مصطلحات في كتب العقائد

محمد بن إبراهيم الحمد

مقدمة

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فإن شرف العلم بشرف المعلوم، وإن علم العقيدة أشرف العلوم، وأعظمها وأجلها؛ إذ موضوعه العلم بالله، وما ينبغي له من الجلال والتعظيم والحب والرجاء.aq، وسلامتها من التناقض، والاضطراب، واللبس والغموض. فألفاظها سهلة، ومعانيها بينة؛ فأدلتها مستقاة من الكتاب والسنة تسبق إلى الأفهام ببادئ الرأي، وأول النظر، ويشترك كافة الخلق في إدراكها، فيفهمها العالم والعامي، والصغير والكبير؛ فهي مثل الغذاء ينتفع به كل إنسان، بل كالماء الذي جعل الله منه كل شيء حي؛ فينتفع به الصبي والرضيع، والرجل القوي والضعيف؛ فأدلة الكتاب والسنة سائغة جلية تقنع العقول، وتسكِّن النفوس، وتغرس الاعتقاداتِ الجازمةَ في القلوب1. ولقد أدرك ذلك جيل الصحابة؛ لقرب العهد، ومباشرة التلقي من مشكاة

_ 1_ أشار إلى هذا المعنى ابن الوزير اليماني، انظر كتابه: ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان ص348.

النبوة التي هي مظهر كل نور، ومنبع كل خير، وأساس كل هدى؛ فكانوا أسلم الناس فطرة، وأقلهم تكلفاً، وأعظمهم إيماناً، وأزكاهم نفوساً. ثم سلك أثرهم التابعون لهم بإحسان؛ فاقتفوا طريقهم، واهتدوا بهداهم، ودعوا إلى ما دعوا إليه، ومضوا إلى ما كانوا عليه. ثم بعد ذلك دب في هذه الأمة داء الأمم، فركبت سنن من كان قبلها؛ فدخلت فلسفاتُ اليونانِ والهندِ وفارس، وضلالاتُ أهلِ الكتابِ بلادَ المسلمين، وحدث انقلاب في كثير من الاعتقادات، وجرت محاولات التوفيق بين الدين والفلسفة، وتسلط سيف التأويل على نصوص الشريعة؛ فحدثت بدع، وشاعت ألفاظ دخيلة، وتكدر وجه الحق بشوائب الباطل، وخفيت بعض معالم الهدى بسبب ما أُحدث من مصطلحات غريبة الوجه واليد واللسان عن دين الإسلام، ولغة القرآن. لذا هبَّ علماء الإسلام والسنة _ على وجه الخصوص _ لمنازلة المخالفين، والرد عليهم بالحجة والبينة والعدل والرحمة، واضطروا إلى التنزل ومخاطبة المخالفين بأساليبهم، ومصطلحاتهم؛ فنشأ من خلال ذلك _ في بعض الأحيان _ صعوبةٌ في فهم كلامهم، واستغلاقٌ للمعاني التي يريدون الوصول إليها وإن كان ذلك نسبياً وليس قاعدة مطردة. ومن هنا يظن بعض من يقرأ مؤلفات العلماء في العقيدة أنها صعبة المرتقى، بعيدة المنال، وهذا الظن ليس في محله؛ لأن العلماء إذا كتبوا العقيدة الإسلامية مجردة من الردود صاغوها بأسلوب ميسر واضح.

ولقد كان يمرّ بي أثناء قراءة بعض الكتب، أو تدريسها كثير من المصطلحات التي يستبهم معها المعنى. ومن الأمثلة على ذلك ما ألاحظه في تدريس مادة العقيدة في المستوى السابع والثامن في كلية الشريعة وأصول الدين في جامعة القصيم _ الإمام سابقاً _ حيث يلقى الطلاب عنتاً ومشقة من جراء فهم الكتاب المقرر وهو الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. ومن هنا نشأت فكرة تدوين بعض تلك المصطلحات؛ فشرعت في جمعها إما من خلال ما كتبته في حواشي بعض الكتب التي أقرؤها، أو أشرحها، أو من خلال بعض ما هو مبثوث في بعض الكتب التي ألَّفتها؛ فطبعت، ونشرت، وزدت على ذلك جملة من المصطلحات والجمل التي تحتاج إلى إيضاح؛ فاجتمع لي من جراء ذلك سوادٌ لا بأس به؛ فرغبت في نشره؛ رجاء عموم النفع به، ورغبة في أن يكون سبباً لإيضاح مشكل، أو فك مستغلق. ولقد كان الحرص قائماً على تقريب ما يتلاءم من المصطلحات إلى نظيره أو ما يقرب منه. ووضعت في النهاية فهرساً أبجدياً، وفهرساً عاماً؛ ليسهل الوصول إلى المراد. وهذه المصطلحات ليست كلها مقتصرة على كتب العقائد فحسب، بل قد ترد في بعض كتب التفسير، والأصول، والفقه، والحديث، واللغة، والمنطق، وغيرها. وهذا الكتاب ليس محيطاً، ولا مستقصياً؛ إذ هو ليس معجماً شاملاً، وإنما هو

مصطلحات يسر الله جمعها، وكتابتها. ثم إن هذه المصطلحات ليست على وتيرة واحدة من جهة وضوحها، أو إشكالها، وإنما هي متفاوتة، ويمكن إجمالها بما يلي: 1_ مصطلحات واضحة وتحتاج إلى مزيد تحليل وإيضاح. 2_ مصطلحات مشكلة مبهمة وتحتاج إلى فك وإزالة إبهام. 3_ مصطلحات غامضة داخلة في سياق ولا يفهم السياق إلا بفهمها. 4_ مصطلحات واضحة وتفهم إذا كانت مفردة، لكنها إذا دخلت في سياق استغلق المعنى؛ فيُحْتَاج معها إلى شرح وتحليل. ثم إن الشرح والتحليل يختلف بسطاً، واختصاراً من مصطلح إلى مصطلح، ومن سياق إلى سياق؛ فتارة يطول، وتارة يقصر، وهكذا ... وأخيراً أسأل الله _ بأسمائه الحسنى وصفاته العلى _ أن ينفع بهذا العمل، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم. وآمل من القارئ أن يمدني بملحوظاته، وله جزيل الشكر، وخالص الدعاء. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الإلحاد

الإلحاد يرد هذا المصطلح كثيراً في كتب العقائد خصوصاً في باب الأسماء والصفات؛ ذلك أن الإلحاد يضاد توحيد الأسماء والصفات، ويدخل في الإلحاد: التعطيلُ، والتمثيلُ، والتكييف، والتفويض، والتحريف، والتأويل، وفيما يلي نبذة عن الإلحاد، وما يدخل تحته من مصطلحات. الإلحاد: الإلحاد في اللغة هو: الميل، ومنه اللحد في القبر، ومنه قول عمرو ابن معدي كرب الزبيدي: كم من أخ كان لي ماجدٍ ... ألحدته في يديَّ الثرى وقول جرير: دعوت الملحدين أبا خبيب ... جماحاً هل شفيت من الجماح1 ويقصد بالملحدين: المائلين عن الحق. أما في الاصطلاح: فهو العدول عما يجب اعتقاده أو عمله2. والإلحاد في أسماء الله هو: العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها. أنواع الإلحاد في أسماء الله وصفاته3: 1_ أن ينكر شيئاً مما دلت عليه من الصفات كفعل المعطلة. 2_ أن يجعلها دالة على تشبيه الله بخلقه، كفعل أهل التمثيل.

_ 1_ ديوان جرير ص74. 2 _ انظر فتح ربِّ البرية بتلخيص الحموية، ص18. 3_ انظر المرجع السابق، ص19.

3_ أن يُسمى الله بما لم يُسمِّ به نفسه؛ لأن أسماء الله توقيفية، كتسمية النصارى له أباً وتسمية الفلاسفة إياه علة فاعلة أو تسميته بـ: مهندس الكون أو العقل المدبر أو غير ذلك. 4_ أن يشتق من أسمائه أسماء للأصنام، كاشتقاق اللات من الإله والعُزَّى من العزيز. 5_ وصفه _ تعالى _ بما لا يليق به، وبما ينزه عنه، كقول اليهود: بأن الله تَعِبَ من خلق السموات والأرض، واستراح يوم السبت، أو قولهم: إن الله فقير. ويدخل تحت الإلحاد كل انحراف في ذلك الباب، وسيرد تفصيل لذلك في الصفحات التالية.

التعطيل والتمثيل والتشبيه والتكييف

التعطيل، والتمثيل، والتشبيه، والتكييف 1_ التعطيل: التعطيل في اللغة: مأخوذ من العطل، الذي هو الخلو والفراغ والترك، ومنه قوله _ تعالى _: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} [الحج: 45] ، أي: أهملها أهلها، وتركوا وردها 1. وفي الاصطلاح: هو إنكار ما يجب لله _ تعالى _ من الأسماء والصفات، أو إنكار بعضه، وهو نوعان: أ_تعطيل كلي: كتعطيل الجهمية الذين أنكروا الصفات، وغلاتهم ينكرون الأسماء _ أيضاً _. ب_تعطيل جزئي: كتعطيل الأشعرية الذين ينكرون بعض الصفات دون بعض، وأول من عرف بالتعطيل من هذه الأمة الجعد بن درهم2. 2_ التمثيل: وهو في اللغة: إثبات مثيل للشيء. وفي الاصطلاح: اعتقاد أن صفات الله أو ذاته مثل صفات المخلوقين أو ذواتهم. 3_ التشبيه: إثبات مشابه للشيء. وفي الاصطلاح: اعتقاد أن صفات الله أو ذاته تشبه صفات المخلوقين أو ذواتهم.

_ 1_ شرح العقيدة الواسطية، للهراس ص67. 2_ انظر فتح رب البرية، ص15_16.

والفرق بين التمثيل والتشبيه أن التمثيل مساواة من كل وجه، أما التشبيه فمساواة في بعض الصفات. وقد يطلق أحدهما على الآخر. 4_التكييف: حكاية كيفية الصفة كقول القائل: يد الله أو نزوله إلى الدنيا كذا وكذا، أو يده طويلة، أو غير ذلك، أو أن يسأل عن صفات الله بكيف.

التفويض

التفويض التفويض داخل ضمن الإلحاد في أسماء الله وأفرد ههنا لأن فيه مزيد حديث، وفيما يلي خلاصة عنه. 1_ التفويض في اللغة يدور حول عدة معان منها: الرد إلى الشيء، والتحكيم فيه، والتوكيل. وفي باب الأسماء والصفات: هو الحكم بأن معاني نصوص الصفات مجهولة غير معقولة، لا يعلمها إلا الله. أو هو إثبات الصفات، وتفويض المعنى والكيفية. 2_ القائلون بالتفويض صنفان: أ_ صنف يزعمون: أن ظواهر النصوص تقتضي التمثيل، فيحكمون بأن المراد خلاف ظاهرها، وأنه غير مراد. ب_ وصنف يقولون: تُجرى على ظاهرها، ولها تأويلٌ يخالف الظاهر لا يعلمه إلا الله، وهؤلاء متناقضون. 3_ ظهور مقالة التفويض: ظهرت بوادر التفويض في مطلع القرن الرابع لأسباب منها: أ_ الفهم الخاطئ لمذهب السلف؛ حيث ظن أهل التفويض أن السلف يفوضون المعنى والكيفية مع أن السلف يثبتون المعنى، ويفوضون الكيفية. ب_ الاعتماد على الأصول الفلسفية اليونانية في تقرير الأسماء والصفات، واستعمال مصطلحاتهم كالجسم، والحيِّز.

جـ _ دعوى الخوف على عقائد العوام. 4_ أمور ساعدت على ظهور مقالة التفويض: ساعد على ظهور مقالة التفويض أمور منها: أ_ وقوعها من بعض الأئمة المشهورين برواية الحديث كالخطابي، والبيهقي، وأبي يعلى. ب_ انحياز أحد أئمة التأويل _ وهو أبو المعالي الجويني _ إلى التفويض في آخر حياته. جـ _ الفتيا بإلزام العوام بمذهب التفويض وأنه لا يسعهم إلا ذلك. د_ استفاضة نسبة التفويض إلى السلف، وتقرير ذلك في كتب المقالات والملل. 5_ عمدة أهل التفويض في استدلالهم على مذهبهم بالقرآن هو الوقف على قوله _ تعالى _: {وَمَاْ يَعْلَمُ تَأْوِيْلَهُ إِلاَّ الله} فبنوا شبهتهم على مقدمتين: أ_ أن آيات الصفات من المتشابه. ب_أن التأويل الذي في الآية يُقصد به صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى يخالف الظاهر. والنتيجة: أن لآيات الصفات معنىً يخالف الظاهر لا يعلمه إلا الله. ولقد غلطوا في المقدمتين؛ فآيات الصفات من المحكم معناه، المتشابه في كيفيته وحقيقته. والتأويل في الآية له قراءتان مشهورتان عن السلف؛ فعلى الوقف يكون بمعنى الحقيقة والكيفية، وعلى قراءة الوصل يكون التأويل بمعنى التفسير.

والتأويل في كلٍّ من القراءتين ليس بمعنى التأويل المُحْدَث الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى يخالف الظاهر. 6_ لوازم على مذهب التفويض: يلزم على مذهب التفويض لوازم باطلة لا محيد عنها، منها القدح في حكمة الرب، والوقوع في تعطيل دلالة النصوص، وسد باب التدبر، والطعن في بيان القرآن، وتجهيل الأنبياء، وسلف الأمة. 7_ التفويض مصادم للنقل والعقل 1. وسيرد مزيد حديث عن التفويض عند الحديث عن التأويل.

_ 1_ إذا أردت التفصيل فارجع إلى كتاب: مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات د. أحمد القاضي

التاويل

التأويل يرد مصطلح التأويل كثيراً في كتب العقائد خصوصاً في باب الأسماء والصفات، وفيما يلي نبذة وتفصيل عن هذا المصطلح. تعريف كلمة التأويل في اللغة: أصل هذه الكلمة مادة أول. وهذه المادة تدور حول معاني الرجوع، والعاقبة، والمصير، والتفسير. وهذا يعني أن تأويل الكلام هو الرجوع به إلى مراد المتكلم، وإلى حقيقة ما أخبر به. معاني التأويل في الاصطلاح: صار لفظ التأويل _ بتعدد الاصطلاحات _ مستعملاً في ثلاثة معانٍ 1: أحدها: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به. وذلك مثل تأويل معنى يد الله بـ: النعمة، أو القدرة. ومثل تأويل استواء الله على عرشه بـ: الاستيلاء، وهكذا ... وهذا المعنى من معاني التأويل هو اصطلاح كثير من المتأخرين المتكلمين في الفقه وأصوله، وهو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات، وترك تأويلها، وهل هذا محمود أو مذموم، وحق أو باطل؟ قال ابن حزم رحمه الله في هذا المعنى من معاني التأويل: التأويل نقل اللفظ عما

_ 1_ انظر التدمرية لابن تيمية ص91_95.

اقتضاه ظاهره، وعما وضع له في اللغة إلى معنى آخر؛ فإن كان نقله قد صح ببرهان، وكان ناقِلُه واجبَ الطاعة _ فهو حق. وإن كان نقله بخلاف ذلك اطُّرح، ولم يلتفت إليه، وحُكم لذلك النقل بأنه باطل 1. شروط التأويل الصحيح: يشترط لصحة التأويل بمعناه عند المتأخرين شروط هي: 1_ أن يكون اللفظ المرادُ تأويله يحتمله المعنى المؤول لغة أو شرعا؛ فلا يصح _على هذا_ تأويلات الباطنية التي لا مستند لها في اللغة أو الشرع، بل ولا العقل. 2_ أن يكون السياق محتملاً، مثل لفظ النظر فهو يَحْتَمل معانيَ في اللغة، ولكنه إذا عدِّي بـ: إلى لا يحتمل إلا الرؤية. 3_ أن يقوم الدليل على أن المراد هو المعنى المؤول. 4_ أن يسلم دليل التأويل من معارض أقوى؛ فإذا اختل شرط من الشروط فهو تأويل فاسد. مثال للتأويل الصحيح: قال الله _ عز وجل _: {نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] . فقد ثبت عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ أن النسيان هنا هو الترك. وقد دل على هذا التأويل تصريحاً قوله _ تعالى _: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم: 64] .

_ 1_ الإحكام لابن حزم 1/43.

وقوله: {فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه: 52] 1. حكم التأويل بمعناه الحادث عند المتأخرين: 1_ قد يكون صحيحاً إذا اجتمعت فيه الشروط _ كما مر _. 2_ قد يكون خطأ كتأويلات بعض العلماء الذين أخطأوا في تأويل بعض نصوص الصفات. 3_ قد يكون بدعة كتأويلات الأشاعرة، والمعتزلة. 4_ قد يكون كفراً كتأويلات الباطنية. سبب ظهور مصطلح التأويل: يبدو أن ذلك كان إبان ظهور القول بالمجاز الذي هو قسيم الحقيقة. ومن هنا فإن مصطلحي: التأويل والمجاز متلازمان. المعنى الثاني من معاني التأويل: التفسير: التفسير في اللغة: أصل هذه الكلمة مادة: فسر. وهذه المادة تدور في لغة العرب حول معنى البيان، والكشف، والوضوح2. التفسير في الاصطلاح: هو بيان المعنى الذي أراده الله بكلامه 3. وعرفه ابن جُزي رحمه الله بقوله: "معنى التفسير: شرح القرآن، وبيان معناه، والإفصاح عما يقتضيه بنصه، أو إشارته" 4.

_ 1_ انظر إرشاد الفحول للشوكاني ص177، والتوضيحات الأثرية على متن الرسالة التدمرية للشيخ فخر الدين المحيسي ص185. 2_ انظر معجم مقاييس اللغة لابن فارس 4/504. 3_ انظر مفهوم التفسير والتأويل د. مساعد الطيار ص54. 4_ التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي 1/6.

وعرفه الزركشي رحمه الله بقوله: "علم يعرف به فهم كتاب الله المنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم" وبيان معانيه، واستخراج حكمه وأحكامه" 1. وهذا المعنى من معاني التأويل معنى صحيح معروف عند السلف. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معرض حديث له عن أنواع التأويل: والثاني: أن التأويل بمعنى التفسير. وهذا هو الغالب على اصطلاح مفسري القرآن كما يقول ابن جرير وأمثاله من المصنفين في التفسير: واختلف علماء التأويل. ومجاهد إمام المفسرين، قال الثوري: إذا جاء التفسير عن مجاهد فحسبك به، وعلى تفسيره يعتمد الشافعي، وأحمد بن حنبل، والبخاري، وغيرهم؛ فإذا ذكر أنه يعلم تأويل المتشابه فالمراد به معرفة تفسيره2. والنصوص الواردة عن العلماء في هذا الصدد كثيرة لا تكاد تحصر، ومنها قول الشافعي في كتابه الأم في أكثر من موضع: "وذلك _ والله أعلم _ بيِّن في التنزيل مستغنىً به عن التأويل" 3. المعنى الثالث من معاني التأويل: الحقيقة التي يؤول إليها الكلام: كما قال _ تعالى _: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53] .

_ 1_ البرهان للزركشي 1/13. 2_ التدمرية ص92. 3_ الأم للشافعي 7/319، وانظر 2/28 و 4/242.

وهو معنى شرعي معروف عند السلف. وهذا النوع من التأويل: هو عين ما هو موجود في الخارج، أي أن حقيقة الشيء الموجودة في الخارج _ أي الواقع _ هي تأويله خبراً كان أم إنشاءاً. والكلام ينقسم إلى خبر أو إنشاء، وتأويل كلٍّ منهما يختلف عن الآخر _ كما سيأتي في الفقرة التالية _. تفصيل معنى التأويل بمعنى الحقيقة إذا كان خبراً أو إنشاءاً: قبل الدخول في ذلك يحسن بيان معنى الخبر والإنشاء بإيجاز. فالكلام ينقسم باعتبار دلالته _ عند المتكلمين، والأصوليين، واللغويين، وأهل المعاني من البلاغيين وغيرهم _ إلى خبر وإنشاء، وبعضهم يقول: خبر وطلب. وذلك إذا تكلموا على دلالات الألفاظ. تعريف الخبر: هو ما احتمل الصدق والكذب لذاته بقطع النظر عمن أضيف إليه؛ فإذا أضيف إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قطع بصدقه. والخبر يدور بين الإثبات مثل قوله _تعالى_: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] . والنفي مثل قوله _تعالى_: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] . ومن أمثلة الخبر في الإثبات جاء زيد، وفي النفي ما جاء زيد، وهكذا ... تعريف الطلب أو الإنشاء: هو ما لا يحتمل الصدق والكذب لذاته. وذلك لأنه ليس لمدلول لفظه قبل النطق به وجود خارجي يطابقه أو لا يطابقه.

ويدخل تحت الإنشاء أو الطلب أنواع عديدة أشهرها: الأمر، والنهي، والاستفهام، والتمني، والنداء. فإذا قلت: قم، أو لا تقم، أو هل أنت قائم، أو ليتك تقوم، أو يا قائم _ كان كلامك كله داخلاً في باب الإنشاء؛ لأنه لا يحتمل الصدق والكذب لذاته. بخلاف ما إذا قلت: جاء زيد، أو ما جاء؛ فذلك داخل في باب الخبر. هذا وإن أشهر أنواع الإنشاء والطلب: الأمر والنهي. هذه نبذة ميسرة عن الخبر والإنشاء والطلب، وللتفصيل موضع آخر سيأتي. وبعد هذا نأتي إلى التأويل بمعنى الحقيقة إذا كان خبراً أو طلباً. التأويل بمعنى الحقيقة إذا كان خبراً: تأويل الأخبار: هو حقيقتها، ونفس وجودها. فتأويل ما أخبر الله به عن نفسه المقدسة الغنية بما لها من حقائق الأسماء والصفات هو حقيقة نفسه المقدسة المتصفة بما لها من حقائق الأسماء والصفات. وتأويل ما أخبر الله به من الوعد والوعيد هو نفس ما يكون من الوعد والوعيد. وتأويل قيام الساعة، وما أخبر به في الجنة من الأكل والشرب، والنكاح، هو الحقائق الموجودة أنفسها 1. وتأويل رؤيا يوسف _عليه السلام_ هو وقوعها في الخارج، وتحققها، وهكذا ...

_ 1_ انظر التدمرية ص96، والفتوى الحموية الكبرى لابن تيمية تحقيق د. عبد المحسن التويجري ص290.

إلى غير ذلك من الأمثلة التي يصعب حصرها. فهذا هو التأويل بمعنى الحقيقة إذا كان خبراً. التأويل بمعنى الحقيقة إذا كان طلباً: الطلب: إما أن يكون أمراً، وإما أن يكون نهياً؛ فالأمر: طلب الفعل، والنهي: طلب الكف. فإذا كان الطلب أمراً فتأويله: هو نفس الفعل المأمور به، أي امتثاله، والعمل به. وإذا كان الطلب نهياً فتأويله: هو نفس اجتناب المنهي عنه، أي تركه. أمثلة لتأويل الأمر: 1_ قالت عائشة _ رضي الله عنها _: كان النبي يقول في ركوعه، وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي يتأول القرآن 1. وتعني بذلك قوله _تعالى_: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:3] . وتريد بذلك أنه يعمل بأوامر القرآن، ويفعل ما أمر به فيه؛ حيث أمر في آخر حياته أن يسبح بحمد ربه ويستغفره، فكان يتأول القرآن، أي يعمل به، ويطبقه؛ فنفس فعله هذا هو تأويل الأمر، وهو قوله _عز وجل_: {فَسَبِّحْ} و {اسْتَغْفِرْهُ} . 2_ وعن سعيد بن جبير رحمه الله عن ابن عمر _ رضي الله عنهما _: أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته، ويذكر أن رسول الله كان يفعل ذلك، ويتأول هذه الآية: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} [البقرة: 115] 2.

_ 1_ رواه البخاري 817 ومسلم 484. 2_ تفسير الطبري 2/530.

ومعنى قوله: يتأول: أي يطبق ويمتثل. 3_ ومن الأمثلة على ذلك ما روي عن الثوري رحمه الله أنه بلغه أن أم ولد الربيع ابن خثيم قالت: "كان الربيع إذا جاءه السائل يقول لي: يا فلانة أعطي السائل سُكَّراً؛ فإن الربيع يحب السُّكَّر". قال سفيان: "يتأول قوله _ عز وجل _: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] " 1. أي يمتثل أمر الله _ عز وجل _ في الإنفاق مما يحبه الإنسان. والأمثلة على ذلك كثيرة جداً مثل قوله _ تعالى _: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] . فتأويل ذلك إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وهكذا ... فهذا _ إذاً _ هو تأويل الأمر بمعنى حقيقته. أمثلة لتأويل النهي: 1_ قال الله _ تعالى _: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى} [الإسراء: 32] . فتأويل ذلك البعد عن قربان الزنا. 2_ وقل مثل ذلك في قوله _ عز وجل _: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151] . وهكذا ... مثال يجمع بين تأويل الأمر والنهي والخبر: قال الله _ تعالى _ مخاطباً أم

_ 1_ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 4/133.

موسى _عليه السلام_: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] . فهذه الآية الكريمة اشتملت على أمرين، ونهيين، وخبرين؛ فالأمران في قوله _تعالى_: {أَرْضِعِيهِ} ، وقوله: {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} . وتأويل الأمرين إرضاعها لموسى، وإلقاؤه في اليم. والنهيان في قوله _ تعالى _: {وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} . وتأويلهما ترك الخوف، وترك الحزن. وقد فعلت ما تستطيع وإن كان فؤادها قد أصبح فارغاً، وكادت أن تبدي به لولا أن ربط الله على قلبها. والخبران في البشارتين في قوله _ تعالى _: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ} . وتأويل هذين الخبرين وقوعهما في الخارج؛ حيث عاد موسى إلى أمه، وصار من المرسلين. الفرق بين تأويل الخبر، وتأويل الطلب: الفرق هو أن الخبر لا يلزم من تأويله _أي وقوعه_ العلم به؛ فهو واقع وإن لم يُعْلم به؛ فأشراط الساعة وأحوالها ستقع وإن لم يُعْلم بها. وكذلك حقائق أسماء الله وصفاته هي حقيقة وإن لم يُعْلم بها. فلا يلزم _إذاً_ من تأويل الخبر العلم به.

أما الطلب فلابد في تأويله من معرفته والعلم به؛ ليُفعل أو يُجتنب؛ فإن كان الطلب أمراً فلابد في إيقاعه وفعله وامتثاله من معرفة العلم به سواء كان واجباً كإقامة الصلاة، أو مستحباً كالسواك. وإن كان الطلب نهياً فلابد من معرفته والعلم به؛ ليجتنب سواء كان النهي للتحريم أو الكراهة. توجيه قراءتي آية آل عمرآن: قال الله _ عز وجل _: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} [آل عمران: 7] . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وجمهور سلف الأمة وخلفها على أن الوقف عند قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ} . وهذا هو المأثور عن أُبَي بن كعب وابن مسعود وابن عباس وغيرهم. وروي عن ابن عباس أنه قال: "التفسير على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب1من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته2، وتفسير

_ 1_ هو تفسير مفردات اللغة كمعرفة القرء، والنمارق، والناس، والليل، والنهار، والشمس، والقمر وغيرها. 2_ هو تفسير الآيات المكلف بها اعتقاداً كمعرفة الله، وتوحيده، واليوم الآخر، والإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وعملاً كمعرفة الطهارة، وكيفية الصلاة، وغيرها.

يعلمه العلماء1، وتفسير لا يعلمه إلا الله2 من ادعى علمه فهو كاذب". وقد روي عن مجاهد وطائفة أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله، وقد قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقف عند كل آية فأسأله عن تفسيرها. ولا منافاة بين القولين عند التحقيق"3. ويعني بالقولين القراءتين: الوقف على قوله: {إِلاَّ اللهُ} والوصل. وقال في موضع آخر موجهاً كلتا القراءتين: "وكلا القولين حق باعتبار كما قد بسطناه في مواضع أُخَر، ولهذا نقل عن ابن عباس هذا وهذا وكلاهما حق"4. وخلاصة القول في توجيه القراءتين: أنه على قراءة الوقف يكون التأويل بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الشيء، وعلى قراءة الوصل يكون التأويل بمعنى التفسير؛ فمن قال: إنه لا يعلم تأويله إلا الله أراد الحقيقة، ومن قال: إنه يُعلم تأويله أراد التفسير. وعلى قراءة الوقف تكون الواو في قوله: {وَالرَّسِخُوْنَ ... } ابتدائية استئنافية. وعلى قراءة الوصل تكون عاطفة.

_ 1_ هو مما يخفى على غير العلماء، مما يمكن الوصول إلى معرفته، كمعرفة أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والعام والخاص، والمطلق والمقيد. 2_ هو حقائق ما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر؛ فهذه الأشياء تفهم بمعناها، ولا تدرك حقيقة ما هي عليه في الواقع. 3_ التدمرية ص90_91. 4_ الفتوى الحموية الكبرى ص290.

التاويل الباطني

التأويل الباطني لون من ألوان الصد عن الإسلام، ووسيلة خبيثة لصرف الناس عنه، وغاية يُسعى من خلالها لطمس معالمه، وستر جماله، ويسره، ووضوحه. فالإسلام دين واضح ميسور، وأدلته المستقاة من الكتاب والسنة تسبق إلى الأفهام ببادئ الرأي، وأول النظر؛ فهي سائغة جلية تقنع العقول، وتسكن النفوس، وتغرس الاعتقادات الصحيحة الجازمة الملائمة للفطرة في القلوب. والتأويل الباطني يخالف ذلك، وينبذه وراء ظهره. والحديث عن التأويل الباطني سيكون حول المسائل التالية: أولاً: تعريف التأويل الباطني: أ_ تعريفه في اللغة: هذا المصطلح يتركب من كلمتين التأويل: ومعناه يدور حول التفسير، والمصير، والعاقبة وغيرها من المعاني. والباطني: وأصل هذه الكلمة مادة بَطْن، وهو خلاف الظهر، والباطن: اسم فاعل وهو ضد الظاهر1. ب_ المعنى الاصطلاحي للتأويل الباطني: هو الزعم بأن لنصوص الشرع ظاهراً وباطناً. هذا تعريف مختصر، وهناك تعريفات أوسع وأشمل تبين معنى ذلك، وسبب الأخذ به، ومنها تعريف من يقول إنه: "تفسير الكتب المقدسة تفسيراً رمزياً أو مجازياً يكشف عن معانيها.

_ 1_ انظر لسان العرب 13/53_54.

فالشريعة _ كما يقول بعضهم _ مشتملة على ظاهر وباطن؛ لاختلاف فطر الناس، وتباين قرائحهم في التصديق؛ فكان لا بد من إخراج النص من دلالته الظاهرية إلى دلالته الباطنية بطريق التأويل؛ فالظاهر هو الصور والأمثال المضروبة للمعاني، والباطن هو المعاني الخفية التي لا تتجلى إلا لأهل البرهان؛ فالتأويل _في نظرهم_ هو الطريقة المؤدية إلى رفع التعارض بين ظاهر الأقاويل وباطنها"1. ثانياً: سبب التسمية: لعل التعريفين السابقين قد بينا سبب التسمية؛ فالباطنية سميت بذلك لأخذهم بالتفسير أو التأويل الباطني. فكل من أخذ به سمي باطنياً، وكل طائفة أخذت به دخلت في مسمى الفرق الباطنية. ثالثاً: طوائف الباطنية: الباطنية مسمى واسع، ويدخل تحته فرق كثيرة، وتكاد تنحصر في طائفتين، ويدخل تحت كل طائفة فرق عديدة. الطائفة الأولى: باطنية تتظاهر بحب آل البيت، وتبطن الكفر، وتزعم أن للنصوص ظاهراً علمه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، وباطناً علمه علياً رضي الله عنه وبلغه علي سراً إلى الأئمة من بعده. ويدخل تحت هذه الطائفة فرق عديدة كالشيعة الإمامية، والإسماعيلية، والنصيرية، والدروز، والبابية، والبهائية، وسائر الفرق الباطنية التي انبثقت من الشيعة الاثني عشرية. الطائفة الثانية: وهي التي تتظاهر بحب النبي صلى الله عليه وسلم وهم غلاة الصوفية القائلين بتقسيم الدين إلى حقيقة وشريعة.

_ 1_ المعجم الفلسفي د. جميل صليبا 1/234، وانظر الحركات الباطنية د. محمد الخطيب ص30.

فالشريعة عندهم: أحكام الدين الظاهرة، أو الأحكام التكليفية. والحقيقة: هي ما وراء هذه الأحكام من إشارات وأسرار؛ فإذا وصل العابد إلى الحقيقة لم يحتج معها إلى القيام بأمور الشرع. هاتان هما طائفتا التأويل الباطني على وجه الإجمال، وسيأتي مزيد بيان وأمثلة على ذلك. رابعاً: هدفهم من القول بالتأويل الباطني: قد تبين فيما مضى شيء من ذلك، ويمكن إجماله فيما يلي: 1_ إبطال الشرائع. 2_ ترويج الباطل. 3_ إضفاء الصبغة الشرعية على ما يقولون، وإيهام الناس أن آراءهم متفقة مع نصوص الشرع. وبذلك صارت تلك الطوائف تأخذ بالتأويل الباطني لنصوص القرآن. وتزعم أن من تقاعد عَقْلُه عن الغوص في الخفايا والأسرار، والبواطن والأغوار، وقنع بظواهرها _ كان تحت الآصار والأغلال. وأرادوا بالأغلال: التكاليف الشرعية؛ لأن من ارتقى إلى علم الباطن _بزعمهم_ سقطت عنه التكاليف، واستراح من أعبائها1. ومن هنا جاؤوا بتأويلات باطلة لا تستند إلى شرع، ولا عقل، ولا عرف، ولا لغة، بل إنها تخالف ذلك كله _كما سيأتي بيان ذلك_.

_ 1_ انظر فضائح الباطنية لأبي حامد الغزالي ص11_12، والحركات الباطنية ص30.

خامساً: مصادر الفكر الباطني: مصادر الفكر الباطني ليست من الإسلام في شيء، وإنما هي أفكار دخيلة على عقائد الإسلام؛ فهي مستقاة من الفلسفة اليونانية والهندية، ومن الديانات المجوسية، واليهودية، والنصرانية، وغيرها. وقد تستر أصحابها بحب آل البيت تارة، وبحب النبي صلى الله عليه وسلم تارة. وأرادوا من ذلك هدم المجتمع الإسلامي، وزعزعة أمنه، وإفساد عقيدته. والمجال لا يتسع لتفصيل ذلك1. سادساً: بطلان القول بالتأويل الباطني: لا شك أن للقرآن العظيم أسرارَه العظيمةَ، ولفتاتِهِ الباهرةَ، وإيماءاتِه، وإيحاءاتِه. ولا ريب أنه بحر عظيم لا تنفد كنوزه، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء. ولكن ذلك كله منوط بما يتسع له اللفظ، ويشهد له الدليل الصحيح، ولا يخرج عن إطار المعنى العام، وأن يكون ذلك عن علم وبصيرة لا عن تخرص وهوى. ولكن دعوى أولئك الباطنيين بعيدة كل البعد عن هذا المقصد؛ فهي تأويلات _كما سيأتي_ لا تتصل بمدلول الألفاظ، ولا بمفهومها، ولا بالسياق القرآني. بل هي مخالفة للنص القرآني تماماً، باحثة في كتاب الله عن أصل تتشبث به؛ ليؤيد شذوذهم، وغاياتهم في الصد عن كتاب الله ودينه. وحاصل هذا الاتجاه الباطني في تأويل نصوص الشريعة هو الانحلال عن الدينِ.

_ 1_ انظر الحركات الباطنية ص36_45.

وعمومُ البشر على اختلاف لغاتهم يعدون ظاهر الكلام هو العمدة في المعنى. وأما أسلوب التعمية والإلغاز فلا وجود له إلا في الفكر الباطني. ولو اتُّخِذ هذا الأسلوبُ قاعدةً لما أمكن التفاهم بحال، ولما حصل الثقة بمقال؛ لأن المعاني الباطنية لا ضابط لها ولا نظام. هذا في الكلام عموماً؛ فكيف بكلام الله المنزل، الذي وصفه الله _ عز وجل _ بأنه "بيان للناس". وفي الناس عالمون، وجاهلون، ومنهم أميون، وكاتبون قارئون. ولكن الله جعله بياناً لهم جميعاً، مُيَسَّراً للذكر؛ ليعبد الناس ربهم على بصيرة. والمتأمل لمقالة التأويل الباطني يدرك خطورتها في تفسير القرآن، وأنها تقتضي بطلان الثقة بالألفاظ، وتسقط الانتفاع بكلام الله ورسوله، ويصير ما يسبق إلى الفهم لا يوثق به. وبهذا الطريق يحاول الباطنية التوصل إلى هدم الشريعة بتأويل ظواهرها، وتنزيلها على رأيهم دون ضابط، أو رادع. ولو كانت تلك التأويلات الباطنية هي معاني القرآن ودلالاته لما تحقق الإعجاز، ولكان من قبيل الإلغاز1.

_ 1_ انظر فتح الباري لابن حجر 1/216، وهذه هي الصوفية ص70_71، وأصول مذهب الشيعة د. ناصر القفاري 1/153_154.

سابعاً: نماذج من التأويلات الباطنية عند الشيعة: كما انحرف الشيعة في القرآن، وقالوا إنه بُدِّل وحُرِّف انحرفوا في تأويله وتفسيره؛ حيث تضمنت كتب التفسير عند الشيعة _ والتي يزعمون تلقيها عن آل البيت _ تأويلاتٍ باطنيةً لآيات القرآن، وتلك التأويلات لا تتصل بمدلولات الألفاظ، ولا بالسياق القرآني، ولا بمفهوم اللغة العربية. ومن العجيب أن تُسند هذه الأكاذيب إلى آل البيت، ويُسند معظمُها إلى جعفر الصادق رحمه الله. وهي في حقيقة الأمر طعن مُبَطَّن في الآل، كما أنها إلحاد في آيات الله، وصد عن سبيله، ولكنهم أسندوها لآل البيت؛ لينخدع بها الأغرار1. "وهذه التأويلات مدونة في تفاسيرهم المعتبرة عندهم، كتفسير القمي، وتفسير العياشي، وتفسير البرهان، وتفسير الصافي، كما أن كتبهم في الحديث قد أخذت من تلكم التأويلات بقسط وافر، وعلى رأسها أصول الكافي للكليني، والبحار للمجلسي، وغيرهما. ويرى بعض الباحثين أن أول كتاب وضع الأساس الشيعي في التفسير هو تفسير القرآن الذي وضعه في القرن الثاني للهجرة جابر الجعفي ت128هـ. فكان هذا نواةً لتفسير شيعي سرعان ما اتسع وأغرق في باطنيته"2.

_ 1_ انظر مسألة التقريب 1/214. 2_ مسألة التقريب 1/215.

وفيما يلي من أسطر أمثلة وشواهد لبعض تلك التأويلات1: 1_ ما ورد في كتاب الله من آيات تتحدث عن القرآن يفسرونها بالأئمة: فقوله _ سبحانه _: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا} [التغابن: 8] . يقولون: "النور: نور الأئمة". ويفسرون قوله _ سبحانه _: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] . بقولهم: يهدي إلى الإمام. 2_ يفسرون ما ورد في الآيات من لفظ النور ونحوه بالأئمة بلا أدنى دلالة. يروي الكليني عن أبي عبد الله _ جعفر الصادق _ في قوله _ تعالى _: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} [النور: 35] : فاطمة _عليها السلام_ {فِيهَا مِصْبَاحٌ} : الحسن {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} : الحسين {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} : فاطمة كوكب دري بين نساء أهل الدنيا {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ} : إبراهيم _ عليه السلام _ {زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} : لا يهودية ولا نصرانية {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} : يكاد العلم ينفجر بها {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ} : إمام بعد إمام {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ} : يهدي الله للأئمة من يشاء. {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً} النور: 40: إماماً من ولد فاطمة _ عليها السلام _ {فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} : إمام يوم القيامة.

_ 1_ انظر منهاج السنة 7/244_296، ومسألة التقريب 1/214_246، وأصول مذهب الشيعة 1/150_199.

3_ يؤولون ما جاء في كتاب الله _ من النهي عن الشرك والكفر _ بالشرك في ولاية علي، أو الكفر بولاية علي. 4_ يؤولون ما جاء في عبادة الله _ وحده _ واجتناب الطاغوت بولاية الأئمة، والبراءة من أعدائهم. 5_ يؤولون بعض الآيات الواردة في الصلاة بالأئمة والإمامة: عن زرارة عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله _ عليه السلام _ في قوله: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] قال: الصلاة: رسول الله، وأمير المؤمنين والحسن والحسين، والوسطى أمير المؤمنين {وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} طائعين للأئمة. 6_ يؤولون ما ورد في كتاب الله عن المؤمنين، وولاة الأمر، وأهل الذكر بالأئمة. 7_ والأئمة _ عندهم _ هم آيات الله الكونية، ومخلوقاته، وآلاؤه. 8_ وهم الراسخون في العلم، وهم الذين أوتوا العلم. 9_ والأئمة وشيعتهم هم الذين يعلمون، وهم أولوا الألباب 10_ والأئمة هم نعمة الله التي ذكرها في كتابه. 11_ وهم آيات الله، والسبع المثاني، والصافون، والمسبحون. 12_ وهم النبأ العظيم. 13_ والآيات المحكمات. 14_ وهم العلامات التي ذكرها الله في كتابه.

15_ وولايتهم هي الطريقة المذكورة في قوله _ سبحانه _: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَاء غَدَقاً} [الجن: 16] . 16_ بل إن تأويلهم الكثير من آيات القرآن بالإمامة يربو على الحصر، وكأن القرآن لم ينزل إلا فيهم، بل إن تأويلهم للآيات بالإمامة والأئمة تجاوز حدود الشرع والعقل، ونزل إلى درك من العته والبله الذي لا تفسير له سوى أنه محاولة للهزء والسخرية بآيات الله حتى إنهم ليقولون: 17_ الأئمة هم النحل في قوله _ سبحانه _: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68] . 18_ وهم الحفدة في قوله _تعالى_: {وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72] . 19_ وعلي هو سبيل الله في قوله _ سبحانه _: {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ} [إبراهيم: 3] . 20_ وهو الحسرة على الكافرين في قوله _سبحانه_: {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الحاقة:50] . 21_ وهو حق اليقين في قوله _سبحانه_: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} [الحاقة:51] . 22_ وهو الصراط المستقيم في قوله _سبحانه_: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [الفاتحة:6] . 23_ وهو الهدى في قوله: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38] .

24_ والأئمة هم الأيام والشهور. 25_ وهم بنو إسرائيل في قوله _ سبحانه _: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة:40] . 26_ وهم الأسماء الحسنى التي يدعى الله بها. 27_ وهم الماء المعين، والبئر المعطلة، والقصر المشيد. 28_ وهم السحاب، والمطر، والفواكه، وسائر المنافع الظاهرة بعلمهم وبركتهم. 29_ وهم الصلاة، والزكاة، والحج، وسائر الطاعات، وأعداؤهم الفواحش والمعاصي. 30_ وهم حرمات الله، وأنوار الله. 31_ وهم خير أمة أخرجت للناس. 32_ وهم المظلومون، والمستضعفون. 33_ وهم أهل الأعراف، وهم الوالدون، والولد، والأرحام، وذوو القربى. 34_ وهم الكعبة والقبلة. 35_ وهم اللؤلؤ والمرجان. 36_ يتأولون الآيات الواردة في الكفار والمنافقين بخيار صحابة رسول الله وعلى رأسهم أبو بكر وعمر وعثمان _ رضي الله عنهم _. 37_ يفسرون الجبت والطاغوت بأبي بكر وعمر _ رضي الله عنهما _. 38_ يفسرون خطوات الشيطان بأنها ولاية أبي بكر وعمر _ رضي الله عنهما_. 39_ قالوا في تفسير قوله _ تعالى _: {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً}

[الكهف:95] قالوا: التقية. 40_ يفسرون الآيات التي في الآخرة _ بالرجعة. كل ما مضى من أمثلة لتأويلاتهم للقرآن، تدل على تعسفهم في فهم آياته، وعلى إغراقهم في التأويل الباطني، الذي لا تربطه بالآيات أدنى صلة، وكأن القرآن لم ينزل بلسان عربي مبين، ولم يجعله الله دستوراً لخلقه أجمعين. وهذه التمحلات ليست من قبيل الخطأ في الرأي، والزلل في فهم الآيات، وإنما هي مؤامرة مدبرة ضد الإسلام، وخطة محبوكة لإلغاء هداية القرآن للناس، وكأنها جاءت تالية لإخفاق مؤامرة التحريف التي ادعوها في كتاب الله، ولكن الله متم نوره ولو كره الكافرون1. ثامناً: نماذج من تأويلات النصيرية: التأويل الباطني هو أحد مرتكزات العقيدة النصيرية، ويزعم النصيريون أنهم وحدهم هم العالمون ببواطن الأسرار والأمور "وفي اعتقاد النصيرية أن معرفة المراتب ظاهراً وباطناً هو ذروة العبادة وتُغْنيهم عن الفروض والعبادات؛ لأنها في نظرهم أغلال للجاهلين والمقصِّرين"2. فالنصيريون يرون أن "من عرف الباطن سقط عنه عمل الظاهر وخرج من حد المملوكية ورق العبودية إلى حد الحرية"3. ومن هذا المنطلق ذهب النصيريون إلى تأويل العبادات كلها تأويلاً بعيداً عن

_ 1_ انظر مسألة التقريب 1/240_241. 2_ الحركات الباطنية ص349. 3 _ النصيرية د. سهير الفيل ص87.

فهم العقل، ومنطق اللغة، ومنهج الدين1. وإليك بعض تأويلاتهم: 1_ الشهادة: التي هي أول ركن من أركان الإسلام ما هي عند النصيرية؟ "هي أن تشير إلى صيغة ع _ م _ س التي هي رموز لـ: علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومحمد صلى الله عليه وسلم وسلمان الفارسي رضي الله عنه على الترتيب"2. 2_ الصلاة: وهي الركن الثاني من أركان الإسلام، وهي عمود الدين ما هي عند النصيرية؟ "يزعمون _ إجمالاً _ أنها معرفة النصيريين بأسرار دينهم، وهذا لا يكون إلا بالولاء لخمسة أشخاص هم: علي، ومحمد، والحسن، والحسين، وفاطمة التي يدعونها بـ فاطر، وهؤلاء الخمسة معروفون في المذهب النصيري بنعت: الخمسة المصطفون". أو يذكرون: بدلاً من محمد: محسن. 3_ الصيام: الصيام المفروض عندهم هو كتمان أسرارهم، وهو _أيضاً_ حفظ السر المتعلق بثلاثين رجلاً تمثلهم أيام رمضان، وثلاثين امرأة تمثلهن ليالي رمضان، فمعرفة هذه الأسماء الستين وتلاوتها يجزيهم عن الصيام". 4_ الزكاة: "أما الزكاة عندهم فهي رمز لسلمان الفارسي" فمجرد ذكر سلمان الفارسي يغني عن دفع الزكاة.

_ 1 _ انظر الحركات الباطنية ص66، وكشف أسرار الباطنية للشيخ محمد بن مالك بن أبي الفضائل الحمادي اليمني ص55. 2 _ النصيرية ص87.

5_ الحج: أما الحج "فيزعمون أن جميع مناسكه وشعائره ما هي إلا رموز لأشخاص معينة، وما الحج عندهم إلا مجرد التوصل إلى معرفة الأشخاص بأسمائهم". يقول سليمان الأذني صاحب الباكورة السليمانية في تفسير السورة الرابعة عشرة واسمها البيت المعمور: "اعلم أن هذه السورة قد رتبها سلفاؤهم بإقامة الحج وهو أن البيت المعمور به في القرآن زيارته، وأركان البيت وسقفه وحيطانه هو كناية عن معرفة أولئك الأشخاص كقول الشيخ إبراهيم الطوسي في عينيته: أيا قلب بيت الله وهو حجابه ... وأما الصفي المقداد للضد قامع ومروة مذكور أبو الدر شخصها ... شعايره سلسل إلى الذات خاضع وعتباته الحاءات أيا قلب شخصها ... وحلقة باب البيت جعفر طالع البيت هو: الحجاب السيد الميم، والصفي هو: المقداد، والعتبتان هما: الحسن والحسين، وحلقة الباب هي: معرفة جعفر الصادق، والمروة: معرفة أبي الدر، والمشعر الحرام: معرفة سلمان الفارسي، ويوجد ذلك مصرحاً في أكثر كتبهم، ومعرفة هؤلاء الأشخاص وهو نهاية حجهم ومعنى معرفتهم. وأما سعي المسلمين إلى مكة فهو باطل عندهم ومذموم كما قال بعض شيوخهم في هذا المعنى: ولقد لعنت لمن يحرم شربها ... وجميع أهل الشام والحجاج"1 6_ الجهاد: أما الجهاد عند النصيرية فهو على نوعين ذكرها صاحب الباكورة

_ 1 _ الباكورة السليمانية في كشف أسرار الديانة النصيرية العلوية لسليمان أفندي الأذني ص40ـ41.

السليمانية "أولها الشتائم على أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم، وعلى جميع الطوائف المعتقدين بأن علي بن أبي طالب أو الأنبياء، أكلوا، أو شربوا، أو تزوجوا، أو ولدوا من نساء؛ لأن النصيرية يعتقدون بأنهم نزلوا من السماء بدون أجسام، وأن الأجسام التي كانوا فيها إنما هي أشياء، وليست هي بالحقيقة أجسام. والنوع الثاني إخفاء مذهبهم عن غيرهم، ولا يظهرونه ولو أصبحوا في أعظم خطر، ولو خطر الموت"1. 7_ الجنابة: "هي موالاة الأضداد والخصوم والجهل بالعلم الباطني"2. 8_ الطهارة: "هي معاداة الأضداد والخصوم ومعرفة العلم الباطني"3. يقول الدكتور محمد الخطيب معلقاً على تلك التأويلات الباطنية: "وهكذا نتبين أن جميع الفرائض والعبادات الإسلامية لا اعتبار لها عند هذه الطائفة بأفعالها وأعمالها الظاهرة، وإنما ذِكْر بعض الأشخاص يغني عن كل هذه الأعمال التي يقوم بها الجهلة المقصرون من أهل الظاهر. وهذا يفسر لنا عدم وجود المساجد في قراهم ومدنهم؛ حيث يقيمون الصلاة في أماكن خاصة وسرية؛ لأن الصلاة _كما ذكرنا من قبل_ لا تُؤدَّى وفق الأسلوب المعروف عند المسلمين، ولكنها مجموعة رموز تدل على أشخاص معينين يرددها النصيري في مواقف العبادة والابتهال"4. ويضيف قائلاً: "ولهذا فهم لا يشترطون الطهارة في صلاتهم هذه؛ فالجماع،

_ 1 _ الباكورة السليمانية ص34ـ35. 2 _ 3_ النصيرية ص91. 4 _ الحركات الباطنية ص 392ـ393.

والاحتلام لا يفسدان الطهارة، وإنما الذي يفسدها موالاة الأضداد، والجهل بالعلم الباطني؛ فتكون الطهارة _إذن_ معاداة الأضداد، ومعرفة العلم الباطني"1. 9_ يوم القيامة: "أما يوم القيامة عندهم فهو ظهور القائم محمد بن الحسن العسكري الذي يقتل جميع أعدائهم"2. تاسعاً: مثال من تقسيم الدين إلى شريعة وحقيقة عند الصوفية: يقول عبد الكريم الجيلي، وهو من أهل وحدة الوجود، والقائلين بوحدة الأديان: وأسلمت نفسي حيث أسلمني الهوى ... ومالي عن حكم الحبيب تنازعُ فطوراً تراني في المساجد راكعاً ... وأنيَ طوراً في الكنائس راتعُ إذا كنت في حكم الشريعة عاصياً ... فإنيَ في حكم الحقيقة طائع3 يقول إذا كانت الشريعة تحظر علي أن أجمع بين تلك الأديان على تباينها _ فإن حكم الحقيقة علي هو أني طائع لا عاص. وسيأتي مزيد أمثلة على ذلك في المبحث الآتي الحلول والاتحاد.

_ 1 _ الحركات الباطنية ص 392ـ393. 2_ نفس المرجع ص375. 3_ هذه هي الصوفية للشيخ عبد الرحمن الوكيل ص96.

الحلول والاتحاد

الحلول والاتحاد هاتان اللفظتان تردان كثيراً في كتب العقائد، وهما من المصطلحات الصوفية والباطنية؛ فتردان في كتبهم، وفي كتب من يتعرضون للرد عليهم. كما أنهما تردان في كتب الأديان الباطلة كالبرهمية، والبوذية، وغيرهما. فما معنى هاتين اللفظتين، وما الفرق بينهما، وأيهما أشد ضلالاً؟ الجواب سيتضح من خلال ما يلي: أولاً: معنى الحلول: الحلول في اللغة يطلق على عدة معان منها: النزول، والوجوب، والبلوغ1. ومعناه في الاصطلاح العام: أن يحل أحد الشيئين في الآخر. وهو حلول سَرَياني، وحلول جواري. يقول الجرجاني رحمه الله: "الحلول السرياني: عبارة عن اتحاد الجسمين بحيث تكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر كحلول ماء الورد في الورد؛ فيُسمى الساري حالاًّ، والمسري فيه محلاًّ. الحلول الجواري: عبارة عن كون أحد الجسمين ظرفاً للآخر كحلول الماء في الكوز"2. هذا هو الحلول: إثبات لوجودين، وحلول أحدهما في الآخر. ويراد منه باصطلاح القائلين به من الصوفية وغيرهم: حلول الله _ عز وجل _

_ 1_ انظر الكليات للكفوي ص389. 2_ التعريفات ص92.

في مخلوقاته، أو بعض مخلوقاته. وهو على قسمين _ كما سيأتي بيانه _. ثانياً: معنى الاتحاد: معناه: كون الشيئين شيئاً واحداً. قال الجرجاني رحمه الله: "الاتحاد: امتزاج الشيئين، واختلاطهما حتى يصيرا شيئاً واحداً"1. ومعناه باصطلاح القائلين به: اتحاد الله _ عز وجل _ بمخلوقاته، أو ببعض مخلوقاته. أي اعتقاد أن وجود الكائنات أو بعضها هو عين وجود الله _ تعالى _. وهو على قسمين _ كما سيأتي بيان ذلك _. ثالثاً: الفرق بين الحلول والاتحاد: الفرق بينهما يتلخص فيما يلي: 1_ أن الحلول إثبات لوجودين، بخلاف الاتحاد فهو إثبات لوجود واحد. 2_ أن الحلول يقبل الانفصال، أما الاتحاد فلا يقبل الانفصال. ولهذا؛ فإن القائلين بالحلول غير القائلين بالاتحاد. رابعاً: أمثلة يتبين بها الفرق بين الحلول والاتحاد: هناك أمثلة كثيرة منها: السُّكَّر إذا وضعته في الماء دون تحريك فهو حلول؛ لأنه ثَمَّ ذاتان، أما إذا حركته، فذاب في الماء صار اتحاداً؛ لأنه لا يقبل أن ينفصل مرة أخرى. أما لو وضعت شيئاً آخر في الماء كأن تضع حصاة فهذا يسمى حلولاً لا اتحاداً؛ لأنها أصبحت هي والماء شيئين قابلين للانفصال.

_ 1_ التعريفات ص9.

مثال آخر يجتمع فيه الأمران: ورق الشاي التي توضع في الماء المغلي؛ فبمجرد وضعها وتحريكها يتغير لون الماء ويصبح شاياً، لا ماءاً. فهو بهذا الاعتبار اتحاد؛ لأن الماء والشاي لا يمكن أن ينفصلا. وورقة الشاي يمكنك رفعها وفصلها؛ فالحالة _ بهذا الاعتبار _ حلول لا اتحاد1. خامساً: أقسام الحلول: ينقسم الحلول _ كما مر _ إلى قسمين: 1_ حلول عام: هو اعتقاد أن الله _ تعالى _ قد حل في كل شيء. ولكن ذلك الحلول من قبيل حلول اللاهوت _أي الإله الخالق_ بالناسوت _أي المخلوق_ مع وجود التباين بمعنى أنه ليس متحداً بمن حل فيه، بل هو في كل مكان مع الانفصال؛ فهو إثبات لوجودين. وهذا قول الجهمية، ومن شاكلهم. 2_ حلول خاص: وهو اعتقاد أن الله _ جل وعلا _ قد حل في بعض مخلوقاته. مع اعتقاد وجود خالق ومخلوق. وذلك كاعتقاد بعض فرق النصارى أن اللاهوت _الله_ حل بالناسوت _عيسى_ وأن عيسى _عليه السلام_ كان له طبيعتان: لاهوتية لما كان يتكلم بالوحي، وناسوتية عندما صلب وهكذا ... وكذلك اعتقاد بعض غلاة الرافضة _ كالنصيرية _ أن الله _ عز وجل _ حل في علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأنه هو الإله؛ حيث حلت فيه الألوهية.

_ 1_ انظر شرح الشيخ صالح آل الشيخ للحموية مصور.

وذلك من عقائدهم الأساسية. ولهذا تراهم يمجدون قاتله ابن ملجم، ويحبونه، ويخطِّؤون من يلعنه، أو يذكره بسوء. وهذا من المفارقات العجيبة، ولكن إذا عرف السبب بطل العجب؛ فلماذا يحبون ابن ملجم مع أنه قتل علي بن أبي طالب الذي يؤلهونه ويعبدونه من دون الله؟ الجواب: أنهم يزعمون أنه خلص اللاهوت من الناسوت بقتله، وبذلك تخلص اللاهوت من ظلمة الجسد، وكدره!! 1 وكذلك الحال بالنسبة للدروز القائلين بألوهية الحاكم بأمر الله فهم يعتقدون أن له حقيقةً لاهوتية لا تدرك بالحواس ولا بالأوهام، ولا تعرف بالرأي ولا بالقياس مهما حاول الإنسان أن يعرف كنهها؛ لأن هذا اللاهوت ليس له مكان، ولكن لا يخلو منه مكان، وليس بظاهر كما أنه ليس بباطن حتى إنه لا يوجد اسم من الأسماء، ولا صفة من الصفات يطلق عليه!! ويرون أن الناسوت لا ينفصل عن اللاهوت؛ وذلك أن الحجاب هو المحجوب، والمحجوب هو الحجاب؛ فالناسوت في اللاهوت مثل الخط من المعنى2. وقل مثل ذلك في اعتقاد بعض طوائف الصوفية أن الله _ عز وجل _ قد حل في بعض مشايخهم.

_ 1_ انظر الحركات الباطنية د. محمد أحمد الخطيب ص356، والنصيرية ص119. 2_ انظر الحركات الباطنية ص223_238.

سادساً: أقسام الاتحاد: الاتحاد أو وحدة الوجود _ كما مر _ ينقسم إلى قسمين: 1_ الاتحاد العام: وهو اعتقاد كون الوجود هو عين الله _ عز وجل _. بمعنى أن الخالق متحد بالمخلوقات جميعها. وهذا هو معنى وحدة الوجود، والقائلون به يسمون الاتحادية، أو أهل وحدة الوجود كابن الفارض، وابن عربي، وغيرهما. يقول الشيخ عبد الرحمن الوكيل رحمه الله عن ابن الفارض: "يؤمن هذا الصوفي ببدعة الاتحاد، أو الوحدة سمها بما شئت، بصيرورة العبد رباً، والمخلوق خلاقاً، والعدم الذاتي الصرف وجوداً واجباً. وإذا شئت الحق في صريح من القول، فقل: هو مؤمن ببدعة الوحدة، تلك الأسطورة التي يؤمن كَهَنَتُها بأن الرب الصوفي تعين بذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله في صورة مادية، أو ذهنية، فكان حيواناً وجماداً وإنساً وجناً وأصناماً وأوثاناً. وكان وهماً وظناً وخيالاً، وكانت صفاته وأسماؤه وأفعاله عينَ ما لتلك الأشياء من صفات وأسماء وأفعال؛ لأنها هي هو في ماهيته ووجوده المطلق، أو المقيد، وكل ما يقترفه البُغاة من خطايا، وما تنهش الضاريات من لحوم، أو تَعْرَق من عظام فهو فعل الرب الصوفي، وخطيئته وجرمه"1. ثم تناول رحمه الله قصيدة ابن الفارض التائية المليئة بما يقرر وحدة الوجود بشيء

_ 1_ هذه هي الصوفية ص24_25.

من الشرح والتحليل. ومن ذلك قول ابن الفارض مقرراً عقيدة وحدة الوجود: جَلَتْ في تجليها الوجودَ لناظري ... ففي كل مرئيٍّ أراها برؤية فهو يزعم أن الذات الإلهية هتكت عنه حجب الغَيْريَّة، وجلت له الحق المغيب، فرأى حقيقة الله متعينة بذاتها في كل مظاهر الوجود. ويقول: فوصفي إذا لم تدع باثنين وصفُها ... وهيئتها _ إذ واحدٌ نحن _ هيئتي يزعم أن كل ما وصف به الله نفسه فالموصوف به على الحقيقة هو ابن الفارض؛ لأنه الوجود الإلهي الحق في أزليته، وأبديته، وديموميته، وسرمديته. ويقول: فإن دُعيَتْ كنتُ المجيبَ وإن أكن ... منادى أجابت من دعاني ولبتِ ويقول _ وبئس ما يقول _: وكلُّ الجهات الستِّ نحوي توجهت ... بما تمَّ من نسك وحجٍ وعمرةِ لها صلواتي بالمقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها ليَ صلتِ إلى أن يقول _ قبحه الله _: ففي النشأة الأولى تراءت لآدم ... بمظهر حوَّا قبل حكم البنوةٍ وتظهر للعشاق في كل مظهرٍ ... من اللبسْ في أشكال حُسْنٍ بديعةِ ففي مرة لبنى وأخرى بثينة ... وآونة تُدعى بعَزَّة عَزَّتِ يزعم أن ربه ظهر لآدم في صورة حواء، ولقيس في صورة لبنى، ولجميل في

صورة بثينة، ولكثيِّر في صورة عزَّة. فما حواء أم البشر إلا الحقيقة الإلهية، وما أولئك العشاق سَكِرت على شفافههن خطايا القبل المحرمة، وتهاوت بُنْيَةُ اللهفة الجسدية الثائرة تحت شهوات العشاق، ما أولئك جميعاً سوى رب الصوفية تجسد في صور غَوَانٍ تطيش بهُدَاهُنَّ نزوةٌ وَلْهَى، أو نشوةٌ سكرى، أو رغبة تتلظى في عين عاشق!! 1. ومن أهل وحدة الوجود ابن عربي، ومن أقواله في ذلك: العبد ربٌّ والرب عبدٌ ... يا ليت شعريْ مَن المكلف إن قلت: عبدٌ فذاك ربٌّ ... أو قلت: ربٌّ أنَّى يكلف2 وقوله: "سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها"3. وقوله: "إن العارف من يرى الحق _ الله _ في كل شيء، بل يراه عين كل شيء"4. 2_ الاتحاد الخاص: هو اعتقاد أن الله _ عز وجل _ اتحد ببعض المخلوقات دون بعض. فالقائلون بذلك نزهوه من الاتحاد بالأشياء القذرة القبيحة، فقالوا إنه اتحد بالأنبياء، أو الصالحين، أو الفلاسفة، أو غيرهم. فصاروا هم عين وجود الله _ جل وعلا _.

_ 1_ انظر هذه هي الصوفية ص24_25. 2_ الفتوحات المكية 1/2. 3_ الفتوحات المكية 2/604، وانظر هذه هي الصوفية ص35. 4_ نصوص الحكم ص374، وانظر هذه هي الصوفية ص35.

كقول بعض فرق النصارى: إن اللاهوت اتحد بالناسوت، فصارا شيئاً واحداً. وهذا بخلاف القائلين بالحلول فهم يرون أن له طبيعتين لاهوتيةً وناسوتيةً. فالاتحادية قالوا بواحد، والحلولية قالوا باثنين. ولا ريب أن القول بالحلول أو الاتحاد أعظم الكفر والإلحاد عياذاً بالله. ولكن الاتحاد أشد من الحلول؛ لأنه اعتقاد ذات واحدة، بخلاف الحلول _كما مر_. ثم إن القول بأنه اتحد في كل شيء أعظم من القول بأنه اتحد في بعض مخلوقاته. وبالجملة فإن اعتقاد الحلول والاتحاد اعتقاد ظاهر البطلان، وقد جاء الإسلام بمحوه من عقول الناس؛ لأنه اعتقاد مأخوذ من مذاهب، وفلسفات ووثنيات هندية، ويونانية، ويهودية ونصرانية، وغيرها تقوم على الدجل، والخرافة.

الصفات الثبوتية والمنفية والذاتية والفعلية والعقلية

الصفات الثبوتية والمنفية والذاتية والفعلية والعقلية ترد هذه المصطلحات كثيراً في باب الصفات، وفيما يلي تعريف بكل واحد منها: 1_ الصفات الثبوتية: هي ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله" وكلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، كالحياة، والعلم، والقدرة، والاستواء، واليدين، والوجه، فيجب إثباتها لله على الوجه اللائق به. 2_ الصفات المنفية: وتسمى السلبية: وهي ما نفاه الله عن نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله "مثل الصمم، والنوم، وغير ذلك من صفات النقص، فيجب نفيها عن الله. 3_ الصفات الذاتية: هي التي لم يزل الله ولا يزال متصفاً بها، وهي التي لا تنفك عنه _سبحانه وتعالى_ كالعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والعزة، والحكمة، والوجه، واليدين. 4_ الصفات الفعلية: وتسمى الاختيارية، وهي التي تتعلق بمشيئة الله، إن شاء فعلها، وإن شاء لم يفعلها، وتتجدد حسب المشيئة كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا. وقد تكون الصفة ذاتية وفعلية باعتبارين، كالكلام؛ فإنه باعتبار أصله صفة ذاتية؛ لأن الله لم يزل ولا يزال متكلماً، وباعتبار آحاد الكلام صفة فعلية؛ لأن الكلام يتعلق بمشيئته، يتكلم متى شاء بما شاء. وكل صفة تعلقت بمشيئته _تعالى_ فإنها تابعة لحكمته، وقد تكون الحكمة

معلومة لنا، وقد نعجز عن إدراكها، لكننا نعلم علم اليقين أنه _سبحانه_ لا يشاء إلا وهو موافق لحكمته، كما يشير إليه قوله _تعالى_: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [الإنسان:30] . 5_ الصفات العقلية: وهي التي يشترك في إثباتها الدليل الشرعي السمعي، والدليل العقلي، والفطرة السليمة. وهي أغلب صفات الله _ تعالى _ مثل صفة السمع، والبصر، والقوة، والقدرة، وغيرها. 6_ الصفات الخبرية: وهي التي لا تعرف إلا عن طريق النص، فطريق معرفتها النص فقط، مع أن العقل السليم لا ينافيها، مثل صفة اليدين، والنزول إلى السماء الدنيا.

الصفات السلبية والصفات الإضافية والصفات المركبة

الصفات السلبية والصفات الإضافية والصفات المركبة هذه المصطلحات ترد في كتب العقائد خصوصاً في معرض الرد والمناقشة للمعطلة النفاة لصفات الرب _ جل جلاله _. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومذهب النفاة من هؤلاء أن الرب ليس له إلا صفات سلبية، أو إضافية، أو مركبة منها"1. وفيما يلي بيان لمعنى وضابط كل واحدٍ من هذه الصفات. أولاً: الصفات السلبية: السلبية من سلب الشيء سلباً، والسلب: هو النفي بإدخال أحد أدوات النفي ليس، ولا، وما على القول بحيث تجعل معناه دالاً على السلب أي النفي. مثال ذلك: قول النفاة في صفات الرب: ليس بسميع، ولا بصير، ولا مستوٍ على العرش. وقول غلاتهم: لا موجود، ولا معدوم، ولا داخل العالم، ولا خارجه. هذا هو السلب. أما ضابط الصفة السلبية عند النفاة: فهي الصفة التي لا تدل بدلالة المطابقة على معنى وجودي أصلاً، وإنما على المعنى السلبي غير الثبوتي. وبعبارة أخرى: هي التي تدل على أمر مسلوب _ أي منفي _ لا على أمر ثبوتي.

_ 1_ الفتوى الحموية الكبرى ص239_240.

أو يقال: هي التي تدل على سلب ما لا يليق بالله من الله. مثال ذلك: العلم وهو من صفات الله _ عز وجل _ وهو أمر ثبوتي يعني اتصاف الله _عز وجل_ بالعلم. لكن النفاة يقولون: معناه: انتفاء الجهل لا ثبوت العلم. وبعبارة أخرى: ليس بجاهل، لا أنه عالم. مثال ثانٍ: قولهم: إن الله واحد يعني أنه مسلوب عنه القسمة بالكم، أو مسلوب عنه ذلك بالتعدد أو التجزؤ، يعني ليس باثنين، ولا واحداً يتجزأ. مثال ثالث: القِدَم: يدل على عدم سبق العدم. مثال رابع: البقاء: يدل على عدم لحوق الفناء، وهكذا ... والصفات السلبية عند الأشاعرة خمس: القدم، والبقاء، والوحدانية، والمخالفة للحوادث، والغنى المطلق المعروف عندهم بـ: القيام بالنفس. هذه هي الصفات السلبية وضوابطها. وهناك صفات سلبية غير السلبية التي اصطلح عليها الأشاعرة والتي تقدم الحديث عنها. ويُقصَد بالسلبية هنا: الصفات التي تدخل عليها: لا، وما، وليس مما هو كثير الورود في القرآن الكريم. ولا يقصد به ما يقصده النفاة من وصف الله _ عز وجل _ بالسلوب أي النفي فحسب، وإنما يقع لتضمنه كمال ضد الصفة المنفية، وإلا فالنفي المحض عدم، والعدم لا مدح فيه بوجه من الوجوه.

مثال ذلك قوله _ تعالى _: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49] لكمال عدله. وقوله _ عز وجل _: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [سبأ: 3] لكمال علمه واطلاعه. وقوله _ تبارك وتعالى _: {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: 38] لكمال قوته. وقوله: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} [البقرة: 255] لكمال حياته وقيوميته. وقوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] لكمال جلاله، وعظمته، وكبريائه، وهكذا ... وقد مرت الإشارة إلى هذا في المبحث الماضي عند الحديث عن الصفات المنفية. ثانياً: الصفات الإضافية: هي صفات اعتبارية لا وجود لها في المثال ذلك قوله _ تعالى _: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49] لكمال عدله. وقوله _ عز وجل _: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [سبأ: 3] لكمال علمه واطلاعه. وقوله _ تبارك وتعالى _: {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: 38] لكمال قوته. وقوله: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} [البقرة: 255] لكمال حياته وقيوميته. وقوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] لكمال جلاله، وعظمته، وكبريائه، وهكذا ... وقد مرت الإشارة إلى هذا في المبحث الماضي عند الحديث عن الصفات المنفية. ثانياً: الصفات الإضافية: هي صفات اعتبارية لا وجود لها في الخارج، ولا تعقل إلا بتعقل ما يقابلها، كالأولوية باعتبار أن المخلوقات بعده. وبعبارة أخرى: هي التي تدل على صفة مضافة إلى الغير، مثال ذلك: الخلق؛ فليس معناه عند النفاة ثبوت صفة الخلق، وإنما معناه: وجود مخلوق له. وكذلك الإحياء، والإماتة، وهكذا كل صفة فعلية متعدية. ثالثاً: الصفات المركبة من السلبية والإضافية: وهي التي تكون سلبية باعتبار، وإضافية باعتبار آخر. مثال ذلك: اسم الأول فليس معناه عند النفاة تضمنه ثبوت صفة الأولية، وإنما معناه انتفاء الحدوث عنه يعني أنه ليس بحادث، وهي بهذا المعنى سلبية منفية. ومعناه _ كذلك _ أن الأشياء كائنة بعده، وهي بهذا المعنى إضافية. خارج، ولا تعقل إلا بتعقل ما يقابلها، كالأولوية باعتبار أن المخلوقات بعده. وبعبارة أخرى: هي التي تدل على صفة مضافة إلى الغير، مثال ذلك: الخلق؛ فليس معناه عند النفاة ثبوت صفة الخلق، وإنما معناه: وجود مخلوق له. وكذلك الإحياء، والإماتة، وهكذا كل صفة فعلية متعدية. ثالثاً: الصفات المركبة من السلبية والإضافية: وهي التي تكون سلبية باعتبار، وإضافية باعتبار آخر. مثال ذلك: اسم الأول فليس معناه عند النفاة تضمنه ثبوت صفة الأولية، وإنما معناه انتفاء الحدوث عنه يعني أنه ليس بحادث، وهي بهذا المعنى سلبية منفية. ومعناه _ كذلك _ أن الأشياء كائنة بعده، وهي بهذا المعنى إضافية.

وبمجموعهما صارت مركبة، وهكذا ... _ ما الذي جعل النفاة لا يصفون الله _ عز وجل _ بالصفات الثبوتية، وإنما يصفونه بالصفات السلبية، أو الإضافية، أو المركبة؟ لأنهم يزعمون أن ثبوت الصفات يقتضي أن الله مشابه لخلقه؛ ولهذا وصفوه بالصفات السلبية، أو الإضافية، أو المركبة منها.

الذات والشيء والماهية والحقيقة

الذات، والشيء، والماهية، والحقيقة ترد هذه الألفاظ في كتب العقائد كثيراً، ومعانيها متقاربة، وذلك كما يلي: 1_ الذات: ذات الشيء: نفسه وعينه، والذات أعم من الشخص؛ لأن الذات يطلق على الجسم وغيره، والشخص لا يطلق إلا على الجسم. 2_ الشيء: في اللغة ما يصح أن يعلم ويخبر عنه عند سيبويه، وقيل عبارة عن الوجود. وفي الاصطلاح: هو الموجود، والثابت المتحقق في الخارج. 3_ الماهية: تطلق على الأمر المتعلقِ، وماهيةُ الشيءِ: ما به الشيء هو هو. 4_ الحقيقة: حقيقة الشيء: ما به الشيء هو هو كالحيوان الناطق بالنسبة للإنسان. وتطلق الحقيقة على كل لفظ يبقى في موضوعه، وتطلق على مقابلة المجاز؛ فتكون الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح التخاطب.

مسائل أحدثها المتكلمون

مسائل أحدثها المتكلمون الكلمات المُجْمَلة: يَرِدُ في كتب العقائد مصطلح الكلمات المجملة. فما المقصود بها؟ وما معنى كونها مجملة؟ وما المراد من إطلاقها؟ وما الذي دعى إلى إطلاقها؟ وهل وردت في الكتاب والسنة؟ وما طريقة أهل السنة في التعامل مع هذه الألفاظ؟ والإجابة عن هذه الأسئلة ستكون على النحو التالي: أ_ المقصود بالكلمات المجملة: أنها ألفاظ يطلقها أهل التعطيل. أو: هي مصطلحات أحدثها أهل الكلام. ب_ ومعنى كونها مجملة: لأنها تحتمل حقاً وباطلاً. أو يقال: لأنها ألفاظ مُشتركة بين معانٍ صحيحة، ومعانٍ باطلة. أو يقال لخفاء المراد منها؛ بحيث لا يدرك معنى اللفظ إلا بعد الاستفصال والاستفسار. ج_ ومراد أهل التعطيل من إطلاقها: التوصل إلى نفي الصفات عن الله _تعالى_ بحجة تنزيهه عن النقائص. د_ والذي دعاهم إلى ذلك: عجزهم عن مقارعة أهل السنة بالحجة؛ فلجؤوا إلى هذه الطريقة؛ ليخفوا عوارهم، وزيفهم. هـ_ وهذه الألفاظ لم ترد لا في الكتاب، ولا في السنة؛ بل هي من إطلاقات أهل الكلام.

و_ وطريقة أهل السنة في التعامل مع هذه الكلمات: أنهم يتوقفون في هذه الألفاظ؛ لأنه لم يرد نفيها، ولا إثباتها في الكتاب والسنة؛ فلا يثبتونها، ولا ينفونها. أما المعنى الذي تحت هذه الألفاظ فإنهم يستفصلون عنه، فإن كان معنى باطلاً يُنَزَّه الله عنه رَدُّوه، وإن كان معنى حقاً لا يمتنع على الله قبلوه، واستعملوا اللفظ الشرعي المناسب للمقام. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وما تنازع فيه المتأخرون نفياً أو إثباتاً فليس على أحد، بل ولا له أن يوافق أحداً على إثبات لفظ، أو نفيه حتى يعرف مراده. فإن أراد حقاً قبل، وإن أراد باطلاً رُدَّ، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقاً، ولم يُردَّ جميع معناه، بل يوقف اللفظ، ويفسر المعنى"1. وإليك فيما يلي نماذج وأمثلة لبعض الألفاظ المجملة: 1_ الجهة. 2_ الحد. 3_ الأعراض. 4_ الأبعاض أو الأعضاء والأركان والجوارح. 5_ الأغراض 6_ حلول الحوادث بالله _تعالى_.

_ 1_ التدمرية ص65_66.

7_التسلسل. وإليك فيما يلي من صفحات ودراسة تفصيلاً لهذه الألفاظ، وما يراد بها، وجواب أهل السنة المفصل على ذلك.

دراسة موجزة لبعض الكلمات المجملة

دراسة موجزة لبعض الكلمات المجملة أولاً: الجهة: هذه اللفظة من الكلمات المجملة التي يطلقها أهل التعطيل، فما معناها في اللغة؟ وما مرادهم من إطلاقها؟ وما التحقيق في تلك اللفظة؟ وهل هي ثابتة لله، أو منفية عنه؟ أ_ معنى الجهة في اللغة: تطلق على الموضع الذي تتوجه إليه، وتقصده، وتطلق على الطريق، وعلى كل شيء استقبلته، وأخذت فيه1. ب_ ومراد أهل التعطيل من إطلاق لفظ الجهة: نفي صفة العلو عن الله _عز وجل_. ج_ والتحقيق في هذه اللفظة: أن يقال: إن إطلاق لفظ الجهة في حق الله _سبحانه وتعالى_ أمر مبتدع لم يرد في الكتاب ولا السنة، ولا عن أحد من سلف هذه الأمة. وبناءاً على هذا لا يصح إطلاق الجهة على الله _ عز وجل _ لا نفياً ولا إثباتاً، بل لا بد من التفصيل؛ لأن هذا المعنى يحتمل حقاً، ويحتمل باطلاً. فإن أريد بها جهةَ سفلٍ فإنها منتفية عن الله، وممتنعة عليه _أيضا_ فإن الله أعظم وأجل من أن يحيط به شيء من مخلوقاته، كيف وقد وسع كرسيه السموات والأرض؟ وإن أريد بالجهة أنه في جميع الجهات، وأنه حالٌّ في خلقه، وأنه بذاته في كل

_ 1_ انظر لسان العرب 13/555_560.

مكان _ فإن ذلك ممتنع على الله، منتفٍ في حقه. وإن أريد نفي الجهة عن الله كما يقول أهل التعطيل حيث يقولون: إن الله ليس في جهة، أي ليس في مكان، فهو لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا متصل، ولا منفصل، ولا فوق، ولا تحت _ فإن ذلك _أيضاً_ ممتنع على الله، منتفٍ في حقه؛ إذ إن ذلك وصف له بالعدم المحض. وإن أريد بالجهة أنه في جهة علوٍّ تليق بجلاله، وعظمته من غير إحاطة به، ومن غير أن يكون محتاجاً لأحد من خلقه _ فإن ذلك حق ثابت له، ومعنى صحيح دلت عليه النصوص، والعقول، والفطر السليمة. ومعنى كونه في السماء _كما في قوله _تعالى_: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} ، أي في جهة العلو، أو أن في بمعنى على، أي على السماء، كما قال _ تعالى _: {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] أي على جذوع النخل. وبهذا التفصيل يتبين الحق من الباطل في هذا الإطلاق. أما بالنسبة للفظ فكما سبق لا يُثبت ولا يُنفى، بل يجب أن يستعمل بدلاً عنه اللفظ الشرعي، وهو العلو، والفوقية1. ثانياً: الحد: وهذا _ أيضاً _ من الألفاظ المجملة التي يطلقها أهل التعطيل. فما معنى الحد في اللغة؟ وماذا يريد أهل التعطيل من إطلاقه؟ وما شبهتهم في ذلك؟ وما جواب أهل السنة؟ أ_ معنى الحد في اللغة: يطلق على الفَصْل، والمنع، والحاجز بين الشيئين الذي

_ 1_ انظر شرح العقيدة الطحاوية ص221، والتحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية ص166_171. وتلخيص الحموية ص33_35.

يمنع اختلاط أحدهما بالآخر. يقال: حددت كذا، جعلت له حداً يميزه. وحدُّ الدار ما تتميز به عن غيرها، وحد الشيء: الوصف المحيط بمعناه، المميز له عن غيره1. ب_ وأهل التعطيل يريدون من إطلاق لفظ الحد نفي استواء الله على عرشه. ج_ وشبهتهم في ذلك: أنهم يقولون: لو أثبتنا استواء الله على عرشه للزم أن يكون محدوداً؛ لأن المستوي على الشيء يكون محدوداً؛ فالإنسان _مثلاً_ إذا استوى على البعير صار محدوداً بمنطقة معينة، محصوراً بها، وعلى محدود _أيضاً_ زهز ظهر البعير. وبناءاً على ذلك فهم ينفون استواء الله على عرشه ويرون أنهم ينزهون الله _عز وجل_ عن الحد، أو الحدود. د_ جواب أهل السنة: أهل السنة يقولون: إن لفظ الحد لم يرد في الكتاب، ولا في السنة، ولا في كلام سلف الأمة؛ فهو _ إذاً _ لفظ مبتدع حادث. وليس لنا أن نصف الله بما لم يصف به نفسه، ولا وصفه به رسوله "لا نفياً، ولا إثباتاً، وإنما نحن متبعون لا مبتدعون. هذا بالنسبة للفظ. أما بالنسبة للمعنى فإننا نستفصل _كالعادة_ ونقول ماذا تريدون بالحد؟

_ 1_ انظر معجم مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني ص108، والمصباح المنير للفيومي ص68.

إن أردتم بالحد أن الله _ عز وجل _ محدود، أي متميز عن خلقه، منفصل عنهم، مباين لهم _ فهذا حق ليس فيه شيء من النقص، وهو ثابت لله بهذا المعنى. وإن أردتم بكونه محدوداً أن العرش محيط به وأنتم تريدون نفي ذلك عنه بنفي استوائه عليه _ فهذا باطل، وليس بلازم صحيح؛ فإن الله _تعالى_ مستوٍ على عرشه، وإن كان _ عز وجل _ أكبر من العرش ومن غير العرش. ولا يلزم من كونه مستوياً على العرش أن يكون العرش محيطاً به؛ لأن الله _ عز وجل _ أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء، والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه1. ثالثاً: الأعراض: هذا اللفظ من الألفاظ المجملة التي يطلقها أهل الكلام ومن أقوالهم في ذلك: "نحن نُنَزِّه الله _تعالى_ من الأعراض والأغراض، والأبعاض، والحدود، والجهات". ويقولون: "سبحان من تنزه عن الأعراض والأغراض والأبعاض". والحديث في الأسطر التالية سيكون حول لفظ الأعراض أما بقية الألفاظ فسيأتي ذكرها فيما بعد. أ_ تعريف الأعراض في اللغة: الأعراض جمع عَرَض، والعَرض هو ما لا ثبات. أو هو: ما ليس بلازم للشيء.

_ 1_ انظر شرح عقيدة الطحاوية ص219، وشرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين 1/376 و379_380.

أو هو: ما لا يمتنع انفكاكه عن الشيء1. ومن الأمثلة على ذلك: الفرح بالنسبة للإنسان فهو عَرَض؛ لأنه لا ثبات، بل هو عارض يعرض ويزول. وكذلك الغضب، والرضا. ب_ العَرَض في اصطلاح المتكلمين: قال الفيومي: "العَرَض عند المتكلمين ما لا يقوم بنفسه، ولا يوجد إلا في محل يقوم به"2. وقال الراغب الأصفهاني: "والعرض ما لا يكون له ثبات، ومنه استعار المتكلمون العَرَض لما لا ثبات له إلا بالجوهر كاللون والمطعم"3. ج_ ما مراد المتكلمين من قولهم: "إن الله منزه عن الأعراض؟ ": مرادهم من ذلك نفي الصفات عن الله _ تعالى _ لأن الأعراض عندهم هي الصفات. د_ ما شبهتهم؟ يقولون: لأن الأعراض لا تقوم إلا بالأجسام، والأجسام متماثلة؛ فإثبات الصفات يعني أن الله جسم، والله منزه عن ذلك، وبناءاً عليه نقول بنفي الصفات؛ لأنه يترتب على إثباتها التجسيم، وهو وصف الله بأنه جسم، والتجسيم تمثيل، وهذا كفر وضلال؛ فهذه هي شبهة المتكلمين. هـ _ الرد على أهل الكلام في هذه المسألة: الرد عليهم من وجوه: 1_ أن لفظة "الأعراض" لم ترد في الكتاب ولا في السنة في حق الله لا نفياً ولا إثباتاً، ولم ترد كذلك عن سلف الأمة.

_ 1_ انظر التعريفات للجرجاني ص153_154. 2_ المصباح المنير للفيومي ص209. 3_ معجم مفردات ألفاظ القرآن ص342.

وطريقة أهل السنة المعهودة في مثل هذه الألفاظ التوقف في اللفظ، فلا نثبت الأعراض، ولا ننفيها. أما معناها فيُستَفْصَل عن مرادهم في ذلك، ويقال لهم: إن أردتم بالأعراض التي تقولون بنفيها عن الله ما يقتضي نقصاً في حق الله _تعالى_ كالحزن، والندم، والمرض، والخوف _ فإن المعنى صحيح، والله منزه عن ذلك؛ لأنه نقص، لا لأنها أعراض. وإن أردتم نفي ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات كالغضب، والفرح، والرضا، ونحوها؛ بحجة أنها أعراض _ فإن ذلك باطل مردود، ولا يلزم من إثباتها أي لازم. 2_ أن الصفات الربانية ليست كلها أعراض، بل إن بعضها أعراض كالفرح، والغضب، وبعضها ليست أعراضاً، كبعض الصفات الذاتية كاليد، والوجه، والقدم، والساق؛ فهذه ليست أعراضاً، بل لازمة للذات لا تنفك عنها. 3_ أن قولكم: "إن الأعراض لا تقوم إلا بجسم" قول باطل؛ فالأعراض قد تقوم بغير الجسم كما يقال: ليل طويل، فقولنا: طويل، وصف لـ: ليل، والليل ليس بجسم، ومثل ذلك: حر شديد، ومرض مؤلم، وبرد قارس. 4_ أن القول بتماثل الأجسام قول باطل؛ فالأجسام غير متماثلة لا بالذوات ولا بالصفات، ولا بالحدوث؛ ففي الحجم تختلف الذرَّة عن الجمل، وفي الوزن يختلف جسم القيراط عن جسم القنطار، وفي الملمس يختلف الخشن عن الناعم، واللين عن القاسي، وهكذا.

5_ أن لفظ الجسم من إحداث المتكلمين، وهذا اللفظ كقاعدة الألفاظ المجملة؛ فإن كان إثبات الصفات يلزم منه أن يكون جسماً في مفهومك فليس ذلك يضيرنا. لكن إن أردت بالجسم الشيء القائم بنفسه المتصف بما يليق به فهذا حق؛ لأننا نؤمن بأن لله ذاتاً موصوفة بالصفات اللائقة بها. فإن أردت بالجسم هذا المعنى فصحيح. وإن أردت بالجسم الشيء المكوَّن من أعضاء، ولحم ودم المفتقر بعضه إلى بعض وما أشبه ذلك _ فباطل غير صحيح؛ لأنه يلزم أن يكون الله حادثاً أو مُحْدَثاً، وهذا أمر مستحيل، على أننا لا نوافق على إثبات الجسم، ولا نفيه؛ لأنه يحتمل حقاً وباطلاً. رابعاً: الأبعاض: أو الأعضاء، أو الأركان، أو الجوارح: وهذه _ أيضاً _ من الكلمات المجملة التي تطلق وتحتمل حقاً وباطلاً؛ فإليك نبذة في معانيها، ومقصود أهل التعطيل من إطلاقها وجواب أهل السنة على تلك الدعوى. أ_ معاني هذه الكلمات: معاني هذه الكلمات متقاربة من بعض. -فالأبعاض: جمع لكلمة بعض، يقال: بعض الشيء أي جزؤه، وبعّضْتُ كذا أي جعلته أبعاضاً1. -والأركان: جمع ركن، وركن الشيء قوامه، وجانبه القوي الذي يتم به، ويسكن إليه. -والأجزاء: جمع جزء، والجزء ما يتركب الشيء عنه وعن غيره، وجزء

_ 1_ انظر معجم مفردات ألفاظ القرآن ص50 و 88 و 90 و 208 والتعريفات ص78 و 117.

الشيء ما تقوم به جملتُه كأجزاء السفينة، وأجزاء البيت. -والجوارح: مفردها الجارحة، وتسمى الصائدة من الكلاب والفهود والطيور جارحة؛ إما لأنها تجرح، وإما لأنها تكسب. وسميت الأعضاء الكاسبة جوارح؛ تشبيهاً بها لأحد هذين1. -ويشبه هذه الألفاظ لفظ: الأعضاء، والأدوات، ونحوها. ب_ مقصود أهل التعطيل من إطلاقها: مقصودهم نفي بعض الصفات الذاتية الثابتة لله بالأدلة القطعية، كاليد، والوجه، والساق، والقدم، والعين2. ج_ ما الذي دعاهم إلى نفيها؟ الذي دعاهم إلى نفي تلك الصفات هو اعتقادهم أنها بالنسبة للمخلوق أبعاض، وأعضاء، وأركان، وأجزاء، وجوارح، وأدوات، ونحو ذلك؛ فيرون _بزعمهم_ أن إثبات تلك الصفات لله يقتضي التمثيل، والتجسيم؛ فوجب عندهم نفيها فراراً من ذلك. وقد لجؤوا إلى تلك الألفاظ المجملة؛ لأجل أن يروج كلامهم، ويلقى القبول. د_ جواب أهل السنة: أهل السنة يقولون: إن هذه الصفات _ وإن كانت تعد في حق المخلوق أبعاضاً، أو أعضاءاً، وجوارح ونحو ذلك _ لكنها تعدُّ في حق الله صفات أثبتها لنفسه، أو أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم "فلا نخوض فيها بآرائنا وأهوائنا، بل نؤمن بها ونُمرُّها كما جاءت، ونفوض كنهها وحقيقتها إلى الله _عز وجل_ لعدم معرفتنا لحقيقة الذات؛ لأن حقيقة معرفة الصفة متوقفة على معرفة حقيقة الذات كما لا يخفى، وهذه الصفات _أعني اليد، والساق ونحوها وكثير من

_ 1_ المرجع السابق. 2_ انظر شرح العقيدة الطحاوية ص219.

صفات الله_ قد تشترك مع صفات خلقه في اللفظ، وفي المعنى العام المطلق قبل أن تضاف. وبمجرد إضافتها تختص صفات الخالق بالخالق، وصفات المخلوق بالمخلوق؛ فصفات الخالق تليق بجلاله، وعظمته، وربوبيته، وقيوميته. وصفات المخلوق تليق بحدوثه، وضعفه، ومخلوقيته1. وبناءاً على ذلك يقال لمن يطلق تلك الألفاظ المجملة السالفة: إن أردت أن تنفي عن الله _ عز وجل _ أن يكون جسماً، وجثة، وأعضاءاً، ونحو ذلك فكلامك صحيح، ونفيك في محله. وإن أردت بذلك نفي الصفات الثابتة له والتي ظننت أن إثباتها يقتضي التجسيم، ونحو ذلك من اللوازم الباطلة _ فإن قولك باطل، ونفيك في غير محله. هذا بالنسبة للمعنى. أما بالنسبة للفظ فيجب ألا تعْدِل عن الألفاظ الشرعية في النفي أو الإثبات؛ لسلامتها من الاحتمالات الفاسدة. يقول شارح الطحاوية رحمه الله: "ولكن لا يقال لهذه الصفات إنها أعضاء، أو جوارح، أو أدوات، أو أركان؛ لأن الركن جزء الماهية، والله _ تعالى _ هو الأحد، الصمد، لا يتجزأ _ سبحانه وتعالى _ والأعضاء فيها معنى التفريق والتعضية2، تعالى الله عن ذلك، ومن هذا المعنى قوله _ تعالى _: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:91] .

_ 1_ انظر الصفات الإلهية ص208_209. 2_ التعضية: التقطيع، وجعل الشيء أعضاء.

والجوارح فيها معنى الاكتساب والانتفاع؛ وكذلك الأدوات هي الآلات التي ينتفع بها في جلب المنفعة ودفع المضرة. وكل هذه المعاني منتفية عن الله _ تعالى _ ولهذا لم يرد ذكرها في صفات الله _تعالى_ فالألفاظ الشرعية صحيحة المعاني، سالمة من الاحتمالات الفاسدة؛ فكذلك يجب أن لا يُعدل عن الألفاظ الشرعية نفياً ولا إثباتاً؛ لئلا يُثبت معنىً فاسدٌ، وأن ينفى معنى صحيح. وكل هذه الألفاظ المجملة عُرضةٌ للمحق والمبطل"1. خامساً: الأغراض: وهذا _أيضاً_ من إطلاقات المتكلمين، وإليك بعض التفصيل في هذا اللفظ. أ_ الأغراض في اللغة: جمع غرض، والغرض هو الهدف الذي يرمى فيه، أو هو الهدف الذي ينصب فيرمى فيه. والغرض يطلق في اللغة _ أيضاً _ على الحاجة، والبغية، والقصد2. ب_ الغرض في اصطلاح علماء الكلام: قيل: هو ما لأجله يصدر الفعل من الفاعل3. وقال الجلال الدواني: "الغرض هو الأمر الباعث للفاعل على الفعل، وهو المحرك الأول، وبه يصير الفاعل فاعلاً"4.

_ 1_ شرح العقيدة الطحاوية ص220 _ 221. 2_ انظر لسان العرب 7/196. 3_ انظر شرح مطالع الأنظار على طوالع الأنوار لشمس الدين بن محمود الأصفهاني ص917. 4_ شرح العقائد العضدية للجلال الدواني 2/204.

وبذلك نرى توافق المعنى اللغوي والاصطلاحي للغرض، وأنه غاية الفاعل من فعله، وهو الباعث له على فعله1. ج_ ماذا يريد أهل الكلام بهذه اللفظة؟ يريدون إبطال الحكمة في أفعال الله _عز وجل_ وشرعه. د_ حجتهم في ذلك: يقول المتكلمون _وعلى وجه الخصوص الأشاعرة_: إننا ننزه الله عن الأغراض، فلا يكون له غرض فيما شرعه أو خلقه؛ فأبطلوا الحكمة من ذلك، وقرروا أن الله لم يشرع إلا لمجرد مشيئته فحسب؛ فإذا شاء تحريم شيء حرَّمه، أو شاء إيجابه أوجبه. وقالوا: لو قررنا أن له حكمة فيما شرعه لوقعنا في محذورين: الأول: أنه إذا كان لله غرض فإنه محتاج إلى ذلك الغرض؛ ليعود عليه من ذلك منفعة، والله منزه عن ذلك. والثاني: أننا إذا عللنا الأحكام أي أثبتنا الحكمة والعلة لزم أن نوجب على الله ما تقتضيه الحكمة؛ لأن الحكم يدور مع علته؛ فنقع فيما وقع فيه المعتزلة من إيجاب الصلاح والأصلح على الله؛ لأن الغرض عند المعتزلة بمعنى الغاية التي فَعَل لها، وهم يوجبون أن يكون فعله معللاً بالأغراض. هـ _ الرد عليهم: 1_ أن هذا اللفظ _الأغراض أو الغرض_ بِدْعِي لم يرد في حق الله لا في الكتاب ولا في السنة، ولا أطلقه أحد من أئمة الإسلام وأتباعهم؛ لأن هذه

_ 1_ انظر الحكمة والتعليل في أفعال الله ص26_47.

الكلمة قد توهم النقص، ونفيها قد يفهم منه نفي الحكمة؛ فلا بد _ إذاً _ من التفصيل، والأولى أن يعبر بلفظ: الحكمة، والرحمة، والإرادة، ونحو ذلك مما ورد به النص1. 2_ أن الغرض الذي ينزه الله عنه ما كان لدفع ضرر، أو جلب مصلحة له؛ فالله _ سبحانه _ لم يَخْلُقْ، ولم يَشْرَعْ لأن مصلحة الخلق والأمر تعود إليه، وإنما ذلك لمصلحة الخلق. ولا ريب أن ذلك كمال محض، قال _ تعالى _: {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} [آل عمران:176] . وقال: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر:7] . وفي الحديث القدسي يقول الله _ عز وجل _: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي، فتنفعوني ولن تبلغوا ضري، فتضروني". وهذا أمر مستقر في الفطر. 3_ أن إيجاب حصول الأشياء على الله متى وجدت الحكمة حق صحيح. لكنه مخالف لما يراه المعتزلة من جهة أن الله _عز وجل_ هو الذي أوجب هذا على نفسه، ولم يوجبه عليه أحد، كما قال _تبارك وتعالى_: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] . وكما قال: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] . وكما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: "يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ " قال: الله ورسوله أعلم.

_ 1_ انظر مفتاح دار السعادة لابن القيم 1/66.

قال: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً". "أتدري ما حقهم عليه؟ ". قال: الله ورسوله أعلم. قال: "ألا يعذبهم" الحديث1. فهذا حق أوجبه الله على نفسه، ولله أن يوجب على نفسه ما يشاء. ثم إن مقياس الصلاح والأصلح ليس راجعاً إلى عقول البشر، ومقاييسهم، بل إن ذلك راجع إلى ما تقتضيه حكمة الله _ تعالى _ فقد تكون على خلاف ما يراه الخلق بادئ الرأي في عقولهم القاصرة؛ فانقطاع المطر قد يبدو لكثير من الناس أنه ليس الأصلح بينما قد يكون هو الأصلح لكنه مراد لغيره؛ لقوله _تعالى_: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] . وكذلك استدراج الكفار بالنعم، وابتلاء المسلمين بالمصائب كل ذلك يحمل في طياته ضروباً من الحكم التي لا تحيط عقول البشر إلا بأقل القليل منها. بل إن خلق إبليس، وتقدير المعاصي، وتقدير الآلام يتضمن حكماً تبهر العقول وتُبين عن عظيم حكمة أحكم الحاكمين. وليس هذا مجال البسط لتلك الحكم2. سادساً: حلول الحوادث بالله _ تعالى _: هذا اللفظ من إطلاقات أهل الكلام، وإليك بعض التفصيل في معناه، ومقصود أهل الكلام منه، والرد

_ 1_ رواه البخاري 7373، ومسلم2856. 2_ انظر تفاصيل ذلك في كتاب القضاء والقدر للكاتب.

عليهم في ذلك. أ_ معنى كلمة حلول: الحلول هو عبارة عن كون أحد الجسمين ظرفاً للآخر، كحلول الماء في الكوز1. ب_معنى كلمة الحوادث: الحوادث جمع حادث، وهو الشيء المخلوق المسبوق بالعدم، ويسمى حدوثاً زمانياً. وقد يعبر عن الحدوث بالحاجة إلى الغير، ويسمى حدوثاً ذاتياً. والحدوث الذاتي: هو كون الشيء مفتقراً في وجوده إلى الغير. والحدوث الزماني: هو كون الشيء مسبوقاً بالعدم سبقاً زمانياً 2. ج_ معنى حلول الحوادث بالله _ تعالى _: أي قيامها بالله، ووجودها فيه _عز وجل_. د_ ما مقصود أهل التعطيل من هذا الإطلاق؟ مقصودهم نفي اتصاف الله بالصفات الاختيارية الفعلية، وهي التي يفعلها متى شاء، كيف شاء، مثل الإتيان لفصل القضاء، والضحك، والعجب، والفرح؛ فينفون جميع الصفات الاختيارية. هـ _ ما حجتهم في ذلك: حجتهم في ذلك أن قيام تلك الصفات بالله يعني قيام الحوادث أي الأشياء المخلوقة الموجودة بالله. وإذا قامت به أصبح هو حادثاً بعد أن لم يكن، كما أنه يلزم أن تكون المخلوقات حالَّة فيه، وهذا ممتنع.

_ 1_ انظر التعريفات للجرجاني ص97. 2_ انظر التعريفات ص85_86.

و_ جواب أهل السنة: أهل السنة يقولون: إن هذا الإطلاق لم يَردْ في كتاب ولا سنة، لا نفياً ولا إثباتاً، كما أنه ليس معروفاً عند سلف الأمة. أما المعنى فيستفصل عنه؛ فإن أريد بنفي حلول الحوادث بالله أن لا يَحُلَّ بذاته المقدسة شيء من مخلوقاته المحدثة، أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن له من قبل _ فهذا النفي صحيح؛ فالله _عز وجل_ ليس مَحَلاً لمخلوقاته، وليست موجودة فيه، ولا يحدث له وصف متجدد لم يكن له من قبل. وإن أريد بالحوادث: أفعاله الاختيارية التي يفعلها متى شاء كيف شاء كالنزول، والاستواء، والرضا، والغضب، والمجيء لفصل القضاء ونحو ذلك فهذا النفي باطل مردود. بل يقال له: إننا نثبت ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه. ومن ذلك تلك الصفات المذكورة وغيرها. سابعاً: التسلسل: وهو أحد الألفاظ المجملة التي يطلقها المتكلمون. ولأجل أن يتضح مفهوم هذه اللفظة، ومدلولها، ووجه الصواب والخطأ في إطلاقها إليك هذا العرض الموجز. أ_ تعريف التسلسل: قال الجرجاني: "التسلسل هو ترتيب أمور غير متناهية"1. ب_ سبب تسميته بذلك: سمي بذلك أخذاً من السلسلة؛ فهي قابلة لزيادة الحِلَق إلى ما لا نهاية؛ فالمناسبة بينهما عدم التناهي بين طرفيهما؛ ففي السلسلة

_ 1_ التعريفات ص57.

مبدؤها ومنتهاها، وأما التسلسل فطرفاه الزمن الماضي والمستقبل. ج_ مراد أهل الكلام من إطلاق هذه اللفظة: مرادهم يختلف باختلاف سياق الكلام، وباختلاف المتكلمين؛ فقد يكون مرادهم نفي قِدَمِ اتصاف الله ببعض صفاته، وقد يكون مرادهم نفي دوام أفعال الله ومفعولاته، وقد يكون مرادهم نفي أبدية الجنة والنار، وقد يكون غير ذلك. د_ هل وردت هذه اللفظة في الكتاب أو السنة، أو أطلقها أحد من أئمة السلف؟ الجواب: لا. هـ _ ما طريقة أهل السنة في التعامل مع هذا اللفظ؟ طريقتهم كطريقتهم في سائر الألفاظ المجملة؛ حيث إنهم يتوقفون في لفظ التسلسل فلا يثبتونه، ولا ينفونه؛ لأنه لفظ مبتدع، مجمل يحتمل حقاً وباطلاً، وصواباً وخطأ. هذا بالنسبة للفظ. أما بالنسبة للمعنى فإنهم يستفصلون، فإن أريد به حق قبلوه، وإن أريد به باطل ردوه. و_ وبناءاً على ذلك فإنه يُنْظَرُ في هذا اللفظ، وتطبق عليه هذه القاعدة: فيقال لمن أطلقوا هذا اللفظ: 1_ إذا أردتم بالتسلسل: دوام أفعال الرب _أزلاً 1وأبداً 2_ فذلك معنى

_ 1_ الأزل: هو القدم الذي لا بداية له، أو هو استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب الماضي. 2_ والأبد هو المستقبل الذي لا نهاية له، أو هو استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب المستقبل. انظر التعريفات للجرجاني ص16.

صحيح دل عليه العقل والشرع؛ فإثباته واجب، ونفيه ممتنع، قال الله _ تعالى _: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107] . والفعال هو من يفعل على الدوام، ولو خلا من الفعل في أحد الزمانين لم يكن فعالاً؛ فوجب دوام الفعل أزلاً وأبداً. ثم إن المتصف بالفعل أكمل ممن لا يتصف به، ولو خلا الرب منه لخلا من كمال يجب له، وهذا ممتنع. ولأن الفعل لازم من لوازم الحياة، وكل حي فهو فعال، والله _ تعالى _ حي؛ فهو فعال، وحياته لا تنفك عنه أبداً وأزلاً. ولأن الفرق بين الحيِّ والميتِ الفعلُ، والله حيٌّ فلا بد أن يكون فاعلاً، وخُلُوُّه من الفعل في أحد الزمانين: الماضي والمستقبل ممتنع، فوجب دوام فعله أزلاً وأبداً. فخلاصة هذه المسألة: أنه إذا أريد بالتسلسل دوام أفعال الرب فذلك معنى صحيح واجب في حق الله، ونفيه ممتنع. 2_ وإذا أريد بالتسلسل: أنه _ تعالى _ كان معطلاً عن الفعل ثم فعل، أو أنه اتصف بصفة من الصفات بعد أن لم يكن متصفاً بها، أو أنه حصل له الكمال بعد أن لم يكن _ فذلك معنى باطل لا يجوز. فالله _ عز وجل _ لم يزل متصفاً بصفات الكمال: صفات الذات، وصفات الفعل، ولا يجوز أن يُعتقد أن الله اتصف بصفة بعد أن لم يكن متصفاً بها؛ لأن صفاته _ سبحانه _ صفات كمال، وفَقْدُها صفة نقص؛ فلا يجوز أن يكون قد حصل له الكمال بعد أن كان متصفاً بضده.

قال الإمام الطحاوي رحمه الله: "ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه لم يزدد بكونهم شيئاً لم يكن قبلهم من صفته. وكما كان بصفاته أزلياً كذلك لا يزال عليها أبدياً"1. مثال ذلك صفة الكلام؛ فالله _عز وجل_ لم يزل متكلماً إذا شاء. ولم تحدث له صفة الكلام في وقت، ولم يكن معطلاً عنها في وقت، بل هو متصف بها أزلاً وأبداً. وكذلك صفة الخلق، فلم تحدث له هذه الصفة بعد أن كان معطلاً عنها. 3_ وإذا كان المقصود بالتسلسل: التسلسل في مفعولات الله _ عز وجل _ وأنه ما زال ولا يزال يخلق خلْقاً بعد خلق إلى ما لا نهاية _ فذلك معنى صحيح، وتسلسل ممكن، وهو جائز في الشرع والعقل. قال الله _ تعالى _: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق:15] . ثم إنه _ عز وجل _ ما زال يخلق خلقاً، ويرتب الثاني على الأول وهكذا؛ فما زال الإنسان والحيوان منذ خلَقَهُ الله يترتب خلقه على خلق أبيه وأمه. 4_ وإن أريد بالتسلسل: التسلسل بالمؤثِّرين، أي بأن يؤثِّر الشيء بالشيء إلى ما لا نهاية، وأن يكون مؤثرون كلُّ واحد منهم استفاد تأثيره مما قبله لا إلى غاية_ فذلك تسلسل ممتنع شرعاً وعقلاً؛ لاستحالة وقوعه؛ فالله _ عز وجل _ خالق كل شيء، وإليه المنتهى؛ فهو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء،

_ 1_ شرح العقيدة الطحاوية ص124.

وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء. والقول بالتسلسل في المؤثرين يؤدي إلى خُلُوِّ المُحدَث والمخلوق من مُحْدِثٍ وخالقٍ، وينتهي بإنكار الخالق _ جل وعلا _. خلاصة القول في مسألة التسلسل عموماً: * أن التسلسل هو ترتيب أمور غير متناهية، وأنه سمي بذلك أخذاً من السلسلة. * وأن التسلسل من الألفاظ المجملة التي لا بد فيها من الاستفصال _ كما مر _. * وأنه إن أريد بالتسلسل: دوام أفعال الرب ومفعولاته، وأنه متصف بصفات الكمال أزلاً وأبداً _ فذلك حق صحيح، يدل عليه الشرع والعقل. * وأنه إن أريد بالتسلسل: أنه _ عز وجل _ كان معطلاً عن أفعاله وصفاته، ثم فعل، واتصف فحصل له الكمال بعد أن لم يكن متصفاً به، أو أريد بالتسلسل: التسلسل بالمؤثرين _ فذلك معنى باطل مردود بالشرع والعقل1.

_ 1_ انظر تفصيل الحديث عن التسلسل في شرح العقيدة الطحاوية، ص130_135، وتوضيح المقاصد وتصحيح القواعد شرح النونية للشيخ أحمد بن عيسى 1/370، والقواعد الكلية للأسماء والصفات عند السلف د. إبراهيم البريكان ص208_214.

اللفظ والملفوظ

اللفظ والملفوظ هذه المسألة ترد في كتب العقائد، وهي من المسائل الحادثة، وتعرف بمسألة: اللفظ. وإليك شيئاً من البسط في هذه المسألة: أولاً: ما المراد بمسألة اللفظ، والملفوظ: المراد بها: هل اللفظ بالقرآن مخلوق، أو غير مخلوق؟ ثانياً: من أول من تكلم بها: أول من تكلم بها حسين الكرابيسي، وتلميذه داود الأصبهاني زمن الإمام أحمد؛ فهذان هما اللذان قالا: لفظنا بالقرآن مخلوق، وقد عرفوا باللفظية. ثم عارضهم طائفة من أهل السنة والحديث؛ فقالوا: لفظنا بالقرآن غير مخلوق. ثالثاً: هل يصح أن يقال: اللفظ بالقرآن مخلوق؟ أو غير مخلوق؟ الجواب أن يقال: إن إطلاق هذا القول نفياً أو إثباتاً غير صحيح؛ ولهذا فإن الإمام أحمد، وجمهور أهل السنة منعوا هذين الإطلاقين، وقالوا: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع. والسبب في تخطئة الإمام أحمد وجمهور أهل السنة لهذين الإطلاقين هو ما فيهما من الإيهام، والإجمال، والاحتمال. رابعاً: ما القول الحق في هذه المسألة؟ : القول الحق أن يستفصل عن المراد بها؛ فيقال: إن أريد باللفظِ: التلفظُ الذي هو فعل العبد فهو مخلوق؛ لأن العبد وفعله مخلوقان، قال الله _عز وجل_: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} .

وجاء في كتاب خلق أفعال العباد للإمام البخاري أن رسول الله " قال: "إن الله يصنع كل صانع وصنعته".1 وإن أريد باللفظ: الملفوظ به فهو كلام الله منزل غير مخلوق؛ لأن كلام الله من صفاتِه، وصفاتُه _عز وجل_ غيرُ مخلوقة. وبعبارة أخرى يمكن أن يقال: إن هناك فرقاً بين التلاوة والمتلو، والقراءة والمقروء؛ فالتلاوة والقراءة فعل العبد، وذلك مخلوق. أما المتلُوُّ المقروء فهو كلام الله وقوله _ عز وجل_ وهو غير مخلوق. وعلى هذا فمن قال: "لفظي القرآن غير مخلوق" فإنه يحتاج إلى تفصيل؛ فإن أراد المقروء المتلو فذلك حق؛ لأن القرآن غير كلام الله منزل غير مخلوق، وإن أراد القراءةَ المتلوةَ فهذا باطل؛ لأنها مخلوقة _ كما مر _. وبعبارة أيسر: يقال: الصوت _وهو فعل العبد_ صوت القاري، والكلام _ وهو الملفوظ _ كلام الباري. هذا هو ملخص القول في هذه المسألة 2.

_ 1_ خلق أفعال العباد للبخاري ص 25. 2_ انظر السنة لعبد الله بن الإمام أحمد 1/163_ 166، وصريح السنة لابن جرير الطبري ص25_26، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي 1/349_362، وعقيدة السلف للصابوني ص9_13، والشريعة للآجري ص89_96، ودرء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1_257_278، ومجموع الفتاوى لابن تيمية 12/359_363، والفتوى الحموية الكبرى ص549_450.

الاسم والمسمى

الاسم والمسمى الاسم والمسمى مسألة ترد في كتب العقائد، وهي من المسائل الحادثة التي وقع حولها خلافٌ كبير، وجدلٌ كثير. وفيما يلي نبذة عن هذه المسألة: أولاً: وقت ظهورها: لم تعرف هذه المسألة إلا بعد انقضاء عصر الصحابة والتابعين، حيث حدثت هذه البدعة، وأنكرالأئمة على الجهمية قولهم: الاسم غير المسمى فأصبحت هذه المسألة تعرف بـ الاسم والمسمى. ثانياً: ما مراد أهل التعطيل من إطلاقها؟ : مرادهم أن أسماء الله غير الله، وما كان غيره فهو مخلوق؛ حيث زعموا أن أسماء الله مخلوقةٌ، وأن كلامه مخلوق، وأنه لم يتكلم بكلام يقوم بذاته، ولا أخبر عن نفسه باسم المتكلم. ثالثاً: كراهية العلماء لهذا الإطلاق: كره كثير من العلماء هذا الإطلاق، وكثرة الخوض في هذه المسألة؛ لما فيها من إجمال، وإيهام، وإبهام، ولما تحتمله من حقٍّ وباطل. ولهذا يروى عن الشافعي، والأصمعي _ رحمهما الله _ قولهما: "إذا سمعت الرجل يقول: الاسم غير المسمى فاشهد عليه بالزندقة". وقال ابن جرير رحمه الله: "وأما القول في الاسم: أهو المسمى أم غير الاسم؟ فإنه من الحماقات الحادثة التي لا أثر فيها يتَّبع، ولا قول إمام فيستمع؛ فالخوض فيه شين، والصمت عنه زين، وحسب امرئ من العلم به، والقول فيه أن ينتهي إلى قوله _ عز وجل ثناؤه_ الصادق وهو قوله: {قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً

مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} . وقوله _ تعالى_: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ا. هـ. رابعاً: ما الجواب عن هذا السؤال: يعني إذا قيل: هل الاسم هو المسمى أو غيره فما الجواب؟ الجواب أنه لا بد من الاستفصال والاستعلام؛ لأن من الناس من يقول: هو المسمى، ومنهم من يقول: بل الاسم غير المسمى. وهذا خطأ. والصحيح أنه لا بد من التفصيل؛ فيقال: الاسم يراد به المسمى تارة، ويراد به اللفظ الدال على المسمى تارة أخرى، وذلك بحسب السياق. مثال ذلك كلمة الرحمن قد يراد بها المسمى نفسه كما لو قلت: القرآن كلام الرحمن أو: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . فإن المراد بـ: الرحمن ههنا المسمى نفسه، وهو الله _عز وجل_. وإذا قلت: الرحمن اسم عربي فالاسم هنا هو اللفظ الدال على المسمى، أي: هو اللفظ الذي يشتمل على الحروف: أل ر ح م ن، أي: أن هذه الحروف تحمل اسماً، أو لفظاً عربياً. ولكن لا يقال: غير المسمى؛ لما في لفظ غير من إيهامٍ وإجمال؛ فقد يفهم من ذلك أن أسماء الله بائنة عنه، وأنه كان ولا اسم له، ثم خلق لنفسه اسماً؛ أو سماه خلقه بأسماء من صنعهم. خامساً: أمثلة أخرى: قولنا: الله ربُّ الناس، والله مجيب الدعوات، وسمع

الله: هنا يراد بالاسم المسمى نفسه. وقد يطلق الاسم مراداً به اللفظ المنطوق ذاته كأن يقال: "الله أكبر" من ألفاظ الأذان، أو "الله أكبر" كلمة يدخل بها الصلاة وهكذا.. فالاسم هنا هو اللفظ الدال على المسمى، ولا يقال غيره؛ لما في ذلك _كما تقدم_ من الإبهام، والإجمال.1 قال ابن القيم رحمه الله: فإن قيل: فالاسم عندكم هو المسمى أو غيره؟ قيل: طالما غلط الناس في ذلك، وجهلوا الصواب فيه؛ فالاسم يراد به المسمى تارة، ويراد به اللفظ الدال عليه أخرى؛ فإذا قلت: قال الله كذا، أو استوى الله على عرشه، ورأى، وخلق_ فهذا المراد به المسمى نفسه. وإذا قلت: الله اسم عربي، والرحمن اسم عربي، والرحمن من أسماء الرحمن وزْنُه فَعْلان، والرحمن مشتق من الرحمة ونحو ذلك فالاسم ههنا للمسمى، ولا يقال: غيره؛ لما في لفظ الغير من الإجمال؛ فإن أريد بالمغايرة أن اللفظ غير المعنى فحق، وإن أريد أن الله _ سبحانه _ كان ولا اسم له حتى خلق لنفسه اسماً، أو حتى سماه خلقه بأسماء من صنعهم _ فهذا من أعظم الضلال والإلحاد؛ فقوله في الحديث: "سميت به نفسك" ولم يقل: خلقته لنفسك، ولا قال: سماك به خلقك _ دليل على أنه _ سبحانه _ تكلم بذلك الاسم، وسمى به نفسه، كما سمى نفسه في كتبه التي تكلم بها حقيقة بأسمائه".2

_ 1_ انظر صريح السنة للطبري ص 26_27، ومجموع الفتاوى 6/185/212، والفتوى الحموية الكبرى ص450_451، وشفاء العليل لابن القيم ص 552، والصفات الإلهية ص187_190و215. 2_ شفاء العليل ص 552.

القول في ان الايمان مخلوق أو غير مخلوق

القول في أن الإيمان مخلوق أو غير مخلوق هذه المسألة شبيهة بالمسألتين السابقتين وهما مسألة اللفظ والملفوظ، والاسم والمسمى. وخلاصة القول فيها أنه لما ظهرت مقولة القائلين: لفظنا بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق تكلم الناس حينئذٍ في الإيمان؛ فقالت طائفة: الإيمان مخلوق، ودخل في ذلك ما تكلم الله به من الإيمان مثل: لا إله إلا الله فهذه الكلمة من الإيمان، بل هي أعلى شعبه، وهي في الوقت نفسه من جملة ما تكلم الله _ عز وجل _ كما في قوله _ تعالى _: {فَاْعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} فصار مقتضى قول القائلين بهذا القول: أن نفس هذه الكلمة مخلوقة، ولم يتكلم الله بها، بل خلقها. ولهذا بَدَّعَ السلف كالإمام أحمد رحمه الله من قال بهذا القول؛ لما فيه من الإبهام، والإجمال. والصواب في ذلك أن يستفصل فيقال لمن قال ذلك: ماذا يراد بالإيمان؟ فإن أريد به شيء من صفات الله كقوله: لا إله إلا الله، أو إيمانه _عز وجل_ الذي دل عليه اسم المؤمن فذلك غير مخلوق؛ لأن الكلام صفة من صفاته، ولأن صفة الإيمان التي تضمنها اسم: المؤمن من صفاته _عز وجل_ وصفاته قائمة به، غير مخلوقة. وإن أريد بالإيمان شيء من أفعال العباد وصفاتهم كصلاتهم، وصيامهم،

وحجهم، وكتقواهم، وورعهم _ فإن ذلك مخلوق؛ فالعباد كلهم مخلوقون، وجميع أفعالهم وصفاتهم مخلوقة، فصلاتهم إيمان، وصومهم إيمان، وحجهم إيمان، وتقواهم وورعهم إيمان، وكل ذلك مخلوق. وبهذا الاستفصال يتبين المقصود، ويحل الإشكال.1

_ 1_ انظر مجموع الفتاوى 7/655_665، والفتوى الحموية الكبرى ص 451_452

الهيولي والصورة والجسم والجواهر المفردة

الهَيولَى، والصورة، والجسم، والجواهر المفردة ترد هذه الكلمات أحياناً في سياق واحد كما في قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الرسالة التدمرية ص121_122: "ولا ريب أن قولهم بتماثل الأجسام قول باطل سواء فسروا الجسم بما يشار إليه، أو بالقائم بنفسه، أو بالموجود، أو بالمركب من الهيولى والصورة ونحو ذلك. فأما إذا فسروه بالمركب من الجواهر المفردة على أنها متماثلة فهذا ينبني على صحة ذلك، وعلى إثبات الجواهر المفردة، وعلى أنها متماثلة. وجمهو العقلاء يخالفون ذلك". وقال في الحموية ص542: "فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوقين إما جوهر محدث، وإما عرض قائم به؛ فالعلم، والقدرة، والكلام، والمشيئة، والرحمة، والغضب، ونحو ذلك في حق العبد أعراض، والوجه، واليد، والعين في حقه أجسام". أولاً: معنى الهيُولى: الهيولى لفظ يوناني معناه أصل الشيء، ومادته. قال الجرجاني رحمه الله: "الهيولى لفظ يوناني بمعنى الأصل والمادة. وفي الاصطلاح: هي جوهر في الجسم قابل لما يعرض لذلك الجسم من الاتصال والانفصال، مَحَلٌّ للصورتين الجسمية والنوعية"1. وقال الكفوي رحمه الله: "الهيولى كل جسم يعمل منه الصانع وفيه صنعة، كالخشب للنجارين، والحديد للحدادين، ونحو ذلك؛ فذلك الجسم هو الهيولى،

_ 1_ التعريفات ص276.

كذلك الشيء المصنوع"1. وقال رحمه الله: "الهيولى: هو جوهر بسيط لا يتم وجوده بالفعل دون وجود ما حل فيه"2. ثانياً: تعريف الصورة: قال الجرجاني: "صورة الشيء ما به يحصل الشيء بالفعل"3. وقال: "الصورة الجسمية: الجوهر الممتد في الأبعاد كلها، المدرك في بادي النظر بالحس"4. وقال: "الصورة النوعية: جوهر بسيط لا يتم وجوده بالفعل دون وجود ما حل فيه"5. وقال الكفوي: "الصُّورة بالضم: الشكل، وتستعمل بمعنى النوع والصفة"6. وقال: "الصورة: ما تنتقش به الأعيان، وتميزها عن غيرها"7. والصورة: وضع الشيء بعد تركيبه، أي هيئته، وشكله، وتناسب بعض أجزائه. ثالثاً تعريف الجسم: قال الكفوي: "الجسم: هو في اللغة مبني عن التركيب

_ 1_ الكليات للكفوي ص951. 2_ الكليات ص955. 3_4_5_ التعريفات ص141. 6_7_ الكليات ص559.

والتأليف"1. وقال: "واختلف في تحديد الجسم ومعناه؛ فقيل: الجسم: هو القائم بنفسه. وقيل: الجسم هو الموجود"2. وقال: "الجسم هو جماعة البدن والأعضاء من الناس وغيرهم"3. وقال: "الجسم في بادئ النظر هو هذا الجوهر الممتد في الجهات أعني الصورة الجسمية. والجسم لا تخرج أجزاؤه عن كونها أجساماً وإن قطِّع وجزِّئ. والجسم إما بسيط وهو الذي لم يتألف من أجسام مختلفة الطبائع، أو مركب إن تألف"4. وقال: "والجسم والجوهر في اللغة بمعنىً، وإن كان الجسم أخص من الجوهر اصطلاحاً؛ لأنه المؤلف من جوهرين أو أكثر على الخلاف في أقل ما يتركب منه الجسم على ما بُيِّن في المطولات"5. وقال: "وأما عند جمهور المتكلمين، وبعض الحكماء المتقدمين فهو مركب من أجزاء متناهية لا تتجزأ بالفعل ولا بالوهم. وتسمى تلك الأجزاء جواهر فردة تتألف منها الأجسام متماثلة لا تتمايز إلا بالأعراض"6. هذه هي نظرية المتكلمين في أن جميع الأجسام تتركب من أجزاء لا تتجزأ أبداً وهي الجواهر المفردة.

_ 1_2_3_ الكليات ص344 4_5_ الكليات ص345. 6_ الكليات ص345.

والجمهور يقولون: إنه ما من جزء إلا ويقبل التجزؤ حتى ينعدم، أو مستحيل أي ويتحول إلى شيء آخر كالبخار ونحوه _كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية_. وقد ظهر عند علماء المادة تفجير الذرة، وهذا مما يقوي القول ببطلان نظرية الجواهر المفردة1. رابعاً: الجواهر المفردة: هي جمع الجوهر المفرد أو الفرد. والجوهر: هو والذات والماهية والحقيقة كلها ألفاظ مترادفة. والجوهر الفرد قيل فيه: _ إنه هو القائم بالنفس الذي يكون متحيزاً لا قابلاً للقسمة. _ وقيل: هو الجزء الصغير الذي لا يمكن تقسيمه. _ ويقال له: الجزء الذي لا يتجزأ _ أي لا ينحل _. والجواهر المفردة هي التي لا تقبل انقساماً لا في الخارج، ولا في الفرض العقلي _ كما مر عند الحديث عن الجسم _. والجوهر خلاف العرض؛ الجوهر ما كان قائماً بنفسه كالجسم مثلاً، والعرض ما كان قائماً بغيره كاللون كبياض الثلج، وسواد القار؛ فهي قائمة بغيرها لا بنفسها. ولهذا يقول بعضهم: الجسم: ما كان مركباً من المادة والصورة. والمادة: أصل الشيء أو الهيولى، والصورة وضع الشيء بعد تركيبه أي هيئته وشكله، وتناسب بعض أجزائه مع بعض.

_ 1_ انظر التوضيحات الأثرية للشيخ فخر الدين المحيسي ص125.

فالمادة أو الهيولى ههنا: جوهر، والصورة: عرض. هذه نبذة موجزة ليس الغرض منها التفصيل بقدر ما هو إعطاء صورة مجملة لهذه المصطلحات1.

_ 1_ انظر التعريفات ص79، والكليات ص344_347.

علم الكلام واهل الكلام

علم الكلام وأهل الكلام يرد في كتب العقائد كثيراً مصطلح علم الكلام، وأهل الكلام والمتكلمين، وما جرى مجرى ذلك. وفيما يلي نبذة عن تعريف علم الكلام، وسبب تسميته بذلك، وأهل الكلام، وأشهر المتكلمين أولاً: تعريف علم الكلام: عرف علم الكلام بعدة تعريفات منها: 1_ قال أبو حيان التوحيدي رحمه الله:"وأما علم الكلام فإنه من باب الاعتبار في أصول الدين يدور النظر فيه على محض العقل في التحسين والتقبيح، والإحالة والتصحيح، والإيجاب والتجويز، والاقتدار والتعجيز، والتعديل والتجوير، والتوحيد والتكفير. والاعتبارُ فيه ينقسم بين دقيق يتفرد العقل به، وجليل يُفْزَع إلى كتاب الله _تعالى_ فيه".1 2_ وعرفه ابن خلدون رحمه الله بقوله: "علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية"2 3_ وعرفه الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله بقوله: "هو ما أحدثه المتكلمون في أصول الدين من إثبات العقائد بالطرق التي ابتكروها، وأعرضوا بها عما جاء

_ 1_ رسالة أبي حيان في العلوم ص 21 2_ تاريخ ابن خلدون ص 350

بالكتاب والسنة"1. ثانياً: سبب تسمية علم الكلام بهذا الاسم: أما سبب تسميته بهذا الاسم فذلك مما تضاربت به الأقوال، ومما قيل في ذلك ما يلي: 1_ أن عنوان مباحث المتكلمين في العقائد كان: الكلام في كذا وكذا.... 2_ لأنه يورث قدرةً على الكلام في تحقيق الشرعيات، وإلزام الخصوم؛ فهو كالمنطق للفلسفةِ؛ والمنطقُ مرادفٌ للكلام. 3_ لأن هذا العلم لا يتحقق إلا بالمباحثة، وإدارة الكلام من الجانبين على حين أن غيره من العلوم قد يتحقق بالتأمل، ومطالعة الكتب. 4_ لأنه أكثر العلم خلافاً، ونزاعاً؛ فيشتد افتقاره إلى الكلام مع المخالفين، والرد عليهم. 5_ لأنه؛ لقوة أدلته صار كأنه هو الكلام دون ما عداه من الكلام. 6_ أنه؛ نظراً لقيامه على الأدلة القطعية المؤيد أكثرها بالأدلة السمعية كان أكثر العلوم تأثيراً بالقلب؛ فسمي الكلام بذلك مشتقاً من الكَلْم وهو الجرح. 7_ أنه سمي بذلك؛ لأن أول خلاف وقع في الدين كان في كلام الله _عز وجل_ أمخلوق هو أم غير مخلوق؟ فتكلَّم الناس فيه؛ فسمي هذا النوع من العلم كلاماً، واختص به. 8_ لأن هذا العلم كلام صِرْفٌ، وليس تحته عمل2.

_ 1_ فتح رب البرية ص 76 2_ انظر العقائد النسفية للنسفي ص 6، وتاريخ ابن خلدون ص 350_375، والمعتزلة لزهدي جارالله ص 346.

ثالثاً: أهل الكلام: أهل الكلام هم الذين يخوضون في مسائل أصول الدين كالوحدانية، والمعاد، وإثبات النبوات، والوعد، والوعيد، والإيجاب على الله _عز وجل_ والتجويز وهو قولهم: لو عذبنا الله على ما خلقه فينا لكان جائزاً، وإنما يعذبنا على ما نخلقه نحن. وأنه يجوز على الله تعذيب ملائكته وأنبيائه، وأهل طاعته، وإكرام إبليس وجنوده، وجعلهم فوق أوليائه في النعيم المقيم. ولا ريب أن هذا قولٌ باطل صار عن نفي الحكمة والتعليل؛ ذلك أن حكمة الله _عز وجل_ تأبى ذلك قال _تبارك وتعالى_: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ 35 مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} . ويخوضون _ كذلك _ في القدر ويقولون بنفيه ويسمون ذلك عدلاً، ويبحثون كذلك في التوحيد، ويعنون به نفي الصفات عن الله _عز وجل_ إلى غير ذلك ممن يخوض به أهل الكلام. رابعاً: أشهر المتكلمين: المتكلمون كثير، وليسوا على درجةٍ واحدة، ويدخل في مفهوم المتكلمين كثير من الطوائف كالجهمية أتباع الجهم بن صفوان، والمعتزلة أتباع عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، وغيرهم.

الزندقة

الزندقة 1 لفظ الزندقة، والزنادقة، والزنديق _ يرد كثيراً في كتب العقائد. والحديث عنه سيكون حول المسائل التالية: أولاً: منشأ كلمة الزندقة: الزندقة اسم اشتقه العرب من كلمة زندو بالفارسية، الدالة على كتاب الفرس المقدَّس الذي يقال له بالفارسية: الزندوفستا. وهو كتاب ماني بن فاتك الحكيم الذي ظهر في زمان سابور بن أردشير، وقتله بهرام بن هرمز بن سابور، وذلك بعد عيسى _ عليه السلام _. وقد أحدث ديناً بين المجوسية والنصرانية، وكان يقول بنبوة المسيح، ولا يقول بنبوة موسى _ عليهما السلام _ 2. ويقال لأتباعه: المانوية، ويقال لهم: الثنوية؛ لأنهم يثبتون إلهين. فيقال: تزندق إذا اعتقد اعتقاد المجوس الفرس، أي انتسب للزندو، ثم اشتقوا منه زندقة للاعتقاد، وزنديق للمعتقد. ثانياً: على من يطلق لفظ الزندقة والزنديق؟ يطلق على من يُسِرُّ اعتقاد المجوس؛ فلا يسمى المجوسي المتظاهر بالمجوسية زنديقاً. ثم صار اسماً علماً في الفقه يدل على من يظهر الإسلام، ويبطن الكفر،

_ 1_ الكلام في الزندقة ههنا أكثره مستفاد من كلام الشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور في مقدمة تحقيقه لديوان بشار بن برد ص16_20. 2_ انظر الملل والنحل للشهرستاني 1/244.

سواء كان كفره باعتقاد المجوسية الفارسية، أم بالدهرية، أم بغير ذلك. ولذلك قالوا: الزنديق يرادف المنافق، وخصوا المنافق بمبطن الكفر في زمن الرسول " والزنديق بمبطن الكفر بعد ذلك الزمن. ثالثاً: ظهور الرمي بالزندقة: كان الرمي بالزندقة قد طلع قرنه في أثناء القرن الأول الإسلامي، ثم بلغ أشده في القرن الثاني؛ بسبب ما عظم من المخالفات الاعتقادية، والتعصبات المذهبية، وقضاء الأوطار السياسية. رابعاً: ما يصير به المرء معرضاً إلى تهمة الزندقة: يصير إذا كان فارسي الأصل، وأُثِر عنه بُغض العرب، وكان من أهل الخلاعة والمجون، أو المزح في الأمور الراجعة إلى العبادات، أو أن يكون لا يحفظ من القرآن شيئاً؛ فقد أخذ بذلك محمد بن أبي عبيد الله وزير المهدي _ حسبما ذكره ابن الأثير في حوادث سنة 161هـ _. هذا والمهدي لم يكن له من أصالة الرأي ما كان للمنصور والسفاح؛ فأغرق في تقصي أحوال الناس، والرمي بالزندقة.

الفلسفة والفلاسفة

الفلسفة والفلاسفة مدخل ... مدخل مصطلح الفلسفة والفلاسفة مصطلح يرد كثيراً في كتب العقائد، وفيما يلي نبذة عن الفلسفة والفلاسفة، وذلك من خلال ما يلي:

اولا: مفهوم الفلسفة

أولاً: مفهوم الفلسفة: 1_ منشأ هذه الكلمة: الفلسفة كلمة معرَّبة عن اليونانية، فهي لفظ يوناني نشأ أول ما نشأ في بلاد اليونان1. 2_ أصلها الوضعي، وسبب تسميتها بذلك: لفظ "الفلسفة" مركب من كلمتين يونانيتين هما: 1_ فيلو، أو فيلا ومعناهما: المحبة، أو الإيثار. 2_ سوفيس، أو سوفيا ومعناهما: الحكمة فهذا هو أصل الكلمة وسبب تسميتها بذلك2. 3_ تعريف الفلسفة الوضعي الأصلي: من خلال ما مضى يتبين لنا أن الفلسفة باعتبار الوضع الأصلي تعرف بـ: "محبة الحكمة، أو إيثار الحكمة". ويعرَّفُ الفيلسوف بأنه: محب الحكمة، أو المؤثر للحكمة3.

_ 1_ 2_ 3_ انظر المدرسة الفلسفية في الإسلام بين المشائية والإشراقيه. أ. د محمد إبراهيم الفيومي ضمن أبحاث ندوة نحو فلسفة إسلامية معاصرة ص75، والموسوعة الميسرة في الأديان أو الأحزاب والمذاهب المعاصرة 2/ 1108 ـ 1109.

4_ تطور دلالة كلمة الفلسفة: مر مصطلح الفلسفة بعدة أطوار وعلى هذا فإن تعريف الفلسفة يختلف باختلاف الأطوار كما أنه يختلف باختلاف الفلاسفة الذين وضعوا لها حدوداً وتعريفات. 5_ نماذج من تعريفات الفلسفة عند الفلاسفة: للفلسفة عند الفلاسفة تعريفات عديدة وقد تكون في مجملها متقاربة فمن تلك التعريفات ما يلي: 1ـ البحث عن الحقيقة. 2ـ حب المعرفة. 3ـ وعرفها الكندي بقوله: هي علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان1. 4ـ وعرفها في موضع آخر بقوله: هي علم الحق الأول الذي هو علة كل حق2. 5ـ وعرفها الفارابي بقوله: إنها العلم بالموجودات بما هي موجودة 3. 6ـ وعرفها _ أيضاً _ بقوله: علم بمقدار الطاقة الإنسية4. 7ـ وعرفها _ كذلك _ بالعلم الوحيد الجامع الذي يضع أمامنا صورة شاملة للكون5. 8ـ وعرفها _أيضاً_ بقوله: هي العلم الذي يعطي الموجودات معقولية ببراهين عقلية6.

_ 1 ـ 2 ـ انظر المدرسة الفلسفية في الإسلام ص124. 3 ـ 4 ـ 5 ـ 6ـ المرجع السابق ص126.

9ـ وعرفها ابن سينا بقوله: الحكمة: استكمال النفس الإنسانية بتصور الأمور والتصديق بالحقائق النظرية والعلمية على قدر الطاقة الإنسانية1. 6_ تعريف الفلسفة عند الإطلاق، وفي الاصطلاح العام: كما مر من أن الفلسفة مرت بأطوار، ولعل آخر أطوارها هو ما استقر عليه أمر الفلسفة؛ حيث صارت تطلق على آراء محددة، ونظرات خاصة للكون، والوحي، والنبوات، والإلهيات، ونحو ذلك. وصارت تعنى بالعقل، وتقدمه على النقل، بل أصبح العقل عند الفلاسفة إلهاً ومصدراً للتلقي. وعلى هذا فإنه يمكن تعريف الفلسفة ـ عند الإطلاق ـ فيقال: "هي النظر العقلي المتحرر من كل قيد وسلطة تفرض عليه من الخارج، بحيث يكون العقل حاكماً على الوحي، والعرف، ونحو ذلك"2.

_ 1 ـ المرجع السابق 125. 2 ـ انظر الموسوعة الميسرة 2/1109.

ثانيا: نشأة الفلسفة ودخولها في ديار الإسلام

ثانياً: نشأة الفلسفة ودخولها في ديار الإسلام: أولاً: نشأة الفلسفة: نشأت الفلسفة واشتهرت في بلاد اليونان، بل وأصبحت مقترنة بها على الرغم من وجود الفلسفات في الحضارات المصرية، والهندية، والفارسية القديمة. وما ذلك إلا لاهتمام فلاسفة اليونان بنقلها من تراث الشعوب الوثنية، وبقايا الديانات السماوية مستفيدين من صحف إبراهيم وموسى ـ عليهما السلام ـ بعد انتصار اليونانيين على العبرانيين بعد السبي البابلي1.

_ 1_ السبي البابلي: هي المأساة التي يتذكرها اليهود بحسرة ومرارة، وهي ما حصل لهم عام 603 قبل الميلاد، وقيل 605 على يد عدد من الملوك البابليين. وقد أُثير حول هذه المأساة جدل كبير، ونُسجت فيه خرافات وأساطير، ولا تزال الدراسات عنها إلى يومنا هذا. ولهذا صار العراق أحد مواطن الفجيعة والحزن لدى اليهود؛ فمنه انطلقت القوات التي قضت على دولة إسرائيل في العهد القديم عهد الملك الكلداني البابلي نبوخذ نصر، وانتهت حربه بواحدة من أكبر الفواجع في التاريخ اليهودي، وهي ما أطلق عليه مأساة السبي البابلي. ففي عام 603 أو 605 قبل الميلاد تولى نبوخذ نصر العرش الكلداني البابلي في العراق، وفي عهده بلغت الدولة أوجها، وحالف الملك اليهودي يواقيم إلا أن العلاقات بينهما تدهورت عندما حاول يواقيم التخلص من الحلف مع جاره القوي؛ فجرد نبوخذ نصر حملة عسكرية حاصر فيها القدس، وفتحها، واقتاد الملك الجديد يهويا كين، وحاشيته، وأركان حكمه، وأشراف دولته إلى بابل عام 586 قبل الميلاد. وتشير بعض الروايات التاريخية إلى سبي بابلي لاحق بعد محاولة صدقيا ملك يهودا التمرد على الحكم الكلداني مما أدى إلى تجريد حملة بابلية أخرى انتهت عام 586 قبل الميلاد بحرق هيكل سليمان بن داود _ عليه السلام _ والقضاء على الدولة العبرية، وسبي حوالي 50 ألف يهودي إلى العراق هم أغلبية ما تبقى في القدس، وقد ساقهم الكلدانيون مكبلين بالحديد والأصفاد إلى أراضي العراق.

وربما استفادوا من حكمة لقمان ـ عليه السلام ـ فجاءت فلسفتهم خليطاً بين نزعات شتى. وقد استوى ساق الفلسفة على يد أفلاطون ومن بعده أرسطو وغيرهما1. ثانياً: دخول الفلسفة في ديار الإسلام: دخلت الفلسفة ديار الإسلام في القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي وذلك في عهد الخليفة العباسي المأمون. ولقد سبق العرب فلاسفة الغرب بالاتصال بالفلسفة اليونانية؛ إذ إنها لم تصل إلى الغرب إلا في القرنين الميلاديين الثاني عشر والثالث عشر معتمدين على ما خلَّفه الفلاسفة المنتسبون إلى الإسلام الذين تخصصوا في دراستها أوفي نقلها من النص السرياني، أو اليوناني إلى اللسان العربي، ثم نقلت إلى لسان الغرب2.

_ وقد اختُلف كثيراً في هذا السبي _ كما مر _ واختُلف في مدة وقوعه؛ فقيل استمر 70 سنة، وقيل 140 سنة. وتحتفل الأدبيات اليهودية بالكثير من البكائيات، والذكريات المريرة عن هذه المحنة. ولهذا يشعر اليهود أن امتلاك العراق لأي قوة فائقة يمكن أن يهدد أمن إسرائيل، وربما يؤدي إلى تكرار محنة السبي البابلي من جديد. ولعل ما يؤكد ذلك ما قاله مناحيم بيغن رئيس الوزراء الإسرائيلي عام 1981م بعد الغارة على المفاعل النووي العراقي؛ حيث أعلن أنه لو لم يدمر المفاعل النووي العراقي لحدثت محرقة جديدة في تاريخ الشعب اليهودي. ولعل هذا يفسر سر الهجمة على العراق، ومحاولة تفكيكه، وإضعافه. 1 ـ انظر المدرسة الفلسفية في الإسلام بين المشائية والإشراقية ص75ـ79، والموسوعة الميسرة 2/1109. 2 _ انظر المرجع السابق.

ثالثا: أشهر المنتسبين إلى الإسلام

ثالثا: أشهر المنتسبين إلى الإسلام ... ثالثاً: أشهر الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام: 1ـ الكندي: وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق الكندي المتوفى سنة 260هـ ويطلق عليه فيلسوف العرب. 2ـ الفارابي: المتوفى سنة 339هـ ويطلق عليه المعلم الثاني بعد المعلم الأول وهو أرسطو وستأتي ترجمته عند الحديث عن معتقده. 3ـ ابن سينا: ويطلق عليه الشيخ الرئيس المتوفى سنة 428هـ، وستأتي ترجمته عند الحديث عن معتقده؛ فهؤلاء الثلاثة لم يربط بينهم تاريخ واحد في فترة زمنية محددة، وإنما ربط بينهم مدرستهم الفلسفية، واهتمامهم البالغ بفتح نافذة على تراث الشرق والإغريق. وهم على تتابعهم التاريخي حملوا مسؤولية الترجمة، والشرح، والتأليف في الفلسفة وطرح القضايا الجديدة على العقل الإسلامي1.

_ 1 ـ انظر المدرسة الفلسفية في الإسلام ص75ـ79.

رابعا: غاية الفلسفة وموضوعاتها واقسامها

رابعا: غاية الفلسفة وموضوعاتها واقسامها ... رابعاً: غاية الفلسفة، وموضوعها، وأقسامها: 1_ غاية الفلسفة: كانت غاية الفلسفة في بداية أمرها محبة الحكمة، ثم تصرف فيها بعض الفلاسفة؛ فصار الغاية منها الجدل لذات الجدل. ومن الفلاسفة _ كالفارابي _ من يرى أن الفلسفة على الحقيقة إنما معناها وثمرتها، والغرض المقصود من تعلُّمها ليس شيئاً غير إصلاح النفس.1 2_ موضوع الفلسفة: تكاد موضوعات الفلسفة تنحصر بما يأتي: 1ـ العلوم الرياضية. 2ـ العلوم الطبيعية. 3ـ العلوم الإلهية. 4ـ العلوم المنطقية. 3_ أقسام الفلاسفة: الفلاسفة منهم الطبيعيون أو الطبائعيون، ومنهم الإلهيون، ومنهم الدهريون، ومنهم الرياضيون. 4_ أقسام الفلسفة: تختلف الفلسفة بحسب موضوعاتها ويمكن أن تقسم كما يلي: أـ الفلسفة الحسية: وهي تتحصل بالحواس وموضوعها عالم الطبيعة. ب ـ الفلسفة النظرية العقلية: وهي تتم بالاستدلال البرهاني، أو النظر الاستنباطي. وتسمى هذه الفلسفة أو المدرسة: الفلسفة المشائية.2

_ 1 ـ انظر المدرسة الفلسفية في الإسلام ص 75، و141، و151ـ152. 2 ـ سميت بالمشَّائية نسبة إلى رائدها أرسطو المقدوني الذي يعد أبرز تلامذة أفلاطون، وكان مولده سنة 384 قبل الميلاد، وتوفي سنة 322 قبل الميلاد عن 63 سنة، وسميت فلسفته بالمشائية لأنه كان يعلم أتباعه وتلاميذه، ويلقي عليهم الدروس وهو يمشي.

3ـ الفلسفة الإشراقية: وتسمى المشرقية، من الإشراق _ أي إشراق النفس واستعدادها _. وهذه تنال بالحدس، والإلهام، وموضوعها العلوم الإلهية.

خامسا: نبذة عن افتراق الفلاسفة

خامساً: نبذة عن افتراق الفلاسفة: الفلسفة تقوم على الأوهام، والخيال، والظن؛ لأنها لا ترتكز على وحي معصوم، وإنما تقوم على نتاج العقولِ، والعقول مهما بلغت فلن تستقل بمعرفة الشرائع، وحقائق الكون، وصحة النظر بكل حال. ولهذا فإن الاختلاف، والافتراق، والاضطراب دأب الفلاسفة. ومن الأمور التي يتضح من خلالها افتراق الفلاسفة ما يلي: 1ـ أن آراء الفلاسفة فردية ليس لها معيار ثابت: فهي تختلف باختلاف الفيلسوف، وبيئته، وثقافته، ورؤيته وزاوية بحثه؛ فالمادي يبحث في الحقيقة المادية، والفيلسوف الميتافيزيقي يبحث في الحقيقة الميتافيزيقية، وهكذا ... 2ـ أن الحقيقة في أدوار الفلسفة غير ثابتة: فلكل فيلسوف وجهته، وكل فيلسوف يناقض غيره. ثم إن ثقافة الفيلسوف، وبيئته، وأستاذه، وتيارات مجتمعه كل أولئك لهم تأثيرهم في رؤية الفيلسوف وصنع عقليته. 3ـ كثرة اضطراب الفلاسفة وشكهم: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معرض حديث له عن الفلاسفة والمتكلمين: "أنك تجدهم أعظم الناس شكاً واضطراباً، وأضعف الناس علماً وبياناً، وهذا أمر يجدونه في أنفسهم، ويشهده الناس منهم، وشواهد ذلك أعظم من أن نذكرها. وإنما فضيلة أحدهم باقتداره على الاعتراض، والقدح، والجدل. ومن المعلوم أن الاعتراض والقدح ليس بعلم ولا فيه منفعة. وأحسن أحوال صاحبه أن يكون بمنزلة العامي، وإنما العلم في جواب السؤال، ولهذا تجد غالب حججهم تتكافأ؛ إذ كل منهم يقدح في أدلة الآخر"1.

_ 1 ـ نقض المنطق لابن تيمية ص25.

سادسا: مذهب متقدمي الفلاسفة في الإلهيات والشرائع

سادساً: مذهب متقدمي الفلاسفة في الإلهيات والشرائع: الفلاسفة المتقدمين كأرسطو وغيره أجهل الناس في الشرائع والأمور الإلهية، وأكثرهم اضطراباً وتناقضاً، وأكثر كلامهم فيها خبط عشواء؛ لأنهم لم يستضيئوا بأنوار الرسالة، ولا كانت عندهم شريعة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "للمتفلسفة في الطبيعيات خوض وتفصيل تميزوا به بخلاف الإلهيات؛ فإنهم من أجهل الناس بها، وأبعدهم عن معرفة الحق فيها. وكلام أرسطو معلمهم فيها قليل كثير الخطأ فهو لحم جمل غثٍّ على رأس جبل وعرٍ؛ لا سهل فيرتقى، ولا سمين فيقلى"1. وقال رحمه الله في معرض حديث له عن الفلاسفة وأهل الكلام: "لكن من المعلوم من حيث الجملة أن الفلاسفة والمتكلمين من أعظم بني آدم حشواً وقولاً للباطل، وتكذيباً للحق في مسائلهم ودلائلهم، لا يكاد _ والله أعلم _ تخلو لهم مسألة واحدة عن ذلك"2. وإليك فيما يلي نماذجَ من ضلالات الفلاسفة على سبيل الإجمال: 1ـ يقولون بقدم العالم. 2ـ يقولون: بأن الله يعلم الكليات دون الجزئيات. 3ـ يقولون: بأن منزلة الفيلسوف كمنزلة النبي، وربما فضل بعضهم الفيلسوف على النبي.

_ 1 ـ مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية 1/186. 2 ـ نقض المنطق لابن تيمية ص24.

4ـ يقولون: بحشر الأرواح دون الأجساد. 5ـ يقولون: بأن الجنة والنار أمثال مضروبة وخيالات؛ لتفهيم العوام، وضبطهم دون أن يكون لها حقيقة في الخارج. 6ـ يرون: أن العقل مقدم على الوحي. هذا وسيأتي مزيد بيان لهذا عند الحديث عن معتقد الفارابي وابن سينا.

سابعا: معتقد الفارابي وابن سينا

سابعاً: معتقد الفارابي وابن سينا: 1_ تعريف بالفارابي: هو أبو نصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان ولد سنة 259هـ في فاراب وهي مدينة من بلاد الترك من أرض خراسان، وكان أبوه قائد جيش، وهو فارسي المنسب، وكان ببغداد مدة ثم انتقل إلى الشام، وأقام بها إلى حين وفاته. كان متقناً للفلسفة، بارعاً في العلوم الرياضية، وكانت له قوة في صناعة الطب ولم يباشر أعمالها. وكان قوي الذكاء، ذا زهد وبعد عن الدنيا. ويذكر أنه كان في أول أمره قاضياً، فلما شعر بالمعارف نبذ ذلك، وأقبل بكليته على تعلمها. ويذكر أنه صنع آلة غريبة يستمع منها ألحاناً يحرك بها الانفعالات. ويذكر أن سبب قراءته للفلسفة أن رجلاً أودع عنده جملة من كتب أرسطو طاليس؛ فاتفق أن نظر فيها؛ فوافقت منه قبولاً، فتحرى قراءتها، ولم يزل حتى أتقن فهمها، وصار فيلسوفاً من كبار الفلاسفة. وقال الفارابي عن نفسه: إنه تعلم الفلسفة من يوحنا بن جيلان إلى آخر كتاب البرهان. وكان يحسن عدة لغات غير العربية: منها التركية، والفارسية، ويلم بالسريانية.

أما وفاته فكانت في رجب سنة 339هـ عند سيف الدولة علي بن حمدان في خلافة الراضي، وصلى عليه سيف الدولة في دمشق في خمسة عشر رجلاً من خاصته1. 2_ تعريف بابن سينا: هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن علي بن سينا الفيلسوف المشهور المعروف بابن سينا الملقب بالشيخ الرئيس. يقول عن نفسه: إن أبي كان رجلاً من أهل بلخ، وانتقل منها إلى بخارى في أيام نوح بن منصور، واشتغل بالتصوف، وتولى العمل في أثناء أيامه بقرية يقال لها: خرميثن2 من ضياع بخارى، وهي من أمهات القرى، وبقربها قرية يقال لها: أفشفة، وتزوج أبي منها بوالدتي، وقطن بها وسكن وَوُلِدْتُ بها، ثم وُلِدَ أخي، ثم انتقلنا إلى بخارى، وأحضرت معلم القرآن ومعلم الآداب، وأكملت العشر من العمر، وقد أتيت على القرآن، وعلى كثير من الآداب حتى كان يقضي مني العجب. وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين، ويعد من الإسماعيلية3. وتعد حياة ابن سينا حياةً غريبة صاخبة مليئة بالمتناقضات. فقد كان مكباً على التحصيل والاطلاع، والتأليف والتصنيف. وكان معايشاً للحياة السياسية في عصره، وكان من أكبر أطباء العصر والبلاط.

_ 1 ـ انظر المدرسة الفلسفية في الإسلام ص84ـ85. 2 _ انظر معجم البلدان لياقوت الحموي 3/227. 3 ـ انظر المدرسة الفلسفية في الإسلام ص101ـ110.

وعاش حياته الاجتماعية وما فيها من لهو، ولذات، وشرب خمر، وغناء، ونساء؛ فكان نهاره مع الأمير والسياسة، وليله مع التأليف، والتحصيل، والشرب، والغناء. وكان إذا تحير في مسألة ابتهل إلى مبدع الكل كما يقول، وإذا غلبه النوم عدل إلى شرب قدح من الشراب. وإليك بعض نصوص من سيرته الخاصة تصور لك الحياة المتناقضة والعجيبة، يقول ابن سينا حكاية عن حاله: ـ وكلما كنت أتحير في مسألة، ولم أكن أظفر بالحد الأوسط في قياس ترددت إلى الجامع، وصليت، وابتهلت إلى مبدع الكل، حتى فتح لي المنغلق، وتيسر لي المنعسر. ـ وكنت أرجع بالليل إلى داري، وأضع السراج بين يدي، وأشتغل بالقراءة والكتابة؛ فمهما غلبني النوم، أو شعرت بضعف عدلت إلى شرب قدح من الشراب ريثما تعود إلي قوتي، ثم أرجع إلى القراءة. ومهما أخذني أدنى نومٍ أحلم بتلك المسائل بأعيانها، حتى إن كثيراً من المسائل اتضح لي وجوهُها في المنام. ـ فإذا أفرغنا حضر المغنون على اختلاف طبقاتهم، وهُيِّئ مجلس الشراب بالآنية، وكنا نشتغل به. ـ فاستقبلنا أصدقاء الشيخ، وندماء الأمير علاء الدولة وخواصه، وحمل إليه الثياب، والمراكب الخاصة، وأنزل في محله، وفيها الآلات، والفرش، وما يحتاج إليه.

ـ وصلينا العشاء، وقدم الشمع، وأمر بإحضار الشراب، وأجلسني وأخاه، وأمر بتناول الشراب1. فهذه نبذة من أقواله التي تبين بعض معالم شخصيته. أما مؤلفاته فكثيرة تبلغ العشرات في شتى الفنون، ومنها: 1ـ المجموع مجلدة. 2ـ الحاصل والمحصول عشرون مجلدة. 3ـ الإنسان مجلدة. 4ـ البر والإثم مجلدتان. 5ـ الشفاء ثمان عشرة مجلدة. 6ـ القانون أربع عشرة مجلدة. 7ـ الأدوية القلبية مجلدة. 8ـ بعض الحكمة المشرقية مجلدة. وخلاصة الحديث عن ابن سينا: أنه كان من الأذكياء، ووالده كان إسماعيلياً، وكان منهوماً بالقراءة والاطلاع، والتأليف، وكانت حياته غريبة صاخبة مليئة بالمتناقضات. 3_ معتقد الفارابي وابن سينا: معتقدهم هو معتقد الفلاسفة الأوائل؛ فهم يسلكون في تقرير العقيدة، وبحث الأمور الإلهية مسلك قدماء الفلاسفة؛ فالمنهج الذي يسيرون عليه في ذلك منهج عقلي لا يرجعون فيه إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يعرفون من العلوم الكلية، ولا العلوم الإلهية إلا ما يعرفه الفلاسفة المتقدمون مع زيادات تلقوها عن بعض أهل الكلام، أو أهل الملة2.

_ 1 ـ انظر المرجع السابق. 2 ـ انظر باعث النهضة الإسلامية _ ابن تيمية السلفي _ نقد لمسالك المتكلمين، والفلاسفة في الإلهيات للشيخ د. محمد خليل هراس ص 39_40.

ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الفارابي، وابن سينا، وغيرهم من الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام ـ أنهم وإن كانوا قد توسعوا في مباحث الفلسفة، وتكلموا في الإلهيات والنبوات والمعاد بما لا يوجد عند الفلاسفة المتقدمين، وكان كلامهم أجود وأقرب إلى الحق من كلام سلفهم إلا أنهم مزجوا الحق الذي أخذوه من الدين بالباطل الذي بنوه على أصولهم الفلسفية الفاسدة، وحاولوا التوفيق بين الدين والفلسفة، ولكن على حساب الدين؛ فهم يعمدون إلى النصوص، فيؤولونها بتأويلات بعيدة ومتكلفة حتى تتلاءم مع قواعدهم الفلسفية. فيقولون مثلاً: إن صفات الله التي جاء بها القرآن، ونطقت بها السنة ليست إلا تعبيرات عن ذات واحدة. ويقولون: إن العرش هو الفلك التاسع، والكرسي هو الفلك الثامن، والملائكة هي النفوس والقوى التي في الأجسام، وما يحدث من العالم من خوارق العادات حتى معجزات الأنبياء إنما سببه عندهم قوة فلكية، أو طبيعية، أو نفسانية إلى غير ذلك من الأمور التي وجدوها في الفلسفة فتمحَّلوا لها نصوصاً من الدين1.

_ 1 ـ انظر المرجع السابق، ومنهاج السنة لابن تيمية 1/96، وتفسير سورة الإخلاص لابن تيمية ص84.

ثامنا: بيان علماء الإسلام ضلال الفلاسفة وانحرافهم عن سواء الصراط

ثامناً: بيانُ علماءِ الإسلامِ ضلالَ الفلاسفة، وانحرافهم عن سواء الصراط: هذا وقد بين علماء الإسلام ضلال الفلاسفة، وانحرافهم عن سواء الصراط: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"حدثني ابن الشيخ الخضيري1 عن والده الشيخ الخضيري شيخ الحنفية في زمنه ـ قال: كان فقهاء بخارى يقولون: إن ابن سينا كان كافراً ذكياً"2. وقال ابن القيم رحمه اللهعن ابن سينا: "فالرجل معطل مشرك جاحد للنبوات والمعاد، ولا مبدأ عنده ولا معاد، ولا رسول ولا كتاب"3. وقال الذهبي رحمه الله عن ابن سينا: "وما أعلم روى شيئاً من العلم، ولو روى لما حلت الرواية عنه لأنه فلسفي النحلة ضال"4. وقال عنه ابن كثير رحمه الله: "وقد حصر الغزالي كلامه في مقاصد الفلاسفة ثم رد عليه في تهافت الفلاسفة في عشرين مجلساً، وكفره في ثلاث منها، وهي قوله بقدم العالم، وعدم المعاد الجثماني، وأن الله لا يعلم الجزئيات، وبدّعه في البواقي"5. هذا وسيأتي مزيد بيان عن ضلال الفلاسفة في الفقرة التالية ـ إن شاء الله ـ.

_ 1 ـ قال الشيخ البحاثة سليمان الصنيع رحمه الله في حاشية كتاب نقض المنطق ص181:"الصواب الحصيري بالحاء والصاد نسبة إلى محلة يعمل فيها الحصير". 2 ـ نقض المنطق ص181. 3 ـ إغاثة اللهفان ص620. 4 ـ ميزان الاعتدال 1/539. 5 ـ البداية والنهاية 12/46.

تاسعا: الادلة على الاستغناء بما جاءت به الرسل عن افكار الفلاسفة

تاسعاً: الأدلة على الاستغناء بما جاءت به الرسل عن أفكار الفلاسفة ما جاءت به الرسل الكرام ـ عليهم الصلاة والسلام ـ يغني عن أفكار الفلاسفة، والأدلة على ذلك كثيرة جدّّاً، وإليك طرفاً من ذلك على سبيل الإجمال: 1ـ أن الرسل جاءوا بالوحي المعصوم: الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. أما ما جاءت به الفلاسفة فخيالات وظنون، وهوس وضلال. فمصدر ما جاءت به الرسل هو الوحي، ومصدر ما جاءت به الفلاسفة هو العقل. 2ـ أن ما جاءت به الرسل من أصول الدين متفق مؤتلف: فهو مثانٍ متشابهٌ يصدِّق بعضه بعضاً، ويدل بعضه على بعض. بخلاف ما جاءت به الفلاسفة فهو ـ في أغلبه ـ متناقض متهافت. 3ـ أن ما جاءت به الرسل يتلاءم مع الفطرة، بخلاف كلام الفلسفة فهو يعمي الفطر، ويبلد الإحساس. 4ـ أن ما جاءت به الرسل واضح جلي: يفهمه العالم والعامي، ويدركه العربي والعجمي، والصغير والكبير. بخلاف كلام الفلاسفة؛ فهو أشبه ما يكون ـ في أغلبه ـ بالطلاسم، والرموز.

5ـ أن ما جاءت به الرسل حق كله: بل لا سبيل إلى الحق إلا عن طريقهم بخلاف ما جاءت به الفلاسفة؛ فهو ـ في أغلبه ـ باطل، وما فيه من حق إنما هو ما أخذ من طريق الرسل أو أتباعهم. 6ـ أن السعادة في الدنيا والآخرة إنما تكون باتباع ما جاءت به الرسل: وأن الشقاء في الدنيا والآخرة إنما يكون بالإعراض عما جاءوا به، ويوم القيامة لن يقال:"ماذا أجبتم الفلاسفة"، وإنما سيقال: {مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ} . 7ـ أن اتِّباع الرسل خير وبركة واجتماع: وأما اتباع الفلاسفة فشكٌ، وحيرة، وعمى، واضطراب، وافتراق. 8_ أن أتْباع الرسل هم أسعد الناس، وأعلم الناس، وأزكى الناس، وأعلاهم رتبة في كل فضيلة: فهذه الأمور تعظم وتزداد بحسب الاتباع، وكل من اتبع الرسل فله نصيب من ذلك بحسبه. بخلاف أتباع الفلاسفة فهم ـ وإن أوتوا عقولاً، وفهوماً ـ فإنهم يعيشون في قلق، وضيق، وضنك. قال ـ تعالى ـ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ... } [طه:124] . هذه بعض الأمور التي تؤيد ما ذكر سابقاً، والأدلة النقلية، والعقلية، والفطرية، والواقعية تدل على ذلك. وسيأتي مزيد بيان لهذه الفقرة في الفقرة التالية.

عاشرا: من أقوال بعض العلماء في ذم الفلسفة وتعظيم ماجاءت به الرسل

عاشراً: من أقوال بعض العلماء في ذم الفلسفة، وتعظيم ما جاءت به الرسل لقد تصدى علماء الإسلام ـ رحمهم الله ـ للفلسفة، وبينوا عوارها وزيفها، وبينوا في الوقت نفسه عظم ما جاءت به الرسل من الحق، والهدى، والسعادة. ويأتي على رأس هؤلاء العلماء شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. فهو ممن خَبرَ الفلسفة، وسبر غورها، ورد على الفلاسفة، وبين بطلان ما هم عليه بالدليل النقلي والعقلي. بل إنه رحمه الله استطاع أن يعكس الأمر على خصومه، ويشككهم في معقولاتهم، واستطاع أن يقوم بنفس الدور الذي قام به الفلاسفة حينما كانوا يجرُّون النصوص إلى الفلسفة، فأخذ هو يجرُّ العقل إلى خدمة النقل. وفي سبيل ذلك اضطر إلى أن يهدم كثيراً من قضايا العقل التي يظنها الناس ضرورية، وأن يقيم مكانها أخرى تتلاءم مع نصوص الشرع الصريحة بحيث لا يُحتاج بإزاء هذه النصوص إلى إنكار أو تأويل. وقد ألف كتباً في هذا السياق، ومنها: "نقض المنطق"، و"درء تعارض العقل والنقل"، وغيرها. وقد استطاع أن يوفق بين العقل والنقل، وأن يزيل ما عساه يُتَوهم بينهما من تعارض، وأن يثبت أن المعقولات الصريحة لا تتنافى بأية حال مع المنقولات الصحيحة، وأن كل ما يُتحدث به عن اختلاف بينهما فسببه أحد أمرين: إما اختلاط في العقل، وإما جهل بالنص1.

_ 1 ـ انظر إلى باعث النهضة الإسلامية ـ ابن تيمية السلفي ص52.

فإليك بعض النقول من كلام ذلك الإمام، وبعد ذلك نَقْلٌ من كلام ابن القيم ـ رحمهما الله ـ ومن خلالها يستبين لنا أن ما جاءت به الرسل هو الحق الذي لا مرية فيه، وأن كلام الفلاسفة باطل من أساسه. كما يتبين من خلال ذلك عظم رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبركتها، وبركة أتباعها. فإلى تلك النُّقول. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: 1ـ "فقد تبين أن أصل السعادة وأصل النجاة من العذاب هو توحيد الله وحده لا شريك له، والإيمان برسله واليوم الآخر، والعمل الصالح"1. 2ـ وقال:"من المعلوم أن المعظمين للفلسفة والكلام المعتقدين لمضمونها هم أبعد الناس عن معرفة الحديث، وأبعد عن اتِّباعه من هؤلاء. هذا أمرٌ محسوس، بل إذا كشفت أحوالهم وجدتهم من أجهل الناس بأقواله " وأحواله، وبواطن أموره وظواهرها، حتى لتجد كثيراً من العامة أعلم بذلك منهم، ولتجدهم لا يميزون بين ما قاله الرسول وما لم يقله، بل قد لا يفرقون بين حديث متواتر عنه، وحديث مكذوب موضوع عليه، وإنما يعتمدون في موافقته على ما يوافق قولهم، سواء كان موضوعاً أو غير موضوع"2. 3ـ وقال:"وما يوجد من إقرار أئمة الكلام والفلسفة وشهادتهم على أنفسهم وعلى بني جنسهم بالضلال، ومن شهادة أئمة الكلام والفلسفة بعضهم على

_ 1 ـ نقض المنطق ص176. 2 ـ المصدر السابق ص81_82

بعض كذلك ـ فأكثر من أن يحتمله هذا الموضع، وكذلك ما يوجد من رجوع أئمتهم إلى مذهب عموم أهل السنة وعجائزهم كثير، وأئمة السنة والحديث لا يرجع منهم أحد؛ لأن "الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد"، وكذلك ما يوجد من شهادتهم لأهل الحديث بالسلامة والخلاص من أنواع الضلال، وهم لا يشهدون لأهل البدع إلا بالضلال، وهذا باب واسع كما قدمناه"1. 4ـ وقال:"وإذا كانت سعادة الدنيا والآخرة هي باتِّباع المرسلين ـ فمن المعلوم أن أحق الناس بذلك: هم أعلمهم بآثار المرسلين وأتبعهم لذلك؛ فالعالمون بأقوالهم وأفعالهم المتبعون لها هم أهل السعادة في كل زمان ومكان، وهم الطائفة الناجية من أهل كل ملة، وهم أهل السنة والحديث من هذه الأمة؛ فإنهم يشاركون سائر الأمة فيما عندهم من أمور الرسالة، ويمتازون عنهم بما اختصوا به من العلم الموروث عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "مما يجهله غيرهم أو يكذب به" 2. 5ـ وقال:"والمقصود: أن ما عند عوام المؤمنين وعلمائهم ـ أهل السنة والجماعة ـ من المعرفة والطمأنينة، والجزم الحق والقول الثابت، والقطع بما هم عليه، أمر لا ينازع فيه إلا من سلبه الله العقل والدين"3. 6ـ وقال:"وبالجملة؛ فالثبات والاستقرار في أهل الحديث والسنة أضعاف أضعاف أضعاف ما هو عند أهل الكلام والفلسفة؛ بل المتفلسف أعظم اضطراباً

_ 1 ـ نقض المنطق ص21. 2 ـ نقض المنطق ص24. 3 ـ نقض المنطق ص43.

وحيرة في أمره من المتكلم؛ لأن عند المتكلم من الحق الذي تلقاه عن الأنبياء ما ليس عند المتفلسف، ولهذا تجد مثل أبي الحسين البصري وأمثاله أثبت من مثل ابن سينا وأمثاله. وأيضاً تجد أهل الفلسفة والكلام أعظم الناس افتراقاً واختلافاً، مع دعوى كل منهم أن الذي يقوله حق مقطوع به قام عليه البرهان. وأهل السنة والحديث أعظم الناس اتفاقاً وائتلافاً، وكل من كان من الطوائف إليهم أقرب كان إلى الاتفاق والائتلاف أقرب؛ فالمعتزلة أكثر اتفاقاً وائتلافاً من المتفلسفة؛ إذ للفلاسفة في الإلهيات والمعاد والنبوات، بل وفي الطبيعيات والرياضات، وصفات الأفلاك: من الأقوال ـ يعني المتفرقة ـ ما لايحصيه إلا ذو الجلال"1. 7ـ وقال:"من المعلوم أن أهل الحديث يشاركون كل طائفة فيما يتحلون به من صفات الكمال، ويمتازون عنهم بما ليس عندهم؛ فإن المنازع لهم لابد أن يذكر فيما يخالفهم فيه طريقاً أخرى، مثل المعقول، والقياس، والرأي، والكلام، والنظر والاستدلال، والمحاجة، والمجادلة، والمكاشفة، والمخاطبة، والوجد والذوق، ونحو ذلك، وكل هذه الطرق لأهل الحديث صفوتُها وخلاصتها؛ فهم أكمل الناس عقلاً، وأعدلهم قياساً، وأصوبهم رأياً، وأسدُّهم كلاماً، وأصحهم نظراً، وأهداهم استدلالاً، وأقومهم جدلاً، وأتمهم فراسة, وأصدقهم إلهاماً، وأحدُّهم بصراً ومكاشفة، وأصوبهم سمعاً ومخاطبة، وأعظمهم وأحسنهم وجداً وذوقاً.

_ 1 ـ نقض المنطق ص43.

وهذا هو للمسلمين بالنسبة إلى سائر الأمم، ولأهل السنة والحديث بالنسبة إلى سائر الملل. فكل من استقرأ أحوال العالم وجد المسلمين أحدُّ وأسد عقلاً، وأنهم ينالون في المدة اليسيرة من حقائق العلوم والأعمال أضعاف ما يناله غيرهم في قرون وأجيال، وكذلك أهل السنة والحديث تجدهم كذلك ممتعين؛ وذلك لأن اعتقاد الحق الثابت يقوي الإدراك ويصححه، قال ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد:17] ، وقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً , وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً , وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً 68} [النساء] 1. 8ـ وقال في اقتضاء الصراط المستقيم: "فهدى الله الناس ببركة نبوة محمد "وبما جاء به من البينات والهدى، هداية جلَّت عن وصف الواصفين، وفاقت معرفة العارفين، حتى حصل لأمته المؤمنين عموماً، ولأهل العلم منهم خصوصاً من العلم النافع، والعمل الصالح، والأخلاق العظيمة، والسنن المستقيمة ما لو جمعت حكمة سائر الأمم علماً وعملاً الخالصة من كل شوب إلى الحكمة التي بعث بها لتفاوتا تفاوتاً يمنع معرفة قدر النسبة بينهما، فلله الحمد كما يحب ربنا ويرضى، ودلائل هذا وشواهده ليس هذا موضعها"2. 9_ وقال ابن القيم: "فلو قيس ما عند جميع الأمم من معرفة وعلم وبصيرة إلى ماعندهم لم يظهر له نسبة إليه بوجه ما، وإن كان غيرهم من الأمم أعلم

_ 1 ـ نقض المنطق ص 7،8. 2 ـ الاقتضاء 1/64.

بالحساب والهندسة، والكمَّ المتصل والكمَّ المنفصل، والنبض والقارورة، والبول والقسطة، ووزن آلاتها، ونقوش الحيطان، ووضع الآلات العجيبة، وصناعة الكيمياء، وعلم الفلاحة، وعلم الهيئة وتسيير الكواكب، وعلم الموسيقى والألحان، وغير ذلك من العلوم التي هي ما بين علم لا ينفع وبين ظنون كاذبة، وبين علم نَفْعُه في العاجلة، وليس من زاد المعاد"1. 10ـ وقال ابن القيم رحمه الله:"ولهذا رام فلاسفة الإسلام الجمع بين الشريعة والفلسفة كما فعل ابن سينا والفارابي وأضرابهما، وآل الأمر بهم إلى أن تكلموا في خوارق العادات والمعجزات على طريق الفلاسفة المشائين، وجعلوا لها أسباباً ثلاثة: أحدها: القوى الفلكية، والثاني: القوى النفسية، والثالث: القوى الطبيعية، وجعلوا جنس الخوارق جنساً واحداً، وأدخلوا ما للسحرة، وأرباب الرياضة والكهنة وغيرهم مع ما للأنبياء والرسل في ذلك، وجعلوا سبب ذلك كله واحداً، وإن اختلفت بالغايات، والنبي قصده الخير، والساحر قصده الشر!. وهذا المذهب من أفسد مذاهب العالم، وأخبثها، وهو مبني على إنكار الفاعل المختار، وأنه ـ تعالى ـ لا يعلم الجزئيات، ولا يقدر على تغيير العالم، ولا يخلق شيئاً بمشيئته وقدرته، وعلى إنكار الجن، والملائكة، ومعاد الأجسام. وبالجملة فهو مبني على الكفر بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر"2.

_ 1 ـ هداية الحيارى ص234، وانظر ما بعدها إلى ص249 ففيها كلام عظيم حول هذا المعنى. 2 ـ مفتاح دار السعادة ص119، وانظر ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان لابن الوزير.

السفسطة والقرمطة

السفسطة والقرمطة ترد هاتان اللفظتان في كتب العقائد، وقد أوردها شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة التدمرية ص19 إذ يقول في معرض رده على المتكلمين: "ولكنهم من أهل المجهولات المشبهة بالمعقولات يسفسطون في العقليات، ويقرمطون في السمعيات" ص19. وهذه العبارة قد تشكل على بعض من يقرأ التدمرية، ويمكن فهمها من خلال تحليل عباراتها وشرحها. أولاً: معنى قوله: "يسفسطون في العقليات": قوله: " يسفسطون ": من السفسطة: وهي لفظ معرب مركب في اليونانية من كلمتين: سوفيا وهي الحكمة، واسطس وهو المموه؛ فمعنى السفسطة: حكمة مموهة، ويراد بالسفسطة: التمويه والخداع، والمغالطة في الكلام. والغرض من ذلك: تغليط الخصم، وإسكاته. والسوفسطائية طائفة من الفلاسفة تقوم على إنكار الحقائق، والقياسات الوهمية. ومؤرخو الفلسفة اليونانية يكتبون عن السوفسطائيين، وهم أناس عرفوا بهذه المهنة التي ازدهرت في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد1. ومقصود شيخ الإسلام بقوله: " يسفسطون في العقليات "أنه أراد أن يبين

_ 1_ انظر التعريفات للجرجاني ص124، وإحصاء العلوم للفارابي ص81، وتاريخ الفلسفة ليوسف كرم ص45.

بطلان مقالة المتكلمين في تقريرهم أسماء الله وصفاته، وأنهم يموهون ويغالطون في الأمور العقلية الواضحة الثابتة؛ فكل من أنكر حقاً واضحاً، وموَّه فيه بالباطل فهو مسفسط. ثانياً: قوله: "يقرمطون في السمعيات": قوله: "يقرمطون": جاء في لسان العرب: "القرمطة في الخط دقة الكتابة، وتداني الحروف، وفي المشي مقاربة الخطو، وتداني المشي"1. هذا معناه في اللغة. وأما في الاصطلاح: فهو نسبة إلى القرامطة الباطنية. وسموا بذلك _ كما يقول ابن الجوزي في تلبيس إبليس ص104 _ لأحد سببين: الأول: أن داعية لهم من ناحية خوزستان قَدِم سواد الكوفة، ونزل على رجل يقال له: كَرْمِيته، لُقِّبَ بهذا؛ لحمرة عينيه؛ فسمي الداعية باسم الذي كان نازلاً عليه، ثم خفف فقيل: قرمط. الثاني: أنه نسبة إلى حمدان قرمط، الذي يقول عنه صاحب الفرق بين الفرق ص226: إنه لقب بذلك؛ لقرمطة في خطه، أو خطوه. والقرامطة باطنية يدعون أن لنصوص الشرع باطناً يخالف ظاهرها، ثم يفسرونها بما لا يوافق شرعاً، ولا لغة، ولا عقلاً. ومعنى قوله: " السمعيات ": أي النقليات، وهي الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة.

_ 1_ لسان العرب 7/377.

ومراد شيخ الإسلام بقوله: "يقرمطون في السمعيات". أي أنهم _أي أهل الكلام_ يؤولون النصوص تأويلاً يخرجها عن معانيها الصحيحة المرادة؛ فمن تأولها على غير وجهها الصحيح ففيه شبه بالقرامطة من هذه الجهة.

الحادث والمحدث والحدوث والقديم والقدم

الحادث، والمُحدِث، والحدوث، والقديم، والقدم ترد هذه الكلمات كثيراً في كتب العقائد في عدد من المواضع، وذلك كما في الحديث عن نفي مماثلة الخالق للمخلوق، وكما في الحديث عن حدوث العالم وغير ذلك. وفيما يلي إيضاح لمعنى هذه الكلمات. قال الجرجاني: "الحادث: ما يكون مسبوقاً بمادة ومدة. وقيل: ما كان لوجوده ابتداء"1. وقال الكفوي: "الحادث: ما كان وجوده طارئاً على عدمِه، أو عدمُه طارئاً على وجوده فهو حادث"2. وقال: "والحدوث: الخروج من العدم إلى الوجود، أو كون الوجود مسبوقاً بالعدم اللازم للوجود، أو كون الوجود خارجاً من العدم اللازم للموجود"3. وقال: "وأظهر التعريفات للحدوث هو أنه حصول الشيء بعد أن لم يكن"4. وقال: "والحادث القائم بذاته يسمى حادثاً، وما لا يقوم بذاته من الحوادث يسمى مُحْدَثاً لا حادثاً"5.

_ 1_ التعريفات ص206. 2_ الكليات ص359. 3_ 4_ 5_ الكليات ص400.

وقال: "وجميع الموجودات غير الواجب _ سبحانه _ محدث الذات"1. وقال: "القديم المطلق: ألا يكون وجوده مسبوقاً بالعدم"2. وقال: "القديم: عبارة ليس قبله زماناً شيء"3.

_ 1_ التعريفات ص401. 2_ التعريفات ص401. 3_ التعريفات ص727.

المقدمة والنتيجة

المقدمة والنتيجة ترد هاتان الكلمتان في كتب العقائد، فيقال _ على سبيل المثال _: الكلام ههنا من مقدمتين ونتيجة. ويكثر إيرادهما في مواطن الرد، والحجاج؛ فما معنى المقدمة، وما معنى النتيجة؟ أولاً: معنى المقدمة: يقول الجرجاني رحمه الله: "المقدمة تارة تطلق على ما يتوقف عليه الأبحاث الآتية، وتارة على قضية جعلت جزء القياس، وتارة تطلق على ما يتوقف عليه صحة الدليل"1. وقال الكفوي رحمه الله: "المقدمة: ما يتوقف عليه المسائل بواسطة"2. ثانياً: النتيجة: هي ثمرة الشيء، وما تفضي إليه مقدمات الحكم3. ثالثاً: مثال على المقدمات والنتائج: المتكلمون ينفون صفات الله _ عز وجل _ ويثبتون كلامهم على مقدمتين ونتيجة. يقولون في المقدمة الأولى: الصفات لا تقوم إلا بجسم. والمقدمة الثانية: أن الأجسام متماثلة. والنتيجة عندهم: أن إثبات الصفات يستلزم التمثيل، والتمثيل كفر؛ فالواجب نفي الصفات.

_ 1_ التعريفات ص225. 2_ الكليات ص869. 3_ انظر المعجم الوسيط 2/899.

وهذه مقدمات باطلة، ونتائج المقدمات الباطلة باطلة. مثال ثان: الرافضة يقولون: لا ولاء إلا ببراء، أي لا ولاء لعلي إلا بالبراءة من الشيخين أبي بكر وعمر _ رضي الله عنهم _. ويبنون كلامهم على مقدمتين ونتيجة كما سيأتي: المقدمة الأولى: من تولى الشيخين فقد أبغض علياً. المقدمة الثانية: بغض علي نصب، أي أن مبغض علي ناصبي، أي من النواصب الذين يناصبون أهل البيت العداء. النتيجة: من تولى الشيخين فهو ناصبي. فالمقدمة الأولى: باطلة؛ لأنه لا يلزم مِنْ تَوَلِّي الشيخين بغض علي. والمقدمة الثانية صحيحة؛ فبغض علي نصب. والنتيجة باطلة؛ لأن تولي الشيخين ليس نصباً؛ إذ النصب بغض علي؛ لأن متولي الشيخين لا يلزم أن يبغض عليّاً؛ لأن السني يتولى الشيخين وعليّاً؛ فأهل السنة يتولون الجميع، ويترضون عن الجميع _ رضي الله عنهم _1.

_ 1_ انظر التوضيحات الأثرية ص230.

الواحد بالعين والواحد بالنوع

الواحد بالعين والواحد بالنوع قال شيخ الإسلام ابن تيمية في التدمرية في معرض حديث له عن الحلولية والاتحادية: "فمن اشتبه عليه وجود الخالق بوجود المخلوقات حتى ظنوا وجودها وجوده فهم أعظم الناس ضلالاً من جهة الاشتباه، وذلك أن الموجودات تشترك في مسمى الوجود فرأوا الوجود واحداً ولم يفرقوا بين الواحد بالعين، والواحد بالنوع"1. 1_ معنى الواحد بالعين: هو الذي لا يقبل التنوع والتقسيم بل هو واحد. وهو بعبارة أخرى: الواحد المعين الذي يمنع وجوده الشركة فيه؛ فهو غير قابل للتنوع. 2_ الواحد بالنوع: هو الذي يقبل التنوع والتقسيم؛ فهو جنس تندرج تحته أنواع عديدة. وهو الكلي الذي تشترك فيه الأفراد، ويقبل التنوع؛ فإذا وجد في الخارج كان مختصاً كلفظ إنسان.

_ 1 _ التدمرية ص108.

العقل

العقل ترد كلمة العقل كثيراً في كتب العقائد وغيرها، وفيما يلي وقفات حول العقل وذلك من خلال ما يلي: أ _ تعريف العقل: العقل في الأصل مصدر عقلت البعير أَعْقِله عقلاً إذ منعته من الشرود بحبل يشد في ركبته. وأما في الاصطلاح فهو _ كما يقول الفيروزبادي _: نور روحاني، به تدرك النفس العلوم الضرورية، والنظرية. هذا تعريف العقل عند صاحب القاموس، وهو من أجمع التعاريف وأحسنها 1. وعرفه الطوفي رحمه الله بقوله: "قوة غريزية يُتهيأ بها لإدراك المعلومات التصويرية، والتصديقية. وقيل: علم من العلوم الضرورية. وقيل: جوهر شفاف تدرك به المطالب العلمية"2. ب _ ابتداء وجود العقل: يقول الفيروز بادي: "وابتداء وجوده عند اجتنان الولد، ثم لا يزال ينمو إلى أن يكمل عند البلوغ"3. ج _ من إطلاقات العقل: يطلق العقل على العلم، أو بصفات الأشياء من

_ 1_ القاموس المحيط ص1336. 2_ شرح جواب ابن تيمية في القدر للطوفي ص24 مخطوط. 3_ القاموس المحيط 1336.

حسنها وقبحها، وكمالها ونقصانها. أو العلم بخير الخيرين وشرِّ الشرَّين، أو مطلقٌ لأمور، أو لقوة بها يكون التمييز بين القبيح والحسن، ولِمَعَانٍ مجتمعة بمقدمات يستتب بها الأغراض والمصالح، ولهيئة محمودة للإنسان في حركاته وكلامه. د _ مَنِ العاقل؟ هو الجامع لأمره، الذي يحبس نفسه عن هواها. هـ _ لم سمي العقل بهذا الاسم؟ لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك، ويحجزها عما لا ينبغي من اعتقاد فاسد، أو فعل قبيح 1. و_ منزلة العقل في الإسلام: لقد أعلى الإسلام منزلة العقل، ورفع مناره؛ فالعقل في الإسلام أساس التكليف، ومناط الأهلية. والقرآن الكريم مليء بالأمر بالتعقل، والنظر، والتدبر، والثناء على من كانوا كذلك. كما أنه مليء بذم الذين عطلوا عقولهم، وركنوا إلى التقليد الأعمى، واتبعوا ما ألفوا عليه آباءهم من غير ما بينة أو أثارة من علم. ز _ وظيفة العقل: العقل نور أودعه الله في الإنسان؛ ليكشف به الأشياء، والحقائق الواقعة، وليفهم به عن الله ورسوله " ولينظر من خلاله في ملكوت السموات والأرض، وليدرك به أسرار الكون، ويتدبر في نفسه وآيات الله من حوله، ويصل من خلاله إلى كثير من أمور الاعتقاد في حدود طاقته، ويبحث من طريقه إلى ما يعود عليه بالنفع في دينه ودنياه.

_ 1_ انظر لسان العرب 8/27، والقاموس المحيط ص1336.

هذه _ بإجمال _ وظيفة العقل. ح _ حدود العقل: مع أن الإسلام ينظر تلك النَّظْرة العظيمة للعقل، ومع أن للعقل وظيفته العظمى _ كما مر _ إلا أن الإسلام يحدد مجال العقل، وذلك صوناً للطاقة العقلية أن تتشتت أو تتبدد وراء الأمور الغيبية التي لا يستطيع العقل إدراكها أو الوقوف على حقيقتها، كالذات الإلهية، والروح، والجنة، والنار، وكيفية صفات الله _ عز وجل _ وغيرها؛ ذلك أن العقل البشري له مجاله الذي يعمل فيه؛ فإذا ما حاول أن يتخطى هذا المجال فإنه سَيَضِل ويتخبط في متاهات لا قبل له بها؛ فمجال العقل كل ما هو محسوس. أما الغيبيات التي لا تقع تحت مداركه فلا مجال للعقل أن يخوض فيها، ولا يخرج عما دلت عليه النصوص الشرعية في شأنها. ط _ أهل السنة وسط في باب العقل بين الذين ألَّهوه والذين ألغوه: فالوسطية شأنهم في جميع أمورهم، ومن بينها العقل، فأهل السنة لا يُلْغُون العقل، ولا ينكرونه، ولا يحجرون عليه. بل يعتقدون أن للعقل مكانة سامية، وأن الإسلام يقدر العقل، ويتيح له مجالات النظر والتفكير. وفي الوقت نفسه لا يؤلهون العقل، ولا يجعلونه حاكماً على نصوص الشرع؛ بل يرون أن للعقل حدّاً يجب أن يقف عنده؛ لكي لا يكون وبالاً على صاحبه. أما غيرهم فما بين مُفْرِط ومُفَرِّط في هذا الباب؛ فالمعتزلة، والفلاسفة، وأهل الكلام عموماً _ ألَّهوا العقل، وجعلوه مصدراً للتلقي؛ فما وافق العقل _ أو ما

يسمونه بالقواطع العقلية _ قبلوه، وما خالف ذلك ردوه أو أوَّلوه، مع أن عقولهم مختلفة، ومداركهم متفاوتة، بل إن الواحد منهم قد يختلف حتى مع نفسه. وفي مقابل هؤلاء نجد أن أهل الدجل والخرافة قد ألغوا العقل، وقبلوا ما لا يقبل ولا يعقل. وذلك كحال كثير من الخرافيين. والمجال لا يتسع لذكر شيء من تلك الخرافات التي تنطلي على أولئك1. ي _ العقل في مجال العقيدة: لا يجوز تعطيل العقل في مجال العقيدة وغيرها؛ إلا أنه لا يجوز للعقل _كما مر_ أن يتجاوز وظيفته، ويجنح في أودية الخيال الفاسد، ويتيه مع الأوهام الكاذبة؛ فالخيال والوهم لا يصلحان أساساً للعقيدة والمعرفة الصحيحة. والعقيدة الإسلامية حقيقة ثابتة دلَّ عليها الشرع بالقواطع من الأدلة النقلية. والعقل السليم لا يعارضها على القاعدة التي تقول: " العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح ". فإذا كان العقل هو الذي دلنا على معرفة الله _ عز وجل _ وعلى أن محمداً رسول الله حقاً _ فإن أي معارضة تُفْرَض بين العقل وما جاء في الكتاب والسنة، أو رَدّ خبر الله، وخبر رسوله؛ بحجة مخالفتها للعقل _ تعد مناقضة صريحة لما دل عليه العقل نفسه2.

_ 1_ انظر عقيدة أهل السنة والجماعة للكاتب ص 63_65. 2_ انظر العقل والنقل عند ابن رشد، د. محمد أمان 12_15.

وهذا ما سيتبين في الفقرة التالية. ك: بين العقل والنقل: القاعدة العريضة العامة المشهورة تقول: "العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح". والعقل الصريح: هو الخالي من الشبهات والشهوات، والنقل الصحيح: هو السالم من العلل والقوادح. القاعدة الأخرى تقول: "إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل". قال شارح الطحاوية ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: "فلا يُتَصور أن يتعارض عقل صريح ونقل صحيح أبداً"1. وقال: "إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل؛ لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع النقيضين، وتقديم العقل ممتنع؛ لأن العقل دل على صحة السمع، ووجوب قبول ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ". فلو أبطلنا النقل لكنا أبطلنا دلالة العقل، ولو أبطلنا دلالة العقل لم يصح أن يكون معارضاً للنقل؛ لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء؛ فكان تقديم العقل موجباً عدم تقديمه؛ فلا يجوز تقديمه. وهذا بيِّنٌ واضح؛ فإن العقل هو الذي دل على صدق السمع وصحته، وأَنَّ خبره مطابق لمخبره؛ فإن جاز أن تكون الدلالة باطلة لبطلان النقل لزم أن لا يكون العقل دليلاً صحيحاً، وإذا لم يكن دليلاً صحيحاً لم يجز أن يتبع بحال، فضلاً عن أن يقدم؛ فصار تقديم العقل على النقل قدحاً في العقل.

_ 1_ شرح العقيدة الطحاوية ص199 ـ200.

فالواجب كمالُ التسليم لرسول الله " والانقياد لأمره، وتلقِّي خبره بالقبول والتصديق دون أن نعارضه بخيال باطل نسميه معقولاً، أو نحمِّله شبهة أو شكَّاً، أو نقدم عليه آراء الرجال، وزبالة أذهانهم؛ فنوَحِّده بالتحكيم والتسليم والإذعان كما نوَحِّد المُرْسِل بالعبادة، والخضوع، والإنابة، والتوكل"1. ل: معنى بدائه العقول، أو بداهة العقول، أو العلم الضروري، أو بضرورة العقل: هذه ألفاظ متقاربة في المعنى، وترد كثيراً في كتب العقائد، وغالباً ما يكون ذلك في مقامات الرد والإلزام، وبيان أن المسائل أو القضايا المتنازع فيها واضحة معلومة تعرف بادي الرأي، وأول النظر دون إعمال فكر، أو إطالة تأمل. جاء في المزهر للسيوطي: "العلم الضروري: هو الذي بينه وبين مدلوله ارتباط معقول، كالعلم الحاصل من الحواس الخمس: السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس"2. وقال الكفوي: "الضروري: الذي يقابل الاستدلالي، وهو ما يحصل بدون فكرٍ ونظرٍ في دليل"3. وقال: "البداهة: هي المعرفة الحاصلة ابتداءاً في النفس لا بسبب الفكر، كعلمك بأن الواحد نصف الاثنين. والبديهي أخص من الضروري؛ لأنه ما لا يتوقف حصوله على نظر وكسب سواء احتاج لشيء آخر من نحو حَدْسٍ أو تجربة أو لا كتصور الحرارة،

_ 1_ المرجع السابق. 2_ المزهر للسيوطي 1/113. 3_ الكليات للكفوي ص576.

والبرودة، والتصديق بأن النفي والإثبات لا يجتمعان، ولا يرتفعان. والأوليات: هي البديهيات بعينها سميت بها؛ لأن الذهن يُلْحق محمول القضية بموضوعها لا بتوسط شيء آخر"1.

_ 1_ الكليات ص248.

الروح

الروح لفظ الروح يرد كثيراً في كتب العقائد، وفيما يلي بعض المعالم في هذا اللفظ. أولاً: حقيقة الروح التي في البدن: اختلف الناس في حقيقة الروح التي في البدن اختلافاً كثيراً، وأحسن ما قيل في ذلك؛ ما ذكره ابن القيم رحمه الله في كتابه الروح؛ حيث ساق ستة أقوال في الروح نقلها عن الرازي، واختار آخرها، وقال: "السادس: إنه جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، وهو جسم نوراني، علوي، خفيف، حي، متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون، والنار في الفحم. فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي ذلك الجسم اللطيف مشابكاً لهذه الأعضاء، وإفادتها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية. وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها، وخرجت عن قبول تلك الآثار _ فارق الروح البدن، وانفصل إلى عالم الأرواح "1. وبعد أن ساق ابن القيم رحمه الله هذا القول قال: "وهذا القول هو الصواب في المسألة، وهو الذي لا يصح غيره، وكل الأقوال سواه باطلة، وعليه دل الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة، وأدلة العقل والفطرة "2.

_ 1_ الروح ص 276. 2_ المرجع السابق وهذا القول هو الذي ارتضاه شارح الطحاوية انظر شرح العقيدة الطحاوية ص393.

ثم أورد رحمه الله بعد ذلك مائة وستة عشر وجهاً على صحة ما ذكر، ثم ناقش أدلة القائلين بغير ذلك. ثانياً: لم سميت الروح بهذا الاسم؟ لأن بها حياة البدن. ثالثاً: هل الروح والنفس شيء واحد أو أنهما متغايران؟ الروح التي في البدن هي النفس؛ فهذا المخلوق الذي تكون به الحياة، وتفقد بفقده يسمى روحاً، ونفساً؛ فهما بهذا الاعتبار مترادفان، يُعَبَّر بكل واحد منهما عن الآخر، ويدل عليه، ولا يمنع أن يكون لكل واحد منهما إطلاقات أخرى1. وبالجملة فإن النفس تطلق على أمور، والروح كذلك؛ فيتحد مدلولهما تارة، ويختلف تارة؛ فالنفس تطلق على الروح، ولكن غالباً ما تسمى به نفساً إذا كانت متصلة بالبدن، أما إذا أُخِذَتْ مجردةً فتسمية الروح أغلب عليها2. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والروح المدبرة للبدن هي الروح المنفوخة فيه، وهي النفس التي تفارقه بالموت"3. وقال: "لكن تسمى نفساً باعتبار تدبيره للبدن، وتسمى روحاً باعتبار لطفه"4. وقال ابن القيم رحمه الله: "أما الروح التي تتوفى وتُقبض فهي روح واحدة، وهي النفس"5.

_ 1_ انظر القيامة الصغرى د. عمر الأشقر ص85 ـ86. 2_ انظر شرح الطحاوية ص394. 3_ رسالة العقل والروح مجموعة الرسائل المنيرية 2/36. 4_ رسالة العقل والروح مجموعة الرسائل المنيرية 2/37. 5_ الروح ص 923.

رابعاً: من إطلاقات الروح: لفظ الروح له عدة معان غير الروح التي تفارق البدن بالموت التي هي النفس، فمن إطلاقات الروح ما يلي: 1_ تطلق الروح على الهواء الخارج من البدن والهواء الداخل فيه. 2_ وتطلق على البخار الخارج من تجويف القلب من سويداه الساري في العروق. 3_ وتطلق الروح على جبرائيل _ عليه السلام _ قال _ تعالى _: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء: 193] . 4_ وتطلق على ما يؤيد الله به أولياءه من الروح، كما قال _ تعالى _: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] . 5_ وتطلق على الروح الذي أيد الله به روحه المسيح بن مريم _ عليه السلام _ كما قال _ تعالى _: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [المائدة: 110] . 6_ وتطلق على الروح التي يلقيها الله على من يشاء من عباده. 7_ وتطلق الروح على القوى التي في البدن؛ فإنها تسمى أرواحاً، فيقال: الروح الباصر، والروح السامع، والروح الشامّ؛ فهذه الأرواح قوى مُوْدَعَةٌ في البدن تموت بموت الأبدان، وهي غير الروح التي لا تموت بموت البدن، ولا تبلى كما يبلى. 8_ ويطلق الروح على ما هو أخص مما مضى كله، وهو قوة المعرفة بالله والإنابة إليه، ومحبته، وانبعاث الهمة إلى طلبه وإرادته.

ونسبة هذه الروح إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن؛ فإذا فقدته الروح كانت بمنزلة البدن إذا فقد روحه، وهي الروح التي يؤيد الله بها أهل ولايته. ولهذا يقول الناس: فلان فيه روح، وفلان ليس فيه روح، وهو قصبةٌ فارغة، ونحو ذلك. 9_ ويطلق الروح على غير ما ذكر مما فيه معنى الحياة المعنوية، فللعلم روح، وللإحسان روح، وللإخلاص روح، وللمحبة والإنابة روح، وللتوكل والصدق روح. والناس متفاوتون في هذه المعاني أعظم تفاوت؛ فمنهم من تغلب عليه هذه الأرواح، فيصير روحانياً، ومنهم من يفقدها أو أكثرها فيصير بهيمياً، والله المستعان. خامساً: مسكن الروح: الجسد هو مسكن الروح، وهي تسري في الجسد كله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لا اختصاص للروح بشيء من الجسد؛ بل هي سارية في الجسد، كما تسري التي هي عَرَض في جميع الجسد؛ فإن الحياة مشروطة بالروح، فإذا كانت الروح في الجسد كان فيه حياة، وإذا فارقته الروح فارقته الحياة"1. سادساً: الروح مخلوقة: فالحق الذي لا يجوز العدول عنه أن الروح مخلوقة، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع. قال: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "روح الآدمي مُبْدَعَةٌ باتفاق سلف الأمة،

_ 1_ رسالة العقل والروح 2/47.

وأئمتها، وسائر أهل السنة. وقد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة غَيرُ واحد من أئمة المسلمين، مثل محمد بن نصر المروزي الإمام المشهور، الذي هو أعلم أهل زمانه بالإجماع، والاختلاف، أو من أعلمهم. وكذلك أبو محمد بن قتيبة، قال لما تكلم في كتاب اللقط لما تكلم على خلق الروح قال: النسم الأرواح، قال: وأجمع الناس أن الله خالق الجثة، وبارئ النسمة، أي الروح"1. وقال ابن تيمية في موضع آخر: "فقد بان بما ذكرناه أن من قال أن أرواح بني آدم قديمة غير مخلوقة _ فهو من أعظم أهل البدع الحلولية الذي يجر قولهم إلى التعطيل، بجعل العبد هو الرب، وغير ذلك من البدع الكاذبة الضالة"2. سابعاً: هل تموت الروح؟ الجواب أن الناس قد اختلفوا في ذلك، والصواب كما قال ابن القيم رحمه الله أن يقال "موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها، وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت. وإن أريد أنها تَعْدَم، وتضمحل، وتصير عدماً محضاً _ فهي لا تموت بهذا الاعتبار، بل هي باقية بعد خلقها في النعيم أو العذاب "3. قال ابن تيمية رحمه الله: "وقد ثبت في الكتاب والسنة، واتفاق سلف الأمة أن

_ 1_ مجموع الفتاوى 4/216. 2_ مجموع الفتاوى 4/ 216، وانظر الروح ص226_244. 3_ الروح ص 70 ـ71، وانظر شرح الطحاوية ص395.

الروح تبقى بعد فراق البدن، وأنها منعمة أو معذبة"1. وقال في موضع آخر: "لكن موتها مفارقة الأبدان"2. ثامناً: مستقر الأرواح في البرزخ: قال ابن القيم رحمه الله: "الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت. فمنها أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء _ صلوات الله وسلامه عليهم _ وهم متفاوتون في منازلهم كما رآهم النبي " ليلة الإسراء. ومنها أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، وهي أرواح بعض الشهداء لا جميعهم، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة؛ لدين عليه، أو غيره، كما في المسند عن محمد بن عبد الله بن جحش أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ما لي إن قتلت في سبيل الله؟ قال: "الجنة" فلما ولى قال: "إلا الذي سارَّني به جبريل آنفاً". ومنهم من يكون محبوساً على باب الجنة كما في الحديث الآخر: "رأيت صاحبكم محبوساً على باب الجنة". ومنهم من يكون محبوساً في قبره كحديث صاحب الشملة التي غلَّها، واستشهد، فقال الناس: هنيئاً له الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلها لتشتعل عليه ناراً في قبره". ومنهم من يكون مقره باب الجنة، كما في حديث ابن عباس: "الشهداء على

_ 1_ مجموع الفتاوى 4/283. 2_ مجموع الفتاوى 4/279.

بارق نهر باب الجنة في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية" رواه أحمد. وهذا بخلاف جعفر بن أبي طالب، حيث أبدله الله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء. ومنهم من يكون محبوساً في الأرض لم تعلُ روحه إلى الملأ الأعلى؛ فإنها كانت روحاً سفلية أرضية؛ فإن الأنفس الأرضية لا تُجَامع الأنفس السماوية كما لا تجامعها في الدنيا، والنفس التي لم تكتسب في الدنيا معرفة ربها، ومحبته، وذكره، والأنس به، والتقرب إليه، بل هي أرضية سفلية _ لا تكون بعد المفارقة لبدنها إلا هناك. كما أن النفس العلوية التي كانت في الدنيا عاكفة على محبة الله وذكره، والتقرب إليه، والأنس به تكون بعد المفارقة مع الأرواح العلوية المناسبة لها؛ فالمرء مع من أحب في البرزخ ويوم القيامة. والله _ تعالى _ يزوج النفوس بعضها ببعض في البرزخ ويوم المعاد، كما تقدم في الحديث، ويجعل روحه _ يعني المؤمن _ مع النسيم الطيب _ أي الأرواح الطيبة المشاكِلة _ فالروح بعد المفارقة تلحق بأشكالها، وإخوانها وأصحاب عملها، فتكون معهم هناك. ومنها أرواح تكون في تنور الزناة والزواني، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه، وتُلقم الحجارة؛ فليس للأرواح سعيدها، وشقيها مستقر واحد. بل روح في أعلى عليين، وروح أرضية سفلية لا تصعد عن الأرض"1.

_ 1_ الروح ص 187_188، وانظر شرح العقيدة الطحاوية ص401_404.

النقيضان والضدان

النقيضان، والضدان هذان اللفظان يردان كثيراً في كتب العقيدة، وهذا إيضاح لمعناهما. أولاً: النقيضان: هما اللذان لا يجتمعان، ولا يرتفعان معاً كالوجود، والعدم، والحركة، والسكون في الشيء الواحد في الوقت الواحد. ثانياً: الضدان: هما صفتان وجوديتان يتعاقبان في موضع واحد كالسواد والبياض. ثالثاً: الفرق بين الضدين والنقيضين: أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان كالعدم والوجود، والضدين لا يجتمعان ولكن يرتفعان كالسواد والبياض؛ فلا تقول _مثلاً_: هذا معدوم موجود؛ فلا بد من وجود أحدهما دون الآخر، ولا يمكن رفعهما جميعاً. لكن لو قيل لك: هذا أسود أم أبيض؟ لما ساغ لك أن تقول: أسود أبيض، ولكن لك أن تقول: هو أحمر، وهكذا ... 1

_ 1_ انظر التعريفات ص137، وشرح الرسالة التدمرية لابن تيمية للشيخ عبد الرحمن البراك ص85.

الواحد لايصدر عنه إلا واحد

الواحد لا يصدر عنه إلا واحد هذه المقولة يطلقها الفلاسفة، ومن يوافقهم من المتفلسفة المنتسبين إلى الإسلام ممن يقولون بالعقول العشرة، وأن الله واحد لا يصدر عنه _ عندهم _ إلا واحد وهو العقل الأول على ما سيأتي بيانه. كما أنها ترد في كتب العقائد خصوصاً في باب القدر، وارتباطه بفعل الأسباب؛ حيث يبين العلماء أن الأسباب لا تستقل بالتأثير، وأنه ما من سبب إلا وهو مفتقر إلى سبب آخر في حصول مسببه، ولا بد له من مانع يمنع مقتضاه وأثره إذا لم يدفعه الله عنه؛ فليس في الوجود شيء واحد يستقل بفعل شيء إلا الله وحده. قال الله _ تعالى _: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49] . أي فتعلمون أن خالق الأزواج واحد. وأما بالنسبة للمخلوق فليس هناك مخلوق يصدر عنه شيء استقلالاً، بل لا بد له من سبب أو أسباب أخرى تعينه في حصول مسببه، ولا بد له من زوال الموانع التي تمنع تأثيره _كما مر _ 1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولهذا من قال: إنه لا يصدر عنه إلا واحد؛ لأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد _ كان جاهلاً؛ فإنه ليس في الوجود واحد صدر عنه وحده شيء لا واحد ولا اثنان إلا الله الذي خلق الأزواج كلها

_ 1_ انظر التدمرية ص211.

مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون؛ فالنار التي جعل الله فيها حرارة لا يحصل الإحراق إلا بها وبمحلٍّ يقبل الاحتراق؛ فإذا وقعت على السَّمَنْدل1 والياقوت2 ونحوهما لم تحرقهما. وقد يطلى الجسم بما يمنع إحراقه، والشمس التي يكون عنها الشعاع _ لا بد من جسم يقبل انعكاس الشعاع عليه، وإذا حصل حاجز من سحاب، أو سقف لم يحصل الشعاع تحته"3. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في القصيدة التائية في القدر: وفي الكون تخصيص كثير يدل مَن ... له نوعُ عقلٍ أنه بإرادةِ وإصداره عن واحد بعد واحد ... أو القول بالتجويز رَمْيةُ حيرةِ4 ويريد الشيخ رحمه الله من خلال هذه الأبيات أن يبين أن ما في الكون من التخصيصات المتنوعة من كل وجه دلالةٌ واضحة على نفوذ مشيئة الله، وأن ذلك كائن بإرادته _ عز وجل_. ومن تلك التخصيصات ما يُرى من الحِكم والانتظام، والحسن والالتئام،

_ 1_ السمندل: يقال: إنه دابة دون الثعلب يكثر في الهند، ويتلذذ بالنار، ومكثه فيها. وزعم آخرون أنه طائر ببلاد الهند يُفَرِّخ في النار، ويدخلها، ولا يحترق ريشه. انظر حياة الحيوان للدميري 1/573_574، والحيوان للجاحظ 2/11 و 5/309، و 6/434. 2_ الياقوت: قال القزويني في كتابه عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات ص212: "حجر صلب شديد اليبس رزين شفاف صافٍ مختلف الألوان، ذكروا أنه لا تذوبه النار؛ لقلة دهنيته، ولا يتفتت؛ لغلظ رطوبته، بل يزداد لونه حسناً". 3_ التدمرية ص211_212. 4_ مجموع الفتاوى 8/247_248.

والخلق الغريب، والإبداع العجيب. ومن ذلك جَعْل بعضها عالياً وبعضها سافلاً، وبعضها كبيراً وبعضها صغيراً، وبعضها متصلاً بغيره، وبعضها منفصلاً، وبعضها على صفة، وبعضها على صفة أخرى مثل قوله _ تعالى _: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [النور: 45] . ومن ذلك ما في الكون من الخيرات الكثيرة، والمنافع الغزيرة؛ فكل ذلك ينطق بأنها صادرة عن إرادة تامة، ومشيئة نافذة. وهذا أمر يدركه من عنده أدنى مُسْكةٍ من عقل. ثم إن هذه التخصيصات مما يبين خطأ المتفلسفة الذين قالوا: إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد؛ فهذه المقولة صادرة عن حيرة وضلال؛ فإن الواحد العقلي الذي يثبته الفلاسفة كالوجود المجرد من الصفات، وكالعقول المجردة، وكالكليات التي يدَّعون تركُّب الأنواع منها؛ فإن هذا الواحد لا حقيقة له في الخارج. والمقصود هنا أن التأثير إذا فسر بوجود شرط الحادث، أو سبب يتوقف حدوث الحادث به على سبب آخر، وانتفاء موانع _ وكل ذلك بخلق الله تعالى _ فهذا حق، وتأثير قدرة العبد في مقدورها ثابت بهذا الاعتبار. وإن فسِّر التأثير بأن المؤثر مستقل بالأثر من غير مشارك معاون ولا معاوق مانع فليس شيء من المخلوقات مؤثِّراً، بل الله وحده خالق كل شيء لا شريك له، ولا ند؛ فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.

قال الطوفي رحمه الله في شرح البيتين السابقين: "وقد تضمن البيتان المذكوران الإشارة إلى ثلاثة مذاهب. أحدها: مذهب القائلين بأن صانع العالم يفعل بالطبع والإيجاب كإحراق النار، وتبريد الماء، وهبوط الحجر الثقيل في الهواء لا بالقدرة والاختيار: وشبهتهم على ذلك دقيقة تعسُّفية، ولا أصل لها. وقد رد الله _ تعالى _ عليهم بقوله: {يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} الرعد: 4. ورد عليهم الأصوليون بأن الفاعل بالطبع لا يتمادى زمنُ فعله، ولا يتخصص بعد وجود فاعله ببعض الأزمنة والأمكنة دون بعض. وأفعال الله _ تعالى _ تتمادى، ويتأخر بعضها عن بعض، ويختص ببعض ظروف الزمان والمكان دون بعض. وما ذاك إلا لصدوره عن قدرة واختيار، لا عن طبع وإيجاب. وإلى هذا أشار الشيخ _ يعني ابن تيمية _ بقوله: وفي الكون تخصيص كثير ... البيت. فإن وجود زيد _ مثلاً _ اليوم دون أمس وغدٍ، أو غداً دون أمس واليوم، أو أمس دون اليوم وغدٍ، وموتُه في مكة دون بغداد أو في مصر دون مكة _ دليلٌ على أن مُخصِّصاً ذا إرادة تامة خَصَّص هذه الأحداثَ ببعض هذه الظروف دون بعض، ولعل في قوله _ تعالى _: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34] إشارة إلى هذا الدليل.

وإذا ثبت أن الموجودات واقعة بإرادة الله _ تعالى _ فالأفعال من طاعة ومعصية منها؛ فهي _ إذاً _ واقعة بإرادة الله _ تعالى _ فقول القائل: معصيتي خَلْقي لا خلق الله خطأ والله أعلم. المذهب الثاني: قول القائلين بأن واجب الوجود واحد، الواحد لا يصدر عنه إلا واحد؛ لأنه لو صدر عنه أكثر من واحد لكان من حين صدور هذا عنه مغايراً لنفسه من حيث صدورُ الآخر عنه، والمغايرة تقتضي التعدد، والتكثُّر؛ فيلزم أن يكون واحداً كثيراً، وهو محال. قالوا: فوجب القول بأن الصادر عنه واحد، وهو الفلك الذي دونه، وعن ذلك الفلك ما دونه إلى أن انتهى التدريج إلى فلك القمر، وهو الذي يلي العالم السفلي، وهو عالم الكون، والفساد؛ فأثَّر فلك القمر في العناصر الأربعة: النار، والهواء، والماء، والأرض، ثم دبَّرت هذه العناصر ما تركَّب منها، وهو هذا العالم. وهذا ونحوه تقرير مذهب الحكماء _ يعني الفلاسفة _ على ما ذكره بعضهم. وهو فاسد؛ لأنه يوجب أن لا يوجد شيئان إلا وأحدهما علة للآخر". إلى أن قال رحمه الله: "وإلى هذا أشار الشيخ _ يعني ابن تيمية _ بقوله: وإصداره عن واحد بعد واحد ... وأجاب عنه بأنه رمية حَيْرة، أي أنه دعوى لا برهان عليها، وإنما هو رأي صدر عن عقولٍ حارَتْ، وعن طريق الحق جارَتْ، وما لا برهان عليه لا يسمع". ثم انتقل بعد ذلك إلى المذهب الثالث فقال:

"المذهب الثالث: مذهب القائلين بالتجويز، وهم القدرية، الذين يقولون: لو عذبنا الله على خلقه فينا لكان جائزاً، وإنما يعذبنا على ما نخلقه نحن. وأجاب عنه _ يعني ابن تيمية _ بما أجاب عن الذي قبله من أنه رمية حيرة، والتقريرُ التقريرُ. وقوله: "أو القول" أي والقول؛ فهي _ يعني أو _ بمعنى الواو، وليست لأحد الشيئين، والله أعلم"1.

_ 1_ انظر شرح جواب ابن تيمية للطوفي ص24_26، وانظر القصيدة التائية في القدر لابن تيمية شرح وتحقيق الكاتب ص128_129.

الاحوال عند المتكلمين والصوفية

الأحوال عند المتكلمين والصوفية هذه اللفظة ترد في كتب العقائد، ولها مفهومان: مفهوم عند المتكلمين، وعلى وجه الخصوص المعتزلة، ومفهوم آخر عند الصوفية. أولاً: مفهوم الأحوال عند المتكلمين: هي النسبة بين الصفة والموصوف، أو هي الصفات المعنوية التي انفرد بها أبو هاشم عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي المعتزلي دون سائر المعتزلة مع نفيه لصفات المعاني، أي أنه ينفي العلم، والقدرة، والإرادة ثم يثبت كونه عالماً، وقادراً، ومريداً. فهو يقول: العالِِم صفة، والعالِمية نسبة بين الصفة والموصوف، وهي عند من يقول بها معنى زائد على العلم، ومثل ذلك القادرية، والفاعلية. وبعبارة أخرى: يقولون _ على سبيل المثال _: هو سميع، وليس معنى ذلك أن له سمعاً، لكنه ذو سمع، يعني كونه سميعاً، وحاله سميعاً، لكن لا يثبت أن له سمعاً. وعليم: كونه عليماً، ليس له علم، ولكن حالُه العلم. فهذه النسبة، وهذه الكوكنة _ كما يعبر بعضهم _ هي الأحوال عند المتكلمين. ويقولون عنها: إنها لا موجودة بذاتها، ولا معدومة بل هي واسطة بينهما. يقول الكفوي رحمه الله: "وأثبت بعض المتكلمين واسطة بين الموجود والمعدوم، وسماها الحال، وعرَّف بأنها: صفة لا موجودة ولا معدومة، لكنها قائمة بموجود كالعالمية، وهي النسبة بين العالم والمعلوم"1.

_ 1_ الكليات ص374.

ويقول الشهرستاني رحمه الله مبيناً معنى الأحوال عند أبي هاشم: "وعند أبي هاشم: هو عالم لذاته، بمعنى أنه ذو حالة هي صفة معلومة وراء كونه ذاتاً موجوداً، وإنما تعلم الصفة على الذات لا بانفرادها؛ فأثبت أحوالاً هي صفات لا موجودة ولا معدومة، ولا معلومة، ولا مجهولة، أي هي على حيالها لا تعرف كذلك، بل مع الذات. قال: والعقل يدرك فرقاً ضرورياً بين معرفة الشيء مطلقاً وبين معرفته على صفة؛ فليس من عرف الذات عرف كونه عالماً، ولا من عرف الجوهر عرف كونه متحيزاً قابلاً للعَرَض. ولا شك أن الإنسان يدرك اشتراك الموجودات في قضية، وافتراقها في قضية، وبالضرورة يعلم أن ما اشتركت فيه غير ما افترقت به. وهذه القضايا العقلية لا ينكرها عاقل، وهي لا ترجع إلى الذات، ولا إلى أعراض وراء الذات؛ فإنه يؤدي إلى قيام العرض بالعرض؛ فتعين بالضرورة أنها أحوال؛ فكونُ العالمِ عالماً حالٌ هي صفة وراء كونه ذاتاً، أي المفهوم منها غير المفهوم من الذات وكذلك كونه قادراً حياً. ثم أثبت _ يعني أبا هاشم _ للباري _ تعالى _ حالة أخرى أوجبت تلك الأحوال"1. هذا هو قول أبي هاشم في الأحوال، وهو قول باطل؛ إذ لا فرق بين العلم والعالمية، والقدرة والقادرية، وتفسيره للأحوال ممتنع فهي لا وجود لها إلا في

_ 1_ الملل والنحل للشهرستاني 1/82.

الأذهان لا الأعيان؛ فلذلك قيل: من المحالات أحوال أبي هاشم. وقيل: مما يقال ولا حقيقة تحته ... معقولة تدنو إلى الأفهام الكسب عند الأشعري والحال نـ ... ـد البهشمي1 وطفرة النظام قال الشهرستاني: "وخالفه والده2، وسائر منكري الأحوال في ذلك، وردوا الاشتراك والافتراق إلى الألفاظ وأسماء الأجناس، وقالوا: أليست الأحوال تشترك في كونها أحوالاً، وتفترق في خصائص؟ كذلك نقول في الصفات، وإلا فيؤدي إلى إثبات الحال للحال، ويفضي إلى التسلسل. بل هي راجعة إما إلى مجرد الألفاظ إذا وضعت في الأصل على وجه يشترك فيه الكثير لا أن مفهومها معنى أو صفة ثابتة في الذات على وجه يشمل أشياء، ويشترك فيها الكثير؛ فإن ذلك مستحيل، أو يرجع إلى وجوه واعتبارات عقلية هي المفهومة من قضايا الاشتراك، والافتراق، وتلك الوجوه كالنِّسب والإضافات، والقُرْب والبعد، وغير ذلك مما لا يعد صفات بالاتفاق"3.

_ 1_ المقصود بالبهشمي أبو هاشم الجبائي، ولعل سبب التسمية بذلك أنه من باب النحت من الكلمتين: أبي وهاشم. 2_ يعني والد أبي هاشم وهو محمد بن عبد الوهاب الجبائي، وهو من كبار المعتزلة. 3_ الملل والنحل 2/82، وانظر العقل والنقل عند ابن رشد د. محمد أمان ص52، والمعتزلة د. عواد المعتق ص75، والتوضيحات الأثرية على متن الرسالة التدمرية لفخر الدين المحيسي ص241.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكذلك الأحوال التي تتماثل في الموجودات وتختلف لها وجود في الأذهان، وليس لها وجود في الأعيان إلا الأعيان الموجودة، وصفاتها القائمة بها المعينة؛ فتتشابه بذلك، وتختلف"1. ثانياً: مفهوم الأحوال عند الصوفية: يقول الجرجاني رحمه الله: "الحال عند أهل الحق _ يعني الصوفية _ معنى يرد على القلب من غير تصنع، ولا اجتلاب، ولا اكتساب، من طرب، أو حزن، أو بسط، أو قبض، أو شوق، أو انزعاج، أو هيئة، ويزول بظهور صفات النفس سواء يعقبه المثل أوْ لا؛ فإذا دام وصار ملكاً يسمى مقاماً؛ فالأحوال مواهب، والمقامات مكاسب، والأحوال تأتي من عين الجود، والمقامات تحصل ببذل المجهود"2. وقيل: الحال: هو ما يتحول فيه العبد، ويتغير مما يَرِد على قلبه؛ فإذا صفا تارة، وتغير أخرى قيل له: حال3. وبهذا يتبين أن الأحوال والمقامات أوصاف تقوم بالقلب، ولها تعلق به، وأنها باعتبار هذا التعلق تنقسم إلى لوامع، وبوارق، ولوائح، ثم تكون أحوالاً، ثم تكون مقاماً بثبوتها في القلب، واستقرارها فيه. ولا ينكر عاقل قيام المحبة، والرضا، والخوف، والرجاء، وغيرها من الأحوال بالقلب.

_ 1_ التدمرية ص131. 2_ التعريفات ص81. 3_ انظر إحياء علوم الدين 5/16.

وهذه المصطلحات لا تناقض نصاً شرعياً، بل النصوص الشرعية تدل على قيام هذه الأوصاف بالقلب من الصبر، والرضا، والمحبة، والخوف، والخشية، والإنابة، والرجاء، وغيرها1.

_ 1_ انظر مدارج السالكين لابن القيم 1/135_137، والتحفة العراقية لابن تيمية تحقيق د. يحيى الهنيدي ص82_84.

نظرية الكسب عند الاشاعة

نظرية الكسب عند الاشاعة ... نظرية الكسب عند الأشاعرة نظرية الكسب، أو مصطلح الكسب عند الأشاعرة ترد كثيراً في كتبهم، وفي كتب من يخالفونهم إذا أرادوا الرد عليهم. وهي ترد في باب القدر على وجه الخصوص؛ فجمهور الأشاعرة ومتأخروهم يرون أن الله _ عز وجل _ خالق أفعال العباد فيثبتون مرتبتي المشيئة والخلق، ولكنهم يقولون: "إن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله _ تعالى _ وحدها، وليس لقدرتهم تأثير فيها، بل الله _سبحانه_ أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختياراً؛ فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارناً لهما؛ فيكون الفعل مخلوقاً لله إبداعاً وإحداثاً، ومكسوباً للعبد. والمراد بكسبه إياه: مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك من تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلاً له"1. فهم _ إذاً _ يرون أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله _تعالى_ وهي كسب للعباد. وعلى ذلك يترتب الثواب والعقاب، ولا تأثير لقدرة العبد في الفعل. وهذا قول جمهور الأشاعرة، وهو القول الذي شنع بسببه المعتزلة على الأشاعرة؛ لأنهم لما لم يثبتوا للعبد قدرة مؤثرة لم يكونوا بعيدين من قول الجبرية الجهمية؛ فهم أرادوا أن يوفقوا بين الجبرية والقدرية؛ فجاؤوا بنظرية الكسب،

_ 1_ شرح المواقف للزنجاني ص237.

وهي في مآلها جبرية خالصة؛ لأنها _كما مر_ تنفي أي قدرة للعبد أو تأثير1. ولهذا اشتهر المذهب الأشعري _ بناءاً على مقالتهم تلك_ بنظرية الكسب التي صارت علماً عليهم، فما معنى الكسب عندهم؟ للكسب عندهم تعريفات أهمها: 1_ أنه ما يقع به المقدور من غير صحة انفراد القادر به2. 2_ أنه ما يقع به المقدور في محل قدرته3. 3_ أنه ما وجد بالقادر، وله عليه قدرة محدثة4. ويضرب بعضهم للكسب مثلاً "في الحجر الكبير قد يعجز عن حمله رجل، ويقدر آخر على حمله منفرداً به، إذا اجتمعا جميعاً على حمله كان حصول الحمل بأقواهما، ولا خرج أضعفهما بذلك من كونه حاملاً. كذلك العبد لا يقدر على الانفراد بفعله، ولو أراد الله الانفراد بإحداث ما هو كسب للعبد قدر عليه، وَوُجِدَ مقدوره؛ فوجوده على الحقيقة بقدرة الله _تعالى_ ولا يخرج _ مع ذلك _ المُكْتَسبُ من كونه فاعلاً، وإن وجد الفعل بقدرة الله _تعالى_"5.

_ 1_ انظر الروض الباسم لابن الوزير 2/21، والروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية لأبي عذبة ص42، ولوامع الأنوار 1/291_292، ومنهج الأشاعرة في العقيدة د. سفر الحوالي ص43، والقضاء والقدر د. عبد الرحمن المحمود ص311_316، والرد الأثري المفيد على البيجوري ص103_108. 2_ الإنسان هل هو مسير أم مخير د. فؤاد عقلي ص11. 3_ شرح جوهرة التوحيد للباجوري ص219. 4_ المعتمد في أصول الدين لأبي يعلى الحنبلي ص128. 5_ أصول الدين للبغدادي ص133_134، وانظر القضاء والقدر للمحمود ص313.

وهكذا تؤول هذه النظرية جبرية خالصة _كما مر_ ويبقى الخلاف بينهم وبين الجبرية خلافاً لفظياً بل طريقتهم أكثر غموضاً. أما حقيقتها النظرية الفلسفية فقد عجز الأشاعرة عن فهمها فضلاً عن إفهامها غيرهم، ولهذا قيل: مما يقال ولا حقيقة تحته ... معقولة تدنو إلى الأفهام الكسب عند الأشعري والحال عنـ ... ـد البهشمي وطفرة النظام وقد دار حول الكسب جدال طويل، ولم ينته الأشاعرة فيه إلى قول مستقيم1. ومن الأشاعرة من يرى أن الفعل واقع بقدرة العبد، وأن العبد له كسب، وليس مجبوراً، وهذا هو قول الباقلاني. يقول رحمه الله:" ويجب أن يعلم أن العبد له كسب، وليس مجبوراً، بل مكتسب لأفعاله من طاعة ومعصية؛ لأنه _ تعالى _ قال: {لَهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] يعني من ثواب طاعةٍ، {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] ، يعني من عقاب معصية. وقوله: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاس} [الروم:41] ، وقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيْبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] ، وقوله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} [فاطر: 45] .

_ 1_ انظر القضاء والقدر للمحمود ص313، ومنهج الأشاعرة في العقيدة ص436، وباعث النهضة الإسلامية ص183_187.

ويدل على صحة هذا أن العاقل منا يفرق بين تحرك يده جبراً، وسائر بدنه عند وقوع الهم به، أو الارتعاش وبين أن يحرك هو عضواً من أعضائه قاصداً إلى ذلك باختياره؛ فأفعال العباد هي كسب لهم، وهي خلق الله _ تعالى _ فما يتصف به الحق لا يتصف به الخلق، وما يتصف به الخلق لا يتصف به الحق، وكما لا يُقال لله _ تعالى _ إنه مكتسب، كذلك لا يُقال للعبد: إنه خالق"1.

_ 1_ الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به للباقلاني ص70_71.

طفرة النظام

طفرة النظَّام النظَّام: هو إبراهيم بن سيار بن هانئ المعروف بالنظَّام سمي بهذا لأنه كان ينظم الخرز في شبابه، وإليه تنسب فرقة النظَّامية من المعتزلة، ولد سنة 185هـ، وتوفي سنة231هـ. وأما طفرته: فهي قوله بالطفرة التي لم يسبق إليها، ومفادها: دعواه أن الجسم قد يكون في المكان الأول، ثم يصير منه إلى المكان العاشر من غير المرور بالأمكنة المتوسطة بينه وبين العاشر، ومن غير أن يصير معدوماً في الأول ومعاداً في العاشر1. وبعبارة أخرى: هي القول بأن الله خلق هذه الموجودات دُفعة واحدة على ما هي عليه الآن من نبات وحيوان، وجبال وبحار، ولم يتقدم خلقُ آدم على ذريته، غيرَ أن الله أكمل بعضها في بعض؛ فالتقدم والتأخر إنما يقع في ظهور هذه الموجودات في أماكنها دونَ حدوثها ووجودها. وكان النظَّام متأثراً بأصحاب الكمون والظهور من الفلاسفة وهي طفرة لم يسبقه إليها أحد2.

_ 1_ انظر المعتزلة وأصولهم الخمسة د. عواد المعتق ص56_59. 2_ انظر العقل والنقل عند ابن رشد ص52_53.

انواع الدلالة اللفظية الوضعية

أنواع الدلالة اللفظية الوضعية يرد في كتب العقائد مصطلح الدلالات اللفظية الوضعية، وهي ثلاثة أنواع: 1_ دلالة المطابقة، وتسمى الدلالة المطابقية: وتعرف بأنها: -دلالة اللفظ على جميع معناه. -أو هي: تفسير اللفظ بجميع مدلوله. -أو هي: دلالته على تمام ما وضع له من حيث إنه وضع له. وسميت بذلك؛ لتطابق اللفظ والمعنى، وتَوافُقِهما في الدلالة. 2_ الدلالة التضمنية، أو دلالة التضمن: وهي تفسير اللفظ ببعض مدلوله، أو بجزء معناه. -أو هي دلالة اللفظ على جزء ما وضع له في ضمن كل المعنى. وسميت بذلك لأنها عبارة عن فهم جزء من الكل؛ فالجزء داخل ضمن الكل أي في داخله. 3_ دلالة التزام، أو الدلالة الالتزامية: وهي الاستدلال باللفظ على غيره. -أو هي دلالة اللفظ على خارج معناه الذي وضع له. يقول المناطقة: إن بين الدلالة المطابقية والدلالة التضمنية العموم والخصوص المطلق؛ فإذا وجدت التضمنية وجدت المطابقية دون العكس، أي لا يلزم من وجود المطابقية وجود التضمنية. أمثلة على ذلك: اسم الخالق يدل على ذات الله، وعلى صفة الخلق بالمطابقة، ويدل على الذات وحدها بالتضمن، وعلى صفة الخلق وحدها

بالتضمن، ويدل على صفتي العلم والقدرة بالالتزام، أي أن اللفظ دل على معنى خارج عن معناه الأصلي الذي وضع له، وذلك أن الخالق لا يمكن أن يخلق إلا وهو قادر، وكذلك لا يمكن أن يخلق إلا وهو عالم. مثال ثانٍ: اسم العليم يدل على ذات الله وعلمه: أي دلالة الاسم على المسمى، وعلى الصفة المشتقة من الاسم نفسه؛ فهذه دلالة مطابقة. ويدل على ذات الله وحدها، وعلى صفة العلم وحدها دلالة تضمنية. ويدل على صفة الحياة وغيرها بالالتزام، وهكذا ... 1

_ 1_ انظر المرشد السليم إلى المنطق الحديث والقديم د. عوض جاد حجازي، والصفات الإلهية د. محمد أمان ص178_179.

معاني الكلام الخبر والإنشاء

معاني الكلام الخبر والإنشاء مدخل ... معاني الكلام: الخبر والإنشاء والمقصود بمعاني الكلام ههنا: أقسامه من حيث كونه خبراً أو إنشاءاً. وهذا المبحث يتناوله علماء اللغة، والمعاني، والأصول، والكلام، وغيرهم. ويَرِد كثيراً في كتب العقائد. ويرى بعض الباحثين أن الكلام حول مفهوم الخبر والإنشاء قد نشأ مع نشأة الجدل في عصر المأمون حول فتنة القول بخلق القرآن؛ حيث بنى المعتزلة قولهم بخلق القرآن على أساس أن ما تضمنه لا يخرج عن واحد من ثلاثة: أمر، ونهي، وخبر. وذلك مما ينفي عنه صفة القدم _ بزعمهم _1. والحديث الآتي سيدور حول إعطاء صورة عامة ميسرة عن مفهوم الخبر والإنشاء الذي يسمى أحياناً بالطلب.

_ 1_ انظر علم المعاني د. عبد العزيز عتيق ص43.

أولا: الخبر

أولاً: الخبر: أ_ تعريفه: عرف الخبر بأنه: ما يحتمل الصدق والكذب لذاته. وقيل: الخبر ما يصح أن يقال لقائله: إنه صادق فيه أو كاذب؛ فإن كان مطابقاً للواقع كان قائله صادقاً، وإن كان غير مطابق للواقع كان قائله كاذباً2. وقال ابن فارس رحمه الله: "أما أهل اللغة فلا يقولون في الخبر أكثر من أنه: إعلام، تقول: أخبرته، أُخْبِره، والخبر هو العلم. وأهل النظر يقولون: الخبر ما جاز تصديق قائله أو تكذيبه.

_ 2_ انظر علم المعاني ص48.

وهو إفادة المخاطب أمراً في ماض من زمان، أو مستقبل، أو دائم نحو: قام زيد، ويقوم زيد، وقائم زيد. ثم يكون واجباً وجائزاً، وممتنعاً؛ فالواجب قولنا: النار محرقة، والجائز قولنا: لقي زيد عمراً، والممتنع قولنا: حَمَلَتْ الجَبَلُ"1. ب_ كون الخبر مثبتاً أو منفياً: الخبر الذي يحتمل الصدق أو الكذب لذاته إما أن يكون مثبتاً مثل: قام زيد، أو منفياً مثل: ما قام زيد. فكل واحد من المثالين يصح أن يقال لمن قاله: صدقت، أو كذبت. وهكذا بقية المعاني تدور بين الإثبات والنفي. ج_ معنى كون الخبر يحتمل الصدق والكذب لذاته: يقول البلاغيون: إن احتمال الخبر للصدق والكذب إنما يكون بالنظر إلى مفهوم الكلام الخبريِّ ذاته دون النظر إلى المُخبر أو الواقع؛ إذ لو نظرنا عند الحكم على الخبر بالصدق أو الكذب إلى المُخبر أو الواقع لوجدنا أن من الأخبار ما هو مقطوع بصدقه لا يحتمل كذباً، وما هو مقطوع بكذبه لا يحتمل صدقاً. فمن الأخبار المقطوع بصحتها، ولا تحتمل الكذب ألبتة: أخبار الله _عز وجل_ أي كل ما يخبر الله به، وكذلك أخبار رُسله _ عليهم الصلاة والسلام _. ومما يقطع بصحته البديهيات المألوفة مثل: السماء فوقنا، والأرض تحتنا، وماء البحر مالح، وماء النهر عذب. ومن الأخبار المقطوع بكذبها، ولا تحتمل الصدق: الأخبار المناقضة

_ 1_ الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها لأحمد بن فارس ص133.

للبديهيات نحو: الجزء أكبر من الكل، والأسبوع خمسة أيام. وكذلك الأخبار التي تتضمن حقائق معكوسة نحو: الأمانة رذيلة، والخيانة فضيلة. ولكن هذه الأخبار المقطوع بصحتها، أو المقطوع بكذبها إذا نظرنا إليها ذاتها دون النظر إلى قائلها، أو إلى الواقع كانت محتملة للصدق والكذب شأنها في ذلك شأن سائر الأخبار1. د_ المعاني التي يحتملها لفظ الخبر: قد يرد الكلام بلفظ الخبر، ويراد منه معانٍ أخرى. قال ابن فارس رحمه الله: "والمعاني التي يحتملها لفظ الخبر كثيرة: فمنها التعجب نحو: ما أحسن زيداً، والتمني نحو: ودِدتُك عندنا، والإنكار: ما له عليَّ حق، والنفي: لا بأسَ عليك، والأمر نحو قوله _ جل ثناؤه _: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] والنهي نحو قوله: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] والتعظيم نحو: سبحان الله، والدعاء نحو: عفا الله عنه، والوعد نحو قوله _ جل وعز _: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} [فصلت: 53] والوعيد نحو قوله: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الشعراء: 227] والإنكار والتبكيت نحو قوله _ جل ثناؤه _: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] . وربما كان اللفظ خبراً والمعنى شرطٌ وجزاء، نحو قوله: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15] .

_ 1_ انظر علم المعاني ص49.

فظاهره خبر، والمعنى: إنا إن نكشف عنكم العذاب تعودوا. ومثله {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229] المعنى: مَنْ طلقَ امرأته مرتين فليمسكها بعدهما بمعروف أو يسرحها بإحسان. والذي ذكرنا في قوله _ جل ثناؤه _: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} فهو تبكيت، وقد جاء في الشعر مثله، قال شاعر يهجو جريراً: أبلغْ جريراً وأبلغ مَنْ يُبلغُه ... أني الأغرُّ وأني زهرةُ اليَمَنِ فقال جرير مبكتاً له: ألم تكن في وُسُوم قد وَسَمْتَ بها ... من حَانَ موعظةٌ يا زهرة اليمنِ؟ ويكون اللفظ خبراً، والمعنى دعاء وطلب، وقد مر في الجملة. ونحوه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] معناه: فأعنا على عبادتك. ويقول القائل: "أستغفر الله"، والمعنى: اغْفِر. قال الله _ جل ثناؤه _: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ} [يوسف:92] . ويقول الشاعر: أستغفر الله ذنباً لستُ مُحْصِيَهُ ... ربَّ العبادِ إليه الوجهُ والعملُ"1

_ 1_ الصاحبي ص133_134.

ثانيا: الإنشاء

ثانياً: الإنشاء: الإنشاء هو قسيم الخبر، وقد يعبر عنه أحياناً بالطلبِ، والحديثُ عنه سيتناول ما يلي:

أ_ تعريفه: قيل: هو الكلام الذي لا يحتمل الصدق والكذب لذاته. وعلى حد تعبير البلاغيين: هو ما يستدعي مطلوباً غير حاصل في وقت الطلب. أو _ كما يقولون بعبارة أخرى _: هو ما يتأخر وجود معناه عن وجود لفظه1. ب_ أمثلة للإنشاء: 1_ قال أحد الحكماء لابنه: "يا بني تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الحديث". 2_ قال ابن عباس _ رضي الله عنهما _ يوصي رجلاً: "لا تتلكم بما لا يعنيك، ودع الكلام في كثير مما يعنيك حتى تجد له موضعاً"2. ج_ ما سبب كون الإنشاء لا يحتمل الصدق والكذب لذاته؟ : لأنه ليس لمدلول لفظه قبل النطق واقع خارجي يمكن أن يقارن به؛ فإن طابقه قيل: إنه صادق، وإن خالفه قيل: إنه كاذب. ولمزيد من التوضيح يمكننا النظر إلى المثالين الماضيين في فقرة ب. ففي المثال الأول نداء وأمر، وفي المثال الثاني نهي وأمر. وأنت لا تستطيع أن تقول لمن ينادي شخصاً، ويأمره، وينهاه: إنك صادق أو كاذب؛ لأنه لا يُعلمنا بحصول شيء أو عدم حصوله. إن من ينادي أو يأمر أو ينهى ليس لندائه، أو أمره، أو نهيه وجود خارجي قبل حصول النداء أو الأمر أو النهي؛ فكيف يحتمل كلامه الصدق أو الكذب، وذلك لا يكون إلا بمطابقة الواقع، أو عدم المطابقة.

_ 1_ انظر علم المعاني ص80. 2_ انظر معجم البلاغة العربية د. بدوي طبانة ص665.

وفي مثل هذه الأساليب لا واقع تعرض عليه مدلولاتها وتقارن به. ومثل هذا القول ينطبق على سائر أساليب وأنواع الإنشاء الأخرى من استفهام، وتمنٍّ، وغيرها. وعدم احتمال الأسلوب الإنشائي للصدق والكذب إنما هو بالنظر إلى ذات الأسلوب بغض النظر عما يستلزمه. وإلا فإنه يستلزم خبراً يحتمل الصدق والكذب؛ فقول القائل: "يا بني تعلم" يستلزم خبراً هو: أنا طالب منك التعلم، وقول القائل: "لا تتكلم" يستلزم خبراً هو: أنا طالب منك عدم التكلم، وهكذا ... ولكن ما تستلزمه الصيغة الإنشائية من الخبر ليس مقصوداً ولا منظوراً إليه. إنما المقصود والمنظور إليه هو ذات الصيغة الإنشائية. وبذلك يكون عدم احتمال الإنشاء للصدق والكذب إنما هو بالنظر إلى ذات الإنشاء1. د_ أقسام الإنشاء: ينقسم الإنشاء إلى قسمين: طلبي وغير الطلبي. - الإنشاء الطلبي: وهو الذي يستدعي مطلوباً غير حاصل وقت الطلب. وهو خمسة أنواع: 1_ الأمر: وهو طلب الفعل على وجه الاستعلاء والإلزام نحو قوله _ تعالى _: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ} [آل عمران: 200] . وللأمر أربع صيغ تنوب كل منها مناب الأخرى في طلب أي فعل من الأفعال

_ 1_ انظر البلاغة العربية ص665، وعلم المعاني ص74_75.

على وجه الاستعلاء والإلزام، وهي: أ_ فعل الأمر: كما في المثال الماضي، وكما في قوله _ تعالى _: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 103] . ب_ المضارع المقرون بلام الأمر: كما في قوله _ تعالى _: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [قريش: 3] . ج_ اسم فعل الأمر: كما في قوله _ تعالى _: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] . د_ المصدر النائب عن فعل الأمر كما في قوله _ تعالى _: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [البقرة: 83] . وقوله: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] . 2_ النهي: وهو طلب الكف عن الفعل، أو الامتناع عنه على وجه الاستعلاء والإلزام. وللنهي صيغة واحدة وهي المضارع المقرون بـ: لا الناهية الجازمة، نحو قوله _تعالى_: {وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} [الحجرات: 12] . 3_ الاستفهام: وهو طلب العلم بشيء لم يكن معلوماً من قبل بأداة خاصة. وأدوات الاستفهام كثيرة منها الهمزة، وهل، نحو قوله _ تعالى _: {أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} [النازعات: 10] . وقوله: {هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] . 4_ التمني: وهو طلب أمر محبوب لا يرجى حصوله إما لكونه مستحيلاً

_والإنسان كثيراً ما يحب المستحيل ويطلبه_ وإما لكونه ممكناً غير مطموع في نيله. فمثال الأول قول الشاعر: ألا ليت الشباب يعود يوماً ... فأخبره بما فعل المشيب ومثال الثاني قوله _ تعالى _: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص] . 5_ النداء: وهو طلب إقبال المدعو على الداعي بأحد حروف النداء. وهذه الحروف ينوب كل حرف منها مناب الفعل أدعو. وهي: الهمزة، وأي، ويا، وأيا، وهيا، وآ، وآي، ووا، نحو قوله _تعالى_: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب: 13] . هذه هي أنواع الإنشاء الطلبي على سبيل الإجمال، ولها في كتب اللغة والبلاغة وعلم المعاني على وجه التحديد تفصيلات يطول ذكرها 1. -الإنشاء غير الطلبي: وهو ما لا يستدعي مطلوباً. وله أساليب وصيغ كثيرة منها: 1_ صيغ المدح والذم، مثل: نعم وبئس، وحبذا ولا حبذا. 2_ وصيغ العقود نحو: بعت، واشتريت، ووهبت، وأعتقت. 3_ القسم: بالواو، أو بالباء، أو بالتاء. 4_ التعجب، نحو: ما أكرمه، وأكرم به. 5_ الرجاء بـ: عسى، أو اخلولق، وحرى مثل: {فَعَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ

_ 1_ انظر الصاحبي ص134_141، وعلم المعاني ص75_129.

أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ} [المائدة: 52] . ولا يبحث علماء البلاغة في الإنشاء غير الطلبي؛ لأن أكثر صيغه في الأصل أخبار نقلت إلى الإنشاء 1.

_ 1_ انظر البلاغة العربية ص480_481.

القضاء والقدر

القضاء والقدر مدخل ... القضاء والقدر لفظان يردان كثيراً في الكتاب والسنة، وفي كتب العقائد، وفيما يلي معالم في هذين اللفظين.

أولا: القضاء

أولاً: القضاء: 1_ تعريف القضاء لغة: القضاء في اللغة مصدر الفعل قضى يقضي قضاءاً. قال ابن فارس رحمه الله في مادة قضى: "القاف، والضاد، والحرف المعتل _ أصل صحيح يدل على إحكام أمر، وإتقانه، وإنفاذه لجهته. قال الله _ تعالى _: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12] . أي أحكم خلقهن، ثم قال أبو ذؤيب الهذلي: وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو نَسَجُ السوابغِ تُبَّعُ1 والقضاء: هو الحكم، والصنع، والحتم، والبيان. وأصله القطع، والفصل، وقضاء الشيء، وإحكامه، وإمضاؤه، والفراغ منه؛ فيكون بمعنى الخلق2. 2_ إطلاقات القضاء في القرآن الكريم: يطلق لفظ القضاء في القرآن إطلاقات

_ 1_ معجم مقاييس اللغة لابن فارس 5/99. 2_ انظر تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص441_442 وانظر المفردات لغريب القرآن للراغب الأصفهاني ص423، وانظر لسان العرب لابن منظور 15/186، والقاموس للفيروز بادي ص1708.

عديدة منها1: أ_ الوصية والأمر: قال الله _ تعالى _: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] ، أي أمر وأوصى. ب_ الإخبار: قال _ تعالى _: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء: 4] . ج_ الفراغ: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200] . وقال: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ} [النساء:103] . د_ الفعل: قال _ تعالى _: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه: 72] . هـ_ الوجوب والحتم: قال _ تعالى _: {وَقُضِيَ الأَمْرُ} . وقال _ تعالى _: {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41] . و_ الكتابة: قال _ تعالى _: {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} [مريم: 21] . ز_ الإتمام: قال _ تعالى _: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ} [القصص: 29] . وقال _ تعالى _: {أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} [القصص:28] . ح_ الفصل: قال _ تعالى _: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} [الزمر: 69] . ط_ الخلق: قال _ تعالى _: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12] . ي_ القتل: قال _ تعالى _: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15] .

_ 1_ انظر ياقوتة الصراط في تفسير غريب القرآن لأبي عمر محمد بن عبد الواحد البغدادي المعروف بغلام ثعلب ص253، ص306، ص576، وتأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص441_442 ومعجم مقاييس اللغة 5/99، والمفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص423_424، ومعجم ألفاظ القرآن الكريم مجمع اللغة العربية ص509_511، والوجوه والنظائر د. سليمان القرعاوي ص529_536.

ثانيا: القدر

ثانياً: القدر: 1_ القدر في اللغة: "مصدر الفعل قَدِرَ يقْدَرُ قدَرَاً، وقد تسكن دالُه"1. قال ابن فارسرحمه الله في مادة قدر: "قدر: القاف، والدال، والراء، أصل صحيح يدل على مبلغ الشيء وكنهه، ونهايته؛ فالقدْر مبلغ كل شيء، يقال: قَدْرُه كذا أي مبلغه، وكذلك القدَرُ، وقدَرْت الشيء أقدِره وأقدُره من التقدير"2. والقدَر محركة: القضاء، والحكم، وهو ما يقدِّره الله _عز وجل_ من القضاء، ويحكم به من الأمور. والتقدير: التروية، والتفكير في التسوية أمر، والقَدَرُ كالقَدْر وجميعها جمعها: أقدار3. والفرق بين القدر والتقدير _ كما يقول أبو هلال العسكري_ "أن التقدير يُستعمل في أفعال العباد ولا يُستعمل القدر إلا في أفعال الله _ عز وجل _"4. 2_ إطلاقات القدر في القرآن الكريم: يطلق القدر في القرآن عدة إطلاقات منها5: أ_ التضييق: قال _ تعالى _: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر:16] .

_ 1_ النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 4/22. 2_ معجم مقاييس اللغة 5/62، وانظر ياقوتة الصراط ص576، والنهاية 4/23. 3_ انظر لسان العرب 5/72، والقاموس المحيط ص591. 4_ الفروق في اللغة لأبي هلال العسكري ص328. 5_ انظر ياقوتة الصراط في تفسير غريب القرآن ص576، والمفرادت في غريب القرآن ص410_413، ومعجم ألفاظ القرآن الكريم لمجمع اللغة العربية ص495_496.

ب_ التعظيم: قال _ تعالى _: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] . ج_ الاستطاعة، والتغلب، والتمكن: قال _ تعالى _: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} المائدة: 34. د_ التدبير: قال _ تعالى _: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} المرسلات:23، أي دبَّرنا الأمور، أو أردنا وقوعها بحسب تدبيرنا. هـ_ تحديد المقدار، أو الزمان، أو المكان: قال _ تعالى _: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} [سبأ:18] . وقال: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت:10] . و_ الإرادة: قال _ تعالى _: {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 12] أي دبِّر، وأريد وقوعه. ز_ القضاء والإحكام: قال _تعالى_: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ} [لواقعة:60] أي قضينا، وحكمنا. ح_ التمهل والتَّروي في الإنجاز: قال _ تعالى _: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} [المدثر:18] أي تمهَّل، وتروَّى؛ ليتبين ما يقوله في القرآن. وقال: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 11] . أي تمهلْ، وتروَّ في السرد؛ كي تحكمه. ط_ الصنع بمقادير معينة: قال _ تعالى _: {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} [الإنسان: 16] .

ثالثاً: العلاقة بين القضاء والقدر: من خلال ما سبق من تعريف القضاء والقدر في اللغة وبيان إطلاقاتهما في القرآن يتبين مدى العلاقةِ بينهما، والعلاقةِ بين المدلول اللغوي والشرعي _ كما سيأتي _. فكلٌّ مِن القضاء والقدر يأتي بمعنى الآخر؛ فمعاني القضاء تؤول إلى إحكام الشيء، وإتقانه، ونحو ذلك من معاني القضاء. ومعاني القدر تدور حول ذلك، وتعود إلى التقدير، والحكم، والخلق، والحتم، ونحو ذلك. ولهذا سيكون التعريف الشرعي شاملاً للقضاء والقدر، ثم بعد ذلك يكون الحديث عن الفروق بينهما.

ثالثا: القضاء والقدر في الاصطلاح الشرعي

ثالثا: القضاء والقدر في الاصطلاح الشرعي ... رابعاً: القضاء والقدر في الاصطلاح الشرعي: هناك بعض ممن تطرق لتعريف القضاء والقدر يعرفه ببعض أفراده أو بعمومه دون تفصيل، أو إشارة إلى مراتبه وأركانه. فهذا الجرجاني رحمه الله يعرف القدر فيقول: "القدر: خروج الممكنات من العدم إلى الوجود واحداً بعد واحد مطابقاً للقضاء. والقضاء في الأزل، والقدر فيما لا يزال"1. وقال رحمه الله في تعريف القضاء: "القضاء لغة: الحكم.

_ 1_ التعريفات للجرجاني ص174.

وفي الاصطلاح: عبارة عن الحكم الكلي الإلهي في أعيان الموجودات على ما هي عليه من الأحوال الجارية في الأزل إلى الأبد1"2. وهذا التعريف صحيح، ولكن ينقصه الشمول، واستيعاب جميع الأفراد؛ وهي مراتب القدر الأربع. ويمكن أن يعرف القضاء والقدر بأحد التعريفات التالية: أ_ هو ما سبق به العلم، وجرى به القلم مما هو كائن إلى الأبد، وأنه _عز وجل_ قدر مقادير الخلائق، وما يكون من الأشياء قبل أن تقع في الأزل، وعلم _ سبحانه وتعالى _ أنها ستقع في أوقات معلومة عنده _تعالى_ وعلى صفات مخصوصة؛ فهي تقع على حسب ما قدرها"3. ب_ وعُرِّف بأنه: تقدير الله للكائنات حسبما سبق به علمُه، واقتضته حكمته4. وهو تعريف مختصر لطيف. ج_ هو تقدير الله _ تعالى _ للأشياء في القِدَم، وعلمه _ سبحانه _ أنها ستقع في أوقات معلومة وعلى صفات مخصوصة، وكتابته لذلك، ومشيئته له، ووقوعها

_ 1_ الأزل: هو الشيء الذي لا بداية له، والأبد: هو الشيء الذي لا نهاية له. أو يقال: الأزل: هو استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية من جانب الماضي، والأبد: هو استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية من جانب المستقبل. انظر التعريفات للجرجاني ص7. 2_ التعريفات للجرجاني ص177. 3_ هذا تعريف السفاريني × انظر لوامع الأنوار البهية 1/348. 4_ هذا تعريف الشيخ محمد بن عثيمين × انظر كتابه رسائل في العقيدة ص37.

على حسب ما قدرها، وخلقه لها1. وهذا التعريف من أجمع التعاريف، وأشملها. د_ ويمكن أن يعرف القضاء والقدر تعريفاً مختصراً فيقال: هو علم الله بالأشياء، وكتابته، ومشيئته، وخلقه لها.

_ 1_ هذا تعريف الشيخ د. عبد الرحمن المحمود، انظر كتابيه: القضاء والقدر ص39 وموقف ابن تيمية من الأشاعرة 3/1310.

رابعا: الفروق بين القضاء والقدر

رابعا: الفروق بين القضاء والقدر ... خامساً: الفروق بين القضاء والقدر: اختلف العلماء في ذلك على أقوال، وفيما يلي ذكر لشيء من ذلك: 1_ قيل: "المراد بالقدر: التقدير، وبالقضاء: الخلق كقوله _تعالى_: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12] ، أي خلقهن. فالقضاء والقدر أمران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما بمنزلة الأساس وهو القدر، والآخر بمنزلة البناء وهو القضاء؛ فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه"2. وقال الراغب الأصفهاني رحمه الله: "والقضاء من الله أخص من القدر؛ لأنه الفصل بين التقدير؛ فالقدر هو التقدير، والقضاء هو الفصل والقطع. وقد ذكر بعض العلماء أن القدر بمنزلة المُعَدِّ للكيل، والقضاء بمنزلة الكيل"3. 2_ وقيل العكس؛ فالقضاءُ هو العلم السابق الذي حكم الله به في الأزل،

_ 2_ لسان العرب 5/186، والنهاية 4/78، وانظر الفروق في اللغة لأبي هلال العسكري ص328. 3_ المفردات ص423_424.

والقدرُ هو وقوع الخلق على وزن الأمر المقضي السابق1. قال الجرجاني رحمه الله: "والفرق بين القدر والقضاء هو أن القضاء وجود جميع الموجودات في اللوح المحفوظ مجتمعة، والقدر وجودها متفرقة في الأعيان بعد حصول شرائطها"2. وقال مثل ذلك عند تعريفه للقضاء والقدر _ كما مر _. 3_ أنه لا فرق بين القضاء والقدر؛ فكل واحد منهما بمعنى الآخر؛ فإذا أطلق التعريف على أحدهما شمل الآخر؛ ويعبر عن كل واحد منهما كما يعبر عن الآخر؛ فهما مترادفان من هذا الاعتبار، فيقال: هذا قدر الله، ويقال: هذا قضاء الله، ويقال: هذا قضاء الله وقدره3. ولعل الأقرب _ والله أعلم _ أنهما إذا اجتمعا افترقا؛ بحيث يصبح لكل واحد منهما مدلول بحسب ما سبق في الأقوال السابقة. وإذا افترقا اجتمعا؛ بحيث إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر4. وبالجملة فالأمر يسير، والخلاف فيها لا يترتب عليه شيء.

_ 1_ انظر القضاء والقدر د. عمر الأشقر ص27. 2_ التعريفات ص174. 3_ انظر القضاء والقدر د. عبد الرحمن المحمود ص41. 4_ انظر الدرر السنية، جمع الشيخ عبد الرحمن بن قاسم 1/512_513.

موانع إنفاذ الوعيد

موانع إنفاذ الوعيد هذه مسألة ترد في كتب العقائد خصوصاً في باب الإيمان، وحكم مرتكب الكبيرة، وعند مناقشة الوعيدية كالخوارج والمعتزلة. وهذه المسألة تسمى: موانع إنفاذ الوعيد، وتسمى بـ: الأسباب التي تندفع بها العقوبة. ومما يوضح هذه المسألة أن يقال: إن الذنوب موجبة لدخول النار، وصاحبها متوعد بالعذاب إلا أن هناك أسباباً تندفع بها العقوبة، وينتفي بسببها الوعيد، ويزول موجب الذنوب. وهذه الأسباب تسمى موانع إنفاذ الوعيد، أي موانع إيقاع العذاب على مستحقه. وهذه الأسباب عشرة عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن عقوبة الذنوب تزول عن العبد بنحو عشرة أسباب: أحدها: التوبة، وهذا متفق عليه بين المسلمين"1. ثم شرع رحمه الله في ذكر باقي الموانع بالتفصيل. وقال في موضع آخر: "والمؤمن إذا فعل سيئة فإن عقوبتها تندفع عنه بعشرة أسباب:

_ 1_ مجموع الفتاوى 7/487.

1_ أن يتوب فيتوب الله عليه؛ فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. 2_ أو يستغفر، فيغفر الله له. 3_ أو يعمل حسناتٍ تمحوها؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات. 4_ أو يدعو له إخوانه المؤمنون، ويستغفرون له حياً وميتاً. 5_ أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما ينفعه الله به. 6_ أو يشفع فيه نبيه محمدٌ ". 7_ أو يبتليه الله ـ تعالى ـ في الدنيا بمصائب تكفَّر عنه. 8_ أو يبتليه في البرزخ بالصعقة، فيكفر بها عنه. 9_ أو يبتليه في عرصات القيامة من أهوالها بما يكفِّر عنه. 10_ أو يرحمه أرحم الراحمين. فمن أخطأته هذه العشرة فلا يلومن إلا نفسه، كما قال ـ تعالى ـ فيما يرويه عنه ـ رسول الله " "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم أياها؛ فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".1 2 وقال في الاستقامة: "فإن الذنوب التي يُبتلى بها العبادُ يسقط عنهم عذابُها إما بتوبة تَجُبُّ ما قبلها، وإما باستغفار، وإما بحسنات ماحية يذهبن السيئات، وإما بدعاء المسلمين وشفاعتهم، أو بما يفعلونه له من البر، وإما بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

_ 1_ رواه مسلم 2577. 2_ مجموع الفتاوى 10/45_46.

وغيره فيه يوم القيامة، وإما أن يكفِّر الله عنه خطاياه بما يصيبه من المصائب"1. ومما يحسن التنبيه عليه ههنا أن التوبة وحدها هي التي يزول بها موجب الذنوب للمؤمن والكافر، أما باقي الموانع فهي خاصة بالمؤمن.

_ 1_ الاستقامة 2/184_185.

التوبة والاستغفار

التوبة والاستغفار التوبة والاستغفار داخلان ضمن موانع إنفاذ الوعيد _كما مر في الفقرة الماضية_. وإنما أفردا هنا لما للتوبة من المزية _ كما مر _ ولحصول الخلط بينهما وبين الاستغفار عند بعض الناس. وفيما يلي بيان لمفهوم التوبة، ثم ينتقل الحديث إلى الفروق بينهما وبين الاستغفار. أولاً_ تعريف التوبة في اللغة: التوبة مصدر الفعل تاب، وأصل هذه المادة: التاء، والواو، والباء توب. وهي تدور حول معاني الرجوع، والعودة، والإنابة، والندم. قال ابن فارسرحمه اللهفي مادة توب: "التاء، والواو، والباء كلمة واحدة تدل على الرجوع". يقال: تاب من ذنبه: أي رجع عنه، يتوب إلى الله توبةً، ومتاباً فهو تائب. والتوب: التوبة، قال الله _تعالى_: {قَابِلِ التَّوْبِ} [غافر: 3] "1. وقال ابن منظور رحمه الله: "وتاب إلى الله يتوب توباً، وتوبة، ومتاباً: أناب، ورجع عن المعصية إلى الطاعة"2. والتوبة تكون من الله على العبد، ومن العبد إلى الله؛ فإذا كانت من الله عُدِّيت

_ 1_ معجم مقاييس اللغة لابن فارس 1/357. 2_ لسان العرب لابن منظور 1/233.

بعلى، وإذا كانت من العبد إلى الله عديت بإلى. قال الله _تعالى_: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:17] . وقال _عز وجل_: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] . وقال: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} [الفرقان: 71] . قال ابن منظور رحمه الله: "وتاب الله عليه: وفقه لها، ورجل تواب: تائب إلى الله، والله تواب: يتوب على عبده"1. وقال: "وقال أبو منصور: أصل تاب: عاد إلى الله، ورجع، وأناب، وتاب الله عليه: أي عاد عليه بالمغفرة"2. ثانياً_ تعريف التوبة في الشرع: عرفت التوبة إلى الله في الشرع بعدة تعريفات، والمدلول الشرعي للتوبة قريب من المدلول اللغوي، فمما عرفت به التوبة في الشرع مايلي: 1_ قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: "قيل في حد التوبة أنه ذوبان الحشا لما سبق من الخطأ"3. ثم علق على هذا الحد فقال: "فإن هذا يعرض لمجرد الألم ولذلك قيل:

_ 1_ لسان العرب 1/233. 2_ المرجع السابق. 3_ إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي 4/4.

2_ "هو نار في القلب تلتهب، وصدع في الكبد لا ينشعب"1. 3_ وقال: "وباعتبار معنى الترك قيل في حد التوبة: إنه خلع لباس الجفاء، ونشر بساط الوفاء"2. 4_ وقال: ومن معانيها3: "ترك المعاصي في الحال، والعزم على تركها في الاستقبال، وتدارك ما سبق من التقصير في سابق الأحوال"4. 5_ وقال ابن القيم رحمه الله في تعريف التوبة: "فحقيقة التوبة هي الندم على ما سلف منه في الماضي، والإقلاع عنه في الحال، والعزم على ألا يعاوده في المستقبل"5. 6_ وقال _أيضاً_: "حقيقة التوبة الرجوع إلى الله بالتزام فعل ما يحب، وترك ما يكره؛ فهي رجوع من مكروه إلى محبوب؛ فالرجوع إلى المحبوب جزء مسماها، والرجوع عن المكروه الجزء الآخر"6. 7_ وقال: "التوبة هي الرجوع مما يكرهه الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه ظاهراً وباطناً"7.

_ 1_ إحياء علوم الدين 4/4. 2_ إحياء علوم الدين 4/4. 3_ يعني التوبة. 4_ إحياء علوم الدين 4/5. 5_ مدارج السالكين لابن القيم 1/199. 6_ مدارج السالكين 1/313. 7_ مرجع سابق.

8_ وقال ابن حجررحمه الله: "والتوبة ترك الذنب على أحد الأوجه. وفي الشرع: ترك الذنب؛ لقبحه، والندم على فعله، والعزم على عدم العود، وردُّ المظلمة إن كانت، أو طلب البراءة من صاحبها، وهي أبلغ وجوه الاعتذار"1. 9_ ويمكن أن تعرف التوبة بأنها: ترك الذنب علماً بقبحه، وندماً على فعله، وعزماً على ألا يعود إليه إذا قدر، وتداركاً لما يمكن تداركه من الأعمال، وأداءً لما ضيع من الفرائض؛ إخلاصاً لله، ورجاءً لثوابه، وخوفاً من عقابه، وأن يكون ذلك قبل الغرغرة، وقبل طلوع الشمس من مغربها. ومن خلال ما سبق يتبين لنا أن التوبة لا بد أن يجتمع فيها الأمور التالية: 1_ الإقلاع عن الذنب. 2_ الندم على ما فات، والحد الأدنى من ذلك وجود أصل الندم، وأما قوة الندم وضعفه فبحسب قوة التوبة، وضعفها. 3_ العلم بقبح الذنب. 4_ العزم على ألا يعود. 5_ تدارك ما يمكن تداركه من رد المظالم ونحو ذلك 6_ أن تكون خالصة لله _عز وجل_ قال _تعالى_: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] . 7_ أن تكون قبل الغرغرة، لما جاء عن ابن عمر _رضي الله عنهما_ عن

_ 1_ فتح الباري لابن حجر العسقلاني 11/106.

النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله _ تعالى _ يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" 1. وتقبل التوبة قبل الغرغرة ... كما أتى في الشرعة المطهرة2 والغرغرة هي حشرجة الروح في الصدر، والمرادُ بذلك الاحتضارُ عندما يرى الملائكة، ويبدأ به السياق في الموت. 8_ أن تكون قبل طلوع الشمس من مغربها لما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عليه وسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه" 3. ثالثاً _ فروق بين التوبة والاستغفار: هناك فروق بين التوبة والاستغفار، ومن ذلك ما يلي: 1_ يختلفان في أصل المادة؛ فمادة التوبة: تَوَب، ومادة الاستغفار: غفر. 2_ يختلفان في التعريف، فالتوبة مرَّ تعريفها، والاستغفار هو طلب المغفرة،

_ 1_ رواه أحمد 2/ 132،2/153،والترمذي 3537، وابن ماجه 4253، وأبو يعلى في مسنده 9/462، 10/81، ومن طريقه ابن حبان في صحيحه 628، والحاكم 4/ 286، وصححه، ووافقه الذهبي، وعبد بن حميد في مسنده _ كما في المنتخب من مسند عبد بن حميد 847_، وابن الجعد في مسنده 3404، والطبراني في مسند الشاميين 194، والبغوي في شرح السنة 1306، وأبو نعيم في الحلية 5/190، كلهم من طريق عبد الرحمن بن ثابت ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن جبير بن نفير عن ابن عمر به. وعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان مختلف فيه، إلا أن له شاهداً عن عبادة بن الصامت بسند منقطع عند القضاعي في مسند الشهاب 1085. وله شاهداً آخر عند أحمد 3/425، 5/362، والحاكم 4/286. 2_ البيت للشيخ حافظ الحكمي رحمه الله، انظر كتابه معارج القبول 2/301. 3_ مسلم 2703.

وهي وقاية شر الذنوب مع سترها. 3_ الاستغفار قد يكون مع الإصرار على الذنب، أما التوبة فلا تكون إلا بالإقلاع، وترك الإصرار. 4_ التوبة تقبل، وتمحى بها الذنوب، وقد تبدل حسنات إذا كانت التوبة حسنةً نصوحاً. أما الاستغفار فهو مجرد دعاء كسائر الأدعية قد يقبل وقد لا يقبل، قال _تعالى_: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر:3] . 5_ الاستغفار يقوم به الإنسان عن نفسه، وعن غيره من إخوانه المسلمين، كما قال _ تعالى _ عن نوح _ عليه السلام _: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28] . أما التوبة فلا يقوم بها إلا الإنسان المريد لها؛ إذ لا يصح أن يتوب أحد عن أحد. 6_ أنه جاء الأمر من الله _ عز وجل _ بأن يستغفر المؤمن لذنبه، ويستغفر للمؤمنين والمؤمنات، كما قال _ عز وجل _: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19] . ولم يجئ الأمر بأن يتوب عن أحد من الناس. 7_ أن المسلم يؤجر إذا استغفر للمؤمنين والمؤمنات، فيكون له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة إذا هو استغفر لهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن

ومؤمنة حسنة" 1. أما التوبة فلا يتأتى فيها مثل ذلك؛ لما سبق من أنه لا يتوب أحد عن أحد. 8_ أن الملائكة _ عليهم السلام _ يستغفرون للذين آمنوا، ولم يأتِ أنهم يتوبون عنهم؛ لما تقرر آنفاً. قال _ تعالى _: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7] . 9_ أن التوبة تنتهي بغرغرة الإنسان، أي إذا كان في سياق الموت، فلا يمكنه التوبة في ذلك الوقت، ولا بعده. أما الاستغفار فقد يُستغفر للإنسان إذا كان حياً، أو في سياق الموت، أو بعد الموت. 10_ أن الاستغفار له أوقات مطلقة، ومقيدة؛ فالمطلق أن يستغفر الإنسان في كل وقت. والمقيد كالاستغفار في الجلوس بين السجدتين، وكالاستغفار بعد التسليم من الصلاة، وكالاستغفار بعد الإفاضة من الحج، وكالاستغفار بالأسحار. أما التوبة فتشرع في كل وقت، بل لا يجوز تأخيرها، ولا التسويف فيها، ما دام الإنسان لم يغرغر، والشمس لم تطلع من مغربها.

_ 1_ ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 10/210، وقال: "إسناده جيد"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع 6026.

11_ قد يقال: إنهما إذا افترقا اجتمعا، فإذا ذكر الاستغفار وحده في سياق دخلت معه التوبة، وإذا ذكرت وحدها شملت الاستغفار؛ فالتوبة تتضمن الاستغفار، والاستغفار يتضمن التوبة؛ فكل واحد منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق، أي إذا ذكر كل واحد منهما على حدة. 12_ وإذا اجتمعا افترقا؛ فعند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى كما في قوله _تعالى_: {وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود:3] يكون الاستغفار طلبَ وقاية شر ما مضى، وتكون التوبة: الرجوع، وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل. 13_ وعند اقترانهما _ أيضاً _ يكون الاستغفار عبارةً عن طلب المغفرة باللسان، والتوبة عبارة عن الإقلاع عن الذنوب بالقلب، والجوارح. 14_ الاستغفار يكون بصيغة طلب، كقولك: "رب اغفر لي" والتوبة طلب، وعزم، وندم، وفعل، وترك. 15_ التوبة قد يترتب عليها تخلص من حقوق، وتحلل من مظالم، أما الاستغفار فهو مجرد دعاء كسائر الأدعية التي يدعو بها الإنسان لنفسه، أو لغيره. 16_ التوبة تكون من الله، وتكون من العبد، والله _ عز وجل _ تواب، والعبد تواب؛ والله _ عز وجل _ يتوب، والعبد يتوب؛ فإذا كانت التوبة من الله عُدِّيت بـ: على، وإذا كانت من العبد إلى الله عُدِّيت بـ: إلى؛ كما قال _عز وجل_: {فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:17] ، وقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً} [النور:31] . أما الاستغفار فلا يقال فيه كذلك، بل يقال: إن الله غافر، والعبد مستغفر. 17_ التوبة لا بد أن تكون بقصد ونية، أما الاستغفار فقد يُبذل للإنسان دون

قصده، ودون نيته، بل ربما دون علمه. 18_ أن الله _ عز وجل _ يفرح بتوبة التائب، كما في حديث: "لله أفرح بتوبة العبد" الحديث. ولم يرد أنه _ عز وجل _ يفرح بالاستغفار بل ولا غيره من سائر العبوديات إلا التوبة. وليس معنى ذلك أن تلك العبوديات ليست محبوبة لله، وإنما المقصود أن الفرح خاص بالتوبة. 19_ أن التوبة تقبل، بل وتطلب من كل أحد مؤمناً كان أم كافراً، براً أم فاجراً. أما الاستغفار فلا يقبل إلا من المؤمن، وللمؤمن؛ فلا يقبل من الكافر، ولا يجوز أن يستغفر للكافر، قال _ تعالى _: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:8] . وقال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} [التوبة:113] . 20_ أن التوبة تكون من فعل محرمٍ أو مكروهٍ، أو تركِ واجبٍ أو مستحب. أما الاستغفار فيكون عن ذلك، وقد لا يكون عن شيء من ذلك، بل قد يقوله الإنسان كذكرٍ مجردٍ، يرجو به الدرجات والحسنات1.

_ 1_ انظر الوصية الصغرى لابن تيمية ص109_113، وجامع العلوم والحكم 2/407، ونتائج الأفكار في شرح حديث سيد الاستغفار للسفاريني ص285_292.

الكبائر والصغائر

الكبائر والصغائر مصطلح الكبائر والصغائر يرد في كتب العقائد، وذلك إذا تحدثوا عن الذنوب، وتقسيمها، وحكم مرتكب الكبيرة في الدنيا والآخرة، وهكذا ... وفيما يلي نبذة عن تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر، والأدلة على ذلك، مع بيان ماهية الصغائر والكبائر سواء عند من حصروا الكبائر بعدد أو حدوها بحد، ثم ينتقل الحديث إلى مسألة تكفير الكبائر بالأعمال الصالحة، وهل هذا ممكن أو أنه لا بد من التوبة؛ فإلى التفصيل في ذلك الشأن: أولاً: تقسيم الذنوب: الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، قال الغزالي رحمه الله: "اعلم أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، وقد كثر اختلاف الناس فيها؛ فقال قائلون: لا صغيرة ولا كبيرة، بل كل مخالفة لله فهي كبيرة. وهذا ضعيف؛ إذ قال _ تعالى _: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} النساء:31 وقال _ تعالى _: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} [النجم:32] . وقال صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة يكفرن ما بينهن إن اجتنبت الكبائر" وفي لفظ آخر: "كفارات لما بينهن إلا الكبائر" 1. وقد قال " فيما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص _ رضي الله عنهما _:

_ 1_ رواه مسلم 233.

"الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس" 12. وقال ابن القيم رحمه الله: "وقد دل القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين بعدهم والأئمة على أن من الذنوب كبائرَ وصغائر"3. وقال رحمه الله: "والذين لم يقسموها إلى كبائر وصغائر قالوا: الذنوب كلها _بالنسبة إلى الجراءة على الله سبحانه ومعصيته ومخالفة أمره_ كبائر؛ فالنظر إلى من عُصي أمرُه، وانتُهك محارمه يوجب أن تكون الذنوب كلها كبائر، وهي مستوية في هذه المفسدة"4. وقال _بعد أن ساق بعض ما أورده مَنْ قال: إن الذنوب كلها كبائر_: "فالشرك أظلم الظلم، والتوحيد أعدل العدل؛ فما كان أشدَّ منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر، وتفاوتها في درجاتها بحسب منافاتها له، وما كان أشدَّ موافقة لهذا المقصود فهو أوجب الواجبات، وأفرض الطاعات؛ فتأمل هذا الأصل حق التأمل، واعتبر تفاصيله تعرف به حكمة أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين فيما فرضه على عباده، وحرمه عليهم، وتفاوتَ مراتب الطاعات والمعاصي"5. ثانياً: ما هية الصغائر والكبائر عند من حصروها بعدد: اخْتُلِفَ في تحديد

_ 1_ رواه البخاري 6656. 2_ إحياء علوم الدين 4/17. 3_ الجواب الكافي ص306. 4_ الجواب الكافي ص 309. 5_ الجواب الكافي 312.

الكبائر وحصرها؛ فقيل في ذلك أقوال منها1: 1_ قال عبد الله بن مسعود÷: هي أربع. 2_ وقال عبد الله بن عمر_ رضي الله عنهما _: هي سبع. 3_ وقال عبد الله بن عمرو بن العاص _ رضي الله عنهما _: هي تسع. 4_ وكان ابن عباس _ رضي الله عنهما _ إذا بلغه قول ابن عمر: الكبائر سبع يقول: هن إلى سبعين أقرب منها إلى سبع. 5_ وقال آخر: هي إحدى عشرة. 6_ وقال أبو طالب المكي: جمعتها من أقوال الصحابة فوجدتها أربعة في القلب وهي: الإشراك بالله، والإصرار على المعصية، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله. وأربعة في اللسان، وهي: شهادة الزور، وقذف المحصنات، واليمين الغموس، والسحر2. وثلاثة في البطن: شرب الخمر، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا. واثنين في الفرج: الزنا، واللواط. واثنين في اليدين وهما القتل والسرقة. وواحداً في الرجلين وهو الفرار من الزحف. وواحداً يتعلق بجميع الجسد وهو عقوق الوالدين.

_ 1_ انظر إحياء علوم الدين 4/17_18، والجواب الكافي 308_309. 2_ السحر لا يقتصر على اللسان، بل تشترك الجوارح في عمله.

هذه أقوال الذين حصروها بعدد. ثالثاً: ماهية الكبائر والصغائر عند من حدوها بحد، ولم يحصروها بعدد: وأما الذين لم يحصروا الكبائر بعدد، وإنما حدوها بحد فقد اختلفوا في ذلك على أقوال منها: 1_ ما اقترن بالنهي عنه وعيد من لعن، أو غضب، أو عقوبة _ فهو كبيرة، وما لم يقترن به شيء فهو صغيرة. 2_ وقيل: كل ما ترتب عليه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة _ فهو كبيرة، وما لم يرتب عليه لا هذا ولا هذا فهو صغيرة 1. 3_ وقيل: كل ما اتفقت الشرائع على تحريمه فهو من الكبائر، وما كان تحريمه في شريعة دون شريعة فهو صغيرة. 4_ وقيل: كل ما لعن الله ورسوله فاعله فهو كبيرة. 5_ وقيل: هي كل ما ذكر من أول سورة النساء إلى قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] . رابعاً: هل الحسنات والأعمال الصالحة تكفر الصغائر والكبائر على حد سواء أم لا بد في الكبائر من التوبة؟ والجواب على ذلك أن هذه المسألة قد اختلف فيها على قولين: قال ابن رجب رحمه الله: في جامع العلوم 1/ 425_426: "وقد اختلف في

_ 1_ وهذا ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية × في مجموع الفتاوى 11/650، وقال في 11/650: "إنه أمثل الأقوال في هذه المسألة"، وقال في 11/654: "وإنما قلنا: إن هذا الضابط أولى من سائر تلك الضوابط المذكورة لوجوه ... " ثم ذكر خمسة وجوه.

مسألتين: إحداهما: هل تكفر الأعمال الصالحة الكبائر والصغائر؟ أو لا تكفر سوى الصغائر؟ فمنهم قال: لا تكفِّر سوى الصغائر, وقد روي هذا عن عطاء, وغيره من السلف في الوضوء أنه يكفر الصغائر, وقال سلمان الفارسي في الوضوء: إنه يكفر الجراحات الصِّغار, والمشي إلى المساجد يكفر أكبر من ذلك, والصلاة تكفر أكبر من ذلك, خرجه محمد بن نصر المروزي. وأما الكبائر فلا بد لها من التوبة؛ لأن الله أمر العباد بالتوبة, وجعل من لم يتب ظالماً, واتفقت الأمة على أن التوبة فرض, والفرائض لا تؤدى إلا بنية وقصد, ولو كانت الكبائر تقع مكفرة بالوضوء, والصلاة, وأداء بقية أركان الإسلام _ لم يحتج إلى التوبة, وهذا باطل بالإجماع". ثم ساق رحمه الله جملة من الأقوال والآثار في تأييد هذا القول. وانتقل بعد ذلك على القول الثاني في هذه المسألة, فقال 1/428: "وذهب قوم من أهل الحديث, وغيرهم إلى أن هذه الأعمال تكفر الكبائر ومنهم ابن حزم الظاهري, وإياه عنى ابن عبد البر في كتاب التمهيد بالرد عليه, وقال: "قد كنت أرغب بنفسي عن الكلام في مثل هذا الباب لولا قول ذلك القائل, وخشيت أن يغتر به جاهل, فينهمك في الموبقات؛ اتكالاً على أنها تكفرها الصلوات دون الندم, والاستغفار والتوبة"ا. هـ ثم قال ابن رجب 2/429 رحمه الله: "والصحيح قول الجمهور: إن الكبائر لا تكفَّر بدون التوبة؛ لأن التوبة فرض على العباد".

ثم ساق جملة من الآثار التي تؤيد هذا القول. ثم قال 2/438: "والأظهر _والله أعلم في هذه المسألة_ أعني مسألة تكفير الكبائر بالأعمال_ أنه أريد أن الكبائر تمحى بمجرد الإتيان بالفرائض, وتقع الكبائر مُكفَّرة بذلك كما تكفر الصغائر باجتناب الكبائر _ فهذا باطل. وإن أريد أنه يوازَن يوم القيامة بين الكبائر وبين بعض الأعمال, فتمحى الكبيرة بما يقابلها من العمل, ويسقط العمل؛ فلا يبقى له ثواب فهذا يقع". إلى أن قال 2/440: "وظاهر هذا أنه تقع المقاصَّةُ بين الحسنات والسيئات, ثم تسقط الحسنات المقابلة للسيئات, وينظر إلى ما يَفْضُل بعد المقاصة. وهذا يوافق قول من قال بأن من رجحت حسناته على سيئاته بحسنة واحدة أثيب بتلك الحسنة خاصة, وسقط باقي حسناته في مقابل سيئاته, كأنها لم تكن. وهذا في الكبائر, أما الصغائر فإنها تمحى بالأعمال الصالحة مع بقاء ثوابها"ا. هـ. هذا وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الحسنات الماحية تكفر الكبائر بدون التوبة. قال رحمه الله في مجموع الفتاوى 7/489 بعد أن ذكر السبب الثالث من الأسباب التي تزول بها عن العبد عقوبة الذنوب, وهو الحسنات الماحية قال: "وسؤالهم على هذا الوجه أن يقولوا: الحسنات إنما تكفر الصغائر فقط. أما الكبائر فلا تغتفر إلا بالتوبة كما جاء في بعض الأحاديث: "ما اجتنبت الكبائر" فيجاب عن هذا بوجوه" ا. هـ. ثم ذكر رحمه الله خمسة وجوه بيَّن من خلالها أن الحسنات تكفِّر الكبائر.

ومما قال رحمه الله من الوجوه التي أيَّد بها كلامه ما يلي: "أحدهما: أن هذا الشرط _يعني ما اجتنبت الكبائر_ جاء في الفرائض, كالصلوات الخمس, والجمعة, وصيام رمضان, وذلك أن الله _ تعالى _ يقول: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] . فالفرائض مع ترك الكبائر مقتضية لتكفير السيئات, وأما الأعمال الزائدة من التطوعات فلا بد أن يكون لها ثواب آخر؛ فإن الله _ سبحانه _ يقول: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7_8] . الثاني: أنه قد جاء التصريح في كثير من الأحاديث بأن المغفرة قد تكون مع الكبائر, كما في قوله ": "غفر له وإن كان فر من الزحف". وفي السنن: "أتينا رسول الله " في صاحب لنا قد أوجب, فقال: "أعتقوا عنه يعتقِ الله عنه بكل عضو عضواً من النار". وفي الصحيحين من حديث أبي ذر: "وإن زنا وإن سرق". الثالث: أن قوله لأهل بدر ونحوهم: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" إن حُمِل على الصغائر, أو على المغفرة مع التوبة لم يكن فرق بينهم وبين غيرهم؛ فكما لا يجوز حمل الحديث على الكفر؛ لما قد عُلِمَ أن الكفر لا يغفر إلا بالتوبة _ لا يجوز حمله على الصغائر المُكَفَّرةِ باجتناب الكبائر". ثم ذكر رحمه الله الوجهين الرابع, والخامس, وأطال فيهما. والمقام لا يتسع لإيرادهما, وإنما المقصود هو الوقوف على رأي شيخ الإسلام في هذه المسألة.

خامساً: مسألة مهمة في تكفير الأعمال الصالحة للسيئات، ومنها الكبائر: وبعد أن تبين _ من خلال ما مضى _ بعض أقوال أهل العلم في هذه المسألة, وأن بعضهم _ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية_ يرى أن الحسنات الماحية, والأعمال الصالحة تكفر الكبائر بدون التوبة_ فإنه يحسن الوقوف على مسالة مهمة في هذا الباب تتبين من خلال التساؤل الآتي: هل الأعمال الصالحة تقوى على التكفير الكبائر بإطلاق؟ والجواب: أن الأعمال الصالحة قد لا تقوى على الكبائر؛ ذلك أن الأعمال إنما تتفاضل بحسب إحسان العمل, وبحسب ما يقوم بالقلب من حقائق الإيمان؛ فتكفير العمل للسيئات بحسب كماله, ونقصانه. ولا ريب أن الكبائر والذنوب عموماً تضعف القلب, وتعطل سيره إلى الله والدار الآخرة, وعلى هذا فقد تكون الأعمال الصالحة ناقصة, ضعيفة لا تقاوم الكبائر؛ ولا تقوى على تكفيرها. ولا يرد على هذا أن بعض النصوص صرحت بأن هناك أعمالاً غفر الله لأصحابها بسبب عمل صالح, كما في حديث البغي, وحديث صاحب البطاقة؛ ذلك أن الحالات الخاصة لا تعمم ولا تكون قاعدة مطردة بكل حال؛ فليس كل امرأة بغي تسقي كلباً يغفر لها, وليس كل من قال: "لا إله إلا الله" تنفعه كما نفعت صاحب البطاقة.

المجاز

المجاز المجاز مصطلح يرد كثيراً في كتب العقائد خصوصاً في باب الأسماء والصفات؛ وذلك أن كثيراً من أهل التعطيل اتخذوه مطية لنفي الصفات الإلهية. كما أنه معروف عند أهل التفسير، والحديث، واللغة، والبلاغة، والأصول ويرد كثيراً في كتبهم. ولأجل أن تتضح صورة المجاز فهذا عرض مجمل ميسر يبين معالم المجاز، وحقيقة الخلاف فيه، وما جرى مجرى ذلك. وقبل الدخول في ثنايا الحديث عن المجاز يحسن الوقوف عند مصطلح الحقيقة؛ وذلك لأن المجاز _ عند من يقول به _ قسيم الحقيقة. فالكلام ينقسم إلى حقيقة ومجاز؛ فإلى تفصيل الحديث؛ حتى يتبين الأمر. أولاً: تعريف الحقيقة: هي الكلمة المستعملة فيما هي موضوعة له من غير تأويل في الوضع. أو هي: استعمال اللفظ فيما وضع له في الأصل. مثل كلمة أسد: تدل على الحيوان المعروف، وكلمة الشمس: تدل على الكوكب العظيم المعروف، وكلمة البحر: تدل على الماء العظيم الملح؛ وهكذا جميع ألفاظ اللغة. ثانياً: تعريف المجاز: المجاز في اللغة: اسم مكان كالمطاف والمزار، والألف فيه منقلبة عن واو، وقيل: هو مصدر ميمي. وفي الاصطلاح: هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له في الأصل؛ لعلاقة بين

المعنيين الحقيقي والمجازي مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي. ثالثاً: شرح مفردات تعريف المجاز: قوله: في غير ما وضع له: أي المعنى الوضعي للَّفظ، ويسمى الحقيقي أو الأصلي الذي ذكرته معاجم اللغة، كوضع كلمة الأسد للحيوان المعروف الكاسر، وكذلك القمر. قوله: لِعِلاقة: العلاقة: هي الشيء الذي يربط بين المعنى الأصلي للفظ، والمعنى المجازي، كالشجاعة في قولك: رأيت أسداً يكرُّ بسيفه! فالأسد هنا لا يقصد به الحيوان؛ وإنما يقصد به الرجل الشجاع، إذاً فقد انتقل من معناه الحقيقي إلى المعنى المجازي، والعلاقة هي الشجاعة. قوله: القرينة القرينة: هي التي تمنع الذهن من أن ينصرف إلى المعنى الوضعي الأصلي للفظ، مثل قولك: يكر بسيفه في قولك: رأيت أسداً يكر بسيفه لأن الأسد لا يكر بالسيف؛ فَعُلم أن المقصود باللفظ مجازه لا حقيقته؛ لأن الأسد لا يحمل السيف. وكذلك قولك في الرجل الكريم: جاء البحر، ونحو ذلك من الأمثلة مما سيأتي ذكره 1.

_ 1_ انظر في تفصيل الحديث عن المجاز إلى الكتب التالية: _ أسرار البلاغة لعبد القادر الجرجاني، تحقيق الشيخ محمود شاكر ص350 _ 424. _ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ج7. _ بُغْيَة الإيضاح لتلخيص المفتاح لعبد المتعال الصعيدي ص84 _ 171. _ منع المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز للشيخ محمد الأمين الشنقيطي. _ معجم البلاغة د. بدوي طبانة ص145 _ 149. _ علوم البلاغة للشيخ المراغي ص246 _ 298. _ فقه اللغة د. وافي ص172_178.

رابعاً: "تطبيق": إليك هذا التطبيق الذي يبين لك ما ذكر بصورة أجلى: قال أهل المدينة في استقبالهم للنبي"لما قدم من تبوك هو وأصحابه: طلع البدر علينا ... من ثَنِيَّات الوداع فالمجاز في هذا البيت واقع في لفظ البدر حيث يريدون به النبي صلى الله عليه وسلم وهذا استعمال مجازي؛ ذلك لأن الاستعمال الحقيقي للبدر إنما هو الكوكب العظيم الذي يكون في السماء ليلاً. والعلاقة بين المعنيين الحقيقي والمجازي هي الحسن والإشراق؛ فالبدر حَسَنٌ مشرق، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم. والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي الحقيقي هي: من ثنيات الوداع فهي التي أثبتت مجازية البدر، والسبب أن البدر الحقيقي لا يظهر بين ثنيات الوداع وهي الجبال الصغيرة، وإنما يظهر في السماء كما هو معلوم؛ فعلم بذلك أن اللفظ أريد به مجازُه لا حقيقته. خامساً: أمثلة لألفاظ يتبين فيها الحقيقة من المجاز: 1_ الشمس لها دلالتان: إحداهما حقيقية وهي دلالة الكوكب العظيم المعروف.

_ _ البلاغة العربية في فنونها وأفنانها علم البيان والبديع د. فضل حسن عباس 127 _ 270. _ موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة عرضاً ونقداً د. سليمان بن صالح الغصن 1/445 _ 477. _ مقدمة في المجاز _ وهي مذكرة مخطوطة _ كتبها الأخ الدكتور الشيخ عبد المحسن العسكر _حفظه الله_ وهي نافعة لطيفة في بابها.

والأخرى مجازية وهي: الوجه المليح. 2_ البحر له دلالتان: إحداهما حقيقية، وهي دلالته على الماء العظيم الملح. والأخرى مجازية وهي: دلالته على الرجل الجواد الكثير العطاء، أو العالم الغزير العلم. 3_ اليد لها دلالتان: إحداهما حقيقية، وهي الجارحة المعروفة، كما تقول: كتبت بيدي. والأخرى مجازية بمعنى النعمة، كما تقول: لفلانٍ عليَّ يدٌ، أي: نعمة. سادساً: كيف يُفرَّق بين الحقيقة والمجاز؟ يفرق بسياق الكلام، وقرائن الأحوال، ولا يمكن أن يقال: إن كلا الدلالتين الحقيقية والمجازية سواء؛ بحيث إذا أطلق اللفظ دل عليهما معاً، كأن يقال: إن الشمس حقيقية في دلالتها على الكوكب والوجه المليح، وأن البحر حقيقة في الماء العظيم الملح والرجل الجواد؛ بل لا بد من قرينة تخصص المعنى المراد 1. سابعاً: لم سمي المجاز بهذا الاسم؟ لأنه مأخوذ من قولهم: جاز هذا الموضع إلى هذا الموضع، إذا تخطاه إليه. فالمجاز _ إذاً _ اسم للمكان الذي يُجاز فيه كالمزار، والمعاج، وأشباههما. وحقيقته: الانتقال من مكان إلى مكان؛ فجعل ذلك لنقل الألفاظ من محل إلى محل، كقولنا: زيد أسد؛ فإن زيداً إنسان، والأسد هو ذاك الحيوان المعروف، وقد جُزْنا الإنسانية أي: تخطيناها وانتقلنا منها وعَبَرْنَاها إلى الأسدية؛ لِوُصْلة

_ 1_ انظر معجم البلاغة العربية ص147.

بينهما _أي علاقة_ وتلك الوُصْلَةُ هي صفة الشجاعة؛ فهذا هو سبب تسمية المجاز بهذا الاسم. أما الحقيقة فهي: مأخوذة من كلمة حقَّ وهو الشيء الثابت، ولعلك تشمُّ رائحة التضاد بين هاتين الكلمتين؛ فالحقيقة ثبوت الشيء، والمجاز تَعَدِّيه 1. ثامناً: هل كل مجاز له حقيقة، وكل حقيقة لها مجاز؟ والجواب: أن كل مجاز له حقيقة؛ لأنه لم يطلق عليه لفظ مجاز إلا لنقله عن حقيقة موضوعه. وليس مِنْ ضرورةِ كلِّ حقيقة أن يكون لها مجاز 2. تاسعاً: هل الأصل في الكلام الحقيقة أو المجاز؟ والجواب: أن الأصل فيه الحقيقة، ولا ينصرف الكلام عن حقيقته إلى مجازه إلا بقرينة _ كما مر في الأمثلة الماضية _. عاشراً: اختلاف العلماء في أصل وقوع المجاز: اختلف العلماء في أصل وقوع المجاز وثبوته في اللغة والقرآن، على ثلاثة أقوال: 1_ أن المجاز واقع في اللغة والقرآن: وهذا مذهب جماهير العلماء، والمفسرين، والأصوليين، واللغويين، والبلاغيين، وغيرهم؛ بل حكى الإجماع

_ 1_ انظر معجم البلاغة العربية ص147، والبلاغة فنونها وأفنانها ص128. 2_ انظر معجم البلاغة العربية ص147.

على ذلك يحيى بن حمزة العلوي في كتابه الطراز1 غير أن في تلك الدعوى توسعاً؛ لوجود المخالف المعتبر. 2_ إنكار المجاز مطلقاً في اللغة والقرآن: وقد ذهب إلى ذلك أبو إسحاق الاسفراييني، وتبعه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم. 3_ أن المجاز واقع في اللغة دون القرآن: وقد ذهب إلى ذلك داود الظاهري، وابنه محمد، وابن القاصّ الشافعي، وابن خويز منداد المالكي، ومنذر بن سعيد البلوطي، ومن المعاصرين الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي. حادي عشر: حجة القائلين بمنعه: القائلون بمنع المجاز في اللغة والقرآن، أو في القرآن وحده يحتجون على ذلك بحجج منها: 1_ أن كل مجاز كذب يجوز نفيه: فيلزم على القول بأن في القرآن مجازاً أن في القرآن ما يجوز نفيه، قال الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: "وأوضح دليل على منعه في القرآن إجماع القائلين بالمجاز على أن كل مجاز يجوز نفيه، ويكون نافيه صادقاً في نفس الأمر؛ فتقول لمن يقول: رأيت أسداً يرمي: ليس هو بأسد وإنما هو رجل شجاع؛ فيلزم على القول بأن في القرآن مجازاً أن في القرآن ما

_ 1_ انظر الطراز 1/83، وإليك نص كلامه×قال: "أجمع أهل التحقيق من علماء الدين والنُّظار من الأصوليين، وعلماء البيان على جواز دخول المجاز في كلام الله، وكلام رسوله"في كلا نوعيه: المفرد والمركب. ويحكى الخلافُ عن أبي بكر داود الأصبهاني".

يجوز نفيه، ولا شك أنه لا يجوز نفي شيء من القرآن" 1. 2_ أن القول بالمجاز ذريعة إلى نفي الصفات الإلهية وتأويلها: قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: "وهذا اللزوم اليقيني الواقع بين القول بالمجاز في القرآن وبين جواز نفي بعض الصفات قد شوهدت في الخارج صحته، وأنه كان ذريعة إلى نفي كثير من صفات الكمال والجلال الثابتة لله في القرآن العظيم. وعن طريق القول بالمجاز توصل المعطلون لنفي ذلك، فقالوا: لا يد، ولا استواء، ولا نزول، ونحو ذلك في كثير من آيات الصفات؛ لأن هذه الصفات لم تُرَدْ حقائقها؛ بل هي عندهم مجازات؛ فاليد مستعملة عندهم في النعمة، أو القدرة، والاستواء في الاستيلاء، والنزول نزول أمره ونحو ذلك؛ فنفوا هذه الصفات الثابتة بالوحي عن طريق القول المجاز. مع أن الحق الذي هو مذهب أهل السنة والجماعة إثبات هذه الصفات التي أثبتها _ تعالى _ لنفسه، والإيمان بها من غير تكييف ولا تشبيه، ولا تعطيل ولا تمثيل"2. فهذا السبب _ وهو نفي الصفات عن طريق القول بالمجاز _ هو من أعظم الأسباب التي دعت القائلين بإنكار المجاز إلى ذلك. 3_ ادعاء أن الألفاظ كلها حقيقة والجزم بأن تقسيمها إلى حقيقة ومجاز تقسيم حادث لم تعرفه العرب: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن المجاز: "ولكن المشهور أن الحقيقة والمجاز من عوارض الألفاظ.

_ 1_ منع المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز ص8. 2_ منع المجاز ص8 _ 9.

وبكل حال فهذا التقسيم هو اصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثلاثة، لم يتكلم به أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا أحد من الأئمة المشهورين في العلم كمالك، والثوري، والأوزاعي، وأبي حنيفة، والشافعي، بل ولا تكلم به أئمة اللغة والنحو كالخليل، وسيبويه، وأبي عمرو بن العلاء، ونحوهم"1. وقد كرر رحمه الله ذلك في مواضع من كتبه، خصوصاً في كتابه الإيمان، وفي الأسماء والصفات من مجموع الفتاوى. 4_ أن إطلاق المجاز في القرآن يفضي ويؤدي إلى وصف الله بالمُتَجَوِّز: وذلك مما لم يرد الإذن به؛ ذلك أن أسماء الله وصفاته توقيفية كما هو معلوم. ثاني عشر: مناقشة مثبتي المجاز لمنكريه: ناقش مثبتوا المجاز منكريه، وردوا عليهم بما ملخصه ما يلي: 1_ أن القول بأن كل مجاز كذب يجوز نفيه ليس صحيحاً: وإنما يكون المجاز كذباً لو أُثبت المعنى على التحقيق لا على المجاز، أي أنه إذا أطلق القمر _ مثلاً _ على إنسان بهيِّ الطلعة يكون كذباً لو ادُّعي أنه القمر الذي في السماء حقاً. ولا ريب أن هذا ليس بمرادٍ في المجاز، وإنما المراد تشبيهه به في البهاء والحسن، فأين الكذب؟! وكذلك قولنا للبليد: حمار ليس المقصود بأنه حمار في الشكل والخلقة، وإلا لصح أن ينفى ويقال: ليس هو بحمار بل هو إنسان؛ فالنفي هنا مُنصبٌّ على

_ 1_ مجموع الفتاوى 7/87_88.

إرادة الحقيقة لا على المعنى المجازي، وهذا لا يسمى كذباً؛ لأن المتكلم جاء بقرينة تبين مراده، وترفع اللبس. ثم إن البلاغيين حرصوا في مصنفاتهم على أن يبينوا الفرق بين المجاز والكذب؛ فهم متفقون على أن المجاز ليس كذباً؛ لأن التجوُّز يضع بين يدي المجاز قرينة تَصْرِفُ عن إرادة المعنى الأصلي للفظ. أما الكذب فإن الكاذب يحرص فيه على إخفاء حاله؛ ترويجاً للكذب الذي يريده. ولقد عني البلاغيون بالقرائن عناية بالغة، واستنبطوها من كلام العرب، وفصلوا فيها القول تفصيلاً؛ فإذا خلا المجاز من القرائن كان الكلام فاسداً؛ لعدم دلالته. 2_ أن القول: بأن المجاز ذريعة إلى نفي الصفات الإلهية، وتأويلها _ ليس مسوغاً لنفي المجاز؛ ذلك أنه لا حجة لهؤلاء النفاة المعطلة فيما ذهبوا إليه. وإنما هم أصحاب هوى وضلال، ومن كانت هذه حاله ركب كل صعب وذلول في سبيل هواه، فاستدلالهم بالمجاز على نفي الصفات استدلال فاسد، فنحن نجعله حجة عليهم لا لهم؛ فيقال لهؤلاء النفاة المعطلة: إن الأصل في الكلام أن يحمل على حقيقتهِ وظاهرهِ المتبادرِ ما لم تقم قرينة توجب صرفه عن هذه الحقيقةِ، وذلك الظاهرِ لنا. ثم إن الناس متعبدون باعتقاد الظاهر من أدلة الكتاب والسنة ما لم يمنع مانع. وبناءاً على ذلك يقال لهؤلاء النفاة: إن النصوص الصحيحة القطعية أثبتت

صفات الكمال لله _ تعالى _ كصفة الكلام، واليد، والاستواء، والنزول، والعلو، والساق، والقَدم، والضحك، والأصابع. والنصوص الواردة في ذلك لا تظفر فيها بأي قرينة تنقلها عن معانيها الحقيقية التي دلت عليها؛ فهي صفات حقيقية ثابتة للرب _ سبحانه _ على ما يليق به. وادعاء هؤلاء المعطلة أن إثبات الصفات يلزم منه التمثيل، وأن القرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي هي تنزيه الله _ سبحانه _ عن مماثلة المخلوقين ادعاء باطل متهافت، ظاهر السقوط؛ إذ لا يلزم من إثبات الصفات لله تمثيله وتشبيهه بخلقه؛ فللخالق _ سبحانه _ صفاتٌ تليق به، وللمخلوق صفات تليق به. ثم إن مجيء نصوص الصفات متكاثرة يقطع بأن المراد منها معانيها الحقيقية، ويدرأ عن تلك النصوص أن تكون مجازية أنها لا تقبل دعوى المجاز من جهة اللغة نفسها، وتراكيب الكلم فيها؛ فهي تأبى أن تبارح المعنى الحقيقي. ونمثل بهذا المثال وهو قوله _ سبحانه _: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] . فلا يجوز أبداً أن يقال: إن الكلام في هذه الآية مجازي، لأن الفعل كلَّم أُكِّد بالمصدر التكليم الدال على النوع. وقد نقل أبو جعفر النحاس ت 338 إجماع النحاة على أن الفعل إذا أكد بالمصدر لم يكن مجازاً، بل هو حقيقة قطعاً. كيف وقد قال _ تعالى _: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143] ؟!

ومما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قوله _ سبحانه وتعالى _: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] أنه قال: "فقوله _ تعالى _: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} لا يجوز أن يراد به القدرة؛ لأن القدرة صفة واحدة، ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد. ولا يجوز أن يراد به النعمة؛ لأن نعم الله لا تحصى؛ فلا يجوز أن يعبر عن النعم التي لا تحصى بصيغة التثنية. ولا يجوز أن يكون لما خلقت أنا لأنهم إذا أرادوا ذلك أضافوا الفعل إلى اليد؛ فتكون إضافته إلى اليد إضافة إلى الفعل، كقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10] و {قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [يس: 71] . أما إذا أضاف الفعل إلى الفاعل وعدَّى الفعل إلى اليد بحرف الباء كقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فإنه نصٌّ في أنه فَعَل الفِعْلَ بيديه؛ ولهذا لا يجوز لمن تكلم أو مشى أن يقال: فعلت هذا بيديك، ويقال: هذا فعلته يداك؛ لأن مجرَّدَ قولِه: فَعَلْتَ كافٍ في الإضافة إلى الفاعل؛ فلو لم يُرد أنه فعله باليد حقيقة كان ذلك زيادة محضة من غير فائدة. ولست تجد في كلام العرب ولا العجم _ إن شاء الله تعالى _ أن فصيحاً يقول: فعلت هذا بيدي، أو فلان فعل هذا بيديه إلا ويكون فعله بيديه حقيقة، ولا يجوز أن يكون لا يد له، أو أن يكون له يد والفعل وقع بغيرها. وبهذا الفرق المحقق تتبين مواضع المجاز ومواضع الحقيقة، ويتبين أن الآيات لا تقبل المجاز البتة من جهة نفس اللغة"1.

_ 1_ مجموع الفتاوى 6/365_366.

وبالجملة، فالأمثلة على هذا النحو كثيرة جداً، ومن خلالها يظهر أن نصوص الصفات لا تقبل المجاز من جهة نظمها، وتركيبها، وإضافتها إلى الله _عز وجل_. كيف وأهل السنة مجمعون على الإقرار بأسماء الله تعالى وصفاته وحملها على الحقيقة لا المجاز؟! 3_ أما القول بأن الألفاظ كلها حقيقة أو أن تقسيمها إلى حقيقة ومجاز تقسيم حادث لم تعرفه العرب فذلك يحتاج إلى نظر؛ فإن أريد بذلك أن العرب لم يضعوا هذا المصطلح فنعم. وإن أريد أنه لا يوجد في كلامهم مجاز فهذا غير صحيح، بل الشواهد من كلامهم على استعمال المجاز أكثر من أن تحصر، وذلك مما استفاض به النقل عن علماء اللغة. ثم إن القول إن هذا الاصطلاح لم يعرف إلا بعد القرون الثلاثة المفضلة غير مُسَلَّم به؛ فقد تكلم بالمجاز غير واحد من علماء اللغة في أوقات القرون المفضلة، ومن هؤلاء أبو زيد القرشي المتوفى سنة 170هـ. ومن أهل اللغة من يعبر عن المجاز بـ: التوسع والسعة في الكلام. 4_ وأما القول بأن إطلاق المجاز يفضي إلى وصف الله بالمتجوز وذلك لا يصح فيجاب عنه: بأنه لا يلزم ذلك؛ لأن هذا الإطلاق لا يكون إلا بدليل. ثم إن إطلاق المجاز على اللفظ في بعض استعمالاته اصطلاح، ولا يلزم إضافة المعاني الاصطلاحية إلى الله _ تعالى _ وإلا ففي القرآن سجع، وأمثال، فهل يقال في حق الله _ تعالى _: الساجع، والممثل؟ هذه بعض حجج القائلين بمنعه ورد القائلين به على سبيل الإيجاز.

ثالث عشر: خاتمة الحديث عن المجاز: وبعد أن وقفت على شيء من أمر المجاز، وما جاء في الخلاف حول إثباته أو نفيه _ يتبين لك أن أعظم الأسباب التي دعت إلى نفيه وإنكاره أن أهل التعطيل اتخذوه مطية لتحريف بعض نصوص الشرع لاسيما في باب الصفات. فهذا هو الذي دعا بعض العلماء أن يشدد في النكير على القائلين بالمجاز. وإلا لو كان الأمر مجرد اصطلاح لغوي لا يترتب عليه خوض في مسائل الشريعة لهان الخطب، ولما حصل فيه كبير خلاف. ولكن لما أدرك بعض العلماء خطورة ذلك وكثرة المبتدعين به سارعوا إلى إنكاره؛ سداً للذريعة، وعلى رأس هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مواطن كثيرة من كتبه، وإن كان قد قال بالمجاز في إحدى مراحل عمره. يقول الشيخ د. عبد المحسن العسكر _ حفظه الله _ في مقدمة مخطوطة له عن المجاز: "وأحسب أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد قال بالمجاز في إحدى مراحل عمره، فقد رأيت في محاسن التأويل لجمال الدين القاسمي ت 1332هـ ما هذا نصه: "قال ابن تيمية في بعض فتاواه: نحن نقول بالمجاز الذي قام دليله، وبالتأويل الجاري على نهج السبيل، ولم يوجد في شيء من كلامنا وكلام أحد منا أنا لا نقول بالمجاز والتأويل، والله عند لسان كل قائل، ولكن ننكر من ذلك ما خالف الحق والصواب، وما فتح به الباب إلى هدم السنة والكتاب، واللحاق بمُحرِّفة أهل الكتاب.

والمنصوص عن الإمام أحمد وجمهور أصحابه أن القرآن مشتمل على المجاز، ولم يُعْرف عن غيره من الأئمة نص في هذه المسألة. وقد ذهب طائفة من العلماء من أصحابه وغيرهم، كأبي بكر بن أبي داود، وأبي الحسن الخرزي، وأبي الفضل التميمي، وابن حامد وغيرهم إلى إنكار أن يكون في القرآن مجاز. وإنما دعاهم إلى ذلك ما رأوه من تحريف المحرفين للقرآن بدعوى المجاز، قابلوا الضلال بحسم المواد، وخيار الأمور التوسط، والاقتصاد"1. وبعد أن نقل الشيخ العسكر هذه الفتوى قال: "ومع أنني لم أهتد إلى هذه الفتوى في مظانها من المطبوع من مؤلفات شيخ الإسلام وفتاواه فإن عدم اهتدائي هذا لا ينفي وجودها في كتابات الشيخ مطلقاً. بَيْدَ أني مطمئن غير مرتاب في نسبة هذا الكلام إلى شيخ الإسلام رحمه الله وذلك لما يلي: 1_ أن المطبوع من أعمال شيخ الإسلام لا يمثل إلا القليل مما كتب في حياته كلها. وأنت خبير أنه صاحب قلم سيال، ومكثر من الكتابة جداً، حتى قال الذهبي: "جاوزت فتاوى ابن تيمية ثلاثمائة مجلد". 2_ أن من له أدنى صلة بتراث شيخ الإسلام لا ينازع في أن هذا النَّفَسَ نَفَسُه، والأسلوب أسلوبه، وقد وقفت على هذه الفتوى بعض العلماء فأجابوا بذلك،

_ 1_ محاسن التأويل للقاسمي 17/6156 تفسير سورة الفجر

منهم فضيلة الشيخ محمد العثيمين رحمه الله وشيخنا عبد الرحمن البراك _أحسن الله إليه_. 3_ أن الذي نقل هذه الفتوى من أعظم الناس اطلاعاً في هذا العصر على كتابات الشيخ وتلميذه ابن القيم، وكان يعيش في بلاد الشام بلاد الشيخين، ومؤلفات القاسمي وخاصة تفسيره طافحة بالنقولات الكثيرة عنهما. ثم إنه أحد القلة في عصره الذين نهضوا بالمنهج السلفي، ومناصرته، وأوذي في ذلك أذىً كثيراً. وما كان الشيخ ليلصق بشيخ الإسلام قولاً يتطرق الشك في نسبته إليه". ولقد توصل إلى تلك النتيجة بصورة أوضح وأجلى د. هادي أحمد فرحان الشجيري، وذلك في كتابه الدراسات اللغوية والنحوية في مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية وأثرها في استنباط الأحكام الشرعية. وهذا الكتاب رسالة نال بها المؤلف درجة الدكتوراة من كلية الآداب جامعة بغداد. وكان مما درسه في بحثه المجاز وآراء ابن تيمية فيه، ومن ضمن فقرات ذلك المبحث فقرة عنوانها: موقف ابن تيمية من المجاز، حيث قال فيها: "إن المتتبع لكلام ابن تيمية في مؤلفاته المختلفة سيتبين له بيسر وسهولة أن له موقفين من المجاز، أولهما موقف من الإقرار به، ويبدو أن هذا الموقف كان السابق في حياته العلمية، وهو الذي درج عليه في غالب أحواله ومؤلفاته. أما موقفه الآخر وهو موقف النافي للمجاز في اللغة فقد ذكره مفصلاً فيما لَحِظْتُه بعد طول معاينة، وكثرة تتبع في موضعين.

وهو موقفٌ نابع عن فكر، وتأمل، وروية. ويبدو أنه كان آخر ما استقر عليه، وإن كنا لا نملك من أدلة التوثيق التأريخية ما يكون عوناً لنا في هذا الحكم، ولكن طبيعة ذكر الأدلة والتفصيل، ونقد مفاهيم المجاز، وتبني تلميذه المقرب ابن قيم الجوزية لهذا الموقف، ودفاعه عنه _ كلها ترجح أنه آخر ما استقر عليه رأي ابن تيمية"1. ثم قال تحت فقرة عنوانها موقف المقر بالمجاز: "لقد وقف ابن تيمية مقراً بالمجاز مدافعاً عن العقيدة مع إقراره بالمجاز، ويمكن أن يتبين هذا الموقف من خلال صور متعددة: أولاً: النصوص الكثيرة المبثوثة في مواضع متفرقة من كتبه والتي تدل تصريحاً أو تلويحاً على إقراره بالمجاز. ثانياً: ومن صور إقراره بالمجاز، قوله بالحقائق الشرعية والعرفية، وهي في حقيقتها نوع من التغير الدلالي الذي أصاب اللفظ آنفا. ثالثاً: ذكره بعض أنواع المجاز. رابعاً: ذكره بعض علامات المجاز. خامساً: من خلال تعبيراته ومعالجاته لبعض الأمثلة. سادساً: ومما يدخل في هذا الموقف عموماً قوله بالمجاز المنضبط خاصة في باب الصفات"2. وتحت هذه العناصر ذكر نماذج من كلام ابن تيمية، وأحال على مواضع أخرى.

_ 1_ الدراسات اللغوية والنحوية في مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية ص198. 2_ الدراسات اللغوية في مؤلفات شيخ الإسلام ص198_202.

ومن الأمثلة التي ذكرها: قول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقبض اليد عبارة عن الإمساك، كما في قوله _ تعالى _: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} . وفي قوله: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} . وهي حقيقة عرفية ظاهرة من اللفظ، أو هي مجاز مشهور"1. ثم نقل د. الشجيري نقولاً أخرى لا يتسع المجال لبسطها، ولعل الإشارة إلى مواضعها تكفي2.

_ 1_ اقتضاء الصراط المستقيم 19_20. 2_ انظر بيان تلبيس الجهمية 2/26 و2/411، والتسعينية ص129_130 و 128_129، و220، والتفسير الكبير 4/362، ومجموع الفتاوى 5/106 و5/94_95، و7/14 و271 و10/46 و12/296 و31/66و92 32/34و35و86 و33/106 و21/222 و22/322_323 و29/68.

المشترك

المشترك يرد هذا المصطلح كثيراً في كتب العقائد خصوصاً في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية كالتدمرية وغيرها. وفيما يلي إعطاء صورة عامة عنه، وذلك من خلال المسائل التالية: أولاً: تعريفه: في اللغة: من الفعل اشترك يشترك، والمصدر اشتراك، والمشترك اسم المفعول. وفي الاصطلاح: عرف بعدة تعريفات قريبة من بعض، وفيما يلي ذكر لشيء منها: أ _ عرفه الجرجاني رحمه الله بقوله: "المشترك ما وضع لمعنى كثير بوضع كثير"1. ب _ وقال عنه ابن فارس رحمه الله: "تسمى الأشياء الكثيرة بالاسم الواحد نحو: عين الماء وعين المال وعين السحاب" 2. ج _ وعرفه ابن تيمية رحمه الله بقوله: "أن يكون اللفظ دالاً على معنيين من غير أن يدل على معنى مشترك بينهما"3. د _ وقال السيوطي رحمه الله: "وقد حدَّه أهل الأصول بأنه اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين فأكثر دلالة على السواء عند أهل تلك اللغة"4. هـ _ ويمكن أن يعرف بتعريف مختصر فيقال: هو ما اتحد لفظه، واختلف معناه.

_ 1_ التعريفات ص215. 2_ الصاحبي ص59. 3_ مجموع الفتاوى 20/227 ولو قال على معنيين أو أكثر لكان أولى. 4_ المزهر 1/369.

ثانياً: الخلاف في وقوعه: اختلف الناس في اللفظ المشترك، هل له وجود في اللغة؟ فأثبته قوم، ونفاه آخرون، ولكل منهم أدلته. وقد نقل هذا الاختلاف جمع من أهل العلم، منهم شيخ الإسلام ابن تيميةرحمه الله حيث قال بعد أن ذكر حد المشترك: "فمن الناس من ينازع في وجود معنى هذا في اللغة الواحدة التي تستند إلى وضع واحد، ويقول: إنما يقع هذا في وضعين كما يسمي هذا ابنه باسْمٍ، ويسمي آخر ابنه بذلك الاسم"1. ونصه هذا يوحي بأنه قائل بوقوع المشترك، وهذا ما يؤكده قوله في موضع آخر: أن "الأسماء المتفقة اللفظ قد يكون معناها متبايناً وهي المشتركة اشتراكاً لفظياً، كلفظ سهيل المقول على الكوكب وعلى الرجل"2. وقال السيوطي رحمه الله: "واختلف الناس فيه؛ فالأكثرون على أنه ممكن الوقوع؛ لجواز أن يقع إما من واضِعَيْن؛ بأن يضع أحدهما لفظاً لمعنىً، ثم يضعه الآخر لمعنىً آخر، ويشتهر ذلك اللفظ بين الطائفتين في إفادته المعنيين، وهذا على أن اللغات غير توقيفية. وإما من واضع واحد؛ لغرض الإبهام على السامع؛ حيث يكون التصريح سبباً للمفسدة، كما روي عن أبي بكر رضي الله عنه وقد سأله رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم وقت ذهابهما إلى الغار: من هذا؟ قال: هذا رجل يهديني السبيل. والأكثرون _ أيضاً _ على أنه واقع لنقل أهل اللغة ذلك في كثير من الألفاظ. ومن الناس من أوجب وقوعه _ قال: لأن المعاني غير متناهيةٍ والألفاظ

_ 1_ مجموع الفتاوى 20/227. 2_ مجموع الفتاوى 20/234.

متناهية، فإذا وزع لزم الاشتراك. وذهب بعضهم إلى أن الاشتراك أغلب، قال: لأن الحروف بأسرها مشتركة بشهادة النحاة، والأفعال الماضية مشتركة بين الخبر والدعاء، والمضارع كذلك، وهو _ أيضاً _ مشترك بين الحال والمستقبل، والأسماء كثير فيها الاشتراك؛ فإذا ضممناها إلى قسمي الحروف والأفعال كان الاشتراك أغلب. ورد بأن أغلب الألفاظ الأسماء، والاشتراك فيها قليل بالاستقراء، ولا خلاف أن الاشتراك على خلاف الأصل"1. والمتأمل للخلاف في المشترك يجد أنه ما كان ينبغي أن يتوسع فيه، ويشقق القول؛ لأنهم جميعاً متفقون على وجود ألفاظ في اللغة قد استعملتها العرب في الدلالة على معان مختلفة بغض النظر عن كيفية وجودها مثل لفظ العين فهي بلفظها قد استعملت لمعان كثيرة، وكذلك غيرها من الألفاظ التي سيأتي ذكر لبعضها. وهذا الاستعمال كافٍ في إثبات المشترك؛ لذلك فإن الذي عليه أكثر المتقدمين من اللغويين _ هو القول بالاشتراك. أما نقل الكلام إلى الحديث عن النشأة الأولى للمشترك، وهل يكون أصلاً في الوضع أو لا؟ وما يترتب على ذلك من أن المخاطبة باللفظ المشترك لا تفيد فهم المقصود على التمام، وما كان كذلك يكون منشأً للمفاسد _ فهو خروج من الواقع اللغوي، وخوض في مسألة نشأة اللغة التي لم يتوصل فيها إلى رأي علمي قاطع2.

_ 1_ المزهر 1/369_370، وانظر الصاحبي ص59_60، وفقه اللغة د. علي عبد الواحد وافي ص145_148. 2_ انظر الدراسات اللغوية والنحوية في مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية ص169.

ثالثاً: أمثلة من المشترك: أورد السيوطي رحمه الله في المزهر أمثلة كثيرة من المشترك1، ومنها: 1_ العم: أخو الأب، والعم: الجمع الكثير، قال الراجز: يا عامر بن مالك يا عمَّا ... أفنيت عماً وجبرت عمَّا فالعم الأول: أراد به عماه، والعم الثاني: أراد أفنيت قوماً، وجبرت آخرين. 2_ النوى: يطلق على الدار، والنية، والبُعْد. 3_ الأرض: وتطلق على الأرض المعروفة، وعلى كل ما سفل، وعلى أسفل قوائم الدابة، وعلى النّفضة، والرِّعدة، وغيرها. 4_ الهلال: هلال السماء، وهلال الصيد، وهلال النعل وهو الذؤابة، والهلال: الحية إذا سلخت، والهلال: باقي الماء في الحوض، والهلال: الجمل الذي أكثر الضِّراب حتى هزل. 5_ العين: وتطلق على معان كثيرة جداً، تكاد تكون أكثر ما في هذا الباب؛ فتطلق على: النقد من الدراهم والدنانير، وعلى مطر أيام لا يقلع يقال: أصاب أرض بني فلان عين، وعلى عين الماء، وعين الركبة، والعين التي تصيب الإنسان، وعلى فم القربة، وعلى عين الشمس، وعلى الجاسوس، وعلى الباصرة. 6_ الخال: يطلق على أخ الأم، والمكان الخالي، والعصر الماضي، والدابة، والخيلاء، والشامة في الوجه، والسحاب، والظن، والتوهم، والرجل المتكبر، والرجل الجواد.

_ 1_ اانظر المزهر 1/370_386، وانظر معجم الألفاظ المشتركة في اللغة العربية لعبد الحليم محمد قنبس.

رابعاً: لطائف من المشترك: هناك أبيات من الشعر تضمنت ألفاظاً من المشترك. قال السيوطي: "قال أبو الطيب اللغوي: أخبرني محمد بن يحيى، قال: أنشدني أبو الفضل جعفر بن سليمان النوفلي عن الحِرْمازي للخليل ثلاثة أبيات على قافية واحدة يستوي لفظها، ويختلف معناها: يا ويحَ قلبي من دواعي الهوى ... إذ رَحل الجيرانُ عند الغُروبْ أتبعتُهم طَرْفي وقد أزمعوا ... ودمعُ عينيَّ كفيض الغُروبْ كانوا وفيهم طَفْلَةٌ حرَّة ... تفترُّ عن مثل أقاحي الغُروبْ فالغروب الأول غروب الشمس، والثاني جمع غَرْب: وهو الدَّلْو العظيمة المملوءة، والثالث جمع غرب: وهي الوِهَاد المنخفضة. وأنشد سلامة الأنباري في شرح المقامات: لقد رأيت هذرياً جَلْسا ... يقود من بطن قديد جَلْسا ثم رقى من بعد ذاك جَلْسا ... يشرب فيه لبناً وجَلْسا مع رفقةٍ لا يشربون جَلْسا ... ولا يؤمُّون لِهَمٍّ جَلْسا جَلْس الأول: رجل طويل، والثاني: جبل عالٍ، والثالث: جبل، والرابع: عسل، والخامس: خمر، والسادس: نجد"1. ومن لطائف المشترك أنه داخل عند البلاغيين في علم البديع في باب الجناس التام، كما في الأبيات السابقة، وهو داخل _ كذلك _ في باب التورية.

_ 1_ المزهر 1/376_377.

خامساً: العلاقة بين المشترك والمتواطئ والمشكك: مر الحديث عن المشترك، وأنه ما اتحد لفظه، واختلف معناه. والمشترك يوافق المتواطئ في شقه الأول من جهة كونه لفظاً واحداً يطلق على معان، ويخالف في شقه الثاني وهو كون هذه المعاني مرتبطة بمعنى عام. ولمزيد من إيضاح العلاقة والفرق بين المشترك والمتواطئ هذا عرض يسير لتعريف المتواطئ، وبيان الفرق الدقيق بينه وبين المشترك. فالاسم المتواطئ يُعرف بأنه: هو الاسم الواحد الذي يقال من أول ما وضع له على أشياء كثيرة، ويدل على معنى واحد يعمها1. ويعرفه الجرجاني بقوله: "المتواطئ: هو الكلي الذي يكون حصول معناه، وصدقه على أفراده الذهنية والخارجية على السوية كالإنسان والشمس؛ فإن الإنسان له أفراد في الخارج، وصدقه عليها بالسوية، والشمس لها أفراد في الذهن وصدقه عليها _ أيضاً _ بالسوية"2. ويقول ابن تيمية رحمه الله معرفاً بهذا القسم من الألفاظ: "الأسماء المتواطئة: وهي جمهور الأسماء الموجودة في اللغات، وهي أسماء الأجناس اللغوية، وهي الاسم المطلق على الشيء وما أشبهه سواء كان اسم عين، أو اسم صفة جامداً أو مشتقاً ...

_ 1_ البحث الصوتي والدلالي عند الفيلسوف الفارابي، لرجاء الرفاعي رسالة ماجستير على الآلة الكاتبة ص184، وانظر الدراسات اللغوية ص165. 2_ التعريفات ص199.

كلها أسماء متواطئة، وأعيان مسمياتها في الخارج متميزة"1. ويقول: "الأسماء المتفقة في اللفظ ... قد يكون معناها متفقاً وهي المتواطئة"2. وقال في محاورته لابن المرحل3 _ رحمهما الله _ عندما بين جواز إطلاق لفظ المتواطئ والمشترك على اللفظ الواحد، ولكن من جهتين مختلفتين، فتساءل ابن المرحل كيف يكون هذا؟ فأجابه ابن تيمية بقوله: "المعاني الدقيقة تحتاج إلى إصغاء واستماع وتدبر؛ وذلك أن الماهيتين إذا كان بينهما قدر مشترك، وقدر مميز، واللفظ يطلق على كل منهما _ فقد يطلق عليهما باعتبار ما به تمتاز كلُّ ماهيةٍ عن الأخرى؛ فيكون مشتركاً كالاشتراك اللفظي، وقد يكون مطلقاً باعتبار القدر المشترك بين الماهيتين؛ فيكون لفظاً متواطئاً. مثال ذلك اسم الجنس إذا غلب في العرف على بعض أنواعه كلفظ الدابة إذا غلب على الفرس قد نطلقه على الفرس باعتبار القدر المشترك بينها وبين سائر الدواب، فيكون متواطئاً، وقد نطلقه باعتبار خصوصية الفرس؛ فيكون مشتركاً بين خصوصية الفرس وعموم سائر الدواب، ويصير استعماله في الفرس تارة بطريق التواطؤ، وتارة بطريق الاشتراك"4. ولعل التمييز بين المتواطئ والمشترك قد لاح، وهو أن الأسماء المتواطئة تشترك

_ 1_ انظر مجموع الفتاوى 3/123_129. 2_ مجموع الفتاوى 20/234. 3_ من كبار فقهاء الشافعية ت738. 4_ مجموع الفتاوى 11/83.

في اللفظ والمعنى. أما المشتركة فإنها متفقة اللفظ مختلفة المعنى، وهذا ما يؤكده ابن تيمية بقوله: "الأسماء المتفقة اللفظ قد يكون معناها متفقاً وهي المتواطئة، وقد يكون معناها متبايناً وهي المشتركة اشتراكاً لفظياً كلفظ سهيل المقول على الكوكب، وعلى الرجل"1. ولزيادة الإيضاح ولأجل أن يُميز بين المشترك والمتواطئ فهذان مثالان على ذلك، الأول: العين تطلق على عدة معان مختلفة، فهذا مثال للمشترك، وقد مرت أمثلة عديدة من ذلك. والمثال الثاني: لفظ الوجود فهو يطلق على وجود الخالق وعلى وجود المخلوق، فمعنى الوجود _ بمفهومه العام _ واحد وهو ضد العدم، ولكنه يختلف من جهة إضافته فهذا مثال للمتواطئ. وبناءاً على ذلك يمكن أن يقال: إن المشترك ما اتحد لفظه واختلف معناه، والمتواطئ هو ما اتحد لفظه ومعناه، ولكنه يختلف باختلاف السياق والإضافة. ثم إن من أنواع المتواطئ المشكك، أو ما يعرف بالمتواطئ المشكك؛ فهو نوع من المتواطئ العام الذي يراعى فيه دلالة اللفظ على القدر المشترك سواء كان المعنى متفاضلاً في موارده أو متماثلاً 2. فإن كان المعنى متساوياً في الجميع فهو المتواطئ المطلق، مثل لفظ الإنسان والرَّجل يدلان على زيد وعمرو.

_ 1_ مجموع الفتاوى 20/234، وانظر الدراسات اللغوية والنحوية 165_167 ففيها تفصيل جيد. 2_ انظر التدمرية ص130.

وإن كان المعنى متفاوتاً متفاضلاً فهو المتواطئ المشكك كالنور: للشمس والسراج. وقد يدخل فيه لفظ الوجود؛ فإنه في الخالق أولى، وأعظم منه في المخلوق. قال الجرجاني رحمه الله في تعريف المشكك: "هو الكلي الذي لم يتساوَ صدقه على جميع أفراده، بل كان حصوله في بعضها أولى، أو أقدم، أو أشد من البعض الآخر كالوجود؛ فإنه في الواجب أولى وأقدم وأشد في الممكن" 1. ولعل سبب تسميته مشككاً أن الناظر فيه يشك في المراد منه. مثال ذلك: اسم الحي فمن نظر إلى أصل الحياة قال: إنه نوع من المتواطئ؛ إذ الحياة ضد الممات في الأصل. ومن نظر إلى الاختلاف والتباين في حياة المخلوق والخالق قال: إنه من المشترك، ومن هنا سمي مشككاً. ولهذا يحسن أن يقال عن المشكك: إنه ما اتفق في أصله، واختلف في وصفه.

_ 1_ التعريفات للجرجاني ص216.

المتضاد

المتضاد المتضاد نوع من المشترك، ويقال له: الأضداد، والتضاد. أولاً: تعريفه: أ _ المتضاد في اللغة: أصل المادة: ضَدَدَ: وضد الشيء خلافه، والجمع أضداد، وقد ضادَّه فهما متضادان، والتضاد مصدر1. ب _ وفي الاصطلاح: 1_ هو دلالة اللفظ الواحد على معنيين متضادين. مثاله: الجون: يطلق على الأسود، والأبيض. 2_ وهناك تعريف آخر وهو: الكلمات التي تؤدي إلى معنيين متضادين بلفظ واحد. 3_ وقال ابن فارس رحمه الله: "ومن سنن العرب في الأسماء أن يسموا المتضادين باسم واحد"2. 4_ وقيل: هو أن يطلق اللفظ على المعنى وضده3. ثانياً: الفرق بين المشترك والمتضاد: 1_ أن المشترك أعم من المتضاد؛ فالمتضاد نوع منه، فكل متضاد مشترك، ولا عكس. 2_ أن المشترك يدل على عدة معان، ولا يلزم أن تكون متضادة. أما المتضاد فيدل على معنيين، ولا بد أن يكونا متضادين.

_ 1_ انظر لسان العرب مادة ضدد 3/263_264. 2_ الصاحبي ص60. 3_ انظر فقه اللغة د. وافي ص148.

فمثلاً: كلمة العين تدل على معانٍ عديدة، ولا يلزم منها التضاد؛ فهي _بهذا الاعتبار_ مشترك، لا متضاد. وكلمة الغابر: تطلق على الماضي وتطلق على الباقي؛ فهي بهذا الاعتبار متضاد؛ لأنها دلت على معنيين متضادين. ثالثاً: كيف يفهم المراد من اللفظ إذا كان متضاداً؟ يفهم من خلال السياق، مثال ذلك كلمة: جلل فهي تدل على الشيء اليسير الحقير، وتدل على الشيء العظيم. فمن الأول: قول لبيد رضي الله عنه: كل شيء ما خلا الله جلل ... والفتى يسعى ويلهيه الأمل ومن الثاني قول الشاعر: قومي هُمُ قتلوا أميمَ أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي فلئن عفوت لأعفون جللاً ... ولئن سطوت لأوهنن عظمي فمن خلال سياق الكلام في البيت الأول نعلم أن المقصود بـ: الجلل: الأمر اليسير الحقير، ومن خلال السياق في البيتين الأخيرين نعلم أن المقصود بقوله: جللاً أنه الأمر العظيم؛ لأن الإنسان لا يفخر بصفحه عن ذنب حقير يسير وهكذا. . . 1 وهذا ما أجاب به ابن الأنباري عن اعتراض من اعترض على وجود الأضداد؛ حيث قال رحمه الله: "ويظن أهل البدع والزيغ، والإزراء بالعرب أن ذلك

_ 1_ انظر الأضداد لابن الأنباري ص1_2.

كان منهم؛ لنقصان حكمتهم، وقلة بلاغتهم، وكثرة الالتباس في محاوراتهم وعند اتصال مخاطباتهم؛ فيسألون عن ذلك، ويحتجون بأن الاسم منبئٌ عن المعنى الذي تحته، ودالٌ عليه، وموضحٌ تأويلَه، فإذا اعتورَ اللفظة الواحدة معنيان مختلفان لم يعرف المخاطب أيهما أراد، وبطل بذلك معنى تعليق الاسم على المسمى. فأجيبوا عن هذا الذي ظنوه وسألوا عنه بضروب من الأجوبة: أَحَدُهن: أن كلام العرب يصحح بعضه بعضاً، ويرتبط أوله بآخره، ولا يعرف معنى الخطاب منه إلا باستيفائه، واستكمال جميع حروفه؛ فجاز وقوع اللفظة على المعنيين المتضادين؛ لأنها يتقدمها، ويأتي بعدها ما يدل على خصوصية أحد المعنيين دون الآخر، ولا يراد بها في حال المتكلم والإخبار إلا معنىً واحدٌ"1. ثم ضرب مثالاً لذلك، وهو من الأبيات الآنفة الذكر. وضرب أمثلة أخرى من القرآن الكريم فقال: "وقال الله _ عز وجل _ وهو أصدق قيل: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ} أراد الذين يتيقنون ذلك؛ فلم يذهب وهمُ عاقلٍ إلى أن الله _ عز وجل _ يمدح قوماً بالشك في لقائه"2. رابعاً: الخلاف في وقوع الأضداد: اختلف العلماء في وقوع الأضداد: 1_ فمنهم من قال بإمكان وقوعها، وعدَّ وضْعَها في مألوف القوانين اللغوية،

_ 1_ الأضداد ص3. 2_ الأضداد ص3.

والمواضعات الاصطلاحية؛ وذلك لأن المعاني غير متناهية، والألفاظ متناهية. وذكروا من عللها وأسبابها وشواهدها الشيء الكثير. ومن هؤلاء: الأصمعي، وأبو عبيدة، وابن السِّكِّيت، وقطرب، وابن فارس، وابن الأنباري وغيرهم _ رحمهم الله _. 2_ ومنهم من أنكر الأضداد، وتأول ما ورد منها في اللغة، ونصوص العربية. وأشهر هؤلاء: ابن دَرَسْتَويْه رحمه الله فإن له مصنفاً في إبطال الأضداد. قال السيوطي رحمه الله: "قال ابن درستويه في شرح الفصيح: النوء: الارتفاع بمشقة وثقل، ومنه قيل للكوكب: قَدْ ناء: إذا طلع. وزعم قوم من اللغويين أن النوء السقوط _ أيضاً _ وأنه من الأضداد. وقد أوضحنا الحجة عليهم في ذلك في كتابنا في إبطال الأضداد. انتهى. فاستفدنا من هذا أن ابن درستويه ممن ذهب إلى إنكار الأضداد، وأن له في ذلك تأليفاً"1. 3_ ومنهم من قال بوجود الأضداد إلا أنهم عدوها منقصة للعرب، ومثلبة من مثالبهم، واتخذوها دليلاً على نقصان حكمتهم وقلة بلاغتهم، وزعموا أن ورودها في كلامهم كان سبباً في كثرة الالتباس عند المخاطبات. وهؤلاء هم الشعوبية، أو من يسميهم ابن الأنباري أهل البدع والزيغ والإزراء بالعرب. وقد مر في الفقرة الماضية رده عليهم.

_ 1_ المزهر 1/396.

وممن رد على هؤلاء ابن فارس حيث قال: "وأنكر ناس هذا المذهب، وأن العرب تأتي باسم واحد لشيء وضده. وهذا ليس بشيء؛ وذلك أن الذين رووا أن العرب تسمي السيف مهنداً، والفرس طِرْفاً هم الذين رووا أن العرب تسمي المتضادين باسم واحد. وقد جرَّدنا في هذا كتاباً ذكرنا فيه ما احتجوا به، وذكرنا ردَّ ذلك، ونقضه؛ فلذلك لم نكرره"1. 4_ ومنهم من قال بوقوعه، وأنكر على من تعسف في إنكاره، غير أنه يرى أن وروده لم يكن بتلك الكثرة التي ذهب إليها من يراه بإطلاق؛ ذلك أن كثيراً من الأمثلة التي ظن هذا الفريق أنها من قبيل الأضداد يمكن تأويلها على وجه آخر يخرجها عن هذا الباب. ففي بعض الأمثلة قد استعمل اللفظ في ضد ما وضع له لمجرد التفاؤل كالمفازة في المكان الذي تغلب فيه الهلكة؛ فقد سميت بذلك تفاؤلاً، وكالسليم للملدوغ، وكالريان والناهل للعطشان. وفي بعضها قد استعمل اللفظ في ضده لمجرد التهكم، أو لاتقاء التلفظ بما يُكره التلفظ به، أو بما يمجه الذوق، أو بما يؤلم المخاطب. وذلك كإطلاق لفظ العاقل على المعتوه أو الأحمق، والخفيف على الثقيل، وهكذا ... وقد مال إلى هذا الرأي بعض المحدثين كالدكتور علي عبد الواحد وافي2.

_ 1_ الصاحبي ص60. 2_ انظر كتابه فقه اللغة ص149_150.

خامساً: المؤلفات في الأضداد: حاول العلماء حصر كلمات الأضداد، وجمعها من كلام العرب في شعرهم ونثرهم، وفيما ورد منها في القرآن، والحديث، ثم أفردوها بالتأليف والتصنيف، وأصبحت مصدراً أصيلاً من مصادر المعجمات. وممن ألف في الأضداد _ كما ذَكر السيوطيُّ _ قطربٌ، والتوزيُّ، وأبو البركات ابن الأنباري، وابن الدهان، والصغاني1. هذا عدا الفصول التي وردت في كتاب الجمهرة لابن دريد، والغريب المصنف لأبي عبيد، والصاحبي لابن فارس، والمخصص لابن سيدة، وفقه اللغة للثعالبي، وديوان الأدب للفارابي، والمزهر للسيوطي2. ولكن أعظم هذه الكتب خطراً، وأوسعها كَلِماً، وأحفلها بالشواهد، وأشملها للعلل هو كتاب أبي بكر محمد بن القاسم الأنباري المعروف بابن الأنباري3 ت327هـ. حتى قيل: إن كتاب أبي بكر بن الأنباري لم يؤلف مثله في الأضداد. وقد اشتمل الكتاب على 357 لفظاً من الأضداد؛ فأتى على جميع ما ألف قبله، وأربى عليه، وجاء بالعجيب من أراجيز العرب، وشواهد القرآن والحديث والشعر في كثرة بالغة، وإسهاب كثير، مع عذوبة المورد، ووضوح التعبير،

_ 1_ انظر المزهر 1/397. 2_ انظر مقدمة محقق الأضداد ص ب _ ج، وتاريخ آداب العرب 1/198_199. 3_ أبو بكر بن الأنباري غير أبي البركات بن الأنباري، وكلاهما ألف في الأضداد إلا أن الأخير لم يصل إلينا كتابه.

وإشراق الدلالة، واطراد التنسيق. وقد أعانه على ذلك كثرة محفوظه، ووفرة روايته، ووضوح الفكرة في عقله مع دقة التعليل، وقوة الحجاج. وقد قدم لكتابه ببحثٍ ضافٍ شامل انتصر فيه للعرب فيما أورد على ألسنتهم من ألفاظ الأضداد، وأبان عن حكمتهم فيما أرادوا، وعلل ذلك تعليلاً دقيقاً أميناً؛ فجاء كتابه أشمل كتاب، وأوفاه في هذا الموضوع1. والكتاب يقع في مجلد واحد وفي 517 صفحة، وبتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ومن مطبوعات المكتبة العصرية _ بيروت. سادساً: أمثلة وشواهد للأضداد: هذه أمثلة للأضداد مختارة باختصار دون تفصيل من كتاب الأضداد لابن الأنباريرحمه الله. 1_ القرء: حرف من الأضداد، يقال: القرء للطهر وهو مذهب أهل الحجاز، والقرء للحيض، وهو مذهب أهل العراق. 2_ عسعس: يقال: عسعس الليل إذا أدبر، وعسعس إذا أقبل. 3_ المولى: المُنْعِم المُعْتِق، والمولى: المُنْعَم عليه المُعْتَق. 4_ بسل: للحلال، وللحرام. 5_ اشتريت: بمعنى قبضته وأعطيت ثمنه، وبمعنى بعته. 6_ بعت: على المعنى المعروف عند الناس، وبعت الشيء إذا ابتعته أي اشتريته. 7_ السارب: المتواري والظاهر.

_ 1_ انظر مقدمة الأضداد ص ج.

8_ عَنوة: إذا أخذ الشيء غصباً وغلبة، ويطلق على ما إذا أخذه بمحبة ورضاً. 9_ الصريخ والصارخ: للمغيث، وللمستغيث. 10_ الدائم: يقال للساكن دائم، وللمتحرك دائم. 11_ الصريم: يقال لليل: صريم، وللنهار: صريم؛ لأن كل واحد منهما يصرم صاحبه. 12_ طرب: إذا فرح، وطرب إذا حزن. 13_ السليم: يقال: سليم للسالم، وسليم للملدوغ. 14_ السُّدْفة: بنو تميم يذهبون إلى أنها الظلمة، وقيس يذهبون إلى أنها الضوء. 15_ الناهل: للعطشان، وللريان. 16_ أمَمَ: يقال: أمر أمم إذا كان عظيماً، وأمر أمم إذا كان صغيراً. 17_ خائف: يقال: رجل خائف إذا كان يخاف غيره، وسبيل خائف إذا كان مخوفاً. 18_ الحميم: للحار، والحميم للبارد. 19_ عزَّرت: يقال: عزرت الرجل إذا أكرمته، وعزرته إذا لُمته وعنَّفته. 20 _ قَلصَ: يقال: قلص الشيء إذا قَصُر وقل، وقلص الماء إذا جمَّ وزاد. 21_ الغريم: الذي له الدَّيْن، والغريم: الذي عليه الدَّيْن. 22_ الحزوَّر: يقال للغلام اليافع الذي قارب الاحتلام: حزوَّر، ويقال للشيخ: حزوَّر.

23_ التلعة: يقال لما ارتفع من الوادي وغيره: تلعة، ويقال لما تسفَّل وجرى الماء فيه؛ لانخفاضه: تلعة. 24_ البَعْل: يقال لما تسقيه السماء: بعل، ويقال لما يشرب بعروقه: بعل. 25_ بلهاء: يقال: امرأة بلهاء: إذا كانت ناقصة العقل، فاسدة الاختيار. وامرأة بلهاء: إذا كانت كاملة العقل عفيفة صالحة لا تعرف الشر، ولا تعلم الرِّيب. 26_ الخابط: النائم، والخابط الذي يخبط بيده ورجليه. 27_ نسيت: يكون بمعنى غفلت عن الشيء، ويكون بمعنى: تركت متعمداً من غير غفلة لحقتني فيه، فيكون بمعنى الغفلة فلا يُحتاج فيه إلى شاهد. وكونه بمعنى الترك شاهده قول الله _ عز وجل _: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} معناه: ترك إثابتهم ورحمتهم؛ لأنه قد جل وعلا عن الغفلة والسهو. 28_ أفاد: يقال: أفاد الرجلُ مالاً إذا استفاده هو، وقد أفاد مالاً: إذا كسَّبه غيره فهو مفيد في المعنيين.

المترادف

المترداف ويسمى: الترادف، ويسمى: المرادف _أيضاً_. وهذا المصطلح يرد كثيراً في كتب العقائد خصوصاً في باب أسماء الله _ عز وجل _ كالبحث في مسألة ترادفها وتباينها. كما أنه يرد في غير ذلك. والحديث عنه سيكون من خلال المسائل التالية: أولاً تعريفه: أ _ تعريفه في اللغة: قال ابن فارس رحمه الله: "الراء والدال والفاء أصلٌ واحد مطرد، يدل على اتباع الشيء؛ فالترادف التتابع، والرديف الذي يرادفك"1. ب_ وفي الاصطلاح: عرف بعدة تعريفات متقاربة: منها ما عرفه به الجرجاني حيث قال: 1_ "المترادف: ما كان معناه واحداً، وأسماؤه كثيرة"2. 2_ وعرفه بتعريف آخر فقال: "الترادف: هو عبارة عن الاتحاد في المفهوم، وقيل: توالي الألفاظ المفردة الدالة على شيء باعتبار واحد"3. 3_ وعرفه _ أيضاً _ بقوله: "المرادف: ما كان مسماه واحداً، وأسماؤه كثيرة، وهو خلاف المشترك"4.

_ 1_ معجم مقاييس اللغة 2/503. 2_ التعريفات ص199. 3_ التعريفات ص56. 4_ التعريفات ص208.

4_ وقال السيوطي: "قال الإمام فخر الدين: هو الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد باعتبار واحد"1. 5_ وقيل: هو ما اتحد معناه، واختلف لفظه. ومن أمثلة ذلك: السيف، والباتر، والمهند وغيرها كلها ألفاظ تدل على مسمى واحد. ثانياً: سبب التسمية: قال الجرجاني عن سبب التسمية: "المترادف ما كان معناه واحداً، وأسماؤه كثيرة، وهو ضد المشترك؛ أخذاً من الترادف الذي هو ركوب أحد خلف آخر، كأن المعنى مركوب، واللفظين راكبان عليه كالليث والأسد"2. ثالثاً: الخلاف في وقوعه3: ذهب بعض العلماء إلى إنكار المترادف. قال السيوطي: "قال التاج السبكي في شرح المنهاج: ذهب بعض الناس إلى إنكار المترادف في اللغة العربية، وزعم أن كل ما يظن من المترادفات فهو من المتباينات التي تتباين بالصفات كما في الإنسان والبشر؛ فإن الأول موضوع له باعتبار النسيان، أو باعتبار أنه يُؤْنِس. والثاني _ يعني البشر _ باعتبار أنه بادي البشرة. وكذا الخندريس: العقار4؛ فإن الأول؛ باعتبار العتق، والثاني باعتبار عقر

_ 1_ المزهر 1/402. 2_ التعريفات ص199. 3_ انظر الصاحبي 59_61، والمزهر 1/403_405. 4_ الخندريس والعقار: من أسماء الخمر.

الدن؛ لشدَّتها. وتكلف لأكثر المترادفات بمثل هذا المقال العجيب"1. وممن قال بهذا القول ابن فارس، ونقله عن شيخه ثعلب. وممن قال بهذا القول أبو علي الفارسي2. وقال ابن فارس في الصاحبي في باب الأسماء وكيف تقع على المسميات: "ويسمى الشيء الواحد بالأسماء المختلفة نحو: السيف، والمهند، والحسام. والذي نقوله في هذا: إن الاسم واحد وهو السيف، وما بعده من الألقاب صفات، ومذهبنا أن كل صفة منها فمعناها غير معنى الأخرى. وقد خالف في ذلك قوم فزعموا أنها وإن اختلفت ألفاظها فإنها ترجع إلى معنى واحد، وذلك قولنا: سيف، وعضب، وحسام. وقال آخرون: ليس منها اسم ولا صفة إلا ومعناه غيرُ معنى الآخر، قالوا: وكذلك الأفعال نحو: مضى، وذهب، وانطلق، وقعد، وجلس، ورقد، ونام، وهجع. قالوا: ففي قعد معنى ليس في جلس وكذا القول فيما سواه. وبهذا نقول، وهو مذهب شيخنا أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب. واحتج أصحاب المقالة الأولى بأنه: لو كان لكل لفظة معنى غير معنى الأخرى لما أمكن أن يعبر عن شيء بغير عبارته. وذلك أنا نقول في لا ريب فيه: لا شك فيه فلو كان الريب غير

_ 1_ المزهر 1/403. 2_ انظر المزهر 1/405.

الشك لكانت العبارة عن معنى الريب بالشك خطأ، فلما عبر عن هذا بهذا علم أن المعنى واحد. قالوا: وإنما يأتي الشعر بالاسمين المختلفين للمعنى الواحد في مكان واحد تأكيداً ومبالغة، كقولهم: وهند أتى من دونها النأيُ والبعدُ فقالوا: فالنأي هو البعد، قالوا: وكذلك قول الآخر إن الحبس هو الإصْرُ. ونحن نقول: إن في قعد معنىً ليس في جلس، ألا ترى أنا نقول قام ثم قعد وأخذه المقيم والمقْعِدُ وقعدت المرأة عن الحيض ونقول لناس من الخوارج قَعَدٌ ثم نقول: كان مضطجعاً فجلس فيكون القعود عن قيام، والجلوس عن حالة هي دون الجلوس؛ لأن الجَلْسَ: المرتفع فالجلوس ارتفاع عما هو دونه، وعلى هذا يجري الباب كله. وأما قولهم: إن المعنيين لو اختلفا لما جاز أن يعبر عن الشيء بالشيء _ فإنا نقول: إنما عبر عنه من طريق المشاكلة، ولسنا نقول إن اللفظتين مختلفتان، فيلزمنا ما قالوه، وإنما نقول: إن في كل واحدة منهما معنىً ليس في الأخرى"1. وقال آخرون: إن الترادف واقع، وله فوائد، وهو قول كثير ممن ألف في هذا الباب كابن خالويه، والفيروزبادي، وغيرهم. والحاصل _كما قال العلامة عز الدين بن جماعة_: "أن من جعلها مترادفة ينظر إلى اتحاد دلالتها على الذات، ومن يمنع ينظر إلى اختصاص بعضها بمزيد

_ 1_ الصاحبي ص59_60.

معنى فهي تشبه المترادفة في الذات، والمتباينة في الصفات"1. فإذا قلنا _ على سبيل المثال _: إن الله هو السميع، العليم، البصير، الخالق، البارئ، المصور، فهذه الأسماء مترادفة باعتبار دلالتها على ذات واحدة ومسمى واحد هو الله _ عز وجل _. وهي متباينة باعتبار أن في السميع معنىً غير المعنى الذي في البصير، وهكذا ... وكذلك أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم الحاشر، والعاقب، وغيرها؛ فهي مترادفة باعتبار أنها دلت على مسمى واحد وهو الرسول صلى الله عليه وسلم. وهي متباينة لاختلاف معنى الحاشر عن العاقب وهكذا. وإلى هذا الرأي مال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الرسالة التدمرية وغيرها2. رابعاً: أسباب وقوع الترادف: قال السيوطي رحمه الله: "قال أهل الأصول: لوقوع الألفاظ المترادفة سببان: أحدهما: أن يكون من واضِعَيْنِ، وهو الأكثر بأن تضع إحدى القبيلتين أحد الاسمين، والأخرى الاسم الآخر للمسمى الواحد من غير أن تشعر إحداهما بالأخرى، ثم يشتهر الوضعان، ويخفى الواضعان، أو يلتبس وضع أحدهما بوضع الآخر؛ وهذا مبني على كون اللغات اصطلاحية. والثاني: أن يكون من واضع واحد وهو الأقل "3.

_ 1_ المزهر 1/405. 2_ التدمرية ص102. 3_ المزهر 1/405_406.

خامساً: فوائد المترادف: لوقوع المترادف _ عند القائلين به _ فوائد عديدة ترجح ما ذهبوا إليه، وترد على من يقول بمنع وقوعه، ومن تلك الفوائد ما يلي1: 1_ أن تكثر الوسائل إلى الإخبار عما في النفس؛ فإنه ربما نسي أحد اللفظين، أو عسر عليه النطق به. وكان واصل بن عطاء ألثغ، فلم يُحفظ عنه أنه نطق بالراء، ولولا المترادفات تعينه على قصده لما قدر على ذلك. 2_ التوسع في سلوك طرق الفصاحة، وأساليب البلاغة في النظم والنثر؛ وذلك لأن اللفظ الواحد قد يتأتى _ باستعماله مع لفظ آخر _ السجعُ، والقافيةُ، والتجنيس، والترصيع، وغير ذلك من أصناف البديع، ولا يتأتى ذلك باستعمال مرادفه مع ذلك اللفظ. 3_ المراوحة في الأسلوب، وطرد الملل والسآمة؛ لأن ذكر اللفظ بعينه مكرراً قد لا يسوغ، وقد يُمَجُّ، ولا يخفى أن النفوس موكلة بمعاداة المعادات. 4_ قد يكون أحد المترادفين أجلى من الآخر؛ فيكون شرحاً للآخر الخفي. وقد ينعكس الحال بالنسبة إلى قوم دون آخرين. 5_ قد يكون أحد اللفظين أنسب للمقام من الآخر: وذلك كأن يكون في أحدهما غضاضةً، أو تعبيراً لشخص؛ فيُعْدَل عنه إلى اللفظ الآخر الذي ليس فيه غضاضة؛ فيؤدى الغرض ولا يخفى في ذلك من الذوق دون إساءة أو لمز ومراعاة المشاعر.

_ 1_ انظر المزهر 1/406.

سادساً: المؤلفات في المترادف1: ألف في المترادف مجموعة من العلماء، منهم العلامة مجد الدين الفيروز بادي صاحب القاموس، حيث ألف كتاباً سماه الروض المسلوف فيما له اسمان إلى ألوف. وأفرد خلق من الأئمة كتباً في أشياء مخصوصة؛ فألف ابن خالويه كتاباً في أسماء الأسد، وكتاباً في أسماء الجنة. أما الكتب التي تحدثت عن المترادف ضمناً فكثيرة، ومنها المزهر للسيوطي، حيث خصص النوع السابع والعشرين منه في معرفة المترادف. سابعاً: أمثلة من المترادف2: 1_ العسل: له ثمانون اسماً أوردها صاحب القاموس في كتابه الذي سماه ترقيق الأسل لتصفيق العسل. ومن تلك الأسماء: العسل، والضَّرب، والضَّرَبة، والضَّريب، والشَّوب، والذَّوب، والحميت، والتحموت، والجَلْس، والورس، والشَّهد، والشُّهد، والماذي، ولعاب النحل، والرحيق، وغيرها. 2_ السيف: ومن أسمائه مما ذكره ابن خالويه في شرح الدريدية: الصارم، والرِّداء، والخليل، والقضيب، والصفيحة، والمُفَقِّر، والصمصامة، والكهام، والمشرفي، والحسام، والعضب، والمذكَّر، والمهند، والصقيل، والأبيض، وغيرها. 3_ يقال: أخذه بأجْمَعِه، وأجْمُعِه، وبحذافيره، وجذاميره، وجزاميره، وجراميزه، وبجملته.

_ 1_ انظر المزهر 1/407. 2_ انظر المزهر 1/407_413.

4_ العمامة: ويقال: الشوذ، والسِّبّ، والعصابة، والتاج، والمِكْورة. 5_ وقال ابن السكيت: العرب تقول: لأقيمن ميلَك، وجنفك، ودرْأك، وصغاك، وصدَعك، وقذَلك، وضِلعك كله بمعنى واحد. 6_ ويقال: قُطعت يده، وجُذِمت، وبُتِرَت، وبُتِكت، وبُصِكت، وصُرِمت، وتُرَّت، وجُذَّت. 7_ ويقال: وقع ذلك في رُوعي، وخَلَدي، وَوَهْمي، بمعنى واحد. 8_ وفي أمالي ثعلب يقال: سويداء قلبه، وحبَّة قلبه، وسواد قلبه، وسوادة قلبه، وجُلجُلان قلبه، وسوداء قلبه بمعنى واحد. 9_ وفي الجمهرة: قال أبو زيد: قلت لأعرابي: ما المُحْبَنْطَى1؟ قال: المتكأكئ، قلت: ما المتكأكئ؟ قال: المتآزف، قلت ما المتآزف؟ قال: أنت أحمق.

_ 1_ المحبنطى: السمين الضخم، ويقال: هو الممتلئ غيظاً.

الفيبة والرجعة

الفيبة والرجعة مدخل ... الغيبة والرجعة هذان المصطلحان يردان في كتب العقائد خصوصاً في كتب الشيعة، أو في كتب أهل السنة إذا أرادوا أن يردوا على الشيعة. وفيما يلي نبذة عن هذين المصطلحين اللذين هما من عقائد الشيعة.

اولا: الغيبة

أولاً: الغيبة: وهي "من العقائد الأساسية عند الشيعة الإمامية؛ وذلك أن الشيعة تعتقد أن الأرض لا تخلو من إمام لحظة واحدة، ولو بقيت بغير إمام لساخت"1. ولكن أين إمامهم المزعوم؟ وفي أي مكان يقيم؟ الجواب أن الشيعة الإمامية تسمى الاثني عشرية؛ لاعتقادهم إمامة الاثني عشر إماماً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فالإمامة عندهم منحصرة بهؤلاء الأئمة وهم: 1_ علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولد قبل البعثة بعشر سنوات، واستشهد سنة أربعين. 2_ الحسن بن علي الزكي 3 _50هـ. 3_ الحسين بن علي سيد الشهداء 4 _61هـ. 4_ أبو محمد علي بن الحسن زين العابدين 38 _95 هـ. 5_ أبو جعفر محمد بن علي الباقر 57_114 هـ. 6_ أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق 83 _ 148 هـ. 7_ أبو إبراهيم موسى بن جعفر الكاظم 128_183هـ.

_ 1_ مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة د. ناصر القفاري 1/349.

8_ أبو الحسن علي بن موسى الرضا 148_202 أو 203 هـ. 9_ أبو جعفر محمد بن علي الجواد 195_220 هـ. 10_ أبو الحسن علي بن محمد الهادي 212_254هـ. 11_ أبو محمد الحسن بن علي العسكري 232_260هـ. 12_ أبو القاسم محمد بن الحسن المهدي. ولكن هل استمرت على النحو الذي ذكروه، وهل سارت في طريقها الذي زعموه؟ الجواب لا؛ لأن إمامهم الحادي عشر _ الحسن العسكري _ توفي سنة 260هـ بلا عقب، كما قاله كبار المؤرخين، واعترفت به كتب الشيعة بأنه لم يُرَ له خلف، ولم يعرف له ولد ظاهر؛ فاقتسم ما ظهر من ميراثه أخوه جعفر وأمه. ولقد تحير الشيعة بعد وفاة الحسن العسكري بلا ولد، وتفرقوا _ فيمن يخلفه _ فرقاً شتى، بلغت _ كما قال المسعودي _ عشرين فرقة، أو خمس عشرة فرقة _كما يقول القمي_1. "حتى إن بعضهم قال: إن الإمامة انقطعت، وكاد أن يكون موت الحسن بلا عقب نهاية للشيعة والتشيع؛ حيث سقط عموده وهو الإمام"2. إلا أن فكرة الغيبة _ غيبة الإمام _ وهي عقيدة يهودية3_ "كانت هي القاعدة التي قام عليها كيان الشيعة بعد التصدع، وأمسكت ببنيانه عن الانهيار؛ ولهذا

_ 1_ انظر منهاج السنة 4/87 و1/113_114 ومسألة التقريب 1/350. 2_ مسألة التقريب 1/350. 3_ انظر بذل المجهود في مشابهة الرافضة لليهود، لعبد الله الجميلي.

أصبح الإيمان بغيبة ابن الحسن العسكري هي المحور الذي تدور عليه عقائدهم، ودان بها أكثر الشيعة بعد تخبط واضطراب فلم يكن لهم من ملجأ إلا ذلك"1. ومن هنا ادعوا أن للحسن العسكري ولداً، وقالوا: "إنه غاب عن الأعين، وله غيبتان: الغيبة الصغرى، والغيبة الكبرى. كما كذبوا على جعفر أنه قال: للقائم غيبتان: إحداهما قصيرة، والأخرى طويلة، والغيبة الأولى لا يعلم بمكانه فيها إلا خاصة شيعته، والأخرى لا يعلم بمكانه فيها إلا خاصة مواليه"2. ولقد اضطربت الشيعة في مسألة غيبة الإمام؛ فهي "في أركان المذهب الشيعي من المسائل التي حيرت كثيراً من الشيعة؛ لشكهم في أمره، وطول غيبته، وانقطاع أخباره"3. ولعل هذا الاضطراب في مسألة غيبة الإمام _ يرجع إلى أن الأسباب التي يذكرها الشيعة علة لغيبته _ لا يقتنع بها عاقل؛ فالشيعة يعللون سبب غيبته بأنه يخاف القتل، مع أنهم يقولون: بأن الأئمة يعلمون متى يموتون، ولا يموتون إلا باختيار منهم، فكيف يحتجب خوفاً، وأمر الموت بيده؟! 4. أما مكانه الذي غاب فيه فيزعمون أنه في سرداب سامراء؛ حيث دخل فيه وسيخرج منه في آخر الزمان.

_ 1_ مسألة التقريب 1/350_351. 2_ الشيعة والتشيع ص351_352، وانظر الثورة الإيرانية في ميزان الإسلام للشيخ منظور نعماني ص146_147. 3_ مسألة التقريب 1/254. 4_ مسألة التقريب 1/354.

ثانيا: الرجعة

ثانياً: الرجعة: فالرجعة من عقائد الشيعة الأساسية، وقد استمدوها من اليهودية، والرجعة عند الشيعة تعني قيام المهدي المزعوم _ وهو إمامهم الثاني عشر _ ورجوعه إلى الدنيا، فهم يزعمون أنه حي، وينتظرون خروجه _ أي ثورته _ ليثوروا معه، وإذا ذكروه في كتبهم يكتبون إلى جانب اسمه أو كنيته حرْفَي عج أي عجل الله فرجه1. ولم يكتف الشيعة الاثنا عشرية بالقول إن معدومهم الغائب هو الذي سيرجع فحسب، بل قالوا أكثر من ذلك، وهو أنه يَرْجع، ويُرجع الآخرين من الشيعة، وأئمتهم، وأعدائهم حسب زعمهم2. ويقولون: إنه سينتقم من أعدائه السابقين واللاحقين ثم حكام المسلمين، "وعلى رأس الجميع الجبت والطاغوت _ أبو بكر وعمر _ فمن بعدهما، فيحاكمهم على اغتصابهم منه3 من آبائه الأحد عشر إماماً"4. ويرون أنه بعد محاكمة الطواغيت _ بزعمهم _ سيقوم بقتلهم. فهذه الخرافة _ خرافة الرجعة _ تعد من العقائد الأساسية التي لا يرتاب فيها شيعي واحد.

_ 1_ انظر الخطوط العريضة لمحب الدين الخطيب تعليق محمد مال الله ص59. 2_ انظر الشيعة والتشيع ص360، وانظر تعريف بمذهب الشيعة الإمامية د. محمد أحمد التركماني ص18_19. 3_ يعني الحكم والإمامة. 4_ الخطوط العريضة ص59، وانظر الرد على الرافضة للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص31_32.

"ولهذا ظل الشيعة إلى أواخر القرن الرابع عشر الميلادي الذي صنف فيه ابن خلدون تاريخه الكبير يجتمعون في كل ليلة بعد صلاة المغرب بباب سرداب سامراء، فيهتفون باسمه1، ويدعونه للخروج حتى تشتبك النجوم، ثم ينفضون إلى بيوتهم بعد طول الانتظار، وهم يشعرون بخيبة الأمل والحزن"2. حتى أصبحوا بهذا الانتظار مثاراً للسخرية والتندر، ومما قيل في ذلك: ما آن للسرداب أن يلد الذي ... صيرتموه بزعمكم إنسانا فعلى عقولكم العفاء فإنكم ... ثلثتم العنقاء والغيلانا3

_ 1_ أي الغائب الذي في السرداب. 2_ مسألة التقريب 1/357. 3_ التشيع والشيعة لأحمد الكسروي تحقيق د. ناصر القفاري، والشيخ د. سلمان العودة ص87.

ولاية الفقيه

ولاية الفقيه الشيعة الاثنا عشرية تعتقد أن الولاية العامة على المسلمين منوطة بأشخاص معينين بأسمائهم، وعددهم، وقد اختارهم الله كما يختار أنبياءه، وهؤلاء هم الأئمة الاثنا عشر، وهؤلاء الأئمة أمرهم كأمر الله، وعصمتهم كعصمة رسل الله أو أعظم، وفضلهم فوق فضل أنبياء الله. ولكن آخر هؤلاء الأئمة _ حسب اعتقادهم _ غائب منذ سنة 260هـ. ولذا فإن الاثني عشرية تحرم أن يلي أحد منصبه في الخلافة حتى يخرج من مخبئه1. فيقولون: "كل راية ترفع قبل راية القائم فصاحبها طاغوت"2. وعلى هذا مضى شيعة القرون الماضية، وقد استطاعوا أن يأخذوا مرسوماً إمامياً وتوقيعاً من الغائب _ على حد زعمهم _ يسمح لبعض شيوخهم أن يتولوا بعض الصلاحيات الخاصة بالغائب لا كل الصلاحيات. ولذا استقر الأمر عند الشيعة على أن ولاية فقهائهم خاصة بمسائل الإفتاء وأمثالها، كما ينص عليه توقيع المنتظر. أما الولاية العامة التي تشمل السياسة وإقامة الدولة _ فهي من خصائص الغائب، وهي موقوفة حتى يرجع من غيبته؛ ولذلك عاش أتباع هذا المذهب وهم ينظرون إلى خلفاء المسلمين على أنهم غاصبون مستبدون.

_ 1_ انظر بروتوكولات آيات قم حول الحرمين المقدسين د. عبد الله الغفاري ص33. 2_ انظر المرجع السابق ص33، نقلاً عن الكافي مع شرحه للمازندراني 2/371.

وهذا الأمر يقودهم إلى الحسرة؛ لأنهم يعتقدون أن الخلفاء استولوا على سلطان إمامهم؛ لذلك فهم يَدْعون _ دائماً _ بأن يعجل الله فرج هذا الغائب؛ حتى يقيم دولتهم، وينتقم من أعدائهم، لكن غيبة هذا المنتظر طالت، وتوالت قرون قاربت الاثني عشر دون أن يظهر، والشيعة _ طوال هذا الوقت _ محرومون من دولة شرعية _حسب اعتقادهم_1. ثم بدأت فكرة القول بنقل وظائف المهدي المنتظر تداعب أفكار المتأخرين منهم. فنتج عن ذلك القولُ والاعتقاد بولاية الفقيه، وهي تعني أن يقوم الفقيه الشيعي _لا غيره_ مقام الإمام الغائب، بحيث يكون له ما للغائب من التقديس، والتعظيم، والخضوع، والانقياد لأوامره واجتهاداته، ولا يحل لأحد أن يعترض على الفقيه؛ لأن المعترض عليه معترض على الله. فالفقيه عندهم ليس له الولاية الخاصة بمعنى أنه المرجع في الفتوى والخصومات فحسب، بل له الولاية العامة، أي له ما للإمام من السلطة الدينية، والولاية العامة لأمور الناس، والزعامة الشاملة فيما يخص شؤون المسلمين العامة، وله الحق في الموارد التي يكون للإمام التصرف فيها، كأخذ الخمس من الغنائم، وله المعادن والأرض التي لا مالك لها، ورؤوس الجبال، وما يكون فيها من حجارة أو شجر أو معدن2.

_ 1_ انظر بروتوكولات آيات قم ص34. 2_ انظر نظرية ولاية الفقيه، دراسة وتحليل ونقد د. عرفان عبد الفتاح ص6، وأثر الإمامة في الفقه الجعفري وأصوله د. علي السالوس ص406_407، والشيعة الإمامية الاثنا عشرية في ميزان الإسلام، ربيع بن محمد ص205.

"وعقيدة عموم ولاية الفقيه لم توجد عند الاثني عشرية قبل القرن الثالث عشر"1. "وقد أشار الخميني إلى أن شيخهم النراقي ت1245هـ والنائيني ت1355هـ _ قد ذهبا إلى أن للفقيه جميع ما للإمام من الوظائف والأعمال في مجال الحكم والإدارة والسياسة. ولم يذكر الخميني أحداً من شيوخهم نادى بهذه الفكرة قبل هؤلاء، ولو وجد لذكره؛ لأنه يبحث عما يبرر به مذهبه"2. "وقد التقط الخميني هذا الخيط الذي وضعه مَنْ قبله، وراح ينادي بهذه الفكرة، وضرورة إقامة دولة برئاسة نائب الإمام لتطبيق المذهب الشيعي"3. ولذلك فهو يقول: "واليوم _ في عهد الغيبة _ لا يوجد نص على شخص معين يدير شؤون الدولة، فما هو الرأي؟ هل نترك أحكام الإسلام معطلة؟ أم نرغب بأنفسنا عن الإسلام؟ أم نقول: إن الإسلام جاء ليحكم الناس قرنين من الزمان فحسب، ليهملهم بعد ذلك؟ ونحن نعلم أن عدم وجود الحكومة يعني ضياع ثغور الإسلام وانتهاكها، ويعني تخاذلنا عن أرضنا، هل يُسمح بذلك في ديننا؟ أليست الحكومة تعني ضرورة من ضرورات الحياة"4. ويقول في موطن آخر: "قد مر على الغيبة الكبرى لإمامنا المهدي أكثر من ألف

_ 1_ بروتوكولات آيات قم ص35. 2_ المرجع السابق ص34_35. 3_ المرجع السابق ص35. 4_ المرجع السابق ص35، نقلاً عن الحكومة الإسلامية للخميني ص48.

عام، وقد تمر ألوف السنين قبل أن تقتضي المصلحة قدوم الإمام المنتظر في طول هذه المدة المديدة، هل تبقى أحكام الإسلام معطلة؟ ويعمل الناس من خلالها ما يشاؤون؟ ألا يلزم من ذلك الهرج والمرج؟ القوانين التي صدع بها نبي الإسلام " وجهر في نشرها، وبيانها، وتنفيذها طيلة ثلاثة وعشرين عاماً، هل كان ذلك لمدة محدودة؟ هل حدد الله عمر الشريعة بمائتي عام _ مثلاً _؟ الذهاب إلى هذا الرأي أسوأ في نظري من الاعتقاد بأن الإسلام منسوخ"1. ثم يقول: "إذن فإن كل من يتظاهر بالرأي القائل بعدم ضرورة تشكيل الحكومة الإسلامية، فهو ينكر ضرورة تنفيذ أحكام الإسلام، ويدعو إلى تعطيلها وتجميدها، وهو ينكر بالتالي شمول وخلود الدين الإسلامي الحنيف"2. فخميني يرى لهذه المسوغات التي ذكرها ضرورة خروج الفقيه الشيعي وأتباعه للاستيلاء على الحكم في بلاد الإسلام نيابة عن المهدي، خارجاً بذلك عن مقررات دينه، مخالفاً نصوص أئمته الكثيرة في ضرورة انتظار الغائب، وعدم التعجل في أمره3. ثم دأب خميني في سلوك السبل المفضية لإقناع الناس بما يراه، "وظل الخميني زمناً طويلاً يُلقي على طلابه في النجف دروساً في مبدأ ولاية الفقيه،

_ 1_ بروتوكولات آيات قم ص36، نقلاً عن الحكومة الإسلامية ص26. 2_ المرجع السابق ص36، نقلاً عن الحكومة الإسلامية ص26_27. 3_ انظر المرجع السابق ص36.

وضرورة قيام حكومة إسلامية من منطلق طائفي مذهبي. وحشد أدلة كثيرة من واقع كتب المذهب الشيعي على صحة ما يذهب إليه، وينادي به رغم أن تلك الروايات التي يستشهد بها لا ترقى وفق ميزان النقد الحديثي عند الشيعة إلى درجة الصحة"1. "وفي منفاه في العراق، ثم في فرنسا أخذ يؤلب أتباعه على الشاه، ويحضهم على القيام بثورة لقلب نظام الحكم في إيران، وتسليم السلطة إلى الفقيه العادل. وفي عام 1979م بدأت مرحلة جديدة في التاريخ الإيراني الحديث، فقد غادر الشاه إيران إلى منفاه، وعاد الخميني من منفاه، وتسلم السلطة في إيران، وبدأ الخميني في تطبيق ما نادى به منذ عشرات السنين"2. ومن هنا بدأت المرحلة الفعلية لتطبيق نظرية ولاية الفقيه التي تعني _بزعمه_: حكومة إسلامية يقوم بتشكيلها ويجلس على عرشها فقيه عالم. فهي نظرية "ترتكز على أصلين: الأول: القول بالولاية العامة للفقيه. والثاني: أنه لا يلي رئاسة الدولة إلا الفقيه الشيعي"3. هذا وقد أُفرغت هذه النظرية في كتاب ولاية الفقيه أو الحكومة الإسلامية الذي نشرته حركة الخميني، وجعلته دستوراً لحركتها، ومنهاجاً لثورتها ضد

_ 1_ نقد ولاية الفقيه للشيخ محمد مال الله ص11، وانظر كشف الأسرار للخميني ص206_207، ونظرية ولاية الفقيه دراسة وتحليل ونقد ص44_45. 2_ نقد ولاية الفقيه ص12. 3_ بروتوكولات آيات قم ص39.

نظام الشاه، والكتاب مجموع محاضرات الخميني على طلابه في النجف حول هذا الموضوع. والناظر في عقيدة _ أو نظرية _ ولاية الفقيه يلاحظ ما يلي1: أولاً: أن الخميني ساق مسوغات كثيرة لبيان ضرورة إقامة الدولة الشيعية، ونيابة الفقيه عن المهدي في رئاستها، وكان ينبغي لهذه المسوغات أن توجه وجهة أخرى لو كان للخميني ومن أيده قدم صدق في القول، وحرص على نصح الأتباع. وهذه الوجهة هي نقد المذهب من أصله، الذي قام على خرافة الغيبة، وانتظار الغائب والذي انتهى بهم إلى هذه النهاية. ثانياً: ولاية الفقيه شهادة مهمة وخطيرة على فساد مذهب الشيعة من أصله، وأن اجتماع طائفته في القرون الماضية كان على ضلالة، وأن رأيهم في النص على إمام معين، والذي نازعوا من أجله أهل السنة طويلاً وكفروهم _ أمر فاسد أثبت التاريخ والواقع فساده بوضوح تام؛ فهاهم يضطرون للخروج على رأيهم بقولهم بـ: "عموم ولاية الفقيه" بعد أن تطاول عليهم الدهر، ويئسوا من خروج مَنْ يسمونه صاحب الزمان، فاستولوا حينئذٍ على صلاحياته كلها. ثالثاً: أن ولاية الفقيه خروج عن دعوى تعيين الأئمة، وحصرهم باثني عشر؛ لأن الفقهاء لا يحصرون بعدد معين، وهم غير منصوص على أعيانهم، وهذا يعني أنهم عادوا لمفهوم الإمامة عند أهل السنة _ إلى حد ما _ لأنهم خرجوا

_ 1_ انظر بروتوكولات آيات قم ص37_49، والشيعة الإمامية الاثنا عشرية في ميزان الإسلام ص207_208، ونظرية ولاية الفقيه دراسة وتحليل ونقد ص57_61.

من حصر الإمامة بالشخص وهو الإمام المنصوص عليه _ بزعمهم _ إلى حصرها بالنوع، وهو الفقيه الشيعي. وهم بذلك يُقرون بضلال أسلافهم، وفساد مذهبهم بمقتضى هذا القول. لكنهم يعدون هذا المبدأ ولاية الفقيه نيابة عن المهدي حتى يرجع، فهم لم يتخلوا عن أصل مذهبهم، ولهذا أصبح هذا الاتجاه لا يختلف عن مذهب البابية؛ لأنه يزعم أن الفقيه الشيعي هو الذي يمثل المهدي، كما أن الباب يزعم ذلك، ولعل الفارق أن الخميني يعد كل فقهائهم أبواباً. رابعاً: أن الذين قالوا بولاية الفقيه يرون أن حكومتهم الحاضرة أول دولة إسلامية يعني شيعية مع أنه قد قامت حكومات شيعية، ولكنها ليست محكومة من قبل الآيات _ الفقهاء _ ولذا عدوا حكومتهم هذه أول دولة إسلامية. خامساً: أن هذه النظرية تدل على إفلاس الفكر الشيعي وتناقضه فيه؛ إذ كيف يتلقون تعاليمهم من طفل غاب في السرداب _ كما يزعمون _. ثم ما هذا التناقض العجيب؟ فإذا صدقنا وتنزلنا معهم أن الأئمة لم يجلسوا إلى معلمين، وإنما أخذوا علمهم عن طريق الإلهام، فهل الفقهاء _ أيضاً _ لم يجلسوا إلى معلمين؟ ثم كيف خلعوا عليهم رداء العصمة كما خلعوها على الأئمة؟ سادساً: أن في هذه النظرية حطاً من شأن النبوة: ذلك أنهم عدوا المجتهد حاكماً، وعدوا الرد عليه رداً على الإمام، والردُّ على الإمام _ عندهم _ رد على الله، والرد على الله يقع في حد الشرك. فلماذا تجاوز الشيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أن الإمامة والاجتهاد الشيعي في منزلة دونها النبوة والرسالة؟ 1.

_ 1_ انظر كشف الأسرار ص207.

سابعاً: أن ولاية الفقيه لم تلق التأييد المطلق من الشيعة: فلقد أثار ذلك ثائرة جملة من شيوخ الشيعة، ونشب صراع حاد بين الخميني وأحد مراجعهم الكبار، وهو شريعتمداري كما أعلن طائفة منهم معارضتهم لهذا المذهب، منهم آية الله الخوئي زعيم الحوزة العلمية بالنجف، والشيخ اللبناني محمد جواد مغنية، والدكتور موسى الموسوي، وغيرهم. ثامناً: الإخفاق في التطبيق: وهذا مما يدل على بطلان هذه النظرية وفسادها؛ فلقد كتب الخميني كثيراً عن عدالة مطالبه، وهو حق الفقيه العالم في تشكيل الحكومة، وكتب عن النتائج الباهرة المنتظر تحققها في عهد ولاية الفقيه من حيث العدالة والأمن والأمان، والسعادة في الدارين، وحكومة عالمية منقطعة النظير. ولكن الخُبْر يكذب الخَبَر فما أسهل الدعوى، وما أعزَّ المعنى، والواقع الإيراني يدل على ذلك؛ فلقد عانى من ديكتاتورية الفرد _ وهو الخميني _ الذي استطاع أن يستبد بشعب عانى الأمرين من الحاكم السابق الشاه ولا فرق بين الاثنين؛ فالأول بتاج، والآخر بعمامة. بل إن الشاه كان أقل بطشاً بمن يخالفه في مذهبه العقدي من الخميني نفسه؛ فإن الأخير بطش بأناس لا ذنب لهم إلا أنهم يدينون بعقائد تخالف عقيدته، مثل ما فعل بأهل السنة من تقتيل وتشريد1. ومن هنا يتبين لنا بطلان هذه النظرية وفسادها، بل وبطلان مذهب الشيعة وفساده.

_ 1_ انظر نقد ولاية الفقيه ص12_13، وولاية الفقيه دراسة وتحليل ونقد ص61، ولماذا أفتى علماء المسلمين بكفر الخميني، وجيه المديني ص60_76.

التقية

التقية هذا المصطلح يرد في كتب الشيعة، وفي كتب أهل السنة خصوصاً إذا ردوا على الشيعة. والتقية من عقائد الشيعة التي يدينونها. وفيما يلي نبذة يسيرة عن هذا المصطلح. -التقية في اللغة: التقية بفتح التاء وتشديدها، وكسر القاف، وفتح الياء وتشديدها _ تطلق في اللغة عدة اطلاقات، منها: الخوف، والحذر، والكتمان. قال ابن منظور: "وقد تَوَقَّيتُ، واتقيت الشيء، وتَقَيْتُه أتَّقِيْه، وأَتْقيه تُقَىً وتَقيَّةً، وتقاءاً: حذرته"1. وقال: "التقية والتقاة بمعنى، يريد أنهم يتقون بعضهم بعضاً، ويظهرون الصلح والاتفاق، وباطنهم بخلاف ذلك"2. -التقية في الاصطلاح: أما التقية في اصطلاح الشيعة فهي كما عرفها شيخهم المفيد بقوله: "التقية كتمان الحق، وستر الاعتقاد فيه، وكتمان المخالفين، وترك مظاهرتهم بما يعقب ضرراً في الدين أو الدنيا"3. فالتقية _ عندهم _ هي كتمان الاعتقاد؛ خشية الضرر من المخالفين، والمخالفون في اصطلاحهم هم أهل السنة _ كما هو الغالب في إطلاق هذا اللفظ عندهم _.

_ 1_ لسان العرب 15/402. 2_ لسان العرب 15/404. 3_ أصول مذهب الشيعة 2/805، نقلاً عن شرح عقائد الصدوق ص261.

فهم يظهرون مذهب أهل السنة _ الذي يرونه باطلاً _ ويكتمون مذهب الرافضة الذي يرونه حقاً. والشيعة أعطوا التقية صفة التقديس والتعظيم، فجعلوها أساساً لدينهم، وأصلاً من أصولهم ... وهم يزعمون أنهم يعتمدون في التقيَّة على قوله _ تعالى _: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28] . فهم يفسرون هذه الآية تفسيراً يعضد مذهبهم، ويؤيد رأيهم. ولا شك أن ذلك باطلٌ وتعدٍّ على الحق، وإخراج للمعنى عن أصله؛ ذلك أن تفسير الآية الصحيح هو أن يكون المؤمن بين الكفار وحيداً أو في حكم الوحيد، والكفار لهم الغلبة والدولة، فمباح له _ والحالة هذه _ أن يتقيهم حتى يجعل الله له منهم مخرجاً. على ألا تكون التقيَّة بأن يدخل معهم في انتهاك محرم، أو استحلاله، بل التقية بالقول والكلام فحسب1. وقد أجمع أهل العلم على أن التقيَّة رخصة في حال الضرورة. قال ابن بطال تبعاً لابن المنذر: "أجمعوا على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل، فكفر وقلبه مطمئن بالإيمان _ أنه لا يحكم عليه بالكفر"2.

_ 1_ انظر الحركات الباطنية د. محمد الخطيب ص53. 2_ فتح الباري 12/329.

وهذه الرخصة إنما يأخذ بها المستضعفون الذين يخشون ألا يثبتوا على الحق، والذين ليسوا بموضع القدوة؛ فهؤلاء يأخذون بالرخصة. أما أولوا العزم من الأئمة الهداة _ فإنهم يأخذون بالعزيمة، ويحتملون الأذى، ويثبتون على الحق1. قال ابن بطال: "أجمعوا على أن من أكره على الكفر واختار القتل أنه أعظم أجراً عند الله ممن اختار الرخصة"2. أما التقيَّة عند الشيعة فليست رخصة في حال الضرورة فحسب، بل إنها عندهم كما يلي: 1_ يرون أن التقية ركن من أركان الدين كالصلاة أو أعظم، قال ابن بابويه: "اعتقادنا في التقية أنها واجبةٌ مَنْ تَرَكَها بمنزلة من ترك الصلاة"3. 2_ بل جعلوا التقية تسعة أعشار الدين، جاء في أصول الكافي عن جعفر الصادق أنه قال: "إن تسعة أعشار الدين التقيَّة"4. 3_ بل زادوا في ذلك فجعلوها هي الدين كله: جاء في أصول الكافي أن جعفراً قال: "لا دين لمن لا تقية له"5. 4_ جعلوا ترك التقية ذنباً لا يغفر على حد الشرك بالله: قالت أخبارهم:

_ 1_ انظر تعليق الشيخ محمد مال الله على الخطوط العريضة ص23، وانظر الشيعة الإمامية الاثنا عشرية في ميزان الإسلام ص80_81 2_ فتح الباري 12/332. 3_ اًصول مذهب الشيعة 2/807، نقلاً عن الاعتقادات ص114. 4_ الشيعة والسنة ص154، نقلاً عن أصول الكافي 2/219. 5_ أصول مذهب الشيعة 2/807، نقلاً عن أصول الكافي 2/219.

"يغفر الله للمؤمن كل ذنب يظهر منه في الدنيا والآخرة، ما خلا ذنبين: ترك التقية، وتضييع حقوق الإخوان"1. 5_ التقية عندهم حالة مستمرة، وسلوك اجتماعي دائم: قال ابن بابويه في كتابه الاعتقادات: "والتقية واجبة لا يجوز رفعها إلى أن يخرج القائم؛ فمن تركها قبل خروجه فقد خرج عن دين الله _ تعالى _ وعن دين الإمامية، وخالف الله ورسوله والأئمة"2. 6_ يرون أن التقية ملازمة للشيعي في كل ديار المسلمين، حتى أنهم يسمون دار الإسلام دار تقية. 7_ يؤكدون أن تكون عِشْرَةُ الشيعة مع أهل السنة بالتقية. 8_ يرون أن من صلى خلف أهل السنة تقية _ كمن صلى خلف الأئمة. 9_ يرون أن التقية تجري حتى وإن لم يوجد ما يسوغها: فأخبارهم تحث الشيعي أن يأخذ بالتقية مع من يأمن جانبه؛ حتى تصبح سجية وطبيعة له؛ فيمكنه التعامل بها حينئذ مع من يحذره ويخافه بدون تكلف ولا تصنع3. هذه هي التقية عند الشيعة، ليست سوى صورة من صور الكذب والنفاق الذي يخفون وراءه زيفهم وباطلهم، وهذا هو وصف المنافقين الذي بين الله _ عز وجل _ أوصافهم في آيات كثيرة من القرآن الكريم كما في قوله _ سبحانه _:

_ 1_ المرجع السابق 2/807_808، نقلاً عن تفسير الحسن العسكري ص130 ووسائل الشيعة 11/474 وبحار الأنوار 75/415. 2_ أصول مذهب الشيعة نقلاً عن الاعتقادات ص114_115. 3_ انظر المرجع السابق 2/808_809.

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ, يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة] . وقوله: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ14} [البقرة] . كما بين _ عز وجل _ مصير المنافقين بقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} [النساء] . وبمقابل ذلك أثنى الله _ عز وجل _ على أهل الحق الذين يصدعون به، ولا يخافون لومة لائم، فقال عن صفوة خلقه وهم الأنبياء: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ} [الأحزاب: 39] . وقال _ عز وجل _ حاثاً على التصريح بإظهار الحق والصدع بإعلان العقيدة: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة] . هذه هي صفات أهل الحق، يرفعون عقيدتهم به، ويدعون الناس إليه، صابرين على ما يصيبهم في سبيله، محتسبين الأجر والمثوبة عند الله _ عز وجل _. فإذا كان التشيع حقاً _ فلماذا يحرص أصحابه على إخفائه؟! فالتقية _إذاً_ ليست إلا صورة من صور النفاق الذي يتدثر به الشيعة؛ لإخفاء عوار مذهبهم، بل إن أصحاب هذه العقيدة _ كما يرى بعض أهل السنة _ شر من المنافقين؛ لأن المنافقين يعتقدون بطلان ما يبطنونه من كفر، ويتظاهرون

بالإسلام؛ خوفاً، وأما هؤلاء فيرون أن ما يبطنونه هو الحق، وأن طريقتهم هذه هي منهج الرسل والأئمة1. غلو الشيعة في التقية: أما غلو الشيعة في التقية فيرجع لأسباب عديدة منها2: 1_ أن الشيعة تعد إمامة الخلفاء الراشدين الثلاثة باطلة: وهم ومن بايعهم في عداد الكفار، مع أن علياً بايعهم، وصلى خلفهم، وجاهد معهم، وزوجهم، وتسرى من جهادهم، ولما ولي الخلافة سار على نهجهم، ولم يغير شيئاً مما فعله أبو بكر وعمر _ كما تعترف بذلك كتب الشيعة _. وهذا يبطل مذهب الشيعة من أساسه، فحاولوا الخروج من هذا التناقض بالقول بالتقية، وأن علياً إنما فعل ذلك تقية. 2_ أنهم ادعوا العصمة للأئمة: وهذه الدعوى خلاف ما هو معلوم من حالهم، حتى أن روايات الشيعة المنسوبة للأئمة مختلفة متناقضة، بحيث لا يوجد خبر منها إلا وبإزائه ما يناقضه، وهذا يناقض مبدأ العصمة من أصله؛ فكان أن قالوا بالتقية؛ لتسويغ هذا التناقض. 3 _ تسهيل مهمة الكذابين على الأئمة، ومحاولة التعتيم على حقيقة مذهب أهل البيت: بحيث يوهمون الأتباع أن ما يفعله واضعوا مبدأ التقية عن الأئمة _ هو حقيقة مذهبهم، وأن ما اشتهر، وذاع عنهم، وما يقولونه، وما يفعلونه أمام المسلمين _ لا يمثل مذهبهم، وإنما يفعلونه تقيةً؛ فيسهل عليهم بهذه الحيلة ردُّ

_ 1_ انظر أصول مذهب الشيعة 2/805. 2_ انظر أصول مذهب الشيعة 2/811_818.

أقوالهم، والدس عليهم، وتكذيب ما يروى عنهم من حق. 4_ عزل الشيعة عن المسلمين: لذلك جاءت أخبارهم في التقية على النمط، يقول إمامهم أبو عبد الله: "ما سمعت مني يشبه كلام الناس ففيه التقية، وما سمعت مني لا يشبه كلام الناس فلا تقية فيه"1. وهذا مبدأ خطير؛ إذ إن تطبيقه يخرج الشيعة من الإسلام رأساً، وينظمهم في سلك الملاحدة والزنادقة؛ لأنهم جعلوا مخالفة المسلمين هي القاعدة، فتكون النتيجة أنهم يوافقون الكافرين، ويخالفون المسلمين. هذا هو مفهوم التقية، وهذه بعض أسبابها. ولما كانت التقية لا تعني سوى الكذب والنفاق وهو مما تكرهه النفوس السليمة، وتنكره الفطر القويمة، وتأباه العقول الراشدة _ حاولت روايات الشيعة أن تحببهما للأتباع، وتغريهم بالتزامها؛ فزعموا أنها عبادة الله، بل هي أحب العبادات إليه، إلى غير ذلك مما ساقوه في فضائلها مما مر آنفاً. ولهذا فالشيعة تطبق مبدأ التقية، وكلما أوغل الإنسان منهم في التشيع كان أشد أخذاً بها. ولذلك لو تقدمت إلى أي شيعي وسألته عن معتقده لأجابك على الفور بأن الرب واحد، والدين واحد، والنبي واحد، ولا فرق بين المسلمين، ونحن إخوة ويجب أن نكون كذلك، وهكذا ... ومن الأمثلة على التقية عندهم "ما لوحظ في جميع أدوار التأريخ على

_ 1_ المرجع السابق 2/814، نقلاً عن بحار الأنوار 2/252.

جماهير الشيعة، ومواقفهم مع الحكومات الإسلامية _ أن أي حكومة إسلامية إذا كانت قوية راسخة يتملقونها بألسنتهم، عملاً بعقيدة التقية؛ ليمتصوا خيراتها، ويتبوؤوا مراكزها؛ فإذا ضعفت أو هوجمت من عدو انحازوا إلى صفوفه، وانقلبوا عليها، وهكذا كانوا أواخر الدولة الأموية، عندما ثار على خلفائها بنو عمهم العباسيون، بل كانت ثورتهم بتسويل الشيعة، وتحريضهم، ودسائسهم. ثم كانوا في مثل هذا الموقف الإجرامي عندما كانت مهددة باجتياح هولاكو والمغول الوثنيين لخلافة الإسلام، وعاصمة عزِّه ومركز حضارته وعلومه. فبعد أن كان حكيم الشيعة وعالمها النصير الطوسي ينظم الشعر في التزلف للخليفة العباسي المستعصم _ ما لبث أن انقلب في سنة 655هـ محرضاً عليه متعجلاً نكبة الإسلام في بغداد"1.

_ 1_ الخطوط العريضة لمحب الدين الخطيب ص73.

البداء

البداء البداء مصطلح وعقيدة شيعية باطلة، استمدها الشيعة من اليهود، وفيما يلي نبذة موجزة عن هذا المصطلح. البداء في اللغة مصدر للفعل بدا، قال ابن منظور رحمه الله: "بدا الشيء يبدو بدواً، وبُدُوَّاً، وبداءً، وبداً الأخيرة عن سيبويه: ظهر، وأبديته أنا: أظهرته"1. وقال ابن فارس رحمه الله: "الباء والدال والواو أصل واحد وهو ظهور الشيء يقال: بدا الشيء يبدو إذا ظهر فهو باد"2. وقال: "تقول: بدا لي في هذا الأمر بداءاً أي تغير رأي عما كان عليه"3. وقال ابن منظور: "البداء استصواب شيء عُلِمَ بعد أن لم يعلم"4. وقال: "قال الفراء: بدا لي بداء: أي ظهر لي رأي آخر"5. فالبداء _ إذاً _ له معنيان: الأول: الظهور بعد الخفاء، تقول: بدا سور المدينة أي ظهر. الثاني: نشأة الرأي الجديد. وكلا المعنيين ورد في القرآن الكريم فمن الأول قوله _ تعالى _: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ} [البقرة: 284] . ومن الثاني قوله _ تعالى _: {ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى

_ 1_ لسان العرب 14/65، وانظر القاموس ص1629. 2_3_ معجم مقاييس اللغة 1/212. 4_5_ لسان العرب 14/66.

حِينٍ} [يوسف: 35] . والبداء بهذين المعنيين لا تجوز نسبته إلى الله _ عز وجل _ لأن ذلك يستلزم سبق الجهل، وحدوث العلم لله _ عز وجل _ وهذا من أعظم الكفر. والبداء عقيدة يهودية، والشيعة تقول به؛ فالله _ عز وجل _ عند الشيعة يفاجأ بالأشياء دون علمه بها، أو على خلاف ما كان يعلمها؛ فهم ينسبون الجهل والنسيان لله _ جل وعلا _1. أما سبب قولهم بالبداء فهو أن الاثني عشرية أشاعوا بين أتباعهم أن أئمتهم يعلمون الغيب، ولا يخفى عليهم الشيء؛ فيدعون أن الأئمة يقولون سيحدث كذا وكذا؛ فإن وقع الشيء على وَفْق ما قالوه _ قالوا: ألم نعلمكم أن هذا يكون؛ فنحن نعلم من قِبل الله _ عز وجل _ ما عَلِمته الأنبياء، وبيننا وبين الله _عز وجل_ مثل تلك الأسباب التي علمت بها الأنبياء عن الله ما علمت. وإن وقع الشيء على خلاف ما قالوه _ قالوا لشيعتهم: بدا لله في ذلك فلم يُكَوِّنْه. وهذا القول غاية في الخطورة؛ لأنهم بهذا المعتقد نزهوا المخلوق وهو الإمام عن الخلف في الوعد، والاختلاف في القول، والتغير في الرأي، ونشأة رأي

_ 1_ انظر السنة والشيعة لظهير ص63، وغلاة الشيعة وتأثرهم بالأديان المغايرة للإسلام د. فتحي الزغبي ص421_427، والرد الوافي لمغالطات الدكتور علي عبد الواحد وافي لظهير ص199، ومسألة التقريب 1/344، وأصول مذهب الشيعة 2/938_939، وبطلان عقائد الشيعة ص23، وموقف الشيعة من أهل السنة لمحمد مال الله ص33.

جديد، ونسبوا ذلك إلى عالم الغيب والشهادة _ تعالى عما يقولون علواً كبيرا _. فنزهوا المخلوق دون الخالق؛ لأن غلوهم في الأئمة لم يجعل لله _ جل شأنه _ وقاراً في قلوبهم؛ فتاهوا في ضروب الضلال1.

_ 1_ انظر أصول مذهب الشيعة2/943.

عقيدة الطينة

عقيدة الطينة هذا المصطلح يرد في كتب الشيعة، وهو إحدى عقائدهم التي يدينون بها. وهذه العقيدة من العقائد السرية عندهم، وهي تقول: بأن حسنات أهل السنة هي للشيعة، وموبقات الشيعة هي على أهل السنة. فهذه المقالة تجعل الشيعي يعتقد بأن كل بائقة يرتكبها فذنبها على أهل السنة، وكل عمل صالح يعمله أهل السنة فثوابه للشيعة. ولذلك فشيوخ الشيعة يتواصون بكتمان هذه العقيدة عن عامتهم؛ حتى لا يتجرؤوا على ارتكاب المعاصي والمفاسد والمخالفات؛ إذا علموا أن وزرها على غيرهم1. "وملخص ذلك يقول: بأن الشيعي خلق من طينة خاصة، والسني خلق من طينة أخرى، وجرى المزج بين الطينتين بوجه معين، فما في الشيعي من معاصٍ وجرائم هو من تأثره بطينة السني، وما في السني من صلاح وأمانة هو بسبب تأثره بطينة الشيعي؛ فإذا كان يوم القيامة فإن سيئات وموبقات الشيعة توضع على أهل السنة، وحسنات أهل السنة تعطى للشيعة. وعلى هذا المعنى تدور أكثر من ستين رواية من رواياتهم"2. أما عن سبب قولهم بتلك العقيدة _ فيمكن أن يستنبط من كثرة الأسئلة للأئمة، والشكاوى الموجهة إليهم، والتي تنم عن شكوى بعض الصادقين

_ 1_ انظر أصول مذهب الشيعة 2/956_ 3/1285، والشيعة وصكوك الغفران ص157. 2_ أصول مذهب الشيعة 2/956.

الشيعة من انغماس قومهم بالموبقات والكبائر، وسوء المعاملة فيما بينهم، ومن الهم والقلق الذي يجدونه ولا يعرفون سببه. ولنستمع إلى بعض هذه الأسئلة المثيرة التي تكشف شيئاً من واقع المجتمع الشيعي: روى ابن بابويه القمي بسنده عن أبي إسحاق الليثي قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقر _ عليه السلام _: يا ابن رسول الله أخبرني عن المؤمن المستبصر1 إذا بلغ في المعرفة وكمل هل يزني؟ قال: "اللهم لا"، قلت: فيشرب الخمر؟ قال: "لا"، قلت: فيأتي بكبيرة من هذه الكبائر أو فاحشة من هذه الفواحش؟ قال: "لا"، قلت: يا ابن رسول الله إني أجد من شيعتكم من يشرب الخمر، ويقطع الطريق، ويخيف السبيل، ويزني، ويلوط، ويأكل الربا، ويرتكب الفواحش، ويتهاون بالصلاة، والزكاة، ويقطع الرحم، ويأتي الكبائر؛ فكيف هذا ولِمَ هذا؟ قال: يا إبراهيم: هل يختلج في صدرك شيء غير هذا؟ قلت: نعم يا بن رسول الله أخرى أعظم من ذلك، فقال: وما هو يا أبا إسحاق؟ قال، فقلت: يا ابن رسول الله وأجد من أعدائكم ومناصبيكم2 من يكثر من الصلاة والصيام، ويخرج الزكاة، ويتابع بين الحج والعمرة، ويحرص على الجهاد، ويأثر _ كذا _ على البر وصلة الأرحام، ويقضي حقوق إخوانه، ويواسيهم من ماله، ويتجنب شرب الخمر، والزنا، واللواط، وسائر الفواحش فما ذاك؟ ولِمَ ذاك؟

_ 1_ يعني الشيعي. 2_ يعني أهل السنة.

فَسِّرْه لي يا بن رسول الله، وبرهنه، وبينه، فقد _ والله _ كثر فكري، وأسهر ليلي، وضاق ذرعي"1. هذا واحد من الأسئلة التي تكشف عن انزعاج الشيعة من واقعهم، الذي يعج بالمعاصي مقارنة بواقع سلف الأمة، وأئمة أهل السنة، ومعظم عامتهم، وما فيهم من صلاح وتقى. "وقد أجيب هذا السائل بمقتضى عقيدة الطينة، وهي أن المعاصي الموجودة عند الشيعة هي بسبب طينة أهل السنة، والأعمال الصالحة التي تسود المجتمع السني بسبب طينة الشيعي"2. وهكذا تكثر أسئلة الشيعة وشكاواهم عما يجدونه في أنفسهم، ومجتمعاتهم، فمن سائل يشكو سوء معاملة أصحابه، وجفاء طبعهم، وقلة وفائهم على حين عكس ذلك عند أهل السنة، إلى سائل يشكو خبث ألسنة أصحابه، وخبث خلطتهم، وقلة وفائهم بالميعاد، على حين يجد في أهل السنة حسن السمت، والوفاء بالميعاد. إلى آخر يشكو من قلق في نفسه، ولا يجد له حلاً، ولا يعرف له تفسيراً، على حين يجد عند أهل السنة من الراحة، والطمأنينة، والسكينة بحسب قربهم من الله. والإجابة الصحيحة عن هذه الأسئلة _ هي فساد عقيدة القوم، وعدم

_ 1_ أصول مذهب الشيعة 2/957، نقلاً عن علل الشرائع ص606_607، وبحار الأنوار 2/228_229. 2_ المرجع السابق 2/957_958.

وضوحها واستقرارها، وإلا فالعقيدة الصحيحة تزكي النفس، وتجلب الراحة، والسكينة، والأنس، وتضبط سلوك معتنقها. والانحراف في السلوك إنما هو ثمرة للانحراف في العقيدة؛ فالإنسان تحكمه عقيدته. وإزاء هذه الأسئلة المحيرة من عامة الشيعة _ اخترع شيوخ الشيعة عقيدة الطينة؛ محاولة منهم للخروج من تلك الأسئلة المحرجة، والشكاوي المحيرة القاتلة1.

_ 1_ انظر الشيعة وصكوك الغفران ص127_160.

§1/1