدمته لأمير الْمُؤمنِينَ فِي زمن إمارته وَكَانَ قد رباه وَكَانَ بَحر درة أَمِير الْمُؤمنِينَ صلوَات الله عَلَيْهِ تحبه وتحترمه وتشتهي أَن ترَاهُ بِهَذِهِ الْحَال لسابق خدمته لَهَا وَطلب الْإِذْن النَّبَوِيّ فِي اسْتِخْدَام وَزِير لتدبير أمره فَأذن لَهُ فِي ذَلِك فاستوزر رجلا يعرف

بالأصيل ابْن الحوافي أعجميا مَعْرُوفا بِخِدْمَة الْأُمَرَاء وَكَانَ الْمَذْكُور وزيرا للأمير إيلاجك وَكَانَ وَلَده عَارض الْجَيْش فَخلع عَلَيْهِ خَالص جُبَّة أطلس ومقيارا بعراقي وَاسْتَأْذَنَ لَهُ فِي الدُّخُول إِلَى الدَّار العزيزة وَأَن يكون لَهُ موصع بِبَاب الْحُجْرَة الشَّرِيفَة يجلس فِيهِ لقَضَاء مهماته فَأذن لَهُ فِي ذَلِك فَكَانَ أستاذ الدَّار ابْن الصاحب يتَأَذَّى من هَذِه الْأَحْوَال وَكَانَ هَذَا الْخَادِم قد كبر أمره فخاف مِنْهُ على منصبه وَأَن تفضى الْحَال إِلَى أَن يرتب ابْن الْأَصِيل أستاذ الدَّار فَسَار أستاذ الدَّار يُسَارع فِي توقف مهامه وتبطيل كثير من أوامره وَحسن للخليفة ذَلِك فبرز الْأَمر أَن يُرَاجع أستاذ الدَّار فِي جَمِيع أُمُوره فتأكدت الْعَدَاوَة بَين أستاذ الدَّار ابْن الصاحب وَبَين خَالص الْخَادِم وَآل الْأَمر فِي امْتنَاع النَّاس من الدُّخُول على خَالص وَكَانَ من أَرَادَ الدُّخُول إِلَيْهِ لحَاجَة لم يقدم على ذَلِك إِلَّا بِإِذن من أستاذ الدَّار وَكَانَ جمَاعَة من النَّاس من أهل بَغْدَاد مَا لَهُم شغل إِلَّا نقل الحَدِيث من مجْلِس خَالص إِلَى أستاذ الدَّار وَكَانَ خَالص قد اشْترى جمَاعَة من الْجَوَارِي المطربات نَحوا من عشْرين جَارِيَة وَكَانَ يُبَالغ بأثمانهن وَكَانَت الْجَارِيَة مِنْهُنَّ تَسَاوِي ألف دِينَار وَكَانَ يحب السماع وَلَا يشرب وَكَانَ يَأْمر بإحضار جمَاعَة من الْأُمَرَاء والمماليك فنفذ أستاذ الدَّار يمنعهُ من ذَلِك وَقَالَ مثل هَذِه الْحَال لَا تحْتَمل أَن تكون فِي الدَّار العزيزة فتألم خَالص من ذَلِك وَرفع أمره إِلَى الْخَلِيفَة فاستصوب الْخَلِيفَة رَأْي أستاذ الدَّار وَقَالَ نعم مَا فعل وَإِذا أَرَادَ هَذِه الْحَال يعمر على شاطئ دجلة دَارا وَلَا يفعل ذَلِك بدار الْخلَافَة وَمنع خَالص من ذَلِك الْوَقْت وَعمر دَارا على شاطئ الدجلة

وفيهَا استخدم أستاذ الدَّار أَبَا المظفر هبة الله ابْن يُونُس وَجعله نَائِبه وَحكمه وَصَارَت الْأُمُور تجْرِي معظمها على يَدَيْهِ وَكَانَ أَبُو الْمَذْكُور يُونُس وَكيلا بِبَاب الْحُجْرَة الشَّرِيفَة من جَانب أستاذ الدَّار وَكَانَ رجلا دينا وَكَانَ مخمول الذّكر فَلم يزل على ذَلِك حَتَّى حصل مَالا وثروة حدودا من عشْرين ألف دِينَار وَكَانَ من أَمر وَلَده أبي المظفر مَا سَنذكرُهُ فِيمَا بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى وفيهَا أعْطى سعود الْخَادِم شحنكية دجيل وجانبيه من تكريت إِلَى بَغْدَاد وَكَانَ النَّاظر بدجيل زعيم الدّين بن الْجلَال وَكَانَ قَيْصر بن بلك بَين يَدي سعود محكما فِي ولَايَته لَا يعْمل أمرا وَلَا شَيْئا إِلَّا بِرَأْيهِ وَكبر أَمر سعود وَتقدم عِنْد الْخَلِيفَة وَكَانَ لَا يزَال يركب مَعَ الْخَلِيفَة إِذا ركب وخوطب بالإمارة وَأعْطى إقطاعات كَبِيرَة فِي بِلَاد وَاسِط مَعَ شحنكية دجيل فَحصل من ذَلِك أَمْوَالًا جزيلة لِأَن دجيلا بلد كَبِير الدخل وَلَيْسَ فِي بِلَاد الْعرَاق أَكثر دخلا مِنْهُ وَلَا أَكثر من ثماره وَلَا أنزه من ضيَاعه وَلَا أرق من هَوَاهُ وَلَا تزَال الْمِيَاه تطرد فِي أنهاره وَهُوَ الْمَوْصُوف بِكَثْرَة بِلَاده وَحَتَّى وَلَو خرب دجيل لزال من الْعرَاق مُعظم مغانيه وفيهَا رتب عماد الدّين صندل الْخَادِم نَاظرا فِي نهر عِيسَى ورسم لَهُ النّظر فِي شحنكيته وَتقدم إِلَيْهِ بالعبور إِلَى الْجَانِب الغربي وَكَانَت هَذِه الْحَال من جَانب أستاذ الدَّار لِأَن صندلا كَانَ فِي زمن المستضئ أستاذ

الدَّار لِأَن الْخَلِيفَة كَانَ قد الْتفت إِلَيْهِ وَكبر عِنْده لِأَنَّهُ كَانَ رجلا عَاقِلا تقيا وَكَانَ النَّاس يَعْتَقِدُونَ فِيهِ ويعظمونه وَكَانَ ذَا مَعْرُوف حسن فَلم يزل أستاذ الدَّار بن الصاحب حَتَّى حسن فِي نفس الْخَلِيفَة الإنعام فِي حَقه وَحسن لَهُ أَن رتبه فِي نهر عِيسَى نَاظر شحنة وَنفذ لَهُ بغلة شهباء وحصانا أَحْمَر وجبة وعمامة وسيفا وَخرج إِلَى نهر عِيسَى ورتب عَلَيْهِ مشرفا رجلا يعرف بزين الدّين أَحْمد بن جَعْفَر الَّذِي كَانَ أَبَا صَاحب ديوَان إِمَام المستنجد بِاللَّه رضوَان الله عَلَيْهِ وفيهَا مَاتَ الشرابي الْمَعْرُوف بالتحفة ورتب مَوْضِعه نجم الدولة نجاح وَشرف تَشْرِيفًا جميلا وَأعْطى إقطاعا كَبِيرا وَتقدم إِلَيْهِ أَن يركب موضعا جرت بِهِ عَادَة أَمْثَاله من الشَّرَاب دارية وَكثر إنعام الْخَلِيفَة عَلَيْهِ والالتفات إِلَيْهِ وَظهر نصحه وَهُوَ إِلَى الْآن على عَادَة وفيهَا رتب أَبُو الْحسن بن الْكَرْخِي حاجبا فِي الدِّيوَان من حجاب المناطق وَكَانَ الْخَلِيفَة يقربهُ وَيُحب محاضرته ورتب أَبُو الشَّيْخ أَبُو جَعْفَر الْكَرْخِي حَاجِب الْمِنْبَر الشريف بِجَامِع الْقصر وخلع عَلَيْهِ وَعَادَة حَاجِب الْمِنْبَر بِجَامِع الْقصر أَن يكون متأهبا ليَوْم الْجُمُعَة بِإِزَاءِ الْمِنْبَر يلبس ثِيَاب السوَاد ويشد وَسطه بمنطقة مُتَقَلِّدًا بِسيف حليته فضَّة وَيكون بَين يَدي الْمِنْبَر فَكل من أَتَى متظلما يَأْخُذ مِنْهُ قصَّته ويستعلم حَاله وَيكون بَين يَدَيْهِ جمَاعَة المستخدمين المقيمين بِبَاب الْعَامَّة ينفذون أوامره ويستخدمهم كَيفَ شَاءَ فِي هَذَا الْيَوْم فَحسب فَإِذا تكملت الرّقاع مَعَه أَخذهَا فِي منديله فَإِذا قضيت الصَّلَاة خرج من الْجَامِع وَجَاء إِلَى الْمَقْصُورَة الَّتِي جرت عَادَة

الْوَزير والنائب أَن يُصَلِّي بهَا فَإِذا خرج الْوَزير مشي فِي خدمته وَسلم الرّقاع إِلَيْهِ وَشرح لَهُ أَحْوَال أَرْبَابهَا مفصلة فَمَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى الْمُرَاجَعَة للعرض الْأَشْرَف رَاجع فِيهِ وَمَا لَا يحْتَاج تقدم فِيهِ الْوَزير أَو النَّائِب وَكَانَ فِي هَذِه السّنة ابْن النجاري جلال الدّين النَّائِب فَكثر عِنْده ابْن الْكَرْخِي يَخْلُو بِهِ فَكَانَ ابْن الْكَرْخِي يشْرَح لَهُ مَا كَانَ يجْرِي لَهُ مَعَ الْخَلِيفَة فِي خلوته فَاسْتَأْذن الْخَلِيفَة أَن يرتب وَالِد الْمَذْكُور الَّذِي هُوَ حَاجِب الْمِنْبَر على الْمَظَالِم على أَن من كَانَ لَهُ ظلامة أَو حَاجَة أَو قصَّة وَأَرَادَ عرضهَا يكون حَدِيثه مَعَ هَذَا الشَّيْخ أبي جَعْفَر وَكبر بذلك وَحصل جملَة كَبِيرَة وَكَانَ هَذَا الشَّيْخ أَبُو جَعْفَر من جملَة حَوَاشِي الْوَزير ابْن رَئِيس الرؤساء وَمِمَّنْ ربى تَحت ظله وَنعمته كَانَ حَاجِبه حَيْثُ كَانَ وزيرا وفيهَا ورد القَاضِي ضِيَاء الدّين الْقَاسِم بن الشهرزوري إِلَى مَدِينَة السَّلَام بَغْدَاد رَسُولا من جَانب الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين وَأخرج إِلَيْهِ بهاء الدّين أَبُو الْفَتْح بن الدارنج وَكَانَ حِينَئِذٍ حَاجِب الْحجاب وَمَعَهُ جمَاعَة من الْحجاب والخدم وَجَمَاعَة من الْأُمَرَاء والأجناد إِلَى لِقَائِه وَأدْخل إِلَى بَغْدَاد من بَاب السُّلْطَان بموكب جميل فَكَانَ عَن يَمِينه جمال الدولة إقبال الْخَادِم وَعَن يسَاره صبيح الْخَاص الْخَادِم وَجَمَاعَة الْحجاب بَين يَدَيْهِ وَكَانَ أستاذ الدَّار ابْن الصاحب شَدِيد البغض لِابْنِ الْعَطَّار فِي أَيَّامه وَيجْعَل لَهُ مساوئ كَثِيرَة وَكَانَ يَقُول للخليفة إِن ابْن الْعَطَّار يطْمع صَلَاح الدّين فِي الْملك وَذَلِكَ لما كَانَ يرى مِنْهُ من التبجيل والإعظام لأَصْحَاب صَلَاح الدّين وَكَانَ الْخَلِيفَة يتغافل عَن قَوْله ويتغاضى عَن جَوَابه

لما يعلم بِمَا بَينه وَبَين ابْن الْعَطَّار ثمَّ إِن ابْن الصاحب نفذ إِلَى نَائِب الوزارة ابْن البُخَارِيّ سرا أَن لَا يقوم لِابْنِ الشهرزوري إِذا دخل عَلَيْهِ حق الْقيام فَلَمَّا حضر ابْن الشهرزوري الدِّيوَان الْعَزِيز قَامَ قَائِما وخطب خطْبَة بليغة وَكَانَ ذَلِك بِمحضر من جمَاعَة من الْأُمَرَاء وأرباب الدولة فَاسْتحْسن الْجَمَاعَة بلاغته ثمَّ جلس بعد مَا قَامَ لَهُ ابْن البُخَارِيّ على رُكْبَتَيْهِ وَأدنى مَجْلِسه وَعرض مَا كَانَ مَعَه من التحف والهدايا ثمَّ نَهَضَ بعد الْخدمَة وَمضى إِلَى الدَّار الَّتِي أعدت لَهُ بخربة الهراس وَكَانَ ابْن الشهروزوري قد ألف مُدَّة مقَامه فِي بَغْدَاد أَن يحضر جمَاعَة من المطربين والأغاني ويتظاهر بذلك وَكَانَ مَعَه شيخ متهتك يعرف بالبدر وَكَانَ ابْن الْعَطَّار فِي أَيَّامه يحترمه ويغطي هَذِه الْحَال مكانته عِنْده فَلَمَّا ورد فِي هَذِه الْمرة قَصده ابْن الصاحب وكشف عَلَيْهِ أَحْوَاله وقبح أَفعاله وَصَارَ يوهن قَوَاعِده وَيقدم إِلَيْهِ على لِسَان ابْن البُخَارِيّ أَن لَا يرجع بكتب إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز إِلَّا العَبْد وَإِلَى أستاذ الدَّار الْخَادِم ثمَّ أذن لَهُ بالانصراف بِجَوَاب رسَالَته وفيهَا تقدم الْخَلِيفَة بإحضار جمَاعَة من الندماء والجلساء إِلَيْهِ كَانَ كثير الْميل إِلَيْهِم وَكَانَ فِي جَمَاعَتهمْ أَبُو الْحسن بن الْكَرْخِي فَكَانَ كثير الْجُلُوس عِنْده بِحَيْثُ لَا يُفَارِقهُ وَكَانَ الْمَذْكُور يقْدَح فِي أستاذ الدَّار ابْن الصاحب وَكَانَ الْخَلِيفَة يُنكر عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أكتب لَهُ بِولَايَة الْعَهْد هَذَا إِن رضى وَالله مَا يرضى لِأَنَّهُ الْيَوْم هُوَ الْخَلِيفَة فَكيف يرضى أَن يكون ولي عهد ستبصر كَيفَ تكون الْأَحْوَال مَعَه فَنقل ذَلِك جَمِيعه إِلَى أستاذ الدَّار فأحضر ابْن الْكَرْخِي عِنْده وخلع عَلَيْهِ وقربه وَمَا عرفه شَيْئا مِمَّا بلغه عَنهُ وَقَالَ لَهُ لَا تَنْقَطِع عَنَّا أَنْت عندنَا مثل الْوَلَد ثمَّ خَاطب الْخَلِيفَة فِي حَقه وَطلب لَهُ من الدَّار الَّتِي فِي الوراقين فَتقدم لَهُ بهَا وَكتب لَهُ ملكا وَأشْهد الْوَكِيل عَلَيْهِ بهَا وَكثر ابْن الْكَرْخِي فِي الدولة

وَكثر أَيْضا أَبُو الْعِزّ فِي الدولة وَصَارَ بِمَنْزِلَة الشرابي وانعم الْخَلِيفَة أَيْضا عَلَيْهِ فَكَانَ ملازما للْخدمَة الشَّرِيفَة وَكَذَلِكَ مُحَمَّد بن يحيى الْفراش وَكَانَ هَارِبا فِي أَيَّام المسترضى بِأَمْر الله رضوَان الله عَلَيْهِ فقربه النَّاصِر لدين الله صلوَات الله عَلَيْهِ وأنعم عَلَيْهِ ثمَّ برز الْأَمر الشريف إِلَى المخزن أَن يفْرض لأبي الْعِزّ فِي كل شهر ثَلَاثُونَ دِينَارا وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من خبز وَلحم وحوائج وَكَذَلِكَ فرض لِابْنِ الداية وَأعْطى دَارا حَسَنَة بالريحانيين وَذَلِكَ أَنه كَانَ يخْدم الْخَلِيفَة لما كَانَ صَغِيرا فِي الْكتاب وَأمر لَهُ بتشريف جميل وَكَانَ هَذَا الْمَذْكُور يعرف بِابْن العوادة وفيهَا أَمر الْخَلِيفَة ثَبت الله دَعوته بإحضار الربيب ابْن رزين رضيعه فشرفه تَشْرِيفًا جميلا وَأَعْطَاهُ دَارا جميلَة فِي درب الصاغة وَتقدم إِلَيْهِ بِأَن يدْخل الدَّار العزيزة من غير إِذن وفيهَا أَيْضا برز الْأَمر أَن ينعم على مُحَمَّد بن يحيى الْفراش من المخزن الْمَعْمُور فِي كل شهر بِثَلَاثِينَ دِينَارا وَجَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَأَن يُعْطي الدَّار الَّتِي عِنْد عقد الْجَدِيد الْمُجَاورَة لحمام الوراقين وَكَانَ مُحَمَّد بن يحيى الْفراش حسن الْخلقَة محبوبا إِلَى النَّاس فَكَانَ إِذا ركب يتفرج النَّاس على حسنه وخلقته وَكَانَ الْخَلِيفَة لَا يصبر عَنهُ سَاعَة وَاحِدَة وَكَانَ من أخص النَّاس عِنْده وأحظاهم منزلَة

وَفِي هَذِه السّنة اجْتمع هَؤُلَاءِ الْقَوْم المذكورون عِنْد الْخَلِيفَة وحسنوا لَهُ أَن يكون فَتى وَقَالُوا لَهُ إِن هَا هُنَا رجلا حسنا يُقَال لَهُ عبد الْجَبَّار خَلفه خلق كثير وَهَؤُلَاء يحْتَاج إِلَيْهِم فِي وَقت وَكَانَ عبد الْجَبَّار هَذَا مشاهرا فِي بُسْتَان يعرف بالبصرية وَهِي ملك لِابْنِهِ جهير فَأمر بإحضاره فَحَضَرَ وَمَعَهُ وَلَده على الملقب بشمس الدّين فَلَمَّا أحضر الْمَذْكُور شَاهده وَقرر مَعَه ذَلِك ثمَّ اتّفق الْحَال أَن يكون الِاجْتِمَاع فِي بُسْتَان يعرف بالرقة وَهِي فِي مُقَابلَة التَّاج الشريف وَكَانَ مشاهر هَذَا الْبُسْتَان الْمَذْكُور رجلا يعرف بالعقاب يُوسُف نسيبا للشَّيْخ عبد الْجَبَّار فَحَضَرَ مَعَ الْجَمَاعَة عِنْدَمَا لبس الْخَلِيفَة سَرَاوِيل الفتوة فَعرفهُ من هُنَاكَ وأنعم على الشَّيْخ عبد الْجَبَّار بِخمْس مائَة دِينَار وخلع عَلَيْهِ وعَلى وَلَده عَليّ ثمَّ إِن الْخَلِيفَة ثَبت الله دَعوته كثر حَدِيثه فِي هَذَا وَحسن الْأَمر عِنْده وَلم يبْق أحد مِمَّن كَانَ قَرِيبا مِنْهُ إِلَّا وَلَيْسَ مِنْهُ سراويلا وَتقدم إِلَى أبي عَليّ بن الدوامي أَن يكون نقيب الْجَمَاعَة وَأَن يخْطب وَيذكر شُرُوط الفتوة وَأَحْوَالهَا المرضية لِأَنَّهَا من الْخِصَال المحمودة الشَّرِيفَة والضرائب الْمَشْهُورَة العفيفة وَكَانَ ابْن الدوامي فَاضلا حسن الصَّوْت مليح الْإِيرَاد وَكَانَ يذكر من الْمعَانِي المستحسنة الَّتِي تدل على مَكَارِم الْأَخْلَاق وَطيب الأعراق أَشْيَاء كَثِيرَة

وفيهَا أَكثر ابْن الْكَرْخِي من مدح بَيت رَئِيس الرؤساء وَذكر للخليفة أَن لعلم الدّين بن رَئِيس الوزراء بن أخي عضد الدّين الْوَزير زَوْجَتَيْنِ قد أَخذ مِنْهُمَا خمسين ألف دِينَار الْوَاحِدَة ابْنة عَمه دَار الذَّهَب وَالْأُخْرَى الزينبية بنت شرف الدّين الْوَزير الزَّيْنَبِي وَهُوَ يتَمَنَّى أَن يمْضِي إِلَى عِنْده وَيعْمل لنا دَعْوَة فَقَالَ لَهُ أفعل ذَلِك وَكَانَ مُرَاد ابْن الْكَرْخِي أَن يعْطف قلب الْخَلِيفَة إِلَى بَيت رَئِيس الرؤساء ويبعده عَن أستاذ الدَّار فَعمل علم الدّين لَهُ ظَاهر دَعْوَة وَغرم عَلَيْهَا مَالا كَبِيرا وَاشْترى ثيابًا كَثِيرَة بِنَحْوِ من خمس مائَة دِينَار وَحملهَا إِلَى الشرابي وَحمل إِلَى جَمِيع من كَانَ يدْخل إِلَى الْخَلِيفَة أَشْيَاء من الثِّيَاب وَغَيرهَا وَمن الْهَدَايَا السّنيَّة وخلع على جَمِيع من عِنْده فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَكَانَ ذَلِك فِي الدَّار الَّتِي فِي درب الزينبية الَّتِي عِنْد دَار الْوَكِيل ضِيَاء الدّين أبي السعادات بن النَّاقِد عِنْد عقد المصطنع وَكَانَ جَمِيع مَا جرى فِي الدعْوَة فِي تِلْكَ السلسلة ينْقل إِلَى أستاذ الدَّار سَاعَة فساعة وَلَا يقدر أحد من الْحَاضِرين أَن يكتم ذَلِك عَنهُ وَكَانُوا يخَافُونَ من أستاذ الدَّار أَكثر من الْخَلِيفَة صلوَات الله عَلَيْهِ فَلَمَّا خَرجُوا من عِنْد علم الدّين أبي طَاهِر بن رَئِيس الرؤساء قَالَ لَهُ ابْن الْكَرْخِي طيب قَلْبك ولتكن غَدا على أهبة فَإِن الْخَلِيفَة يُرِيد أَن يَجْعَل أستاذ الدَّار وزيرا ويجعلك أَنْت أستاذ الدَّار فَلَا تجْعَل لنَفسك شغلا فَمضى علم الدّين إِلَى بعض أَهله وَحصل مِنْهُ سيف ركاب وجناقات وَآلَة تصلح لأستاذية الدَّار وَأقَام بعض غلمانه سلَاح دَار وَأصْبح يرتقب من يَأْتِي إِلَيْهِ من دَار الْخلَافَة فَلَمَّا نقل ذَلِك إِلَى أستاذ الدَّار من ليلته نفذ من صَبِيحَة تِلْكَ اللَّيْلَة وَأنكر على علم الدّين ابْن رَئِيس الرؤساء على لِسَان مَحْمُود الشرابي وَكَانَ يتحبب لأستاذ الدَّار وَقَالَ لَهُ وَالله لَوْلَا أَن أهل بَغْدَاد يَعْتَقِدُونَ أنني أقصد بَيت رَئِيس الرؤساء وَلَوْلَا

أنني إِذا أمرت فِيك بِأَمْر نسبت فِيهِ إِلَى الْقَصْد لقد كنت أتقدم بصلبك وَمَتى رجعت إِلَى مثلهَا أمرت بصلبك فَمن بعد ذَا لم يَجْسُر أحد أَن يذكر بَيت رَئِيس الرؤساء وَأما ابْن الْكَرْخِي فَإِنَّهُ حضر عِنْد أستاذ الدَّار وعتب عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ ابْن الْكَرْخِي إِنَّمَا سخرت بِهِ حَتَّى خسر ألف ألف دِينَار وضحكنا عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ لقد عملت جيدا وَنِعما فعلت وَكَانَ مَعَ ذَلِك يضمر لِابْنِ الْكَرْخِي السوء وَيُدبر فِي هَلَاكه وَأما علم الدّين ابْن رَئِيس الرؤساء فَإِنَّهُ خَافَ على نَفسه فَمضى إِلَى ابْن القصاب وَكَانَ حِينَئِذٍ فِي خدمَة الدَّار أستاذ يُرْسِلهُ إِلَى لجوانب فَسَأَلَهُ أَن يشفع لَهُ ويستوهب لَهُ ذَنبه فشفع لَهُ فوهبه جرمه وَسَأَلَهُ أَن يَأْذَن لَهُ فِي الْحُضُور على طبقه فِي شهر رَمَضَان فَأذن لَهُ فِي ذَلِك وفيهَا كَانَ الْفَرَاغ من بِنَاء دَار المسناة الَّتِي على شاطئ دجلة وَكَانَ الْمُتَوَلِي عمارتها الْحَاجِب الْأَعَز وَهِي أول دَار شرع الْخَلِيفَة فِي عمارتها للتنزه والفرجة وَهِي أول دَار فرشت طوابيق ملونة أَزْرَق وأحمر وَسَائِر الألوان وَكَانَ الْخَلِيفَة كثير الْمُلَازمَة لَهَا والحضور فِيهَا وَهِي من الدّور المستحسنة بنيت على طرف السُّور مِمَّا يَلِي دجلة قد غرم عَلَيْهَا أَمْوَالًا جمة وَلما تمّ عَملهَا نقل إِلَيْهَا فرسا كَثِيرَة وآنية من ذهب وَفِضة ورتب فِيهَا جمَاعَة من المماليك والخدم لحفظها وحراستها يلازمون الْخدمَة فِيهَا دَائِما وَإِلَى الْآن فَإِذا كَانَ رَاكِبًا فِي دجلة أَو على ظهر وَأَرَادَ الدُّخُول إِلَيْهَا تكون مهيأة للقعود فِيهَا وَالسُّكْنَى بهَا وَجعل لهَذِهِ الدَّار حُرْمَة قَاطِعَة كَحُرْمَةِ التَّاج الشريف بِحَيْثُ لَا يقدر أحد يقْعد تحتهَا وَلَا يدنو مِنْهَا إِلَّا إِن كَانَ سائرا فِي سفينة فَحسب

وَكَانَ أستاذ الدَّار قد وصف للخليفة نويس الْمُغنيَة زَوْجَة ابْن رَئِيس الرؤساء وَعَائِشَة السَّوْدَاء زَوْجَة ابْن الْكَرْخِي فنفذ وأحضر الْمَرْأَتَيْنِ المذكورتين واحضر جمَاعَة مِنْهُم نجاح وَأَبُو الْعِزّ وَمُحَمّد بن يحيى الْفراش وَابْن الْكَرْخِي وَأَبُو عَليّ الدوامي وَجَمَاعَة من المماليك وفراش الدَّار وَكَانَ قد اتّفق جمَاعَة من النَّاس واكثر أهل بَغْدَاد بِأَن مَا بِبَغْدَاد مغنية أصنع من عَائِشَة السَّوْدَاء وَلَا غناء أطرب من غنائها وَلَا صَوت أرق من صَوتهَا وَذكر أَن الْخَلِيفَة قَالَ للكرخي فِي تِلْكَ اللَّيْلَة {فَمِنْهَا ركوبهم وَمِنْهَا يَأْكُلُون} يَعْنِي بذلك ابْن الْكَرْخِي وَزَوجته السَّوْدَاء الْمُغنيَة فَعجب النَّاس من قَوْله وَقَالُوا استشهاد فِي مَوْضِعه وفيهَا قدم إِلَى بَغْدَاد ابْن رَئِيس هَمدَان وَكَانَ مَعَه مَال كثير وغلمان وخدم وَمَعَهُ من جملَة مماليكه مَمْلُوك حسن الْهَيْئَة تَامّ الْخلق يُقَال لَهُ سنجر وَكَانَ لَهُ خيمة مَضْرُوبَة على شاطئ دجلة عِنْد مشرعة مشْهد أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ فَكَانَ كَذَلِك أَيَّامًا لَا يزَال يشرب الْخمر وَكَانَ لَا يزَال مخمورا فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِك إِذْ دخل عَلَيْهِ جمَاعَة من العيارين لَيْلًا فَقَتَلُوهُ وَهُوَ سَكرَان وَأخذُوا كثيرا مِمَّا كَانَ مَعَه من الْأَمْوَال وَأصْبح النَّاس يَخُوضُونَ فِي حَدِيثه واتهم جمَاعَة بقتْله وَكَانَ أَكثر أهل بَغْدَاد يَزْعمُونَ أَن قَاتله بدران الحسامي وَعلم الْخَلِيفَة بقتْله فَتقدم إِلَى أستاذ الدَّار بالكشف عَمَّن قَتله فَتقدم أستاذ الدَّار بالكشف عَن الْحَال وَأخذ سنجر وَقَالَ إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد كَبرت عَلَيْهِ هَذِه الْحَال فبقى سنجر أَيَّامًا كَثِيرَة لم يخرج من الدَّار فَلَمَّا خرج وَركب كَانَ عَلَيْهِ وعَلى فرسه مَا يُسَاوِي خَمْسَة ألف دِينَار إمامية وَصَارَ سنجر يخرج وَيدخل إِلَى البدرية كل يَوْم وَكَانَ يخرج وَعَلِيهِ فِي

كل وَقت لون من الثِّيَاب الفاخرة وَحصل لَهُ من الْمنزلَة عِنْد الْخَلِيفَة مَا لم يحصل لأحد مِنْهُ قبله وَهُوَ على غَايَة من الْعقل والسكينة وَكَانَ مَعَ ذَلِك لَا يزَال الْخَلِيفَة يصفه بِالْعقلِ وَيَقُول مَا رَأَيْت وَلَا ملكت الْمُلُوك أَعقل من سنجر وَلَا مثله إِلَّا أَن فِيهِ ظلما وَكَانَ مَعَ ذَلِك قَلِيل الصمت وَكَانَت حَاله كلما جَاءَت كثرت وَسَنذكر زِيَادَة مَنْزِلَته فِي كل سنة بِقدر مَا انْتهى إِلَيْهِ حَاله إِلَى الْآن وفيهَا اشْترى إِيَاس الرُّومِي وَكَانَ من أحسن النَّاس خلقَة واستخدم ابْن امْرَأَة لأبي الْفتُوح المغنى وَيعرف بِأبي الْحسن وَكَانَ من الْمَذْكُورين ببلاده بالجمال المفرط وَفرض لَهُ كل سنة مِائَتَيْنِ وَخمسين دِينَارا وَجعل فِي جملَة المماليك الْخَواص وفيهَا احتال عبد الْوَهَّاب وَأخذ قلعة المهكي وَهِي من أحسن القلاع الَّتِي بالعراق وَصُورَة ذَلِك كَمَا ذكر لنا أَنه كَانَ لعبد الْوَهَّاب راعي غنم فَمضى إِلَى تَحت القلعة الْمَذْكُورَة فَرَأى فِي رَأس الْجَبَل الَّذِي عَلَيْهِ القلعة شَجَرَة قَوِيَّة فَعَاد إِلَى عبد الْوَهَّاب وَأخْبرهُ بِمَا خطر لَهُ فَمضى مَعَ الرَّاعِي يرْعَى الْغنم ذَلِك الْيَوْم ويبصر مَا قَالَه الرَّاعِي وَمَا خطر لَهُ فَلَمَّا شَاهد الْموضع رَجَعَ وأحضر نجارا وَقَالَ أُرِيد تعْمل لي سلما يكون عدَّة أقطاع ويوصل بحديد وَيكون على شكل أعمدة الخيم فَلَمَّا فعل ذَلِك وَحصل جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ أحضر جمَاعَة من بني عَمه واتى إِلَى تَحت القلعة فِي لَيْلَة مظْلمَة كَثِيرَة الْهَوَاء والمطر وَنصب السّلم وَصعد وَاحِد من الْجَمَاعَة واجتهد على رُؤْيَة الشَّجَرَة فَلم يقدر فَقَامَ يَرْمِي نَفسه يَمِينا وَشمَالًا وَهُوَ قَائِم على رَأس السّلم وأشرف على الْهَلَاك وَكَاد أَن يسْقط فَوَقَعت إِحْدَى يَدَيْهِ فِي الشَّجَرَة فَتعلق بِغُصْن مِنْهَا وَصعد إِلَيْهَا فاعتنقها سَاعَة حَتَّى رَجَعَ روعه إِلَيْهِ وَكَانَ

مَعَه حَبل مشدود فِي وَسطه فَحله وَرمى بطرفه إِلَى إِحْدَى شرافات القلعة فعلق بهَا وَصعد فَصَارَ فِي راس القلعة وَألقى الْحَبل إِلَى جمَاعَة فَصَعِدُوا إِلَيْهِ وَاحِد بعد وَاحِد إِلَى أَن تكاملوا فِي القلعة وَكَانَ بهَا مَمْلُوك من مماليك المستضئ بِأَمْر الله رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ سَكرَان فنزلوا إِلَى الْموضع الَّذِي فِيهِ المفاتيح فَقتلُوا من كَانَ هُنَاكَ وَأخذُوا المفاتيح ودخلوا الخزائن فلبسوا الْعدة الْكَامِلَة وَخَرجُوا إِلَى الْمَمْلُوك فَقَتَلُوهُ على فرَاش نَومه وفتحوا الْأَبْوَاب وَقتلُوا جمَاعَة وأطلقوا من أَرَادوا وملكوا القلعة ورموا رَأس الْمَمْلُوك ورؤوس الْجَمَاعَة الَّذين قتلوا مَعَه من القلعة وَصَارَ عبد الْوَهَّاب متحكما بذلك الْمَكَان وَبلغ الْخَبَر إِلَى بَغْدَاد فَأمر الْخَلِيفَة بِإِخْرَاج الْعَسْكَر الْمَنْصُور وَكَانَ الْمُتَقَدّم على الْعَسْكَر سنقر الْكَبِير المستنجدي وَخرج مَعَه جمَاعَة من المماليك الْأُمَرَاء الْكِبَار مثل سنقر الصَّغِير وغرغلي وَمضى مَعَهم الْكَافِي ابْن الهمذاني وَكَانَ خَبِيرا بِتِلْكَ الخطة فَسَار الْعَسْكَر إِلَى أَن نزلُوا قَرِيبا من القلعة وراسلوا عبد الْوَهَّاب وبذلوا لَهُ أَمْوَالًا كَثِيرَة وإقطاعيات جليلة فَلم يقبل وَلم يلْتَفت إِلَى قَول أحد واعتصم بهَا وَلم يُمكن الْعَسْكَر من الدُّخُول إِلَيْهَا لوعر طريقها وامتناعها وطالت الْمدَّة فَتقدم الْخَلِيفَة بِرُجُوع الْعَسْكَر لما أعجزهم الْأَمر فَلَمَّا دخل الْعَسْكَر إِلَى بَغْدَاد أَمر الْخَلِيفَة بِالْقَبْضِ على حسام الدّين غرغلي وعَلى سنقر الصَّغِير وَكَانَ فِي نفس الْخَلِيفَة على سنقر الصَّغِير حقد من زمن أَبِيه لِأَنَّهُ كَانَ قد اتّفق مَعَ ابْن الْعَطَّار حِين كَانَ مستوليا على دَار الْخلَافَة أَن

لَا يرتبه خَليفَة وَأَرَادَ أَن يرتب أَخَاهُ الْأَمِير أَبَا مَنْصُور عوضه فَلَمَّا قبض عَلَيْهِ حمله إِلَى التَّاج الْعَتِيق وَجعله فِي دَار الحشاشيف وَكَذَلِكَ فعل بحسام الدّين غرغلي وَأخذ جَمِيع مَا كَانَ لَهما من خيل وبرك وَذهب وآلات حروب وَعدد حَتَّى نقل من دَار سنقر الصَّغِير أَمْوَالًا كَثِيرَة من آلَات وَثيَاب وَذهب وَفِضة وَغير ذَلِك من يَوْم الْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة مَا لَا يحد لَهُ حصر وَقيل للخليفة أيده الله تَعَالَى أَن لسنقر الصَّغِير أَمْوَالًا مدفونة فِي دَاره فَأمر بِنَقْض الدَّار فنقضت وَأخذ جَمِيع مَا كَانَ فِيهَا من الْأَمْوَال وَأخذ من جَارِيَته أم أَوْلَاده ثَلَاثِينَ ألف دِينَار وَنقل أَوْلَاد سنقر الصَّغِير إِلَى دَار فِي قصر الْخلَافَة فتركوا بهَا ووكل بهم جمَاعَة من الفراشين وَطلبت أم الْخَلِيفَة أجلهَا الله تَعَالَى مِنْهُ مَوضِع دَار سنقر الصَّغِير لتعملها رِبَاطًا للصوفية فَأذن لَهَا فِي ذَلِك وَسَأَلته عمَارَة الْموضع فَتقدم إِلَى أستاذ الدَّار بعمارة الْموضع فشرع فِي عِمَارَته من ديوَان الْأَبْنِيَة وَجمع لَهُ من الصناع والبنائين والنجارين وَسَائِر أَصْحَاب الصنايع جمَاعَة كَبِيرَة فَبنى الْموضع أحسن بِنَاء يكون وَهُوَ فِي الْمحلة الْمَعْرُوفَة بالمأمونية أحسن مَوضِع من بَغْدَاد فِي وسط السُّوق وفيهَا نفيت امْرَأَة كَانَت تعرف بالخليعة وَكَانَت فِيمَن يدْخل إِلَى دَار حسام الدّين غرغلي وَأمر بنفيها إِلَى الْبَصْرَة وَسبب ذَلِك أَنه نقل عَنْهَا أَنَّهَا قد أحضرت عِنْدهَا جمَاعَة من الإسماعيلية من حلب حَتَّى يتَعَرَّضُوا لقتل الْخَلِيفَة وَقتل أستاذ الدَّار أَمِين الصاحب وَكَانَ زَوجهَا ركابيا من

ذكر

ركابية الْخَلِيفَة فَقبض عَلَيْهَا وَأخذت فِي سفينة إِلَى الْبَصْرَة وَتقدم الْخَلِيفَة بغلق بَاب الْأَمِير حسام الدّين غرغلي وضربوا فِيهَا مسامير بِحَيْثُ لَا تفتح وَكَذَلِكَ فعلوا بالمحارق من أَعلَى الدَّار وضربوا فِيهَا مسامير بِحَيْثُ لَا يصعد أحد إِلَى سطح الدَّار ووكل أَيْضا بِالدَّار جمَاعَة من الفراشين ذكر مَا تجدّد للْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين من الْغَزَوَات والفتوحات وَالْأَحْوَال بِمصْر وَالشَّام فِي سنة ثَمَان وَسبعين وَخَمْسمِائة وَدخلت هَذِه السّنة وَالسُّلْطَان مخيم على الْبركَة من أَرض مصر بِجَمِيعِ عساكره شَدِيد الْعَزْم على قصد الشَّام فَكَانَ رحيله من الْبركَة يَوْم الأثنين خَامِس محرم فَسَار على طَرِيق صدر وَكَانَ نُزُوله على أَيْلَة بعد خمس لَيَال فَبَلغهُ حِينَئِذٍ نزُول الفرنج على الكرك بِجمع كَبِير فحين تحقق ذَلِك قَالَ لِأَخِيهِ تَاج الْمُلُوك بوري خُذ النَّاس مَعَك وسر بهم وَمَا مَعَهم من الأثقال وَالتِّجَارَة على طَرِيق يمينة منا فامتثل أمره وَسَار بهم وَأما السُّلْطَان فَإِنَّهُ سَار بِمن انتخب من عساكره وَتوجه بهم إِلَى الكرك وَوصل إِلَيْهَا بعد أَيَّام فَوجدَ بهَا جمعا عَظِيما من الفرنج فنزلنا قَرِيبا مِنْهُم فأذللناهم وضايقناهم حَتَّى لاذوا بالجدار فاستولينا عَلَيْهِم فقطعنا أَشْجَارهم ورعينا زُرُوعهمْ وَجَعَلنَا نشن الغارات عَلَيْهِم مُدَّة عشرَة أَيَّام فَلَمَّا رأى

ذكر غزوة دبورية

السُّلْطَان ذَلِك أَمر النَّاس بالرحيل خوفًا من قلَّة أَزْوَادهم وَسَار من يَوْمه فَبَيْنَمَا نَحن سائرون إِذْ أَتَاهُ نجابون يُبَشِّرُونَهُ بنصرة عمي عز الدّين فرخشاه فِي غَزْوَة دبورية ذكر غَزْوَة دبورية لما تحقق الفرنج رحيلنا من مصر بالعساكر وَمَا أنضاف إِلَيْهَا من النَّاس والتجار اجْتَمعُوا على الكرك كَمَا ذكرنَا لقربهم من الطَّرِيق وَكَانَ غرضهم فِي ذَلِك انتهاز فرْصَة يجدونها فَلَمَّا أذلّهم الله تَعَالَى ببأسنا وَطَالَ مقامنا عَلَيْهِم تِلْكَ الْأَيَّام المعدودة وَوصل عمي فرخشاه خبرنَا نفر بِمن مَعَه من الفرسان وَتَبعهُ جمَاعَة كَبِيرَة من النَّاس واغتنم خلوهم من بِلَادهمْ فَسَار إِلَى دبورية وَأَهْلهَا غَارونَ فَأَغَارَ على ربضها فَقتل مِنْهُم خلقا كثيرا وَأسر نَحوا من ألف نفر بَين كَبِير وصغير وسَاق أغنامهم وأبقارهم وأحرق وَخرب وَنزل على حبيس جِلْدك ففتحه وَهُوَ حصن من أَعمال طبرية وَكَانَ اجْتِمَاع عمي فرخشاه مَعَ السُّلْطَان دون بصرى ثمَّ نزلنَا بهَا وسرنا مِنْهَا متوجهين

ذكر غزوة طبرية وبيسان

إِلَى دمشق فَكَانَ دخولنا إِلَيْهَا يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع عشر صفر فَلم يزل السُّلْطَان بهَا تَمام الشَّهْر الْمَذْكُور وأياما قَلَائِل من شهر ربيع الأول ثمَّ توجه إِلَى غَزْوَة طبرية وبيسان ذكر غَزْوَة طبرية وبيسان وَلما وصل السُّلْطَان إِلَى دمشق اجْتمعت إِلَيْهِ عَسَاكِر الْإِسْلَام فَسَار بهم إِلَى طبرية وبيسان وَذَلِكَ يَوْم الْأَحَد سَابِع شهر ربيع الأول فَصبح الفرنج يَوْم الثُّلَاثَاء بطبرية فَوَجَدَهُمْ قد وصلوا إِلَيْهَا ونزلوا فِيهَا بجموعهم فسيرنا جمَاعَة يتطلعون عَلَيْهِم فَلم يَجدوا أحدا مِنْهُم رَاكِبًا وَلَا خَارِجا وَكُنَّا نازلين من الأقحوانة من الْأُرْدُن على أحد ثغورهم فَلَمَّا رأيناهم قد أحجموا عَن لقائنا واقاموا فِي موضعهم اتفقنا على الْمسير إِلَى بيسان لاستجرارهم فَسبق عمي عز الدّين فَملك ربضها وَكَانَت الْعَرَب وَمن خف مَعهَا قد انْحَازَتْ نَحْوهَا فأوسعوا أَهلهَا قتلا وَوصل الْخَبَر من اليزك أَن الفرنج قد أجلبوا بخيلهم ورجلهم فاشتغل السُّلْطَان بترتيب الأطلاب وتحريض النَّاس على الْجِهَاد فَجعل وَالِدي الْملك المظفر فِي الميمنة وَعمي عز الدّين فرخشاه فِي الميسرة وَقرب الفرنج منا فَرَأَوْا من الْعدة وَالنَّاس مَا هالهم فلجأوا إِلَى حصن كَوْكَب فسبقت أطلاب الميسرة

ذكر قصد السلطان إلى حلب وعبور الفرات واستيلائه على الموصل وبلاد الجزيرة وغيرها

وجالت الجاليشية ترميهم بِالسِّهَامِ وَعطف عَلَيْهِم وَالِدي بِمن مَعَه من الميمنة وَكُنَّا فِي وَاد صَعب ومضيق وتواترت على الفرنج الحملات فطحنتهم الْأَبْطَال فصاروا بَين قَتِيل وأسير وانهزموا على أَعْقَابهم لائذين بالحصن وَكَانَ ذَلِك يَوْم الْخَمِيس ثَانِي عشر ربيع الأول وأقمنا بَاقِي يَوْم الْخَمِيس وَيَوْم الْجُمُعَة لجمعهم منازلين ولخروجهم محاولين كَانَت وقْعَة شَدِيدَة اسْتشْهد من الْمُؤمنِينَ فِيهَا جمَاعَة من الْأَبْطَال وَرجع النَّاس بِمَا مَعَهم من الْأُسَارَى وَعَاد السُّلْطَان من غَزْوَة طبرية رَابِع عشر شهر ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَ مخيم السُّلْطَان فِي هَذَا الشَّهْر بالعفر بِلَا من أَعمال حوران وَلما رَجَعَ السُّلْطَان من غزوته تِلْكَ أَقَامَ بمخيمه وَطَالَ مقَامه هُنَاكَ إِلَى أَن تجدّد عزمه على قصد حلب وعبور الْفُرَات ذكر قصد السُّلْطَان إِلَى حلب وعبور الْفُرَات واستيلائه على الْموصل وبلاد الجزيرة وَغَيرهَا لما وصل السُّلْطَان إِلَى الشَّام عزم على قصد حلب وَجِهَاد من بهَا وَذَلِكَ لما بلغه عَن المواصلة أَنهم قد كاتبوا الفرنج وأنفذوا إِلَيْهِم الرُّسُل وبذلوا لَهُم الْأَمْوَال ورغبوهم فِي الْخُرُوج إِلَى الثغور فَقَالَ السُّلْطَان قد وَجب علينا النهوض إِلَيْهِم وَالْجهَاد لَهُم وَكَانَ ذَلِك عِنْد عودته من غَزْوَة طبرية وبيسان واستقراره بالمخيم فَأمر النَّاس بالرحيل وَسَار على سمت

بعلبك وخيم بالبقاع وَكَانَ قد وعد أسطول مصر أَنِّي تجهز إِلَى بعض بِلَاد السَّاحِل ليوافيه ويسير بعساكره إِلَيْهِ فجَاء الْخَبَر أَنه وصل إِلَى سَاحل بيروت فبادره السُّلْطَان بعسكره جَرِيدَة فَلَمَّا رأى ذَلِك أمرا يطول أعَاد عمي عز الدّين فرخشاه إِلَى دمشق ليقوم فِي سد ثغورها وترتيب أمورها وتوجهنا بعد ذَلِك إِلَى بلعبك وخيمنا بمرج عدوسة أَيَّامًا ورحلنا إِلَى حمص على طَرِيق الزِّرَاعَة فنزلنا بهَا ورحلنا مِنْهَا فنزلنا بحمص على العَاصِي وَجَاء الْفَقِيه الْمُهَذّب عبد الله بن أسعد الْموصِلِي فمدح السُّلْطَان بِهَذِهِ القصيدة (أعلمت بعْدك وقفتي فِي الْأَرْبَع ... ورضى طلولك عَن دموعي الهمع) (مطرَت غضا فِي منزليك فذاويا ... فِي أَربع ومؤججا فِي أضلعي) (لم يثن غرب الدمع لَيْلَة غربوا ... ولع العزول بفرط عزل المولع) (يلحى الجفون على الدُّمُوع لبينهم ... والعذل فرط العذل إِن لم تَدْمَع) (دَعْنِي وَمَا شَاءَ التَّلَذُّذ والأسى ... وأقصد بلومك من يطيعك أَو يعي)

(لَا قلب لي فأعى الملام فإنني ... أودعته بالْأَمْس عِنْد مودعي) (هَل يعلم المتحملون لنجعة ... أَن الْمنَازل أخضبت من مدمعي) (كم غادروا حرضا وَكم لوداعهم ... بَين الجوانح من غرام موجع) (أمروا الضُّحَى أَن يَسْتَحِيل لأَنهم ... قَالُوا لشمس خدودهم لَا تطلعي) (تَحْمِي قبابهمو ظبا فِي كلة ... وتذود عَنْهُم أسْهم فِي برقع) (قل للبخيلة بِالسَّلَامِ تورعا ... كَيفَ استبحت دمي وَلم تتورعي) (وبديعة الْحسن الَّتِي فِي وَجههَا ... دون الْوُجُوه عناية الْمُبْدع) (بَيْضَاء يدنيها النَّوَى ويحلها ... إعراضها فِي الْقلب ألطف مَوضِع) (مَا دَامَ مُعْتَمر بربعك دائبا ... يقْضِي زيارته بِغَيْر تمتّع) (كم قد هجرت إِذْ التواصل مكثب ... وضررت قادرة على أَن تنفعي) (مَا كَانَ ضرك لَو غمزت بحاجب ... عِنْد التَّفَرُّق أَو أَشرت بإصبع)

(ووعدتني إِن عدت عود وصالنا ... هَيْهَات مَا أبقى إِلَى أَن تَرْجِعِي) (هَل تسمحين ببذل أيسر نائل ... أَن اشْتَكَى وجدي إِلَيْك وتسمعي) (أَو شَاهِدي جسمي ترى أَيْن الْهوى ... أَو فاسألي إِن شِئْت شَاهد أدمعي) (والسقم آيَة مَا أجن من الجوى ... والدمع بَيِّنَة على مَا ادّعى) (فتيقني أَنِّي بحبك مغرم ... ثمَّ اصنعي بِي مَا شِئْت أَن تصنعي) (يَا صَاح هَل أَبْصرت برقا خافيا ... كالسيف سل على أبارق لعلع) (برق إِذا لمع استطار فُؤَاده ... ويبيت ذَا قلق إِذا لم يلمع) (فسقى الرّبيع الجون ربعا طالما ... أَبْصرت فِيهِ الْبَدْر لَيْلَة أَربع) (وَلَو اسْتَطَعْت سقيته سيل الْغنى ... من كف يُوسُف بالأدر الأنفع) (بندي فَتى لَو أَن جود يَمِينه ... للغيث لم يَك ممسكا عَن مَوضِع) (للمعتفين رخاء ريح سَجْسَج ... والمعتدين عجاج ريح زعزع)

(رب المكارم وضحا لم يسْتَتر ... بدنية يَوْمًا وَلم يتقنع) (ومديم بذل النَّفس غير مفرط ... وَكثير بذل المَال غير مضيع) (فَإِذا تَبَسم قَالَ يَا جود اندفق ... فيضا وياسحب الندى لَا تقلعي) (وَإِذا تنمر قَالَ يَا أَرض ارجفي ... بالصاهلات وللجبال تزعزعي) (وَإِذا علا فِي الْمجد أَعلَى غَايَة ... قَالَت لَهُ الهمم الجسام ترفع) (ثَبت الْجنان إِذا الْقُلُوب تطايرت ... فِي الروع يعدل ألف ألف مدرع) (فضل الورى بفضائل لم تتفق ... فِي غَيره ملكا وَلم تتجمع) (مارام صَعب المرتقى متصاعدا ... إِلَّا وَكَانَ عَلَيْهِ سهل المطلع) (جمع الجيوش فَشَتْ شَمل عداته ... مَا فرق الْأَعْدَاء مثل مجمع) (لم يثنه عَن نَصره حلفاءه ... عدد الْعَدو وَلَا بعاد الْموضع) (بجحافل مثل السُّيُول تدافعت ... وَإِذا السُّيُول تدافعت لم تدفع) (إِن يتبع فلكم لَهُ من تَابع ... أوفى وأوفر عزة من تبع)

(من دوحة شاذية أرجت لَهَا ... الدُّنْيَا لطيب شذا لَهَا متضوع) (والناثرين الْهَام يَبْرق بيضه ... والخارقين مضاعفات الأذرع) (قوم إِذا ارْتَفع الصَّرِيخ تبَادرُوا ... نَحْو الْحمام بِكُل أَبْلَج أروع) (والواصلي قصر الظبى بخطاهمو ... والقاطعين بهَا طوال الأذرع) (لَا يغررن الرّوم بعد دِيَارهمْ ... إِن الخليج عَلَيْك أقرب مشرع) (لَو أَن مثل الْبَحْر سَبْعَة أبحر ... من دونهم وأردتهم لم تمنع) (كم وَقْفَة لَك فِي الوغى محمودة ... أبدا وَكم جود حميد الْموقع) (وَالطير من ثِقَة بِأَكْل مشبع ... تبِعت جيوشك فَوق غَابَ مشبع) (وَالنَّاس بعْدك فِي المكارم والعلا ... رجلَانِ إِمَّا سَارِق أَو مدعى) (يَا غيث منسكب وَمَا حل مربعي ... بنداك إِلَّا ذَا غَدِير مترع) (راجعت فِيك الشّعْر بعد طَلَاقه ... طَمَعا بجودك أَي مَوضِع مطمع) (لولاك لم أَرض القنوع وذله ... من بعد طول تعزز وتقنع)

(فسؤال جودك عزة للمجتدي ... ونداك تشريف ورفعة مَوضِع) (فَاسْلَمْ على مر الزَّمَان ممتعا ... بِالْملكِ دهرا وَالْمحل الأرفع) (فَإِذا بقيت فلست أحفل من مضى ... وَإِذا حييت فَمَا أُبَالِي من نعى) ثمَّ إِن السُّلْطَان بَقِي بحمص أَيَّامًا قَلَائِل رَحل مِنْهَا قَاصِدا إِلَى حماة فَنزل بهَا وَكَانَت حماة لوالدي الْملك المظفر وَكُنَّا مَعَه فَأمره السُّلْطَان أَن يرتب أُمُور حماة ويرتب أَحْوَال ثغرها فَعمل مَا أمره وَبَقِي السُّلْطَان بحماة يَوْمَيْنِ ثمَّ رَحل عَنْهَا يُرِيد حلب وَفِي عزمه النُّزُول عَلَيْهَا فَبينا نَحن سائرون وَإِذا قد وصل كتاب مظفر الدّين كوكبوري بن زين الدّين على بن بكتكين كوجك فَأعْلم السُّلْطَان بوصوله إِلَى خدمته وَالدُّخُول تَحت أمره وطاعته فَلم يلبث أَن وصل مظفر الدّين كوكبورى وَاجْتمعَ بالسلطان وخلى بِهِ وَأَشَارَ عَلَيْهِ بعبور الْفُرَات والاستيلاء على تِلْكَ الممالك والولايات وَقَالَ لَهُ أَنا بَين يَديك وناصح لَك ومحب لأيامك وَقد علمت مَا المواصلة عَلَيْهِ من نكث إيمانك وعهودك وَإِذا ملكت تِلْكَ الْبِلَاد

واستوليت عَلَيْهَا يبْقى لَك من ورائك ذخيرة ونجدة وَأَنت بعد ذَلِك على أثْنَاء عزمك وَإِن قصدت حلب فَإِنَّهَا تشغلك عَن الْأُمُور ومهماتها والجزيرة وولاياتها وَقد حصلت لَك الْمحبَّة الْعَامَّة والمهابة فِي قُلُوب النَّاس وَمَتى عبرت الْفُرَات سلمت إِلَيْك الْبِلَاد واطاعتك الْعباد فملكت حران والرها والرقة والخابور ونصيبين وَسَائِر الْمَوَاضِع وملكت الْموصل لَا محَالة وَمَا هُنَاكَ فِي تِلْكَ الْجِهَات أحد يقدر على عصيانك فشكره على مَا ظهر مِنْهُ واستوثق مِنْهُ وودعه وَرجع إِلَى حران وَأما السُّلْطَان فَإِنَّهُ توجه نَحْو ألبيرة وَمد الجسر وَأمر النَّاس بالعبور وَكَانَت ألبيرة قد طمع فِيهَا صَاحب ماردين فاستولى على مَوَاضِع من أَعمالهَا فَلَمَّا سمع بوصولنا إِلَى الْفُرَات انهزم من كَانَ من أَصْحَابه بِتِلْكَ الخطة فأعدنا إلهيا شهَاب الدّين مُحَمَّد بن إلْيَاس الأرتقي وشرعنا فِي أَمر العبور وبدأنا ننقل الأثقال إِلَى بطُون السفن خوفًا من ازدحام النَّاس على الجسر وَضرب كل منا خيمة بالجانب الشَّرْقِي وتحول السُّلْطَان عَنهُ وتخفف نَحْوهَا ثقله وأمددنا من معاقل الأرمن بسفن كَثِيرَة فَعبر النَّاس كَافَّة فَلَمَّا قَطعنَا الْفُرَات كاتبنا أَصْحَاب الْأَطْرَاف ليدخلوا فِي الطَّاعَة فَمن سلم سلمت عَلَيْهِ بِلَاده وَمن أبي توجهنا إِلَيْهِ فَأول من وصل إِلَيْنَا رَسُول نور الدّين مُحَمَّد بن قَرَأَ أرسلان بن نعْمَان بن أرتق

ذكر وفاة عمى فرخشاه عز الدين

صَاحب حصن كيفا يذكر وُصُوله إِلَى الْخدمَة السُّلْطَانِيَّة وَيذكر مَا سبق إِلَيْهِ من إِحْسَان الْبَيْت الأيوبي ذكر وَفَاة عمى فرخشاه عز الدّين وَلما عبر السُّلْطَان الْفُرَات وأفاه النعي بوفاة عمي عز الدّين فرخشاه فَتقدم فِي الْحَال إِلَى شمس الدّين مُحَمَّد بن عبد الْملك بن الْمُقدم بِالْعودِ إِلَى دمشق وَكتب لَهُ منشورا بولايتها وَدخُول من بهَا تَحت طَاعَته فَسَار من وقته إِلَى دمشق وَتوجه السُّلْطَان إِلَى الرها

ذكر مسيرنا إلى الرها وفتحها

ذكر مسيرنا إِلَى الرها وَفتحهَا وَلما وصلنا إِلَى الرها حصرناها أَيَّامًا من شهر جمادي الأولى وَكَانَ فِيهَا الْأَمِير فَخر الدّين مَسْعُود بن الزَّعْفَرَانِي فَأخذ فِي الْجد والتشمير والامتناع فخاف عَاقِبَة ذَلِك فَأرْسل إِلَى السُّلْطَان بتسليمها طلبا للسلامة فأنعم بهَا السُّلْطَان لمظفر الدّين كوكبوري إِضَافَة مَعَ حران ثمَّ توجهنا إِلَى حران ودخلنا مِنْهَا إِلَى الرقة ذكر النُّزُول على الرقة وَفتحهَا ثمَّ إِن السُّلْطَان توجه من حران إِلَى الرقة فَنزل عَلَيْهَا وحاصرها وَكَانَ فِيهَا الْأَمِير قطب الدّين ينَال بن حسان المنبجي وَكَانَت قد سبقت مِنْهُ إساءة وَسُوء تَدْبِير رَجَعَ عَلَيْهِ وباله فرآي أَنه لَا طَاقَة لَهُ بعساكرنا فأذعن وَسَأَلَ الْأمان وَسلم الرقة وعصم نَفسه وَمَاله وَخرج مِنْهَا بِجَمِيعِ مَا ملكه ماخلا ذخائر عدده وَرِجَاله وفارقناه وَمضى لحاله وَأحكم السُّلْطَان الْأُمُور بهَا ورتب أحوالها وَجعل فِيهَا بعض الْخيام ثمَّ مضى مِنْهَا مُتَوَجها

ذكر الوصول إلى الموصل والنزول عليها

إِلَى عرابان فَلَمَّا قرب مِنْهَا خرج للقائنا رجالها ونساؤها وَاسْتَبْشَرُوا بقدومنا وخيمنا على ظَاهرهَا فَوضع السُّلْطَان مَا كَانَ عَلَيْهِم من ضَرَائِب المكوس وبذل لَهُم الْعدْل الْوَاسِع وَالْإِحْسَان وأزال مَا كَانَ من المكوس أَيْضا بِمَا كسين وَسَائِر الْمَوَاضِع بالخابور ثمَّ قَطعنَا نهر الخابور على قنطرة الشبتير متوجهين إِلَى نَصِيبين فَكَانَ نزولنا عَلَيْهَا بعد ثَلَاث لَيَال وَقد تحصنت وتمنعت فالستائر على أسوارها مصفوفة والمنجنيقات على قلعتها مستديرة فأشفقنا فِي حصرها من سفك الدِّمَاء وهتك الْحرم فوكلنا بهَا من يمْنَع من الدُّخُول وَالْخُرُوج وسلطنا ناسنا على القلعة وواليها فَعرف أَنه لَا محيص لَهُ من المحاصرة فَأرْسل بعد أَيَّام فِي الاستسلام وَطلب أَمَانًا من السُّلْطَان فتسلمها مِنْهُ بِمَا فِيهَا من الذَّخَائِر وأزلنا مَا كَانَ فِي الْبَلَد من الضرائب والمكوس وعول السُّلْطَان فِي ولَايَة فصيبين على الْأَمِير حسام الدّين أبي الهيجاء السمين وَفِي ولَايَة الخابور على جمال الدّين خوشترين ذكر الْوُصُول إِلَى الْموصل وَالنُّزُول عَلَيْهَا وَلما رتب السُّلْطَان أُمُور نَصِيبين وَأَحْوَالهَا توجه مِنْهَا بِجَمِيعِ عساكره إِلَى الْموصل فنازلها من أقطارها بجموع العساكر فَوقف هُوَ وَجَمَاعَة

ذكر وصول رسل الخلافة

حلقته مِمَّا يَلِي بَاب الرّوم محاذي بَاب كِنْدَة وَجعل وَالِدي من جِهَة الشرق بِبَاب شَرْقي وأخاه تَاج الْمُلُوك بوري عِنْد بَاب العماري فضايق الْبَلَد أَشد مضايقة وَكَانَ صَاحب الْموصل حنيئذ أتابك عز الدّين مَسْعُود بن مودود ونائبه مُجَاهِد الدّين قايماز قد تولى حفظ الْبَلَد وَكَانَ قد كَاتب الدِّيوَان الْعَزِيز واستشفع إِلَى المواقف المقدسة الناصرة لدين الله باستصلاح شَأْنه وَكَانَ رَسُول عز الدّين ابْن أبي الصاحب أستاذ الدَّار العزيزة يتَوَلَّى مهامه فَحسن لأمير الْمُؤمنِينَ ثَبت الله دَعوته إِنْفَاذ شيخ الشُّيُوخ بالشفاعة إِلَى السُّلْطَان ذكر وُصُول رسل الْخلَافَة وَوصل إِلَى السُّلْطَان الْخَبَر بوصول رسل الْخلَافَة وهم صدر الدّين شيخ الشُّيُوخ وشهاب الدّين بشبر ومعهما من خَواص الدِّيوَان جمَاعَة كَبِيرَة

فَتَلقاهُمْ السُّلْطَان بالرحب وَالْإِكْرَام وأنزلهم قَرِيبا مِنْهُ وشاع فِي الْعَسْكَر وُصُول شيخ الشُّيُوخ فِي الصُّلْح وإطفاء نَار الْحَرْب وَوصل أَيْضا حسن الجاندار رَسُول مظفر الدّين قزل أرسلان صَاحب أذربيجان فِي الشَّفَاعَة أَيْضا وَقَالَ جمَاعَة من الْأُمَرَاء والأجناد هَؤُلَاءِ غَدا يصطلحون وَنحن نحظى بالشقاء والحرمان لكَوْنهم لم يطلعوا على حقائق الْأُمُور وَالسُّلْطَان يُصَرح بإباء الْمُصَالحَة وَترك قبُول الشَّفَاعَة واستفراغ المجهود فِي شغل الْحصْر وَالنَّاس يَقُولُونَ هَذَا لَا يستتم وَلَا يَدُوم وَفِي كل يَوْم يناوب الْقِتَال ووالدي الْملك المظفر يحمل من جَانِبه وينازل الْقَوْم وَكَذَلِكَ تَاج الْمُلُوك بوري أَخُو السُّلْطَان وَشَيخ الشُّيُوخ ينْهَى النَّاس وينكر عَلَيْهِم ذَلِك ويصدهم عَن الْقِتَال وأتى إِلَى السُّلْطَان وَقَالَ إِنَّمَا أتيت إِلَيْك مستشفعا فِي أَمر هَؤُلَاءِ الْقَوْم فاعدلوا عَمَّا أَنْتُم عَلَيْهِ حَتَّى أرسل إِلَى الْقَوْم وَأنْظر مَا هم عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان سمعا وَطَاعَة فَأرْسل شيخ الشُّيُوخ إِلَى الْقَوْم صَاحبه فشرعوا يندبون كل يَوْم رسلهم بالمراسلات الخادعة فَخرج أول يَوْم جمال الدّين محَاسِن ومجد الدّين الشريف أَخُو نقيب الطالبيين فَحَضَرُوا عِنْد شيخ الشُّيُوخ فِي خيمته وأنفذ شيخ الشُّيُوخ إِلَى السُّلْطَان من عرفه وصولهم واستدعى مِنْهُ إِنْفَاذ بعض ثقاته لاستماع كَلَامهمَا فَتقدم السُّلْطَان إِلَى الْأَجَل الْفَاضِل وَإِلَى الْفَقِيه عِيسَى أَن يحضرا وَأَن ينهيا إِلَيْهِ مَا يسمعانه مِنْهُمَا فمضيا وحضرا عِنْد شيخ الشُّيُوخ فأذهبا ذَلِك الْيَوْم بالْكلَام الَّذِي لَا محصول لَهُ وَلَا فَائِدَة فِيهِ ثمَّ قَالَا خلنا وَنخرج غَدا بِالْأَمر الْمعِين فَلَمَّا كَانَ من الْغَد خَرجُوا وطلبوا مطَالب كَثِيرَة وَأَشْيَاء مُتعَدِّدَة واقترحوا إِعَادَة الْبِلَاد الْمَأْخُوذَة وَطَالَ الحَدِيث مِنْهُم بِمَا لَا فَائِدَة فِيهِ وَكَانَ غرضهم تمحيض الْأَوْقَات فَمَكَثُوا على ذَلِك قَرِيبا من شهر لَا ينتهون

ذكر دخول شيخ الشيوخ الموصل

إِلَى أَمر مُسْتَقر ويقصدون الخدع والختل وَشَيخ الشُّيُوخ يتَوَهَّم من السُّلْطَان أَنه لَا يُؤثر الصُّلْح فَلَمَّا تبين السُّلْطَان ذَلِك مِنْهُ دخل لَهُم تَحت مَا أرادوه وَاسْتقر الْأَمر على أَن يردوا على السُّلْطَان حلب وَيرد عَلَيْهِم جَمِيع مَا اقترحوه وَكَانَ قد تبين الْأَجَل الْفَاضِل فحوى مقالهم وَمَا هم عَلَيْهِ من الخداع والمحال فَانْقَطع عَن الْحُضُور وَتعذر بِعُذْر ذكره وَكَانَ الْفَقِيه عِيسَى يحضر لسَمَاع مقالتهم وإنهائها إِلَى السُّلْطَان ثمَّ انْقَطع الْفَقِيه عَنْهُم فوجدوا بذلك مهلة فَكَانُوا فِي أثْنَاء ذَلِك يستنجدون مُلُوك الْأَطْرَاف ويظهرون الْوِفَاق حَتَّى تبين للنَّاس مَا عَلَيْهِ من الْخلاف وَاسْتقر أَن يدْخل شيخ الشُّيُوخ إِلَى المواصلة ليبلو مَا عِنْدهم ذكر دُخُول شيخ الشُّيُوخ الْموصل وَلما طَال الْأَمر وَلم يتَحَقَّق من المواصلة مَا هم عَلَيْهِ اسْتَقر أَن يدْخل إِلَيْهِ شيخ الشُّيُوخ لإبرام الْعَهْد وإحكام العقد فَدخل إِلَيْهِم فَكَانَ عِنْدهم يَوْمًا وَلَيْلَة فَرَآهُمْ متنكبين عَن سلوك النهج وآراءهم مُخْتَلفَة فَذكر لَهُم مَا قَالَه رسولهم فأنكروه وَقَالُوا بعد كَلَام طَوِيل إِن أَرَادَ صَلَاح الدّين وفاقنا فليرحل عَنَّا وَيرد بِلَادنَا وَنحن نخلي بَينه وَبَين حلب وَلَا يطْلب منا مساعدة لِأَن لنا مَعَ عماد الدّين زنكي يَمِينا وعهدا فَإِن رضى صَلَاح الدّين بِهَذَا وغلا فَمَا سمع النَّاس وَلَا قُلْنَا وَكَانَ قد اسْتَقر مَعَ الرُّسُل أَنهم يسلمُونَ إِلَى السُّلْطَان حلب ويستعيدون مِنْهُ الْبِلَاد فَنَدِمُوا على مَا قدموه من التَّقْرِير وبتين لَهُم مَا كَانَ المواصلة عَلَيْهِ من الْحِنْث والمخادعة فَانْصَرف شيخ الشُّيُوخ من عِنْدهم مُتَوَجها إِلَى بَغْدَاد فَجَاءُوا غليه وَتَضَرَّعُوا لَهُ وَقَالُوا ترجع إِلَيْهِ وتعيد عَلَيْهِ مَا سمعته

ذكر رحيل السلطان إلى سنجار وحصارها وفتحها

منا وتلطف بِهِ فِي الْخطاب فَلَمَّا اجْتمع بالسلطان استعفى من التَّكَلُّم وَاسْتوْفى حَدِيثه مَا سَمعه من الْأَقْسَام فَقَالَ لَهُ صَلَاح الدّين هَذِه أشهر شراف وَقد عزمنا على الرحيل وَنهب لوصولك الْموصل وَكَانَ نزُول السُّلْطَان عَلَيْهَا فِي رَجَب وَعشرَة أَيَّام من شعْبَان ذكر رحيل السُّلْطَان إِلَى سنجار وحصارها وَفتحهَا كَانَ من بسنجار من المواصلة مُدَّة مقَام السُّلْطَان حِصَار الْموصل يقطعون دونه من أَرَادَ الْوُصُول إِلَيْهِ فَأمر السُّلْطَان ابْن أَخِيه وَالِدي الْملك المظفر أَن يمْضِي يحصر سنجار فَسَار بِمن مَعَه من الْعَسْكَر حَتَّى صبح بأرنجان فوافاه عَسْكَر مُجَرّد من المواصلة إِلَيْهَا فعبى أَصْحَابه ميمنة وميسرة وَعطف بهم فأحاط بهم فكبسهم جَمِيعًا وَأخذ خيولهم وعددهم ووكل بهم من دِرْهَم إِلَى الْموصل رجالة وَاحْتبسَ عِنْده جمَاعَة من مقدميهم وَكتب بخبرهم إِلَى السُّلْطَان فَلَمَّا وَصله ذَلِك رَحل من الْموصل إِلَى سنجار بِجَمِيعِ عساكره وَمَعَهُ رسل الْخلَافَة وَنزل على سنجار بعد لَيَال فَكَانَ نُزُوله عَلَيْهَا فِي الْعشْر الْأَوْسَط من شعْبَان فَضرب مخيمه على عيونها واقتسمت عساكره الْمنَازل بأقطارها وبدأهم بالمراسلة وخوفهم عواقب الْمُخَالفَة فَأَبَوا إِلَّا الجلاد ولجوا فِي العناد فَأمر السُّلْطَان بمضايقتهم وَنصب عَلَيْهَا منجنيقا وَاشْتَدَّ النزال وَدخل شهر رَمَضَان فَأمر السُّلْطَان بالإحجام عَنْهُم والاحتراز من إِرَاقَة الدِّمَاء وَكَانَ فِي كل يَوْم يركب للإرهاب وهم مَعَ ذَلِك يبالغون فِي التحفظ فجَاء إِلَى السُّلْطَان لَيْلَة من اللَّيَالِي من أخبرهُ أَن الحراس نيام فندب

ذكر رحيل السلطان من سنجار وتوجهه إلى نصيبين ورجوع شيخ الشيوخ إلى بغداد وذلك في العشر الآخر من شهر رمضان من السنة المذكورة

إِلَيْهِم جمَاعَة من أَصْحَابه فقبضوهم جَمِيعًا فَأصْبح الَّذين بسنجار قد انْكَسَرت شوكتهم وَضعف بأسهم فأنفذ شرف الدّين أَمِير أميران هندو بن مودود أَخُو أتابك الْموصل عز الدّين يطْلب أَمَانًا فَأُجِيب إِلَى مَا سَأَلَهُ وسيرت إِلَيْهِ هَدَايَا وتحف وعطايا وَخرج من سنجار إِلَى الْموصل بكوسه وَعلمه وأجناده ونعمه وَحرمه وتسلم السُّلْطَان سنجار وقلعتها وَخرج إِلَيْهِ أعيانها وَاسْتَبْشَرُوا بقدومه وَأسْقط مَا كَانَ بهَا من المكوس والضرائب وَجعل فِيهَا واليا هُوَ الْأَمِير سعد الدّين مَسْعُود بن معِين الدّين أنر وَكتب رياستها لأحد بني يَعْقُوب وعول مِنْهُم فِي قَضَائهَا وتنفيذ أَحْكَامهَا على نظام الدّين نصر بن المظفر ذكر رحيل السُّلْطَان من سنجار وتوجهه إِلَى نَصِيبين وَرُجُوع شيخ الشُّيُوخ إِلَى بَغْدَاد وَذَلِكَ فِي الْعشْر الآخر من شهر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَلما رتب السُّلْطَان الْأُمُور بسنجار أحضر الْأُمَرَاء وَأَصْحَاب المشورة فأشاروا عَلَيْهِ بِالْإِقَامَةِ بمَكَان يحملهم حَتَّى يَنْقَضِي فصل الشتَاء وَمَعَ انقضائه يتَوَجَّه بهم حَيْثُ يَشَاء من الْأَمَاكِن والبلدان فامتثل مَا أمروا بِهِ ثمَّ نَهَضَ

ذكر السبب في ذلك

لوداع شيخ الشُّيُوخ وشهاب الدّين بشير بَعْدَمَا أصحبهما من التحف السّنيَّة والهدايا المرضية للمواقف المقدسة النَّاصِر لدين الله صلوَات الله عَلَيْهَا وَكتب على يَده كتابا إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز بِمَا رأى وَشَاهد من أَحْوَال المواصلة وَمَا افتعلوه من سوء التَّدْبِير والمحال وَالْخداع ورحل السُّلْطَان إِلَى نَصِيبين فحين قدمهَا شكا أَهلهَا من أبي الهيجاء السمين فَأمر بصرفه عَنْهُم واستصحبه مَعَه وَجعل بهَا بعض أمرائه وَخرج مِنْهَا مُتَوَجها إِلَى دَارا فَتَلقاهُ أميرها صمصام الدّين بهْرَام الأرتقي فَأكْرمه وأنعم عَلَيْهِ وشرفه ورحل من دَارا مُتَوَجها إِلَى حران وَلما وصلنا إِلَى حران ضرب السُّلْطَان مخيمه فِي ظَاهرهَا وأقمنا هُنَاكَ للاستراحة مشتغلين بشكر الله تَعَالَى على نعمه فَأمر السُّلْطَان وَالِدي الْملك المظفر بِالرُّجُوعِ إِلَى حماة بعسكره فرجعنا من هُنَاكَ وَأمر جمَاعَة من الْأُمَرَاء بِالرُّجُوعِ إِلَى أماكنهم وبلدانهم وَأقَام السُّلْطَان بِظَاهِر حران فِي خَواص أَصْحَابه بَقِيَّة شَوَّال وَذي الْقعدَة واياما من ذِي الْحجَّة فَلَمَّا رأى المواصلة انْفِرَاد السُّلْطَان عَن أَصْحَابه بحران وتفرقهم عَنهُ فِي الْبِلَاد حملهمْ جهلهم على أَن اجْتَمعُوا وتحاشدوا وقصدوا حربه طلبا لغرته ووحدته ذكر السَّبَب فِي ذَلِك لما كَانَ السُّلْطَان محاصرا للموصل ووصلت رسل مُلُوك الْأَطْرَاف والجوانب إِلَيْهِ شافعين لصَاحِبهَا وَكَانَ فيهم رَسُول شاه أرمن صَاحب

خلاط فارتحلنا عَنْهَا إِظْهَارًا لقبُول الشَّفَاعَة الإمامية الناصرة لدين الله وارتحلنا إِلَى سنجار فَلَمَّا حصرناها وصل سيف الدّين بكتمر وَكَانَ أعز أَصْحَاب شاه أرمن وبذل للسُّلْطَان فِي الشَّفَاعَة فِي سنجار كل مَا أمكنه وَاشْترط عَلَيْهِ أَشْيَاء مَا قبلهَا فكلفه السُّلْطَان أمورا استقلها فنفر طبعه وَأَرَادَ السُّلْطَان تشريفه فَلم يُوَافق على ذَلِك وَقَالَ قولا غليظا وَسَار إِلَى صَاحبه فأغراه إِلَى أَن خرج بِجَمِيعِ عساكره وَكَانَ شاه أرمن سكمان خَال قطب الدّين صَاحب ماردين وقطب الدّين إيلغازي بن البي بن تمرتاش خَال عز الدّين أتابك الْموصل فَكتب إِلَيْهِ واستدعاه فَخرج فَكَانَ اجْتِمَاع شاه أرمن وعسكر المواصلة مَعَ صَاحبهَا بحوزم وَهِي ضَيْعَة من ضيَاع ماردين وأتاهم عَسْكَر حلب والياروقية وَكَانُوا جمعا عَظِيما وَبلغ السُّلْطَان ذَلِك فَلم يكترث بِهِ وَكتب إِلَى أمرائه العائدين فَأول من بَادر إِلَيْهِ بالوصول وَالِدي الْملك المظفر وَكَانَ وصولنا من حماة إِلَى حران فِي خَمْسَة أَيَّام وَقَالَ للسُّلْطَان فِي سَاعَة وُصُوله قُم بِنَا إِلَى الْقَوْم فَقَالَ لَهُ إِنَّهُم فِي كَثْرَة وَلَا بَأْس بالاحتراز وَهَذَا عشر شرِيف فَلم يزل حَتَّى وَافقه السُّلْطَان على رَأْيه وَسَار بِمن مَعَه من غير انْتِظَار للعساكر

فصل من كتاب إلى الديوان العزيز من إنشاء الفاضل

فَنزل راس عين فطار خَبره إِلَى الْقَوْم فَوَلوا منهزمين يتبع بَعضهم بَعْضًا وَذَلِكَ يَوْم درقة من ذِي الْحجَّة فَرجع شاه أرمن إِلَى خلاط والمواصلة إِلَى الْموصل واعتصم صَاحب ماردين بحصنه وَأما عَسْكَر حلب فَإِنَّهُ لم يقدم على الرُّجُوع إِلَيْهَا وَنحن على طَرِيقه فَتَفَرَّقُوا فَمنهمْ من مضى إِلَى الْموصل ثمَّ رَجَعَ إِلَى عانة فَعبر الْفُرَات وَطلب حلب وَأما السُّلْطَان فَإِنَّهُ نزل بحوزم وَضرب مخيمه بهَا وَكَانَ بهَا قصر مشيد لصَاحب ماردين فَأَقَامَ فِيهِ تَاج الْمُلُوك بوري أَخُو السُّلْطَان برسم النزهة فصل من كتاب إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز من إنْشَاء الْفَاضِل اجْتمع المواصلة وشاه أرمن وَصَاحب ماردين ودولتشاه صَاحب أرزن وبدليس وَغَيرهم على قصد الْخَادِم حِين ظنُّوا انه تقلل من عسكره وَندب إِلَى الْكفَّار من أمرائه من اكْتفى من مغيبه بمحضره وقدروا أَنه يتم لَهُم اغتراره ويمكنهم عواره ويتناصرون عَلَيْهِ قبل أَن يجْتَمع أنصاره ونزلوا تَحت الْجَبَل فَلَمَّا صَحَّ لَهُم قصد الْخَادِم ظنُّوا أَنه وَاقع بهم فَأخذُوا أَعِنَّة الْفِرَار بِقُوَّة وَذكروا مَا فِي لِقَائِه من عوائد عِنْدهم مخوفة وَعِنْده مرجوة وَسَار كل فريق على طَرِيق بكيد عَدو وَفعل صديق معتقلا مَالا يَهْتَز وَلَا يعتز ومتقلدا مَالا يرقى وَلَا يريق وأعدى أنفسهم بِجمع لَيْسَ لَهُ تبشير وَإِن كَانَ مَا هُوَ جمع سَلامَة بل هُوَ جمع تكسير

ذكر مسير السلطان إلى أمد والنزول عليها

ذكر مسير السُّلْطَان إِلَى أمد وَالنُّزُول عَلَيْهَا وَلما رَجَعَ السُّلْطَان من الْموصل كتب إِلَى المواقف عَلَيْهِ عوضا عَن يَده ألف دِينَار فَحمل ابْن الضَّحَّاك إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز وَترك فِي التَّوْكِيل وَعجب النَّاس من تقدم الْخَلِيفَة فِي حق المتصرفين بِالْقطعِ فَحكى أَبُو طَالب صَاحب بَاب الْمَرَاتِب عَن أستاذ الدَّار ابْن الصاحب أَنه سمع من الْخَلِيفَة أَنه قَالَ لما كنت أَمِيرا وَكَانَ لي إقطاع فِي نهر ملك وَكَانَ هَذَا أَبُو الْحسن بن الضَّحَّاك عَاملا فِي نهر ملك نفذ جمَاعَة من أَصْحَابه وَأخذ من إقطاعي رجَالًا فَمضى إِلَيْهِ خَالص الْخَادِم وخاطبه فِي معناهم وَسَأَلَهُ أَن يُطْلِقهُمْ أَو يقْتَصر على الْبَعْض فَلم يقبل فجَاء إِلَيْهِ وَهُوَ فِي دَار ابْن الْعَطَّار وَكرر السُّؤَال عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ وَالله مَا أطلق مِنْهُم رجلا وَاحِدًا وَتقول لسيدك أبي الْعَبَّاس أَحْمد الْأَمِير إِذا صَار خَليفَة يقطع يَدي ولقبه بِكُل قَبِيح فَلَمَّا صَار الْأَمر إِلَيّ وَكتب صَاحب الدِّيوَان أَنه قبض عَلَيْهِ ذكرت هَذِه الْحَال وَتَقَدَّمت بِقطع يَده كَمَا كَانَ قد سَأَلَ فَكتب إِلَيّ هَذَا الْكَلْب يَقُول لي إِنَّنِي قد قررت عَلَيْهِ ألف دِينَار وَالله لابد أَن أقطع يَده كَمَا كَانَ قد سَأَلَ وَبَقِي ابْن الضَّحَّاك فِي التَّوْكِيل إِلَى أَن استوفى ألف دِينَار وَمَا يقدر أحد أَن يسْأَل فِيهِ وَحكى أَن صَاحب الدِّيوَان كَانَ لَهُ مطبخ وَكَانَ لَا يطْبخ فِيهِ شَيْء بل جَمِيع مَا كَانَ يحْتَاج إِلَيْهِ من عِنْد النَّاظر وَكَانَ فِي طَرِيق خُرَاسَان كَاتب يعرف بِابْن جميل فَكتب رقْعَة وعلقها على بَاب المطبخ فِيهَا أَبْيَات لمرجا شَاعِر بني أبي الجيرومي

(رَأَيْت مضرب شعر ... فَقلت مَاذَا السوَاد) (فَقيل مطبخ نصر ... فَقلت أَيْن الرماد) (فَقيل لي فِيهِ بن ... وكامخ وجراد) (وَلَيْسَ فِيهِ سوى إِذا ... ومجال يُرَاد) فَخرج صَاحب الدِّيوَان أَبُو عَليّ نصر بن الْوَكِيل رَاكِبًا وَمَعَهُ جمَاعَة وَأَصْحَابه فرآي الرقعة على بَاب المطبخ فَأَخذهَا وَقرأَهَا فَقَالَ لَهُ أحد أَصْحَابه هَذَا فعل ابْن جميل الْكَاتِب فقصده وَكتب إِلَى الْخَلِيفَة فِي حَقه وَصَرفه من خدمته وَدخل صَاحب الدِّيوَان إِلَى بَغْدَاد وَهُوَ مَرِيض فَمَا مضى عَلَيْهِ إِلَّا أَيَّام قَلَائِل وَتوفى وَكَانَ الْخَلِيفَة أدام الله أَيَّامه كَبِير الْميل إِلَيْهِ والمحبة لَهُ وَكَانَ أحسن أَرْبَاب الدولة خلقَة وَذكر أَن الْخَلِيفَة لما أنفذ بِهِ إِلَى وَاسِط وأنفذ مِنْهَا مائَة ألف دِينَار حملا وَاحِدًا قَالَ إِنَّنِي أُرِيد أَن أجعَل هَذَا ابْن الْوَكِيل وزيرا فَإِنَّهُ مليح الصُّورَة وَقد عرف قَوَاعِد الدِّيوَان فَنقل ذَلِك إِلَى أستاذ الدَّار ابْن الصاحب فنفذ إِلَى طَرِيق خُرَاسَان من أطمعه فَلَمَّا مَاتَ كَانَ جمَاعَة مِمَّن كَانُوا ينبسطون بِمَجْلِس أستاذ الدَّار يهنئونه بِمَوْت ابْن الْوَكِيل فَلَمَّا مَضَت أَيَّام قَلَائِل أنفذ أستاذ الدَّار فأحضر دَاوُد الَّذِي كَانَ مشرف ديوَان الزِّمَام أَيَّام المستضئ بِأَمْر الله رضوَان الله عَلَيْهِ وَكَانَ قد تصوف وَانْقطع فِي رِبَاط شيخ الشُّيُوخ فَأحْضرهُ وَاسْتَأْذَنَ لَهُ بِأَن يرتب صَاحب ديوَان فبرز الْأَمر الشريف بذلك وَكَانَ لقبه مجد الدّين فَغير لقبه لِأَن أستاذ الدَّار كَانَ يلقب بمجد الدّين ولقب دَاوُد بِكَمَال الدّين وَنقل إِلَى دَار فِي الْقرْيَة الْمَعْرُوفَة بقصر الْخلَافَة وَكَانَ مَالك الدَّار يعرف بِجلَال الدّين بن جَعْفَر الَّذِي كَانَ صَاحب ديوَان فِي الْأَيَّام المستنجدية ورتب عَلَيْهِ مشرفا صفي الدّين أَبُو غَالب بن الْجلَال وَكَانَ نَصْرَانِيّا وَأسلم وَسَنذكر قصَّته فِيمَا بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى

وفيهَا أَشَارَ أستاذ الدَّار إِلَى جمَاعَة من أهل بَغْدَاد من الْعَوام بِأَن يتقولوا إِذا ركب ابْن زِيَادَة إِلَى الدِّيوَان (يَا غيث مَالِي بالغرام يَد ... ) وَكَانَت هَذِه الأبيات قد ذكرت فِي أَيَّام ابْن زِيَادَة وَكَانَ أستاذ الدَّار بقصره وَيُرِيد صرفه من الدِّيوَان الْعَزِيز وَكَانَ يقبح ذكره ويقصده فَكَانَ ابْن زِيَادَة إِذا ركب سمع فِي السُّوق ضجة عَظِيمَة من الْعَوام (يَا غيث مَالِي بالغرام بُد) لَيْلًا كَانَ أَو نَهَارا ثمَّ إِن أستاذ الدَّار حسن للخليفة عزل ابْن زِيَادَة وَالْقَبْض عَلَيْهِ فَبَلغهُ ذَلِك فَخرج هَارِبا فَنزل فِي رِبَاط شيخ الشُّيُوخ وَسَأَلَ أَن يتَصَدَّق عَلَيْهِ بِنَفسِهِ وَأَن يُؤذن لَهُ بالمضي إِلَى وَاسِط فَأذن لَهُ فِي ذَلِك فَمضى إِلَى وَاسِط وَلزِمَ دَاره وأحضر أستاذ الدَّار عز الدّين صَدَقَة بن صَدَقَة وَأخذ خطة بِأَلف دِينَار ورتبه صَاحب ديوَان مَوضِع ابْن زِيَادَة وخلع عَلَيْهِ فِي الدِّيوَان الْعَزِيز وَتقدم أستاذ الدَّار إِلَى ابْن البُخَارِيّ النَّائِب أَن يُوقع إِلَى ابْن فطيرا نَاظر الْأَعْمَال الواسطية أَن يعْتَرض أَمْلَاك ابْن زِيَادَة ويضيق عَلَيْهِ ويقصد تقبيح ذكره وَكَانَ سَبَب ذَلِك علمهمْ بِحسن رَأْي الْخَلِيفَة فِيهِ وَكَانَ أوحد الزَّمَان فِي الْكِتَابَة والتراسل لَا تَلد النِّسَاء قبله وَكَانَ محسودا لفضائله وَأقَام بواسط على نِهَايَة من الضّر حَتَّى تناهت بِهِ الْحَاجة حَتَّى نقل عَنهُ أَنه كَانَ ينْسَخ بِأُجْرَة وفيهَا ضرب سكلية بن إيلاجك أَمِير الْبَصْرَة دَرَاهِم صغَارًا وسماها إيلاجكية كَانَ ذَلِك بعد موت أَبِيه إيلاجك بِسنة ثمَّ إِن ابْن فطيرا ضمن

الْبِلَاد البصرية على أَن يكون ابْن إيلاجك شحنة فَحسب وَكَانَ ابْن إيلاجك الْمَذْكُور على غَايَة من الْبُخْل وَالشح ثمَّ لم تزل أُمُوره تتناقص إِلَى أَن صرف من الْبَصْرَة وأصعد إِلَى بَغْدَاد فَلَمَّا وصل إِلَى بَغْدَاد أنعم الْخَلِيفَة عَلَيْهِ بالرازان وفيهَا تقدم الْخَلِيفَة بإحضار طغرل الْخَاص وَكَانَ أكبر مَمْلُوك رومي بَين يَدَيْهِ إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز وَأَن يخلع عَلَيْهِ قبَاء أسود وعمامة سَوْدَاء وأخرجت لَهُ من الدَّار معممة وَأعْطى فرسا وسيفا وخوطب بعماد الدّين وأقطع الْبَصْرَة وَجعل فِي خدمته خمس مائَة مَمْلُوك وَكبر أمره وَذكر عَن ابْن الْأَنْبَارِي كَاتب الْإِنْشَاء أَنه سمع من أستاذ الدَّار ابْن الصاحب يَقُول قَالَ الْخَلِيفَة مَا لأحد علينا فِي هَذِه الدولة حق إِلَّا لهَذَا طغرل الَّذِي قد أعطيناه الْبَصْرَة وَكَانَ الْخَلِيفَة يعلن بِهَذَا القَوْل ويكرره وَسبب ذَلِك أَن طغرل كَانَ يمْضِي إِلَى الْأُمَرَاء فِي السِّرّ ويستحلفهم للخليفة وَقد ألبس مِنْهُم جمَاعَة ثِيَاب النِّسَاء وأدخلهم إِلَى الْخَلِيفَة قبل ولَايَته وَهُوَ أَمِير مِنْهُم الشطرنجي وقيطرمش الشّحْنَة وَسيف الدّين طغلو وَجَمَاعَة من المماليك وفيهَا التجأ جمال الدّين بن الْحصين إِلَى رِبَاط شيخ الشُّيُوخ خوفًا من آل تنبه الشطرنجي صَاحب وَاسِط لِأَنَّهُ كَانَ قد ضمن مِنْهُ الْأَعْمَال الواسطية وَحضر عِنْده جمَاعَة من أهل وَاسِط يتألمون مِنْهُ ويذكرون أَنه قد خرب الْأَعْمَال وَقد أَخذ جملَة من الْأَمْوَال للرعايا فَكثر غضب الشطرنجي عَلَيْهِ لذَلِك وَكَانَ قد عمل ضَمَانه وانكسر عَلَيْهِ عشرُون ألف دِينَار

وَأما صدر الدّين شيخ الشُّيُوخ فَإِنَّهُ خَاطب الْخَلِيفَة فِي معنى ابْن الْحصين فَقَالَ مَاله مَعنا شغل بَينه وَبَين خَصمه الشَّرْع فتحقق ابْن الْحصين أَنه لَا منجي لَهُ من الشطرنجي وَكَانَ ذَا سطوة وَشدَّة وَأكْثر النَّاس قساوة وأشدهم تجبرا وَكَانَ مَعَ ذَلِك كَرِيمًا جوادا وَكَانَ معطاء لَا سِيمَا إِذا شرب فَلَمَّا شَاهد ابْن الْحصين هَذِه الْأَحْوَال لم يجد بدا من الْهَرَب إِلَى الشَّام والاعتصام بجناب الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين وفيهَا تقدم الْخَلِيفَة بِنَقْل عماد الدّين إِلَى البدرية فَلَمَّا انْتقل وَسكن بهَا كَانَ الْخَلِيفَة لَا يزَال مَعَه إِن خرج أَو دخل وَلَا يُفَارِقهُ فِي سَائِر الْأَوْقَات وفيهَا كثر الْخَلِيفَة أدام الله أَيَّامه لَيْلًا يمشي فِي الْأَسْوَاق وَمَعَهُ جمَاعَة مِنْهُم نجاح الشرابي وَأَبُو الْحسن بن الْكَرْخِي وَأَبُو الْعِزّ وَمُحَمّد بن يحيى الْفراش وَكَانَ يمْضِي متنكرا مرّة فِي زِيّ الْعَجم وَمرَّة فِي زِيّ التّرْك وَمرَّة فِي زِيّ الْفُقَهَاء وَكَانَ يعْتَقد أَن أمره يخفي على أهل بَغْدَاد وَكَانَ لَا يخفى مَكَانَهُ للَّذين مَعَه لأَنهم كَانُوا معروفين عِنْد النَّاس فَكَانَ كَالْعلمِ إِذا اجتاز فِي مَوضِع عرف بِمن هم مَعَه فَكَانَ النَّاس يلحون بِالنّظرِ إِلَيْهِ ويقفون أَثَره ويمضون خَلفه وراى أَن السُّكُوت عَنْهُم يُوجب تكدير الْوَقْت وَخَافَ على نَفسه فَأطلق الْقَتْل فِي كل من يتَوَهَّم أَنه ينظر إِلَيْهِ أَو يقْصد أَن يمْضِي فِي طَرِيقه إِلَى أَن انحسمت الْمَادَّة فَكَانَ أهل بَغْدَاد إِذا غلب على ظنونهم أَنه فِي طَرِيق هربوا عَنْهَا إِلَى أُخْرَى وَإِذا صادفه أحد فِي طَرِيق وَرَآهُ بِغَيْر اخْتِيَاره كَاد أَن يهْلك من شدَّة الْخَوْف وَإِن اسْتَغَاثَ إِلَيْهِ أحد وَهُوَ فِي الصَّيْد فَإِن خاطبه بمولانا أَو دعى لَهُ وَعرف أَنه قد عرفه مَا يَخْلُو أمره من أحد أَمريْن إِمَّا أَن يقْتله أَو يعرض عَنهُ وَلَا يقْضِي لَهُ حَاجَة ليزيل من قلبه أَنه أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى أَن هرب النَّاس كَافَّة وَهَان عِنْده سفك الدَّم

وفيهَا ظهر بِبَغْدَاد التَّشَيُّع والإعلان بولاء أهل الْبَيْت عَلَيْهِم السَّلَام وَكَانَ أستاذ الدَّار ابْن الصاحب مَعْرُوفا بذلك هُوَ وبيته يَرِثهُ عَن آبَائِهِ وأعلن بالتظاهر بلعنه مُعَاوِيَة وَيزِيد بِحَيْثُ أَن رَضِي الدّين الْقزْوِينِي مدرس النظامية كَانَ إِذا جلس بمدرسة النظامية مجْلِس الْوَعْظ يسؤل عَن ذَلِك فَلَا يرد جَوَابا فَقَامَ إِلَيْهِ رجل فِي بعض الْأَيَّام وَهُوَ يعظ النَّاس وَسَأَلَهُ أَن يلعن يزِيد فَلم يفعل فثار النَّاس عَلَيْهِ فِي الْمجْلس وهموا بقتْله وَقَامَ جمَاعَة من أهل بَغْدَاد وَفِي أَيّدهُم العصى ورجفوا إِلَى الْمِنْبَر واتصل ذَلِك بحاجب الْبَاب ابْن صَدَقَة فأنفذ نَائِبه عطاف بن بختيار وَمَعَهُ جمَاعَة فمنعوا النَّاس من الْفِتْنَة وحملوا الشَّيْخ رَضِي الدّين الْقزْوِينِي الْمدرس إِلَى بَيت من بيُوت الْفُقَهَاء مِمَّا يَلِي خزانَة الْكتب الَّتِي بِالْمَدْرَسَةِ الْمَذْكُورَة وغلقوا عَلَيْهِ الْبَاب ووقف النَّائِب وَالْجَمَاعَة وَالَّذين مَعَه إِلَى أَن جَاءَ اللَّيْل وأخرجوه إِلَى دَاره وسكنت تِلْكَ الغوغاء وَمنع النَّاس من أذيته ثمَّ تقدم إِلَى رَضِي الدّين الْقزْوِينِي أَن يجلس بِبَاب بدر وَيكون الْخَلِيفَة هُنَاكَ فَجَلَسَ وَكَانَ ذَلِك الْيَوْم يَوْم السبت وَقَامَ إِلَيْهِ جمَاعَة وكلفوه بِأَن يلعن يزِيد بن مُعَاوِيَة وَكَانَ مَعَه وَلَده الملقب بالرفيع فَأَشَارَ إِلَيْهِ بلعن يزِيد فَصرحَ بسبه وَلم يسمع أَبَاهُ شَيْئا وَكَانَ الْموضع فِيهِ جمَاعَة من مماليك الْخَلِيفَة فَلم يقدر أحد من النَّاس أَن يتَعَرَّض بِنَفسِهِ بل سكت النَّاس وَرَأى رَضِي الدّين الْقزْوِينِي أَن هَذِه الْحَال لَا مندوحة لأهل بَغْدَاد عَنْهَا وَأَنه لَا يقدر على الْمقَام دون التظاهر بسب يزِيد وَأَنه مَتى فعل ذَلِك هلك جَمِيع من يتَعَلَّق بِهِ بقزوين وَأخذت أَمْوَاله وأملاكه فمضت عَلَيْهِ أشهر وَطلب الْإِذْن بالمضي إِلَى بَلَده لينْظر أَهله فَاسْتَأْذن لَهُ فِي ذَلِك أستاذ الدَّار ابْن الصاحب فَأذن لَهُ من شدَّة بغضهم لَهُ وأنفذوه فِي رِسَالَة فِي طَرِيقه إِلَى قزل رسْلَان فَمضى وأسرع

فِي الْخُرُوج فَعِنْدَ ذَلِك نَدم الْخَلِيفَة لِخُرُوجِهِ وَعَلمُوا بعد ذَلِك أَنه لم يخرج إِلَّا للْمَذْهَب وخشوا من التشنيع عَلَيْهِم فِي الْبِلَاد فَلَمَّا وصل إِلَى قزل وبلغه رِسَالَة الدِّيوَان الْعَزِيز قَالَ لَهُ أنفذ أَنْت الْجَواب فإنني غير رَاجع إِلَى بَغْدَاد وإنني قد شاهدت الْمَوْت الْأَحْمَر وَتوجه إِلَى قزوين فَكَانَ النَّاس فِي تِلْكَ الخطة بأسرها من الْمُلُوك وَغَيرهم يقصدون رَضِي الدّين الْقزْوِينِي يتبركون بِهِ ويهنئونه بسلامته وَبقيت النظامية خَالِيَة من مدرس وفيهَا جمَاعَة من المعيدين وَالْفُقَهَاء يذكرُونَ الدُّرُوس ويقرءون الربعة فِي كل يَوْم وهم يَعْتَقِدُونَ أَن رَضِي الدّين يرجع إِلَى أَن وَقع الأياس مِنْهُ وَكَانَ الْفَقِيه التوقاني يعْتَقد أَنه رُبمَا أنعم عَلَيْهِ بالنظامية وَكَانَ كثير الْخطاب وَالْقَوْل والاستشفاع بِالنَّاسِ من أَرْبَاب الدولة لأَجلهَا وَكَانَ مُسْتَحقّا للتدريس والتصدر بمجلسها غير ان الْأُمُور بيد الله تَعَالَى جَارِيَة بتقديره وفيهَا اسْتَأْذن شهَاب الدّين الْفَقِيه الطوسي فِي الْحَج فَأذن لَهُ فَخرج من بَغْدَاد وَمضى إِلَى مصر وَكَانَ قد جعل الْحَج حجَّة لِخُرُوجِهِ وَلَو عرف مِنْهُ ذَلِك لما مكن من الْخُرُوج وَلم يُؤذن من بعده لأحد فِي المضى إِلَى الْحَج إِلَّا إِذا علمُوا عوده إِلَى الْعرَاق وَكَانَت مَعَه ابْنة الثَّقَفِيّ وَمَاتَتْ وَأخذ جَمِيع مَا كَانَ لَهَا وَسبب ذَلِك أَن أستاذ الدَّار ابْن الصاحب كَانَ يبعضه ويقصده وَلَو بقى فِي الْعرَاق لهلك لِأَنَّهُ كَانَ صَاحب ابْن الْعَطَّار

وَكَانَ قد حضر ذَات يَوْم فِي دَار أستاذ الدَّار وَقيل لَهُ إِن عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام مَا ملك من الدُّنْيَا شَيْئا وَكَانَ فَقِيرا حَتَّى إِنَّه كَانَ يَأْكُل خبز الشّعير فَقَالَ لَهُ الطوسي هَذَا مَا يَقُوله إِلَّا من لَا يعرف وَإِلَّا على قد نقل عَنهُ أَنه أدّى زَكَاة أَرْبَعِينَ ألف دِينَار وَكَانَ كثير المَال وَله نعمه وَإِنَّمَا المبغضون لَهُ يَقُولُونَ هَذَا فَقَالَ لَهُ أستاذ الدَّار فَكيف مدح عَليّ بإيثاره بِخبْز الشّعير وبصدقته بالخاتم فَقَالَ هَذَا كَانَ فِي ابْتِدَاء حَاله وَإِلَّا بعد ذَلِك ملك وَصَارَ لَهُ فَقَالَ لَهُ أستاذ الدَّار أُرِيد أَقف على هَذَا النَّقْل من قَالَه وَعَمن يَنْقُلهُ فَقَالَ لَهُ سمنديار الْوَاعِظ إِن هَذَا مَا سمع فَقَالَ ابْن الطوسي يجوز أَنَّك أَنْت مَا سمعته وطولب ابْن الطوسي بإحضار الْحجَّة فَخرج حِينَئِذٍ وَهُوَ يعْتَقد أَنه يبرهن عَن شَيْء لَهُ فِيهِ مصلحَة فَلَمَّا خرج عرف أَنه قد خاطر بدمه وَأَن هَذِه تكون من أعظم الْحجَج عَلَيْهِ فَادّعى أَنه قد مرض وَبَقِي أَيَّامًا وأنساهم هَذِه الْحَال فَأنْكر على أستاذ الدَّار كَيفَ سمع مِنْهُ هَذَا وَسكت وَكَيف مَا كلفه أَن يحضر الْحجَّة فِيمَا ذكره عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ على عَلَيْهِ السَّلَام وَصَارَ الْأَمر أَكثر من أَن يُوصف وَصَارَ النَّاس يثقلون بالأخبار عَن أهل الْبَيْت عَلَيْهِم السَّلَام ويذكرون أَشْيَاء من امور الصَّحَابَة مَالا يُفِيد ذكره لَو ذَكرْنَاهُ حَتَّى نقل عَن ابْن الْجَوْزِيّ الْوَاعِظ أَنه قَالَ مَا أَكثر مَا يسْأَلُون النَّاس عَن مُعَاوِيَة وَيزِيد ويكلفونني شرح أَحْوَالهم مَا يكتفون مني فِي هَذِه الْأَيَّام أنني أرجم لَهُم أَبَا بكر وَعمر وَأَنا مخاطر وَكَانَ النَّاس فِي يَوْم عَاشُورَاء يهجرون الْأَسْوَاق ويعلنون بالنوح على أهل الْبَيْت عَلَيْهِم السَّلَام والإنشاد لَا سِيمَا فِي نَاحيَة المختارة ومحلة الكرخ وَهَذَا غلط من ابْن المارستانية وَكَانَت واقعته فِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ سنذكرها إِن شَاءَ الله تَعَالَى

وفيهَا بذل مَسْعُود بن جَابر الَّذِي كَانَ خَازِن المخزن وحاجبا بَين يَدي ابْن الْعَطَّار عشرَة آلَاف دِينَار ليَكُون صَاحب المخزن الْمَعْمُور وَكَانَ أستاذ الدَّار قد تغير عَليّ ابْن شبيب صَاحب المخزن فَتقدم بِالْقَبْضِ على ابْن شبيب وَالتَّوْكِيل بِهِ فِي دَاره وترتيب مَسْعُود بن جَابر صَاحب المخزن ولقب فَخر الدّين وَتقدم إِلَيْهِ أَن يسكن فِي دَار ابْن الْعَطَّار الَّتِي هِيَ مُقَابلَة لباب الْحرم الشريف وخلع عَلَيْهِ فِي دَار أستاذ الدَّار والمشرف عَلَيْهِ ابْن رزين وَكَانَ يَوْمئِذٍ وَكيل الْخدمَة الشَّرِيفَة يشْهد عَلَيْهِ فِي بيع الْأَمْلَاك وشرائها ويستأذن فِي تَزْوِيج المماليك الْخَواص وَيشْهد عَلَيْهِ فِي الْعتْق كل ذَلِك عَن الْخدمَة الشَّرِيفَة النَّبَوِيَّة الإمامية الناصرة لدين الله تَعَالَى وفيهَا مَاتَ الْأَمِير أَبُو مَنْصُور أَخُو النَّاصِر لدين الله وغسله الْعدْل بن الْحَرَّانِي وَأخذ سلبه يحيى الْفراش فَكَانَ من جملَة مَا أَخذ مِنْهُ أثاث وقماش وَفِضة يُسَاوِي عشرَة ألف دِينَار وَكَانَ من جملَة ذَلِك مُسْند زركش وطراحة زركش بِأَلف دِينَار وَجَمِيع مَا اسْتعْمل فِي غسله من طاسة فضَّة وطست فضَّة وَغير ذَلِك وَكَانَ يَوْم مَوته يَوْمًا مشهودا عَظِيما وَلم يتَأَخَّر أحد من أَرْبَاب الدولة وَغَيرهم من كبار أهل بَغْدَاد إِلَّا وَحضر إِلَى الدَّار العزيزة وَكَانَت أَيْضا مَاتَت العباسة إِحْدَى جِهَات المستضئ بامر الله وخلفت أَمْوَالًا كَثِيرَة وَبيع مَا كَانَ لَهَا من جهاز وأثاث بديوان الْأَبْنِيَة وَأخرج لَهَا ثوب كَبِير الأكمام بلؤلؤ كبار وقبقاب أَيْضا عَلَيْهِ لُؤْلُؤ ومداس لُؤْلُؤ وَكَانَ المتولى لهَذِهِ الْأَمْوَال أستاذ الدَّار ابْن الصاحب لم يُشَارِكهُ أحد فِي ذَلِك سوى يحيى الْفراش فَيَأْخُذ ابْن الصاحب مَا يُرِيد وَيُعْطِي ليحيى مَا يُرِيد والخليفة مَشْغُول بمتنزهاته وصيده وَكَانَ ابْن يُونُس أَبُو المظفر هبة الله نَائِب أستاذ الدَّار ابْن الصاحب فِي ديوَان الْأَبْنِيَة وَجَمِيع هَذِه الْحَال يعلمهَا

وَهُوَ يَكْتُبهَا عِنْده ويعده لوقت الْحَاجة ويجعله طَرِيقا إِلَى قتل أستاذ الدَّار وأستاذ الدَّار لَا يعلم بذلك وفيهَا تقدم أستاذ الدَّار ابْن الصاحب إِلَى قَاضِي الْقُضَاة ابْن الدَّامغَانِي أَن يُطَالب عماد الدّين بن رَئِيس الرؤساء بِمَال إخْوَته الْأَيْتَام فطالبه وأحضره وحبسه ثمَّ سَأَلَ الْعِمَاد أَن ينظر مُدَّة شَهْرَيْن إِلَى أَن يحصل المَال وَكَانَ أستاذ الدَّار العزيزة يُرِيد هَلَاكه فنفذ إِلَيْهِ ابْن البُخَارِيّ نَائِب الوزارة ابْن التعاويذي الشَّاعِر وَكَانَ يَوْمئِذٍ يَنُوب عَن ابْن البُخَارِيّ فِي إقطاعه وَهُوَ صَاحبه قبل الْولَايَة وَكَانَ ابْن التعاويذي غُلَام بَيت رَئِيس الرؤساء وشاعرهم وبهم عرف وَقَالَ لَهُ قل لعماد الدّين يَقُول لَك ابْن البُخَارِيّ خُذ لنَفسك وَأبْصر لأمرك فَأَنت هَالك فَإِن أستاذ الدَّار مَا قَصده إِلَّا نَفسك وَقد جعل المطالعة بِمَال الْأَيْتَام طَرِيقا إِلَى إِتْلَاف نَفسك وَقد نَصَحْتُك فَاعْتقد عماد الدّين بن رَئِيس الرؤساء أَن ابْن البُخَارِيّ قد نصحه بذلك وَلم يكن ذَلِك نصحا بل نفذ أستاذ الدَّار إِلَى ابْن البُخَارِيّ وَقَالَ لَهُ راسل عماد الدّين بِكَذَا وَكَذَا بِحَيْثُ يهرب إِلَى جِهَة من الْجِهَات وَيعرف الْخَلِيفَة أَنهم مَا يقدرُونَ يرَوْنَ زَمَانا هُوَ فِيهِ خَليفَة وَأَنه مَتى هرب وَاحِد مِنْهُم انقلع الْبَيْت جَمِيعه وَأَن ابْن رَئِيس الرؤساء أَخذ هَذَا الْكَلَام بِظَاهِرِهِ وَرَآهُ نصحا فَخرج على وَجهه هَارِبا وَعَلِيهِ صدرة خام وَتَحْته أتان وَفِي رجلَيْهِ نَعْلَانِ من صوف وَمَعَهُ رجل صوفي يَخْدمه وَلم يعلم بِهِ أحد حَتَّى صَار فِي بِلَاد الشَّام واعتصم بِالْملكِ النَّاصِر صَلَاح الدّين

وفيهَا هرب جمال الدّين خشترين من الْموصل وَجَاء إِلَى بَغْدَاد وَمَعَهُ حُدُود ثَلَاثمِائَة فَارس ببرك جميل وتجمل زَائِد فَوقف عِنْد الكشك الْجَدِيد عِنْد ظَاهر السُّور وَنفذ صاحبا لَهُ يطْلب رجلا متفقها من أهل حماة كَانَ يلوذ فِي تِلْكَ الْأَيَّام باستاذ الدَّار ابْن الصاحب فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ عرفه أَن جمال الدّين خشترين قد هرب من أهل الْموصل وَقد التجأ بالعتبة الشَّرِيفَة النَّبَوِيَّة وَهُوَ يطلبك فَقَالَ الْحَمَوِيّ مَا أقدر أمضى مَعَك إِلَّا بِإِذن من أستاذ الدَّار فَقَالَ لَهُ افْعَل وَمضى وعرفه وُصُول الْمَذْكُور واستأذنه فِي الْخُرُوج إِلَيْهِ فَخرج إِلَيْهِ فَلَمَّا رأى الْمَذْكُور ترجل لَهُ وترجل لَهُ خشترين وَسلم عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ كَيفَ كَانَ الْمُوجب فَقَالَ إِنَّنِي كنت فِي السّنة الخالية يَعْنِي سنة ثَمَان وَسبعين قد وصلت إِلَى بَغْدَاد فِي خدمَة أتابك صَاحب الْموصل لما تَوَجَّهت إِلَى الْحَج وَمَعِي جمَاعَة من الْأُمَرَاء وَكنت كثير الِاجْتِمَاع بك وَكتب الْأُمَرَاء الَّذين كَانُوا معي إِلَى الْموصل يَقُولُونَ لمجاهد الدّين الْخَادِم الَّذِي فِي الْموصل أَن ختشترين قد قرر أمره فِي بَغْدَاد وَأَن الْوَاسِطَة بَينه وَبَين أستاذ الدَّار رجل من أهل حماة فأرادوا الْقَبْض عَليّ وَأخذ مَالِي فهربت مِنْهُ وَقد أتيت إِلَى هَاهُنَا على عزم الْخدمَة بالديوان الْعَزِيز فَمضى الْحَمَوِيّ إِلَى أستاذ الدَّار وعرفه بِهَذِهِ الْحَال فَتقدم أستاذ الدَّار إِلَى الْحَمَوِيّ بِأَن يمْضِي إِلَى خشترين وَيَقُول لَهُ قد رسم أَن تضرب خيمك ظَاهر سور بَغْدَاد على شاطئ دجلة حَتَّى يعين لَك مَوضِع ونستأذن الْخَلِيفَة فِي معناك فَأنْزل عِنْد جَامع السُّلْطَان ظَاهر السُّور وَتقدم لحمل إِقَامَة كَبِيرَة إِلَيْهِ فَحملت على يَد الْحَمَوِيّ فَلَمَّا مضى ثَلَاثَة أَيَّام سَأَلَ خشترين أَن يدْخل الْبَلَد وَأَن يقبل الأَرْض بِبَاب النوبى وَأَن يدْخل إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز فَأخْرج إِلَيْهِ الْحَاجِب على صَاحب

شمس الدّين الركاب سلار صَاحب الْخَلِيفَة وَالْمُتوَلِّيّ لديوان الْبَرِيد وَحَدِيث من يصل من الجوانب فَقَالَ لَهُ الصاحب مجد الدّين أستاذ يسلم عَلَيْك وَيَقُول قد أذن لَك أَن تحضر إِلَى الدِّيوَان فِي غَدَاة غَد وَأما تَقْبِيل العتبة الشَّرِيفَة فمالك بذلك حَاجَة لِأَن الرُّسُل يقبلُونَ الْبَاب الشريف نِيَابَة عَن مرسلهم وَأَنت عَمَّن تقبل هَذِه العتبة قد أعفيناك عَن هَذَا ثمَّ مضى من عِنْده وَأصْبح فِي ذَلِك الْيَوْم الَّذِي تقدم إِلَيْهِ فِيهِ أَن يحضر وَلبس قبَاء أَحْمَر بباولي نَسِيج من ثِيَاب أتابك صَاحب الْموصل وَركب مَعَه جماعته بالأعلام المنشورة والبيارق وَمَعَهُ خادمان وَدخل فِي جمَاعَة وَمَعَهُ الْحَمَوِيّ إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز وَفِيه النَّائِب ابْن البُخَارِيّ فَلَمَّا وصل إِلَى الدِّيوَان وَدخل تقدم إِلَيْهِ أَن اجْلِسْ على طرف الإيوان الَّذِي فِيهِ مُسْند الوزارة سَاعَة ثمَّ أذن لَهُ بِالدُّخُولِ إِلَى نَائِب الوزارة فَقَامَ وَدخل إِلَى السّتْر الأول فَمنع جَمِيع من كَانَ مَعَه وَدخل هُوَ والحموي فَحسب وَكَانَ النَّائِب جَالِسا فِي الدِّيوَان فِي حجرَة الصَّلَاة الَّتِي على بَاب بَيت الْجَيْش وَعِنْده صَاحب الْحجاب شمس الدّين بن جَعْفَر فَجَذَبَهُ جمال الدّين بِيَدِهِ إِلَى الأَرْض ثَلَاث مَرَّات فَلَمَّا قَارب أَن يصعدوا للصفة قَالَ لَهُ النَّائِب مرْحَبًا بِجَمَال الدّين وتحرك إِلَيْهِ فتحول وَجلسَ جمال الدّين خشترين فَقَالَ لَهُ النَّائِب كَيفَ كنت فِي هَذِه الْحَرَكَة فَقَامَ وخدم فَقَالَ لَهُ طب نفسا ثمَّ أخلا لَهُ الْمجْلس وَلم يبْق مَعَه سواهُ فَحسب وَخرج الْحَمَوِيّ مَعَ الْجَمَاعَة ثمَّ قَالَ لَهُ مَا يُرِيد الْأَمِير فَذكر لَهُ حَاله مَعَ أهل الْموصل وَأَنَّهُمْ أَرَادوا قَبضه وَلم يكن السَّبَب إِلَّا محبتي للديوان الْعَزِيز مجده الله تَعَالَى فَقَالَ لَهُ النَّائِب هَذَا قد عَرفْنَاهُ نُرِيد أَن تعرفنا كم كَانَ لَك عِنْد صَلَاح الدّين وَلم فارقته وَكَيف تُرِيدُ تكون عندنَا بِحَيْثُ نطالع

الْخَلِيفَة خلد الله ملكه وَمهما تقدم بِهِ عمل فَقَالَ لَهُ خشترين لما كنت مَعَ صَلَاح الدّين كَانَ لي عِنْده إقطاع بِمِائَة ألف دِينَار وَعشْرين ألف دِينَار صورية فَقَالَ لَهُ ابْن البُخَارِيّ أيتم أَو يَصح فَقَالَ لَهُ يَصح أَكثر من هَذَا الِاعْتِدَاد فَقَالَ لَهُ يَا أَمِير لأي سَبَب فَارَقت هَذَا الْحَال هَذَا مبلغ كَبِير فَقَالَ غضِبت وَسَببه أنني طلبت مِنْهُ موضعا مَا أَعْطَانِي فَحَلَفت أنني لَا أخدم مَعَه وَأَنا مَا أُرِيد من الْخَلِيفَة هَذَا بل ينعم ويتقدم إِلَيّ أَن أمنع خفاجة من هَذِه الديار وآخذ مَا تأخذونه وأحمل إِلَى الدِّيوَان مِنْهُ وَالْبَاقِي آخذه أَنا وجماعتي وَمَا أُرِيد أَن أَقُول كنت وَلَا كَانَ لي وَالْإِنْسَان ابْن سَاعَته وَأَنا السَّاعَة قد جِئْت فَقَالَ لَهُ النَّائِب هَذَا الْقدر كَبِير هَا هُنَا مماليك الْخَلِيفَة أَرْزَاقهم مقررة بِقدر حَاجتهم حَتَّى إننا نعطيهم من المخزن الْخبز وَاللَّحم وَثيَاب الصَّيف والشتاء بِقدر مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من النَّفَقَة وَهَذَا الْقدر مَا يُمكن أَن يعْطى لأحد عندنَا وَلَو أَن جمال الدّين قد ربى عندنَا مَا كُنَّا نجد بِحقِّهِ لصلاح الدّين أَكثر من أَن يحملهُ إِلَيْهِ يُجَاهد الْكفَّار وَمَعَ هَذَا طيب نَفسك نذْكر هَذَا كُله للخليفة وَمهما تقدم بِهِ عرفتك على لِسَان الْحَمَوِيّ قُم الله مَعَك فَقَامَ وَلم يَتَحَرَّك لَهُ فَلَمَّا خرج قَالَ للحموي أما رَأَيْت إِلَى هَذِه الْأَفْعَال نجئ إِلَى صَاحب عِمَامَة لَا يَقُول لنا فَقَالَ هَذَا نَائِب الْخلَافَة لَا يقدر يقوم لأحد إِلَّا بِإِذن فَلَا تغْضب من هَذَا وَلَا تَتَحَدَّث بِهِ ثمَّ خرج من الدِّيوَان وأتى إِلَى دَار أستاذ الدَّار فَجَلَسَ على بَابه سَاعَة ثمَّ خرج الْحَاجِب أَبُو الرِّضَا فاستدعاه فَدخل هُوَ والحموي فَقَامَ أستاذ الدَّار قَائِما واعتنقه وَقَالَ لَهُ كَيفَ بت وقلبي إِلَيْك وَإِلَى تعبك فَقَالَ لَهُ يَا مَوْلَانَا قد ضَاقَ صَدْرِي من النَّائِب وَقد قَالَ لي مَا يتحف صَلَاح الدّين بِأَكْثَرَ مِنْك فَقَالَ لَهُ لَا تقف عِنْد هَذَا لَو أَنَّك عِنْد صَلَاح الدّين

نفذنا أخذناك مِنْهُ أَنْت قد جِئْت إِلَى بلدك ودارك فَلَا تقف مَعَ هَذَا القَوْل ثمَّ أمره بِالرُّجُوعِ إِلَى مخيمه وَقَالَ أَنا أكفيك المؤونة فِي هَذَا كُله فَخرج وَهُوَ فرحان طيب الْقلب من قَول أستاذ الدَّار واغتر بقوله وَكَلَامه كَمَا قَالَ الحريري هَذَا كَلَام كالصهباء وَفعل كالحصباء وأتى خشترين إِلَى مخيمه وَهُوَ كَبِير الْفَرح وَالسُّرُور بقول أستاذ الدَّار فَلم يزل فِي مخيمه أَيَّامًا وَلَا يرى لذَلِك القَوْل فَائِدَة وَلَا ثَمَرَة وَلم يُخَاطب لَهُ بِقَلِيل وَكثير وَلما كَانَ بعد أَيَّام نفذ أستاذ الدَّار إِلَى الْحَمَوِيّ أحضرهُ بَين يَدَيْهِ وأحضر الْحَاجِب عليا صَاحب الركاب سلار صَاحب ديوَان الْبَرِيد وَقَالَ لَهُ تمْضِي أَنْت وَهَذَا وَتَقُولَانِ لهَذَا الْكرْدِي أَنْت تعرف إشفاقي عَلَيْك وأنني أُرِيد مصلحتك وأنني قد رَأَيْت لَك من الْمصلحَة أَن نكتب مَعَك مَكْتُوبًا عَن الْخَلِيفَة يكون مضمونه أَنا سألناه أَن يخْدم الدِّيوَان الْعَزِيز فَلم يفعل وَطلب الْعود إِلَيْك والشفاعة فِي حَقه وَقد تقدم الْخَلِيفَة بِأَن تشرف وينعم عَلَيْك فَمضى الْحَمَوِيّ والحاجب عَليّ إِلَى عِنْد خشترين وعرفاه بقول أستاذ الدَّار فَضَاقَ صَدره لذَلِك وَقَالَ مبارك فَلَمَّا مضى الْحَاجِب عَليّ قَالَ خشترين للحموي مَا أُرِيد مِنْهُم كتابا وَلَا شَفَاعَة إِلَى صَلَاح الدّين إِن أحب مَا إِلَيْهِ أَن أَعُود إِلَى خدمته وَلَكِن أُرِيد أَن تمْضِي إِلَى أستاذ الدَّار وَتقول لَهُ ينعم عَليّ وَيسْأل الْخَلِيفَة أَن يقبل هديتي حَتَّى أقدم لَهُ قَمِيص زرد وثيابا وخيلا وخادمين وَذكر أَشْيَاء فَمضى وَعرف أستاذ الدَّار ذَلِك فَكتب بذلك إِلَى الْخَلِيفَة فَكتب إِلَى أستاذ الدَّار يَقُول لَهُ هَذَا رجل غَرِيب وضيف مَا يجوز أَن تثقل عَلَيْهِ فَلَا تقبل مِنْهُ شَيْئا فَمضى الْحَمَوِيّ وَعرف خشترين ذَلِك فَقَالَ مبارك أَنا أبذل خَمْسَة ألف دِينَار وَأَن ينعم عَليّ بخلعة سَوْدَاء وعمامة سَوْدَاء وَأَن ينعم عَليّ

بكوسات فَمضى الْحَمَوِيّ وَذكر ذَلِك لأستاذ الدَّار فَضَحِك وَقَالَ تَقول لَهُ إِن الَّذِي تُرِيدُ أَن تمْضِي إِلَيْهِ ويشفع إِلَيْهِ فِي حَقك إِذا رأى أَن قد أعطيناك مثل مَا أعطيناه مَا يطيب لَهُ ذَلِك ثمَّ قَالَ للحموي أنكر عَلَيْهِ هَذِه الْحَالة وعرفه الْوَاجِب فَمضى الْحَمَوِيّ وعرفه الْحَال فَجعل يوبخ نَفسه ويلومها كَيفَ أَتَى إِلَى بَغْدَاد وَقَالَ مَا أقدر أرجع إِلَى الْموصل وَهَذِه طَرِيق لَا أعرفهَا فَقَالَ الْحَمَوِيّ تطلب من أستاذ الدَّار أَن ينفذ مَعَك جمَاعَة من خفاجة يعرفونك الطريف ويمضون مَعَك إِلَى الْبِلَاد الشامية فَقَالَ لَهُ حبا وكرامة فَمضى الْحَمَوِيّ إِلَى أستاذ الدَّار وعرفه الْحَال ثمَّ نفذ بعد أَيَّام إِلَيْهِ بالحاجب على صَاحب شمس الدّين الركاب سلار وَمَعَهُ حَاجِب من حجاب الدِّيوَان الْعَزِيز يعرف بتاج الدولة بن أبي حَرْب ومعهما كتاب مختوم لَا يعلم مَا فِيهِ سوى أَنَّهُمَا قَالَا إِنَّه شَفَاعَة من الدِّيوَان الْعَزِيز إِلَى صَلَاح الدّين فِي حَقك فَقُمْ وَقبل الأَرْض فَقَامَ وَقبل الأَرْض ثمَّ قَالَ لَهُ الْحَاجِب خُذ هَذَا الْكتاب وَقَبله واتركه على رَأسك فَفعل ثمَّ أخرج لَهُ من خرقَة قبَاء أطلس أَحْمَر وقلنسوة زركش فَقَامَ ولبسهما ثمَّ أَعْطوهُ نَفَقَة مبلغها مائَة دِينَار وَخمْس خلع لأَصْحَابه وَقيل لَهُ هَذَا برسم نَفَقَة الطَّرِيق وَقد تقدمنا إِلَى ثَلَاثَة أُمَرَاء من خفاجة يمضون فِي خدمتك إِلَى مَوضِع تخْتَار وتكتب مَعَهم تعرفنا إِلَى أَيْن وصلوا مَعَك ثمَّ أَمر لَهُ بسفن عبر بهَا إِلَى الْجَانِب الغربي فَأَقَامَ أَيَّامًا ثمَّ جَاءَت الْأُمَرَاء من خفاجة ورحل من بَغْدَاد على طَرِيق الْبَريَّة وَكَانَ حَيْثُ وصل إِلَى بَغْدَاد مَعَه طير يُسمى الزاع وَهُوَ الْغُرَاب الصَّغِير وَكَانَ خشترين إِذا مد الطَّبَق ينزل هَذَا الطير من رَأس الْخَيْمَة وَكَانَ قد رباه خشترين وألفه فَكَانَ مَعَهم يطير على رُؤُوس الأجناد وَإِذا تَعب نزل على بعض الْجمال

فَلَمَّا توجه إِلَى الشَّام وَمَعَهُ أُمَرَاء خفاجة أوصلوه قَرِيبا من حمص وفارقوه بعد مَا خلع عَلَيْهِم وَأكْرمهمْ وسألوه أَن يعطيهم الْغُرَاب فَأَعْطَاهُمْ إِيَّاه فجعلوه فِي قفص فَلَمَّا رجعُوا إِلَى جِهَة الْعرَاق طَار الطَّائِر من القفص وَمضى فَلَمَّا وصل خشترين إِلَى ثية الْعقَاب مَا أحس إِلَّا والطائر قد سقط عَلَيْهِ وَنزل على بعض جمال الرجل فتعجب من ذَلِك وَكتب بِهَذِهِ الْحَال إِلَى الْحَمَوِيّ فَأَعْرض كِتَابه على أستاذ الدَّار فتعجب من ذَلِك وفيهَا مَاتَ فَخر الدولة بن الْمطلب وَكَانَ رجلا صَالح أوحد زَمَانه وَكَانَ مَعَ ذَلِك زاهدا كثير الْعِبَادَة وَكَانَ يعْتَكف نصف السّنة لَا يخرج إِلَى أحد وَلَا يجْتَمع بِأحد وَكَانَ كثير المَال والأملاك والضياع وَعمر مدرسته الْمَعْرُوفَة بدار الذَّهَب وَسلمهَا إِلَى جمال الدّين بن فضلان الشَّافِعِي وأوقف عَلَيْهَا وَقفا حرا مَا يكون محصوله فِي كل سنة ألفا وَخَمْسمِائة دِينَار إمامية وَعمر رِبَاطًا للصوفية مجاورا لمدرسته وأوقف عَلَيْهِ جملَة كَثِيرَة وَعمر جَامعا كَبِيرا فِي الْجَانِب الغربي من مَدِينَة السَّلَام وَغرم عَلَيْهِ حدودا من ثَلَاثِينَ ألف دِينَار وأوقف عَلَيْهِ وقوفا كَبِيرَة وَجعل الْولَايَة وَالْوَصِيَّة إِلَى جلال الدّين بن البُخَارِيّ نَائِب الوزارة وأوقف عدَّة نواحي وبساتين على ابْنَته وَلم يكن لَهُ ولد سواهَا وَشرط عَلَيْهَا إِن تزوجت لَا تسْتَحقّ شَيْئا من هَذَا الْوَقْف وأكد الْوَصِيَّة إِلَى نَائِب الوزارة بذلك وَحمل إِلَى جَامع الْقصر وَتقدم الْخَلِيفَة بفتحه لَهُ لِأَن جَامع الْقصر لَا يفتح لمَيت إِلَّا بِإِذن شرِيف وَحضر جَمِيع أَرْبَاب الدولة ونائب الوزارة وأستاذ الدَّار إِلَى الْمَقْصُورَة الشَّرِيفَة الَّتِي يُصَلِّي فِيهَا الْوَزير وَكَانَ أستاذ الدَّار وَاقِفًا فوقا

من النَّائِب وَهَذِه الْحَال لم تكن لأحد مِمَّن تقدم من أستاذية الدَّار أَن يترفع على نَائِب وزارة إِلَّا هَذَا لكَون الْمَذْكُور كَانَ غُلَامه واختياره ونائبه وَصلى عَلَيْهِ الشَّيْخ أَبُو طَالب الْمُبَارك صَاحب ابْن الْخلّ وَحمل إِلَى الْجَانِب الغربي من بَغْدَاد وَدفن فِي جَامعه على الطَّرِيق من وَرَاء شباك الْجَامِع الْمَذْكُور وَكَانَ النَّاس بِبَغْدَاد يتأسفون عَلَيْهِ شاكرين لطريقته وَحسن سيرته وإعراضه عَن الدُّنْيَا بعد أَن أَقبلت عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كلف أَن يكون وزيرا مرَارًا وَكَانَ رَحمَه الله حسن الِاعْتِقَاد كَبِير الإمدادات لأرباب البيوتات وَكَانَ كَبِير والخشونة فِي الْخطاب لأرباب الدولة حَتَّى إِنَّه حكى عَنهُ أَنه كَانَ عِنْده يَوْمًا وَقد دخل إِلَيْهِ نقيب النُّقَبَاء على الهاشميين يُقَال لَهُ ابْن الروال وَكَانَ يلقب بأمين الدّين فعثر فِي ثَوْبه فَقَالَ لَهُ فَخر الدولة أَرض دَاري تأبى أَن تدوسها أَو تجئ إِلَيْهَا وَأَنت مَا تَنْقَطِع وَكَانَ يعرف ذَلِك مِنْهُ ويحتمله وَذكر أَيْضا أَنه كَانَ عِنْده وَقد حضر زعيم الدّين بن النَّاقِد وَهُوَ حِينَئِذٍ نَاظر الْخَاص وَكَانَ قبل ذَلِك حَاجِب الْبَاب فَسلم عَلَيْهِ وَأخذ يشكو من الْوَقْت وضيقته فَقَالَ لَهُ وَالله لَو أَن الخيوط الَّتِي فِي رَأسك تعْمل سلسلة فِي الجسر لبقى ألفي سنة من شدَّة حماقتك وَإِلَّا لَو بِعْت هَذَا المقيار الذَّهَب وَالثيَاب الَّذِي عَلَيْك والمماليك وَالْخَيْل ولبست جُبَّة صوف وقنعت وأزلت هَذَا الْحمق عَنْك مَا كنت تحْتَاج إِلَى هَذِه الشكوى وَلَكِن دُخان المشاعل ورائحة الشمع إِذا تعلق بِأم الدِّمَاغ لَا يُزِيلهُ إِلَّا مَا تعلم وَكَانَ هَذَا بِمحضر من جمَاعَة وَكَانَ ابْن النَّاقِد هَذَا زعيم الدّين ذَا منزلَة عَظِيمَة وَصَارَ صَاحب مخزن

وَولده هُوَ الْمَوْجُود شرف الدّين وَهُوَ صَاحب المخزن يَوْمئِذٍ وَمَا كَانَ يقدر أحد من أَرْبَاب الدولة وَلَا غَيرهم يَقُول لَهُ هَذَا القَوْل من شدَّة تكبره على أهل بَغْدَاد وَكَانَ يَقُول فِي فَخر الدولة أَضْعَاف هَذَا وَلَا يثقل عَلَيْهِ وَكَانَ فَخر الدولة مَقْبُول القَوْل ذَا حُرْمَة عَظِيمَة وَكَانَ الْخَلِيفَة أدام الله ظله يقعده بَين يَدَيْهِ ويحدثه وَلَا يجلس عِنْده أحد وَكَانَ يكْتب على رَأس رقعته إِلَيْهِ الْخَادِم الدَّاعِي وَيكْتب على رَأس رقْعَة أستاذ الدَّار وَالِده وَكَانَ لَا يمْضِي إِلَى أحد جملَة إِلَّا إِلَى الْخَلِيفَة فَحسب وَمَا كَانَ يتَخَلَّف عَن خدمته أحد من أَرْبَاب الدولة وَكَذَلِكَ جَمِيع أَرْبَاب الْعلم وَالْأَدب والتصوف وَسَائِر طَبَقَات النَّاس وفيهَا تقدم الْخَلِيفَة بإحضار شيخ الشُّيُوخ بَين يَدَيْهِ إِلَى التَّاج الشريف فَلَمَّا حضر قَالَ لَهُ اقعد فخدم وَلم يفعل فَقَالَ لَهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ يَا شيخ لَو قلت لَك وَأَنت قَاعد قُم كَانَ يجوز لَك أَن لَا تفعل فخدم وَجلسَ بَين يَدَيْهِ فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَن يمْضِي رَسُولا إِلَى صَلَاح الدّين وَكَانَت هَذِه الْحَال من جَانب أستاذ الدَّار ليتشفع إِلَيْهِ فِي حق صَاحب الْموصل والكف عَنْهُم لِأَن أستاذ الدَّار كَانَ كَبِير الْميل إِلَى صَاحب الْموصل فَقَالَ شيخ الشُّيُوخ السّمع الطَّاعَة فَلَمَّا انْفَصل من عِنْده خدم وَخرج فنفذ إِلَيْهِ كل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من خيم وخيل وبرك وبغال وفراشين وغلمان ومحفة وَأطلق لَهُ ذَهَبا كثيرا للنَّفَقَة فَكتب يستعفى من ذَلِك فَتقدم إِلَيْهِ بالتوجه وَتقدم أَيْضا إِلَى بشير الْخَادِم أَن يمْضِي فِي خدمته فَتوجه وَمَعَهُ جمَاعَة من أَصْحَابه الصُّوفِيَّة وَولده عز الدّين وَكَانَ حَاجِبه زين الدّين الْقزْوِينِي واستخلف بالرباط وَلَده الأسن نَاصِر الدّين وَكَانَ أحسن النَّاس صُورَة وَمضى على ذَلِك مُدَّة يسيرَة ثمَّ رَجَعَ فَأمر الْخَلِيفَة بِإِخْرَاج الموكب إِلَى خدمته

وتلقيه وَأَن يخرج إِلَيْهِ قَاضِي الْقُضَاة ويلقاه أَيْن كَانَ وَلَا يُرَاعِي مَعَه قَاعِدَة فالمقصود إكرامه فنفذ نَائِب الوزارة إِلَى قَاضِي الْقُضَاة وعرفه ذَلِك وَأَن يركب مَعَه صندل الْخَادِم وجمال الدولة إقبال وَجَمِيع الْحجاب وَخرج مَعَ قَاضِي الْقُضَاة جمَاعَة من الْعُدُول عَلَيْهِم اللبَاس الْأسود وَسَار الموكب الشريف وَمَعَهُمْ المماليك الْخَاص وَجَمَاعَة الْأُمَرَاء الْكِبَار وَعبر الْعَسْكَر أَيْضا مَعَهم إِلَى الْجَانِب الغربي إِلَى قَرْيَة الشّحْنَة فَلَمَّا وصلوا إِلَى رَأس السويقة وقف قَاضِي الْقُضَاة فَقَالَ لَهُ عماد الدّين صندل مَا هَذَا الْوُقُوف هَا هُنَا نَحن قد رسم لنا أَن نمضي إِلَى خدمَة الرجل أَيْن كَانَ فَقَالَ أَنا مَا أتجاوز هَذَا الْموضع خطْوَة وَهَاهُنَا الْعَادة لتلقى الرُّسُل وموكب الْخَلِيفَة دَامَ ظله لَا يجوز أَن يتَجَاوَز أَكثر من هَذَا الْموضع فَقَالَ لَهُ يَا سيدنَا أَنْت تَقول هَذَا والخليفة هُوَ صَاحب الْأَمر قد تقدم إِلَى نَائِب الوزارة بِهَذَا فَقَالَ أَنا مَا أتجاوز هَذَا فَبَيْنَمَا هما فِي المحاورة والتجاذب وَإِذا بشيخ الشُّيُوخ قد أقبل فتحدر إِلَيْهِ من الْمَكَان الَّذِي كَانُوا فِيهِ لأَنهم كَانُوا على نشز من الأَرْض فسلضم على شيخ الشُّيُوخ الأول فَالْأول إِلَى أَن جَاءَ جمال الدولة إقبال فَسلم عَلَيْهِ وتعانقا على الْخَيل ثمَّ تَأَخّر عَنهُ وَجَاء صندل فَفعل كَذَلِك وَجَاء قَاضِي الْقُضَاة فَسلم أَيْضا واعتنقه وَعَاد رَاجعا إِلَى بَغْدَاد فَقَالَ لَهُ صندل إِلَى أَيْن فَقَالَ نمضي رسم لنا أَن نتلقاه وَقد لَا قيناه وَسلمنَا عَلَيْهِ فَقَالَ إيش هَذَا الْفِعْل أَنْت تعرضنا للهلاك هَذَا هُوَ الْعَادة فِي تلقي الرُّسُل وَكَذَا عَادَة الموكب الشريف تُرِيدُ تتْرك وَتقول كَلِمَات مَا جرت بِمِثْلِهَا الْعَادة وَتَكون أَنْت وَاقِفًا وَالرجل على الأَرْض فَقَالَ لَهُ قَاضِي الْقُضَاة أَنا مَا يجْرِي مجراي أحد وَلَا يجوز لي أَن أَقُول إِلَّا مَا يُقَال لي وَإِنَّمَا

مَا قيل لي شَيْء إِنَّمَا قيل لي تلق شيخ الشُّيُوخ وَقد لَقيته فَقَالَ الْجَمَاعَة لَا تفعل تهْلك هَذَا مَا يرضى بِهِ الْخَلِيفَة وَكثر القَوْل فِي ذَلِك وَالنَّاس على طبقاتهم قيام فَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة مبارك أنزل إِلَيْهِ وَأَقُول لَهُ كَمَا جرت الْعَادة أَن يُقَال فَقل لَهُ ينزل قبلي حَتَّى أنزل إِلَيْهِ فَمضى ابْن السلماسي الْحَاجِب وَجَمَاعَة من الْحجاب الْكِبَار فَقَالَ لشيخ الشُّيُوخ قد اسْتَقر أَن تنزل حَتَّى ينزل قَاضِي الْقُضَاة فَقَالَ لَهُ أَنا مَا أنزل وَمَا تقدم بِإِخْرَاج الموكب الشريف إِلَّا لاجلي وإكراما لي مَا كنت أَنا أُرِيد هَذَا وَمَا ينزل إِلَّا هُوَ فجَاء ابْن الْمُعْتَمد الْحَاجِب وَقَالَ لقَاضِي الْقُضَاة مَا ذكره شيخ الشُّيُوخ وَقَالَ أَنا مَا أنزل وَكثر الحَدِيث فَمضى إِلَى شيخ الشُّيُوخ وَقَالَ قد افتضحنا وَالنَّاس يَضْحَكُونَ علينا وأنتما صَدرا هَذِه الْأمة من جَانب الشَّرْع وَالدّين كَيفَ يسمع هَذَا عنكما وَبَالغ فِي القَوْل وَقرر أَن ينزلا مَعًا من غير أَن يتَقَدَّم أَحدهمَا على الآخر وَمضى ابْن السلماسي الْحَاجِب إِلَى عِنْد شيخ الشُّيُوخ يعضده وينزله وَمضى ابْن الْمُعْتَمد إِلَى قَاضِي الْقُضَاة يعضده وَالنَّاس ينظرُونَ إِلَيْهِمَا والخدم أَيْضا والمماليك والأمراء مَعًا فَلَمَّا نزل شيخ الشُّيُوخ وَسَار على الأَرْض رَجَعَ قَاضِي الْقُضَاة وَترك رَحْله فِي الركاب واستوى رَاكِبًا فَرَآهُ شيخ الشُّيُوخ فَقَالَ هَذِه كَانَت حِيلَة مبارك حسن أَنا أمضي إِلَى بَين يَدي مركوبه وَجَاء مسرعا إِلَى بَين يَدي بغلة قَاضِي الْقُضَاة ووقف هُوَ وَشَيخ الشُّيُوخ وَالنَّاس ينظرُونَ مَا يَقُول قَاضِي الْقُضَاة فَقَالَ أَمر بِإِخْرَاج الموكب الشريف لتلقيك يَا شيخ الشُّيُوخ إِكْرَاما لَك فتقابل مَا شملك من الإنعام بتقبيل الرغام وَالله الْمُوفق للإتمام وَلم يذكر سوى هَذَا وَركب وَالنَّاس بأسرهم ركبُوا تبعا لَهما وَجَاء الموكب إِلَى بَاب الْحُجْرَة الشَّرِيفَة وَاسْتَأْذَنَ الْخَلِيفَة فَخرج إِلَيْهِ مُجَاهِد الدّين خَالص فَأذن لَهُ وَكَانَ أستاذ الدَّار هُنَاكَ فَدخل وَجلسَ على كرْسِي بَين يَدي

الْخَلِيفَة وَشرح لَهُ جَمِيع مَا جرى فِي رسَالَته وَأطَال وَالنَّاس يترقبون خُرُوجه ويرجفون على قَاضِي الْقُضَاة ابْن الدَّامغَانِي بِالْعَزْلِ لكَونه عرض الموكب الشريف إِلَى ضحك الْعَوام وَكَيف أَنه آذَى قلب شيخ الشُّيُوخ مَعَ مكانته من الْخَلِيفَة فَخرج شيخ الشُّيُوخ وَمضى إِلَى رباطه وَلم يجر شَيْء فنفذ ابْن البُخَارِيّ وَأنكر على قَاضِي الْقُضَاة فعله فَركب قَاضِي الْقُضَاة بعد يَوْم وَجَاء إِلَى شيخ الشُّيُوخ وَهُوَ فِي رباطه وهنأه بمقدمه وَقَالَ لَهُ إِن أستاذ الدَّار والنائب قد اتفقَا على عزلي ويريدون أَن يجْعَلُوا لي حجَّة وَتَقولُوا للخليفة فَلَمَّا خرجت إِلَى خدمتك كنت كثير الْخَوْف من أَن أعمل مَا لَا يجوز فَيكون هُوَ الطَّرِيق لَهُم وَلَا بُد من إنعامك فِي أَن تعرف الْخَلِيفَة هَذِه الْحَال وَلَا يكون عنْدك مِنْهَا شَيْء فَقَالَ لَا وَالله أَنْت عِنْدِي مَعْذُور وَحضر أَرْبَاب الدولة يهنئون شيخ الشُّيُوخ بمقدمه سوى أستاذ الدَّار وَابْن البُخَارِيّ فَإِنَّهُمَا لَا يقدران أَن يمضيا إِلَى أحد جملَة وَكَانَ الْخَلِيفَة قد أَمر بِأَن لَا يعْتَرض أحد اعْتصمَ برباط شيخ الشُّيُوخ وَلَو كَانَ عَلَيْهِ المَال وَالدَّم وَكَانَ قد اعْتصمَ بِهِ جمَاعَة من أَوْلَاد رَئِيس الرؤساء وَجَمَاعَة من أَوْلَاد ابْن الْعَطَّار وَابْن القبيبى حَاجِب ابْن رَئِيس الرؤساء الْوَزير وفيهَا مَاتَ سديد الدولة ابْن الْأَنْبَارِي كَاتب الْإِنْشَاء وَفتح لَهُ جَامع الْقصر للصَّلَاة عَلَيْهِ وَمَا تخلف أحد من أَرْبَاب الدولة خدمَة لأستاذ الدَّار وَصلى عَلَيْهِ الشَّيْخ أَبُو طَالب بن الْخلّ وَحمل إِلَى مشْهد مُوسَى بن جَعْفَر على ساكنه السَّلَام وَتقدم إِلَى أبي غَالب بن الْخلال مشرف الدِّيوَان أَن يكْتب إِلَى الْأَطْرَاف وَلم يكن عَالما بالإنشاء بل كَانَ خطه جيدا وَتقدم إِلَى ابْن البُخَارِيّ وَإِلَى شمس الدّين بن السَّرخسِيّ أَن يتَّفقَا على نسخ الْكتب إِلَى الْأَطْرَاف وتنفذ إِلَى ابْن الْخلال ليكتبها وَلَا يُكَلف سوى الْخط

ذكر

وَلَا يتَصَرَّف فِي حرف وَاحِد فَتقدم إِلَيْهِ بذلك وَكَانَ موت سديد الدولة ابْن الْأَنْبَارِي فِي ذِي الْحجَّة من السّنة ذكر مَا تجدّد للْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين بِمصْر وَالشَّام وَغَيرهمَا من الْبِلَاد من الفتوحات والغزوات فِي هَذِه السّنة وَدخلت هَذِه السّنة وَالسُّلْطَان نَازل على آمد محاصر لَهَا مضايق على أَهلهَا وَكَانَ قد نصب عَلَيْهَا مجانيق عدَّة وستائر وَمنع النَّاس من أَن يبدءوا بقتل رجل من الْمُسلمين وَكَانَ غَرَضه أَن يستأمنوا فداخلهم الطمع حَتَّى أحرقوا بعض الستائر فنازلهم السُّلْطَان ذَات يَوْم بِنَفسِهِ وَكَانَ وَالِدي فِي ذَلِك الْيَوْم قد هجم على كل من كَانَ قد طلع مِنْهُم فردهم على أَعْقَابهم وهجم النَّاس فِي إثره بالسلاليم فَصَعدَ فِيهَا الرِّجَال وملكوا بَين السورين وشرعوا فِي النقب ومسعود بن أبي عَليّ بن نيسان يحرض أَصْحَابه على الْقِتَال وَرمى النَّاس بِالْقَوَارِيرِ فَلَمَّا رأى السُّلْطَان ذَلِك أَمر النَّاس بالمنازلة وحرضهم على الْقِتَال وَأمر بعض أَصْحَابه أَن يكْتب فصولا على عيدَان النشاب بالإرهاب لمن بآمد من الْعَوام يتوعدهم فِيهَا تَارَة ويعدهم أُخْرَى ففترت عَنهُ مساعدة أهل الْمَدِينَة وخافوا على أنفسهم وَكَانَ مَسْعُود بن نيسان فِيمَا بَينهم مَذْمُوم السِّيرَة فتقاصروا عَن الاستطالة

واشتط أَصْحَابه عَلَيْهِ وتقبضوا عَنهُ فَبَدَا لَهُ وَجه الخذلان وَخَافَ على نَفسه فراسل السُّلْطَان فِي السّلم والاستعطاف لَهُ قبل الْأمان فَأصْبح السُّلْطَان ذَات يَوْم وَالنَّاس على مَا هم عَلَيْهِ من المنازلة فِي الْحصار إِذْ خرج من الْمَدِينَة جمَاعَة من النِّسَاء فقصدن سرادقه مستجيرات بكرمه يسألن الصفح وَكن نسْوَة أَمِير الْمَدِينَة ورئيسها وطلعن سحرة ذَلِك الْيَوْم وقصدن خيمة الْأَجَل القَاضِي الْفَاضِل وَزِير صَلَاح الدّين فآواهن إِلَى فنَاء خيمته وسعى فِي الشَّفَاعَة لَهُنَّ إِلَى السُّلْطَان فِي طلب الْأمان فنشفعن فِيمَا طلبته وأعطين الْأمان على أَنهم إِن أَقَامُوا توفرت عَلَيْهِم الْأَمْوَال والأملاك وَإِن تحولوا سهل عَلَيْهِم الِانْتِقَال وَلم يسألن فِي الْبَلَد لعلمهن أَنه لَا يخلى على من بِهِ وَإِنَّمَا سألن إِذا تسلم الْمَدِينَة أَن يخرجُوا نفائس أَمْوَالهم فأعطين الْأمان أَن يخرجُوا بِكُل مَا يقدرُونَ عَلَيْهِ من نفائس أَمْوَالهم مُدَّة ثَلَاثَة أَيَّام وَتقدم السُّلْطَان برد النِّسَاء بالإكرام والاحترام وَنفذ ابْن نيسان يذكر أَن غلمانه وَأَصْحَابه خَرجُوا عَن طَاعَته وَأَنه لَا يقدر على نقل أَمْوَاله فندب السُّلْطَان لَهُ من خواصه من يُعينهُ ويراعي أَمْوَاله وَأخرج لَهُ دَوَاب كَثِيرَة من اصطبلاته لإعانته فَخرج ابْن نيسان من آمد وَضرب خيمته فِي ظَاهرهَا وَجعل ينْقل مَا يقدر عَلَيْهِ من درهمه وديناره ونفائس جواهره وأمواله وَنقل أَيْضا مَا قدر عَلَيْهِ من أواني الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلم يقدر فِي تِلْكَ الثَّلَاثَة أَيَّام إِلَّا على تَحْويل الْأَمْتِعَة الْكَرِيمَة الثمينة وفاز جمَاعَة من أَصْحَابه بِمَا أَصَابُوهُ من أَمْوَاله وَكَانَ يخرج من دَاره عشرَة أحمال من المَال فَيذْهب فِي الطَّرِيق بَعْضهَا فَلَمَّا انْقَضى الْأَجَل الْمَضْرُوب وَقد عجز ابْن نيسان عَن نقل سَائِر ذخائره ترك أخاير الذَّخَائِر وَكَانَت أبراج الْمَدِينَة ودورها ومساكنها قد ملئت من أَجنَاس الغلات وأجناس

ذكر تسليم آمد إلى نور الدين محمد بن قرا أرسلان

آلَات الحروب وَغير ذَلِك من الْأَمْوَال فَترك ذَلِك جَمِيعه وَمضى لسبيله وَلَو رشد لَكَانَ آوى إِلَى ظلّ السُّلْطَان وَلم يبعد عَن جنابه ذكر تَسْلِيم آمد إِلَى نور الدّين مُحَمَّد بن قرا أرسلان وَلما تسلم السُّلْطَان مَدِينَة آمد نصب على سورها أَعْلَامه أول يَوْم فتحهَا وَذَلِكَ فِي الْعشْر الأول من الْمحرم من السّنة الْمَذْكُورَة وَأمر بتسليمها إِلَى نور الدّين مُحَمَّد بن قرا أرسلان وَكتب لَهُ بهَا وبأعمالها تقليدا وَكَانَ قد سبق لَهُ مِنْهُ الْوَعْد بذلك فتسلمها بِمَا فِيهَا من الذَّخَائِر من الْأَمْتِعَة والأسلحة وآلات الحروب وأجناس الغلات والحبوب مَا لَا يحصره الْعدَد وَسلم إِلَيْهِ دساتير المخازن سائرها وَكَانَ فِي الْمَدِينَة برج يحتوي على ثَمَانِينَ ألف شمعة فَقيل للسُّلْطَان هَذِه آمد فِيهَا ذخائر تربى قيمتهَا على ألف ألف دِينَار وَمَا دخلت عِنْد الْوَعْد بآمد فِي شَرط وَلَا قَرَار فَخذهَا لمهامك وَنور الدّين مُحَمَّد بن قرا أرسلان يقنع بآمد فارغة فَقَالَ صَلَاح الدّين لَا سَبِيل إِلَى أَخذ شَيْء من ذَلِك فَإِن نور الدّين صَار من أشياعنا وأصحابنا وَلَا نضن عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاء وهبنا أَنا وهبنا لَهُ الأَصْل وبخلنا عَلَيْهِ بالفرع فَمَا يَلِيق ذَلِك بكرمنا

فَذكر لنا أَنه بَاعَ من ذخائرها من الغلات والحبوب والفرش المستعملات الآمدية والبسط والخيام سبع سِنِين وَإِنَّمَا ذكرنَا ذَلِك ليعلم أَن الدُّنْيَا بأسرها لم يكن لَهَا عِنْد السُّلْطَان قدر وَدخل السُّلْطَان إِلَى مَدِينَة آمد يَوْم الْجُمُعَة وأحضر نور الدّين مُحَمَّد بن قرا أرسلان ووكد عَلَيْهِ المواثيق برعاية الْعَهْد والمتابعة لَهُ والمسارعة إِلَى مَا يَدعُوهُ وَاشْترط عَلَيْهِ إِقَامَة الْعدْل وَإِظْهَار السِّيرَة الجميلة المحمودة فِي الرّعية ذكر بعض الْأَمْثِلَة بِفَتْح آمد كتبهَا السُّلْطَان إِلَى بعض الْأُمَرَاء صدرت الْمُكَاتبَة مشعرة بِفَتْح آمد وَذَلِكَ بِقِتَال أعمل السَّيْف فِيهِ أَعمال المستبق وَاسْتعْمل فِيهِ الْعَزْم اسْتِعْمَال المترفق فَلَمَّا رأى صَاحبهَا غير مَا ظَنّه وَسوى مَا يعهده لم ير الْغَنِيمَة إِلَّا نَفسه وَمَاله وَولده فاستام الصُّلْح فأرخصناه وَاسْتَأْمَنَ فأمناه مِمَّا أَخَاف وخلصناه وأغمدنا مَا كَانَ مُجَردا وأجزانا الله من نَصره على مَا لم يزل معودا ورفعنا عَنهُ من الْقِتَال يدا وأوليناه للإحسان يدا وَكِتَابنَا هَذَا وَالْمَدينَة قد فتحت أَبْوَابهَا وعذقت بدولتنا أَسبَابهَا وتحكم لِسَان علمنَا فِي فَم قلعتها ويسرها معدل نشرها بحصب نجعتها وَبعد أَن لبستها دولتنا وَفينَا بموعد خلعتها وَالْحَمْد لله الَّذِي تتمّ النِّعْمَة بِحَمْدِهِ ويسبح الأمل بِقَصْدِهِ مَا يفتح الله للنَّاس من نعْمَة فَلَا مُمْسك لَهَا وَمَا يمسك فَلَا مُرْسل لَهُ من بعده

فصل آخر

فصل آخر وَقد رفعت على قلعتها أعلامنا ونفذت فِي مدينتها أحكامنا وناله صَاحبهَا صلحنا وَعم أَهلهَا صفحنا ووفى فِيهَا موعدنا ونجح وَالْحَمْد لله مقصدنا وألان الله صعبتها وحطم فِي ثَلَاثَة أَيَّام صعدتها وَنحن نستعيذ الله من أَن يظنّ أَن لنا فِي هَذَا الصنع صنعا وَأَن نعتقد أَنا نملك لأنفسنا ضرا أَو نفعا فصل آخر نزلنَا عَلَيْهَا وَلم يكن إِلَّا رياضتها ثَلَاثَة أَيَّام ريثما فتح الْحصن عَن فَضله واستيقظ صَاحبهَا بجد الْقِتَال من هزله وَاسْتَأْمَنَ فأومن على نَفسه وَمَاله وَأَهله وَكِتَابنَا هَذَا ولواء النَّصْر قد مد بَاعه معانقا لقلعتها وخطيب منبرها قَائِم باسمنا سَاعَة تسلمها للموافقة لساعة جمعتها ثمَّ أوصلنا نور الدّين إِلَى عقيلة طالما واعدها أَبوهُ وخطبها وَقَبلنَا مِنْهُ مهرهَا بمعونة فِي سَبِيل الله أوجبهَا وَكتب بذلك إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز بدار السَّلَام كتابا مُسْتَوفى الْأَقْسَام وَأمر النَّاس بعد ذَلِك بالرحيل إِلَى حلب وأعمالها وَتوجه السُّلْطَان من آمد قَاصِدا إِلَى الْفُرَات فوصلها فِي مراحل وَعبر الْفُرَات بِجَمِيعِ عساكره وجيوشه فَلَمَّا اسْتكْمل عبور النَّاس رَحل مُتَوَجها إِلَى عين تَابَ وَكَانَ بهَا الْأَمِير نَاصح الدّين مُحَمَّد بن خمارتكين

ذكر وصول السلطان إلى حلب والنزول عليها في محرم من السنة

فَنزل ابْن خمارتكين مِنْهَا وَجَاء إِلَى السُّلْطَان مُتَبَرعا إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ وَحمل من الْهَدَايَا والتحف أَشْيَاء كَثِيرَة فَصَارَ من جملَة أَصْحَابه وأسبابه فَنزل السُّلْطَان بِعَين تَابَ لَيْلَة وَاحِدَة ثمَّ رَحل مِنْهَا إِلَى حلب ذكر وُصُول السُّلْطَان إِلَى حلب وَالنُّزُول عَلَيْهَا فِي محرم من السّنة وَلما نزلنَا على حلب ضرب السُّلْطَان مخيمه فِي الميدان الْأَخْضَر وَجَمِيع حلقته وَنزلت العساكر بَين قريب مِنْهُ وبعيد وَكَانَ النَّاس كل يَوْم فِي زحف وقتال وطراد ونزال وَكَانَ تَاج الْمُلُوك أَخُو السُّلْطَان شجاعا مقداما يركب كل يَوْم بجماعته وينازل الْقَوْم وَكَانَ السُّلْطَان ينهاه عَن الْإِقْدَام ويكفه من النزال وَينْهى النَّاس عَن الزَّحْف وَيَقُول إِنَّمَا مقصودنا الْبَلَد وَلَا حَاجَة لنا بقتل أحد الْمُسلمين فأصابت تَاج الْمُلُوك ضَرْبَة فِي فَخذه فَحمل إِلَى مضربه جريحا وَكَانَ مَوته فِيهَا وَذَلِكَ عِنْد تَسْلِيم حلب وَكَانَ السُّلْطَان على وَلِيمَة قد أعدهَا لعماد الدّين زنكي بن مودود فَلم يتضعضع لَهُ ولمصابه بِهِ رضوَان الله عَلَيْهِ وسأذكر منقبة للسُّلْطَان وَمَا رزقه الله من الْحلم وَالصَّبْر فِي ذَلِك الْيَوْم فِيمَا بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَلما جرح تَاج الْمُلُوك أَمر السُّلْطَان عساكره بالرحيل من الميدان الْأَخْضَر وَالنُّزُول على جبل جوشن فَضرب مخيمه عَلَيْهِ وَأظْهر نِيَّة الْمقَام وَأمر بإحضار بنائين وصناع ومهندسين وَأمر بِحَفر أساس قصر يبنيه وَقَالَ

ذكر رغبة عماد الدين زنكي في الصلح والعوض عن حلب

وَإِن كَانَ الْبَلَد منزلا لمن فِيهِ فَهَذَا منزلنا وَنحن نتصرف فِي الْبِلَاد والأعمال ونقطعها لرجالنا ونترك حلب على مَا بهَا وَكَانَ الْعَسْكَر يركب فِي كل يَوْم وَيقف بِإِزَاءِ الْبَلَد صُفُوفا من غير زحف وَلَا قتال وَطَالَ ذَلِك ودام ورسلهم تتواتر إِلَى السُّلْطَان بِكُل كَلَام قَبِيح وَهُوَ يجمل ويحلم وَيُعِيد إِلَيْهِم القَوْل الْجَمِيل فَلم يزَالُوا على إصرارهم حَتَّى ضرع عماد الدّين إِلَى السّلم ذكر رَغْبَة عماد الدّين زنكي فِي الصُّلْح والعوض عَن حلب كَانَ عماد الدّين زنكي بن مودود رَاغِبًا فِي الصُّلْح عَارِفًا بعواقب الْأُمُور ففكر فِي أمره وَوجد عَلَيْهِ فِي كل شهر مِمَّا يفرقه على الأجناد ثَلَاثِينَ ألف دِينَار وخشى على نَفسه إِن طَال الْحصار أَن ينفذ مَا فِي خزانته وَكَانَ يعْتَمد على رَأْي الْأَمِير حسام الدّين طمان الأرتقي فَأحْضرهُ وَاسْتَشَارَ بِهِ فِيمَا يدبره من أَمر حلب فَأَشَارَ عَلَيْهِ طمان بِالدُّخُولِ تَحت طَاعَة السُّلْطَان واقترح عماد الدّين أَن يعوض عَن حلب سنجار ونصيبين والخابور والرقة وسروج فضمن لَهُ طمان ذَلِك وَنزل من بَاب السِّرّ لَيْلًا فَدخل

على وَالِدي الْملك المظفر رضوَان الله عَلَيْهِ وَشرح لَهُ جَمِيع مَا ذكره عماد الدّين فَمضى وَالِدي إِلَى السُّلْطَان وَشرح لَهُ مَا ذكره طمان فَقَالَ لَهُ صَلَاح الدّين إِن هَذِه الْمَوَاضِع الَّتِي ذكرهَا عماد الدّين قد جعلناها لَك مَعَ مَا قطع للفرات من الشرق من بِلَاد الجزيرة وأنعمنا بهَا عَلَيْك وَلَا سَبِيل إِلَى أَخذهَا مِنْك فَقَالَ المظفر تَقِيّ الدّين عمر يَا مَوْلَانَا إمض هَذَا الْأَمر فَإِنَّمَا غرضنا صَلَاح الْبَيْت فَقَالَ السُّلْطَان إِذا رضيت بِأخذ هَذِه الْمَوَاضِع مِنْك نعوضك عَنْهَا حلب وقلعتها وأعمالها ثمَّ أحضر لسلطان الْأَمِير طمان وَكتب لَهُ خطه الْكَرِيم بالمواضع الْمَذْكُورَة وَحلف لَهُ على ذَلِك ثمَّ مضى من عِنْده تَمام ليلته فَسلم خطه إِلَى عماد الدّين وعرفه إنعام السُّلْطَان فِي حَقه فطابت نَفسه بذلك وَأمر بِفَتْح أَبْوَاب حلب ففتحت فَعرف الْأُمَرَاء بذلك والمقدمون مِنْهُم ذَلِك فَمنهمْ من خجل وَمِنْهُم من نَدم فَأرْسل السُّلْطَان إِلَيْهِم وَطيب نُفُوسهم وبذل لَهُم من إحسانه مَا استرقهم بِهِ وَكَانَ تَسْلِيم حلب يَوْم السبت ثامن عشر صفر من سنة تسع وَسبعين وسأذكر نُكْتَة عَجِيبَة تدل على ذكر منقبة للسُّلْطَان ومكرمة نطق بهَا سر الْغَيْب الْمكنون على لِسَان القَاضِي مُحي الدّين بن الزكي قَاضِي دمشق وَذَلِكَ أَنه مدح السُّلْطَان بِأَبْيَات مِنْهَا (وفتحكم حَلبًا بِالسَّيْفِ فِي صفر ... مُبشر بفتوح الْقُدس فِي رَجَب)

ذكر وفاة تاج الملوك بوري رضي الله عنه

فَوَافَقَ فتح حلب كَمَا ذكره فِي صفر من سنة تسع وَسبعين كَمَا ذَكرْنَاهُ وَفتح الْقُدس فِي رَجَب من سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ ذكر وَفَاة تَاج الْمُلُوك بوري رَضِي الله عَنهُ كَانَ السُّلْطَان قد عين يَوْمًا لضيافة عماد الدّين زنكي بن مودود وَأعد لَهُ من الألطاف والهدايا والتحف أَشْيَاء كَثِيرَة وَكَانَ ذَلِك فِي المخيم قبل انْتِقَاله إِلَى حلب واستقراره بالقلعة فَمد السماط واستدعى بعماد الدّين فَجَلَسَ إِلَى جنب السُّلْطَان فَبينا النَّاس فِي أسر سرُور إِذْ جَاءَهُ بعض حجابه فَأسر إِلَيْهِ بنعي أَخِيه تَاج الْمُلُوك فَمَا تضعضع لذَلِك وَلم يتَغَيَّر بشره وبشاشته وطلاقة وَجهه وَأمر سرا بتجهيزه وَدَفنه وَأعْطى تِلْكَ الضِّيَافَة حَقّهَا فَانْظُر إِلَى حلم هَذَا السُّلْطَان وَحسن صبره على بلائه واختبار الله تَعَالَى إِيَّاه وَأما عماد الدّين زنكي بن مودود فَإِنَّهُ أَخذ خطّ السُّلْطَان بالمواضع الْمَذْكُورَة بعد عَهده وميثاقه وَخرج بعد وداعه مُتَوَجها إِلَى سنجار وَأقر مظفر الدّين بن عَليّ كوجك على مَا بِيَدِهِ من حران والرها ذكر دُخُول السُّلْطَان إِلَى حلب ومقامه فِي قلعتها كَانَ دُخُول السُّلْطَان إِلَى قلعة حلب يَوْم تَسْلِيمهَا إِلَيْهِ وَذَلِكَ يَوْم السبت ثامن عشر صفر وَحين اسْتَقر بهَا أَفَاضَ الْعدْل وَرفع الضرائب وَأسْقط المكوس وَتمّ لَهُ حِينَئِذٍ ملك الشَّام وَكتب إِلَى الْأَطْرَاف والجوانب لِاجْتِمَاع العساكر إِلَى الْجِهَاد وعول فِي الحكم وَالْقَضَاء بحلب على القَاضِي محيي الدّين

ذكر فتح حارم وسبب تسليم حصنها

أبي الْمَعَالِي مُحَمَّد بن الزكي عَليّ الْقرشِي قَاضِي دمشق فَقضى وَحكم ورتب لَهُ فِيهَا نَائِبا القَاضِي زين الدّين نبأ بن الْفضل بن سُلَيْمَان الْمَعْرُوف بِابْن البانياسي ذكر فتح حارم وَسبب تَسْلِيم حصنها وَلما فتح السُّلْطَان حلب وَاسْتولى على مَا حولهَا من الْحُصُون والمعاقل والأعمال بقيت قلعة حارم مَعَ أحد المماليك النورية فَجعل السُّلْطَان يراسله وَهُوَ يشْتَرط عَلَيْهِ ويغالي فِي سومه وَكَانَ نقيبها حِينَئِذٍ مستوليا عَلَيْهَا وَمَعَهُ جمَاعَة فَخرج مَمْلُوك نور الدّين عَنْهَا كَمَا جرت عَادَته رَاكِبًا فغلق نقيبها دونه الْبَاب وشنع عَلَيْهِ بمصالحة الفرنج وأعلن من فِيهَا باسم السُّلْطَان فَبلغ السُّلْطَان ذَلِك فَركب من وقته وَسَار إِلَى حارم فتسلمها وَحضر النَّقِيب الَّذِي كَانَ بهَا وجماعته ليطلبوا من السُّلْطَان أَن ينعم عَلَيْهِم عوضا عَمَّا فعلوا وَكَانَ بدر الدّين حسن بن الداية حَاضرا عَن السُّلْطَان فَقَالَ يَا مَوْلَانَا هَؤُلَاءِ الْقَوْم فعلوا فِي حَقي كَذَا وَكَذَا وخربوا بَيْتِي ونقلوا عني

ذكر القلاع ومن رتب فيها

كل كَلَام قَبِيح وَقد علمت مَا فعلوا فِي حق هـ ذَا الْمِسْكِين وَأَغْلقُوا دونه بَاب القلعة وشنعوا عَنهُ مَا ذَكرُوهُ من مصالحة الفرنج وَلم يكن كَذَلِك فَإِن رآي مَوْلَانَا السُّلْطَان استخدامهم على هَذَا الشَّرْط فليستحفظ بهم فَضَحِك السُّلْطَان وَأمر بطردهم وَسلمهَا إِلَى أحد خواصه وَأما حَدِيث صَاحب أنطاكية فَإِن السُّلْطَان حِين تسلم حارم اضْطربَ أمره وَوَافَقَ ذَلِك أَوَان انْقِضَاء الْهُدْنَة فَجَاءَت رسله بالخضوع والضراعة إِلَى السُّلْطَان وسير مَعَهم من أُسَارَى الْمُسلمين جمَاعَة كَبِيرَة إِلَيْهِ وانخذل الفرنج فِي جَانب الْقُدس خوفًا مِنْهُ وَبَدَأَ السُّلْطَان فِي تَقْرِير الْأَمَاكِن والقلاع وترتيب أحوالها ذكر القلاع وَمن رتب فِيهَا أما قلعة حلب فَإِنَّهُ جعل فِيهَا سيف الدّين يازكوج واليا وَولى الدِّيوَان العميد نَاصح الدّين إِسْمَاعِيل بن العميد وَأما عين تَابَ فَإِنَّهُ أبقاها على صَاحبهَا وأنعم على بدر الدّين دلورم الياروقي بتل خَالِد مُضَافا إِلَى تل بَاشر قَضَاء لحق مسابقته إِلَى الْخدمَة وَأما عزاز فَإِن عماد الدّين زنكي كَانَ قد أخربها لتتوفر قوته على حفظ حلب فَإِنَّهُ أقطعها للأمير علم الدّين سُلَيْمَان بن جندر وَشرع

ذكر فصول مختصرة من كبت أصدرها السلطان إلى الأمصار والجوانب مبشرا بفتح حلب وتملكها

صَلَاح الدّين فِي إِظْهَار الْعدْل وَإِزَالَة الْمَظَالِم وَكتب المناشير لأهل حلب بِرَفْع الضرائب والمكوس وجاءته كتب الْأَطْرَاف والجوانب بالتهنئة لَهُ بِفَتْح حلب ذكر فُصُول مختصرة من كبت أصدرها السُّلْطَان إِلَى الْأَمْصَار والجوانب مبشرا بِفَتْح حلب وتملكها فصل من كتاب إِلَى خطلبا وَإِلَى زبيد يذكر فِيهِ فتح حلب من إنْشَاء الْعِمَاد الْكَاتِب الْأَصْفَهَانِي وَأما أحوالنا فقد تناسقت فِي النَّصْر وتناسبت فِي حمد الله تَعَالَى وَالشُّكْر وَقد سبقت المكاتبات إِلَيْك فِي شرح مَا شَاءَ الله من الْفتُوح وَسَببه وقربه لنا من الْأُمُور وهذبه فبلاد الجزيرة قد اسْتَقَرَّتْ فِي خدمتنا عساكرها ودانت لطاعتنا أكابرها وَأمر فِيهَا أمراؤنا وَولى بهَا أولياؤنا وَأصْبح ربضها إرضاء أَصْحَابنَا وانصرفت نوابها بِتَصَرُّف نوابنا وعنى ذَوُو عنادها وساد ذَوُو سدادها ومجدنا كرامها وَأَكْرمنَا أمجادها وروضنا بآلائنا مواحلها فَمَا ضرها أخلفها الحيا أم جادها وديار بكر لما قصر آمد أمدها وطالت يَد أيدنا بالطول فِي معاهدة تعهدها وَفتحت سوداؤها واخضرت ببركات أقدامنا فِي الْإِقْدَام غبراؤها بعد مَا اغبرت من مثار النَّقْع عِنْد نزولنا عَلَيْهَا خضراؤها وسكنت دهماؤها وانكشفت غماؤها وَصحت سماؤها وَصحت أسماؤها ووطئ بِسَاط الْخدمَة مُلُوكهَا الصَّيْد وَأقر بالعبودية لنا أحرارها الصناديد وَجِئْنَا إِلَى حلب فأسرجت لنا وألجمت شهباؤها وزينت لتزف علينا حسناؤها وأقامت بِعُذْر خفرها فِي تمنعها عذاؤها ودانت لأرضنا

فصل من كتاب آخر

فِي أرجائها سماؤها وَتحقّق فِي عرفنَا رجاؤها وأرجت بعرفنا أرجاؤها وَظهر حَقّهَا وخفى باطلها وتروض مَا حلهَا وتحلى عاطلها وعقل جاهلها وغنم عاقلها وانتظمت فِي سلك الممالك حصونها ومعاقلها وانضمت إِلَيْنَا عساكرها واستفاضت بِنَا مفاخرها وأطاعت عواصي عواصمها وامتلأت المغاني بمغانمها وَظَهَرت الْمَعَالِي فِي معالمها وَلم يبْق إِلَّا التوفر فِي الْجِهَاد من سَائِر الْجِهَات وانحاز غزات الله فِي النَّصْر على العداة وَالسَّعْي فِي تملك الْقُدس وافتتاحه وَتَحْصِيل مُرَاد الْإِسْلَام وَالنُّزُول على اقتراحه فصل من كتاب آخر وَلما تسلمنا حلب وتسنمنا قلعتها وفرعنا شهباءها وسكنا دهماءها وباكرناها بالإيلاف فألفيناها على الْبكارَة واجتلينا عروسها أفقية الإنارة روضية النضارة وزفت إِلَيْنَا حسناء لم يغلها الْمهْر وعقيلة أَلا نها لنا الدَّهْر فقر بِنَا سَرِير السرُور وصفى لأَهْلهَا حبير الحبور وتأصلت فِيهَا أروقة الْأُمُور وتوالت النعم من الله عز وَجل فِي وُفُود الوقور وتبلج صبح الْيُسْر وَوجه الْبشر بالإسفار والسفور وغض الظُّلم طرفه وكف العسف كَفه وَقبض الجوريده وأوضح الْعدْل جده وَحط الْحَظ لثامه وَأخذ الْأَمر نظامه وَوجد الشَّرْع أَحْكَامه وانجابت الظلماء وطلعت الشموس وانفرجت الغماء وَطَابَتْ النُّفُوس وأسقطت الْمَظَالِم وأطلقت المكوس واهتزت الأعطاف من سكر الشُّكْر حِين طافت من ألطاف الله على الْأمة الكئوس فصل من كتاب آخر صدرت الْمُكَاتبَة مبشرة بِمَا من الله بِهِ من الْفَتْح الْعَزِيز والنصر الْوَجِيز والنجح الحريز والموهبة الواهبة قُوَّة الِاسْتِظْهَار والعارفة الْمعرفَة زِيَادَة الاستنصار وَالنعْمَة الَّتِي جلت النعماء فَجلت وحلت فِي مذاق

فصل من كتاب عن السلطان إلى بعض أمرائه بإنشاء الفاضل

الشُّكْر وحلت وعلت بإعلاء كلمة الدّين فأنهلت وعلت وطالت يَدهَا بالطول وبأياديها أطلت وَذَلِكَ فتح حلب الَّذِي در حلبه ونجح طلبه وَبلغ أمد الفلح غَلبه ووضح لحب هَذِه الدولة الْقَاهِرَة لحبه فَإِنَّهُ قد سكنت الدهماء مذ سكنت الشَّهْبَاء ونشرت بهَا بالْأَمْس أُخْتهَا السَّوْدَاء لما كَانَ لنا فِي فتحهَا الْيَد الْبَيْضَاء فاخضرت الغبراء وآلت أَلا نعبر بعْدهَا إِلَّا فِي سَبِيل الله الحضراء وتلاها فتح حارم الَّذِي انجلت بِهِ الداهية الْحَمْرَاء وعلت بالعواصم لقمع بني الْأَصْفَر رايتنا الصَّفْرَاء واهتزت طَربا إِلَى الْجِهَاد فِي أَيدي شائميها ومعتقليها الْبَيْضَاء والسمراء فقد زَالَ الشغب وأسفر عَن الرَّاحَة التَّعَب وخمد اللهب وَأخذت الْغُزَاة الأهب وشفت غيمة الرَّأْي بالمدى حلب وَقد اتّحدت كلمة الْإِسْلَام وعساكره وصدقت زواجره وربحت بالتنقل فِي الْأَسْفَار متاجره وَالْحَمْد لله الَّذِي ضاعف المنن وأضعف عَن شكرها المنن وَشَمل بالألفة الشمل وَأفضل بظهورنا وَأظْهر الْفضل فصل من كتاب عَن السُّلْطَان إِلَى بعض أمرائه بإنشاء الْفَاضِل صدر إِلَيْك هَذَا الْكتاب والأوامر بحلب نَافِذَة والرايات بأطواق قلعتها آخذة وَجَاء أهل الْمَدِينَة يستبشرون وَقد بلغُوا مَا كَانُوا يؤملون وأمنوا مَا كَانُوا يحذرون وَالْحَمْد لله على هَذَا الْمصير وعَلى مَا من بِهِ من هَذَا الطول الطَّوِيل فِي الزَّمَان الْقصير وَنحن نستنصر بِاللَّه مَوْلَانَا فَنعم الْمولى وَنعم النصير فصل من كتاب آخر من إنشائه إِن الله سُبْحَانَهُ يَسُوق مقاديره إِلَى مواقيتها ويؤلف من قُلُوب أهل طَاعَته على طواغي الْكفْر وطواغيتها وَيتم مَا سبق فِي مَشِيئَته من جمع كلمة هَذِه الْملَّة وتأليف مشيئتها وَمن ذَلِك مَا أنعم الله تَعَالَى بِهِ من فتح

ذكر ورود بشارة إلى السلطان وهو بحلب وردت عليه من مصر تبشره بظفر أخيه الملك العادل أبي بكر بطائفتين من الفرنج بحرية وبرية

مَدِينَة حلب سلما سفر فِيهَا وَجه الْإِسْلَام ورقى قلعتها سلما بِمَشِيئَة الله تَعَالَى إِلَى دَار السَّلَام ذكر وُرُود بِشَارَة إِلَى السُّلْطَان وَهُوَ بحلب وَردت عَلَيْهِ من مصر تبشره بظفر أَخِيه الْملك الْعَادِل أبي بكر بطائفتين من الفرنج بحريّة وبرية اتّفق وُرُود هَذِه الْبشَارَة من مصر إِلَى السُّلْطَان عِنْد فتح حلب تبشره بظفر الأسطول البحري وظفره ببطسة من الفرنج وَذَلِكَ أَنه نَهَضَ مغيرا فَعَاد بعد تِسْعَة أَيَّام وَقد ظفر ببطسة من الفرنج فِيهَا ثَلَاثمِائَة وَخَمْسَة وَسَبْعُونَ علجا من الفرنج فأسروهم جَمِيعًا وَأتوا بهم إِلَى مصر وَكَانَ ذَلِك فِي الْيَوْم الْخَامِس عشر من محرم من السّنة الْمَذْكُورَة وَأما الظفر الثَّانِي الْبري وَذَلِكَ أَن عصبَة من الفرنج الَّذين كَانُوا بالداروم وَكَانُوا لَا يزالون ينهضون إِلَى أَمَاكِن بعيدَة ومواضع شاسعة يرومون غَفلَة من بهَا لأمنهم وبعدهم عَن ديار الشّرك فَنَهَضت مِنْهُم طَائِفَة مُغيرَة فاتصل خبرهم بِالْملكِ الْعَادِل سيف الدّين أبي بكر أَيْضا فأنهض إِلَيْهِم جمَاعَة من أبطال الْمُسلمين وَجَمَاعَة من أَصْحَابه وَقدم عَلَيْهِم سعد الدّين كمشبه وَعلم الدّين قَيْصر وسيرهم نحوهم فتوافى الْفَرِيقَانِ إِلَى مَاء يعرف بالعسيلة سبق الفرنج إِلَيْهِ فملكوه فَلَمَّا أقبل الْمُسلمُونَ وَقد اشْتَدَّ بهم الْعَطش ترجل الفرنج وآووا إِلَى جبل هُنَاكَ يعتصمون بِهِ فَحمل الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم جملَة وَاحِدَة فَقَتَلُوهُمْ عَن آخِرهم وَلم ينج مِنْهُم إِلَّا رجلَانِ وَرجع

ذكر رحيل السلطان من حلب إلى دمشق

الْمُسلمُونَ برءوس عدوهم إِلَى مصر وَكَانَ ذَلِك فِي الْيَوْم الرَّابِع وَالْعِشْرين من محرم من السّنة الْمَذْكُورَة ذكر رحيل السُّلْطَان من حلب إِلَى دمشق وَلما رتب السُّلْطَان أُمُور حلب وأعمالهم وَذَلِكَ بعد مهادنة صَاحب أنطاكية ودخوله تَحت أوَامِر السُّلْطَان وضراعته لذَلِك أَمر عساكره بالرحيل وَكَانَ فِي جمع جم وعسكر كثيف واستصحب مَعَه عَسَاكِر الجزيرة وحلب فَكَانَ أول منزلَة نزلها بحاضر قنسرين حَتَّى تكاملت العساكر ثمَّ رَحل إِلَى تل السُّلْطَان وَمِنْه إِلَى الجهاب ثمَّ رَحل النَّاس مُتَفَرّقين مِنْهُم على طَرِيق المعشرية وَمِنْهُم على طَرِيق يمْنَع وَلما وصلنا إِلَى حماة أَمر وَالِدي الْملك المظفر بإحضار سماط لضيافة السُّلْطَان واسبغ من إحسانه على جمَاعَة من الْأُمَرَاء والأجناد ورتبنا أَحْوَال حماة ورحلنا مِنْهَا فنزلنا الرستن ثمَّ رحلنا إِلَى حمص فَضرب السُّلْطَان مخيمه على عاصيها ورحل مِنْهَا فَنزل الزِّرَاعَة ثمَّ إِلَى اللبوة ورحلنا مِنْهَا فنزلنا بعلبك ثمَّ رحلنا مِنْهَا متوجهين إِلَى دمشق فنزلنا قَرِيبا مِنْهَا ثمَّ توجهنا إِلَيْهَا وَخرج أَهلهَا للقائنا ودخلنا إِلَى دمشق وَقد استبشر النَّاس لقدومنا فَلم يلبث السُّلْطَان بِدِمَشْق سوى يَوْمَيْنِ وَأمر النَّاس بِالْخرُوجِ إِلَى الْجِهَاد لغزاة بيسان

ذكر غزاة بيسان

ذكر غزَاة بيسان كَانَ سَبَب رحيل السُّلْطَان من دمشق اغتناما لمن كَانَ مَعَه من العساكر فَسَار بعساكره مجدا فِي سيره منزلا منزلا إِلَى أَن قطع الْأُرْدُن وَكَانَ عبورنا فِي مخاضة الحسينية وَذَلِكَ يَوْم الْخَمِيس تَاسِع جمادي الْآخِرَة فَلَمَّا وصلنا إِلَى بيسان وجدناها وَقد أخلاها أَهلهَا وَخَرجُوا مِنْهَا خوفًا منا وَكَانَ قد تقدّمت مقدمتنا فَوَقَعت على خيل وَرجل من الفرنج وَكَانَ مقدمهم ابْن هنفري فأوقعوا بهم فَقتلُوا راجلهم وأسروا جمَاعَة من فرسانهم وفر ابْن هنفري وَوصل الْخَبَر بِأَن الفرنج الملاعين قد جمعُوا فرسانهم وَأَنَّهُمْ ناهضون إِلَيْنَا فَبينا نَحن كَذَلِك وَإِذا جموعهم قد أَقبلت وَكَانُوا فِي ألف وَخَمْسمِائة رمح وَمثله تركبلي وَخَمْسَة عشر ألف راجل بِالْعدَدِ الْكَامِلَة فَلَمَّا قربوا منا رجفوا كالأسود الضواري فنبذنا إِلَيْهِم الجاليشية فجالت أمامهم وعبينا الأطلاب فَلَمَّا رآى الفرنج عَسَاكِر الْإِسْلَام داخلهم الرعب وأخلدوا إِلَى الأَرْض والتجأوا إِلَى الْجَبَل وجعلوه ظهْرهمْ وخندقوا حوله خَنْدَقًا وَأَقَامُوا على ذَلِك

ذكر غزاة الكرك

خَمْسَة أَيَّام آخرهَا يَوْم الْأَرْبَعَاء خَامِس عشر جمادي الْآخِرَة فِي أضيق حَال يتوقعون نزُول الْهَلَاك بهم وَنحن نتوقع فِي كل يَوْم مِنْهُم الحملة الَّتِي هِيَ عَادَتهم والمغيرون من أَصْحَابنَا فِي كل يَوْم يشنون الْغَارة فِي بِلَادهمْ فيغنمون ويسبون وَيقْتلُونَ وَيَأْسِرُونَ فَلَمَّا رأيناهم لَا يبرحون وَلَا يحملون رحلنا عَنْهُم فَاشْتَدَّ راجلهم لكَي يحملوا فَرجع عَلَيْهِم وَكَانَ ذَلِك يَوْم الْخَمِيس سادس عشر الشَّهْر الْمَذْكُور فَمَا صدقُوا حَتَّى خَرجُوا من موضعهم منهزمين على أَعْقَابهم يتبع بَعضهم بَعْضًا ورجعنا ظافرين بغنائمهم وَمن أسر مِنْهُم وَشرع السُّلْطَان من وقته ذَلِك فِي غزَاة الكرك ذكر غزَاة الكرك وَلما رَجَعَ السُّلْطَان من غزَاة بيسان منصورا غانما جعل طَرِيقه إِلَى جِهَة بَاب من أَعمال الشراة وَنزل بأذرعات وَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ أَهلهَا الْمُسلمُونَ فَأَمنَهُمْ وَكَانَ ساكنو تِلْكَ الديار مُسلمين من قديم الزَّمَان وتربى أَوْلَادهم مَعَ الفرنج ثمَّ خيمنا على الْبَريَّة وَضَاقَتْ تِلْكَ الأودية بالعساكر ثمَّ نزلنَا على حِصَار الكرك وَأمر السُّلْطَان بِنصب المجانيق فَنصبت فرمينا من بهَا بِالْحِجَارَةِ وَطَالَ ذَلِك ثمَّ تحول السطان إِلَى الربض فَنزل بدار الرئيس وحرض النَّاس على الْجِهَاد وَكَانَ غَرَضه بالانتقال إِلَى هُنَا ليقرب من

ذكر ولاية والدي الملك المظفر رضوان الله عليه مصر وأعمالها وتقليده إياها

المنجنيقات المنصوبة ليشاهد مواقع النكاية فِي القلعة ورتب السُّلْطَان مَعَ ذَلِك نوبَة الرُّمَاة فَمَا كَانَ أحد يقدر أَن يخرج رَأسه من بَين الشراريف فَبينا نَحن كَذَلِك إِذْ وصل الْخَبَر باجتماع الفرنج فِي الْموضع الْمَعْرُوف بالواله فَقَالَ السُّلْطَان هَذَا حصر يطول وَقد ضايقنا الْحصن وَمن فِيهِ وسلبنا أَعماله وَهَذِه نوبَة لَا يخْشَى فَوَاتهَا وَمَا نزال بعون الله تَعَالَى نعاود هَذَا الْحصن ونزوره حَتَّى يسر الله فَتحه والآن فَإِن الفرنج قد تحاشدوا واجتمعوا فَلَا يفرق جمعهم إِلَّا جَمعنَا وَبَقِي الْحصار دَائِما إِلَى انْقِضَاء شهر الله الأصب رَجَب وَالسُّلْطَان مَعَ ذَلِك مشتغل بعمارة الْبِلَاد وتدبير الممالك وَذَلِكَ عِنْد وُرُوده إِلَى الكرك استدعى أَخَاهُ الْملك الْعَادِل سيف الدّين أَبَا بكر من مصر ليعول عَلَيْهِ بِولَايَة حلب ويقلد وَالِدي الْملك المظفر ابْن أَخِيه ولَايَة الْبِلَاد المصرية ذكر ولَايَة وَالِدي الْملك المظفر رضوَان الله عَلَيْهِ مصر وأعمالها وتقليده إِيَّاهَا وَلما وصل الْملك الْعَادِل من مصر إِلَى الكرك طلب من السُّلْطَان ولَايَة حلب وأعمالها وَقد سبق وعد السُّلْطَان بهَا لوالدي فأنعم السُّلْطَان لِأَخِيهِ بحلب وأعمالها وأنعم لوالدي ابْن أَخِيه بِولَايَة الديار المصرية وَحكمه فِيهَا وَالَّذِي أعْطى وَالِدي الْملك المظفر رَحمَه الله بِمصْر فَمن ذَلِك الْبحيرَة جَمِيعهَا بِمصْر وَهِي بِأَرْبَع مائَة ألف دِينَار والفيوم وَهُوَ بثلاثمائة ألف دِينَار وقاي وقايات وبوش وَهِي بسبعين ألف دِينَار

ثمَّ عوض عَن بوش بسمنود والواحات وَهِي بستين ألف دِينَار وفوة والمزاحمتين وَهِي بِأَرْبَعِينَ ألف دِينَار وحوف رمسيس وَهُوَ بِثَلَاثِينَ ألف دِينَار وَكَانَ لَهُ فِي كل شهر على الْإسْكَنْدَريَّة ألف وَخمْس مائَة دِينَار وَحكمه على جَمِيع مصر وَالْولَايَة بأسرها وَصَرفه فِيهَا تصرف الْملاك وَكتب لَهُ بذلك تقليدا وَذَلِكَ فِي شعْبَان من السّنة وَهَذِه نُسْخَة المنشور الْحَمد لله المتعالي جَلَاله المتوالي أفضاله الْقَدِيم كَمَا لَهُ العديم مِثَاله نحمده على إحسانه الْعَظِيم نواله العميم اتِّصَاله ونسأله أَن يُصَلِّي على سيدنَا نبيه مُحَمَّد الْمُصْطَفى الفصيح مقاله الفسيح فِي الشَّرْع مجاله الشَّفِيع المقبول فِي الْأمة سُؤَاله وعَلى آله وَصَحبه الَّذين هم نُجُوم الْهدى وأنصار الْحق وَرِجَاله أما بعد فَإنَّا مُنْذُ استودعنا الله ملك بِلَاده واسترعانا أَمر عباده وَمكن لنا فِي الأَرْض وَبسط أَيْدِينَا بالبسط وَالْقَبْض وأقدرنا فِي ممالكه على العقد والحل والإبرام والنقض وملكنا زِمَام الزَّمَان بِالْأَمر وَالنَّهْي ونهج لنا وبنا سبل ارشاد وَعفى طرق الغي وناط الْهدى بتوفيقنا وأماط الضَّلَالَة عَن ملكنا فَهُوَ للإحكام وَهِي للوهى وأعز بنصرنا الْإِسْلَام وأداله وأذل الْكفْر وأزاله وَثَبت الْحق ومكنه وَنفى الْبَاطِل وأزاله نفترض أَدَاء شكر نعْمَته وَإِن كُنَّا معترفين بالقصور عَن أَدَائِهِ وَنرعى لَهُ فِي بِلَاده وعباده حق مَا خصنا بِهِ من عُمُوم استرعائه فَلَا يسترعيها من

الْوُلَاة إِلَّا أولاهم برعاية الرّعية وَأكْرمهمْ للتقوى الَّتِي تقوى بهَا المكارم وتوقي المكاره وأحكمهم فِي الرَّأْي الَّذِي يَصح وَيصِح بِهِ فِي الْأُمُور الْمُحكم والمتشابه وأقومهم على سنتنا على إِقَامَة فروض الْعدْل وسننه وأعرضهم بِحَق إنعامنا فِي تقبل منحه وتقلد مننه وأطولهم فِي الطول باعا وأفضلهم اتساقا فِي المنائح واتساعا واسماهم فِي بقاع العلى ارتفاعا وأولاهم لأبكار المحامد والمفاخر افتراعا وأجلاهم فِي مَشَارِق السَّعَادَة طلوعا وأجلهم على واجباتها اطلاعا وأبذلهم فِي الْجِهَاد اجْتِهَادًا وَأَكْثَرهم فِي سداد الثغور الإسلامية سدادا حَتَّى تعود الْولَايَة بإيالته منتظمة الْعُقُود والمملكة ببهجته مبتسمة السُّعُود والسياسة بنضرة نظره مورقة الْعود والمصالح بصوب صَوَابه مصوبة الْمعَاهد ونصل النَّصْر بمضاء مضاربه مغمودا فِي مفارق الْأَعْدَاء مفارقا للغمود وتمحو أيامنا الْبيض بتوليته سيئات اللَّيَالِي السود وَلما كَانَ ولدنَا الْأَجَل الْملك المظفر تَقِيّ الدّين أدام الله علوه وضاعف رفعته وسموه ذَا الْمجد الشامخ وَالْجد الباذخ والرأي الرَّاجِح الراسخ وَالْعدْل المجير الْمُجيب استصراخ الصَّارِخ والإصابة الَّتِي تقصر عَنْهَا خطى الخطوب الخاطية وَالْقُدْرَة المتوالية الَّتِي لَدَيْهَا العظائم ذَوَات الأقدار المتواطية والشيمة الزكية الذكية الَّتِي تضوع نشرها المتأرج وتوضح نشرها المتبلج وشيم عَارض كرمها المتوج ورجى بَحر سماحها المتموج والمناقب الَّتِي أشرقت زواهرها فِي سَمَاء السمو وَأَلْقَتْ أزهارها فِي رياض النمو وتليت آيَات مدائحها بِلِسَان الْعَدو وجليت عرائس محاسنها فِي مطالع الْعُلُوّ والبسالة الَّتِي فرق جموع الْأَعْدَاء بأسها الشَّديد وثلم حد الْكفْر حَدهَا الْحَدِيد وَأَعْلَى جد الْإِسْلَام جدها الْجَدِيد وهد ركن الْمُنكر ركن عرفهَا المشيد وَهُوَ مقتد بسنتنا العادلة فِي إحْيَاء سنة الْعدْل وتقوية بنية الْفضل وَرفع منار الشَّرْع الْمُنِير وَأَعْلَى معالم الْمجد الأثيل الْأَثِير وخفض جنَاح الرَّحْمَة للصَّغِير وَالْكَبِير وإسعاف الْعَافِي وإعانة العاني وإغاثة المستجير وقلدناه ولَايَة الممالك والبلاد والثغور والديار المصرية وعذقناها

بكفايته وأوليناها النظام بولايته حليناها بحلية إيالته وعولنا عَلَيْهِ سياسة مملكتها وحماية حوزتها والذب عَن بيضتها وفوضنا إِلَى نظره أمورها وجلونا فِي آفَاق تدبيراته الْمُوَافقَة الموفقة الموفقة نورها وأمرنا كَافَّة الْأُمَرَاء والنواب والعساكر المنصورة المصرية على اخْتِلَاف طبقاتهم وتفاوت درجاتهم بامتثال أمره والانقياد لحكمه وَالتَّصَرُّف على رسمه والحضور إِذا طَلَبهمْ والهبوب إِذا ندبهم فَإنَّا عضدنا بِهِ سلطاننا وأمضينا سَيْفه إِذا اقتضته حُدُود الله تَعَالَى فِي الْآجَال وأطلقنا قلمه فِي الأرزاق الَّتِي يجيزها الله تَعَالَى لكافة الْأَوْلِيَاء وَالرِّجَال وفوضنا إِلَيْهِ هَذِه الْبِلَاد تفويضا مَاضِيَة أَحْكَامه متسق نظامه مَوْصُولَة بِمَشِيئَة الله تَعَالَى أَيَّامه ووليناه إِيَّاه تَوْلِيَة من قد عرف قِيَامه بِحَق الْولَايَة وانتهاءه فِي مصَالح الْإِسْلَام إِلَى الْغَايَة وانتظام خلاله الْكَرِيمَة بِشُرُوط الْكِفَايَة وَالْكَفَالَة وإضاءئه فِي قَضَاء الْفَضَائِل بالْحسنِ وَالْحُسْنَى من الْحِلْية وَالْحَالة وتوفره على الْجِهَاد فِي سَبِيل الله عز وَجل بحرا وَبرا بتجهيز أساطيله وكتائبه واعتماد كل مَا يدل مِنْهُ على مزِيد الشُّكْر فِي استمداد مزِيد مواهبه وقيامه بِتَوْفِيق الله الْمعد لَهُ وكشفه بِالرَّأْيِ الثاقب مهمات الخطوب المشكلة وَبسط الْيَد وَالْقَوْل فِي العارفة والعاطفة للأولياء بِالنَّبلِ واللين وانتضاء سَيْفه وَسَوْطه فِي السطو على الْأَعْدَاء لاقْتِضَاء دين الدّين حَتَّى تعلو كلمة الْإِسْلَام وَتثبت وَحَتَّى تنْبت عروق الْكفْر من أَرض الله وتنبت وَحَتَّى تكْتب المذلة على العداة فتكبت وَحَتَّى تجمع الْقُلُوب والألسنة على محبته وشكره وتتفق الكافة على الائتمار لطاعة أمره وَنحن نسْأَل الله تَعَالَى أَن يوفقه ويسدده وَأَن يعضدنا بِهِ ويعضده ويؤيدنا بِحسن تَدْبيره وَيُؤَيِّدهُ والمستقر لَهُ من إقطاعه مَا أثبت فِي الدِّيوَان ذكره وَبَين فِي هَذَا المنشور قدره وَهُوَ مَا سبق ذكره فليتول نعْمَة الله تَعَالَى بالشكر الَّذِي يرتبطها وَبسط الْيَد الَّذِي ينشر عَلَيْهِ ويبسطها ونشاط الهمة الَّذِي يطلقهَا من عقال التَّوَقُّف وينشطها مستمسكا

ذكر ولاية الملك العادل سيف الدين حلب قلعتها وأعمالها

من التَّقْوَى بأوثق عُرْوَة عاقدا بهَا من حب بذل الحباء أصدق حبوة فائزا من النَّصْر بالنجح فِي مغازيه ومساعيه بأوفق خطْوَة ساميا من الْعِزّ وَالْجَلالَة والمهابة على أسمق ذرْوَة مؤيدا من الله بالتسديد فِي صرف كل حطب وتصريف كل خطْوَة ثمَّ توجهنا إِلَى مصر بالعسكر الْمصْرِيّ وَذَلِكَ فِي شعْبَان بِمُقْتَضى المنشور فَسَار فِيهَا أحسن سيرة محمودة وَأقَام فِيهَا منار الْعدْل بأتم سياسة ذكر ولَايَة الْملك الْعَادِل سيف الدّين حلب قلعتها وأعمالها وَكتب لَهُ أَيْضا منشور وَذَلِكَ فِي شعْبَان من السّنة ونسخته الْحَمد لله ذِي السُّلْطَان القاهر وَالْإِحْسَان الظَّاهِر والامتنان الوافر والبرهان الباهر نحمده على إنعامه المتضاعف المتظاهر وإفضاله المتوافد المتوافر حمدا يُؤذن بالمزيد للشاكر ونسأله أَن يُصَلِّي على سيدنَا نبيه مُحَمَّد الْمُصْطَفى ذِي الشَّرْع الطَّاهِر والنور الزَّاهِر وَآله الأكارم الأكابر ذَوي المفاخر والمآثر ونسلم تَسْلِيمًا كثيرا أما بعد فَإِن لله عندنَا نعما إِن نعدها لَا نحصيها ومننا قد جمع الله لنا بشمولها الدَّائِم شَمل أعمها وأخصها ومواهب وَاضِحَة الْمذَاهب فِي التواصل والتناصر ومنائح متظاهرة العوادي والروائح فِي التوافد والتوافر وأيادى مَلَأت الْأَيْدِي والآمال نجاة ونجاحا وعوارف عمرت منا وَمن أوليائنا الصُّدُور والقلوب انشراحا وارتياحا وَلَقَد أَتَانَا من الْملك مَا قَامَت لنا بِالْحَقِّ حجَّته ووضحت فِي نهج السَّعَادَة بنجح الْإِرَادَة محجته وأيدنا عَلَيْهِ بالنصر الْمَاضِي النصل والعز الْجَامِع

الشمل حَتَّى أذلّ لنا رِقَاب الْأَعْدَاء ومهد لنا وبنا أَسبَاب الْوَلَاء وملكنا قياد الْعباد وكف عَنَّا وبنا عنان ذَوي العناد وَجعل سُيُوفنَا وأقلامنا للأقاليم أقاليد وَفرق جموع الْكفْر ببأسنا أشتاتا عناديد بالفتوح الْأَبْكَار بصوارمنا الذُّكُور افتضاضها واقتضاؤها والحتوف نَحْو الْكفَّار بعزائمنا الْمُصِيبَة الْمضَارب فِي ضرب الْهَام وَطعن النحور انتهاضها وانتهاؤها وثغور الْإِسْلَام عَن ثنايا الثَّنَاء علينا ضاحكة الثغور وأوامرنا فِي إعلاء أَعْلَام الدّين منتظمة الْأُمُور وَالْجهَاد من جَمِيع جِهَات ممالكنا برا وبحرا متسق الجموع والتوحيد لقمع أهل التَّثْلِيث ثَابت الْأُصُول نامي الْفُرُوع وَالْحَمْد لله عودا بعد بداء على مَا وَالَاهُ من نعمه وأولاه وَأَعَادَهُ من منحه بَعْدَمَا أبداه {رب أوزعني أَن أشكر نِعْمَتك الَّتِي أَنْعَمت عَليّ وعَلى وَالِدي وَأَن أعمل صَالحا ترضاه} وَمن جملَة نعم الله سُبْحَانَهُ وأجملها وقوعا وأجلاها فِي الْجَلالَة طلوعا وأجدرها منا بالإخلاص وَالْحَمْد وَأَشْرَفهَا لنا فِي مطالع السعد وأوجبها لفرض الشُّكْر وأحراها بدوام الإشاعة والنشر أَنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شدّ أزرنا بأخينا الْملك الْعَادِل سيف الدّين نَاصِر الْإِسْلَام أبي بكر أدام الله علوه ورفعته وسموه وَنعمته وَبسط يَده وأيد بسطته ذِي الباع الطَّوِيل والطول الجزيل والصدر الرحيب والرأي الرَّاجِح الْمُصِيب وَالْجد المنيف الْمُنِير والأناة والحزم والثبات وَالْقَبُول الَّذِي وفر لَهُ فِي الْقُلُوب مواد المودات والجود الَّذِي ينهل جوده بإسعاف العافين من سَمَاء السماح والعاطفة الَّتِي تلْحق الراجين جنَاح النجاح والعارفة الفارعة والمعرفة الصادعة والهمة الصادقة والمهابة الرائعة الرائقة والسياسة الجامعة الْمَانِعَة والبسالة الَّتِي زلزل الْكفْر بأسها وتقوضت بهَا قَوَاعِد الْبِدْعَة وأساسها وَالتَّدْبِير الْمُوَافق فِي حفظ الممالك ونظم عقودها وَالنَّظَر الصائب الصَّادِق فِي تَرْتِيب الْمصَالح وصون حُقُوقهَا

وحدودها وَالْعدْل الَّذِي أوضح سنته وَأقَام بَين الرّعية فروضه وسننه والسيرة الَّتِي تحلى التواريخ بأيا من أَيَّامهَا وَترد بهَا الدولة مرامي مرامها والاعتقاد الَّذِي أنارت آفاقه من التَّوْفِيق بأنوار الخلوص وتوفر حَظه من عُمُوم تأييد الله عز وَجل إِيَّاه على الْخُصُوص فالملك بإيالته مُحكم الْقَوَاعِد مبرم المعاقد مستهل العهاد آهل الْمعَاهد والدولة بإدالته شَدِيدَة السواعد سديدة المساعد صَافِيَة الْمَوَارِد صَادِقَة المواعد وَالدّين بنصرته سامي الْقدر عالي الْأَمر نامي النشر وَالْإِسْلَام مِنْهُ بناصره زاه وَالْكفْر من بأسه بقامعه واه وَالْقدر بِقَضَاء الله تَعَالَى على مُوَافقَة أمره آمُر ناه وَالشَّرْع بمحافظته على أَحْكَامه وملاحظته أَسبَاب نظامه مفاخر مُبَاهٍ فَهُوَ الشَّقِيق الشفيق الَّذِي لإيثارنا يُؤثر ولرضانا يقْصد وعَلى مرادنا يجْرِي وَهُوَ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {وَاجعَل لي وزيرا من أَهلِي هَارُون أخي} {اشْدُد بِهِ أزري وأشركه فِي أَمْرِي} وَالْحَمْد لله الَّذِي عضدنا بمساعدته وأسعدنا بمعاهدته وأظهرنا بنجدته وأنجدنا بمظاهرته وأظفرنا بموافقته ووفقنا لمظافرته وَلما أنعم الله تَعَالَى علينا فِي هَذِه السّنة بالفتوح المستفاضة والممالك المستضافة وَحكم لنا فِي توسيع دَائِرَة المملكة بِالزِّيَادَةِ والأناقة وَفتح لنا الْبِلَاد وَملك من كل مَا رمناه القياد جرينا على أحسن الشيم فِي إحْيَاء سنة الْكَرم فَمَا فتحنا معقلا إِلَّا ويدنا لَهُ مالكة واهبة والحازم من يكون ذَا هبة للدنيا فَإِنَّهَا ذاهبه وَقد جعلنَا لأخينا الْملك الْعَادِل من الممالك الَّتِي تملكناها والبلاد الَّتِي فتحناها والمعاقل الَّتِي استضفناها أَو فِي نصيب وَأصْبح النجح منا لداعي رجائه أسْرع مُجيب ورأيناه أَحَق من كل بعيد وَقَرِيب وقلدناه أُمُور الْبِلَاد والمعاقل والثغور وفوضنا إِلَيْهِ فِيهَا جَمِيع الْأُمُور فبيده الْحل وَالْعقد والبسط وَالْقَبْض وَإِلَيْهِ

ذكر الرحيل من الكرك إلى دمشق

الْولَايَة والعزل والإبرام والنقض وَله القَوْل الثَّابِت وَالْأَمر النَّافِذ وَإِلَى فَضله يرجع العابد وَبعد لَهُ يلوذ العائذ وَنحن نرغب الله عز وَجل فِي أَن يوفقه وَيُؤَيِّدهُ ويسدده وسبيل الْأُمَرَاء والولاة والنواب والأعيان والرعية وَالْأَصْحَاب الانقياد لأَمره المطاع ومقابلة مراسمه بالامتثال والاتباع وَالرُّجُوع إِلَى بَابه والجري على حكم نوابه والنهوض إِلَى الْغَزَوَات فِي خدمَة ركابه والوفود فِي حَالَة الضراء إِلَى المربع المريع والمنبع المنيع من جنابه فَإِنَّهُ فسيح لأولياء بالآلاء وللأعداء بالأعداء ولديه كشف الغماء بالنعماء وَفِي مهاب المحاب مِنْهُ يضوع أرج الرَّجَاء وَمن شيمته الِاقْتِدَاء بسنتنا فِي بسط الْعدْل وَالْإِحْسَان وَقبض أَيدي الظُّلم والعدوان وإسداء الْمَعْرُوف وإيعاد الملهوف وإعلاء معالم الْمَعَالِي وتكثير حَسَنَات أَيَّامه لتكفير سيئات اللَّيَالِي والمجاهدة فِي سَبِيل الله رابط الجأش لتأليف الإيلاف من جيوش الرِّبَاط وَعمارَة الْبِلَاد بِحسن سيرته الَّتِي لم تزل مُسْتَقِيمَة على الْحُدُود فِي الْإِسْقَاط ومشايعة الشَّرِيعَة المطهرة فِي جَمِيع أَحْوَاله أخذا بِالِاحْتِيَاطِ مؤيدا بالنصر من الله والتأييد والتمكين حَتَّى تنسى فِي تِلْكَ الثغور غزوات سيف الدولة غزوات سيف الدّين ويحقق لجَمِيع الْمُسلمين قمع الْمُرْتَدين ويعلى كلمة الْإِسْلَام بِمَا يوليه من النَّصْر الظَّاهِر وَالْفَتْح الْمُبين وَكتب لَهُ فِي آخر المنشور تَفْصِيل مَا أنعم عَلَيْهِ بِهِ من حلب ومعاقلها ئم توجه إِلَى حلب فِي شهر رَمَضَان من السّنة ذكر الرحيل من الكرك إِلَى دمشق وَلما رأى السُّلْطَان أَن أَمر الكرك يطول وَأَن شهر الصّيام قد أظلهُ وَأَن الْعَسْكَر قد تَعب وَلَيْسَ مَعَه من آلَات الْحَرْب مَا يَكْفِي انْصَرف

ذكر وصول صدر الدين شيخ الشيوخ وشهاب الدين بشير من الديوان العزيز ووصول محيي الدين أبو حامد محمد بن القاضي كمال الدين بن الشهرزوري معهما رسولا عن صاحب الموصل

بعسكره رَاجعا إِلَى دمشق فَدَخلَهَا بعد أَيَّام واستبشر النَّاس بقدومه ذكر وُصُول صدر الدّين شيخ الشُّيُوخ وشهاب الدّين بشير من الدِّيوَان الْعَزِيز ووصول محيي الدّين أَبُو حَامِد مُحَمَّد بن القَاضِي كَمَال الدّين بن الشهرزوري مَعَهُمَا رَسُولا عَن صَاحب الْموصل وَذَلِكَ فِي ذِي الْقعدَة ذكر السَّبَب فِي ذَلِك وَلما عرف صَاحب الْموصل مَا تسنى للسُّلْطَان من فتح آمد وحلب وَغير ذَلِك من الْبِلَاد خَافَ على نَفسه وبلاده وَمَال إِلَى الاستعطاف فاستدعى من الدِّيوَان الْعَزِيز إرْسَال شيخ الشُّيُوخ للشفاعة إِلَى السُّلْطَان فوصل وَمَعَهُ بشير الْخَادِم وَندب صَاحب الْموصل مَعَهُمَا القَاضِي محيي الدّين أَبَا حَامِد مُحَمَّد بن مُحَمَّد الشهرزوري وَكَانَ قدومهم إِلَى السُّلْطَان فِي دمشق وَلما علم بقدومهم اسْتَقْبَلَهُمْ بالإكرام والإجلال والاحترام فَلَمَّا قرب بَعضهم من بعض نزل ونزلوا لَهُ ثمَّ ركبُوا جَمِيعًا فَأنْزل شيخ الشُّيُوخ بالرباط على المنيبع وَأنزل القَاضِي محيي الدّين فِي جوسق بُسْتَان الخلخال وَنزل شهَاب الدّين بشير جوسق صَاحب بصرى على الميدان ثمَّ أحضر السُّلْطَان شيخ الشُّيُوخ وَجرى بَينه وَبَينه أَحَادِيث شَتَّى فِي معنى صَاحب الْموصل واستخلاف السُّلْطَان على موصله وَمرَاده فَجرى من ابْن الشَّهْر زورى كَلَام فِيهِ اشتطاط وَاشْترط أَشْيَاء وَكَانَ السُّلْطَان فاتر الْعَزْم فِي الْعود إِلَى الْموصل فهاجه على الْمسير إِلَيْهَا ثمَّ أَمر لَهُم بالإكرام والتشريفات والنفقات والعطايا السّنيَّة ورحلوا فنزلوا على الْقصير فراجع

فصل من مصدرة

نَفسه الشَّرِيفَة وَقَالَ قد استحيينا من مسير شيخ الشُّيُوخ إِلَيْنَا مرّة بعد أُخْرَى ولابد من رِضَاء المواقف الشَّرِيفَة المقدسة فَركب فِي خَواص عسكره وأتى الْقصير فَنزل فِي خيمة صدر الدّين شيخ الشُّيُوخ ثمَّ كشف لَهُ عَن حَاله وَمَا جَاءَ بِهِ وَأَنه قد أَتَى ليحوز مراضي الدِّيوَان الْعَزِيز وَيكْتب نُسْخَة الْيَمين فِي الصُّلْح ففرح بذلك شيخ الشُّيُوخ فَرحا عَظِيما وَأرْسل إِلَى محيي الدّين بن الشَّهْر زوري يُعلمهُ بِالْأَمر ووصول السُّلْطَان لإِصْلَاح ذَات الْبَين بِجَوَاب الرسَالَة الإمامية فَلَمَّا رأى محيي الدّين بن الشهرزوري تواضع السُّلْطَان ترفع وَقَالَ أَنا بعد مَا جرى من الْحَال لَا رَغْبَة لي فِي الْحُضُور ولعلكم اعتقدتم أَنه لَيْسَ لنا مظَاهر وَلَا مؤازر وَأَشَارَ إِلَى سُلْطَان الْعَجم وبهلوان فَلَمَّا سمع السُّلْطَان ذَلِك تَبَسم وَقَامَ بعد وداع صدر الدّين وَرجع إِلَى دمشق فَكَانَ بهَا بَقِيَّة ذِي الْقعدَة وَذي الْحجَّة وَكَانَ قد عزم على الْجِهَاد والمسير إِلَى حِصَار الكرك عِنْد دُخُول سنة ثَمَانِينَ ووصلنا كتاب السُّلْطَان إِلَى مصر بتحريض وَالِدي الْملك المظفر وحثه على إِنْفَاذ العساكر المصرية للْجِهَاد وَذَلِكَ فِي الْعشْر الآخر من ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة فصل من مصدرة قد تقدّمت الْمُكَاتبَة إِلَى مجْلِس الْملك المظفر لازالت أَيَّامه بِالْملكِ وَالظفر منعوتة وَصَلَاة صلَاته بِالْحَمْد وَالْإِخْلَاص موقوتة وولاة ولائه مرموقة وعداة آلائه ممقوتة ومنايا مناوئية مَكْتُوبَة وشناة شانه مكبوتة وعرفناه مَا شَمل من نعم الله وفاض واستنار من لألاء آلائه واستفاض وَأَن الله أغاث بغيوث رَحمته وبغوث نعْمَته حَتَّى سَالَتْ أَوديتهَا وسفكت دِمَاء المحول بسيوف البوارق فَلَا يُقَال قودها أَوديتهَا فدم الْحَرْب مطلول وَسيف البارق مسلول

ذكر وقعة قراقوش الملكي المظفري في هذه السنة

وَمِنْهَا وَقد كاتبنا أُمَرَاء الْأَطْرَاف باستعدادهم لاستدعائهم وان يحزموا بِجمع العساكر أوامرهم لامرائهم فَمَا مِنْهُم إِلَّا من يسابق إِلَى تَلْبِيَة النداء ويسارع إِلَى إِجَابَة الدُّعَاء ويعشق وَلَا عشق لِقَاء الْأَحِبَّة لِقَاء الْأَعْدَاء وهم الْآن ينتظرون شتات شَمل الشتَاء وَإِذا رَأَوْا آذار مُقبلا أَقبلُوا فَإِنَّهُم مذ شاهدوا ضرع الْعَارِض حافلا احتفلوا وَأَجْمعُوا أَمرهم قبل الِاجْتِمَاع بأمرنا فعلوا بِمَا فعلوا وَالله عز وَجل يمد الْإِسْلَام بفتوح تفوح أرجاؤها بأريج الْعِزّ وَيُسمى للمجاهد فِي سَبيله مَا وعدهم من درج الْفَوْز وَقد عزمنا مَعَ خُرُوج شباط على الْمسير إِلَى حلب لِأَن هُنَاكَ العساكر يقرب اجتماعها والغنائم يتَحَقَّق اتساعها والمشاورات الصائبة يتدانى استماعها والهيبة فِي النُّفُوس تفخم والصيت فِي الْآفَاق يعظم ذكر وقْعَة قراقوش الملكي المظفري فِي هَذِه السّنة وفيهَا سَار شرف الدّين من جبل نفوسة إِلَى قابس فِي يَوْمَيْنِ وليلتين وَذَلِكَ مسيرَة ثَمَانِيَة أَيَّام واعتقد أَنه بقابض قابس أَو يهجمها فَلَمَّا وَصلهَا لم يقدر على ذَلِك وَأخذ الْقَصْد الَّذِي لَهَا على السَّاحِل وَفِيه يَبِيع الرّوم ويشترون واخذ مِنْهُ أَشْيَاء كَثِيرَة من أَمْتعَة وَفِضة وغلة وَغير ذَلِك وَأقَام عَلَيْهَا على قَرْيَة من قراها سَبْعَة أَيَّام وَوَصله فِي الْيَوْم الثَّامِن الثّقل الَّذِي لَهُ ورحل من الْقصر الْمَذْكُور وَنزل على قلعة حسن فَأَقَامَ عَلَيْهَا شهرا يدبر الْحِيلَة فِي أَخذهَا إِلَى أَن كَانَ فِي بعض اللَّيَالِي ساهرا

فأحضر خواصه وَمن يُشِير عَلَيْهِ وَقَالَ قد رَأَيْت أَن أعمل لهَذِهِ القلعة اللَّيْلَة عملا أَرْجُو أَن آخذها بِمَشِيئَة الله تَعَالَى فَقَالُوا وَمَا ذَلِك الْعَمَل الَّذِي يكون فَقَالَ إِن هَؤُلَاءِ ينزلون فِي كل يَوْم يُقَاتلُون أَسْفَل الوطاء وَأُرِيد أَن أكمن اللَّيْلَة ثَلَاثمِائَة فَارس من خلف هَذَا الْمِنْشَار واكون فِي الصُّبْح رجعا نَحْو الْقِتَال وَيكون بيني وَبَين الكمين إِشَارَة من دق كوس أَو ضرب بوق فَإِذا رجعت وَنزل الْقَوْم يُقَاتلُون استجررناهم وانكسرنا قدامهم فيطمعوا فِينَا فَإِذا بعدوا عَن الْموضع وهم لَا يَشْعُرُونَ أَن خَلفهم كمينا ضربنا حِينَئِذٍ البوقات دفْعَة وَاحِدَة فيركض أَصْحَابنَا من موضعهم فَلَا يكون لَهُم عمل إِلَّا أَنهم إِذا وصلوا إِلَى رَأس الْمِنْشَار الَّذِي يتَّصل بعقبة المطلع ترجلوا عَن خيلهم وطلعوا إِلَى القلعة لَا يبْقى فِيهَا من يقاتلهم وَإِذا رأى الْمُقَاتلَة ذَلِك انخذلوا فَإِذا رجعُوا منهزمين ركبنَا أكتافهم وَقَاتلهمْ أُولَئِكَ الَّذين صعدوا الطَّرِيق ومنعوهم من الطُّلُوع قتلناهم عَن آخِرهم أَو أَكْثَرهم وملكنا القلعة ثمَّ قَالَ يروح فلَان وَفُلَان حَتَّى عد ثَلَاثمِائَة وَأمرهمْ أَن يكمنوا بِحَيْثُ قَالَ فَلَمَّا أصبح ركب وزحف فَكَانَ مَا اعتقده من نزُول أهل القلعة وقتالهم فِي الوطاء واستجرهم وانكسر لَهُم فَلَمَّا أبعدوا ضرب الكوسات والبوقات فَأقبل الكمين من مَوْضِعه فَسبق إِلَى الطَّرِيق إِلَى القلعة وَأَقْبل الْمُقَاتِلُونَ فوجدوا الطَّرِيق قد ملكت عَلَيْهِم فانخذلوا وَوَقع فيهم السَّيْف فَملك أُولَئِكَ القلعة وَمَا احتاجوا إِلَى مساعد فَكَانَ عدَّة من قتل فِي ذَلِك الْيَوْم أَلفَيْنِ وثمان مائَة رجل من البربر وَترك البَاقِينَ واحتوى على القلعة وَمَا فِيهَا وغنم مِنْهَا أَمْوَالًا عَظِيمَة جمة فرقها على أَصْحَابه وَوجد فِيهَا

من الغلات شَيْئا عَظِيما وَكَانَ عِنْدهم بنفوسه غلاء فَأعْطى الأجناد مِنْهَا مَا أَقَامَ بهم بَقِيَّة سنتهمْ ورحل عَنْهَا وَنزل على قلعة يُقَال لَهَا أم أدوت وَهِي لَا يطْمع فِي قتالها فَأَقَامَ عَلَيْهَا أَيَّامًا وراسل أَهلهَا وَقَالَ لَهُم أُعْطِيكُم الْأمان على أَنفسكُم وَأَمْوَالكُمْ وأعطيكم من الضّيَاع مَا تُرِيدُونَ فَأَبَوا عَلَيْهِ وَلم يُعِيدُوا عَلَيْهِ جَوَابا فَأَقَامَ أَيَّامًا لَا يكلمهم وَلَا يراسلهم فأرسلوا إِلَيْهِ إننا نَفْعل مَا أمرتنا بِهِ وَأَعْطِنَا الْأمان على أَنْفُسنَا وَأَمْوَالنَا وَأَعْطِنَا مَا نريده من الضّيَاع كَمَا بذلت لنا فَقَالَ قد كَانَ ذَلِك وَأما الْآن فَمَا عِنْدِي لكم أَمَان إِلَّا على أَنفسكُم وَأَمْوَالكُمْ دون عَطاء ضيَاع فأمسكوا عَنهُ أَيَّامًا مَا أجابوه ثمَّ طلبُوا مِنْهُ الْأمان على الْأَنْفس وَالْأَمْوَال لَا غير ثمَّ لم يشْعر بهم إِلَّا وَقد نزلُوا إِلَيْهِ بأجمعهم بكرَة يَوْم من غير أَمَان وَلَا كَلَام فَعجب من عُقُولهمْ وَقَالَ كَيفَ نزلتم فَقَالُوا أَبيت أَن تُعْطِينَا الْأمان إِلَّا على أَنْفُسنَا وَمَا نَحن كفار نَخَاف الْأسر وَقد نزلنَا فَقَالَ مَا منعكم أَن تقبلُوا مَا أَعطيتكُم إِيَّاه أَولا وَثَانِيا فَقَالُوا سعادتك فَإنَّا تجلدنا فِي الأول ورجونا رحيلك وَمَا كَانَ عندنَا مَاء يكفينا فَلَمَّا امتنعنا واقمنا أَيَّامًا وَمَا رحلت رجونا أَنَّك تُعْطِينَا مَا تُعْطِينَا فِي الأول فَلَمَّا امْتنعت مِنْهُ طمعنا فِي الرحيل أَيْضا مثل الدفعة الأولى فَلَمَّا لم ترحل طلبنا الْأمان الثَّانِي فأبيت فَلم يبْق إِلَّا النُّزُول عِنْد فرَاغ المَاء فَأخذ القلعة وَمَا فِيهَا وَمَا كَانَ فِيهَا حَاصِل مثل قلعة حسن وَجعل بهَا نَائِبا وَلم تزل فِي يَده إِلَى أَن أَخذهَا من نَائِبه المايرقي وَأَخذهَا المايرقي بالعطش أَيْضا إِلَّا أَن المايرقي مَا رتب فِيهَا أحدا بل تَركهَا لأَهْلهَا الْأَوَّلين رَجعْنَا إِلَى الحَدِيث ثمَّ رَحل شرف الدّين قراقوش عَنْهَا وَعَاد إِلَى نفوسه وَهَذِه

القلعة بِالْقربِ من جِهَة مطماطة وَمن نفزاوة فَأَما الْحَمَامَة فَإِن الَّذِي يكون نازلا عَلَيْهَا يُشَاهد بساتين الْحَمَامَة وَأما نفزاوة فبينها وَبَين القلعة جبل يُسمى اللَّوْح ونفزاوة بَين بِلَاد كَثِيرَة يكون فِيهَا مَا يزِيد على أَربع عشرَة مَدِينَة وَلها نَحْو من مِائَتي ضَيْعَة وَكلهَا نخيل وزروع على الْعُيُون وَكَانَ فِيهَا مَدِينَة تسمى طرة وَإِلَى جَانبهَا مَدِينَة تسمى بيامن وَلها مقدم يُقَال لَهُ سيد النَّاس وَله أَخ يُقَال لَهُ الْمَنْصُور وَكَانَ بَينه وَبَين أهل بشتري مَدِينَة عَظِيمَة من مَدَائِن نفزاوة عَدَاوَة وَلما سمع بِقُوَّة شرف الدّين وتدويخه الْبِلَاد الَّتِي إِلَى جَانِبه أَرَادَ أَن يَجْعَل عِنْده يدا ويبلغ غَرَضه من أهل بشتري بيد شرف الدّين فكاتبه وراسله وَحلف أَن يسلم إِلَيْهِ طرة وبلمن وَمَا لَهما من ضيَاع ويعينه على ملك مَا فِي نفزاوة فَلَمَّا تحقق شرف الدّين مِنْهُ ذَلِك علم أَنه يملك ذَلِك إِذا دخل سيد النَّاس فِي طَاعَته وَكَانَ الحَدِيث بَينهمَا فِي أَيَّام الرّبيع وَكَانَ شرف الدّين ذَلِك الْوَقْت نازلا بالسَّاحل سَاحل طرابلس وَكَانَ قد وصل إِلَيْهِ من الديار المصرية جمَاعَة فيهم شُجَاع الدّين بن شكل وَقد فَرح بهم وَزَاد عسكره فَصَارَ نَحوا من ثَمَانِي مائَة فَارس من الأتراك والأكراد فَأعْطى ابْن شكل شُجَاع الدّين قصورا مَا بَين كِنْدَة والسويقة يكون فِيهِ أَرْبَعُونَ ضَيْعَة جعل لَهُ خَاصّا ولمماليكه مَعَه ثَمَانِيَة وَدخل الْموضع يكون قَرِيبا من أَرْبَعِينَ ألف

سنة ثمانين وخمس مائة

دِينَار مأمونية وَقَالَ إِذا فتح الله الْبِلَاد وملكناها أُعْطِيك مَا هُوَ أَكثر من هَذَا وَأعظم هَذَا بعد أَن خلع عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ خمسين جملا وَعشرَة من الْخَيل وَثَمَانِية ألف دِينَار وَسَار شُجَاع الدّين بن شكل مَعَه فاستغل الْموضع الَّذِي أعطَاهُ وَزَاد فِي استغلاله بحرابه ومصادره أَهله ومطالبتهم بِمَا لَا يقدرُونَ عَلَيْهِ فَرفع ذَلِك إِلَى شرف الدّين فَقَالَ هَذَا الْموضع قد أَعْطيته لَهُ فَلَا أنكده عَلَيْهِ إِن شَاءَ أَن يعمره وَإِن شَاءَ أَن يخربه وَلم يزل شرف الدّين فِي تِلْكَ الخطة إِلَى آخر السّنة الْمَذْكُورَة سنة ثَمَانِينَ وَخمْس مائَة فِيهَا تقدم الْخَلِيفَة إِلَى دَاوُد صَاحب الدِّيوَان أَن يخرج إِلَى الْكُوفَة ويعد نخيلها ويحقق عدده ويستوفى الْخراج من أَهلهَا وَيعْتَبر معاملاتها فَتوجه دَاوُد وَأقَام بهَا مُدَّة يسيرَة فَخرج أَهلهَا من بَين يَدَيْهِ وَجَاء جمَاعَة مِنْهُم إِلَى بَغْدَاد يستغيثون من يَده ويلازمون الْخَطِيب كل يَوْم جُمُعَة ويبالغون فِي الاستغاثة وَكثر ذَلِك مِنْهُم فبرز الْأَمر بإحضار صَاحب الدِّيوَان وَكَانَ قد نقل إِلَى أستاذ الدَّار ونائب الوزارة ابْن البُخَارِيّ أَن شيخ الشُّيُوخ يعرض على الْخَلِيفَة مكتوبات سرا فنسب ذَلِك إِلَيْهِ فَأخذ كل مِنْهُمَا يقبح فعله وَأما صَاحب الدِّيوَان فَإِنَّهُ حمل إِلَى ديوَان الزِّمَام فَجَلَسَ فِي الخزانة

الَّتِي فِي دهليز بَيت الخيش وَنفذ إِلَيْهِ ابْن البُخَارِيّ وطالبه بِأَلف دِينَار وَكَانَت بنت الْعَطَّار أُخْت ظهير الدّين زَوْجَة صَاحب الدِّيوَان واعتقد أستاذ الدَّار أَنه قد حصل لَهُ مِنْهَا شَيْء فنفذ إِلَيْهِ وضيق عَلَيْهِ فَكتب شيخ الشُّيُوخ إِلَى الْخَلِيفَة ثَبت الله دَعوته قصَّة يذكر فِيهَا أَن هَذَا دَاوُد كَانَ عِنْدِي فِي رباطي على قَاعِدَة الصُّوفِيَّة تقدم باستخدامه فِي الدِّيوَان الْعَزِيز وَقد اسْتغنى عَنهُ وَقد صرف وَقد وكل بِهِ فِي الدِّيوَان الْعَزِيز والمملوك يسْأَل مَالك الرّقّ أَن ينعم عَلَيْهِ بِهِ ويتقدم بِاسْتِيفَاء مَا قرر عَلَيْهِ من مَالِي فَتقدم الْخَلِيفَة بِأَن يسلم دَاوُد إِلَى شيخ الشُّيُوخ فَسلم إِلَيْهِ فأسكنه فِي دَار قريب من رباطه فَكَانَ لَا يزَال ملازما للرباط لَيْلًا وَنَهَارًا وَلَا يخرج مِنْهُ خوفًا من أستاذ الدَّار وفيهَا بذل أَبُو السُّعُود بن جَعْفَر ألفا وَخَمْسمِائة دِينَار على أَن يكون حَاجِب الْحجاب فَأذن لَهُ فِي ذَلِك وَكَانَ حَاجِب الْحجاب يَوْمئِذٍ بهاء الدّين أَبُو الْفَتْح ابْن الدارنج وَكَانَ ابْن البُخَارِيّ يتعصب لِابْنِ الدارنج فَسَأَلَ أَن يرتب ابْن الدارنج عَارض الْجَيْش الْمَنْصُور على أَن يُؤْخَذ مِنْهُ قَرْيَة للديوان الْمَعْمُور ألف وَخَمْسمِائة دِينَار فَأذن لَهُ فِي ذَلِك قريب ابْن جَعْفَر حَاجِب الْحجاب وَابْن الدارنج عَارض الْجَيْش وَكَانَ ذَلِك على غير اخْتِيَار ابْن البُخَارِيّ لِأَنَّهُ كَانَ يبغض ابْن جَعْفَر لِأَنَّهُ كَانَ مُفْسِدا كثير الشَّرّ فَلَمَّا اسْتَقل بالحجبة تقدم إِلَيْهِ أَن يكْتب فِي كل يَوْم مطالعة إِلَى أستاذ الدَّار بِجَمِيعِ مَا يجْرِي فِي الْمجْلس من قَلِيل وَكثير فَكَانَ حَاجِب حجاب وَصَاحب خبر وَكَانَ أستاذ الدَّار قد تغير على ابْن البُخَارِيّ النَّائِب لكَونه كَانَ يسمع عَنهُ أَنه يَخْلُو بِابْن الْكَرْخِي ويحدثه وَأَنه يذكر لَهُ أَشْيَاء يَقُولهَا للخليفة وَكَانَ ابْن الْكَرْخِي يَقُول للخليفة لَيْسَ لَك نَائِب وزارة مثله وَلَكِن مَاله حكم وَإِنَّمَا هُوَ غُلَام بَين يَدي أستاذ الدَّار وَلَو كشف عَن بَاطِنه رؤى قلبه قد دود من شدَّة مَا هُوَ عَلَيْهِ وَلَو مكنته كنت ترى الْعجب

وَكَانَ ذَلِك ينْقل إِلَى أستاذ الدَّار ابْن الصاحب من حَضْرَة الْخَلِيفَة وأستاذ الدَّار لَا يشْعر أحدا أَنه يعلم ذَلِك وفيهَا مَاتَ الشَّيْخ يُونُس وَكَانَ ابْنه نَائِب أستاذ الدَّار فِي ديوَان الْأَبْنِيَة المعمورة وَكَانَ مَوته فِي الدَّار الَّتِي بِرَأْس درب الدَّوَابّ وَاجْتمعَ لَهُ النَّاس لأجل وَلَده وَفتح لَهُ جَامع الْقصر وَحضر أَرْبَاب الدولة للصَّلَاة على جنَازَته وَحمل إِلَى قبر سلمَان الْفَارِسِي بِالْمَدَائِنِ فدفنوه هُنَاكَ على حُذَيْفَة بن الْيَمَان وَذكر ابْن يُونُس أَن لَهُم بحذيفة وصلَة نسب وَبنى عَلَيْهِ قبَّة حَسَنَة وفيهَا دخل الْخَلِيفَة ثَبت الله دَعوته الْمدرسَة النظامية لَيْلَة سبع وَعشْرين من رَمَضَان وَكَانَت لَيْلَة الختمة فَرَأى الْمدرسَة شعثة وَرَأى الإيوان الَّذِي بهَا شعثا وأرضها كَثِيرَة التُّرَاب غير مطبقة فَلَمَّا خرج مِنْهَا تقدم إِلَى أستاذ الدَّار ابْن الصاحب أَن يعمر النظامية من ديوَان الْأَبْنِيَة الْمَعْمُور وَيُطلق لَهَا جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فَتقدم إِلَى ابْن يُونُس أَن يتَوَلَّى عمارتها وإصلاحا فنفذ إِلَيْهَا الصناع وَجَمِيع الْآلَات وَجَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من حصر وَغَيره ورتب فِيهَا جمَاعَة من غلْمَان ديوَان الْأَبْنِيَة يحثون على الْعَمَل فغرم عَلَيْهَا مبلغ كَبِير وفيهَا خلع آل تنبه الشطرنجي أَمِير وَاسِط على جَمِيع عسكره كل وَاحِد قبَاء لونين فَكَانَت قبيحة فِي أعين النَّاس فَكَانَ أهل بَغْدَاد يعيبون عَلَيْهِ ذَلِك ويقبحونه وَكَانَ مفرطا فِي الشّرْب ذَا سيرة قبيحة وَكَانَ شرب ذَات لَيْلَة فَبلغ الْخَلِيفَة ثَبت الله دَعوته مَا هُوَ عَلَيْهِ من الْفُحْش والبطالة فَقَالَ لِابْنِ يحيى وَلأبي الْعِزّ ولنجاح الشرابي وَابْن الْكَرْخِي قومُوا بِنَا نمضى إِلَى عِنْد الشطرنجي نَنْظُر مَا هُوَ عَلَيْهِ من سوء حَاله وتدبيره وَكَانَ

الشطرنجي فِي دَار حَسَنَة فِي درب الدَّوَابّ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَهُوَ يشرب فَقَامَ وخدمه وَجلسَ بَين يَدَيْهِ فَأخذ مِنْهُ غَفلَة وضربه بِالسَّيْفِ فَقَامَ إِلَيْهِ وَقبض عَلَيْهِ وَأَرَادَ أَن يهلكه وَكَانَ الشطرنجي أقوى مِنْهُ فَقَامَ أقش مَمْلُوك الشطرنجي وساعد أَمِير الْمُؤمنِينَ صلوَات الله عَلَيْهِ وخلصه مِنْهُ فَضَربهُ ضَرْبَة أُخْرَى فَقتله فِي وسط الدَّرْب وَتقدم إِلَى بعض الخدم أَن يُؤْخَذ ويرمى من سَاعَته فِي دجلة وبقى الدَّم فِي مَوضِع قَتله فَكَانَ أهل بَغْدَاد فِي صَبِيحَة ذَلِك الْيَوْم يأْتونَ سرا إِلَى بَاب الشرطنجي وَيَنْظُرُونَ مَوضِع قَتله وَجَاء جمَاعَة من الجباة إِلَى بَاب النوبي نصف اللَّيْل فَقَامَ المستخدم الْمُوكل بِهِ وَقَالَ مَا الْخَبَر فَقَالُوا خُذ هَذِه الرقعة وَسلمهَا إِلَى أستاذ الدَّار فَأخذ الرقعة وَحملهَا إِلَى أستاذ الدَّار فَوقف عَلَيْهَا فَضرب بِإِحْدَى يَدَيْهِ على الْأُخْرَى وَقَالَ لَا حول وَلَا قُوَّة وانزعج واستعظم النَّاس هَذِه الْحَال وصاروا يخَافُونَ الْخَلِيفَة وحصلت لَهُ الهيبة فِي قُلُوب النَّاس وَلما أصبح الْخَلِيفَة تقدم إِلَى أئتاذ الدَّار بِالْقَبْضِ على جَمِيع أَصْحَاب الشطرنجي وأسبابه وَأخذ جَمِيع مَا كَانَ فِي دَاره وَأمر بإحضار أقش مَمْلُوك آل تنبه الشطرنجي فَأعْطى خمس مائَة دِينَار وخلع عَلَيْهِ ورسم أَن تكون هَذِه جَارِيَة عَلَيْهِ مستمرة فِي كل سنة يَأْخُذهَا من الدِّيوَان ثمَّ برز الْأَمر بِأَن تُعْطى وَاسِط وأعمالها وبلادها لمجاهد الدّين خَالص الْخَادِم وَأَن يكون فِيهَا على مَا كَانَ آل تنبه الشطرنجي فَوَقع بهَا لَهُ وَكَانَ لآل تنبه أَخ مَمْلُوك يُقَال لَهُ آق سنقر من جملَة مماليك الْخَلِيفَة وَكَانَ مستحسنا فَتقدم الْخَلِيفَة بِأَن يخلع عَلَيْهِ وَأَن يُعْطي الدَّار الَّتِي فِي درب نصير وَكَانَت

تعرف بفلك الدّين أَمِير الْبَصْرَة وَكَانَت دَارا جميلَة وَتقدم إِلَيْهِ أَن يكون ملازما للبدرية وَأَن لَا يمْضِي إِلَى مَوضِع إِلَّا بِإِذن وفيهَا رتب ابْن يُونُس وَكيل الْبَاب الشريف عوضا عَن أَبِيه وَكَانَت لَهُ مطالعة تعرض بَين يَدي الدواة الشَّرِيفَة وفيهَا رتب ابْن حمدون مشرفا فِي ديوَان الْأَبْنِيَة وفيهَا كثر قَول ابْن يُونُس فِي أستاذ الدَّار ابْن الصاحب وَكَذَلِكَ عز الدّين الشرابي وَجَمَاعَة مِمَّن تحضر الْخدمَة الشَّرِيفَة وَكَانُوا يرَوْنَ أَن مَتى أستاذ الدَّار رَجَعَ رَجَعَ الْأَمر إِلَيْهِم وَكَانَ الْخَلِيفَة شَدِيد الْخَوْف من أستاذ الدَّار وَكَانَ قد أثر فِي نَفسه قَول أُولَئِكَ الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ وَكَانَ يرى نَفسه أَنه محجوز عَلَيْهِ وَكَانَ لَا يَجْسُر أحد أَن يتظاهر إِلَّا بمتابعة أستاذ الدَّار وفيهَا خرج الْخَلِيفَة وَمَعَهُ جمَاعَة مِنْهُم أَبُو الْحسن بن الْكَرْخِي وَأَبُو الْعِزّ وَمُحَمّد بن يحيى وَعلي بَين أبي الْكَتَائِب والمقرب عَليّ بن ذُبَابَة الْفراش وَيحيى القواس إِلَى قَرْيَة تعرف بِالْحَسَنَة من أَعمال طَرِيق خُرَاسَان فَنزل فِي دَار رئيسها ابْن سرخاب وَكَانَ أَيْضا ينزل فِي نَاحيَة توهرت فِي دَار رئيسها ابْن معالي وَكَانَ ابْن معالي حِينَئِذٍ نَاظرا فِي طَرِيق خُرَاسَان فَخرج بِتِلْكَ الْجَمَاعَة الْمَذْكُورَة لرمي الطير بالبندق وَتقدم إِلَى الْجَمَاعَة أَن يرموا لَهُ وَإِن كَانَ هُوَ

أصل هَذَا الْأَمر وَمن أَقْوَال رُمَاة البندق أَن بزر جمهر وَزِير كسْرَى أنو شرْوَان كَانَ لَهُ أصل فِي هَذَا الْأَمر وميل عَظِيم لَهُ وتكلف النَّاس ذَلِك وَصَارَ لَهُم فِيهِ قَول مضبوط مَحْفُوظ واحتراز من الْكَذِب فصرع أستاذ الدَّار أَبُو الْفضل بن الصاحب فِي ذَلِك الْمقَام طيرا وَرمى للخليفة وَتَابعه جمَاعَة من الْأُمَرَاء وَغَيرهم من النَّاس وفيهَا حضر أَمِير الْمُؤمنِينَ النَّاصِر لدين الله أَمِير الْمُؤمنِينَ صلوَات الله عَلَيْهِ فِي بُسْتَان تَاج الدّين بن رَئِيس الرؤساء الَّذِي هُوَ ملاصق للبيمارستان العضدي فَاسْتَحْسَنَهُ فَتقدم إِلَى أستاذ الدَّار بِأَن يَشْتَرِيهِ من أَوْلَاد تَاج الدّين فنفذ أستاذ الدَّار إِلَيْهِم وعرفهم الْحَال وأحضر إِلَيْهِم الشُّهُود وَاشْترى مِنْهُم الْموضع بثلاثمائة دِينَار فَكَانَ أَوْلَاد تَاج الدّين يرَوْنَ هَذِه الْوَاقِعَة أَنَّهَا من أستاذ الدَّار وَكَانَ فِي الْموضع دَار مستحسنة فَأمر الْخَلِيفَة بهدمها وَأمر بعمارة دَار أحسن مِنْهَا فعمرت على أحسن مَا تكون من الْعِمَارَة وَكَانَ الْخَلِيفَة يخرج بعض الْأَوْقَات إِلَى ذَلِك الْبُسْتَان للتفرج والتنزه لِأَن الْموضع كَانَ على شاطئ دجلة وفيهَا توفيت أم أبي الْفضل بن الصاحب أستاذ الدَّار العزيزة وَكَانَ يَوْم مَوتهَا يَوْمًا مشهودا وَحضر لموتها جَمِيع أَرْبَاب الدولة وَأَرَادَ أَن يُخرجهَا أستاذ الدَّار لَيْلًا فَلم يُمكن من ذَلِك وَأمر بإخراجها نَهَارا وبرز

الْإِذْن بالتقدم إِلَى أَرْبَاب الدولة بِحُضُور جنازتها والمضي خلفهَا فَحَضَرَ جَمِيع أَرْبَاب الدولة وأكابر بَغْدَاد وَنفذ ابْن البُخَارِيّ نَائِب الوزارة وَسَأَلَ أَن يُؤذن لَهُ بالحضور فَلم يُؤذن لَهُ فِي ذَلِك وَحضر جَمِيع الْأُمَرَاء والمماليك الْخَواص وَحضر جمَاعَة الْقُرَّاء إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز وَصلى عَلَيْهَا الشَّيْخ أَبُو طَالب بن الْخلّ وَجَمِيع من فِي الدَّار وَأَرَادُوا أَن يخرجُوا التابوت من الدَّار فَلم يقدروا على إِخْرَاجه من كبره فنقض حَائِط الإيوان مِمَّا يَلِي الْبَاب وَأخرج مِنْهُ التابوت وَركب أستاذ الدَّار وأرباب الدولة مشَاة بَين يَدَيْهِ وَجَمِيع النَّاس وَكَانَ فِي ركابه حُدُود من خَمْسمِائَة سيف مَشْهُورَة إِلَى أَن أشرف على دجلة فَنزل فِي سمارية خَفِيفَة وَعَلَيْهَا قبَّة سَوْدَاء ومشدة فِي رَأس الْقبَّة وَركب بعض النَّاس فِي السفن وَبَعْضهمْ على الطَّرِيق وَكَانَ يَوْمًا لم يذكر لأحد بِمثلِهِ فَسَارُوا فِي دجلة إِلَى مشرعة مشْهد بَاب التِّبْن وَهُوَ مشْهد مُوسَى بن جَعْفَر على ساكنه أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام ومشي ومشي النَّاس بَين يَدي أستاذ الدَّار من مشرعة المشهد إِلَى الحفرة وَكَانَ شمس الدّين الركاب سلار بَين يَدَيْهِ قَابِضا على عنان المركوب ثمَّ حملت الْجِنَازَة إِلَى قبر مُوسَى بن جَعْفَر ودفنت فِي الحضرة وَكَانَ الْخَلِيفَة هُوَ وَجَمَاعَة من المماليك الْخَاص فِي دَار للشرابي مشرفة على شاطئ دجلة وَكَانَ عِنْد مدرسة السُّلْطَان مَسْعُود يُشَاهد تِلْكَ الْأَحْوَال سائرها وَرجع أستاذ الدَّار إِلَى دَار الْخلَافَة وَأمر النَّاس أَن لَا يَأْتِي مِنْهُم أحد للعزاء وَلما رَجَعَ أستاذ الدَّار إِلَى منزله أرسل إِلَيْهِ الْخَلِيفَة بأطباق من طَعَام

ذكر مكرمة شيخ الشيوخ

وانفذ لَهُ خلعة وتشريفا جميلا وَقَالَ لَهُ اركب حَتَّى تمْضِي إِلَى الصَّيْد وَلَا تجْلِس للعزاء وفيهَا توفّي نَاصِر الدّين بن شيخ الشُّيُوخ وَكَانَ شَابًّا جميلا مستحسنا وَكَانَ أكبر بنيه وَذَلِكَ فِي شهر رَمَضَان من السّنة ذكر مكرمَة شيخ الشُّيُوخ كَانَ شيخ الشُّيُوخ جَالِسا على الطَّبَق مَعَ الصُّوفِيَّة وَقت الْإِفْطَار فَجَاءَهُ بعض الصُّوفِيَّة وساره فِي أُذُنه على الطَّعَام فَسجدَ سَجْدَة طَوِيلَة ثمَّ رفع رَأسه وَأكل مَعَ الصُّوفِيَّة إِلَى أَن استوفوا الطَّعَام على جاري عَادَتهم ثمَّ تقدم إِلَى خَادِم الصُّوفِيَّة بإحضار حلوى فأحضرت فَلَمَّا علم أَن النَّاس قد قضوا حَاجتهم من الطَّعَام والحلوى قَالَ عَن إذنكم فَإِن وَلَدي قد مَاتَ فَلَمَّا كَانَ صَبِيحَة ذَلِك الْيَوْم شرع فِي تَجْهِيزه وغسله وتكفينه وَهُوَ جَالس فِي وسط النَّاس يتحدث على جاري عَادَته ويضحك مَعَ النَّاس وتعجب النَّاس من صبره وَحسن طَرِيقَته وَتقدم الْخَلِيفَة إِلَى أستاذ الدَّار بإنفاذ جَمِيع الْقُرَّاء إِلَى رِبَاط شيخ الشُّيُوخ لحضور موت وَلَده وَأَن يمضوا مَعَ الْأُمَرَاء والمماليك الْخَاص وَكَانَ يَوْمًا مشهودا وفيهَا تقدم الْخَلِيفَة بعمارة دَار الْفلك وَكَانَ الْفلك رجلا ضريرا معنى وَكَانَ قد مَاتَ فِي أَيَّام الدولة المستضيئة سقى الله عهودها الرضْوَان وَكَانَ يلقب بالفلك وَكَانَ مِمَّن يحاضر الإِمَام المستضئ بِأَمْر الله فَلَمَّا مَاتَ لم يكن لَهُ وَارِث إِلَّا بَيت المَال فَأمر الْخَلِيفَة صلوَات الله عَلَيْهِ فِي أَيَّامه بعمارة دَار الْفلك الضَّرِير فوطئت أرْضهَا ودكت وَأمر بِحُضُور ابْن العويلة وأستاذ الدَّار

إِلَى هَذِه الدَّار الْمَذْكُورَة وَقَالَ أُرِيد أَن تقسم هَذِه الدَّار وَأَنا حَاضر فإنني قد كرهت عدَّة دور لأجل قسمتهَا فَقَسمهَا مُتَقَدم البنائين وأستاذ الدَّار فَأبْطل مَا قسموه جَمِيعًا وَأخذ ورقة بَيَاض كَبِيرَة وَخط فِيهَا صُورَة الدَّار وَتقدم إِلَى أستاذ الدَّار أَن لَا يُمكن أحدا من عمَارَة إِلَى أَن يفرغ من هَذِه الدَّار فَجمع إِلَيْهَا جَمِيع الصناع والأمانين والنجارين فَلم يتَخَلَّف أحد من الصناع بِبَغْدَاد إِلَّا وَحضر إِلَيْهَا وَتقدم الْخَلِيفَة أَن يحضر الْحَاجِب ابْن مُسَافر وَيُؤمر بِأَن يزوق بَيت الخيش الَّذِي يَلِي الشط صُورَة جمَاعَة يذكرُونَ فأحضر ابْن مُسَافر إِلَى دَار الْفلك وَقيل لَهُ أَن يصور صُورَة مَمْلُوك أحضروه عِنْده فقله على الْحَائِط مثله من غير أَن ينقصهُ شَيْئا فَلَمَّا حضر الْخَلِيفَة ورآي تِلْكَ الصُّورَة أَعْجَبته صَنعته فَأمره بِأَن يلازم الْمَكَان فَقَالَ ابْن مُسَافر أُرِيد أَن يكون معي غُلَام مَعَه زبدية الأصباغ ويناولني مَا أُرِيد فَقَالُوا لَهُ إختر من أردْت فَقَالَ أُرِيد معتوق النَّقِيب وَكَانَ من نقباء الدِّيوَان الْعَزِيز فنفذ إِلَى معتوق وأحضر وَكَانَ طوال النَّهَار على الْخشب رَاكِبًا وَكَانَ الْخَلِيفَة يدْخل ويضحك عَليّ ابْن مُسَافر ورفيقه النَّقِيب فَلَمَّا فرغت الدَّار أَمر الْخَلِيفَة أَن يخلع على ابْن مُسَافر وعَلى معتوق رَفِيقه ورسم أَن يرتب ابْن مُسَافر حَاجِب منْطقَة وَزَادُوا معتوقا فِي معيشته وَأمر الْخَلِيفَة الفراشين بِغسْل دَار الْفلك وَأَن ينْقل إِلَيْهَا من ال فرش جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الْآنِية وَغير ذَلِك ورتب فِيهَا مُحَمَّد بن جِلْدك فراشا وَمَعَهُ جمَاعَة من الفراشين وزخرفت الدَّار بِالذَّهَب وَالْفِضَّة حَتَّى ذكر أَنه لم يعمر مثلهَا وَكَانَ الْخَلِيفَة إِذا أَرَادَ أَن يصعد إِلَيْهَا من دجلة وقف النَّاس يرقبون صُعُوده فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ لِأَن بَين دَار الْفلك ودجلة خطوَات فَتقدم فَأمر بِأَن يعمر حائطان مشرفان من بَاب دَار الْفلك إِلَى شاطئ دجلة فَيكون مثل الدَّرْب وَيجْعَل فِيهَا طَرِيق للْمُسلمين بِحَيْثُ إِذا صعد

لَا يبصره أحد ورتب فِي الدَّار جمَاعَة كَثِيرَة لحفظها وَجعل لهَذِهِ الدَّار حُرْمَة كَحُرْمَةِ التَّاج الشريف وفيهَا تقدم الْخَلِيفَة بِأَن يعمر للشَّيْخ عبد الْجَبَّار مُتَقَدم الفتيان صومعة تَحت بَغْدَاد يكون دائرها سور داير فعمرت وانتقل إِلَيْهَا الشَّيْخ عبد الْجَبَّار وَصَارَ الْخَلِيفَة يكثر التَّرَدُّد إِلَى عِنْده والْحَدِيث فِي الفتوة وَمَعْرِفَة الفتيان وَكَانَ النَّاس يمضون إِلَى الشَّيْخ عبد الْجَبَّار ويزورونه ويخدمونه ويتقربون إِلَيْهِ الْأَجَل الْخَلِيفَة ثَبت الله دَعوته وَكَانَ الْخَلِيفَة إِذا أَتَى إِلَى عبد الْجَبَّار رأى عِنْده الْعقَاب نسيبه وَهُوَ ملازمه فَصَارَ الْعقَاب يتحدث مَعَ الْخَلِيفَة ويحضر عِنْده وَيَأْتِي إِلَيْهِ وَكَانَ بِبَغْدَاد رجل يُقَال لَهُ دَاوُد بن سَمُرَة مُتَقَدم فتيَان جمَاعَة فَأَرَادَ الْخَلِيفَة أَن يحضر عِنْده وَيسمع كَلَامه عِنْده وَمَال إِلَى كَلَامه وَقرب لَدَيْهِ وَصَارَ الْخَلِيفَة ينفذ إِلَيْهِ يحضر عِنْده فِي البدرية ويتبسط مَعَه وَكَانَ عبد الْجَبَّار لَا يسره ذَلِك وَلَا يشتهيه وَكَذَلِكَ الْعقَاب وَعبد الْجَبَّار أَيْضا مَا كَانَ يسرهم ذَلِك والخليفة لَا يعلم حَقِيقَة ذَلِك وَكلما جَاءَ دَاوُد بن سَمُرَة كثر عِنْد الْخَلِيفَة وَزَاد مَوْضِعه وَصَارَ خَلفه حُدُود عشرَة ألف رجل ينسبون إِلَيْهِ وَخَافَ مِنْهُ عبد الْجَبَّار وجماعته وَفِي هَذِه السّنة سَأَلت أم الْخَلِيفَة أَن يُؤذن لَهَا فِي زِيَارَة مشْهد سر من رأى على ساكنه السَّلَام ومشهد صندوديا فَتقدم الْخَلِيفَة إِلَى المخزن الْمَعْمُور أَن يعْمل لَهَا مَا تحْتَاج من الْإِقَامَة وَتقدم إِلَى ابْن يُونُس الْوَكِيل بِبَاب الْحُجْرَة الشَّرِيفَة أَن يكون على عزم السّفر وَأَن يتسلم جَمِيع مَا عمل للسَّفر وَأَن يتَقَدَّم إِلَى جَمِيع الْعَسْكَر والمماليك أَن يَكُونُوا فِي الْخدمَة وَأَن يُنَادي فِي جَمِيع الْعَسْكَر أَن الْخَلِيفَة فِي الصُّحْبَة للزيارة فأخرجت الخيم وَالْمُضَارب والنوتيات وَخرج الْخَلِيفَة وَأمه إِلَى الزِّيَارَة وَكَانَ يركب

ويتصيد والعسكر فِي خدمته وَهُوَ غير متظاهر وَكَانَ الْأَمِير عماد الدّين طغرل مَعَه وَكَانَ الْخَلِيفَة يفرق كل يَوْم على الْأُمَرَاء صناديق الحلاوات وأصناف المأكل والفاكهة وَابْن يُونُس يتَوَلَّى ذَلِك جَمِيعه وَكَانَ على ابْن أبي الْكَتَائِب ويوسف بن عنبر وَأَبُو الْعِزّ وَمُحَمّد بن يحيى وَأَبُو الْحسن ابْن الْكَرْخِي والطاهر شرف الدّين أَبُو الْفضل بن الطَّاهِر نقيب الطالبيين وَكَانَ الْخَلِيفَة يدْخل للزيارة هُوَ وَأمه وَلَا يُمكن أحد من الدُّخُول إِلَى الزِّيَارَة إِلَّا بعد خروجهما وَأنْفق من الْأَمْوَال حدودا من عشْرين ألف دِينَار وَكَانَ سعود الْخَادِم مُتَوَلِّي دجيل فَكَانَ ينفذ فِي كل يَوْم إِلَى الْعَسْكَر إِقَامَة من شعير وتبن وأغنام وأبقار وَغير ذَلِك أَشْيَاء كَثِيرَة وَكَانَ جَمِيع من كَانَ عِنْد الْخَلِيفَة مَنْسُوبا إِلَى أستاذ الدَّار ابْن الصاحب يذكر جَمِيع مَا يجْرِي يَوْمًا فيوما وَسَاعَة بساعة وَعَاد الْخَلِيفَة دَامَ ظله من تِلْكَ الزِّيَارَة وَمن مَعَه من الْأَصْحَاب والأمراء فِي السفن إِلَى تَحت التَّاج من بَاب الْبُشْرَى وَكَانَ جمَاعَة من المماليك والأمراء يذمون ابْن يُونُس ويقبحون ذكره لكَونه كَانَ الْخَلِيفَة يَأْمُرهُ أَن يُعْطي النَّاس فَكَانَ يُعْطي قَلِيلا حَتَّى إِنَّه رد من صناديق الْحَلْوَى والأطعمة كثيرا فَعلم الْخَلِيفَة بذلك فَأنْكر عَلَيْهِ وَفرق جَمِيع ذَلِك على دور الْأُمَرَاء والمماليك وأرباب الدولة وَكَانَ الْخَلِيفَة قد تقدم إِلَى أستاذ الدَّار أَن يعمر مشْهد سر من رأى وَأَن يشيده وَينفذ إِلَيْهِ فرشا وبسطا وَجَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ أَيْضا فعل بمشهد صدوديا وَأَن يعْطى جَمِيع المجاورين بِهَذَيْنِ المشهدين ثَلَاثَة ألف دِينَار وَأعْطى مشْهد مُوسَى بن جَعْفَر على ساكنه السَّلَام ألف دِينَار لعمارته وَخمْس مائَة دِينَار تفرق على ساكنيه وفيهَا عمرت أم الْخَلِيفَة مَسْجِدا بمشرعة السقائين على شاطئ دجلة

بمشرعة الحطابين وغرمت عَلَيْهِ جملَة كَبِيرَة وَقَالَت لَا يُصَلِّي فِيهِ إِلَّا رجل حنبلي فأحضر إِلَيْهَا من بَاب الأزج مقرئ جيد فَأمرت بِهِ أَن يحمل إِلَى بَاب الْحُجْرَة وَأَن يخلع عَلَيْهِ فَفعل بِهِ ذَلِك وَجعل إِمَامًا لذَلِك الْمَسْجِد وفيهَا تقدّمت أم الْخَلِيفَة بعمارة مشْهد لرجل يُقَال لَهُ الشَّيْخ عَليّ بن الهيتي ورباطا هُنَاكَ فَعمل لَهُ قبَّة عَجِيبَة الْبناء وَكَانَ هَذَا الشَّيْخ عَليّ بن الهيتي رجلا صَالحا يَحْكِي عَن عماد الدّين بن رَئِيس الرؤساء أَنه خرج من بَغْدَاد وَتوجه إِلَى نَاحيَة زويدان لتلقي الْحَاج وَكَانَ مَعَه ابْن يُوسُف الدِّمَشْقِي الْوَاعِظ فَقَالَ ابْن يُوسُف لعماد الدّين ابْن الْوَزير إِن الشَّيْخ عَليّ الهيتي كَبِير السن فِي عشر التسعين فَقَالَ عماد الدّين لَا يعقل بل يكون لَهُ سبعين أَو فِي عشر السّبْعين ثمَّ خَاضُوا فِي حَدِيث غَيره إِلَى أَن وصل الوزيران وجاءا إِلَى الشَّيْخ عَليّ بن الهيتي وَهُوَ يُصَلِّي الْعَصْر وَقد سبق الْعِمَاد بِرَكْعَة وَاحِدَة فَلَمَّا دخل مَعَه فِي الصَّلَاة وَفرغ من صلَاته تقدم عماد الدّين ليَأْخُذ يَده ويصافحه فَلَمَّا ترك يَده فِي يَده قَالَ لَهُ أَنْت على الصَّحِيح فِي عشر السّبْعين نَحن قَالَ الْعِمَاد فَقبلت يَده وَعلمنَا أَنه صَاحب كرامات ثمَّ إِن أم الْخَلِيفَة لما أكملت بُنيان تِلْكَ الْقبَّة أوقفت عَلَيْهَا قَرْيَة جميلَة يكون ارتفاعها خَمْسمِائَة دِينَار وحملت إِلَيْهَا جَمِيع مَا تحْتَاج إِلَيْهِ من فرش وقناديل من جُمْلَتهَا قنديلان أَحدهمَا فضَّة وَالْآخر ذهب ثمَّ عملت على قَبره لما مَاتَ صندوقا من الساج وغرمت عَلَيْهِ جملَة كَبِيرَة وكتبت اسْمهَا على داير الصندوق هَذَا مَا أوقفته بَحر درة أَمِير الْمُؤمنِينَ وفيهَا تقدم الْخَلِيفَة إِلَى أستاذ الدَّار أَن يعمر لَهُ دَارا فِي نَاحيَة حسناباذ

من مُعَاملَة نهر ملك وَتقدم إِلَيْهِ بِأَن يعجل فِي عَملهَا فَجمع إِلَيْهَا جمَاعَة من الصناع وَحشر إِلَيْهَا أَرْبَاب الصَّنَائِع ففرغت فِي مُدَّة يسيرَة وَكَانَ يخرج وَمَعَهُ جمَاعَة لرمي البندق ويلبس ثِيَاب الرُّمَاة يَرْمِي مَعَ جمَاعَة مِنْهُم لَيْلًا وبكرة وَعَشِيَّة وَكَانَ يجد الْمَشَقَّة فِي ذَلِك ويلبس قميصين من قطن أَزْرَق وَيفْعل ذَلِك بِيَدِهِ أَيَّام الرَّمْي وفيهَا أحضر جمَاعَة من قباض الْحمام مثل ابْن الدوامي وَابْن جَابر صَاحب المخزن وَابْن رزين وَغَيرهم من المعروفين بلعب الْحمام وَأمرهمْ أَن يقبضوا مِنْهُ فَفَعَلُوا ذَلِك وَتقدم إِلَى أَصْحَابه أَن يعمروا مبارح ودورا للحمام وَكثر ذَلِك وَصَارَ كل من يُرِيد الْقرب من الْخَلِيفَة يتَقرَّب إِلَيْهِ بِأَن يقبض مِنْهُ الْحمام ولأصحاب الْحمام فِي ذَلِك قَول مَحْفُوظ إِذا حلف أحدهم يَقُول أَصْحَاب الْحمام لزمَه ذَلِك فَلَا يكذب أبدا لقَوْله فِي الفتوة وَرمي البندق ثَلَاث خِصَال لَا يقدر أحد أَن يكذب بهَا وفيهَا تقدم عِنْده شمس الدّين عَليّ بن أبي الْكَتَائِب الْمَعْرُوف بالخواجا وَكَانَ يخْدم الْأُمَرَاء وَكبر أمره عِنْد الْخَلِيفَة والأمراء وقربه وَأَدْنَاهُ وَجعل حَدِيث الْأُمَرَاء مَعَه وَكَانَ رجلا كيسا بغداديا دمثا يتمسخر للخليفة ويتطاول حِين يبسطه وَكَانَ الْمَذْكُور حسن المحاضرة كريم الطَّبْع وَحسن حَاله وزادت مَنْزِلَته وتضاعفت حرمته وَكَانَ مسموع القَوْل عِنْد الْخَلِيفَة عَظِيم الْقدر عِنْد أَرْبَاب دولته وَكَانَ إِذا سَأَلَ الْخَلِيفَة بِأَيّ أَمر أَجَابَهُ حَتَّى إِنَّه كَانَ يسْأَله فِي إِطْلَاق من وَجب عَلَيْهِ قتل أَو صَاحب جِنَايَة ويشفع فِيهِ فيشفعه

وفيهَا صعد رجل شَاب على سطح ابْن البُخَارِيّ اسْمه مُحَمَّد الْفراش وَقد انحل حَبل البرادة وَكَانَت طَوِيلَة ملساء فَجعل يُكَلف نَفسه الصعُود لتِلْك الْخَشَبَة وصعدها وَعمل الْحَبل فِي البكرة وَنزل وَكَانَ فِي تِلْكَ السَّاعَة أستاذ الدَّار ابْن الصاحب على سطح دَاره فشاهد هَذِه الْحَال من الْفراش وَبعد أَيَّام نزل إِلَى الدِّيوَان من فتح خزانَة المَال الَّتِي للخليفة وَأخذ خرقَة فِيهَا سبع مائَة دِينَار فَتقدم بِأخذ الخازن والفراشين الَّذين للديوان وعرضهم على الضَّرْب وَكَانَ الخازن رجلا شَيخا كَبِيرا مَا عرف لَهُ وَلَا سمع عَنهُ إِلَّا الْخَيْر وَكَانَ قَرِيبا لأستاذ الدَّار ابْن الصاحب وطولب الخازن بِالذَّهَب وصعب ذَلِك على أستاذ الدَّار كَيفَ تجْرِي مثل هَذِه الْوَاقِعَة فِي ديوَان الْخَلِيفَة فِي أَيَّام ولَايَته فأحضر غلْمَان الدِّيوَان وسألهم عَن هَذِه الْحَال فَقَالُوا لَهُ الَّذِي قد فعل هَذَا قد أَخذ حبلا وشده فِي كَنِيسَة الدِّيوَان وَنزل وَفتح المخزن وَأخذ الذَّهَب وَرجع فَصَعدَ بالحبل فَقَالَ أستاذ الدَّار إِنَّنِي كنت من أَيَّام على سطح دَاري رَأَيْت على سطح ابْن البُخَارِيّ صَبيا فراشا قد صعد فِي حَبل وَتعلق بِهِ وَترك الْحَبل فِي البكرة الَّتِي فِي خَشَبَة البرادة أريده السَّاعَة فنفذ إِلَى ابْن البُخَارِيّ فَسَأَلَ عَن ذَلِك الصَّبِي فَقيل إِنَّه هُوَ مُحَمَّد الْفراش فنفذه إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ أستاذ الدَّار أَيْن الذَّهَب الَّذِي أَخَذته من الدِّيوَان فَأنْكر فَتقدم بضربه فَضرب ودام عَلَيْهِ الضَّرْب فاعترف بسرقته فنفذ مَعَ جمَاعَة من الغلمان فأحضر الذَّهَب وَقد نقص مِنْهُ عشرُون دِينَارا واستؤذن الْخَلِيفَة فِي قطعه فَتقدم أَن يحمل إِلَى حبس اللُّصُوص وَلَا تقطع يَده فَهَذَا مَال من بَيت مَال الْمُسلمين وَله فِيهِ حق بل يحبس فنفذ إِلَى الْحَبْس فَأَقَامَ فِيهِ عشرَة أشهر ثمَّ نقب الْحَبْس وَكسر الْقَيْد الَّذِي فِي رجله وَحسن لجَماعَة من الْعَرَب والمحتسبين أَن يهربوا مَعَه وَعلم بذلك

السجان قبل أَن يتم لَهُم أَمرهم فأحضر شُهُودًا وأوقفهم على نقب الْحَبْس وأحضر إِلَيْهِم الْعَرَب وَقد كسرت الْقُيُود من أَرجُلهم فَاعْتَرفُوا بِمَا عمل مُحَمَّد الْفراش وَكَتَبُوا بذلك مطالعة وَرفعت إِلَى الْعرض الْأَشْرَف فبرز الْخط الشريف بِقطع يَده وَرجله فَإِن مثل هَذَا لَا يَأْتِي على الْمُسلمين مِنْهُ خير فَقطعت يَده وَرجله وَحمل إِلَى البيمار ستان العضدي وَأما خَازِن الدِّيوَان فَإِنَّهُ كَانَ يلقب بالسديد واسْمه الْأَعَز فَأحْضرهُ أستاذ الدَّار وخلع عَلَيْهِ وَاعْتذر إِلَيْهِ وَأَعَادَهُ إِلَى خدمته وَتقدم الْخَلِيفَة بِأَن يكون الذَّهَب فِي الخزانة فِي صناديق عَلَيْهَا أقفال جِيَاد ويحرس الْمَكَان وَتقدم بِأَن تعلى حيطان الدِّيوَان وَيمْنَع كل طَرِيق إِلَيْهِ وَأَن يعْمل لَهُ سياج من شوك فَفعل ذَلِك فَصَارَ الدِّيوَان لَا سَبِيل لأحد عَلَيْهِ من جِهَة من الْجِهَات ورتب لَهُ الحراس وفيهَا زَاد إِبْرَاهِيم بن إِبْرَاهِيم على أَمِير الْحَاج طاشتكين مائَة ألف دِينَار فِي ضَمَان الْحلَّة والبلاد السيفية وَمَا ينْسب إلهيا فَتقدم الْخَلِيفَة بإحضار قَاضِي الْقُضَاة وإحضار أَمِير الْحَاج وَأَن يجمع بَينه وَبَين إِبْرَاهِيم بن إِبْرَاهِيم وَأَن يكون من جَانب أستاذ الدَّار ابْن يُونُس الْوَكِيل فَحَضَرَ الْجَمِيع وَأَشَارَ ابْن البُخَارِيّ إِلَى إِبْرَاهِيم بالْكلَام فَقَالَ إِن هَذِه الْحلَّة فِيهَا زِيَادَة على الْمبلغ الَّذِي على هَذَا الْأَمر مائَة ألف دِينَار وَأَنا أضمن الْموضع بِهَذَا وَكَانَ وزيره حِينَئِذٍ المقرب ابْن بختيار فَقَالَ اذكر لنا وُجُوه الزِّيَادَة فَأخذ يذكر وأمير الْحَاج يُنكر وأستاذ الدَّار كَبِير التعصب لأمير الْحَاج وطولع الْخَلِيفَة بِالْحَال فَكتب إِن الْمصلحَة فِي ذَاك أَن تقرر على أَمِير الْحَاج أَن يحمل فِي كل سنة شَيْئا وَيقطع الحَدِيث وَلَا يعين عَلَيْهِ فإننا قد كسرناه فأحضر أَمِير الْحَاج ووزيره ابْن بختيار وَأخذ خطهما بِمَا تقرر على أَمِير الْحَاج وَتقدم إِلَى ابْن إِبْرَاهِيم بالانصراف وكف لِسَانه

وفيهَا عجز ابْن البُخَارِيّ عَن الرّكُوب ليَوْم الْعِيد إِلَى الدِّيوَان لِأَنَّهُ كَانَ بِهِ مرض قد أعجزه وأثقله وَكَانَ يُكَلف نَفسه الْجُلُوس فِي الدِّيوَان لأجل المنصب وَقد ذكر أَن سَبَب ذَلِك الْمَرَض من جِهَة زَوجته وَأَنَّهَا أسقته سما فتطاول مَرضه لذَلِك فَاسْتَأْذن الْخَلِيفَة أَن يَجْعَل فِي محفة وَيحمل إِلَى صفة الزَّيْتُون فَجَلَسَ فِي مَوْضِعه وَكَانَ قد تناهى بِهِ الْمَرَض وَعجز عَن الْحَرَكَة فَحَضَرَ أَرْبَاب الدولة وَأنْشد الشُّعَرَاء مدحهم وَكَانَ عِنْده شغل من شدَّة مَرضه وفيهَا وضع أستاذ الدَّار من نقل إِلَى الْخَلِيفَة أَن أَبَا الْحسن بن الْكَرْخِي يسمج وَيَقُول عَنهُ أَشْيَاء وَيذكر جَمِيع مَا يكون فِيهِ من أَحْوَال تجْرِي فِي خلْوَة أَو مجْلِس ويتحدث بذلك فِي الْأَسْوَاق وَأَن الدَّلِيل على صِحَة مَا نقل عَنهُ أَن الخطير الْبَزَّاز قد حكى عَنهُ جَمِيع ذَلِك فَتقدم الْخَلِيفَة بإحضار الخطير الْبَزَّاز وَسمع كَلَامه فَتقدم الْخَلِيفَة بِمَنْع ابْن الْكَرْخِي من الدُّخُول إِلَيْهِ ثمَّ تقدم أستاذ الدَّار إِلَى كل من أَخذ مِنْهُ ابْن الْكَرْخِي هَدِيَّة أَو قرضا أَو شَيْئا أَن يُطَالِبهُ بِهِ إِلَى أَن استوعب مَاله وَابْن الْكَرْخِي يعْتَقد أَن ذَلِك يُرْضِي الْخَلِيفَة وَتقدم بِقطع معيشته من الدِّيوَان ومعيشة أَبِيه أَيْضا وَكَانَ أَبوهُ حَاجِب منْطقَة وحاجب مِنْبَر فَكتب عَمْرو الْعلي بن النشال الْهَاشِمِي وَكَانَ هَذَا الْمَذْكُور يخْدم الْخَلِيفَة لما كَانَ أَمِيرا فَلَمَّا ولى الْخلَافَة تقدم بِأَن يرتب حاجبا صَغِيرا فرتب وَكَانَ النَّاس يستعظمون ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ يَبِيع الْحَطب وَكتب رقْعَة يسْأَل فِيهَا أَن يرتب حَاجِب منْطقَة وحاجب مِنْبَر مَوضِع ابْن الْكَرْخِي الشَّيْخ الملقب بولِي الدّين فَوَقع الْخَلِيفَة عَلَيْهَا بِالْإِذْنِ وَعرضت على ابْن البُخَارِيّ فنفذ إِلَى أستاذ الدَّار وَقَالَ إِن النَّاس يستعظمون ذَلِك وَكَون هَذَا فِي الدِّيوَان حَاجِب صَغِير فاستقبح قَوْله فَقَالَ إِن الْخَلِيفَة قد تقدم بذلك وَلَا يسيئه بَيْعه الْحَطب مَعَ أَنه من الأسرة الهاشمية فَلَا تقل فِي هَذَا شَيْئا أَلْبَتَّة ثمَّ أحضر ابْن النشال وَأَجْلسهُ بَين يَدَيْهِ وَصَارَ مَوضِع ابْن الْكَرْخِي وَعلم

النَّاس أَن الْخَلِيفَة قد تعصب لهَذَا ثمَّ تقدم إِلَى هَذَا الْمَذْكُور أَن يكْتب مطالعة تشْتَمل على أَحْوَال الدِّيوَان سرا بِحَيْثُ لَا يعلم أحد وَكبر عِنْد النَّاس بِهَذِهِ الْحَال وفيهَا ورد ضِيَاء الدّين ابْن الشهرزوري إِلَى بَغْدَاد رَسُولا من عِنْد صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب وَكَانَ ابْن البُخَارِيّ قد تناهى بِهِ الْمَرَض وَعمل فِيهِ السم حَتَّى تساقطت أَظْفَاره ومعظم شعره وَبَقِي كالفرخ وَتقدم بِإِخْرَاج الموكب للقاء ابْن الشهرزوري فَلَمَّا كَانَ بعد ثَلَاثَة أَيَّام من قدومه تقدم إِلَى ابْن البُخَارِيّ أَن يجلس لَهُ وَيسمع كَلَامه وَرَأى أَنه لَا يقدر على ذَلِك لشدَّة الْمَرَض فَتقدم أَن يعْمل لَهُ طراحة ومسند فِي بَاب حجرَة صَغِيرَة وَلها دهليز إِلَى النِّسَاء وَجعل على الْبَاب سترا وَجلسَ وَالنِّسَاء عِنْده إِلَى أَن حضر الرَّسُول وَحضر خَالص الْخَادِم ومشرف الدِّيوَان أَبُو غَالب بن الْخلال وَكَانَ يَوْمئِذٍ يَنُوب عَن كَاتب الْإِنْشَاء وَحضر المقربون وَالنَّاس وَلم يتَخَلَّف أحد مِمَّن جرت عَادَته أَن يحضر وَتقدم إِلَى المماليك الْخَواص أَن يحضروا حَتَّى يكثر الْجمع بهم فَحَضَرُوا وأحضر ابْن الشهرزوري وَمَا كَانَ صحبته من التحف وأزالوا السّتْر الَّذِي كَانَ ابْن البُخَارِيّ علقه فَقَامَ النَّاس لقدومه وخدموه وَتقدم إِلَيْهِ أَن يذكر مَا عِنْده فَقَامَ وخطب خطْبَة حَسَنَة بليغة وَأخذ يذكر فتوح صَلَاح الدّين وجهاده وَمَا هُوَ عَلَيْهِ من المرابطة للْكفَّار وَأَنه مَمْلُوك مخلص وَأَن مَا لهَذِهِ الدولة الْقَاهِرَة مثله وَلَا من يجْرِي مجْرَاه وَلَا من يماثله فِي الْعُبُودِيَّة وَبَالغ فِي ذَلِك ثمَّ جلس فَالْتَفت إِلَيْهِ ابْن البُخَارِيّ وَقَالَ لَهُ يَا أَبَا الْقَاسِم إِذا رجعت إِلَى يُوسُف بن أَيُّوب فَقل لَهُ يقْرَأ قَوْله تَعَالَى {قل لَا تمنوا عَليّ إسلامكم بل}

الله يمن عَلَيْكُم أَن هدَاكُمْ للْإيمَان) الْمِنَّة للخليفة ثَبت الله دَعوته فِي تقبل مثله وَهَذِه الْبِلَاد الْمَفْتُوحَة بسعادة هَذِه الْأَيَّام وَبِحسن التَّعَبُّد لَهَا وبشمول أنعمه عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَن يعلم ذَلِك ويتحققه فَعجب النَّاس من جَوَابه ثمَّ أحضرت التحف وَكَانَ فِيهَا شَيْء من دهن البلسان وحقة جَوْهَر وَثيَاب مصرية ومقايير مذهبَة وخركاه وَشَيْء من الْعدة الَّتِي قد أخذت من الفرنج فَتقدم لي ابْن الْخلال أَن يكْتب إِلَى الْعرض الْأَشْرَف بشرح الْحَال الَّتِي جرت وَذكر عَن ابْن الشَّهْر زورى مَا أَفَاضَ من الْأَدْعِيَة الصَّالِحَة عَن مرسله وَأَنه قد صَحبه كَذَا وَكَذَا وَأخذ المطالعة ابْن البُخَارِيّ وَكتب عَلَيْهَا أَنه يسْأَل قبُول ذَلِك وَنفذ المطالعة ثمَّ أسبل عَلَيْهِ السّتْر وَلم يزل النَّاس على طبقاتهم حَتَّى رَجَعَ الْجَواب من الْخَلِيفَة وَكَانَ مَضْمُون مَا كتبه وقف على مَا أنهاه من حُضُور رَسُول صَلَاح الدّين كثر الله فِي الْأَوْلِيَاء مثله وَمَا ذكره من حَال نصرته وَذَلِكَ بِنَا وبآرائنا وهمتنا وَمَا نفذ فقد شرف بقبوله ثمَّ تقدم إِلَى الرَّسُول بالانكفاء إِلَى الْموضع الَّذِي أعد لَهُ وَكَانَ قد أنزل بدار بالخاتونية البرانية وَكَانَ النَّاس يتعجبون من كَلَام ابْن البُخَارِيّ وَحسن ذهنه ودرايته وَهُوَ مشارف للْمَوْت وفيهَا مَاتَ ابْن البُخَارِيّ نَائِب الوزارة وَذَلِكَ بعد أَيَّام من قدوم ابْن الشَّهْر زورى وَلما توفّي ابْن البُخَارِيّ نفذ أستاذ الدَّار إِلَى دَاره فاستولى على مَا فِيهَا من قَلِيل وَكثير وَختم عَلَيْهِ وَغير ذَلِك من خيل ودواب وَأمر بتجهيزه فَغسل وكفن وَحمل إِلَى جَامع الْقصر وَصلى عَلَيْهِ وَلم يتَخَلَّف عَنهُ أحد من أَرْبَاب الدولة وَحمل إِلَى مَقَابِر عِنْد قبر أَحْمد بن حَنْبَل رَضِي الله عَنهُ

وَتقدم أستاذ الدَّار أَن يمْضِي جَمِيع أَرْبَاب الدولة إِلَى مَكَان دَفنه وَحمل جَمِيع مَا كَانَ خَلفه من مَال وخيل ورقيق إِلَى المخزن الْمَعْمُور وَكَانَ ابْن البُخَارِيّ قد وهب لبَعض مماليكه بعض أملاكه فَأخذت مِنْهُم الْكتب وَأخذت الْأَمْلَاك وَكَانَ أستاذ الدَّار قد حزن عَلَيْهِ فَلَمَّا مَاتَ احتوى على مَا كَانَ لَهُ من مطالعات يطالعه بهَا وَلَا يَشْتَهِي أَن يظْهر عَلَيْهَا أحد وَكَانَ أستاذ الدَّار يعْمل أَشْيَاء وَلَا يحب أَن يطلع عَلَيْهَا الْخَلِيفَة وَكَانَ أستاذ الدَّار يطْلب من ابْن البُخَارِيّ مَا كَانَ يكاتبه بِهِ من مطالعة وَغَيرهَا فَيَقُول ذَلِك قد غسلته ويتركه عِنْده لوقت حَاجته فَلَمَّا مَاتَ رأى تِلْكَ اللَّيْلَة الخطوط وَلم يغسلهَا فَعلم أَنه كَانَ يُرِيد قَتله ففرح حِينَئِذٍ بِمَوْتِهِ وفيهَا أنعم الْخَلِيفَة على مُحَمَّد بن يحيى بِجَمِيعِ الأَرْض والبستان المجاور لمحلة قطفتا والأرحاء على نهر عِيسَى فعمر جَمِيع الْبُسْتَان وَعمر فِيهِ دَارا حَسَنَة وَعمر ملاصق الْبُسْتَان خانات وَعمر أَيْضا دَارا حَسَنَة لبيع الْغَزل وَصَارَ هُنَاكَ سوق حسن لم يعرف من قبل وَسَأَلَ الْخَلِيفَة أَن يعْمل هُنَاكَ نَهرا وَيجْرِي فِيهِ المَاء إِلَى الْبُسْتَان الْمَذْكُور إِلَى الْخَانَات من محوله يزدجرد فَأذن لَهُ فِي ذَلِك فَلَمَّا وصل المَاء إِلَى الْمَوَاضِع رغب النَّاس فِي ذَلِك الْموضع وَصَارَت محلّة من محَال بَغْدَاد فِيهَا البيع وَالشِّرَاء ومحط القوافل وَجعل مُحَمَّد بن يحيى الْفراش يحمل إِلَى الْبُسْتَان من سَائِر الْأَشْجَار ويغرس فِيهِ فأينع وأثمر وَوصف للخليفة فَمضى إِلَيْهِ وَأقَام فِيهِ يَوْمًا وَلَيْلَة فَرَآهُ موضعا حسنا نزها وَكَانَت أَكثر فُرْجَة أهل بَغْدَاد على نهر عِيسَى وَكَانَ الخيفة كثير الترداد إِلَى ذَلِك الْموضع وَكَانَ فِي تِلْكَ الدَّار الَّتِي فِي الْبُسْتَان روشن حسن الْبناء فَكَانَ الْخَلِيفَة يجلس فِيهِ

وَكَانَ بهاء الدّين أرغش من المماليك المستنجدية قد كبر عِنْده فَكَانَ يقربهُ الْخَلِيفَة ويتحدث مَعَه وَكَانَ الشرابي يحسده على ذَلِك وَلَا يحب قربه من الْخَلِيفَة وَلما حسن الْموضع وراق للخليفة تقدم إِلَى مُحَمَّد بن يحيى بزرع الجزيرة الْمُجَاورَة لَهُ مبقلة وخضرا فَصَارَ ذَلِك الْموضع من أنزه الْمَوَاضِع وَصَارَ ذَلِك الخليفه الْموضع محروسا بعد أَن كَانَ طَرِيقا وَكَانَ أهل بَغْدَاد يخرجُون فِي كل يَوْم للفرجة مِمَّن جرت لَهُ عَادَة من الرِّجَال وَالنِّسَاء وَكَانَ يخرج جمَاعَة من الْمُحدثين المتمسخرين إِلَى ذَلِك الْموضع والخليفة قَاعد فِي شباك يتفرج على الْعَوام وَكَانَ لأهل بَغْدَاد عَادَة إِلَى الْيَوْم فُرْجَة بعد أُسْبُوع من الْعِيد يخرجُون إِلَى الفرجة والتنزه وَيَقُولُونَ ندفن الْعِيد وَيخرج رُؤَسَاء الْمحَال والمقدمون مِنْهُم ويحضرون شخصا يتمسخرون عَلَيْهِ ويكفنونه كالميت ويبكون عَلَيْهِ فَإِذا طابوا ولعبوا سَاعَة من يومهم ذَلِك قَامَ ذَلِك الشَّخْص الَّذِي كفن كَهَيئَةِ الْمَيِّت ويجعلونه مضحكة فَأمر الْخَلِيفَة أَن يدْفن الْعِيد عِنْد بُسْتَان ابْن يحيى وَأَشَارَ إِلَيْهِ بذلك فَلَمَّا كَانَ بعد الْعِيد تقدم ابْن يحيى إِلَى رُؤَسَاء الْعَوام ومتقدمي المجال أَن يخرجُوا لدفن الْعِيد فِي ذَلِك الْموضع الْمَذْكُور فَخرج خلق لَا يُحْصى عَددهمْ إِلَّا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الرِّجَال وَالنِّسَاء والأطفال والخليفة ينظر إِلَى الْعَوام وفعالهم فقد أَتَوا بشخص مِنْهُم كَهَيئَةِ الْمَيِّت قد كفن وَحمل فِيمَا بَينهم فقوم مِنْهُم يَبْكُونَ ويصرخون وَقوم يعزون وَقوم يندبون ويعملون عزية للعيد فَإِذا ضجروا نزل النَّاس قُدَّام بَين يَدي السّتْر فيلقون الْمَيِّت فِي المَاء

ذكر ما تجدد للملك الناصر صلاح الدين في هذه السنة من الغزوات والفتوحات

فَيبقى فِيهِ سَاعَة والخليفة يضْحك عَلَيْهِم فَينزل مُتَقَدم الفراشين وَمَعَهُ مائَة دِينَار إمامية فَيَقُول لمقدم الْعَوام هَذِه الْمِائَة دِينَار لأجل الْمَيِّت فَحِينَئِذٍ يقوم الْمَيِّت المكفن من المَاء فيتصارخ النَّاس لذَلِك وَيضْحَكُونَ وَيدعونَ للخليفة وَكَانَ فِي ذَلِك الْيَوْم على سطح تِلْكَ الدَّار جمَاعَة من المماليك الْخَواص مثل سنجر وَإيَاس الرُّومِي وبرنبا العلائي وَيَاقُوت وقيطرس وَجَمَاعَة من المماليك فَلَمَّا انْقَضى دفن الْعِيد وَخَرجُوا بأسرهم وَتَحْت كل وَاحِد مِنْهُم حصان عَلَيْهِ سرج بِذَهَب وتخت وطوق وسر فَسَار وَعَلَيْهِم ملابس الزركش وَالثيَاب الطلس فَكَانُوا يركبون يَوْم يكون من الْحِلْية وَالثيَاب فَكَانَ أهل بَغْدَاد يرجعُونَ من فرجتهم يتفرجون على المماليك وَيَقُولُونَ نَحن كُنَّا نتفرج على الْمَيِّت فَلم لَا نتفرج على هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَة الَّذين قد خَرجُوا ذكر مَا تجدّد للْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين فِي هَذِه السّنة من الْغَزَوَات والفتوحات وَلما دخلت هَذِه السّنة شرع السُّلْطَان بمكاتبة الجوانب والأطراف والحث على وُصُول عَسَاكِر الْإِسْلَام إِلَى دمشق ليتوجه مِنْهَا إِلَى غزَاة الكرك فَلم تزل العساكر تتواصل من الْبِلَاد الشامية وبلاد الجزيرة وديار بكر فَلَمَّا تكاملت عدَّة العساكر سَار بهَا مُتَوَجها إِلَى الكرك فَكَانَ نُزُوله على نَاحيَة أدر من أَعمالهَا خَامِس شهر ربيع الآخر وَوصل كتاب السُّلْطَان إِلَى وَالِدي الْملك المظفر سقى الله عهوده الرضْوَان وَكَانَ نَائِبه بِمصْر بوصوله إِلَيْهِ بالعساكر المصرية فشرع فِي تجهيز العساكر فحين تكاملت خرج إِلَيْهَا مُتَوَجها إِلَى الكرك فَأَشْرَف بعد أَيَّام على أَعمالهَا وتلقاه السُّلْطَان بعساكره ونزلوا جَمِيعًا قبالة الْحصن على الْوَادي وَوَقع التضافر على مضايقة

أهل الشّرك وَعبر السُّلْطَان إِلَى الربض فَنزل فِي دَار الرئيس وَنصب عَلَيْهَا تِسْعَة من المنجنيقات الْكِبَار ورتب عَلَيْهَا جمَاعَة من الرِّجَال والأبطال يضمها صفا وَاحِدًا قُدَّام الْبَاب فَلم يزل يرميهم بِالْحِجَارَةِ حَتَّى أزعج من بالحصن وَلم يبْق بَينه وَبينهمْ مَانع إِلَّا الخَنْدَق الْوَاسِع العميق فَأَشَارَ السُّلْطَان بطمه وَكَانَ ذَلِك من الْأُمُور الصعاب فَأمر السُّلْطَان بِضَرْب اللَّبن وَجمع الأخشاب وَبِنَاء الْحِيطَان مُقَابلَة الربض إِلَى الخَنْدَق وتسقيفها وتأليف ستائرها وَلما تمّ ذَلِك توافدت رجال الْعَسْكَر وغلمانه على نقل مَا يرْمى فِي الخَنْدَق وتبادر النَّاس إِلَى طمه بِالتُّرَابِ فتمادى ذَلِك على تتَابع الْأَيَّام والليالي وَاسْتمرّ الْمقَام بِنَا وَطَابَتْ نفوسنا على ذَلِك فَبينا نَحن مقيمون فِي حصارهم إِذْ وصلنا الْخَبَر باجتماع الفرنج وتحاشدهم فِي الْموضع الْمَعْرُوف بالواله وَكُنَّا قد ضايقنا الكرك أَشد مضايقة فَلم ير بدا من النهوض إِلَيْهِم وَكَانَت الطَّرِيق إِلَيْهِم ضيقَة وعرة فصابرهم أَيَّامًا فَلم يقدر على الْوُصُول إِلَيْهِم فَلَمَّا طَال ذَلِك قَالَ السُّلْطَان الرَّأْي أَن نرحل عَنْهُم ونبعد عَن جهتهم لَعَلَّهُم يخرجُون من الضّيق إِلَى السعَة فنرجع عَلَيْهِم ونظفر بهم فَرَحل عَنْهُم وَأقَام على فراسخ يسيرَة وَترك هُنَاكَ الْأَمِير عز الدّين جاولي مطلعا فِي أَحْوَالهم فَلَمَّا رَحل عَن الْموضع رجعُوا الْقَهْقَرِي لَيْلًا وسلكوا فِي المضايق من جبل إِلَى جبل وَأتوا إِلَى الكرك فتأسف السُّلْطَان عِنْد فَوت الْغَرَض مِنْهُم وعزم على الرحيل إِلَى نابلس فَرَحل نَحْوهَا فسبى وسلب وغنم وَأقَام عَلَيْهَا يَوْمًا وَاحِدًا حَتَّى

استخرج الْعَسْكَر الْغَنَائِم وَكَانَ النَّاس قد تفَرقُوا فِي الشعاب والأودية فَلَمَّا تَكَامل جمعهم رَحل بهم فَنزل على سبسطية وفيهَا مشْهد زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام وَقد اتَّخذهُ الفرنج كَنِيسَة وأودعوها أَمْتعَة كَثِيرَة وَكَانَ فِيهَا جمَاعَة من الرهبان والقسوس ففدوها بِأسَارَى من الْمُسلمين وطلبوا الْأمان ثمَّ رَحل من هُنَاكَ فَكَانَ اجْتِمَاع العساكر على الفوار وَوَصله الْخَبَر بوصول رسل دَار الْخلَافَة إِلَى دمشق فَسَار بعساكره مُتَوَجها إِلَيْهَا محفوفا بالنصر وَالظفر فَلَمَّا دَخلهَا اجْتمع برسولي دَار الْخلَافَة وهما صدر الدّين شيخ الشُّيُوخ وَبشير الْخَادِم فأفاضا عَلَيْهِ الْخلْع النَّبَوِيَّة وَكَانَ قد وَصله مَعَ الرسولين الْمَذْكُورين قصيدة امتدحه بهَا الْأَجَل الْعَالم جمال الْكتاب أَمِين الدولة أَبُو الْفَتْح مُحَمَّد بن عبيد الله بن عبد الله سبط التعاويذي الْكَاتِب الْبَغْدَادِيّ وَكَانَ من أفاضل الشُّعَرَاء بدار الْخلَافَة فأنفذها إِلَيْهِ يهنيه بِالْخلْعِ النَّبَوِيَّة وَهِي (حتام أرضي فِي هَوَاك وتغضب ... وَإِلَى مَتى تجني عَليّ وتعتب) (مَا كَانَ لي لَوْلَا ملا لَك ذلة ... لما مللت زعمت أَنِّي مذنب) (خُذ فِي أفانين الصدود فَإِن لي ... قلبا على العلات لَا يتقلب) (أتظنني أضمرت بعْدك سلوة ... هَيْهَات عطفك من سلوى أقرب) (لي فِيك نَار جوانح مَا تنطفي ... حرقا وَمَاء مدامع مَا ينضب)

(أنسيت أَيَّامًا لنا ولياليا ... للهو فِيهَا والبطالة ملعب) (أَيَّام لَا الواشي يعد ضَلَالَة ... ولهى عَلَيْك وَلَا العزول يؤنب) (قد كنت تنصفني الْمَوَدَّة رَاكِبًا ... فِي الْحبّ من أخطاره مَا أركب) (فاليوم أقنع أَن يمر بمضجعي ... فِي النّوم طيف خيالك المتأوب) (مَا خلت أوراق الصبى تذوي نضارتها ... وَلَا أَن الشبيبة تسلب) (حَتَّى انجلى ليل الغواية واهتدى ... سارى الدجى وانجاب ذَاك الغيهب) (وتنافر الْبيض الحسان فَأَعْرَضت ... عني سعاد وأنكرتني زَيْنَب) (قَالَت وريعت من بَيَاض مفارقي ... وشحوب لوني بَان مِنْك الأطيب) (إِن تنكري سقمي فخصرك ناحل ... أَو تنكري شيبى فثغرك أشنب) (يَا طَالبا بعد المشيب غضارة ... من عيشه ذهب الزَّمَان الْمَذْهَب)

(أتروم بعد الْأَرْبَعين تعدها ... وصل الدمى هَيْهَات عز الْمطلب) (وَمن الشَّقَاء وَقد ثناك طلابه ... نفعا فتطلبه ونورك أشيب) (لَوْلَا الْهوى العذري يَا دَار الْهوى ... مَا هاج لي طَربا وميض خلب) (كلا وَلَا استجذبت أخلاف الحيا ... وندى صَلَاح الدّين هام صيب) (ملك ترفع عَن ضريب قدره ... فإليه أكباد الرَّوَاحِل تضرب) (أردى لَهُ الْأَعْدَاء جد غَالب ... وَحمى الممالك مِنْهُ لَيْث أغلب) (يُرْجَى ويرهب بأسه والماجد المفضاه ... من يُرْجَى نداه ويرهب) (ثَبت إِذا غشى الوغى والزاغبية ... شرع والأعوجية شذب) (مخضرة أكنافه لوفوده ... وَالْعَام محمر الذوائب أَشهب) (أَرض بروض المكرمات أريضة ... وثرى بنوار الْفَضَائِل معشب) (صب بتشييد المآثر مُتْعب ... فِيهَا وَمن شاد المآثر يتعب) (حملت بِهِ بعد العقام فأنجبت ... أم العلى مَا كل أم تنجب)

(ملكت سجاياه الْقُلُوب محبَّة ... إِن الْكَرِيم إِلَى الْقُلُوب محبب) (كف يكف الحادثات وراحة ... ترتاح للجدوى وقلب قلب) (وندى يهش إِلَى العفاة تكرما ... ومواهب بالطارقين ترحب) (وغرامه كالنار شَاب ضرامها ... خلق أرق من الزلَال وَأطيب) (يغريه بِالْعَفو الجناة كَأَنَّمَا ال ... جاني إِلَيْهِ بِذَنبِهِ يتَقرَّب) (فَيرى لَهُم حَقًا عَلَيْهِ وَلم يكن ... ليبين فضل الْعَفو لَوْلَا المذنب) (يَا طالبي شأو ابْن أَيُّوب قفوا ... أنضادكم مَا كل شأو يطْلب) (لَا تقتفوا لأبي المظفر فِي الندى ... أثرا وَلَا تسمو إِلَيْهِ فتتعبوا) (بك يَا صَلَاح الدّين يُوسُف أكثب ... النائي ورف المقشعر المجدب) (ذللت أَخْلَاق الزَّمَان لأَهله ... فأطاع وَهُوَ الخالع المتغضب) (واقمت سوقا للمدائح مربحا ... فإليه أعلاق الْفَضَائِل تجلب) (ونهضت لِلْإِسْلَامِ نهضة صَادِق العزمات ... ترأب من يناه وتشعب)

(وغضبت الدّين الحنيف وَلم تزل ... فِي الله ترْضى مُنْذُ كنت وتغضب) (غادرت أهل البغى بَين مجندل ... لَقِي الْحمام وخائف يترقب) (أَو هارب ضَاقَتْ عَلَيْهِ برحبها الأَرْض ... الفضاء وَأَيْنَ مِنْك الْمَهْرَب) (فَأصْبح بِلَاد الرّوم مِنْك بغارة ... للنصر فِيهَا رائد لَا يكذب) (وأنكح صوارمك الشغور يزورها ... فِي كل يَوْم من جيوشك مقتب) (وارم الْكَنَائِس من سطاك بمارج ... متأجج نيرانه تتلهب) (وارفع بهَا للْمُسلمين منابرا ... باسم الْخَلِيفَة ثمَّ بِاسْمِك يخْطب) (واسق الْجِيَاد من الخليج فورده ... يدنو عَلَيْك إِذا عزمت وَيقرب) (ملحت موارده وَأقسم أَنَّهَا ... من نيل مصر فِي مذاقك أعذب) (واقرع بحي على الْفَلاح مسامعا ... تصبو إِذا ذكر الصَّلِيب فتطرب) (لَا تبْق زنارا يشد بهَا على ... علج وَلَا ناقوس دير يضْرب) (واصمد لِحَرْب الْمُشْركين مهذبا ... بِالسَّيْفِ من بسواه لَا يتهذب)

(واحسم بِحَدّ ظباك دَاء حسمه ... ودواؤه بعد التفاقم يصعب) (حَتَّى يرى للمشرفية مطعم ... بِالْفَتْكِ من تِلْكَ الدِّمَاء ومشرب) (فالعذل لَيْسَ يناجع أَو ينثني ... وغرار نصلك بالنجيع مخضب) (لَا تعفون إِذا ظَفرت بمجرم ... مِنْهُم فَرب جريمة لَا توهب) (فلتشكرنك أمة يحنو على ... ضعفائها حدبا كَمَا يحنو الْأَب) (واخلع قُلُوب الناكبين بلبسها ... خلعا إِلَى شرف الْخلَافَة تنْسب) (فرجية وشي يكَاد شعاعها الذ ... هبي بالأبصار حسنا يذهب) (وعمامة مَا تَاج كسْرَى مئلها ... فِي الْفَخر وَهِي بتاج كسْرَى تعصب) (ومهند طبعته قحطان وأهدته ... إِلَى مصر قَدِيما يعرب) (مسى عتادا للخلائف بَينهم ... متوارثا يوصى بِهِ لِابْنِ أَب) (يغري بجوهره وَمَاء صقاله ... ومضاء عزمك فَهُوَ قَاض معضب) (حضب النضار وَإنَّهُ يَوْم العدا ... عَمَّا قَلِيل فِي يَديك سيخضب)

(وَتحل مِنْهَا طوق ملك رَأْيه ... عِنْد الْمُلُوك مُعظم ومرحب) (فَالله طوق جبرئيل كَرَامَة ... لم يؤتها ملك سواهُ مقرب) (ورع العدى مِنْهَا بأدهم رَابِع ... يعنو لغرته الصَّباح الْأَشْهب) (سلب الدجى جلبابه فَهَلا لَهُ ... ونجومه مرج عَلَيْهِ ومركب) (وأفاك يصحب فِي القياد وَلم يكن ... لَو لم ترضه يَد الْخَلِيفَة يصحب) (وبراية سَوْدَاء قلب الشّرك مذ ... عقدت لملكك مستطار يرعب) (فَكَأَنَّهَا أسداف ليل مظلم ... وَسنَان عاملها عَلَيْك كَوْكَب) (فأفض ملابسها عَلَيْك عَظِيمَة ... لَا تسترد ونعمة لَا تسلب) والبس شعارا مَا يملك مثله ... لسوى الْأَئِمَّة من قُرَيْش منْكب) (مِمَّا تخيره الْخَلِيفَة منحسة ... لَك فاصطفاه لِقَاء مَا تستوجب) (النَّاصِر النَّبَوِيّ محتده وَمن ... عيص الرَّسُول بعيصه متأشب) (من يستظل من الخطوب بظله ... ونبيت فِي نعمائه نتقلب)

(ناء عَن الْأَبْصَار دَان جوده ... لعفاته فَهُوَ الْبعيد المكثب) (إِن يمس عَن نظر الْعُيُون محجبا ... فَلهُ جزيل مواهب لَا تحجب) (دنتك مِنْهُ فراسة نبوية ... تملي عَلَيْهِ الْحق وَهُوَ مغيب) (رِضَاهُ خير من ارْتَضَاهُ لملكه ... يقظان يسهر فِي رِضَاهُ ويدأب) (ورآك أسرعهم إِلَى الْأَعْدَاء إقداما ... وَغَيْرك محجم متهيب) (فاسحب ثِيَاب سَعَادَة فضلا لسابغها ... على ظهر المجرة يسحب) (وتمل مَا خولته من دولة ... غراء طالع سعدها لَا يغرب) (فِي نعْمَة أَيَّامهَا لَا تَنْقَضِي ... وسعادة سلطانها لَا يغلب) وفيهَا امتدحنا الْكَمَال المغربي التنوخي بقصيدة مطْلعهَا (قسما برقة خَدّه المتورد ... ورشاقة فِي قده المتأود) (إِنِّي لأهواه وَلست بِحَائِل ... عَن حبه إِن صد أَو لم يصدد)

(كم لَيْلَة قد بتها أرعى السهى ... جزعا لفرقته بمقلة أرمد) (قضيتها مَا بَين نوم نافر ... وزفير مهجور وقلب مكمد) (كلفا بمعتدل القوام كَأَنَّهُ ... بدر بدا فِي جنح ليل أسود) (لم أنس أَيَّام السرُور وطيبها ... بَين الصريم وَبَين برقة ثهمد) (وَالرَّوْض قد أبدى بَدَائِع نوره ... من أَزْرَق ومفضض ومورد) (وَالْمَاء يَبْدُو كالصوارم ساريا ... فيعيده مر الصِّبَا كالمبرد) (وَالطير بَين مسجع ومرجع ... ومغرد ومعدد ومردد) (يَدْعُو لنعمة نَاصِر الدّين الَّذِي ... فاق الْبَريَّة بالدوام السرمد) (والواهب الْبَدْر الَّذِي إنعامه ... بَين الْبَريَّة ظَاهر لم يجْحَد) (يعطيك معتذرا وَيسْأل خاضعا ... فِي أَن تعود إِلَى التماسك فِي غَد) (فرضابه يمْضِي ببذل مواهب ... وَأَدَاء مَفْرُوض وَورد مورد) (وَإِذا خشيت من الزَّمَان سجية ... تردى فَلَا تعلق بِغَيْر مُحَمَّد)

(الْعَادِل الْملك الْهمام الْمَاجِد النّدب ... الكمي الْبَاذِل المتودد) (من معشر أحسابهم لم تَنْقَطِع ... عَنَّا وجمرة عزمهم لم تخمد) (لَا بره عَنَّا بمنقطع وَلَا ... زند الندى فِي راحتيه بمصلد) (مَا أمه فِي جنح ليل مُدْلِج ... إِلَّا هداه بنوره المتوقد) (فذراه كالبيت العيق يحجه ... من كل فج كل ركب مجتدى) (زر مجده تزر المكارم والعلا ... وَترى الندى يَغْشَاهُ من وَجه لَدَى) (فَإِذا بلغت إِلَيْهِ عمك جوده ... ونواله أقصدت أم لم تقصد) (يَا أوحد الدُّنْيَا أَتَيْتُك قَاصِدا ... مستعديا من جور دهر أنكد) (أخنى عَليّ بصرفه وَبَنوهُ قد ... حافوا عَليّ وَقد تخاذل مسعدي) (فَخطبت من جدوى يَديك ببغيتي ... وَأمنت من صرف الزَّمَان الأنكد) (فَاسْلَمْ وسد أبدا وَدم فِي نعْمَة ... ومقرونة بسعادة لم تنفذ)

رَجعْنَا إِلَى إتْمَام الحَدِيث فَلَمَّا اسْتَقر السُّلْطَان بِدِمَشْق أَيَّامًا أَمر السُّلْطَان وَالِدي الْملك المظفر بِالرُّجُوعِ إِلَى مصر بالعساكر المصرية وَكنت يَوْمئِذٍ نَائِبه بِمصْر وبلادها إِلَى أَن رَجَعَ إِلَيْهَا وَكَانَ خُرُوجه من دمشق فِي الْيَوْم الْخَامِس عشر من شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَأما السُّلْطَان فَإِنَّهُ حِين اجْتمع برسولي الْخلَافَة بِدِمَشْق وهما شيخ الشُّيُوخ وَبشير الْخَادِم أنعم عَلَيْهِمَا إنعاما جزيلا وتلقاهما بالبشر على جاري عَادَته وَطَالَ مقامهما فمرضا مَرضا شَدِيدا وسألا الِانْصِرَاف فأشفق عَلَيْهِمَا وَأَشَارَ عَلَيْهِمَا بالقعود إِلَى أَن يخف مرضهما فبقيا على ذَلِك أَيَّامًا ثمَّ سألاه أَن يَأْذَن لَهما بالانصراف فَأذن لَهما وودعهما وأصحبهما الْأَمِير حسام الدّين طمان وَكَانَ مقدم عَسْكَر سنجار وَأمره بمرافقتهما والرفق بهما فِي السّير فَسَارُوا جَمِيعًا على طَرِيق الرحبة وَكَانَ الزَّمَان قيظا شَدِيدا فَاشْتَدَّ ببشير الْمَرَض فَمَاتَ قبل وُصُوله وَأما شيخ الشُّيُوخ فَمَاتَ حِين وَصلهَا وَدفن هُنَاكَ وَكَانَت وَفَاته فِي شعْبَان من السّنة وَأما السُّلْطَان فَإِنَّهُ أَقَامَ بِدِمَشْق حَتَّى دخل فصل الشتَاء وَأمر بِضَرْب مضاربه إِلَى جِهَة بعلبك وَكَانَ يركب فِي كل يَوْم إِلَى الصَّيْد وَيرجع فَأَقَامَ على ذَلِك أَيَّامًا حَتَّى اجْتمع إِلَيْهِ العساكر ثمَّ رَحل إِلَى بعلبك فوصلها بعد يَوْم وَلَيْلَة وخيم على ظَاهرهَا وَذَلِكَ فِي الْيَوْم الْعشْرين من ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة ورحل مِنْهَا إِلَى جِهَة حمص بهَا بعد أَيَّام فَبَقيَ بهَا أَيَّامًا ثمَّ سَار إِلَى حماة فَأَقَامَ بهَا بَاقِي ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة

ذكر ولاية أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن

وَدخلت سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَهُوَ مخيم بحماة وسأذكر الْأَحْوَال بهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وفيهَا جَازَ أَبُو يَعْقُوب بن عبد الْمُؤمن الْبَحْر إِلَى الأندلس فِي جمع كَبِير وَقصد غربي بلادها فحاصر مَدِينَة شنترين شهرا كَامِلا فَأَصَابَهُ مرض فَمَاتَ وَذَلِكَ فِي شهر ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة وَحمل فِي تَابُوت إِلَى أشبيلية فَكَانَت مُدَّة ولَايَته اثْنَتَيْنِ وَعشْرين سنة وأشهرا وَخلف أَوْلَادًا جمَاعَة ذكر ولَايَة أبي يُوسُف يَعْقُوب بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن وَلما مَاتَ السَّيِّد أَبُو يَعْقُوب اجْتمع الموحدون وَأَوْلَاد عبد الْمُؤمن على تَقْدِيم ابْنه أبي يُوسُف يَعْقُوب وَذَلِكَ أَنه مَاتَ من غير وَصِيَّة لأحد من بنيه فَبَايعُوهُ وَعقد لَهُ الْولَايَة وَدعوهُ بأمير الْمُؤمنِينَ وقدموه الْأَمر من حِين موت أَبِيه فَقَامَ بذلك وَوضع ميزَان الْقسْط وَبسط أَحْكَام الْعدْل على حَقِيقَة النّظر فِي الْأُمُور والورع فِي الدّين وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَإِقَامَة حُدُود الله عز وَجل فِي أَهله وعشيرته الْأَقْرَبين كَمَا أَقَامَهَا على سَائِر الْبلدَانِ فاستقامت الْأُمُور ببركاته وَظَهَرت

ذكرى واقعة شرف الدين قراقوش المظفري في هذه السنة

الْفتُوح الْعَظِيمَة ببركاته وعزماته وَبَدَأَ فِي النّظر بِأُمُور الأندلس فثقف ثغورها وَظَهَرت رِجَاله فِي قواعدها وَأثبت الْمُقَاتلَة فِي مراكزها وَجرى ذَلِك كُله فِي شَهْرَيْن من أول ولَايَته ثمَّ عَاد إِلَى مراكش وَأقَام بهَا ذكرى وَاقعَة شرف الدّين قراقوش المظفري فِي هَذِه السّنة وَلما سَار شرف الدّين قراقوش إِلَى بِلَاد إفريقية وَنزل على الْحمام وَأقَام عَلَيْهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا يقاتلها وَهدم فِيهَا ثغرة سدها أَصْحَابهَا بِالنَّخْلِ وأحرق مَا سدوا بِهِ وَقَاتلهمْ فَلم يقدر مِنْهُم على شَيْء ورحل عَنْهَا وهرب مِنْهُ ابْن شكل وَصَارَ إِلَى عرب يُقَال لَهُم عَوْف عِنْد مقدم مَعَهم يُقَال لَهُ جنَاح بن عقيل وَكَانَ الأكراد قد أفسدوا عقله وَقَالُوا لَهُ إِذا صرت عِنْده لحقناك وَتَكون سُلْطَانا لنا وتملك الْبِلَاد فَلَمَّا مضى لم يلْحقهُ من الأكراد أحد وَبَقِي عِنْد الْعَرَب مَعَه قريب من عشْرين رجلا لَا غير وَوصل سيد النَّاس وَأَخُوهُ الْمَنْصُور إِلَى شرف الدّين قراقوش ودخلوا فِي طَاعَته وحالفهما وحلفا لَهُ وأعطاهما عطايا جزيلة ولدخولهم فِي طَاعَته فَرح أهل بشترى وانقادوا خوفًا من أَن يحصرهم بِأَهْل بِلَادهمْ وَولى عَلَيْهِم رجلا يُقَال لَهُ حراج كَانَ يخْدم عِنْد وَالِدي الْملك المظفر بديار مصر وَوصل إِلَيْهِ فِي الْجَمَاعَة الَّتِي وصل فِيهَا ابْن شكل وَسَار عَنهُ وَتَوَلَّى بفزارة وَكَانَت ولَايَته فِيهَا ولَايَة ضَعِيفَة ورحل شرف الدّين عَن الْحمام وَدخل إِلَى إفريقية وَنزل بِجَزِيرَة باشو

من أَعمال تونس وَهِي من أحسن الْأَعْمَال يكون فِيهَا ألف ضَيْعَة وَثَلَاث جِهَات مِنْهَا غيط بهَا الْبَحْر ووجهة وَاحِدَة مِنْهَا إِلَى الْجَبَل وَمَا رآى النَّاس أحسن مِنْهَا عملا فَأَقَامَ بهَا مُدَّة ثَلَاثَة أشهر يستغل الْبِلَاد وينهبون النَّاس مَا يقدرُونَ عَلَيْهِ ورحل عَنْهَا إِلَى الْجَبَل يستغله فَجَاءَت عَوْف مَعَ ابْن شكل وَجَاءَت إِلَى مَوضِع يُقَال لَهُ سردانية قريب من القيروان وَسمع بهم شرف الدّين فَركب إِلَيْهِم وَنزل إِلَيْهِم وسير قبله جمَاعَة من زغب بِقدر خَمْسمِائَة فَارس وَمن أَصْحَابه مِائَتي فَارس فالقوا مَعَهم وكسروهم قبل وُصُول شرف الدّين وَنزل فِي مَوْضِعه على قصر يُقَال لَهُ قصر أبي نصر وَكَانَ يحاصره فَأَخذه وَلم يجد فِيهِ طائلا ورحل وَخرج من غفريقية وَعَاد إِلَى النُّزُول على الحامة ووصلت مَشَايِخ عَوْف وأمراؤهم قَرِيبا مِنْهُ ونفذوا إِلَيْهِ يستأذنونه فِي الْحُضُور إِلَيْهِ فَأَمرهمْ فَحَضَرُوا وَلما سلمُوا عَلَيْهِ وَقَامُوا قيَاما بَين يَدَيْهِ شفعوا لَهُ فِي ابْن شكل فَقبل شفاعتهم وَاسْتقر بهم الْمجْلس فَقَامُوا ثَانِيَة فشفعوا فِي حميد بن جَارِيَة وذباب وَأَن يستخدمهم ويعيدهم إِلَى بِلَادهمْ ويصالحهم فَفعل وأحضروا فِي ذَلِك الْيَوْم حميد بن جَارِيَة وحالف بَينه وَبَين زغب وعَوْف وَكَثُرت الْعَرَب مَعَه فطلبوا أَن يدخلُوا مَعَه إِلَى إفريقية إِلَى تونس وَغَيرهَا من الْبِلَاد الَّتِي مَا وَطئهَا ليكتالوا مِنْهَا فَفعل ورحل عَائِدًا إِلَى إفريقية فغنم النَّاس أَكثر من الدفعتين الْأَوليين وَوصل إِلَى تونس ووقف بإزائها ورحل إِلَيْهَا فقفز ابْن شكل وَدخل ولحقه وَقت التقفيز رجل من أَصْحَاب شرف الدّين كَانَ قَدِيما يخْدم وَالِدي الْملك المظفر يُقَال لَهُ حمدَان القواس واعتقد كل من رَآهُ أَنه قفز مَعَه فَلَمَّا أدْركهُ عِنْد الرجالة أَخذ شربوشه وثنى

فرسه رَاجعا وَضرب بنشاب الجرخ فَمَا أَصَابَهُ شَيْء وَعَاد شرف الدّين وَقت الْعشَاء من ذَلِك الْيَوْم عَن تونس وَنزل بِموضع يُقَال لَهُ قصر نعامه وَأصْبح فَرَحل عَنهُ وأدركه الشتَاء فَخرج من إفريقية وَسَار يطْلب النُّزُول على الحامة فوصلها فِي سِتَّة أَيَّام وَيَوْم السَّابِع وَقت الصُّبْح كَانَ الْعَسْكَر على أسوارها فوجدوا كل من بهَا قد ارتحل وَنزل الْجَمِيع الْجَبَل بقلعة لَهُم على رَأس جبل كَانَت تكون خَالِيَة وَافق أَن مقدميها بني ثمال كَانُوا بعد فِي المهدية فَأخذُوا وَكَانُوا ثَلَاثَة عَليّ وحسين ومفرح فَلَمَّا أخذُوا وأحضروا إِلَيْهِ قَالَ قد أمكن الله تَعَالَى مِنْكُم وَأما أهل الحامة فَمَا لَهُم عِنْدِي ذَنْب ثمَّ أَمر من سَار إِلَى القلعة ونادى من بهَا أَلا إِن المقدمين قد أخذُوا وَأَنْتُم إِن نزلتم إِلَى بلدكم فَأنْتم آمنون بِأَمَان الله تَعَالَى وأمان رَسُوله لَا نَأْخُذ مِنْكُم شَيْئا بل نجريكم على الْعَادة فِي أَيَّام من تقدم من أَخذ الْخراج والأعشار فَلَمَّا تحققوا ذَلِك نزل الْجَمِيع وعادوا إِلَى الحامة وعمرت أحسن عمَارَة وَأَرَادَ قتل أَوْلَاد ثمال فَحَضَرَ سيد النَّاس مقدم طره وشفع فِي نُفُوسهم بِشَرْط أَن يؤدوا قطيعة على رقابهم مائَة ألف دِينَار مأمونية فَقبل شَفَاعَته وعجلوا من ذَلِك ثَلَاثِينَ ألفا وضمنهم سيد النَّاس بِمَا بَقِي عَلَيْهِم وَأَخذهم وانكفأ إِلَى طرة وَأقَام شرف الدّين تَحت الحامة قَرِيبا مِنْهَا واضطرب أهل قابس بِأخذ الحامة لِأَنَّهَا قريبَة مِنْهَا وَخرج إِلَيْهِ عَليّ بن عِيسَى بن شكاب وَهُوَ من كبار مَشَايِخ قابس اتهمه الموحدون بِأَنَّهُ يُكَاتب قراقوش وَكَانَ بهَا فَقِيه كَبِير يُقَال لَهُ ابْن نزار قَتله أهل قابس لاعتقادهم أَنه كَاتب قراقوش فثارت عَلَيْهِ الْعَوام وحصروه فِي دَاره وَقتل بهَا

سنة إحدى وثمانين وخمسمائة

سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وفيهَا خلا ديوَان الزِّمَام بِبَغْدَاد من نَائِب وزارة وَكَانَ الْخَلِيفَة قد فوض الْأُمُور بأسرها إِلَى أستاذ الدَّار ابْن الصاحب وَجعل الِاخْتِيَار إِلَيْهِ فِيمَن يرتب ويعزل فَاسْتَأْذن ابْن الصاحب الْخَلِيفَة ثَبت الله دَعوته بِأَن يرتب عز الدّين صَدَقَة بن صَدَقَة نَائِب وزارة وَكَانَ حاجبا بِبَاب النوبى فَأذن لَهُ الْخَلِيفَة فِي ذَلِك فَأحْضرهُ إِلَى دَاره وخلع عَلَيْهِ خلعة شريفة وأحضر حَاجِب الْحجاب ابْن جَعْفَر وحجاب الدِّيوَان بأسرهم وكل من يتَعَلَّق بالديوان الْعَزِيز من الْكتاب وَغَيرهم وَقَالَ لَهُم إِن الْخَلِيفَة قد رسم أَن يكون هَذَا وَأَشَارَ إِلَى عز الدّين بن صَدَقَة نَائِب وزارة بالديوان الْعَزِيز أُسْوَة بِمن تقدمه فكونوا بَين يَدَيْهِ وَفِي خدمته فَقَالُوا السّمع وَالطَّاعَة ثمَّ تقدم بِأَن يدْخل مركوبه إِلَى الدَّار فَأدْخل وَخرج من عِنْد أستاذ الدَّار وَقَامَ لَهُ أستاذ الدَّار كل الْقيام وَركب من الدَّار على الصّفة وخوطب بِجلَال الدّين وَخرج النَّاس بَين يَدَيْهِ إِلَى بَاب الدِّيوَان فَلَمَّا أَرَادَ النُّزُول عضده ابْن جَعْفَر حَاجِب الْحجاب وَدخل وَجلسَ فِي حجرَة الصَّلَاة وأحضر الْكتاب والخازن وَاعْتبر أَحْوَال الدِّيوَان سَاعَة ثمَّ ركب وَجَمَاعَة من الْأُمَرَاء بَين يَدَيْهِ إِلَى دَاره الَّتِي فِي الْقرْيَة بدار الْخَلِيفَة فِي درب الْبُسْتَان وَنزل بهَا وَتقدم إِلَيْهِ أستاذ الدَّار أَن لَا تعْمل شَيْئا إِلَّا بأمرنا وَإِن كتبت شَيْئا أكتبه إِلَيْنَا فَقَالَ السّمع وَالطَّاعَة وَحضر جمَاعَة من أَرْبَاب الدولة دَار الْمَذْكُور يهنئونه بِالْولَايَةِ وَأنْشد الشُّعَرَاء وَحضر الْعلمَاء وانعكف النَّاس عَلَيْهِ وَفِي ذَلِك الْيَوْم تقدم إِلَى ابْن عبد الله بن الْوَكِيل أَن يكون بَين يَدَيْهِ حَاجِب الْمجْلس وخلع عَلَيْهِ وَصَارَ حَدِيث النَّاس مَعَه واستقل أمره أُسْوَة من تقدمه وَكَانَ النَّاس يفضلونه فِي الاحترام وَالْإِكْرَام على من تقدمه لِأَنَّهُ كَانَ من بَيت الوزارة وَسَأَلَ بعد أَيَّام من ولَايَته أَن ينْقل إِلَى

الدَّار الَّتِي كَانَ فِيهَا ابْن البُخَارِيّ دَار المطبق وَهِي الَّتِي كَانَ فِيهَا عون الدّين الْوَزير ابْن هُبَيْرَة فَأذن لَهُ فِي ذَلِك فانتقل إِلَيْهَا وَتقدم لَهُ بالإقطاع الَّذِي كَانَ لِابْنِ البُخَارِيّ وَهِي جللتا وَمَا يجْرِي مَعهَا من أَعمال طَرِيق خُرَاسَان وَحَاصِل هَذَا الإقطاع فِي كل سنة عشرَة ألف دِينَار إمامية وَنفذ نوابه إِلَى الإقطاع وَتصرف فِيهِ وَحكم فِي الدِّيوَان وَبسط يَده وَلسَانه وَكَانَ أستاذ الدَّار ابْن الصاحب كل سَاعَة يتَقَدَّم إِلَيْهِ بِمَا يعْمل تَارَة ينفذ إِلَيْهِ الْحَاجِب أَبَا الرِّضَا وَتارَة أَبَا الشجاع وَتارَة مملان وَمَا كَانَ يتَجَاوَز مَا يتَقَدَّم بِهِ إِلَيْهِ وَكَانَ عَادَة الْوَزير أَو النواب الَّذين يسكنون هَذِه الدَّار لَا يركبون إِلَى صَلَاة الْجُمُعَة بل يمضون إِلَى الصَّلَاة مشَاة اقْتِدَاء بعون الدّين بن هُبَيْرَة الْوَزير رَحمَه الله تَعَالَى لِأَن حَائِط الْجَامِع حَائِط هَذِه الدَّار من بَاب الْمَقْصُور الشَّرِيفَة من دَار الْخلَافَة الَّتِي بَابهَا فِي المطبق وَهِي بِجَامِع الْقصر وَينزل الْوَزير والنائب إِذا ركبا ببابها خطوَات قريبَة فَقَالَ جلال الدّين بن صَدَقَة مَا أُرِيد أَن أَمْشِي وَلَا أخرج إِلَّا رَاكِبًا وَكَانَ فِيهِ تيه عَظِيم وتهور وَمن تقدم عمل بِنَفسِهِ مَا أَرَادَ وَقدم الْفرس يَوْم الْجُمُعَة وَركب من دخل الدَّار وَخرج إِلَى الصَّلَاة فَعلم النَّاس أَن هَذِه الْحَال تدل على جَهله وَقلة عقله وَكَانَ حَاجِب الْحجاب يعضده عِنْد ركُوبه وَعند نُزُوله ويطالع بِجَمِيعِ حركاته وَمَا يتَكَلَّم بِهِ أَو يتَقَدَّم بِهِ أَو يُطلقهُ أَو يُخرجهُ وَيذكر ذَلِك كل يَوْم بمطالعة ويعرضها على أستاذ الدَّار فَإِن رأى فِيهَا مَا يستحسنه عرضه وَإِن رأى مَا يكرههُ لَا يعرضه فَعلم بِهَذِهِ الْحَال أستاذ الدَّار وفيهَا رتب ابْن عون الدّين بن هُبَيْرَة حاجبا بِبَاب النوبى الشريف وَكَانَ أستاذ الدَّار يرى فِي حَقه ويقر بِهِ وَكَانَ قد ربى مَعَه فِي الْمكتب وَكَانَ أستاذ الدَّار لَا يزَال يصف دينه ويسدد رَأْيه وخلع عَلَيْهِ خلعة جميلَة

وخلع عَلَيْهِ أَيْضا أستاذ الدَّار تَشْرِيفًا جميلا وَكَانَ نَائِب الْبَاب ابْن الظهري وَصَاحب الْخبز بِالْبَابِ ابْن الْحَلَال وقاضي الْبَاب ابْن الصّباغ قَاضِي الرّبع وَكتب مَا كتب حَاجِب الْبَاب ابْن الظهيري رقْعَة إِلَى الْعرض الْأَشْرَف أنب ينعم عَلَيْهِ بالتشريف على عَادَة أَمْثَاله فَخرج الْأَمر بإحضاره إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز وتشريفه فأحضر وَشرف بخلعة سَوْدَاء وعمامة سَوْدَاء وَسيف مَذْهَب وَفرس وفيهَا كتب صفي الدّين بن عمَارَة رقْعَة إِلَى الْخَلِيفَة يذكر فِيهَا أَن أَرْبَاب الْأَمْلَاك بِنَاحِيَة بعقوبا وناحية بوهرز قد أخذُوا جملَة كَبِيرَة من أَمْوَال الْوَقْف أَجلهم الله تَعَالَى وَلَو تقدم بِاعْتِبَار ذَلِك وَتَحْقِيق مَا قد صَار إِلَى الْمَذْكُورين لحصل لَهُ من المَال مبلغ كَبِير فأنفذ الْخَلِيفَة الرقعة إِلَى أستاذ الدَّار وَتقدم إِلَيْهِ بِأَن ينفذ مَعَ ابْن عمَارَة جمَاعَة لاعْتِبَار هَذِه الْأَحْوَال فَتقدم أستاذ الدَّار إِلَى نَائِب الوزارة جلال الدّين بن صَدَقَة بِأَن يتَوَلَّى ذَلِك ويدبره فأحضر الْمُحْتَسب ابْن الرطبى وَمَعَهُ عدل من عدُول الحضرة وَتقدم إِلَى ابْن عمَارَة بِأَن يخرج ويحقق ذَلِك فَخرج وَكَانَ ابْن صَدَقَة قد عرض الرقعة على الْخَلِيفَة دَامَ ظله وَقد حسن لَهُ هَذِه الْحَال فَمضى ابْن عمَارَة وَمسح الْأَمْلَاك بناحيتي بعقوبا وبوهرز فَحَضَرَ إِلَى الدِّيوَان خلق كَبِير من الناحيتين واستغاثوا يَوْم الْجُمُعَة قُدَّام الْخَطِيب بِجَامِع الْقصر

الشريف وأنهى ذَلِك إِلَى الْخَلِيفَة من جَانب أستاذ الدَّار وَكَانَ ابْن صَدَقَة يمْنَع من يتألم فَتقدم الْخَلِيفَة بإحضار ابْن عمَارَة إِلَى الدِّيوَان وإحضار قَاضِي الْقُضَاة ابْن الدَّامغَانِي والمحتسب ابْن الرطبى وَأمر بإحضار أَرْبَاب الْأَمْلَاك وَيَنْظُرُونَ تكييف هَذِه الْحَال ويطالعونه بحقيقتها فَحَضَرَ الْجَمَاعَة وَجلسَ صَدَقَة بن صَدَقَة فِي بَيت الْجَيْش الْكَبِير وَسمع مَا ذكره ابْن عمَارَة من زِيَادَة الْأَمْلَاك وَتقدم إِلَى الْملاك بإحضار كتب أملاكهم واعتبارها وَطَالَ الحَدِيث فِي ذَلِك وَكَانَ الْمُجْمل على أهل بعقوبا وَأهل بوهرز من الذَّهَب مائَة ألف دِينَار إمامية وارباب الْأَمْلَاك لَا يعترفون بِشَيْء من ذَلِك فَوَقع الْخَلِيفَة بتقليد ذَلِك قَاضِي الْقُضَاة فَإِن ثَبت عِنْده شَيْء يحكم بِهِ وَإِن لم يثبت عِنْده شَيْء فَلَا حَاجَة لنا بأموال الرّعية فَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة مَا ثَبت عِنْدِي إِلَّا حجج الْملاك فَحسب فَقَالَ ابْن عمَارَة وَصدقَة بن صَدَقَة يُؤَخر هَذَا إِلَى أَن يحضر من يشْهد بِهِ لبيت المَال وَمَا قد أَخذ (سَعَادَة لَو أحَاط الحارمي بهَا ... لعاد فِيهَا ادَّعَاهُ وَهُوَ حزنان) (فاسعد بهَا دولة غراء مَا ادرعت ... بِمِثْلِهَا حمير قدما وساسان) (واسلم تدوم لنا النعمى فَإنَّك مَا ... سلمت فِي جذل فالدهر جذلان) (لَا زلت بدر سَمَاء يستضئ بِهِ ... ويهتدي مظلم منا وحيران)

(وَلَا سعى لَك صرف الدَّهْر فِي حرم ... وَلَا رآى وَجه من يرجوك حرمَان) وفها كتب جلال الدّين صَدَقَة بن صَدَقَة نَائِب الوزارة مطالعة إِلَى الْخَلِيفَة يكثر القَوْل فِيهَا فِي حق أستاذ الدَّار بن الصاحب وَأَن الدِّيوَان يحكم فِيهِ بِرَأْيهِ وَالْأَمْوَال تجبى إِلَيْهِ وَمَا يقدر أحد يتسوفى لبيت المَال مِنْهُ شَيْئا فَوقف الْخَلِيفَة على المطالعة وَكتب عَلَيْهَا إِلَى ابْن صَدَقَة يصدقهُ فِيمَا ذكره فتيقن ابْن صَدَقَة وَظن فِي نَفسه أَن الْخَلِيفَة قد تغير على أستاذ الدَّار وَأَنه يقبل القَوْل فِيهِ وَكَانَ ابْن صَدَقَة ضَعِيف الرَّأْي قَلِيل التَّصَوُّر اعْتقد أَن الْخَلِيفَة هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ لهَذِهِ الْولَايَة وَأَن أستاذ الدَّار لم يكن لَهُ فِي ترتيبه شَيْء فَصَارَ إِذا تقدم أستاذ الدَّار بِأَمْر يتَعَرَّض هُوَ لإبطاله وَيَقُول لَا أفعل هَذَا الْأَمر إِلَّا بتقدم الْخَلِيفَة وأستاذ الدَّار لَا يعلم كَيفَ هَذَا الْأَمر فَلَمَّا حضر عِنْد الْخَلِيفَة قَالَ إِنَّه قد جنح أمرنَا فِي الدِّيوَان وَصَارَ هَذَا النَّائِب إِذا تقدم إِلَيْهِ بِأَمْر يَقُول لَا أَفعلهُ فَقَالَ لَهُ الْخَلِيفَة كَأَنَّك مَا علمت أَنه كتب إِلَيّ مطالعة يذكر فِيهَا كَذَا وَكَذَا فِي حَقك وَهَذَا مَا يجِئ مِنْهُ خير إِن شِئْت أَن تصرفه فاصرفه ورتب غَيره من شِئْت فَذَاك إِلَيْك وَكَانَ هَذَا جَمِيعه من غير طِينَة نفس الْخَلِيفَة لِأَنَّهُ قد تغير على أستاذ الدَّار وَلَا يظْهر لَهُ ذَلِك من شدَّة خَوفه مِنْهُ فَخرج أستاذ الدَّار من عِنْد الْخَلِيفَة وَنفذ الْحَاجِب مملان إِلَى الدِّيوَان بِأَمْر فَقَالَ نَائِب الوزارة ابْن صَدَقَة مَا هَذَا ديوَان الْأَبْنِيَة هَذَا ديوَان الْخَلِيفَة مَا يقدر أحد يتَقَدَّم فِيهِ بِأَمْر إِلَّا بِأَمْر الْخَلِيفَة فَرجع الْحَاجِب مملان وَحكى مَا جرى من ابْن صَدَقَة لأستاذ الدَّار فَعظم ذَلِك عَلَيْهِ وشاع ذَلِك فِي بَغْدَاد وَقَالَ النَّاس هَذَا دَلِيل على تغير الْخَلِيفَة على أستاذ الدَّار وَكثر القَوْل فِي ذَلِك وَكَثُرت معاداة ابْن صَدَقَة لأستاذ الدَّار ومباينته لَهُ فَكتب أستاذ الدَّار

إِلَى الْخَلِيفَة أَسمَاء جمَاعَة لكَي يخْتَار مِنْهُم شخصا لنيابة الدِّيوَان مِنْهُم عَارض الْجَيْش ابْن الدرانج وَشرف الدّين بن الْخلال وحاجب الْبَاب ابْن هُبَيْرَة وَنجم الدّين بن الثَّقَفِيّ وَذكر أَن هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَة كلا مِنْهُم يصلح أَن يكون نَائِب وزارة ومدح ابْن هُبَيْرَة حَاجِب الْبَاب وَذكر أَنه كَانَ يَنُوب فِي الدِّيوَان عَن أَبِيه وَبَالغ فِي القَوْل فبرز خطّ الْخَلِيفَة يَقُول إِن ابْن الدرانج عَارض الْجَيْش أصلح من هَؤُلَاءِ وَبعد هَذَا فَالْحَدِيث مَعَك والرأي إِلَيْك فِي تَرْتِيب من شِئْت فَلَيْسَ لنا فِي هَذَا حَدِيث فنفذ إِلَى ابْن الدارنج وتحدث مَعَه وعرفه الْحَال وَقَالَ إِذا ركب نَائِب الوزارة إِلَى الدِّيوَان عرفوني حَتَّى أنفذ إِلَيْهِ أعزله ليَكُون ذَلِك أَكثر فِي الشناعة عَلَيْهِ وَكسر الْحُرْمَة فَحملت دَوَاة ابْن صَدَقَة إِلَى الدِّيوَان وَجَاء من أخبر بركوبه فَتقدم أستاذ الدَّار إِلَى الْحَاجِب أبي الرِّضَا أَن يَأْخُذ مَعَه جمَاعَة من الْحجاب وَجَمَاعَة من أَصْحَابه من ديوَان الْأَبْنِيَة ويمضي إِلَيْهِ وَيَقُول لنائب الوزارة ابْن صَدَقَة قد استغني عَنْك فَالْزَمْ بَيْتك فَمضى الْحَاجِب إِلَى الدِّيوَان فَلم يجده فَرجع إِلَى دَاره فَدخل عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ إلزم بَيْتك فقد استغني عَنْك ثمَّ تقدم إِلَى الْحَاجِب أَن يحضر مَعَه جَمِيع النواب بالديوان الْعَزِيز ويحضرون إِلَى الدِّيوَان فَفعل ذَلِك ثمَّ رَجَعَ الْحَاجِب أَبُو الرِّضَا إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ قد تقدم إِلَيْك أَن تحضر جَمِيع مَا يكون عنْدك من خطوطه وَلَا يبْقى عنْدك مِنْهَا شَيْء فَفعل ذَلِك وَحلف بِالنعْمَةِ الشَّرِيفَة أَنه لم يبْق عِنْده شَيْء وَكثر القَوْل من النَّاس أَن أستاذ الدَّار قد تحكم فِي دَار الْخلَافَة بِحَيْثُ لَو أَرَادَ أَن يعْزل الْخَلِيفَة لفعل وَكثر خوف النَّاس من أستاذ الدَّار فَكَانَ الْأُمَرَاء وأرباب الدولة يَتَرَدَّدُونَ إِلَى خدمته خوفًا مِنْهُ

وَكَانَ جمَاعَة من النَّاس يَقُولُونَ إِن الْخَلِيفَة يُرِيد قتل أستاذ الدَّار وَأَن هَذَا جَمِيعه اسْتِدْرَاج لَهُ ثمَّ إِن أستاذ الدَّار أحضر بهاء الدّين عَارض الْجَيْش إِلَى دَاره وَأدْخلهُ إِلَيْهِ خلْوَة ثمَّ أذن للنَّاس بِالدُّخُولِ إِلَيْهِ فَلم يبْق من أَرْبَاب الدولة أحد وَأذن لجَمِيع النَّاس ذَلِك الْيَوْم بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ فَدَخَلُوا فَلَمَّا اسْتَقر بهم الْمجْلس الْتفت أستاذ الدَّار إِلَى عَارض الْجَيْش وَقَالَ لَهُ ادْع للخليفة وَأعلم أَنه عين عَلَيْك فِي نِيَابَة الدِّيوَان الْعَزِيز وَأخرج من ذمَّته مظالم الْعباد وفوضها إِلَيْك فَيجب أَن تنظر لنَفسك وتبصر أَيْن تضع قدمك فَلَا تمكن من ظلم أحد ولتكن سيرتك حَسَنَة ليحسن الذّكر وَيكثر الدُّعَاء لهَذِهِ الْأَيَّام الزاهرة فَبكى عَارض الْجَيْش بكاء شَدِيدا إِلَى أَن تعجب النَّاس من ذَلِك ثمَّ الْتفت أستاذ الدَّار إِلَى حَاجِب الْحجاب وَالْكتاب وحاشية الدِّيوَان وَقَالَ لَهُم قد رسم أَن مرجع أَمركُم إِلَى هَذَا وَهُوَ المستخدم لكم وَلَا يُخَالِفهُ أحد فِي أَمر من الْأُمُور فَقَالُوا السّمع وَالطَّاعَة ثمَّ قَالَ لَهُ انْعمْ باسم الله فَقَامَ ليخرج من عِنْده فَقَامَ لَهُ أستاذ الدَّار على قَدَمَيْهِ ثمَّ تقدم أستاذ الدّرّ أَن يدْخل مركوبه إِلَى وسط الدَّار ويركب من مَوضِع جرت عَادَة النواب فَحلف ابْن الدارنج أَنه لَا يركب إِلَّا خَارج الدَّار فَلم يُمكن من ذَلِك وَركب على طرف الإيوان الَّذِي يَلِي الْبَاب وَخرج وَالنَّاس بَين يَدَيْهِ والمماليك والأمراء والحجاب وَالْكتاب وَغَيرهم من النَّاس وَجلسَ فِي حجرَة الصَّلَاة وَكتب مطالعة تشْتَمل على حُضُوره فِي الدِّيوَان وشكره الأنعم الشَّرِيفَة وَنفذ المطالعة إِلَى بَاب الْحُجْرَة وَخرج الْجَواب إِلَيْهِ بِأَن يطيب نَفسه ويشرح صَدره واستقل بالنيابة

ذكر ما تجدد للملك الناصر صلاح الدين في هذه السنة بمصر والشام من الفتوحات والغزوات

ذكر مَا تجدّد للْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين فِي هَذِه السّنة بِمصْر وَالشَّام من الفتوحات والغزوات وَدخلت هَذِه السّنة وَالسُّلْطَان مخيم بحماه معول على قصد الْموصل فَلَمَّا دخلت أَيَّام من الْمحرم سَار بعساكره مُتَوَجها إِلَى حلب فَلَمَّا قرب من تل السُّلْطَان خرج للقائه أَخُوهُ الْملك الْعَادِل سيف الدّين وَمَعَهُ عَسْكَر حلب وَكَانَ صَاحبهَا فَاسْتَبْشَرَ السُّلْطَان بلقائه ثمَّ سَار من تل السُّلْطَان فَنزل بِظَاهِر حلب فَأَقَامَ أَيَّامًا حَتَّى اتَّصَلت بِهِ العساكر وَسَار مِنْهَا مُتَوَجها إِلَى الْفُرَات فَنزل بمَكَان يعرف برسا تَحت ألبيرة على فرسخين مِنْهَا فَلم يزل هُنَاكَ ثَلَاثَة أَيَّام حَتَّى تَكَامل عبور جَمِيع الْعَسْكَر ثمَّ رَحل مُتَوَجها إِلَى حران فَلَمَّا وَصلهَا ضرب خيمة فِي ظَاهرهَا وَكَانَ بهَا مظفر الدّين كوكبوري وَكَانَ قد وصل رَسُوله ابْن ماهان إِلَى السُّلْطَان قبل عبوره الْفُرَات يحثه على العبور والوصول إِلَى حران وَقَالَ إِن مظفر الدّين قد كتب خطه بِخَمْسِينَ ألف دِينَار يَوْم الْوُصُول إِلَى حران تكون برسم النَّفَقَات وَكتب خطه للسُّلْطَان بذلك فَلَمَّا وصل السُّلْطَان إِلَى حران بَقِي بهَا أَيَّامًا ومظفر الدّين لَا تجْرِي مِنْهُ حَرَكَة بِمَا بذله رَسُوله وَالسُّلْطَان من كرمه لَا يندبه إِلَى ذَلِك فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام أنفذ إِلَيْهِ قَاضِي الْعَسْكَر شمس الدّين بن الْفراش والعماد الْكَاتِب الْأَصْفَهَانِي وَقَالَ لَهما امضيا إِلَى مظفر الدّين واكشفا عَن أمره وأخبراه بِمَا أخبر عَنهُ رَسُوله من المَال الَّذِي بذله فمضيا إِلَيْهِ فَلَمَّا بصر بهما كَأَنَّهُ علم بِمَا جَاءَا بِهِ فَقَامَ قبل أَن يقعدا وَجَاء بالمصحف الْكَرِيم وَحلف بِهِ أَنه لم يبْذل شَيْئا مِمَّا ذكر عَنهُ وَأَن رَسُوله كذب عَلَيْهِ فِيمَا ذكره فَرَجَعَا إِلَى السُّلْطَان وأخبراه بالقصة فَسكت عَن بَيَانه مطرقا فَلَمَّا أصبح ركب إِلَى الميدان سَاعَة استصحب مَعَه مظفر الدّين

إِلَى سرادقه على الْعَادة ثمَّ أَمر بِهِ فَنقل إِلَى خيمة ووكل بِهِ فِيهَا وَمنعه من أَصْحَابه فهاج الْعَسْكَر وَاجْتمعَ الْأُمَرَاء عِنْد السُّلْطَان وَتَكَلَّمُوا وَقَالُوا لَهُ إِن هَذَا لَا تأمنه وَلَا تخلى سَبيله والرأي أَن تنقله إِلَى قلعة حلب فتسجنه بهَا فَلَمَّا انْصَرف الْأُمَرَاء من عِنْده تقدم إِلَيْهِ الْفَقِيه عِيسَى وقاضي الْعَسْكَر وذكراه الصفح وَالْإِحْسَان فَقَالَ للفقيه عِيسَى إمض إِلَيْهِ وَطيب نَفسه وَسكن روعه فَمضى إِلَيْهِ وعرفه ذَلِك فَقَالَ السُّلْطَان مَالك رقي وَأَنا أخرج لَهُ مِمَّا معي من الْبِلَاد وأكون بَين يَدَيْهِ برسم الْخدمَة كَأحد المماليك فَقَالَ لَهُ بل تسلم إِلَيْهِ قلعتي الرها وحران فَقَالَ السّمع وَالطَّاعَة فَرجع إِلَى السُّلْطَان وعرفه الْحَال فَأمر لَهُ بتشريف جميل يَلِيق بِهِ واستدعى بِهِ فَقبل الأَرْض بَين يَدَيْهِ وتسلمت مِنْهُ القلعتان ثمَّ أعيدتا إِلَيْهِ فِي آخر السّنة وَأقَام السُّلْطَان بحران شهر صفر وَتوجه مِنْهَا إِلَى رَأس عين فِي مستهل شهر ربيع الأول فَنزل بهَا يَوْمًا وَاحِدًا ثمَّ رَحل مِنْهَا إِلَى دَارا فَنزل بهَا فَتَلقاهُ صَاحبهَا وَوصل فِي تِلْكَ الْحَال عماد الدّين أَبُو بكر بن قرا أرسلان بعساكر ديار بكر وآمد عوضا عَن أَخِيه نور الدّين وَكَانَ قد تَأَخّر لمَرض عرض لَهُ فشكره السُّلْطَان وأجزل لَهُ الْعَطاء ثمَّ رَحل السُّلْطَان إِلَى نَصِيبين وَسَار مِنْهَا إِلَى بَين النهرين فَضرب مخيمه هُنَاكَ وَوصل إِلَيْهِ معز الدّين سنجر شاه بن غَازِي بن مودود بن زنكي حَاجِب الجزيرة فَاسْتَبْشَرَ السُّلْطَان بقدومه ووفر لَهُ من إحسانه وَسَار بعساكره إِلَى طَرِيق الدولعية قَاصِدا

إِلَى دجلة فَنزل على بلد من شاطئ دجلة فِي آخر شهر ربيع الأول وَوَصله الْخَبَر بوفاة نور الدّين بن قرا أرسلان صَاحب آمد يَوْم الأثنين رَابِع عشر من الشَّهْر الْمَذْكُور فَأمر أَخَاهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى تِلْكَ الْبِلَاد وَأمره بترتيب أمورها ثمَّ رَحل مِنْهَا فَضرب مخيمه على الإسماعيليات وأقطع الْبِلَاد الأجناد وسير الْأَمِير سيف الدّين عَليّ بن أَحْمد المشطوب الهكاري وَمَعَهُ جمَاعَة من الْأُمَرَاء إِلَى الْعقر وأعماله وَأمر السُّلْطَان بِعَمَل جسر فنصب وَعبر مظفر الدّين بن عَليّ صَاحب حران وخيم بالجانب الغربي وَمَعَهُ جمَاعَة من الْأُمَرَاء وَجَاء أَخُوهُ زين الدّين من إربل بعسكره وجماعته وَأمر النَّاس بترك الْقِتَال وَتَأْخِير الزَّحْف وَأرْسل القَاضِي ضِيَاء الدّين الشهرزوري برسالته إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز فِي إنهاء الْأَحْوَال وَشرح الْأَسْبَاب الْمُقْتَضِيَة لنهوضه لخدمة المواقف المقدسة الناصرة لدين الله وَأَن المواصلة كاتبوا البهلوان بِضَرْب الدِّرْهَم وَالدِّينَار باسم السُّلْطَان السلجوقي ليظهروا بنصره وَأَنَّهُمْ بعد ذَلِك راسلوا الفرنج يغرونهم بِقصد الثغور وكشف مَا اعتادوه من الظُّلم وَيذكر أَيْضا مَا افتعلوه من مبايعة ابْن أخيهم سنجر شاه بن غَازِي وَابْن زين الدّين صَاحب أربل وَمَا ضيعوا من محافظته وَأَنَّهُمْ لم يرعوا حَقه وَلَا حق أَبِيه الَّذِي حفظ بَيتهمْ وَأَشْيَاء كَثِيرَة لم نذكرها

فصل

فصل من كتاب عَن السُّلْطَان إِلَى مجد الدّين بن الصاحب أستاذ الدَّار الأمامية فِي وَجه مَا شَرحه من الْحَال قد أحَاط الْعلم الْكَرِيم بِأَن التَّوَجُّه لم يكن فِي هَذِه السّنة من دمشق إِلَى حلب إِلَّا للْجِهَاد فِي سَبِيل الله عز وَجل فَإِنَّهُ غَايَة الأرب وَذَلِكَ بنية غزَاة أنطاكية فَإِن غزَاة الفرنج من جَانب دمشق إِنَّمَا تستقيم أَسبَابهَا وتستتب آرابها إِذا كَانَت عَسَاكِر مصر حَاضِرَة وَالْأَيْدِي بقوتها متظاهرة وَكَانَت العساكر المصرية قد طَالَتْ بِالشَّام إِقَامَتهَا وتوفرت فِي مُلَازمَة الْخدمَة فِي البيدارات عرامتها فَرَأى إراحتها واستجمامها وعادت إِلَى مصر لتستجد استعدادها واهتمامها وَوصل إِلَى حلب لقربها من الْبِلَاد الإسلامية لِتجمع العساكر مِنْهَا لغزاة أنطاكية وطمع أَيْضا فِي وُصُول الْعَسْكَر الْموصِلِي للإنجاد والمساعدة من سَائِر الْجِهَات على الْجِهَاد والاستظهار مِنْهَا بتوافر الأمداد فَإِن رسل المواصلة مَا زَالُوا مترددين وللخديعة بالْقَوْل والكتب مجددين وهم فِي أثْنَاء ذَلِك يراسلون الجوانب ويكاتبون الْأَجَانِب ويرتقبون النوائب وَتذهب بمعاودتهم الْأَوْقَات وتحدث دون قصدهم الحادثات فهادن أنطاكية هدنة آذَنت بغبطة الْإِسْلَام وخلص من طَال إساره من ذَوي الْإِقْدَام وَرِجَال الشَّام وَرَأى أَن المواصلة لَا ينزلون عَن المحتمين بِهِ وَلَا يرفعون أَيْديهم عَن المعتصمين بِسَبَبِهِ وَمِنْهُم صَاحب الجزيرة وَصَاحب إربل وَمن بتكريت والحديثة وَغَيرهَا وَأَنَّهُمْ لَا يقفون فِي الْمَكْر والخديعة عِنْد أمد وَأَن رسلهم متناوبة إِلَى كل أحد فَسَار على أَنه يلْحق الْبِلَاد قبل هجوم الْحر ويصل إِلَيْهَا فِي وَقت إِمْكَان الْحصْر فَمَا وصل إِلَيْهَا إِلَّا وَالْحر قد اشْتَدَّ استعاره والقيظ قد تأججت ناره وَرَأى الْوَقْت يعسر فِي تَقْدِيم آلَات الْحصار ويخشى عَلَيْهَا مَعَ نَار الهجير من قبُول النَّار فَإِنَّهُ

استصحب منجنيقات ودبابات وأخشابا لعمل البرج مهيبات ووقد الظهيرة يُؤثر فِيهَا ويشق أَيْضا لبس الدروع على مستلميها فَلم يبْق إِلَّا الْمقَام بنية المطاولة والمصابرة والتمهل إِلَى أَن يطيب الزَّمَان ويتيسر إِمْكَان المحاصرة فتوطن عزمه على التوطن وَأقَام بنية التثبت وَقُوَّة التَّمَكُّن وأقطع الْبِلَاد والولايات وَولى الإقطاعات وخيمت العساكر المنصورة بشرقي الْموصل وغربيها فضيقت خناقها وملأت بنجوم الأسنة أفاقها وتصرفت فِي أَعمالهَا وَتَفَرَّقَتْ فِي سهولها وجبالها وَمِنْه ورأينا أَن مقامنا بِغَيْر شغل فأفكرنا فِي أَمر يقوم مقَام الْحصار سهل وَهُوَ أَنا وجدنَا المَاء فِي أَوَان نقصانه وَأَنه إِذا سد وحول فَهَذَا زمَان إِمْكَانه فَرَكبْنَا وشاهدنا مَوضِع التَّحْوِيل وأيقنا من الله تَعَالَى بنجح التأميل وَذكر المهندسون أهل الْخِبْرَة أَنه يسهل تَحْويل دجلة الْموصل عَنْهَا بِحَيْثُ يبعد مستقى المَاء مِنْهَا فَحِينَئِذٍ يضْطَر أَهلهَا إِلَى تَسْلِيمهَا بِغَيْر قتال وَلَا حُصُول ضَرَر فِي تضييق وَلَا نزال واستدعى لذَلِك الْآلَات واشتغل بِجمع صناع وَرِجَال وأصدر أَيْضا كتابا إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز بِمُقْتَضى ذَلِك رَجعْنَا إِلَى إتْمَام الحَدِيث

ذكر رحيل السلطان من الموصل إلى ديار بكر ومسير ناصر الدين محمد ابن شيركوه ومظفر الدين بن علي كوجك في المقدمة إلى خلاط وذكر وصول بهلوان بن أيدكز إلى المغرب

وَلم يزل السُّلْطَان محاصرا للموصل مواظبا على مضايقتها إِلَى أَن أَتَاهُ الْخَبَر بوفاة شاه أرمن صَاحب خلاط يَوْم السبت الْعشْرين من شهر ربيع الآخر وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْخَمِيس الرَّابِع مِنْهُ فَحِينَئِذٍ ترددت الآراء وَكَثُرت المشورات وأتى إِلَيْهِ الْأُمَرَاء وذووا الرَّأْي مِنْهُم من أَشَارَ عَلَيْهِ بِالْمَسِيرِ إِلَى تِلْكَ الديار وَمِنْهُم من قَالَ لَهُ تجمع بَين الْأَمريْنِ فَتتْرك بعض الْعَسْكَر بِقدر مَا تضايق بِهِ الْبَلَد من الْجَانِبَيْنِ وتعجل بِالْمَسِيرِ لأخذ تِلْكَ الخطة فَلَمَّا أصبح وَردت عَلَيْهِ كتب أَوْلِيَاء الدولة بخلاط وَتلك الولايات وبد لَيْسَ وَوصل من أُمَرَاء خلاط عماد الدّين ملك وحرض السُّلْطَان على الْمسير إِلَى تِلْكَ الديار وَقَالَ هَذِه الْموصل ملك مَا يخْشَى فَوَاتهَا فَبَقيَ السُّلْطَان مفكرا فِي أمرهَا فِي يَوْمه وَلَيْلَته فَلَمَّا أصبح عزم على الرحيل عَن الْموصل ثمَّ أَمر الرَّسُول بِالْمَسِيرِ إِلَى بلد خلاط وَأمر أمراءه بالتأهب وعرفهم مَا عزم عَلَيْهِ من قصد تِلْكَ الخطة ثمَّ أرسل إِلَى زين الدّين بن عَليّ كوجك صَاحب إربل بِالرُّجُوعِ إِلَيْهَا وَجعل فِي معونته الْأَمِير سيف الدّين عَليّ بن أَحْمد المشطوب ذكر رحيل السُّلْطَان من الْموصل إِلَى ديار بكر ومسير نَاصِر الدّين مُحَمَّد ابْن شيركوه ومظفر الدّين بن عَليّ كوجك فِي الْمُقدمَة إِلَى خلاط وَذكر وُصُول بهلوان بن أيدكز إِلَى الْمغرب فِيهَا كَانَ رحيل السُّلْطَان عَن الْموصل بعساكره فِي أَوَاخِر شهر ربيع

الآخر من السّنة وَتقدم إِلَى ابْن عَمه نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن شير كوه بِأَن يتَقَدَّم إِلَى خلاط وأردفه بمظفر الدّين بن زين الدّين صَاحب حران وَمن تابعهما فَلَمَّا وصلوا إِلَى خلاط وجدوا سيف الدّين بكتمر أحد مماليك شاه أرمن قد دَخلهَا وَحمى معلقها فَوقف نَاصِر الدّين وَمن مَعَه دونهَا وَجَاء شمس الدّين بهلوان أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن أيدكز فِي عَسَاكِر الشرق وَنزل بِقرب خلاط أَيْضا وَكَانَ وَزِير خلاط مجد الدّين أَبُو الْمُوفق بن رَشِيق يُكَاتب السُّلْطَان صَلَاح الدّين مرّة ويكاتب البهلوان أُخْرَى وَيكْتب إِلَى نَاصِر الدّين بن شيركوه بِالْإِقَامَةِ وَأما السُّلْطَان فَإِنَّهُ سَار مُتَوَجها إِلَى ديار بكر فخاف جَمِيع متملكيها من قدومه إِلَيْهِم فَأَما النظام البقش متولى ماردين فَإِنَّهُ احْتَرز وتحصن وَأما صَاحب آمد فَإِنَّهُ خَافَ على نَفسه من السُّلْطَان أَن يَأْخُذهَا بعد موت أَبِيه نور الدّين مُحَمَّد بن قرا أرسلان وَأَشَارَ على السُّلْطَان جمَاعَة من الْأُمَرَاء بِأخذ آمد وَقَالُوا لَهُ إِنَّمَا أَنْت وهبتها لنُور الدّين وَلَا حرج عَلَيْك فِي أَخذهَا من وَلَده مَعَ كَونه طفْلا وَأَنه قد امْتنع أَن يَأْتِي إِلَى الْخدمَة فَقَالَ هَذَا أَمر لَا يفوت استدراكه وَنحن نتقدم بإيفاد من نثق بِهِ إِلَيْهِم ونتأمل مَا هم عَلَيْهِ ونبني الْأَمر على الْيَقِين فندب إِلَيْهِم القَاضِي الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الْفراش فحين دخل إِلَى آمد وجدهم على جادة الْعَزْم على الْوُصُول إِلَى الْخدمَة فتركهم وأتى إِلَى السُّلْطَان فخبره بوصول قطب الدّين سُلَيْمَان ولد نور الدّين مُحَمَّد بن قرا أرسلان وَكَانَ

ذكر حصار ميافارقين

وُصُول السُّلْطَان إِلَى ميافارقين فِي الْعشْر الأول من جمادي الأول فَرَأى أَهلهَا مفارقين لطاعته واتاه كتاب نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن شيركوه يَسْتَأْذِنهُ بالوصول إِلَيْهِ فَأذن لَهُ بذلك وَقَالَ الرَّأْي أَن نبتدى بحصار ميا فراقين وَفتحهَا وشاور أَصْحَابه وأمراءه فِي ذَلِك فَقَالُوا لَهُ الرَّأْي مَا ترَاهُ ذكر حِصَار ميافارقين وَلما علم النظام البقش بمسير السُّلْطَان إِلَى تِلْكَ الْجِهَة ندب من أَصْحَابه الْأَمِير أَسد الدّين برتقش وَأمره بِالْمَسِيرِ إِلَى ميافاراقين فَلَمَّا وَصلهَا بذل بَدْء فِي الْأَمْوَال وَفرق على الرِّجَال وَنصب المنجنيقات والعرادات وملأ الأبراج بالأجناد وأرعد وأبرق وأنف واستكبر فَلَمَّا عاين السُّلْطَان ذَلِك أَمر عساكره بالاستعداد وَنصب المناجيق فَنصبت وَأمر النَّاس بِالْقِتَالِ والزحف وَطَالَ الْقِتَال عَلَيْهَا صباحا وَمَسَاء وَخرج جمَاعَة مِنْهُم وأحرقوا منجنيق السُّلْطَان فَقتل من الْفرْقَتَيْنِ جمَاعَة كَبِيرَة وَقتل يُوسُف المنجنيقي وَكَانَ مقداما شجاعا وَكَانَ فِي كل يَوْم تشتد الْحَرْب وَيكثر النزال وَكَانَت الْأُمُور لَا تزداد إِلَّا شدَّة وَطَالَ الْحصار ودام وَكَانَت خاتون بنت قرا أرسلان زَوْجَة قطب الدّين صَاحب ماردين حِينَئِذٍ بميافارقين وَكَانَت تحرض النَّاس على الْقِتَال وَكَانَت ذَات يتامى وَلها حَالَة حَسَنَة مَعْرُوفَة بالصلاح والتقى فَلَمَّا لج الْحصار وَطَالَ الْأَمر وَتَمَادَى راسل السُّلْطَان الْأَمِير الْمَذْكُور بميافارقين يستلينه ويستكشف

نهج الْجَواب من جَانِبه ويرغبه تَارَة ويستعطفه تَارَة ثمَّ يتوعده تَارَة ويتهدده أُخْرَى فَذكر أَنه يقْضِي حق من وَجب عَلَيْهِ حَقه يَعْنِي بذلك صَاحبه وَذكر أَن قطب الدّين مذ درج إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى لم تزل الخاتون مالكة الْأَمر وَنحن لَهَا مطيعون فراسل السُّلْطَان حِينَئِذٍ خاتون مرّة أُخْرَى وَهِي لَا ترجع إِلَيْهِ جَوَابا يشفيه ثمَّ أَنه قَالَ لَهَا إِنَّا لَا بنرح هَاهُنَا حَتَّى نفتح ميافارقين وَإِنَّا نَحن أولى بِحِفْظ بَيْتك ورعاية حَقك وَهَذِه الْبَلدة إِذا دخلناها فَلَا خُرُوج لنا عَن رضاك ونصاهرك فِي إِحْدَى عقائلك وَلم يزل بهَا حَتَّى طابت نَفسهَا بِمَا بذله السُّلْطَان لَهَا وراسل السُّلْطَان عِنْد ذَلِك الْأَمِير الْأسد برتقش وَقَالَ لَهُ دع اللجاج والمجانبة فَإِن خاتون قد مَالَتْ إِلَى جانبا فَلَمَّا بلغه أَن خاتون قد وَافَقت السُّلْطَان على مُرَاده لانت عريكته وضرع إِلَى رَأْي السُّلْطَان وَاسْتقر أَن يَنْقَطِع إِلَى خدمته وَأَن يكون فِي جملَة من شملته سوابغ نعْمَته وَأَن يَخُصُّهُ بجنلجور وأعماله وَأَن يُقرر مَعَ خاتون أَن يبْقى مَا كَانَ عَلَيْهَا باسمها من الْمَوَاضِع وَاسم خدامها وَسَأَلت أَن يفرد لَهَا حصن الهتاخ وخطب السُّلْطَان إِلَيْهَا إِحْدَى بناتها لِابْنِهِ الْملك الْمعز فتح الدّين اسحق والتمست مِنْهُ مَا قَرَّرَهُ على يَمِينه فسارع إِلَى مرادها

ذكر ميافارقين وفتحها

ذكر ميافارقين وَفتحهَا وَلما كَانَ يَوْم الْأَرْبَعَاء آخر يَوْم من جمادي الأولى تقدم السُّلْطَان إِلَى القَاضِي نجم الدّين بن عصرون والعماد الْكَاتِب الْأَصْفَهَانِي بِالدُّخُولِ إِلَى ميافارقين لعقد النِّكَاح على ابْنة قطب الدّين لوَلَده اسحق وَكَانَ وَكيل السُّلْطَان لِابْنِهِ الْعِمَاد الْكَاتِب ووكيل ابْنة قطب الدّين القَاضِي نجم الدّين ابْن عصرون لتقرير الْمهْر وَتَسْلِيم النَّقْد وَجلسَ السُّلْطَان فِي سرادقه للهناء وَخرج إِلَيْهِ الْأَعْيَان من الْبَلَد وَنفذ إِلَى خاتون هَدَايَا وتحفا برسم المخطوبة وأنعم على الْأَمِير أَسد الدّين بجنلجور وشرفه تَشْرِيفًا جميلا وَوصل عِنْد ذَلِك قطب الدّين سكمان بن مُحَمَّد بن قرا أرسلان وَأمر السُّلْطَان الْأُمَرَاء بلقائه ثمَّ خرج من بعدهمْ فَتَلقاهُ بالإكرام وَلم يزل عِنْده مكرما ثمَّ شرفه وَأمره بِالرُّجُوعِ إِلَى آمد موفور الْحَظ من جَانِبه وفوض السُّلْطَان ولَايَة تِلْكَ الْأَمَاكِن والبلاد إِلَى مَمْلُوكه حسام الدّين سنقر الخلاطي ذكر رحيل السُّلْطَان من ميافارقين ونزوله على شاطئ قرامان ورحل السُّلْطَان من ميافارقين وَنزل على الْموضع الْمَذْكُور وراسل البهلوان وَكَانَ السَّبَب فِي وُصُوله مراسلة سيف الدّين بكتمر لَهُ وتخويفه من السُّلْطَان وَأَنه مَتى أَخذ خلاط وَاسْتولى على ممالكها قصد جَمِيع بِلَاد الْعَجم وَحمل إِلَيْهِ مَعَ ابْنَته زَوْجَة شاه أرمن مَالا جزيلا وَندب السُّلْطَان الْفَقِيه عِيسَى إِلَى مجد الدّين بن رَشِيق الْوَزير بخلاط فَتكلم مَعَه فأحال الْحَال على البهلوان وأنكم لَو استعجلتم قبل وُصُوله إِلَى الْبِلَاد لنلتم المُرَاد

ذكر وصول رسل السلطان إلينا إلى مصر والبشارة لنا بفتح ميافارقين

ثمَّ إِن الْفَقِيه عِيسَى ندب شخصا من أَصْحَابه للتجسس على عَسْكَر البهلوان وتصفح الْأَحْوَال فَلَمَّا توَسط عسكره نذروا بِهِ فَادّعى أَنه رَسُول من صَاحبه الْفَقِيه عِيسَى رَسُول السُّلْطَان فطلبوا مِنْهُ حِينَئِذٍ وُصُول الْفَقِيه عِيسَى إِلَيْهِم فكاتبه بذلك فَأرْسل الْفَقِيه عِيسَى كِتَابه إِلَى السُّلْطَان يعرفهُ صُورَة الْحَال فَكتب السُّلْطَان إِلَى البهلوان بإرسال الْفَقِيه عِيسَى إِلَيْهِ فَتوجه الْفَقِيه عِيسَى حِينَئِذٍ إِلَى البهلوان فَأكْرمه إِكْرَاما عَظِيما فشرع الْفَقِيه عِيسَى بالصلاح وَفتح أَبْوَاب الاستعطاف والاستمالة فِيمَا بَين الفئتين وَرجع وَفِي صحبته رَسُول البهلوان إِلَى السُّلْطَان فأكرمهم وأجزل لَهُم من عطائه وَرَجَعُوا موفوري الْحَظ من جَانِبه وَرَأى أَن الْأَمر يَتَطَاوَل فَأَخَّرَهُ إِلَى حِين انتهاز فرْصَة الْإِمْكَان ذكر وُصُول رسل السُّلْطَان إِلَيْنَا إِلَى مصر والبشارة لنا بِفَتْح ميافارقين وَلما فتح السُّلْطَان ميافارقين واستلوى على ممالكها أرسل نجابين بكتابه إِلَى وَالِدي الْملك الظفر وَكَانَ حِينَئِذٍ صَاحب مصر والمستولى على ممالكها يخبرنا بِمَا من الله تَعَالَى عَلَيْهِ من فتح ميافارقين فشرعنا حِينَئِذٍ بتزيين البلدين الْقَاهِرَة ومصر وَأَرْسَلْنَا رسلنَا إِلَى جَمِيع الْبِلَاد المصرية بذلك وَضربت البشائر فِي جَمِيع الْأَمَاكِن وسررنا بِمَا من الله تَعَالَى عَلَيْهِ من النَّصْر وَالظفر وخلع على المبشرين لَهُ بذلك ووفر عطيتهم وشرفهم ذكر رحيل السُّلْطَان من شاطئ قرامان وتوجهه إِلَى الْموصل وَذَلِكَ فِي شهر رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة فَكَانَ وُصُوله إِلَى نَصِيبين فَنزل بهَا أَيَّامًا حَتَّى تَكَامل وُصُول العساكر إِلَيْهِ وَذَلِكَ فِي آخر الشَّهْر

الْمَذْكُور ثمَّ رَحل من نَصِيبين فَنزل على شاطئ دجلة بِكفْر زمار بِقرب الْموصل وَذَلِكَ بعد أَرْبَعَة أَيَّام من شعْبَان فَحِينَئِذٍ ضَاقَتْ على صَاحب الْموصل الأَرْض بِمَا رَحبَتْ وغلقت أَبْوَاب الْموصل وأحاطت بهَا العساكر واضطرب أَهلهَا اضطرابا شَدِيدا وَكَانَ السُّلْطَان يركب فِي بعض الْأَيَّام ويشرف على الْبَلَد وَينظر مقاصده وَكَانَ يَأْتِيهِ مُنْذُ نزل على مَا حكى لي فِي الرسَالَة من الْموصل قوم بعد قوم فَبينا هُوَ على ذَلِك من حصارهم والتضييق عَلَيْهِم إِذْ أَقبلت عَلَيْهِ النِّسَاء الأتابكيات فخضعن لَهُ فِي القَوْل وسألنه عاطفته فأنزلهن خير منزل وأكرمهن غَايَة الْإِكْرَام وأجابهن إِلَى مارمنه مِنْهُ وَقبل شفاعتهن وَقَالَ لَهُنَّ لابد من قَاعِدَة نَبْنِي عَلَيْهَا وتتألف عَلَيْهَا الْقُلُوب وتطمئن إِلَيْهَا الْأَنْفس فاستقر الْأَمر أَن يكون عماد الدّين زنكي صَاحب سنجار أَخُو صَاحب الْموصل وَسِيطًا فِي الْبَين وَحكما فِيمَا يعود بمصلحة الْجَانِبَيْنِ وسير السُّلْطَان رَسُوله إِلَى صَاحب سنجار فِي إيفاد رَسُوله فأنفذ وزيره شمس الدّين بن الْكَافِي وَكَانَ من قبل قد سبق القَوْل فِي تَسْلِيم بِلَاد شهرزور وقلاعها وحصونها وضياعها وَكَذَلِكَ مَا وَرَاء الزابين من البوازيج والرستاق وبلد القراملية وَبنى قفجاق فَدخل

نسخة

شمس الدّين بن الْكَافِي وشمس الدّين قَاضِي الْعَسْكَر لأخذ الْعَهْد من صَاحب الْموصل على مَا ذَكرْنَاهُ واستقرت الْقَوَاعِد على ذَلِك وَضربت الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم باسمه وخطب لَهُ على المنابر بِجَمِيعِ تِلْكَ الممالك نُسْخَة كتاب كتبه السُّلْطَان إِلَى أَخِيه سيف الْإِسْلَام ملك الْيمن يذكر فِيهِ فتح ميافارقين وَعوده إِلَى الْموصل وَمَا جرى من الصُّلْح وَذَلِكَ بإنشاء الْعِمَاد الْكَاتِب الْأَصْفَهَانِي كتَابنَا وَنعم الله تَعَالَى مَنُوط بمزيد الشُّكْر عندنَا مزيدها محوط من السديد وَأمّهَا وفريدها حَال من الِاغْتِبَاط مِنْهَا جيدها حَال فِي مَحل الارتباط لنا أنيسها وشرودها والنصر مَاض نصله وَالْخَيْر وَاضِحَة سبله والملوك وَقد دَانَتْ لنا رقابها ولانت صعابها وذلت لعزتنا أعزتها وتوفرت للتناهي فِي الْعُبُودِيَّة لنا هزتها فرسلهم على الْأَبْوَاب العزيزة للذلة خاضعة عارضة للاستكانة ضارعة والممالك لمملكتنا خاطبة وَفِي عدلنا راغبة ولطلوع سني إحساننا بكشف ظلم الظُّلم عَنْهَا طالبة وَالْوُجُوه سافرة وَالْأَيْدِي ظافرة ولاشك فِي إحاطة علمه بعبورنا الْفُرَات فِي صفر سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ لإِصْلَاح ديار بكر والموصل وفوزنا فِي كل وجهة بالنصر العذب المنهل وَأَنا أَقَمْنَا أشهرا على بِلَاد الْموصل وتصرفنا فِيهَا وأنعمنا على الأجناد بأعمالها ونواحيها فاتفق اختلال أَمر ديار بكر لمَوْت مُلُوكهَا وتبدد سلوكها فقصدناها وقررنا أمورها وأعدنا إِلَى مطالعها من سياستنا نورها وفتحنا ميافارقين وَهِي أم بلادها ومقلد نجادها ومركز محيطها ونقطة بسيطها فملكنا بهَا من ديار بكر رق مُلُوكهَا وأطلقنا بهَا شمس المهابة بعد دلوكها وأخمدنا الْفِتَن وَقد وقدت وَنَبَّهنَا السّنَن وَقد رقدت وأحيينا الْعدْل

وَقد دثر وأنعشنا الْفضل وَقد عثر وَدخل الشتَاء فخرجنا من تِلْكَ الديار بعد ضم شتاتها ونظم مصالحها وَصرف آفاتها وَأذن حَيا رَحْمَتنَا رفاتها وَلأَجل اعتصام الْأَطْرَاف بِنَا واستمساكهم بسببنا وَمِنْهُم صَاحب الجزيرة معز الدّين سنجر شاه بن أخي صَاحب الْموصل وزين الدّين بن زين الدّين عَليّ كوجك صَاحب إربل رَأينَا أَن نُقِيم فِي بِلَاد الْموصل لنشتو بهَا إِلَى الرّبيع ونستجد حِينَئِذٍ فِي فتح الْبِلَاد حسن الصَّنِيع وَلما تحقق صَاحب الْموصل هَذَا الْعَزْم وخشى هَذَا السهْم ضَاقَتْ عَلَيْهِ الأَرْض بِمَا رَحبَتْ وضافته الهموم الَّتِي وجفت لَهَا الْقُلُوب وَوَجَبَت فَألْقى سلاحه وَطلب بِالصُّلْحِ صَلَاحه وخفض بضراعته جنَاحه وَحفظ على أَهله فِينَا نجاحه وَلم يزل لنا مذعنا وَكَانَ حلمنا لمأمن روعه لما أَتَى مُؤمنا مُؤمنا وَنزل لنا عَن جَمِيع مَا وَرَاء الزاب من الْبِلَاد والقلاع والحصون والضياع وشهزور ومعاقلها وعمالها وَولَايَة بني قفجاق وَولَايَة القرايلي والبوازيج وعانة وقررنا عَلَيْهِ الْموصل وأعمالها على أَنه يكون بحكمنا وَينفذ عسكره إِلَى خدمتنا وَتَكون الْخطْبَة وَالسِّكَّة باسمنا وسمتنا وَأَن يُطلق الْمَظَالِم وَلَا يرتكب فِيهَا المآثم وَقد حصلت لنا من صَاحب الْموصل وَمن جَمِيع من بالجزيرة وديار بكر الطَّاعَة وَالسِّكَّة وَالْخطْبَة وَصَارَت فِي كل خطة لدولتنا الْخطْبَة وتمت فِينَا الرَّغْبَة ونمت لنا الْمحبَّة وعمت الهيبة والرهبة وَمَا سمت لكل ذِي رُتْبَة سامية إِلَّا بالانخفاض لأمرنا الرُّتْبَة والدولة ناضرة والحدائق ناظرة الأحداق منيفة الإشراف منيرة الْإِشْرَاق متعالية السناء سنية الْعَلَاء وبنعمة الْأَوْلِيَاء مُتَوَالِيَة النعماء سامية الهمة هامية السَّمَاء نامية الصِّحَّة صَحِيحَة الْأَسْمَاء والعوارف إِلَى ذَوي الشُّكْر منا فوارع والصنائع فِي ذري الابتهاج بِنَا نصائع والعزائم إِلَى الْجِهَاد فِي سَبِيل الله عز وَجل نوازع وَقد زَالَت الْعَوَائِق وَارْتَفَعت الْمَوَانِع ونحجت الآمال ورجحت وَتمكن ساعد الْقدر وساعد إِمْكَان الْقُدْرَة

رجعنا إلى إتمام الحديث

رَجعْنَا إِلَى إتْمَام الحَدِيث وَلما تسلم السُّلْطَان الْبِلَاد الْمَذْكُورَة ولاها جمَاعَة من أَصْحَابه ومماليكه وأمرائه فَأَما شهرزور فَإِنَّهُ أرسل إِلَيْهَا مَمْلُوكه مُجَاهِد الدّين أياز وَندب للنَّظَر فِي تِلْكَ الْأَعْمَال شمس الدّين بن الْفراش وأقطع البوازيج لبَعض خواصه ووقف ضَيْعَة تعرف بباقيلا على وَرَثَة شيخ الشُّيُوخ بِبَغْدَاد ثمَّ رَحل السُّلْطَان من الْموصل فِي شَوَّال مُتَوَجها إِلَى نَصِيبين فَكَانَ فِيهَا ثامن الشَّهْر الْمَذْكُور وَأقَام بهَا أَيَّامًا ثمَّ رَحل مِنْهَا إِلَى حران فِي الْعشْر الآخر من شَوَّال فَكَانَ وُصُوله إِلَيْهَا فِي آخِره وَلم يزل السُّلْطَان بحران إِلَى آخر السّنة وَكَانَ قد ألم بِهِ مرض شَدِيد مُدَّة مقامة فِي حران وَطَالَ ذَلِك بِهِ وَكَثُرت الأرجيف عَنهُ فِي تِلْكَ المرضة ذكر شَيْء من مَكَارِم أخلاقه رَضِي الله عَنهُ ذكر بعض أَصْحَابنَا أَن السُّلْطَان لما اشْتَدَّ بِهِ الْمَرَض بحران وَكَانَ قد أَتَاهُ جمَاعَة كَبِيرَة من سَائِر بِلَاد الْإِسْلَام طلبا لإنعامه عَلَيْهِم على جاري عَادَته وَحسن سجيته قَالَ فاستغاث النَّاس وَمن هُنَاكَ من القاصدين لَهُ والسائلين فَسمع ضجة النَّاس فَقَالَ مَا هَذِه الضجة فَقيل لَهُ هَؤُلَاءِ الوافدون عَلَيْك قد اجْتَمعُوا على بابك متأسفون على مَا بك قَالَ فَأمرنِي بكتب أسمائهم فَكَانُوا خلقا كثيرا فَأعْطى كلامنهم على قدره وَمَا قسم الله تَعَالَى على يَده فَكَانَ مَالا كثيرا وسارت الْأَخْبَار بمرضه فَأَما أَخُوهُ الْملك الْعَادِل سيف الدّين أَبُو بكر فَإِنَّهُ سمع بحلب مرض أَخِيه فَسَار إِلَى حران يقطع لمنازل فوصلها بعد أَيَّام فَأَقَامَ بهَا عِنْد السُّلْطَان

ذكر من توفي في هذه السنة من الأماثل وغيرهم ممن نذكره

لضبط الْأُمُور وسياسة الْجُمْهُور وَالْجُلُوس فِي نوبتيه لتولي مصَالح الرّعية ووظائف السماط وَالْعَمَل فِي كل مُهِمّ وتنفيذ مَا يخرج من المراسيم السُّلْطَانِيَّة وَسَمَاع مراسلة الجوانب وَغير ذَلِك واتصلت بِنَا الْأَخْبَار إِلَى مصر والكتب من عِنْده بمرضه وَكَانَ وَالِدي الْملك المظفر حِينَئِذٍ بهَا ومتوليا على ممالكها ثمَّ تَوَاتَرَتْ إِلَيْنَا كتبه بعافيته وركوبه فَسُرِرْنَا بِمَا من الله بِهِ تَعَالَى على الْإِسْلَام وَأَهله بعافيته ذكر من توفّي فِي هَذِه السّنة من الأماثل وَغَيرهم مِمَّن نذكرهُ فِيهَا توفيت عصمَة الدّين ابْنة معِين الدّين أنر وَكَانَت فِي عصمَة نور الدّين مَحْمُود بن زنكي فَلَمَّا توفّي وَخَلفه السُّلْطَان بِالشَّام فِي حفظ الْبِلَاد ونصرة الْإِسْلَام تزوج بهَا فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَخَمْسمِائة وَكَانَت من النِّسَاء العفائف ذَات مَعْرُوف وَصدقَة وَصَلَاح وفيهَا توفّي سعد الدّين مَسْعُود بن أنر رَضِي الله عَنهُ وفيهَا توفّي عز الدّين جاولي وَكَانَ من أكَابِر الْأُمَرَاء وفيهَا قتل قوام الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن سماقة وَزِير قرا أرسلان قتل بآمد قَتله مماليك مخدومه وَذَلِكَ أَنه كَانَ قد تمكن وَاسْتولى على مَا كَانَ

ذكر السبب في قتله

بصدده وَكَانَ أحد الْأُمَرَاء الْكِبَار وَيعرف بالصلاح فَبلغ أَنه قد تولى الْأَمر مَعَه وَكِلَاهُمَا مستشعر من صَاحبه فَسبق الْوَزير إِلَى قَبضه وحبسه واستقل فِي التَّدْبِير فَلَمَّا سمع الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين بِهَذِهِ الْوَاقِعَة من الْوَزير وَمَا حدث مِنْهُ فِي حق الْأَمِير الْمَذْكُور قَالَ يَوْمًا فِي مَجْلِسه لقد تعرض هَذَا للخطر وكأنى بِهِ وَقد ذهبت نَفسه فَكَأَنَّهُ نطق بِمَا كَانَ فِي الْقدر المحتوم فَلم تكن إِلَّا أَيَّام قَلَائِل إِلَّا وَالْخَبَر ورد بقتْله ذكر السَّبَب فِي قَتله وَذَلِكَ أَن جمَاعَة من المماليك المفردين تَآمَرُوا على قَتله فجَاء أحدهم إِلَيْهِ وَهُوَ جَالس فِي ديوانه وَعِنْده جمَاعَة من الأماثل والأكابر وَغَيرهم فَقَالَ لَهُ الْملك يَدْعُوك وَحدك ليسألك عَن حَدِيث عنْدك فَقَامَ وَدخل الدهليز فثاروا عَلَيْهِ وقتلوه ثمَّ أخرجُوا الصّلاح من الْحَبْس فَلَمَّا تمكن قبض وَبسط وشرد أَصْحَاب الْوَزير وَقتل مِنْهُم من أدْركهُ ثمَّ إِنَّه قتل أُولَئِكَ القاتلين إِلَى أَن أدْرك الْأَمِير رشده وفيهَا توفى الْأَمِير نَاصِر الدّين بن شيركوه بحمص فِي تَاسِع ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة وفيهَا توفى الْفَقِيه مهذب الدّين عبد الله بن أسعد الموصلى بحمص وسأذكر مَا تجدّد من الْأُمُور السُّلْطَانِيَّة فى سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وفيهَا تجهز أَبُو يَعْقُوب بعسكر زهاء على عشْرين ألفا وَجمع جموعا

واقعة قراقوش المظفري

كَثِيرَة لقصد عَليّ بن اسحق وَرجع مكسورا وَاقعَة قراقوش المظفري وَفِي هَذِه السّنة وصل إِلَى نواحي قشطيلة أَبُو الْحسن على صَاحب مايرقه لِأَنَّهُ كَانَ خرج إِلَى بجاية وملكها وَكسر السَّيِّد أَبَا عَليّ بن عبد الْمُؤمن وَأخذ مِنْهُ أَمْوَالًا عَظِيمَة وَسَار إِلَى مرعية فملكها وَعَاد من فوره رَاجعا إِلَى نَاحيَة الْمشرق وَجعل بجاية وَرَاء ظَهره وَترك بهَا أَخَاهُ أَبَا زكري وَنزل هُوَ على قسطنطينة الْهَوَاء محاصرا لَهَا فَأَقَامَ عَلَيْهَا أَرْبَعَة أشهر فوصل إِلَى بجاية عَسْكَر الْمُوَحِّدين تقدمهم السَّيِّد أَبُو زيد عمر بن عبد الْمُؤمن فَلم يقدر أَبُو زكري على الْإِقَامَة ببجاية فلحق أَخَاهُ إِلَى قسطنطينة وَسَار إِلَيْهِمَا أَبُو زيد فحبسه فَانْهَزَمُوا بَين يَدَيْهِ إِلَى قلعة ابْن حَمَّاد فَأَخَذُوهَا ونهبوها فلحقهم فَانْهَزَمُوا إِلَى بلره أخذوها أَيْضا ونهبوها فسارع إِلَيْهِم أَبُو زيد فَدَخَلُوا نفطة وكدكين من عمل قشطيلة وسمعوا بشرف الدّين أَنه على الحامة فنفذوا إِلَيْهَا رَسُولا وَقَالُوا إننا قوم من بني الْعَبَّاس ونريد دولتهم وَنحن نُرِيد أَن نَكُون وَإِيَّاك مُجْتَمعين فنفذ إِلَيْهِم شرف الدّين بهاء الدّين ساروج وَمَعَهُ سِتُّونَ فَارِسًا من أجناده وشطار عسكره فَلَقِيَهُمْ على حامة البهاليل

سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة

يحاصرونها وَقد كَانُوا نزلُوا على توزر فَمَا قدرُوا عَلَيْهَا وَلَا على نفطة وكدكين فَلَمَّا وصلت الأتراك إِلَيْهِم رجعُوا إِلَى الحامة الْمَذْكُورَة فَأَخَذُوهَا عنْوَة وَقتلُوا فِيهَا ألفا وَسَبْعمائة رجل ونهبوها وَكَانَت من الْبِلَاد الْحَسَنَة الطّيبَة الْكَثِيرَة الْبَسَاتِين والفواكه وانعقد الصُّلْح فتقررت الْقَاعِدَة على أَن تكون الْبِلَاد بَينهمَا نِصْفَيْنِ يكون لشرف الدّين من الْبِلَاد نوبَة وَمن نوبَة إِلَى الغرب للما يرقى وَمهما فتحوه كَانَ قسْمَة بَينهمَا وَاتَّفَقُوا على ذَلِك وتحالفوا وتجمعوا وَلم يزَالُوا بَقِيَّة سنتهمْ يرحلون وينزلون من مَوضِع إِلَى مَوضِع ويتمادون وَأَصْحَاب المايرقي يقلون وَأَصْحَاب شرف الدّين يكثرون لِأَن الميارقة مَا كَانَ لَهُم مدد من خليفهم وَأَصْحَاب شرف الدّين لَهُم الإقطاعات تصل إِلَيْهِم من جبل نفوسة ومطماطة وبلاد نفزاوة وَغَيرهَا وَدخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وسأذكر واقعته فِيهَا فِيمَا بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة فِيهَا نقل إِلَى الْخَلِيفَة أَن حَاجِب الْبَاب يعشق امْرَأَة مغنية يُقَال لَهَا خطليشة الظفرية وَكَانَت مستحسنة وَأَنه يمْضِي إِلَيْهَا إِلَى الْجَانِب الغربي من بَغْدَاد فَلم يصدق ذَلِك وَكَانَ أستاذ الدَّار ابْن الصاحب يثنى على الْمَذْكُور والخليفة يتَمَنَّى لَهُ

عَثْرَة حَتَّى يُؤْذِيه وَكَانَ يفعل ذَلِك لبغضه لأستاذ الدَّار فَتقدم إِلَى جمَاعَة من الحماة أَن يترقبوا من ابْن هُبَيْرَة تِلْكَ الْحَالة الْمَذْكُورَة ويعلمونه بِصِحَّتِهَا وَكَانَ الْخَلِيفَة يكثر الْجُلُوس فى بُسْتَان مُحَمَّد بن يحيى الْفراش بالشارع على نهر عِيسَى وَكَانَ حَاجِب الْبَاب لَهُ بُسْتَان على نهر عِيسَى وَقد عمر فِيهِ دَارا حَسَنَة وَكَانَ يمْضِي إِلَيْهِ وَالنَّاس بَين يَدَيْهِ والخليفة يبصره وَينفذ من يعْتَبر حَاله وَكَانَ ابْن هُبَيْرَة قد منع النَّاس من شرب الْخمر وَأمر بِالْمَعْرُوفِ وَنهى عَن الْمُنكر وَبَالغ فِي الِاحْتِيَاط وَإِظْهَار الدّين فَبينا الْخَلِيفَة ذَات يَوْم فِي بُسْتَان محمدبن يحيى ينظر إِلَى خَارج الْبُسْتَان من الدَّار الَّتِي هُوَ فِيهَا وَإِذا بخطليشة الظفرية قد أَقبلت إِلَى بُسْتَان حَاجِب الْبَاب ابْن هُبَيْرَة فَدخلت إِلَيْهِ ثمَّ بعد سَاعَة أقبل حَاجِب الْبَاب وَقُدَامَة غلمانه وَالسُّيُوف مَشْهُورَة بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه وَهُوَ لَا يعلم أَن الْخَلِيفَة فِي بُسْتَان ابْن يحيى الْفراش فَقَالَ الْخَلِيفَة هَذَا يَوْم ابْن هُبَيْرَة ثمَّ إِنَّه أَشَارَ إِلَى عَليّ بن أبي الْكَتَائِب وَقَالَ لَهُ نصبر سَاعَة وَتَأْخُذ مَعَك جمَاعَة من المماليك وتمضي وتكبس الْبُسْتَان وتنزل من حيطانه وتترك عِمَامَة ابْن هُبَيْرَة فِي عُنُقه وتقرن هَذِه القحبة إِلَى جَانِبه وتمضي بهما فِي السُّوق من أَوله إِلَى آخِره وتشهرهما فِي الْبَلَد وَبعد ذَلِك تتركهما فِي الخان الَّذِي فِي البدرية إِلَى ان أجئ إِلَى دَار الْخلَافَة وَأدبر بِأَيّ قتلة أَقتلهُ فقد أَمْرَضَنِي هَذَا الْكَلْب وأفعاله القبيحة لِأَنَّهُ يَأْمر النَّاس بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَفْعَله وينهاهم عَن الْمُنكر ويأتيه فَبينا الْخَلِيفَة يُوصي ابْن أبي الْكَتَائِب بِمَا يَفْعَله وَإِذا جَمِيع من كَانَ مَعَ حَاجِب الْبَاب قد رجعُوا وَمَعَهُمْ فرسه وَلم يبْق عِنْده سوى الْمُغنيَة خطليشة فَمضى ابْن أبي الْكَتَائِب وَمَعَهُ جمَاعَة من المماليك والأتراك الصّبيان وهم لَا يعْرفُونَ من هُوَ حَاجِب الْبَاب وَلَا غَيره وَأتوا جيمعا إِلَى بُسْتَان ابْن هُبَيْرَة فوجدوا الْبَاب مغلقا فَأمر ابْن أبي الْكَتَائِب

المماليك أَن يصعدوا من الْحَائِط فَصَعِدُوا وفتحوا الْبَاب فَدخل ابْن أبي الْكَتَائِب فَوجدَ ابْن هُبَيْرَة مُتكئا على مخدة والمغنية إِلَى جَانِبه عَلَيْهَا قَمِيص تحتاني بِغَيْر سَرَاوِيل فَأَخَذُوهُ وَإِيَّاهَا وَخَرجُوا بهما من الْبُسْتَان وضربوهما ضربا شَدِيدا حَتَّى أشرفا على الْهَلَاك وَصَارَ الْخَلِيفَة يبصرهم ثمَّ إِنَّهُم عبروا بهما إِلَى الْجَانِب الشَّرْقِي وهما على تِلْكَ الْحَال فطوف بهما فِي نهر مُعلى فِي السُّوق وَالضَّرْب يأخذهما إِلَى أَن وصلوا إِلَى بَاب البدرية فأدخلا إِلَيْهَا إِلَى الخان وَجعل ابْن هُبَيْرَة فِي أحد الْبيُوت وَفِي رجله سلسلة وَجعلت الْمُغنيَة فِي بَيت آخر مُقَابِله وَرجع ابْن أبي الْكَتَائِب والمماليك إِلَى الْخَلِيفَة وَهُوَ فِي بُسْتَان مُحَمَّد بن يحيى الْفراش فعرفوه بذلك وَأما أستاذ الدَّار فَإِنَّهُ أخبر بِحَال ابْن هُبَيْرَة فَضَاقَ صَدره وَكثر خَوفه واستشعاره وَكَانَ

§1/1