مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور

برهان الدين البقاعي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الكتاب: مَصَاعِدُ النَّظَرِ للإِشْرَافِ عَلَى مَقَاصِدِ السِّوَرِ ويُسَمَّى: "المَقْصِدُ الأَسْمَى في مُطَابَقَةِ اسْمِ كُلِّ سُورَةٍ لِلمُسَمَّى" المؤلف: الإمام الحافظ المفسر المؤرخ / برهان الدين أبو الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي الشافعي (المتوفى 885 هـ) دار النشر: مكتبة المعارف - الرياض الطبعة الأولى: 1408 هـ - 1987 م عدد الأجزاء: 3 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

مقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة (وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم) الحمد للهِ الذي أعلم سور الكتاب، بما دل على مقاصدها أولو الألباب ودل بمقاصدها على تناسب جميع أجزائها من الطلاب، من خاض فنون العلوم وفتح عن كنوزها الأغلاق والأبواب. وأشهد أن لا إله إلا الله، الكريم الفتاح، العلي الوهاب، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده الأواب، ورسوله الذي بين للناس ما نزل إليهم من غير شك ولا ارتياب، ونصب لهم على ذلك دلائل الصواب، فلم يدع لبساً ولا غرب عنه معنى ولا غاب، وحمل ذلك عنه أنجاب الأصحاب، فأدوه إلى من رغب فيه من جميع الأحزاب، من شيخ، أو كهل أو يافع أو شاب،

تتميماً للأسباب وتعميماً للدعاء المجاب، فكان من تلك الطبقات، من صدق قوله - صلى الله عليه وسلم - (الجامع) ، "رب مبلغ أوعى من سامع " فبين من دقائق المعاني، وجلائل المباني، ما أربى به على من تقدمه، فأجمل وأحسن وأطاب. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأنجاب، خير آل وأكرم أصحاب وسلم تسليماً يملأ السهول (والجبال) والشعاب، ويسهل الصعاب ويطيب المبدأ ويكرم المآب، ما جلَل وجه السماء سحاب، أو انجلى عن أرجائها البديعة وانجاب. وبعد: فهذا كتاب، سميته: "مصاعد النظر، للِإشراف على مقاصد السور". ويصلح أن يسمى: "المقصد الأسمى في مطابقة اسم كل سورة للمسمى". اصطنعته وغيره من مصنفاتي، واخترعته وما سواه من مبتدعاتي، رغبة فيما ندب الله سبحانه إليه من قوله تعالى: (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً) ، وحث عليه رسولهيسمى: "المقصد الأسمى في مطابقة اسم كل سورة للمسمى في عدة نشر العلم، فيما يدوم ثوابه، فيسعد به أصحابه. روى البزار، وأبو نعيم في الحلية - وذكره صاحب

الفردوس - عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ: سبع يجري للعبد أجرها بعد موته وهو في قبره، من علَّم علماً، أو أجرى نهرأ، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجداً أو ورَّث مصحفاً، أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته. وقد روى هذا الحديث ابن ماجة في "فصل العلماء" أول سننه، وابن خزيمة في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:

""إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً نشره. وولداً صالحاً تركه، ومصحفا ورثه، ومسجداً بناه، وبيتاً لابن السبيل بناه. ونهراً أجراه وصدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته". وقد نظمت ما اجتمع من الروايتين من الخصال، وهي عشرة إلا واحدة فقلت: *. - للعبد يجري الأجر في تسع كما قال النبي المصطفي إجراء نهر، حفر بئر، غرس نخل نشر علم، والتصدق في الشفا وبناء بيت لابن السبيل ومسجد وبتركه ابنا صالحاً، أو مصحفاً (قال المنذري: ولم يذكر ابن خزيمة فيه المصحف، فقال: أو نهر أكراه. يعني أجراه، أو حفره. وأصل حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الوصايا من صحيح مسلم. وسنن أبي داود والنَّسائي، والأحكام من الترمذي وقال: حسن صحيح ولفظه:

"إذا مات الِإنسان، انقطع عمله، إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له " فلذا رأيت (أن أستودع ما وهبني الله من العلم بطون الدفاتر وأستوضح ما منحني سبحانه من الفهم صدور أولى البصائر، فوضعت هذا الكتاب، الحال من ذروة الصواب، وقمة الحق أعلى جناب، جعله الله موضع الصواب، وموقع الأجر والِإرغاب، إنه الواسع الكريم الوهاب. وذلك أنه لما منَّ الله - وله الحمد - علي بصوغي لكتاب "المناسبات بين السور والآيات " بل الجمل والكلمات، الذي لم تسمح الأعصار بمثله حقيقة غير غلو، ولا نسج ناسج على منواله وشكله، إخبارا بالحق من غير فخر ولا علو، فإنه أخرج من كتاب الله تعالى خفايا أسرار ما ظفر بها أحد، وأبدى غرائب أنوار ما عثر على بارق منها ولا وجد، وأجرى سوانح أنهار ما صدر

عن عذب ينابيعها ولا ورد، كان قلبي فيه مددا طوالاً أسير الواردات، وسمير الخفايا الشاردات، بينت فيه سرائر آيات، ما بيّن أحد ظاهر تفسيرها وأبديت أسرار سور ما كشف أحد خفي ضميرها، وعليّ عند المحاققة البيان وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان: إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكي فليست - لعمرو الله - النائحة الثكلى. مثل النائحة المستأجرة. أرد فيه على أهل كل باطل وعناد، بما في كتبهم ولهم فيه اعتقاد، مع بيان ما فيه من غث أو سمين، أو مزلزل أو مكين، ركبت إلى بيدائه وفسيح أرجائه وفنائه مطايا ليال حالفت فيها السهاد، وخالفت وطىء المهاد، وشهي الاضطجاع والرقاد، أدرس مسائل العلوم، وأسرد وسائل الفنون والرسوم، وأمنع جلائل الهموم، وأمعن النظر في دقائق الفهوم، وأبعد أماني الغرور وأعبد الرب الغفور، وأنفي وساوس الصدور، وأتقي دسائس اللذاذة والسرور. أترقى مما عندي إلى غيره، وأتقوى أشكاله، فأزيل إشكاله، وأسيّره بسيره.. ولم يزل ذلك دأبي واختياري لذلك، ودأب الله لي باضطراري إلى طريقة السالك، حتى انجاب عن قلبي ديجور الشكوك، وامتلأ من نور المعارف والسلوك، ففاضت علي جواهر المعاني، وأقبلت إليّ باختصاصها وجوه التهاني، فقذفت إلى صدري أمواج الأسرار صافية عن زبد، وعطفت إلى فكري أمواج الأنوار، خالية عن نكد رأى أهل العصر، أنه أمر يفوت غالب القوى، ويقف دون عليائه ألباب العقلاء، فإني مهدت لكل جملة مهاداً يدل على الحال الذي اقتضى حلولها بمحلها، وأوجب ترتبها على ما قبلها من شكلها، وما أوجب تأكيدها، أو أعراها وتقييدها، ونحو ذلك من أفانين

الكلام، وأساليب النظام، فأثنى عليه المصنفون، منهم العالمون أولو السجايا الطاهرة، والمزايا الباهرة الزاهرة المتقون، وصوب إليه بالطعن الحاسدون وبالازدراء والثلب الناقصون. نعم. ولقد انتدب لهذا الكتاب البديع، والديوان العلي الرفيع أقوام من الأغبياء، والأساة القساة الأعتياء، لا يفهمون معانيه ولا يدركون قواعده ومبانيه، ذكروا أنهم ظفروا فيه بما لا يليق فأخذوا يشنعون عليه، ويصوبون بالطعن إليه، وقسموا فيه الأقوال، وفرقوا وجوه الانتحال، ولم يذكروا شيئاً من محاسنه المحققة، ومعاليه العجبة المونقة، التي هي بالنسبة إلى ما رأوا وأثبتوا له النقص على ما ادعوا، كالبحر بالنسبة إلى صغير القطر. فكانوا كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه أبو داود الطيالسي وابن ماجة في الزهد من سننه، وأحمد بن منيع وأبو الشيخ ابن حبان في كتاب الأمثال عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: مثل الذي يجلس فيسمع الحكمة ثم لا يحدث إلا بشر ما يسمع، كمثل رجل أتى راعياً، فقال: يا راعي أجزرني شاة من غنمك، فقال له: اذهب فخذ بأذني خير شاة فذهب فأخذ كلب المغنم. وكالذين يتبعون المتشابه، ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله. على أن من الأمر المشهور الذي لم يخف على أحد أن الإِمام مالكاً

- رحمه الله - قال: كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك، إلا صاحب هذا القبر. يعني: النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الِإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - صنَفتُ هذه الكتب، وما آلوت فيها جُهداً، وإني لأعلم أن فيها الخطأ، لأن الله يقول: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً". فكلام هذين الإمامين يدل على أن وجود الخطأ للمُصَنف، لا يوجب ترك تصنيفه، ولا الغض عنه، لا سيما إن كان مشهوراً بالدين، غير مغموص عليه ولا مرتاب فيه. اللهم إلا أن يكون الأمر الذي (فيه) أخْذٌ عليه أمراً محققاً لا جواب عنه ويعرف به ولا يرجع عنه، ولا يحتج له بشيء يقبل، وقل أن يرى مصنِّف إلا وهو يقول: وإن تجد عيباً فسدا لخللا. . . فجل من لا عيب فيه وعلا أو معنى ذلك. وبعضهم يأذن في إصلاح الخطأ من كتابه للعالم المتحري، بعد التوقف والتثبت. وأنا لم أدَّع العصمة فيما قلت، وما تركت أحداً ممن يلم بي، إلا قلت له: المراد: الوقوف على الحق من معاني كتاب الله تعالى، والمساعدة على ما ينفع أهل الإسلام، فمن وجد لي خطأ، فليخبرني به لأصلحه. ووالله الذي جلَّت قدرته، وتعالت عظمته، لو أن لي سعة تقوم بما

أريد لكنت أبذل مالًا لمن ينبهني على خطأي، فكلما نبهني أحد على خطأ. أعطيته ديناراً. ولقد نبهني غير واحد على أشياء (فيه) فأصلحتها، وكنت أدعو لهم. وأثني عليهم، وأقول لهم هذا الكلام، ترغيباً في المعاودة إلى الانتقاد. والاجتهاد في الِإسعاف بذلك والِإسعاد. فكان طريق هؤلاء - لو أن كلامهم كان عن بصيرة، وكان للهِ بقصد النصيحة - أن يأتوا إليَّ، أو يرسلوا، لينظروا ما عندي في ذلك الذي ذكروه هل أبدي لهم، أو لذكرى إياه معنى صحيحاً، أو اعترف بالخطا، فإن أصلحته كنا قد تعاوناً على البر والتقوى، وإن أبقيته، وجب الطعن حينئذ على حسب ما يستحقه ذلك المعنى. وحيث لم يفعلوا ذلك، كان طعنهم، إما عن جهل، لأن من جهل شيئاً عاداه: وكم من عائب معنى صحيحاً. . . وآفته من الفهم السقيم وإما عن حسد لمن لا يحاسدهم، فصنيعهم صنيع من يريد التشنيع على رجل مسلم، مقبل على ما يعنيه، تارك لما لا يعنيه، منقطع إلى الله تعالى في بيت من بيوته، يتلو كتابه، ويقيم الصلاة، وينفق مما رزقه الله سراً وعلانية، وقد قنع بما آتاه الله، ما زاحم أحداً منهم قط على دنيا، ولا ألحَّ على أحد في سؤال ولا تصدى لعلو في الأرض، وأحواله في ذلك معروفة من أربعين سنة فأكثر والشباب مقبل، والزمان غض، والأمل فسيح، وليس لهم وجه في الكلام (فيمن) هذا حله، إلا تصديق قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، الذي رواه

الطبراني في الأوسط، عن أنس رضي الله عنه: "لو كان المؤمن في جحر ضب، لقيض الله له من يؤذيه. ومالي (من) ذنب عندهم، إلا اعتزالي عنهم، وعدم مشاحنتهم في دنياهمْ ورضائي بما قسم الله، ومحبتي لإِظهار الفائدة فيهم، وشمول الفضل لهم. فما أجدرهم بما أجاب به ابن عباس رضي الله عنهما بعض من صنع به هذا الصنيع. قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب "فضائل القرآن " حدثنا

يزيد - يعني ابن هارون - عن كهمس بن الحسن، عن عبد الله بن بريدة قال: شتم رجل ابن عباس رضي الله عنهما، فقال له رضي الله عنه، أما إنك تشتمني وفيَّ ثلاث خصال إني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل فأفرح، وعلى لا أقاضي إليه أبداً وإني لأسمع بالغيث يصيب البلد من بلدان المسلمين فأفرح، ومالي به من سائمة وإني لآتي الآية من كتاب الله، فأود أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم. وهو عند البيهقي - أيضاً - من هذا الوجه. ولا ريب عند من له أدق إنصاف (أن) من شنَّع على من هذا حالُه، فقد عرض نفسه للمقت من الله، واللعن والدعاء بالهلاك من خُلَّص عباد الله، على مدى الأعصار، في كل ارتحال وقرار، وصار ممن قال فيه الِإمام الرباني، أبو الحسن الحرالي، في تفسيره، عند قوله تعالى:

(ومن يبدل نعمة الله) ، قال: وأصل هذا التبديل: رد علم العالم عليه، ورد صلاح الصالح إليه، وعدم الاقتداء بعلم العالم وصلاح الصالح، وذلك هوالمتاركة التي تقع بين العامة، وبين العلماء والصالحين، وهو كفر نعمة الله وتبديلها. (من بعدما جاءته) . في ضمنه إشعار باعتبار أمر الأمة، " بمبتدأ أمرها من أيام النبوة، وأيام الخلافة، وسير الخلفاء الذين هم عقد أزِمَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحجته على أمته. وأئمة الأزمان، القائمين بأمر الله، الظاهرين على الحق إلى يوم القيامة. (فإن الله شديد العقاب) . في إشعاره منال عقاب يقع بهم في الدنيا كفارة، وتأخير عقاب يقع بطائفة منهم في الآخرة، انتهى. والعجب منهم في أنهم أشد الناس خوفاً ونكوصاً، وكَفا عمن يتهددهم بأن يصيبهم بعذاب، أو يمسهم بعقاب، من كل مكشوف العورة، أو مرتكب لبعض المناكير المشهورة، وهم يرون من يؤذيني يذهبون واحداً بعد واحد، على هيئات منكرة وصفات مستعظمة مستكبرة، وهم بذلك لا يعتبرون، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقد قلت في حالي وحالهم، واعظاً لنفسي، حذار من حلول رمسي، وهو من الطويل الأول، مطلق مرادف.

لسانَك عوّد "ذكر ربك لا تكن. . . بذي غفلة عنه - فديت - ولا لاغي وإن سدد الأعداء إليك سهامهم. . . فإن نبال العدل تحمي من الباغي فلا تخشى من كيد إذاكنت ذا تقي. . . فربك أخاذ لكل امرىء طاغي على أن حالهم في تشنيعهم ظاهر، فإنه لو كان لهم علم، أو كان كلامهم لله لبدأوا بما في مشاهير التفاسير، التي يتغالى فيها المفاليس منهم والمياسير، من البلايا التي تعم الآذان، وتخرس ذَرِبَ اللسان، فنبهوا عليه. وحذروا منه، وأزالوه من تلك التفاسير، بطريق من الطرق. وذلك في تفسير قصة يوسف وداود، عليهما السلام، وسورة الحاج. والنجم في قوله تعالى: (إلا إذا تَمَنًى ألقى الشيطان في أمنئته) ، وقوله: (أفرأيتم اللات والعُزى) . وفي "الكشاف " من التصريح بخلق أفعال العباد، وذم أهل السنة بمخالفة ذلك في نسبة الأمور كلها إلى الله، وجعلهم مبتدعة، وهجوهم بالأشعار، وعدهم حمراً موكفة. وفيه في آخر الزخرف عند قوله: "فأنا أول العابدين) .

وفي سورة براءة عند: "عفا الله عنك لم أذِنْتَ لهم ". إلى غير ذلك مما أعمى الله أبصارهم، بل بصائرهم، حين تركوا الكلام فيه وفي أمثاله، كسيرة البكري، التي لم تزل على غالب الأزمان تقرأ

في جامع الأزهر جهاراً، مع أن إجماع أهل النقل مُعْتَقَد على أنها مكذوبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجد قارئها من يزجره، ولا ينهاه ولا يأمره، وصوبوا إلى كتابي الطعن بمجرد الظن، بل الوهم، من غير تحرير ولا فهم، وما ذاك إلا داء عضال، سكن قلوبهم، فصارت كالحجارة قسوة والجبال. وأما كتب أصول الدين، وكتب الملل والنحل، فملآنة من نقل المذاهب الباطلة والَأقوال الزائفة المائلة. وكان مما قال بعضهم: إن هذا الكتاب لا يحل إبقاؤه بين الناس، لأنه قسمان: أحدهما: نقل الكتب القديمة، وهي قد بدلت، فلا يحل نقلها. والثاني: كلام من عنده، لا سلف له فيه، فهو كلام في القرآن

بالرأي، لا يحل، وهذا عناد منهم من الألد الفاضل، وتقليد من الشرير الجاهل، ونحو هذا الكلام الذي لا يقوله من في قلبه رائحة من الدين، ولا المروءة، وقد قال الله تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكروا أولوا الألباب) ، (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب) ، (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) . وقال - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه من رواية الشيخين وغيرهما، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما -: حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ". فعند ذلك عرضت الكتاب على قضاة القضاة وغيرهم، من علماء

من تقاريظ العلماء

من تقاريظ العلماء تقريظ شرف الدين المناوي فكتب عليه قاضي القضاة، شيخ الإسلام شرف الدين، يحيى بن محمد المناوي الشافعي. أعلى الله درجته، ورفع منزلته، ومات رحمه الله قبل فتنة ابن الفارض بعد الخطبة: وبعد: فقد وقفت من هذا التأليف الحسن المستجاد، على ما أعرب عن أن مؤلفه إمام علامة، في فنون العلم، فإنه قد أحسن وأجاد، وأظهر من مجموع حسن، مجموعاً حسناً، في غاية من الصواب، ولا يقال: قد استوضح في بعض المناسبات بما جاء في التوراة والإنجيل، لأنه اقتدى في ذلك بأئمة الإسلام، أهل الأصول والتأصيل، كالسيد عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في صفة سيد الأنام، محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وبعده الأئمة الأعلام، فتعين القول بالجواز، على من اتضح ذلك لديه، ولا منع على من اشتبه ذلك عليه. فحق لهذا التأليف أن يُتلقى بالقبول، ولا يُصغَى لقول حاسد فيه

تقريظ ابن الشحنة

ولا عذول، والله تعالى يبقى مؤلفه منهلا للواردين، ويديم النفع به، وبعلومه للمسلمين. في تاسع عشر شعبان، عام ثمانية وستين وثمانمائة. تقريظ ابن الشحنة وكتب قاضي القضاة شيخ الإِسلام، محب الدين، محمد بن قاضي القضاة، شيخ الإِسلام، محب الدين، محمد بن الشحنة، الحلبي الحنفي. وثبت على نصر السنة في فتنة أهل الاتحاد، فأيد الله به الدين، أسبغ الله ظلاله، وزكَّى أعماله مشيراً إلى أسماء الكتاب الثلاثة: (نظم الدرر من تناسب الآي والسور، وفتح الرحمن في تناسب أجزاء آي القرآن، أو ترجمان القرآن ومبدي مناسبات الفرقان: الحمد للهِ ذي الحكم المتناسبة الدرر والنعم المتراكبة الدرر، نحمده على ما فتح من الفيض الرحماني، ونشكره على ما أبدى من التناسب الترجماني ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، كلمة حق محققة الإِيمان، وقول صدق جاء به الدليل والبرهان، وشهادة عبد أخلص للهِ نيته ما استطاع، وأصفى طويته، فكشف له عن مخبات الخدود والقناع، ونشهد أن سيد البشر (محمداً) عبده ورسوله، الذي شرف به الأقطار والبقاع، وخصه بنهاية الأوج، وغاية الارتفاع. صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، الحائزين قصب السباق، بعزيز حديثه وكريم صحبته، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فقد وقف العبد الفقير، الضعيف الحقير، على هذا المصنف العديم النظير، المشتمل من الورد الصافي على العذب النمير، فوجد مؤلفه قد حلى فيه من أبكار أفكاره المقصورات في الخيام، على الأكفاء الكرام، من ذوي العقول والأفهام، كل خريدة بعيدة المرام، على من قعد عن طلب المعالي ونام، وسلك مسلكاً قل من سلكه من الفحول قبله، وبحث بصائر فكرهَ، عن تحرير ما أورده ونقله واستدل بقوة علمه، وجودة فهمه، بأدلة برهانُها قاطع، وضياؤها ساطع، مقتدياً بما وقع في الكتاب المبين، من قوله تعالى: (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) . ولا ريب أن الاستدلال بغير المبدَّل منها، من أقوى الأدلة القاطعة. وأعظم البراهين الساطعة، لا سيما إذا قص الله - أو رسوله - ذلك علينا. مبينا من غير إنكار، على أنه شرع لنبينا. وأي استدلال أمْيَزُ (وآمن) من كلام الله جل وعز؟. وقد صرح أصحابنا: أن كلام الله القديم، المصون عن التحريف. والتبديل إن عبر بالعربية فهو قرآن، وإن عبر بالعبرانية فتوراة، وإن عبر بالسريانية فإنجيل وإن كلامه لا يختلف، وإنما تختلف العبارات، وتتفاوت الأعمال بالنية، وإنما الأعمال بالنيات. وهذا السيد عمر بن الخطاب، العظيم الشأن، رضي الله عنه، كان يأتي اليهود ويسمع من التوراة، فيتعجب كيف تصدق ما في القرآن، كما رواه الطبري من طريق الشعبي، في غير ما مكان.

تقريظ حسام الدين الطهطاوي

وإنما ورد النهي عن تصديق أهل الكتاب وتكذيبهم، فيما يتطرق إليه احتمال أحد الأمرين، إلا ما ورد في شرعنا ما يقضي بأحدهما، فيرفع الخلاف من البين. وقد استدل المؤلف على صنعه من الكتاب والسنة، بأدلة كان المبتكر لها والسابق إليها، فلم أر التعرض لذكرها، ومزاحمته عليها، فالله تعالى يبقيه لإبداء الفوائد، ويجزيه من ألطافه الخفية، على أجمل العوائد، بمنه وكرمه قال ذلك مرتجلًا، وحشفة عجلاً، فقير لطف الله الخفي، محمد بن الشحنة الحنفي، ستر الله ذلَلِه، ورحمه وغفر له، بتاريخ سابع عشر شعبان المذكور. تقريظ حسام الدين الطهطاوي وكتب قاضي القضاة، شيخ الِإسلام، الشريف حسام الدين، محمد ابن أبي بكر ابن الشيخ الطهطاوي، الحسيني المالكي، الشهير بابن حريز. ومات رحمه الله قبل فتنة أهل الاتحاد، أعلى الله مناره، ورفع مقداره. بعد الخطبة: وبعد: فقد وقفت على جزء من الكتاب الموسوم ب "نظم الدرر من تناسب الآي والسور" جمع الشيخ الِإمام، العلامة الرَّحالة الحافظ: برهان الدين البقاعي، شرف الله به البقاع، ونشر من فوائده وفوائده، ما تلذ به الخواطر وتتشنف به الأسماع، فرأيته فريداً في بابه، غريباً في إعرابه، بما أتى

تقريظ القاضي عز الدين الحنبلي

على عجمه وأعرابه، فقد غاص في بحار العلوم، فاستخرج منها فرائد الدرر، وسبر محاسنها فجمع منها أحاسن الغور، وتتبع شواذ الملح، فجمع منها ما شَتَّ، وأرسل خيله في حلبتها، فحازت قصب السبق، فتصرف فيها كيف شاء، فوهن عند ذلك عضد حاسده، وفيه فتر، أعاد الله من بركاته. ونفعنا بصالح دعواته. في الخامس من شهر رمضان المعظم قدره، عام ثمانية وستين. تقريظ القاضي عز الدين الحنبلي وكتب قاضي القضاة، شيخ الإسلام، عز الدين، أحمد ابن قاضي القضاة برهان الدين: إبراهيم ابن قاضي القضاة ناصر الدين، نصر بن أحمد الكناني العسقلاني الأصل، المصري الحنبلي، أدام الله نعمته، وفسح مدته. وثبت على نصر السنة في فتنة أهل الاتحاد، وكان من خير الأنصار والأعضاد. وبعد: فقد وقفت من هذا التأليف العجيب، والتصنيف الغريب، على ما ذكرني بما أعلمه من غزارة علم مصنِّفه، وكثرة فضائله، وحسن إدراكه. وجودة ذكائه ولا يعيب حسنه ما استشهد به من الكتب القديمة. ففي القرآن والسنة، ونَقْلِ العلماء قديماً وحديثاً، ما يشهد بحسن فعله لكن لكل حسن غائب، ونعوذ بالله من حسد يسد باب الإنصاف، والله تعالى يديم لجامعه البقاء، ويطيل له في العلو والارتقاء. وكُتب في عاشر شهر رمضان، سنة ثمان وستين.

تقريظ الشيخ الأقصرائي

تقريظ الشيخ الأقصرائي وكتب شيخ الإسلام، بركة الأنام، الشيخ أمين الدين، يحيى بن محمد الأقصرائي الحنفي، شيخ الديار المصرية غير منازَع، ومرجع الناس فيها غير مدافَع أدام الله شمول الِإسلام والمسلمين ببركاته، وأعاد علينا جميعاً من صالح دعواته لكنه مال على أهل السنة في فتنة ابن الفارض، وأغنى الله - ولد الحمد - عنه وما ضر إلا نفسه. وبعد: فقد شرفت بوقوفي على مواضع من المؤلَّف البديع، المتوَّج ب "نظم الدرر من تناسب الأي والسور تصنيف سيدنا ومولانا الإمامٍ العلامة، الحبر الفهامة المدقق المحقق، ذي التآليف الرفيعة في الأنواح، فتوحا من رب الأرباب، المستغني عن الإطناب في الألقاب، خالصة خلاصة المتقدمين، ونخبة الأئمة المتأخرين، زاده الله علماً وعملاً، دلتني على علو درجته في أنواع العلوم وأصنافها، وبراعته فيها وكفايته لطلابها وألَّافها. وإذا كانت العلوم منحا إلهية، وعطايا ربانية، فلا يبعد أن يفتح الله على بعض المتأخرين، ما عسرُ على كثير من المتقدمين. ومن نظر في مؤلفه بعين الِإنصاف، وترك الاعتساف، علم مقدار ما حازه من قصبات السبق في مضمار التحقيق والتوفيق، وما نقله من كلام المخالف وأدلته، لفوائد كثيرة. منها: لردها، والالتزام بها، وتبيين ما انغلق

تقريظ سيف الدين السيرافي

منها، ولعدم فهمهم لها لقصور نظرهم، وسوء اعتبارهم، لما يتعلق بذلك. وربما يظهر من ذلك مطابقتها للشريعة المطهرة، من أعظم الدلائل على براعته في العلوم، وقد وقع ذكر دلائلهم لما ذكر في الكتاب والسنة الشريفة، ولم تزل الكتب الكلامية مشحونة بدلائل المخالفين المعاندين، لما ذكر من الأمور، وغير ذلك من العلوم، ولا ينكر ذلك إلا معاند غير ناظر لطريق الصواب. والله يجعل ما قاسه في تأليفه خالصاً لوجهه، موجباً للفوز لديه، إنه البَر الجواد المتفضل على جميع العباد. وكُتب في سادِس عَشَر شهر رمضانَ سنة ثمان وستين. تقريظ سيف الدين السيرافي وكتب الِإمام العلامة، الشيخ عضد الدين (الحنفي) عبد الرحمن بن الإِمام العلامة، نادرة زمانه، الشيخ يحيى بن الإِمام العلامة، سيف الدين السيرافي ثم المصري، الحنفي، شيخ البرقوقية، بارك الله في حياته للإسلام، وأدام كونه ملاذاً للخاص والعام، وكان في فتنة ابن الفارض ساكتاً. وبعد: فقد وقفت على مواضع من المؤلَّف، الذي فاز - كمؤلِّفه - بالقدح المعلى في رتب الكمال، واشتهر - كمصنِّفه - بالتفوق على الأكفاء

تقريظ محيي الدين الكافيجي

والأمثال، وإنه لأرفع قدراً من أن يفتقر إلى تعريف، أو أن يتوقف ظهور مزيته على تكفُف إطراء وتوصيف، فلا زال عَلَمُ مصنفه مرفوعاً أبداً، وثناء فضله منصوباً بخفض العدا. بتاريخ سابع عشر شهر رمضان، سنة ثمان وستين وثمانمائة. تقريظ محيي الدين الكافيجي وكتب الإمام العلامة، محيي الدين، محمد بن سليمان الكافيجي الحنفي، شد الله به أزر الدين، ثم كان كالأمن في فتنة ابن الفارض: الحمد لله الذي جعل العلماء، ورثة الأنبياء، وبعث رسوله أفضل الرسل والأصفياء، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه النجباء الأتقياء. وبعد: فأقول: هذه مقالة منوطة بأمور مقصودة ههنا. الأمر الأول: أن تأليف الكتب مشروع، لقول الله تعالى: (والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً) . ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما رآه المؤمنون حسناً، فهو عند الله حسن". ولدلائل أخرى محررة في موضعها.

الأمر الثاني: أن نقل الأقوال والأخبار، المشتملة على العبرة والعظة. جائز شرعاً سواء كانت الأقوال معلومة الصدق، أو لا. أما نقل الأقوال المعلومة الصدق، فلا غنى عنها، لغاية ماس الحاجة إلى معرفتها. وأما نقل الأقوال الغير المعلومة الصدق، فليزداد ظهور الأقوال المعلومة الصدق، المخالفة إياها في موجبها ومقتضاها، بسبب الاطلاع على بطلانها. إما في الحال، وإما في الاستقبال. ولما تقرر في العلوم: أن الأشياء تتبين بالأضداد، والاحتراز بذلك عن الوقوع في الورطة والفساد. ونظير ذلك: معرفة السموم، وسائر الأمور الضارة، كما قال الشاعر: عرفت الشر لا للشر، لكن لتوقيه. . . ومن لم يعرف الشر من الناس يقع فيه ولأجل هذا قال العلماء المحققون: جلب جميع المنافع ليس بواجب

بالاتفاق ودفع المفاسد واجب بالاتفاق. ومصداقه: عموم حاسة اللمس جميع أعماق البدن، سوى الكبد من بين الحواس دون غيرها من الحواس، على ما فصل في موضعه. ألا ترى: أن العلماء من الفقهاء وغيرهم ينقلون في مصنفاتهم المذاهب المختلفة والآراء المناقض بعضها لبعض، سواء كانت حقة، أو باطلة. يشهد به من يطالعها ويفهمها. الأمر الثالث: أن نقل شيء من التوراة والإنجيل وغيرهما، يجوز في التأليف في هذا الزمان، لغرض من الأغراض المعتبرة، كالاعتبار. والاتعاظ، وإن لم يجز الاستدلال بها على الأحكام والأصول، على ما نص به العلماء في الكتب. ونظير ذلك: خبر المستور، الذي لم يظهر قبوله ولا رده، فيجوز العمل به وإن لم يجب. وقريب من هذا قول الحنفيين: شريعة من قبلنا (هي شريعتنا) ابتداء إذا حكيت لنا بلا إنكار عليها، قال الله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس. . . الآية) .

والحاصل: أن نقل سفر من أسفار التوراة والإنجيل وغيرهما - على ما ذكرنا - جائز شرعاً، لا شبهة قادحة فيه، وإن كانت منقدحة قي الأوهام. ومعلوم عندك: أن لا اعتبار لها بالإجماع، على ما حُرِّر في أصول الفقه. . فكيف وقد روى في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بلغوا عني ولو آية، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج". وقال أهل التحقيق من المحدثين في بيان هذا الحديث: المراد منه ههنا: هو الحديث عنهم بالقصص والحكايات، لأن في ذلك عبرة وعظة لأولى الألباب، وأما النهي الوارد عن كتابة التوراة والِإنجيل، ففيما عدا القصص والأخبار. فحصل الجمع والتوفيق بينهما على ما تسمع وترى. هذا وقيل: كان النهي عنها قبل اشتهار شأن القرآن، حذرا من الالتباس والاشتباه، ولأجل هذا، نهى عن كتابة الحديث قبل اشتهاره، فلما اشتهر شأنه أي اشتهار، رخص فيها، وكذلك الأمر الذي نحن بصدده. وقال (البيضاوي) في تفسير قول الله تعالى:

(إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما) : مثل في الإنجيل عن الصدر بالنخالة، والقلوب القاسية بالحصاة، ومخاطبة السفهاء بإثارة الزنابير. ومثل (هذا) وقع كثيراً في سائر كتب التفاسير، كالكشاف للزمخشري، والتفسير الكبير للإمام الرازي. وفي كتب الحديث كصحيح البخاري وغيره أيضاً، وفي كتب الكلام، كالصحائف والمواقف وغيرهما، وفي كتب أصول الفقه، كالبزدوي وغيره أيضاً يشهد بذلك كله من يطالعها ويتأمل فيها. ولقد ذكر في التاريخ: أن القصص والأخبار العجيبة الغريبة كقصة عوج بن عنق وغيرها، يجوز كتابتها وحكايتها، وإن كانت غير معلومة الحال لتضمنها عبرة وعظة ومصالح، لقول الله تعالى: "لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ". ولما اشتهر عند الناس: أن ما لا يدرك كله، لا يترك كله، فإن العلم بالبعض خير من الجهل بالكل. قال الله تعالى: (وقل رب زدني علماً) .

ومن ههنا نشأ قول من قال: فكل إنسان سوى ما استدركوا. . . يؤخذ من كلامه ويترك الأمر الرابع: أن نقل القصص والأخبار من التوراة وغيرها، قد شاع بين الناس شيوعا لاخفاء فيه، فقد حل محل الِإجماع السكوتي. ولهذا وقع كثيرا في كتب السلف بلا إنكار عليه، كما وقع في هذا العصر في هذا التأليف المسمى ب "نظم الدرر من تناسب الآي والسور". على ما حررنا فيما مر. فإنْ قلت: فكيف تقبل هذه الدعوى منك ههنا، وقد ذكر في بعض علم الكلام: أن الكتب السماوية قد نسخت تلاوتها وكتابتها؟. قلت: لا استبعاد ههنا على ما ذكرنا فيما قبل من التفصيل والتحرير. فيحمل ما ذكرنا ههنا على نسخ كتابة التوراة الدالة على الأحكام المناقضة لأحكام شريعتنا لا على نسخ كتابة التوراة الخالية عن الدلالة عليها. فحصل الجمع بينهما على ما ترى. وأنت تعلم: أن العمدة والمدار في أمثال هذا، إنما هو قول الفقهاء والمحققين، لا قول المتكلمين، لما تقرر: أن صاحب البيت أدرى بما فيه. كما تعلم أن نسخ الوجوب، لا يستلزم نسخ الجواز، كصوم عاشوراء، فإنه جائز شرعاً وإن نسخ وجوبه. وتعلم أيضاً: أن المثبت أولى من النافي. الأمر الخامس: أن هذا الكتاب "نظم الدرر" كتاب عظيم الشأن،

ساطع البيان مؤسس بحسن ترتيب، وجودة نظام، على أحسن جواهر القواعد، مرصع بأنواع فرائد الفوائد والعوائد، وأنه بحر لا تنقضى عجائبه. ولا تنتهي غرائبه، وموصوف بما تراه محط دائرة الضبط والبيان، وعطية من عطايا الجواد الرحمن. كتاب في سرائره شرور. . . فناجيه من الأحزان ناجي وكم معنى بديع تحت لفظ. . . هناك تزاوجا كل ازدواج ولقد تأمل العبد الفقير فيه حق التأمل كما ينبغي، في مواضِع كثيرة. فوجده ممتلئاً بأجناس درر نفيسة منظومة، متناسبة عالية، ومتوجا بأصناف فصوص لامعة غالية، ومناسباً صدره عجزه، ومقروناً بلطائف دقائق المعاني والفحوى، مع رعاية السياق والسباق، ولأجل هذا صار مثلا مشهوراً في البلدان والآفاق ما عام أحد من الفضلاء والعلماء في بحره، سوى العالم العلامة، والبحر الفهامة، الفائق على الأقران، أفصح من سحبان في البيان. الألمعي، العظامي، العصامي بديع الزمان، وقَّاد الذهن، نقاد الطبع. الأصمعي، منحة الرحمن، الرحالة في الرواية، العمدة في الدراية، إمام الهدى، نوى التقى، شمس الضحى زين الورى فلك العلى، وهو المستحق للمدحة بالوصف الجميل، على جهة التعظيم والتبجيل وليس يزيد الشمس نوراً وبهجة، إطالة ذي وصف، وإكثار مادح، وأنشدت فيه: وإني لا أستطيع كنه صفاته. . . ولو أن أعضائي جميعاً تكلم

تقريظ العلامة نقي الدين الشمني

وأقول: لا شك (أن) قول من قال: هيهات لا يأتي الزمان بمثله. . . إن الزمان بمثله لبخيل صادق في شأنه حقاً، وكذلك قول من قال: ويا من لديه أن كل امرىء له نظير. . . وإن حاز الفضائل هل له ونسبة جميع ما ذكرته في تعداد مناقبه ومحاسنه وفضائله، إلى ما لم يذكر من سائر كمالاته الجمة، أقل من نسبة قطرة إلى قطران البحر المحيط. فانظر إلى نظري إليك، فإن عنوان ما أخفيت في أحشائي. نعني بذلك كله الشيخ الِإمام الهُمَام، شرف السلف، خير الخلف. المدرس المؤلف المفتي، برهان الدين، أبو الحسن، إبراهيم، الشهير بالبقاعي، خوله الله تعالى بالأبقيين: الذكر الجميل في الأولى، والأجر الجزيل في الأخرى. ولولا الخوف من سآمة الخواطر بالِإسهاب، لأوردنا ههنا أساليب عجيبة، ومعاني نفيسة غريبة. وكُتب يوم السبت، العشرين من شهر رمضان، سنة ثمان وستين. تقريظ العلامة نقي الدين الشمني وكتب الِإمام العلامة الصالح، تقي الدين محمد بن الشيخ الِإمام العلامة كمال الدين محمد الشمني الحنفي، أدام الله النفع للمسلمين

تقريظ تقي الدين الحصني

بعلومه، والهناء للعالمين بالورود في بحور فهومه، وأعلى مناره، وجعل النجاح والفلاح في الدارين داره، بعد الخطبة البديعِة، ومات - رحمة الله - قبل الفتنة. وبعد: فقد وقفت على هذا المصنَّف المعظم، والجوهر المنظم، فإذا هو من الحسن في غاية، ومن التحقيق والتدقيق في نهاية، لم تكتحل عين بمثاله. ولا نسج ناسج على منواله. " وكيف لا، ومؤلفه قد حوى الفنون النقلية والعقلية، والعلوم الشرعية الأصلية والفرعية، عالم عامل، سالك كامل، حافظ ضابط، مجاهد مرابط. نفع الله به ذوي الحاجات والطلاب، وفتح لنا وله من الخير والأبواب، ونفعنا بدعواته، وأعاد علينا من بركاته، والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. وكتب في خامس عشر (من شهر) رمضان، سنة ثمان وستين. تقريظ تقي الدين الحصني وكتب العلامة الشيخ تقي الدين، أبو بكر، محمد (بن) شادي. الحصنى الشافعي، بارك الله في حياته للمسلمين، وأدام كونه ملاذاً للطالبين، بعد الخطبة البليغة، ثم مات مع أنصار ابن الفارض. وبعد: فقد وقفت على المجلد الرابع للمناسبات، فرأيته شاملاً على

بدائع الآيات، محتوياً على فنون (من) الحجج والبينات، وهو - مع وجازة لفظه - حاوٍ لمنتخب كل مديد وبسيط، جامع لخلاصة كل وجيز ووسيط. مطلع على زبدة مطالب هي نتائج أنظار المتقدمين، مظهر لنخب مباحث. هي أبكار أفكار المتأخرين، فهو بحر محيط بغرر درر الدقائق، وكنز أودع فيه نقود الحقائق، ألفاظه معادن جواهر المطالب الشرعية، وحروفه أكمام أزاهير النكات اللفظية، ففي كل لفظ منه روض من المنى، وفي كل شطر منه عقد من الدرر. فلله در مؤلفه، قد أبرز ذخائر العلوم والمعارف، وافتلذ الأناسي من عيون اللطائف، وسلك منهاجاً بديعاً في كشف أسرار التحقيق، واستولى على الأمد الأقصى من دفع منار التدقيق، أظهر غرائب مناسبات، ما مستها أيدي الأفكار وعجائب نكات، ما فتق رتقها أذهان أولى الأبصار. فجزاه الله أفضل الجزاء، وجعل له في الدارين أطيب الثناء. وكُتب في عاشر شوال، سنة ثمان وستين وثمانمائة. وما كان لي غرض قبل ذلك في عرض الكتاب على أحد، فلما تكلم فيه الحاسدون عرضته هذا العرض، فشهر - ولله الحمد - أمره، وفشا في الفضلاء شأنه وذكره وحمدت عاقبته، وشرح صدره، فكان كما قيل: وإذا أرد الله نشر فضيلة طويت. . . أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار في جزل الغضا. . . ما كان يعرف طيب عَرْفِ العود ثم أظهرت ما كتب لي من قبلهم من العلماء على مصنفاتي، وغيرهم من مدة من السنين، يزيد بعضها على الأربعين. على أني كنت قليل الاعتناء بأخذ خطوط المشايخ، وكان أصحابي

يلومونني على ذلك، فكنت أقول لهم، إني إذا صرت إلى سن يؤخذ فيه عن مثلي، فإن كنت أهلاً في نفسي، فأنا لا أحتاج إلى شهادة أحد، وإن لم أكن أهلاً، لم تفدني إجازات المشايخ، كما قل التلعفري رحمه الله تعالى: وعندهم أن الِإجازة غاية النـ. . . هاية للإِقراء ما فوقها اعتلا فيا ليت شعري، هل رأيتم. . . إجازة تحج عن القارىء وتتلو إذا تلا على أن أقول، إن الله تعالى إن كان يعلم أني لا أكون إذ ذاك أهلا يؤخذ قولي مسلما، فلا أحياني الله إلى ذلك الزمان. فأريتهم خط الِإمام العلامة، عماد الدين، ابن شرف الدين القدسي الشافعي تلميذ ابن الهائم رحمه الله، على (مفردتي) في أول زياراتي للقدس الشريف وكان سني إذ ذاك دون العشرين، (وذلك في سنة سبع وعشرين وثمانمائة: "الشيخ الِإمام، المقرى المجيد. وكتب لي شيخ الإسلام حافظ العصر، قاضي القضاة، أبو الفضل. شهاب الدين، أحمد بن حجر المصري، رحمه الله على مفردتي في قراءة أبي

عمرو بن العلاء البصري المسماة: "كفاية القارىء، وغنية المقرىء" وذلك في أول ما أتى إلى القاهرة، سنة أربع وثلاثين، ما من جملته: فهكذا هكذا تنظم اللآلى، وإلى هنا تنتهي رتب أولى المعالي، إن الهلال إذا رأيت نموه، أيقنت أن سيصير بدراً كاملًا، ويا ليت شعري، ومن هذه بدايته فما الذي بلحاق النجم ينتظر. وكتب قاضي القضاة، شيخ الإسلام، سعد الدين بن الديري الحنفي، رحمه الله: وقفت على هذا المؤلَّف، الموسوم بالكفاية، الجامع بين صحيح الرواية. وغريب الدارية، الشاهد لمصنفه ببلوغ رتبة النهاية في سن البداية. وكتب قاضي القضاة، شيخ الإسلام، محب الدين، بن نصر الله البغدادي الحنبلي، رحمه الله، وما كان رآني أصلاً، ما أشار إلى ذلك في كتابته:

وقفت على هذا التصنيف المنيف، المشتمل على كل معنى فائق شريف. فرأيته قد احتوى من علوم القرآن العظيم على معظمها، ومن فضائله على أفضلها وأكرمها وهو مصنف فرد في معناه، لا يشبع من نظره من وقف عليه أو رآه، لكثرة فوائده الغزيرة وعظم نوادره المنيرة، فدعوت لمصنفه - شكر الله سعيه الكريم - دعاء فائقا، وأحببته على الغيب حباً صادقاً، فلقد أجاد وأفاد، وارتفع قدره المنيف به وساد. وكتب العلامة قاضي القضاة، كما الدين، محمد بن العلامة ناصر الدين، محمد ابن البارزي، الحموي الشافعي، وهو كاتب السر بالديار المصرية رحمه الله، على القطعة التي عملتها من كتابي: "جامع الفتاوى لإيضاح بهجة الحاوي "وهو كتاب غريب، مزجت فيه كلام البهجة - على أنه نظم - بكلام الشرح مزجاً، صارا بحيث يظن أن الكلامين متن مستقل، مثل كتاب "الأنوار" للأردبيلي، وهو أكبر عمدى في هذا الشرح: وقفت متاملًا في محاسن هذا الجامع، متفكراً في فصاحة خطيبه، وما أبدعه فيه من إعجاب الناظر، وإطراب السامع، فألفيته حاوياً لكل حجة. شاملًا للأنوار والبهجة وعلمت تميز مصنفه على أقرانه، وتنبهه على أهل زمانه، أمده الله بالكفاية، وجعل خاتمته بالحسنى وزيادة. وكتب قاضي القضاة، سعد الدين بن الديري، رحمه الله:

وقفت على تاليفه فألفته. . . وألفيته يفتر عن نور بستان يضوع شذاه عابقاً ناطقاً بما. . . تضمن من نز ونظم لعقبان دعا بالمعاني فازدلفن تطيعه. . . بأيسر إيضاح وأبلغ تبياني فجازاه رب الخلق من خير ما جزى. . . لتحقيق إتقان وتصديق برهان ولا غرو أن يحتوي هذا الجامع على معاني الحاوي، وأن تنبهج بنضارته البهجة، وأن ينشرح بهذا الشرح البديع كل صدر، وتثلج به كل مهجة، وقد بلغ من أعلام المباني كل قلة، وحل من بحار المعاني بكل لجة، وحققه البرهان الصادق، فهل تبقى لمعاند من حجة. وكتبت في سنة سبعِ وأربعين وأنا في غزوة روس (كتاباً إلى قاضي القضاة ابن حجر،) كتابا إلى قاضي القضاة شيخ الِإسلام، محقق العصر. شمس الدين محمد ابن على القاياتي، رحمهما الله، فأثبت ابن حجر ذلك الكتاب في تاريخه المسمى "إنباء الغمر بأنباء العمر" وافتتحه بقوله: "وقد شرح لي صاحبنا العلامة إبراهيم الوقعة، فأثبتها في هذا

التعليق " ولم أنظر تاريخه، ولا علمت بشيء من ذلك، إلا بعد موته، على أنه قل أن يكتب فيه "العلامة، لأحد. أنظر ترجمته للشيخ شهاب الدين الحناوي، وقاضي القضاة شمس الدين الونائي وغيرهما. وكتب إليّ القاياتي، وهو أعز الناس كتابة، وأعظمهم تثبتاً في أقواله وأفعاله: "جواب كتابي الشيخ البرهاني، أدام الله بركة علومه على المسلمين. ومن الكتاب - والله - لقد حصل للعبد غاية (السرور) بورود شرفكم الكريم، وحمدت الله (تعالى) على عافيتكم، ومما يشمل الناس من حسن نظركم، وجميل آرائكم وشفقتكم للعامة، ونصحكم للخاصة، وما فيه مما يلائم هذا". وكتابه هذا، وكتاب ابن حجر، الذي أجابني به عن كتابي، ما

هما إلا في جملة ما كتبت فيه مسودة كتابي "نظم الدرر" في سورة يونس عليه السلام. وكتب لي ابن حجر بسؤاله لأمر دعاه إلى ذلك على كتابي "عنوان الزمان بتراجم الشيوخ والأقران ". "الشيخ الِإمام، العلامة (الأوحد) ، المتقن المتفنن، الحافظ المحقق ". وكتب على حاشيتي على شرح ألفية الشيخ زين الدين العراقي نحو هذا. وكتب لي هو وغيره - أيضاً - على أشياء غير هذا. منه: ما كتبه العلامة، محقق عصره، الكمال محمد بن الهمام الحنفي، وحاله في ضبط اللفظ والقلم، والمواجهة للملوك وغيرهم بمرِّ الحق معروف، على كتاب "الانتصار من المعتدي بالأبصار". وقفت على ساحل بحر زاخر، إذ وفقت للنظر في هذا المؤلف الباهر،

المنتصب على معارضه كالسيف الباتر فلعمري لقد سلك في نظره - بعد سبيل الأبرار - ما يعجز عنه فحول راسخي النظَّار، من دقائق زبد أبكار الأفكار، فاستحق أن يقال فيه على رؤوس الأشهاد إلى يوم التناد: ولا غرو أن أبدي العجائب ربه. . . وفي ثوبه بر وفي قلبه بحر فيا ليت شعري كيف أكون في سن الشباب، أستحق من هؤلاء الفحول هذه الألقاب، ثم أصبر في سن الشيخوخة إلى اعتراض من لم يكن في ذلك الزمان في عداد من يذكر، ولا هو - والله - الآن في عداد من يفهم كلامي الذي اعترض عليه، فلقد صدق - لعمري - القائل: إذا مضى القرن الذي أنت فيهم. . . وخلفت في قرن فأنت غريب وتنقسم الناس بعد ذلك، فمِنْ عارف بمآثري، خال من الحسد. مُتَلَّ بحلى الدين، فهو مُثْنٍ عليَّ بما يعلم، ومن جاهل، فهو مسلم لأكبر منه، ومن قائل: إني عثرت على شيء غريب لمن تقدمني فنسبته إليَّ. فقلت: من العجب كوني أطلع على شيء من القرآن، لا يعثر غيري على شيء منه. وأعجب من ذلك: أن يتجدد لي علم ذلك، كلما تجدد من أحد سؤال، أو بدأ في آية إشكال. وهذا نحو ما قررته في معنى قوله تعالى - في سورة هود عليه السلام -: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ) .

وقلت: فما لي أتعبت نفسي في كتابتي للمسودة من أوله إلى آخر سورة هود على نهج لم يرضني، بعد أن علمت سورة يوسف عليه السلام، حتى احتجت إلى أن كررت على ما مضى فأصلحته، فما كان قريباً من سورة يوسف عليه السلام، كان أقل احتياجاً للِإصلاح، وما كان بعيداً كالأعراف وما قبلها، صار تصنيفاً آخر، قاسيت في إصلاحه أكثر من الأمور المبتكرة. وجاء المجلد منه في مجلدين بعد الِإصلاح. وهذه مسودته فيها مواضع، من عرف يقرؤها، أشهدت على أن الكتاب له دوني. وكتابي هذا قد نوهت فيه بالنقل عن جماعة، ما عرفهم المصوبون إلا مني منهم الأستاذ أبو الحسن الحرّالي. والقاعدة التي افتتحت بها كتابي عن الشيخ أبي الفضل المغربي رحمه الله لم يسمعها منه غيري. لو كنت ممن يتشيَّع بما لم يعط، لم أنسبها إليه، فإنها أحسن من كل ما في كتابي وهي الأصل الذي أبتني ذلك كله عليه. ولقد سألني بعض أكابر المغاربة أن أسقط ذكره ليكتب الكتاب. ويرسل به إلى الغرب، قال: لأن المغاربة لا يُقرُّون للشيخ أبي الفضل بما أصفه أنابه فلم أجبه إلى ذلك، وامتنع هو من الكتابة، إلا على ذلك الشرط. فعلمت أن ذلك حسد منهم للشيخ أبي الفضل رحمه الله، على تقدير

صحته لأن أهل كل بلد يحسدون من بَزَهم منهم سبقاً، وعلاهم فوقاً. وأعلاهم فضلاً وأعزهم فصاحة ونبلا، (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) ، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. على أن أكثر المصريين كانوا - أيضاً - يحسدونه، رحمه الله. ووالله ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل رأي نفسه. فلا يعتبْ علي أحدٌ في هذا الكلام، فإنه نفثه مصدور، ورمية معذور. شغله الذباب عن كثير من مقاصده، ونفر عنه الذباب كثيراً من مصايده. ولقد منع كثيراً من العلماء عن إظهار محاسن أعمالهم، ومعالي أقوالهم وأفعالهم. نقل الِإمام بدر الدين الزركشي، المصري الشافعي في كتابه "البرهان في علوم القرآن " عن القاضي أبي بكر بن العربي، أنه قال في

"سراج المريدين ": ارتباط آي القرآن العظيم، بعضها ببعض، حتى تكون كالكلمة الواحدة، منسقة المعاني منتظمة المباني، علم عظيم، لم يتعرض له إلا عالم واحد، عمل فيه سورة البقرة، ثم فتح الله عز وجل لنا فيه، فلما لم نجد له حَمَلة، ورأينا الخلق بأوصاف البطلة، ختمنا عليه، وجعلناه بيننا وبين الله، رددناه إليه. ومما يصلح إيراده في هذا المضمار، مما يلي من الأشعار، ما قلته في سنة خمسين وثمانمائة، وكنت مرابطاً في ثغر دمياط، فتأملت يوماً أحوالي وأحوال الحسدة، فوجدتها في غاية البعد عن مواقع حسدهم، فإن طلبي غير ما يطلبونه، فلم نتزاحم على مقصد من المقاصد، فأنشدت تعجبي من أمرهم. فقلت من الطويل الثالث، والقافية متواتر مصمت، مطلق، مرادف: ألا رب شخص قد غدا لي حاسدا. . . يرجّى مماتي وهو مثلى فان ويا ليت شعري إن أمت ما يناله. . . وماذا عليه لو أطيل زماني عدوى قاصٍ عنه ظلمى آمن. . . من الجور، داني النفع حيث رجاني وهل لي تراث غير قوس أعدها. . . لحرب ذوي كفر، وغير يماني وما يبتغي الحساد مني وإنني. . . لفي شغل عنهم بأعظم شاني أنكب نفسي عن مخوّف يومها. . . لعلي أن أحظى بنيل أماني نعم إنني عما قريب لميت. . . ومن ذا الذي يبقى على الحدثان

كأنك بي أنعى إليك وعندها. . . ترى خيراً صُمَّت له الأذنان فلا حسد يبقى لديك ولا قلى. . . فتنطق في مدحي بأي معان وتنظر أوصافي فتعلم أنها. . . علت عن مدان في أعز مكان ويمسى رجال قد تهدم ركنهم. . . فمدمعهم لي دائم الهملان فكم من عزيز بي يذل جماحه. . . ويطمع فيه ذو شقا وهوان فيا رب من يفجأ بهول يؤوده. . . ولو كنت موجوداً إليه دعاني ويارب شخص قد دهته مصيبة. . . لها القلب أسى دائم الخفقان فيطلب من يجلو صداها فلا يرى. . . ولو كنت جلتها يدي ولساني وكم ظالم نالته مني غضاضة. . . لنصرة مظلوم ضعيف جنان وكم خطة سيمت ذووها معرة. . . أعيذت بضرب من يدي وطعان فإن يرثني من كنت أجمع شمله. . . بتشتيت شملي فالوفا رثاني وإلا نعاني كل خلق ترفعت. . . به هممي عن شائن وبكاني إلهي كما أوليتنيها تفضلاً. . . فأتمم بإيتائي نعيم جنان. وإنه ليعجبني ما حكاه المسعودي في "مروج الذهب" في ترجمة

المنصور، ثاني الخلفاء العباسيين، أنه قال لمعن بن زائدة الشيباني: ما أسرع الناس إلى قومك بالأذى، فقال: يا أمير المؤمنين: إن الغرانيق تلقاها محسّدة. . . ولن ترى للئام الناس حساداً الغرانيق: السادة أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، وأيضاً: وإذا أتتك مذمتي من ناقص. . . فهي الشهادة بأني كامل وروى الطبراني في الكبير، عن فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الِإسلام ثلاث أبنيات: سفلى، وعليا وغرفة، فأما السفلى: فالإِسلام، دخل فيه عامة المسلمين، فلا تسل أحداً منهم إلا قال: أنا مسلم، وأما العليا: فتفاضل أعمال المسلمين، بعضهم أفضل من بعض، وأما الغرفة: فالجهاد في سبيل الله. هذا، وإن هذا العلم الذي أفاض الله - وله الحمد - عليّ - وأصله:

بذل الرقة والانكسار، والتضرع والافتقار - لأدق العلوم أمراً، وأخفاها سرا، وأعلاها قدرا. لأنه في الحقيقة، إظهار البلاغة من الكتاب العزيز، وبيان ذلك في كل جملة (من) جمله. فإن البلاغة - كما أطبقوا - مناسبة المقال مقتضى الحال. وهذا الكتاب لبيان الداعي إلى وضع كل جملة في مكانها، وإقامة حجتها في ذلك وبرهانها، لأن هذا العلم - على العموم - علم تعرف منه علل الترتيب. وموضوعه: أجزاء الشيء المطلوب علم مناسبته من حيث الترتيب. وثمرته: الاطلاع على المرتبة التي يستحقها الجزء بسبب ما له بما وراءه، وما أمامه من الارتباط والتعلق، الذي هو كلحمة النسب. فعلم مناسبات القرآن: علم تعرف منه علل ترتيب أجزائه، وهو سر البلاغة لأدائه إلى تحقيق مطابقة المقال، لما اقتضاه الحال. وتتوقف الِإجادة فيه على معرفة مقصود السورة، المطلوب ذلك فيها. ونسبته من علم التفسير، نسبة علم المعاني والبيان من النحو، فهو غاية العلوم. قال الِإمام بدر الدين الزركشي: قد قل اعتناء المفسرين بهذا النوع لدقته، وممن أكثر منه: الإِمام فخر الدين، وقال في تفسيره: أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط.

إلى غير ذلك مما يصلح أن يكون ثناء على كتابي، فيعرف بمقداره. ويوضح بدائع أسراره. على أن الثناء ممن صنف كتاباً، والتعريف به أول الكتاب، مما ندب إليه الأقدمون، في أنهم يرون تصدير الكتاب بالرؤوس الثمانية، وهي: الغرض، والمنفعة والسمة، ومن أي علم هو، ومرتبته، وقسمته، ونحو التعليم فيه، والمؤلف. فأما الغرض: فهو الغاية السابقة في الوهم، المتأخرة في الفعل. وأما المنفعة: فهو ما يحصل به من الفائدة للنفس، ليتشوقه الطبع، على أن الغرض والغاية والمنفعة واحد، بحسب الذات، وإنما تختلف بالاعتبار. فمن حيث تطلب بالفعل، تسمى غرضاً. ومن حيث بتأدي إليها الشيء، ويترتب عليها، تسمى غاية. ومن حيث حصول الفائدة بها، وتشوق الكل إليها بالطبع، تسمى منفعة. فيصدر الكتاب بذكر غايته، ليعلم طالبه أنه هل يوافق غرضه، أم لا. وتذكر منفعته ليزداد جدَّاً ونشاطاً في طلبه. وأما السمة: فهي العنوان الدال بالِإجماع على ما فضل ثمة، وسواء كان ذلك بحد، أو برسم، تام أو ناقص، أو غير ذلك.

وأما من أي علم هو: فهو نوع العلم الموضوع هناك. وأما مرتبته: فبيان متى يجب أن يقرأ. وأما قسمته: فهو بيان ترتيب ذلك الكتاب، وفنونه، وجملة مقالاته. وأبوابه وفصوله. وأما نحو التعليم: فهو بيان الطريق المسلوك فيه لتحصيل الغاية. وأما نحو المؤلف: فهو واضع الكتاب، ليُعلم قدره، ويوثق به. على أن السنة المطهرة قد أشارت إلى ذلك، فلسنا - والحمد الله - متبعين في الحقيقة إلا إياها. وذلك في كتب النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث قدم اسمه الكريم، فقال: "من محمد"، ولما كان الغرض الانقياد لما يأمر به من تلك الأمور العظيمة وعدم مجاوزة الحد به، كما فعل بعيسى عليه السلام، وصف نفسه الشريفة بما يحتاج إليه في ذلك فقال: "عبد الله ورسوله ". ثم بين الغرض من الكتاب بقوله: أدعوك بدعاية الِإسلام. ثم ذكر المنفعة ترغيباً وترهيباً بقوله: أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت، فإن عليك إثم الأريسيين ثم أشار إلى الِإسلام، بأنه التبرؤ من عبادة ما سوى الله، كائناً (من كان) إلى آخر ما ذكره في قوله تعالى:

(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) . ثم. نبه على أن ذلك هو الإِسلام بقوله: (فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون) . فإن تولوا، فقولوا، بل نحن لا نتولى، بل اشتهدوا بأنا فاعلون لما أمرنا به في هذه الآية، فنكون بذلك مسلمين. وإذ قد عرف أن ما ذكرته من الثناء على (كتابي) وغيره سنة قديمة، جاء شرعنا بتحسينها، عرف أنه حسن، لا سيما مع ما دعا إليه، وحمل عليه، فإنه ليس في قوة كل أحد أن يعرف الرجال بالحق، بل أكثرهم إنما يعرف الحق بالرجال فهو كالبهيمة التي لا تعرف إلا ما شخص لها من الأجرام، وتَبَدَّى لبصرها من الأجسام. وإلا، فكتبي - ولا سيما "نظم الدرر" الذي هذا الكلام بسببه - لا تحوجني إلى ثناء أحد عند العالم المنصف، وقليل ما هي، بل وكذا سائر أفعالي وأحوالي عند من تضلع بعلم السنة، وتطبع بطباع الصحابة، وأين ذلك حيَّاه الله وبيَّاه،؟ وأنعشه بروح المعرفة وأحياه.

وكان مما قال بعضهم في كتابي: إنه لا حاجة إليه، ولا معوَّل عليه. على أنه قائم بما لولاه لا فتضح أكثرهم، لو وافقه في القرآن مناظر. وحاوره في كثير من الجمل من أهل الملل محاور، في مكان يأمن فيه الحيف. ولا تخشى سطوة السيف، لو قال: أنتم قلتم: إن القرآن معجز، وكذا آية مستقلة توازي الكوثر التي هي أقصر سورة، فما قال في قوله تعالى: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)) . فهذه الآيات بمقدار الكوثر، نحو أربع مرات. إن قلت: إن المعجز مطلق نظمها بهذه الألفاظ، فانا أرتب من فيها غير هذا الترتيب. وإن قلتم: إنه أمر يخص هذا النظم على ما هو عليه من الترتيب فبينوه، لحيَّرهم. ومثل ذلك سواء قوله: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)) . وأوضح من ذلك قوله تعالى في سورة (ص) :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) . وفي سورة - ق -: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)) . فتغاير النظمان، وزاد أحدهما. فلو أن أحداً رتبهم على ترتيبهم في الوجود، وختم ما في سورة ص بالخالي من التأكيد، كان الِإعجاز باقياً، أم لا. وعلى كل تقدير يختار، يلزم إشكال، إذا ترتل كتابي زاح، وزهق باطله وطاح وبغيره يعسر زواله، ويتعذر إبطاله. ولقد أخبرني بعض الأفاضل: أن شخصاً من اليهود لقيه خاليا، فقال له: ماذا قال نبيكم في الروح؟. فقال له: أنزل الله عليه فيها قوله تعالى: (ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) . فقال له مستهزئاً: بيان مليح هذا. قال: فأبهتني ثم تركني وانصرف، وقد بلغ من نكايتي ما لا يعلمه إلا الله، وما دريت ما أجيبه. ولو كان يعرف ما بينه فيها كتابي هذا، الذي صَوَّبوُا إليه من الغض،

ما يكاد الحبل منه يرفَضُ، غيظاً وينقض، لأخزاه وأخجله، ونكَّس رأسه وجهَّله. ولما كان ذلك الذي جلبته إليك، وجلوته عليك، مما هو في الغرابة كأنه منام، بل أضغاث أحلام، عملت هذا الكتاب الذي مُحَصَّله: أن من عرف المراد من اسم السور عرف مقصودها، ومن حقق المقصود منها، عرف تناسب آيها، وقصصها، وجميع أجزائها. فقد تضمن إبرازه مع ما أفاده بالقصد الأول شحذ الأذهان، ومعاناة لمن استولت عليهم النسوان، وأكثروا لهم من الطعم والدهان، ليعلموا أن العلم من عزة المرام، وعظمة المقام، بحيث لا يهون أبداً، كما أنه قَط ما هَانَ، فيرجعوا عن الفجور والزور والبهتان، فليفتحوا طريق سورة من السور، وإن كانت في غاية الوجازة والقصر فإن كل سورة لها مقصد واحد يدار عليه أولها وآخرها، ويستدل عليه فيها، فترتب المقدمات الدالة عليه. على أتقن وجه، وأبدع نهج، وإذا كان فيها شيء يحتاج إلى دليك، استدل عليه. وهكذا في دليل الدليل، وهلم جرا. فإذا وصل الأمر إلى غايته، ختم بما منه كان ابتدأ، ثم انعطف الكلام إليه وعاد النظر عليه، على نهج آخر بديع، ومرقى غير الأول منيع، فتكون السورة كالشجرة النضيرة العالية، والدوحة البهيجة الأنيقة الخالية، المزينة بأنواع الزينة المنظومة بعد أنيق الورق بأفنان الدر، وأفنانها منعطفة إلى تلك المقاطع كالدوائر، وكل دائرة منها لها شعبة متصلة بما قبلها، وشعبة ملتحمة بما بعدها، وآخر السورة قد واصل أولها، كما لاحم انتهاؤها ما بعدها. وعانق ابتداؤها ما قبلها، فصارت كل سورة دائرةً كبرى، مشتملة على دوائر الآيات الغُرِّ، البديعة النظم، العجيبة الضم، بلين تعاطف أفنانها، وحسن تواصل ثمارها وأغصانها.

مثاله: مقصود سورة البقرة: وصف الكتاب المذكور أولها بصريح اسمه، الناظر بأصل مدلوله، إلى جمعه لكل خير، المشير بوصفه إلى ما في آخر الفاتحة من سؤال الهداية، والِإبعاد من طريق الضلال، ثم بوصفه في قوله: (بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) ، المنوه آخرها بالذين آمنوا به في قوله: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه) إلى آخره. وذلك هو عين أولها، لكونها تعييناً لرؤوس مَنْ شمله وصف التقوى في فاتحتها وذلك بعد تحقيق قوله: (هدى) بما بين من دعائم الِإسلام الخمس، ضمن محاجة أهل الكتاب، بما تكفل بالدلالة على أكثر مقاصد القرآن، وأعرب عما لزمته البلاغة مما جر إليه الصيام من الأكل والشرب. ببيان المآكل والمشارب، وما يحل النكاح وما يحرمه وما يتبع ذلك على تلك الوجوه الحسان، والأساليب التي علت في رتب البيان على الجوزاء والميزان. فلا لاحِقٌ، ولا مُدانٍ. وذكر تعالى في أولها أضداد مَنْ آمن به، دليلاً على صحة الدعوى في نسبة معناه إليه سبحانه، وذلك بالتعجيز لهم فيما حكم به من وصفهم. وألزمهم من كفرهم، فلم يقدروا على التكذيب بالتقصي عنه، والبعد منه. فلما ثبتت قدرته، واتضحت جلالته وعظمته، في أنه لا نِدَّ له ولا مكافىء، ولا عديل ولا منافي، رجع إلى الكتاب، فبين صحة الدعوى في نظمه، كما بينها في معناه فقال: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) . ثم هددهم على الِإصرار بعد البيان ومر فيما ناسب ذلك ولَاحَمَهُ، واتصل به ولَاءَمَه، مما تكفل ببيانه أصل هذا الكتاب آية آية، بل جملة

جملة، وفي كثير من الأماكن كلمة كلمة، إلى أن قال: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى) فرجع إليه بإنذاره بني إسرائيل فقال: (وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم) واستمر هكذا يدل على نبل مقصود السورة، وما احتيج إلى الدلالة عليه من تلك المقدمات. ثم يرجع إلى أمر الكتاب، وبيان ما له من الشرف والصواب، مرة بعد مرة، وكرة في إثر كرة،. حتى عرف أنه مقصودها، وسر معانيها وعمودها، إلى أن قال: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) . ثم شرع يدل على كونه - صلى الله عليه وسلم - ويندب إلى الإنفاق على جهاد أعدائه يوم الفصل. ولما ذكر النفقة التي جعلها وصفاً لمن هداه الكتاب، فحذر مَنْ تَرَكها مِنْ تَرْكِها باليوم الموعود، ووصف الملك الحاكم في ذلك اليوم، وقرر أمر الرجوع إليه، وأعاد ذكر النفقة في سياق النبات الذي هو أدل شيء على بعث الأموات لذلك اليوم وختمِ بصفة العلم في قوله تعالى: (والله واسع عليم) ، كان ذلك مَحَزًّا بديع الإِشكال لذكر الكتاب، فعبر بما يشمله. ويشمل كل ما دعا إليه، وحث عليه من النفقات وغيرها فقال: (يؤتي الحكمة من يشاء) . واستمر في النفقات، وما جَرَّ إليه ذكرها، من إخلاصها من شوائب الخبث ودل على بعض الآداب في تلك.

وختم بعد صفة العلم بصفة القدرة، فقال: (إن الله على كل شيء قدير) . فختم بما به بدأ، حيث قال بعد أمثال المنافقين: (إن الله على كل شيء قدير) . ثم أخبر بأن خلص عباده آمنوا بما دعا إليه عموم الناس عند الآية الأولى من قوله: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) ، وما تبع ذلك فقال: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون) إلى آخرها. فكان آخرها نتيجة أولها. ولأجل اختلاف مقاصد السور، تتغير نظوم القصص وألفاظها، بحسب الأسلوب المفيد للدلالة على ذلك المقصد. مثال: مقصود سورة آل عمران: التوحيد. ومقصود سورة مريم عليها السلام: شمول الرحمة. فبدئت آل عمران بالتوحيد، وختمت بما بني عليه من الصبر، وما معه مما أعظمه التقوى، وكرر ذكر الاسم الأعظم الدال على الذات، الجامع لجميع الصفات، فيها تكريراً لم يكرر في مريم " فقال في قصة زكريا عليه السلام: (كذلكَ الله يفعل ما يشاء) . وقال في مريم: (كذلكَ قال ربُّكَ هو علي هين، وقد خلقتُك من قبلُ ولم تَكُ شيئاً) .

وقال في آل عمران في قصة مريم عليها السلام: (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه - إلى أن قال: كذلكِ الله يخلق ما يشاء. وفي مريم: (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) . وغير ذلك، بعد أن افتتح السورة بذكر الرحمة لعبد من خُلَّص عباده. وختمها بأن كل من كان على نهجه في الخضوع لله يجعل له وُدّاً، وأنه سبحانه يَسَّرَ هذا الذكر بلسان أحسن الناس خَلْقاً وخلُقاً، وأجملهم كلاماً، وأحلاهم نطقاً. وكرر الوصف بالرحمن - وما يقرب منه من صفات الإِحسان من الأسماء الحسنى - في أثناء السورة تكريراً يلائم مقصودها، ويثبت قاعدتها وعمودها. فسبحان من هذا كلامُه، وعز شأنه، وعلا مرامه. هذا يسير من إجمال ما فصله كتاب نظم الدرر، وحصَّله من أفانين البلاغة والسور. فذلك البحر الخضم، والطود العالي الأشم، فمن أراد التبحر في هذا الفن فليربط نظره، وليحط بفنائه هممه، ويقف بأرجائه فكرة، والله الهادي. وقد كان أفاضل السلف يعرفون هذا، بما في سليقتهم من أفانين العربية، ودقيق مناهج الفكر البشرية، ولطيف أساليب النوازع العقلية، ثم تناقص العلم حتى انعجم على الناس، وصار إلى حد الغرابة كغيره من الفنون.

قال أبو عبيد في كتاب "الفضائل": حدثنا معاذ، عن عوف، عن عبد الله بن مسلم ابن يسار، عن أبيه قال: إذا حدثت عن الله حديثاً، فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده. وروى عبد الرزاق عن ابن عيينة، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: قال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا سأل أحدكم صاحبه كيف يقرأ آية كذا وكذا، فليسأله عما قبلها. يريد - والله أعلم -: أن ما قبلها يدله على تحرير لفظها، بما تدعو إليه المناسبة. وروى الحارث بن أبىِ أسامة، عن أبي سعيد الخدرىِ رضي الله عنه، أنه حدَّث: أن قوماً يدخلون النار ثم يخرجون منها، فقال له القوم: أو ليس الله تعالي يقول: (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) ؟ فقال لهم أبو سعيد رضي الله عنه: اقرأوا ما فوقها: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا) الآية.

وفي التفسير: أن أعرابياً سمع قارئاً يقرأ: (فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم) ، فأبدله القارىء بأن قال: غفور رحيم. فقال الأعرابي - ولم يكن قرأ القرآن -: إن كان هذا كلام الله هكذا. إن الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل، لأنه إغراء عليه. إذا تقرر ذلك، فتعريف هذا العلم، اسم هذا الكتاب المصنَّف فيه. فهو: علم يعرف منه مقاصد السور. وموضوعه آيات السور، كل سورة على حيالها. وغايته: معرفة الحق من تفسير كل آية من تلك السورة. ومنفعته: التبحر في علم التفسير، فإنه يثمر التسهيل له والتيسير. ونوعه: التفسير، ورتبته: أوله. فيشتغل به قبل الشروع فيه، فإنه كالمقدمة له، من حيث إنه كالتعريف، لأنه معرفة تفسير كل سورة إجمالاً. وأقسامه: السور. وطريقة السلوك في تحصيله: جمع جميع فنون العلم. وأقل ما يكفي من كل علم مقدمة تعرف باصطلاح أهله، وما لا بد من مقاصده ولا سيما علم السنة، فكلما توغل الِإنسان فيه، عظم حظه من هذا العلم، وكلما نقص، نقص. فلذلك أذكر كثيراً من فضائل القرآن، ولا سيما ما له تعلق بفضائل السور، ليكون معيناً على المقصود، وأذكر كون السورة مكية، أو مدنية، لأن

نسبتها إلى محل النزول من جملة صفاتها، وعدد آياتها من كمال التعريف بذاتها. فلأجل هذا (ذكرت) ذلك، موضحاً ما فيه من اختلاف العادين من أهل الممالك، والله المستعان.

سورة الفاتحة

سورة الفاتحة قال النووي في "التبيان ": في السورة لغتان: الهمز، وتركه. والترك أفصح وهو الذي جاء به القرآن، وممن ذكر اللغتين ابن قتيبة في "غريب الحديث ". انتهى.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: مكية. قال الأصفهاني: وهو قول قتادة، وأبي العالية، وعليه أكثر العلماء. وقال أبو هريرة رضي الله عنه، ومجاهد، وعطاء: مدنية. وروى الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن إبليس رَن حين أنزلت فاتحة الكتاب، وأنزلت بالمدينة. ومثل هذا لا يقال بالرأي، فله حكم الرفع. قال الهيثمي: - ورجاله رجال الصحيح وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: نزلت فاتحة الكتاب بمكة. من كنز تحت العرش. وفي البخاري في حديث أبي سعيد بن المُعَلى رضي الله عنه: أن أم القرآن هي السبع المثاني، والقرآن العظيم.

وسورة الحِجْر مكية بالاتفاق. وقال ابن إسحاق فىِ سيرته: حدثنا يونس، عن يونس بن عمرو. عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل - هو الهمداني الكوفي، ثقة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لخديجة رضي الله عنها: إني إذا خلوت وحدي، أسمع نداء، وقد - والله خشيت أن يكون هذا أمراً، فقالت: معاذ الله، ما كان الله ليفعل بك ذلك فوالله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وِتصدق الحديث، فلما دخل أبو بكر رضي الله عنه، وليس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثَمَ، ذكرت خديجة حديثه له، فقالت: اذهب يا عتيق مع محمد إلى ورقة، فلما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أخذ أبو بكر بيده، فقال: انطلق بنا إلى ورقة، فقال: ومن أخبرك؟ قال: خديجة فانطلقا إليه، فقصا عليه، فقال: إذا خلوتُ وحدي، سمعتُ نداء خلفي: يا محمد يا محمد، فأنطلق هارباً في الأرض، فقال له: لا تفعل، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول: ثم ائتني فاخبرني، فلما خلا،

ناداه: يا محمد، قل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد للهِ رب العالمين " حتى بلغ: "الضالين ". قل: لا إله إلا الله. فأتى ورقة فذكر له ذلك، فقال له ورقة: أبشر، ثم أبشر، فأنا أشهد أنك الذي بَشَر به ابن مريم، وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبي مرسل، فإنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك هذا، ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك، فلما توفي ورقة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد رأيت القسّ في الجنة عليه ثياب الحرير، لأنه آمن بي وصدقني "، يعني: ورقة. انتهى. وعندي: أنها نزلت مرتين، من كل من البلدين مرة، فإن ذلك لائق بجلالها وعظمتها، ومناسب لتسميتها بالمثاني، فهي مكية مدنية معاً وبه قال بعض العلماء، حكاه الأصفهاني.

ضابط المكي والمدني

وحكى أبو الليث السمرقندي: أنه نزل بعضها بمكة وبعضها بالمدينة. ضابط المكي والمدني وكل ما نزل قبل الهجرة فهو مكي. وكل ما نزل بعدها فهو مدني، ولو كان النبى - صلى الله عليه وسلم - وقت نزوله في بلد أخرى. قال الإمام برهان الدين الجعبري، المقرىء الشافعي، في كتابه "حسن المدد في معرفة العدد": ولمعرفته طريقان: سماعي، وقياسي. فالسماعي: ما وصل إلينا نزوله بإحداهما. والقياسي: قال علقمة عن عبد الله: كلِ سورة فيها "يا أيها الناس " فقط، بخلاف الحج، أو "كَلا" أو أولها حرف تهَجٍّ، سوى الزهراوين، والرعد في وجه، أو فيها قصة آدم عليه السلام، وإبليس أعاذنا الله منه - سوى الطولي - فهي مكية. وكل سورة فيها "يا أيها الذين آمنوا" فقط، أو ذكر المنافقين فهي مدنية.

وقال هشام بن عروة عن أبيه: كل سورة فيها قصص الأنبياء، والأمم الخالية والعذاب، فهي مكية. وكل سورة فيها فريضة، أو حد، مدنية. رواه أبو داود عن عروة فقال: حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة. عن أبيه قال: ما كان من حد، أو فريضة، فإنه أنزل بالمدينة، وما كان من ذكر الأمم والعذاب، فإنه أنزل بمكة. وروى الطبراني في الأوسط عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: نزل المفصل بمكة فمكثنا حججاً نقرأ، لا ينزل غيره. قال الهيثمي: وفيه خديج بن معاوية، وثقة أحمد وغيره، وضعفه جماعة. ولم يأت ما نزل في شيء من البلدين مرتباً في نسق واحد، لأن ترتيب النزول كان باعتبار الحاجة والوقائع، ثم نسخه ترتيب المصحف العثماني المنقول من المصحف التي استنسخها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، المنقول من الرقاع المكتوبة بين يدي سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمره، وعلى حسب ما أمر بترتيبه كما أمره الله به سبحانه، حيث كان يقول - إذا أنزلت عليه الآية -: ضعوها في سورة كذا بين آية كذا، والتي قبلها. قال إمام القراء أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني في كتابه: "البيان عن اختلاف أئمة أهل الأمصار واتفاقهم في عدد آي القرآن ".

حدثنا فارس بن أحمد، فا أحمد بن. . . بنا أحمد بن عثمان. بنا الفضل ابن شاذان، بنا إبراهيم بن موسى، أنا يزيد بن زُرَيْع، بنا سعيد. عن قتادة قال: المدني: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، وبراءة، والرعد، والحج، والنور، والأحزاب، والذين كفروا، وإنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ويا أيها النبي لم تحرم، وهل أتى على الإِنسان حين من الدهر، ولم يكن الذين كفروا، وإذا زلزلت، وإذا جاء نصر الله والفتح، مدني، وما بقي مكي. وذكر أن من أول النحل إلى ذكره الهجرة مكي، وسائر ذلك مدني. وذكر أن أول "الم أحسب الناس " إلى قوله: "وليعلمن المنافقين " مدني وسائرها مكي. وذكر أن الآيتين اللتين في إبراهيم: "الم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله " إلى قوله: "وبئس القرار" مدني، وسائرها مكي. (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال) إلى هذه الآية: (حتى يأتي وعد الله) مدني، وسائرها مكي.

وذكر في الأعراف (وهذه الآية) : (واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر) مدنية. وفي الحج: "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقي الشيطان في أمنيته " إلى قوله: "أو يأتيهم عذاب يوم عقيم " مكي. حدثنا فارس بن أحمد، ثنا أحمد بن محمد، نا أحمد بن عثمان، نا الفضل نا أحمد بن يزيد، نا أبو كامل فضيل بن حُصَيْن ثنا حسان بن إبراهيم، نا أمية الأزدي، عن جابر بن زيد قال: أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - من القرآن أول ما أنزل بمكة: "اقرأ باسم ربك الذي خلق، ثم ن والقلم، ثم يا أيها المزمل ثم يا أيها المدثر، ثم تَبتْ يدا أبي لهب، ثم إذا الشمس كورت، ثم سبح اسمَ ربك الأعلى، ثم والليل إذا يغشى، ثم والفجر، ثم والضحى، ثم الم نشرح ثم والعصر، ثم والعاديات، ثم إنا أعطيناك الكوثر، ثم ألهاكم التكاثر، ثم أرأيت الذي يكُذب بالدين، ثم قل يا أيها الكافرون، ثم الم تر كيف فعل ربك، ثم قل أعوذ برب الفلق، ثم قل أعوذ برب الناس، ثم قل هو الله أحد، ثم والنَجْم إذا هوى، ثم عبس وتولى، ثم إنا أنزلناه، ثم والشمس وضحاها، ثم والسماء ذات البروج، ثم والتين والزيتون، ثم لِإيلاف قريش، ثم القارعة، ثم لا أقسم بيوم القيامة، ثم الهُمَزَة، ثم المرسلات، ثم ق والقرآن، ثم لا أقسم بهذا البلد، ثم والسماء والطارق، ثم اقتربت الساعة، ثم ص والقرآن، ثم الأعراف، ثم الجن ثم يس، ثم الفرقان، ثم الملائكة، ثم كهيعص، ثم طه، ثم الواقعة، ثم طسم الشعراء، ثم طس النمل، ثم طسم القصص، ثم بني إسرائيل، ثم التاسعة - يعني يونس - ثم هود، ثم يوسف، ثم الحجر، ثم الأنعام، ثم والصافات ثم لقمان، ثم سبأ، ثم الزمر، ثم حم المؤمن، ثم حم السجدة، ثم حم

الزخرف ثم حم الدخان، ثم الجاثية، ثم الأحقاف، ثم والذاريات، ثم هل أتاك حديث الغاشية، ثم الكهف، ثم حم عسق، ثم إبراهيم، ثم الأنبياء. ثم النحل أربعين آية، وبقيتها بالمدينة، ثم تنزيل السجدة، ثم إنا أرسلنا. ثم والطور، ثم المؤمنون، ثم تبارك الذي بيده الملك، ثم الحاقة، ثم سأل سائل، ثم عم يتساءلون ثم والنازعات، ثم إذا السماء انفطرت، ثم إذا السماء انشقت، ثم الروم، ثم العنكبوت، ثم ويل للمطففين. فذلك ما أنزل عليه - صلى الله عليه وسلم - بمكة، خمس وثمانون سورة إلا من سورة النحل، فإنه نزل بمكة أربعون آية، وبقيتها بالمدينة. وما أنزل بالمدينة، ثمان وعشرون سورة، سوى سورة النحل، فإنه أنزل بمكة من سورة النحل أربعون آية، وبقيتها بالمدينة. وأنزل عليه بعد ما قدم المدينة: سورة البقرة، ثم آل عمران، ثم الأنفال ثم الأحزاب، ثم المائدة، ثم المُمْتَحَنَة، ثم النساء، ثم إذا زلزلت. ثم الحديد ثم سورة محمد، ثم الرعد، ثم الرحمن، ثم هل أتى على الِإنسان. ثم سورة النساء القصرى، ثم لم يكن الذين كفروا، ثم الحشر، ثم إذا جاء نصر الله والفتح، ثم النور، ثم الحج، ثم المنافقون، ثم المجادلة، ثم الحجرات، ثم يا أيها النبي لم تحرم، ثم الجمعة، ثم التغابن، ثم سبح الحواريون، ثم إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ثم التوبة، خاتمة القرآن. فذلك ثمان وعشرون سورة.

وآخر آية أنزلت: (فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) . هكذا عد المطففين في المكي، وسيأتي ما يرده. وقال البيهقي في دلائل النبوة: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو محمد زياد العبدلي، ثنا محمد بن إسحاق، نا يعقوب بن إبراهيم الذَوْرَقِي نا أحمد بن نصر بن مالك الفراحي، نا علي بن الحسين بن واقد. عن أبيه، حدثني يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن بن أبي الحسن قال: (أول) ما أنزل الله من القرآن بمكة: "اقرأ باسم ربك الذي خلق ". فذكره على ترتيبه، غير أنه عطف الكل بالواو، لا بـ ثم. ولما قال: حم المؤمن، خالف الترتيب، فقال: حم الدخان، وحم السجدة وحم عسق، وحم الزخرف، والجاثية، والأحقاف، والذاريات. والغاشية، وأصحاب الكهف، والنحل، ونوح، وإبراهيم، والأنبياء. والمؤمنون، والم السجدة، والطور وتبارك الذي بيده الملك، والحاقة، وسأل سائل، وعم يتساءلون، والنازعات، وإذا السماء انشقت، وإذا السماء انفطرت، والروم والعنكبوت.

وقال: وما أنزل بالمدينة: ويل للمطففين، والبقرة. فساقه كما رتب في رواية أبي عمرو، ولم يخالفه إلا في ذكر المطففين فيما نزل بالمدينة، كما هو أقرب وأصوب. وقد ورد به حديث أخرجه ابن ماجة، وابن حبان (في صحيحه) . والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة كانوا أخبثَ الناس كيلاً، فأنزل الله تعالى: "ويل للمطففين" فأحسنوا الكيل بعد ذلك. ولما وصل إلى التحريم، خالفه في الترتيب، مع أنه لا يعطف إلا بالواو، فقال: والصف، والجمعة، والتغابنُ، والفتح، وبراءة. وأسقط ذكر الفاتحة والأعراف ومريم، مما نزل بمكة، فنبه عليه البيهقي، ثم ساق سنده إلى مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن أول ما أنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم -: (من القرآن) اقرأ باسم ربك. فذكر معنى هذا الحديث، وذكر السورة التي سقطت من الرواية الأولى في ذكر ما نزل بمكة، وقال: ولهذا الحديث شاهد في تفسير مقاتل، وغيره من أهل التفسير.

وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب "الفضائل ": حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة قال: نزلت بالمدينة سورة البقرة. فذكر ما تقدم، لكنه رتبه على ترتيب المصحف، وأسقط الرعد والحجرات والرحمن والجمعة، والمنافقون والإنسان. فلا أدري، أأسقطها الكاتب، أو هي ساقطة من الرواية. وزاد الفجر، والليل إذا يغشى، وإنا أنزلناه في ليلة القدر، فذكرها في المدني. وقال الإمام أبو عمرو الداني: حدثنا خلف بن إبراهيم، نا أحمد بن محمد ثنا علي بن عبد العزيز، نا القاسم بن سلام، نا هشيم، ثنا أبو بشر. عن سعيد ابن جبير، في قوله عز وجل: (ولقد ءاتيناك سبعاً من المثاني) قال: هي السبع الطوال: البقرة، وآل عمران، والنساء. والمائدة، والأنعام، والأ عراف، ويونس.

ذكر علماء العدد

قال: وقال مجاهد: هي السبع الطوال. ذكر علماء العدد وأما عدد آي الفاتحة: فهي سبع عند جميع أهل العدد، وهم خمسة: مدني، ومكي، وكوفي، وبصري، وشامي. ا - فالمدني: رواه شيبة بن نصاح بن سرجس بن يعقوب المخزومي، المدني القارىء، مولى أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنها. وأبو جعفر يزيد بن القعقاع، المدني القارىء، مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي.

وهو مذهب أول وأخير. أ - فالأول: رواه عنهما نافع بن أبي نعيم. قال الِإمام أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد السخاوي. الشافعي، المقرىء نزيل دمشق، في كتابه "جمال القراء": وبه أخذ القدماء من أصحاب نافع. ب - والأخير: رواه إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري المدني، عن سليمان ابن مسلم بن جماز عنهما.

قال السخاوي: وعليه الأخذون بقراءة نافع اليوم، وبه ترسم الأخماس، والأعشار وفواتح السور، في مصاحف أهل المغرب. انتهى. قال "الإمام أبو عمرو الداني: وقد اختلف أبو جعفر وشيبة في ست آيات، عد منهن أبو جعفر آية، ولم يعدها شيبة، وعد شيبة خمساً، ولم يعدهن أبو جعفر وكان إسماعيل يأخذ فيهن بقول شيبة، وسيذكرن فيما بعد. أي في الفرش إن شاء الله تعالى. 2 - والمكي: يروى عن عبد الله بن كثير، وغيره من أهل مكة. ورواه عبد الله بن كثير عن مجاهد بن جبر، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن أبي بن كعب رضي الله عنه، موقوفا عليه. وأسند الداني (عن) الفضل بن شاذان قال: كتب إليّ ابن أبي بزة

بخطه وقال: أدُوه عني، عن عكرمة بن سليمان، عن شبل وإسماعيل، عن عبد الله بن كثير عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب رضي الله عنهم. 3 - وا لكوفي: عن حمزة بن حبيب الزيات، عن ابن أبي ليلى

عن (أبي) عبد الرحمن، عن عبد الله بن حبيب السلمي الكوفي المقرىء. وأبو عبد الرحمن بسند بعضه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه. موقوفاً عليه. قال الداني: وأهل الكوفة رووا العدد عن أهل المدينة، ولم يسم أهل الكوفة في ذلك أحداً بعينه يسندون إليه، وهوعندهم الأول. وقد خالفت رواية إسماعيل - يعني ابن جعفر المدني - عن أهل المدينة رواية أهل الكوفة عنهم في سبع وخمسين آية، يذكرن في مواضعهن من الأبواب والسور. وقال أبو عمرو: إن عدد أهل الكوفة رواه الكسائي، وسليم. عن حمزة. يعني بالسند الماضي.

قال: وذكره سليم عن سفيان، عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الرحمن، عن علي رضي الله عنه. وذكر عن نصير بن يوسف النحوي، أنه قال: سمعت العدد من الكسائي مراراً. 4 - والبصري: عن المعَلَّى بن عيسى عن عاصم بن أبي الصباح ميمون الجحْذري.

قال الداني: موقوفاً عليه، وبه كان يعد أيوب بن التوكل، ويعقوب ابن إسحاق الحضرمي، غير أن أيوب خالف عاصماً في آية واحدة، وهي قوله تعالى في سورة ص: (قال فالحقُ والحق أقولُ) عدها عاصم ولم يعدَّها أيوب. 5 - والشامي: عن عبد الله بن ذَكْوان، عن أيوب بن تميم، عن يحيى بن الحارث الذِّمَاري.

نفي السجع عن القرآن

قال أبو عمرو: موقوفاً عليه، وبعضهم يوقفه على عبد الله بن عامر اليحصبي القارىء. فصارت مذاهب العدد ستة. وموجب اختلافهم: التوقيف كالقراءة. قال أبو عمرو: وهذه الأعداد، وإن كانت موقوفة على هؤلاء الأئمة. فإنما لها - لا شك - مادة تتصل بها، وإن لم نعلمها، إذا كان كل واحد منهم قد لقي غير واحد من الصحابة، وشاهده وسمع منه، أو لقي مَنْ لقي الصحابة، مع أنهم لم يكونوا أهل رأي واختراع، بل كانوا أهل تمسك واتباع. وبالله التوفيق. وقال السخاوي ما معناه: ولو كان ذلك راجعاً إلى الرأي لعد الكوفيون ، الر" آية، كما عدوا " الم "، ولعدوا " المر" كما عدوا "المص"، ولعدوا "طس" كما عدوا "يس"، ولعدوا "كهيعص" آيتين، كما فعلوا في "حم عسق"، ولعد الشامي "إنما نحن مصلحون "، كما عد "غشاوة ولهم عذاب عظيم "، ومثل ذلك كثير، انتهى. نفي السجع عن القرآن ومن هنا تعلم يقيناً: أنه لا سجع في كتاب الله أصلاً، فإنه لا ريب

عند من له أدق مزاولة لذلك: أن طس، أوفق عند الساجعين لمبين، من يس للحكيم. فلو كان السجع مقصوداً، لما وقع الِإجماع من العادِّين على أن "طس" ليست بآية، وعد بعضهم "يس" آية. ولما وقعت فاصلة واحدة بين فواصل كثيرة، مخالفة لها في الوزن والروي. فلا ينبغي الاغترار بما يوجد في بعض كتب الأماثل من المتأخرين، كالبيضاوي والتفتازاني، من تخريج بعض الفواصل على السجع، لأنه خولف فيها النظم الذي ورد في سورة أخرى، مثل: "هارون وموسى". أو عَدَل عن عبارة إلى عبارة أخرى، لمثل ذلك، نحو قوله تعالى في سورة يس: (فما استطاعوا مُضياً ولا يَرجِعون) . قال البيضاوي: إن الأصل كان: ولا رجوعا، فغير لموافقة الفواصل.

وهذا أمر عظيم، لا تليق نسبته إلى جلال الله، فهي زلة عالم حقيقة. يشتد النفور عنها، والبعد منها. قال الِإمام فخر الدين الرازي - فيما نقله عنه أبو حيان في "النهر" - في قوله تعالى في سورة فاطر: (ولا الظل ولا الحَرُور) إنه لا يقال في شيء مِن القرآن: إنه قدم أو أخر لأجل السجع، لأن معجزة القرآن ليست في مجرد اللفظ، بل فيه وفي المعنى. يعني: ومتى حُوِّل اللفظُ لأجل السجع، عما كان يتم به المعنى بدون سجع، نقص المعنى، والله أعلم. وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه "إعجاز القرآن ": ذهب

أصحابنا - يعي الأشاعرة - كلهم إلى نفي السجع عن القرآن، وذكره أبو الحسن الأشعري (في غير موضع) من كتبه. وذهب كثير ممن نخالفهم إلى إثبات السجع في القرآن، وزعموا أن ذلك مما يبين به فضل الكلام، وأنه من الأجناس التي يقع بها التفاضل في البيان والفصاحة كالتجنيس، والالتفات، وما أشبه ذلك، من الوجوه التي تعرف بها الفصاحة. وأقوى ما يستدلون به عليه: اتفاق الكل على أن موسى أفضل من هارون، عليهما السلام، ولمكان السجع، قيل في موضع: هارون وموسى. ولما كانت الفواصل في مواضع أخر بالواو والنون، قيل: موسى وهارون. قالوا: وهذا يفارق أمر الشعر، لأنه لا يجوز أن يقع الخطاب إلا مقصوداً إليه، وإذا وقع غير مقصود إليه، كان دون القدر الذي نسميه شعراً، وأما ما في القرآن من السجع فهو كثير، لا يصح أن يتفق كله غير مقصود إليه. ويبنون الأمر في ذلك على تحديد معنى السجع. قال أهل اللغة: هو موالاة الكلام على وزن واحد.. قال ابن دريد: سجعت الحمامة، أي رددت صوتها، وأنشد:

طربْتَ فأبكتكَ الحمام السواجعُ تميل بها ضَحْواً غصون نوائع النوائع: المواثل، من قولهم: (جائع) نائع، أي متماثل ضعفاً. وهذا الذي يزعمونه غير صحيح، ولو كان القرآن سجعاً، لكان غير خارج عن أساليب كلامهم، ولو كان داخلاً فيها، لم يقع بذلك إعجاز. ولو جاز أن يقال: هو سجع معجز، لجاز لهم أن يقولوا: شعر معجز. وكيف والسجع مما كان يألفه الكهان من العرب، ونفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجة من نفي الشعر، لأن الكهانة تنافي النبوات، وليس كذلك الشعر. وقد روى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للذين حاوروه وكلموه في شأن الجنين: كيف فدى من لا شرب ولا أكل، ولا صاح فاستهل، أليس دمه قد يطل، فقال: أسجاعة كسجاعة الجاهلية. وفي بعضها: أسجاعه كسجع الكهان.

فرأى ذلك مذموماً. والذي يقدرونه أنه سجع، فهو وَهْمٌ، لأنه قد يكون الكلام على مثال السجع وإن لم يكن سجعاً، لأن ما يكون به الكلام سجعاً يختص ببعض الوجوه، دون بعض لأن السجع من الكلام، يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع. وليس كذلك ما اتفق مما هو في تقدير السجع من القرآن، لأن اللفظ يقع فيه تابعاً للمعنى. وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود منه وبين أن يكون المعنى منتظماً دون اللفظ. ومتى ارتبط المعنى بالسجع، كان إفادة السجع كإفادة غيره. ومتى انتظم المعنى بنفسه دون السجع، كان مستجلباً لتحسين الكلام. دون تصحيح المعنى. ثم قال: ويقال لهم: لو كان الذي في القرآن - على ما تقدرونه -. سجعاً لكان مذموماً مرذولاً، لأن السجع إذا تفاوتت أوزانه، واختلفت طرقه، كان قبيحاً من الكلام. وللسجع منهج مرتب محفوظ، وطريق مضبوط، متى أخل به المتكلم وقع الخلل في كلامه، ونسب إلى الخروج عن الفصاحة، كما أن الشاعر إن خرج عن الوزن المعهود كان مخطئاً، وكان شعره مرذولاً، وربما أخرجه عن كونه شعراً، وقد علمنا: أن بعض ما يدعونه (شعراً) سجعٌ متقارب الفواصل، متداني المقاطع وبعضها مما يمتد حتى يتضاعف طوله عليه، وترد الفاصلة على ذلك الوزن الأول بعد كلام كثير. وهذا في السجع غير مرض، ولا محمود.

وأما ما ذكروه من تقديم موسى على هارون في موضع، وتأخيره عنه في موضع لمكان السجع، ولتساوي مقاطع الكلام، فليس بصحيح، لأن الفائدة عندنا غير ما ذكروه. وهي: أن إعادة ذكر القصة الواحدة بألفاظ مختلفة تؤدي معنى واحداً، من الأمر الصعب، الذي تظهر فيه الفصاحة، وتبين فيه البلاغة. وأعيد كثير من القصص في مواضع مختلفة، على ترتيبات متفاوتة، ونبهوا بذلك على عجزهم، عن الإتيان بمثله مبتدأ ومكرراً. ولو كان فيهم تمكن من المعارضة، لقصدوا تلك القصة، فعبروا عنها بألفاظ لهم تؤدي تلك المعاني ونحوها، وجعلوها بإزاء ما جاء به، وتوصلوا بذلك إلى تكذيبه وإلى مساواته فيما جاء به، كيف وقد قال لهم: (فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين) . فعلى هذا يكون القصد بتقديم بعض الكلمات وتأخيرها، إظهار الِإعجاز على الطريقين جميعاً، دون السجع الذي توهموه. هذا ما قاله في سر التكرار، وتبعه عليه كل من رأينا كلامه في هذا. وقد بينت في كتابي "نظم الدرر" أن الأمر على غير هذا، وأن مقصد القرآن مما هو في العلو عن هذا الغرض بمراتب لا تنالها يد المتناول، ويقصر عن عليائها كل متطاول. وذلك أن كل سورة لها مقصد معين - كما سيوضحه هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى - تكون جميع جمل تلك السورة دليلاً على ذلك المقصد.

فلذلك يقتضي الحال - ولا بد - ما أتى عليه فيها نظم المقال، ومن هنا تغايرت الألفاظ في القصص، واختلفت النظوم، وجاء الِإيجاز تارة، والإطناب أخرى والتفصيل مرة، والإِجمال أخرى. فسورة طه لها نظر عظيم إلى الوزير، والِإرشاد إلى طلبه. ولذلك كانت سبب إسلام - عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وصرح فيها على لسان موسى عليه السلام بطلب الوزير بلفظه، فلذلك كانت العناية به أكثر، فقدم في الذكر تنبيهاً على ذلك. ولذلك قيل فيها: (إنا رسولَا ربِّك) بالتثنية. وفي الشعراء بالأفراد، لأنه لا عناية فيها بذلك. وقد بينت كل موضع ذكروه، بما أفاد أنه لا يجوز في مذاهب البلاغة. ووجوه البيان، أن يعبر عنه بذلك الأسلوب، وما أوجب القول بالتقديم والتأخير، والتحويل والتغيير، لأجل الفواصل، ألا ترى ما ذكره العلماء، أن نصف العلم هو: لا أدري. فصار كل من ورد عليه سؤال لا يعرف الجواب الحق فيه، قال برأيه، ما لم يتحقق مشيه على شواهد الكتاب والسنة، وأسرار اللغة. والذي لا يدع عندك لبساً في هذا: أن أبا حيان بعد أن نقل في سورة فاطر عن الرازي ما قدمته عنه، نسيه في أول الصافات على قرب العهد. وقال: "مارد" اسم فاعل، وفي النساء: "مريد" للمبالغة، وموافقة

الفواصل هناك. انتهى. والواقع: أن المعنى الذي قصد في كل من السورتين، لا يتم إلا بما عبر له فيها ولو قيل غيره لفسد. وموافقة كل منهما في موضعه للفواصل، تزيده حسناً، لا أنه يصح التعبير بالآخر، وما خص هذا إلا للفاصلة. وبيان ذلك في تفسيري فراجعه، واحرص عليه، فإنك لم تظفر بمثله. وإن أمعنت في مطالعته، بان لك سرُّه، والله الهادي. وسبب وقوع هؤلاء الأكابر في مثل هذا، أشار إليه الإِمام علم الدين السخاوي في "شرح الرائية"، عند مدح الشاطبي للباقلاني بكتابي الإِعجاز والانتصار، فقال: إنه لولا كتاب الانتصار، لخالطت شبه المبتدعة العقول. وتشكك الناس في الإِسلام واستأصلهم المبتدعة، وأكثر ضعفاء القراء وغيرهم اليوم ينطقون بتلك الشبه التي ألقاها المبتدعون ويعتقدونها، وإن كانوا لا يدرون ما تحتها من الغوائل، ولا يعلمون ما يلزمهم منها. انتهى. ولا يستبعد هذا، فإن الشبهة ربما كان المراد بها غامضاً، ولها ظاهر له نوع قبول، فيقولها بعض من لم يفهم معناها، غير قاصد شراً، فيأخذها بعض الأكابر، لما أعجبه من ظاهرها، فتشتهر عنه، كما وقع في سبب اعتقاد أن التوراة نزلت جملة، وفي أن المراد بـ "أنهم إليهم لا يرجعون) في سورة يس: الرجوع إلى الدنيا، ونحو ذلك كثير، والله أعلم.

ولم يحصر القاضي أبو بكر السجع بمعيار يضبطه، وزمام يربطه، بحيث يميزه عن غيره. وهو عندي: تكلف الإِتيان بالكلام على روي واحد، وقافية متزنة، من غير أن يكون موافقاً لشيء من أنحاء الشعر، وقل ما يكون ذلك. كما أن الشعر: تكلف الإتيان بالكلام على روي واحد، وقافية واحدة. مع التقييد بالوزن من بحر واحد. وهنا يضطر الشاعر والساجع - ولا بد - إلى اتباع المعنى اللفظ، فيصبحِ اللفظ على ذلك النوع الذي التزمه، لئلا يَعُدّه الناظمون والساجعون عاجزاَ وعن الاقتدار على صوغ الكلام قاصراً، فينتقص المعنى لهذا الالتزام، في كثير من المواضع غصباً عليه، فيصير أسير الألفاظ، وعبد الأوزان. هذا ما لا بد منه لكل شاعر، وإن تفاوت الناس فيه، وليس - قطعاً - كذلك القرآن وسيأتي لذلك مزيد تفصيل وبيان. ولهذا فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الكلام، بين الدخيل في ذلك والأصيل، الذي صارت له فيه ملكة صيرت قدرته عليه أشد من قدرة غيره. قال أهل المغازي - وذكره عنهم الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة - لما كانت عزوة الخندق، وعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخندق بنفسه الشريفة رأى المسلمون أنه إنما بطش معهم ليكون أجدَّ لهم، وأقوى لهم بإذن الله عز وجل فجعل الرجل يضحك من صاحبه إذا رأى منه فترة، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يغضب اليوم أحد من شيء ارتجز به، ما لم يكن قول كعب، أو

حسان، رضي الله عنهما، فإنهما يجدان من ذلك قولا كثيراً، أو نهاهما أن يقولا شيئاً يخفضان به أحداً. فالمعنى - من غير شك -: أنهما إذا قالا شيئاً، كان قولهما له ظاهراً في أنهما قصدا معناه، وأن غيرهما ليس كذلك، بل يكون الرَّوِي والقافية قد حكما عليه بمعنى لم يرده، على أن حسان رضي الله عنه - وهو أشعر الذين فضلهما النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشعر - قد اضطره الوزن إلى ما لم (يكن) يريده قطعاً. فإنه - قال في غزوة الغابة - وهي غزوة ذي قرد - وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمر على مَنْ سبق فيها سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه، ثم لحقهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان مما قيل فيها من الشعر قول حسان بن ثابت رضي الله عنه. لولا الذي لاقت ومسَّ نسورها. . . بجنوب ساية أمس في التقواد

للقينكم يحملن كل مدخج. . . حامي الحقيقة ماجد الأجداد ولسر أولاد اللقيطة أننا. . . سلم غداة فوارس المقداد قال: فلما قالها حسان رضي الله عنه، غضب عليه سعد بن زيد رضي الله عنه وحلف ألا يكلمه أبداً. قال: "انطلق إلى خيلي وفوارسي، فجعلها للمقداد. فاعتذر إليه حسان وقال: والله ما ذاك أردت، ولكن الروي وافق اسم المقداد وقال أبياتاً يرضى بها سعداً رضي الله عنه: إذا أردتم الأشَدَّ الجلْدَا. . . أو ذا غناء فعليكم سعدا سعد بن زيد لا يُهَدُ هدَّا فلم يقبل منه سعد، ولم يغن شيئاً، رضي الله عنهما وأرضاهما. ومثل ذلك كثير في الشعر جداً، يعلمه كل من زاول ذلك. وأما السجع: فقد روى البخاري في الطب وغيره من صحيحه. ومسلم، وأبو داود، والنَّسائي، وغيرهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنين يقتل في بطن أمه، بغرة: عبد، أو وليدة. فقال الذي قضى عليه: كيف أغرم ما لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل. فمثل ذلك بَطَل. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما هذا من إخوان الكهان " من أجل سجعه الذي سجع. وفي رواية: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: سجع كسجع الأعراب.

ذلك، والله أعلم: أنه لو كان نظره إلى المعنى وتصحيحه، لأغنى عن هذا السجع، أن يقول: كيف أغرم ما لا حياة له. ولو قصد السجع، وتهذيب المعنى، لأتى بما يدل على نفي الحياة التي جعلها مَحَطَّ أمره، فإن ما أتى به، لا يستلزم نفيها. ولو تقيد بالصحة، لاعتنى بنفي النطق عن نفي الاستهلال، فإنه أعم. وبنفي الأعم، ينتفي الأخص. فصح بهذا أنه دائر مع تحسين اللفظ، صح المعنى، أم لا، لئلا يعيبه أهل صناعة السجع. ولا ينطبع في عقل عاقل: أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - يذم السجع وهو يرتكبه في القرآن والسنة، ولو كان ذلك لأسرعوا للرد عليه، وتصويب الطعن إليه، ولو ظفروا منه بما يشبه ذلك، لأكثروا به التشنيع، ولملأوا الأرض من التوبيخ والتقريع، ولأغناهم ذلك عما كانوا يتعلقون به من الذم، الذي لا يشك في أنه كذب من النسبة إلى الشعر والسحر، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - أشرف همة، وأعلى مقداراً، من أن يذم شيئاً، وينحو نحوه، على ما هو معروف من أخلاقه،

ومشهور من شمائله وأعراقه، بل قد جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه السجع قسيماً للخبر. روى أصحاب فتوح البلاد في فتح مكران من بلدان فارس: أن الحكم بن عمرو لما فتحها، أرسل بالأخماس مع صحار العبدي، فلما قدم على عمر رضي الله عنه سأله عن مكران، وكان لا يأتيه أحد إلا سأله عن الوجه الذي يجيء منه، فقال له: يا أمير المؤمنين، أرض سهلها جبل، وماؤها وشل وتمرها دقل، وعدوها بطل وخيرها قليل، وشرها طويل، والكثير بها قليل، والقليل بها ضائع، وما وراءها شر منها، فقال: أسَجاع أنت أم مخبر؟ قال: لا والله. لا يغزوها جيش لي ما أطعت. فقد جعل الفاروق السجع قسيماً للخبر، ولم يَرُد عليه ذلك أحد ممن حضر فدل على أن التقيد به عيب لِإخلاله بالفائدة، أو بتمام الفائدة.

ولعله إنما جوز أن يكون مخبراً، لأنه انفك عن السجع في آخر كلامه. وكرر لفظ "قليل" فكان ما ظنه. لأنه لو أراد السجع، لأمكنه أن يقول: والكثير بها ذليل، والقليل بها ضائع كليل، وما وراءها شر منها يا قوم قيل. ولقد نفي الله سبحانه (وتعالى) عن هذا القرآن العظيم، تصويب النظر إلى السجع، كما نفي عنه قرض الشعر. فإنه قال تعالى: (وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون، ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون) . فكما أن قول الشاعر إتيانه بالكلام موزوناً بالقصد، فكذلك قول الكاهن إتيانه بالكلام مسجوعاً، والقرآن منزه عن هذا، كما هو منزه عن ذلك، وإن وقع فيه كل الأمْرَيْن، فغير مقصود إليه، ولا معول عليه، بل لكون المعنى انتظم به على أتم الوجوه، فأتى به لذلك، لا لأجل السجع، ثم يبين أنه غير مقصود بالانفكاك عنه في كثير من الأماكن، بقرينة ليس لها مجانس في اللفظ، لتمام المعاني المرادة عندها. فيعلم قطعاً: أن ذلك غير مقصود أصلًا، لأن مثل ذلك لا يرضى به أقل الساجعين، بل يراه عجزاً، وضيقاً عن تكميل المشاكلة ونقصاً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وإذا تاملت الفواصل في الإتيان بها تارة متناظرة - (تارة) بكثرة

وأخرى بقلة - وتارة منفكة عن التناظر بالكلية، بل يؤتى في كل آية بفاصلة لا توافق الأخرى، لا روياً، ولا وزناً، كالكافرون " علمت أن هذا المذاهب هو الصواب ولا سيما آخر سورة اقرأ. وإذا تبحرت في علم العدد، أتقنت الدليل على ذلك والمستند. فإياك أن تجنح إلى موافقة من قال بمراعاة السجع في موضع من آيات الكتاب فتكون قد أبعدت عن الصواب، ويتوب الله على من تاب. وهذا كله لا ينفي أن يكون في السجع والشعر ما هو حسن جداً وبليغ، وعليه ينطبق قوله - صلى الله عليه وسلم -، الذي رواه البخاري، وأبو داود، وابن ماجة عن أبي بن كعب رضي الله عنه. والبزار عن عائشة رضي الله عنها: إن من الشعر حكمة". وكذا ما رواه الدارقطني من وجه ضعيف، عن عاثشة رضي الله عنها. أنه ذُكر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشعرُ فقال: هو كلام فحسنه كحسنه وقبحه كقبيحه. ورواه الشافعي عن عروة (عنها) مرسلاً.

ورواه أبو يعلى عن عائشة (أيضاً) رضي الله عنها، ولفظه: "هو كلام فحسنه حسن، وقبيحه قبيح. وروى الحارث بن أبي أسامة، عن رجل من هذيل، عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن هذا الشعر جزل من كلام العرب، يعطي به السائل، ويكظم به الغيظ، وبه يتبلغ القوم في ناديهم. فصار في كل منهما مذمومٌ وممدوحٌ. فالمذموم: التكلف بالتقيد به، وجعل المعنى تابعاً للفظ. والممدوح: قبول الطبع له، وسهولته عليه، حتى يرمي (به) من غير قصد إليه ولا تعويل عليه، رمي العارف به، والمقتدر عليه، المطبوع فيه. وذلك إذا لم يتأت المعنى الأحسن، والمنحى الأبلغ الأتقن، إلا به، فيكون حينئذ المطبوع في ذلك متمكناً من نقد الشعر والسجع، بصيراً بتمييز قبيحه من حسنه. ومعنى "وما علمناه الشعر": وما علمناه بإنزال هذا القرآن الشعر. وما جعلناه قائلًا لشيء من أنحائه، قاصدا له. وما علمناه أن يتكلف استحضار القوافي، وبناء الكلام عليها، والقصد في صوغه إليها، بحيث تكون هي المقصودة بالذات. فالمنفى تعليمه: هو العلم الصناعي، وهو الحاصل من التمرن على العمل وهذا لا ينفي أن يكون الوزن في طبعه. ولو أريد نفيه لقيل: وما طبعناه عليه، أو نحو ذلك ما يؤدي معناه،

بدل: "وما علمناه "، فإن الوزن ليس مما يتكسب بالتعليم، بل هو غريزة يخلقها الله في طبع من يريد. وأدل دليل على ذلك قوله تعالى: (قل ما أسالكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين) ، فنفي ما يخص الشاعر من الاستجداء بشعره، ونفي التكلف في قرضه ثم أثبت ما يخص القرآن من الصفة التي فَاقَ وفارق فيها جميع الكلام، فقال: (إنْ هو إلا ذكرٌ للعالمين) . أي كلهم يشترك في أصل فهمه - مع أنه أعلى من جميع الكلام - الذكى منهم والغبي، والبليغ والعيى، وإن اختلفت فيه فهومهم، وتفاوتت في دقائقه علومهم. وأما الشعر والسجع، فإنما يفهمهما خواص العالمين، مع أنهما دون هذا القرآن، بما لا يجهله ذو لسان، وإن كان قاصراً في البيان. والدليل على ما قدمته: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتمثل بالشعر فتارة يكسره، وتارة يتركه على وزنه، وتارة يأتي بالكلام من عند نفسه فيقع موزونا وتارة - وهو الأغلب - لا يكون موزوناً، وتارة يأتي مسجوعاً، وتارة. - وهو الأغلب أيضاً - لا يكون كذلك، وما ذلك إلا لِإرادته الأمر على صحة المعاني التي يأمره الله (تعالى) بها في الكلام البليغ، من غير تعريج على قصد نظم ولا سجع. (روى الِإمام أبو محمد البغوي بسنده من طريق أبي إسحاق

الثعلبي، عن الحسن رحمه الله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتمثل بهذا البيت: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا فقال له أبو بكر رضي الله عنه: يا نبي الله، إنما قال الشاعر: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا فقال أبو بكر - أو عمر - رضي الله عنهما: أشهد أنك رسول الله. يقول الله عز وجل: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) . ورواه الدينوري في الجزء العاشر من "المجالسة" من وجه آخر، عن الحسن رحمه الله، وفيه: فجعل أبو بكر رضي الله عنه يقول: الشيب والإسلام، والنبي - صلى الله عليه وسلم - (يقول) : بالإسلام والشيب. فقال أبو بكر: أشهد أنك رسول الله حقاً، ما علمك الله الشعر وما ينبغي لك. وروى (البغوي) أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أنه قيل لها: (هل) كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمثل شيئاً من الشعر؟. قالت: (كان) يتمثل من شعر عبد الله بن رواحة. قالت: وربما قال:. ويأتيك بالأخبار من لم تزود. وقال معمر: بلغني أن عائشة رضي الله عنها سئلت: هل كان

النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمثل بشيء من الشعر؟. قالت: كان أبغض الحديث إليه. قالت: ولم يتمثل بشيء من الشعر، إلا ببيت أخي بني قيس طرفة: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا. . . ويأتيك بالأخبار من لم تزود فجعل يقول: ويأتيك من لم تزود بالأخبار. فقال أبو بكر رضي الله عنه: ليس هكذا يا رسول الله، فقال: إني لست بشاعر ولا ينبغي لي. وقال شيخنا حافظ عصره، أبو الفضل ابن حجر في تخريج أحاديث مسند الفردوس: أخرجه أبو يعلى عن عكرمة قال: سألت عائشة رضي الله عنها. وفي الباب عن ابن عباس رضي الله عنهما. وكذا أورد ابن الجوزي التمثل بهذا البيت بغير إسناد إلا أنه قال: ويأتيك من لم تزوده بالأخبار، فزاد الضمير. وللترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمثل بشعر ابن رواحة ويقول: ويأتيك بالأخبار من لم تزوده. قال: وفي الباب عن ابن عباس رضي الله عنهما، هذا حديث حسن صحيح، انتهى.

وروى مسدد عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استزاد خَبَراً، تمثل ببيت طرفة: ويأتيك بالأخبار من لم تزوده ْقال شيخنا الحافظ: شهاب الدين البوصيري: ورواه النسائي في "اليوم والليلة". ولأبي بكر بن أبي شيبة، وعبد بن حميد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمثل من الأشعار: ويأتيك بالأخبار من لم تزود هذا ما وقفت عليه من طرق هذا الخبر. وحقيقة ما كان يعبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا البيت: ويأتيك من لم تزوده بالأخبار بزيادة ضمير في "تزود"، أو بغير زيادة مع تقديمها على "بالأخبار". وأما من روى البيت كما هو، فذكر المتمثل به، ولم يذكر هيئة العبارة عنه، ومن قدم قوله: "بالأخبار"، وزاد ضميراً في تزود: مشى على جادة البيت، ظاناً أن المقصود مجرد كسره، وهو حاصل بزيادة الضمير، وخفي عليه المعنى الذي غيره النبي - صلى الله عليه وسلم - لأجله، كما سيأتي بيانه. فبهذا تترجح رواية من قدم "من لم تزود" على ما هو الأولى بالمسند إليه كما يعرف ذلك أهل النقد للأخبار، وأرباب المزاولة للآثار. وروى الشيخان: البخاري، ومسلم، والترمذي، وابن ماجة، عن أبي

هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أصدق كلمة قالها الشاعر: كلمة لبيد. ألا كل شيء ما خلا الله باطل ورواه اليونارتي في جزئه عنه فقال: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال على المنبر: إن أصدق كلمة تكلمت بها العرب، كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل وللشيخين وغيرهما: عن البراء رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينقل التراب يوم الخندق، حتى اغبر بطنه، ويقول: والله لولا أنت ما اهتدينا. . . ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا. . . وثبت الأقدام إن لاقينا إن الأولى قد بغو علينا. . . إذا أرادوا فتنة أَبَيْنَا

يرفع بها صوته: أبينا، أبينا. وروى عبد الله بن الِإمام أحمد في "زوائد المسند"، وأبو يعلى الموصلي. عن الأعشى المازني رضي الله عنه قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فانشدته: يا مالك الناس وديان العرب. . . إني لقيت ذربة من الذرب غدوتُ أبغيها الطعام في رجب. . . فخلفتني بنزاع وهَرَبْ أخلفت العهد ولَطَتْ بالذَّنَبِ. . . وهُنَ شَرُّ غالِبٌ لمن غَلَبْ قال: فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:

. . . . . .. وهن شر غالب لمن غلب. وذكر أصحاب السير، والبيهقي في دلائل النبوة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم غنائم حنين، وأكثر في المؤلفة قلوبهم، وأعطى عيينة بن حصن مائة من الإِبل، وأعطى الأقرع بن حابس مائة، وأعطى العباس بن مرداس رضي الله عنه دون المائة، فأنشد يقول: كانت نُهابا تلافيتها بِكَرِّى. . . على المُهْرِ في الأجْرُع وإيقاظى الحي أن يرقدوا. . . إذا هجع الناس لم أهجع فأصبح وفي رواية: أتجعل نُهْبِي ونُهْب العُبَيـ. . . دِ بين عيينةَ والأقرع فما كان حصن ولا حابسٌ. . . يفوقان مرداسَ في مَجْمع وقد كنتُ في الحرب ذا تُدْرَأ. . . فلم أُعْطَ شيئاً ولم أمنع وما كنتُ دون امرىء منهما. . . ومن تضع اليوم لا يُرفع فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أنت القائل: أصبح نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة؟. فقال أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) : بأبي وأمي أنت، لم يقل كذلك، ولا والله ما أنت بشاعر وما ينبغي لك، وما أنت براويه.

قال: فكيف؟. فأنشده أبو بكر رضي الله عنه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: سواءهما، ما يضرك بأيهما بدأت، بالأقرع أم عيينة؟. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اقطعوا عني لسانه، فأعطى حتى رضي. هذا ما اطلعت عليه مما تمثل به النبى - صلى الله عليه وسلم - من الشعر. وأما ما وقع من كلامه - صلى الله عليه وسلم - موزوناً: فروى الشيخان عن البراء رضي الله عنه في غزوة حنين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هرب عنه أصحابه - رضي الله عنهم - شرع يركض بغلته نحو هوازن ويقول: أنا النبي لا كذب. . . أنا ابن عبد المطلب وروى البخاري ومسلم أيضاً: والترمذي، والنَّسائي، من حديث جندب بن سفيان رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في بعض المشاهد، وقد دميت أصبعه. وفي رواية: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يمشي إذ أصابه حجر فعثر، فدميت أصبعه فقال: هل أنت إلا أصبع دميت. . . وفي سبيل الله ما لقيت

قال الزمخشري: ما هو إلا كلام من جنس كلامه الذي كان يرمي به على السليقة من غير صنعة فيه ولا تكلف، إلا أنه اتفق من غير قصد إلى ذلك، ولا التفات منه إليه إن جاء موزوناً، كما يتفق في كثير من إنشاءات الناسِ في خطبهم ورسائلهم ومحاوراتهم أشياء موزونة، ولا يسميها أحد شعرا، ولا يخطر ببال المتكلم ولا السامع أنه شعر، وإذا فتشت في كل كلام عن نحو ذلك، وجدت الواقع في أوزان البحور غير عزيز. انتهى. قلت: وأبين من ذلك في الحجة: أنه قد أخرج بعض الناس البحور الستة عشر من القرآن العظيم، وما اعترض أحد من العرب عليه - صلى الله عليه وسلم - (بشيء من ذلك) ، مع أنهم كانوا لا يجدون مساعاً لشيء يعترضون به، إلا بادروا إليه. فلولا أنه مشهور عند صغيرهم وكبيرهم: أن الشعر لا يكون إلا مع القصد لأوسعوا القول في ذلك، وألزموا به التناقض. والذي دعا إلى الإتيان به موزوناً: إنما هو صحة المعنى، وكمال انتظامه به دون غيره، فإن "لا" النافية لكل كذب في "لا كذب "، لا يقوم غيرها مقامها. وشهرته - صلى الله عليه وسلم - بعبد المطلب أعظم من شهرته بغيره مع أنه أقرب أجداده، فنظره - صلى الله عليه وسلم - مقصور على المعنى.

وأما في الأصبع: فكذلك لا عبارة غير ما قال تؤدي ذلك المعنى، فإن تقديم الجار المفيد للاختصاص، في أحق مواضعه وأتمها. ولم ينقل أحد أنه - صلى الله عليه وسلم - أشبع كسرة التاء حتى تولد منها ياء ويكفي في صرفه عن الشعر، عدم الِإشباع. وأما الأبيات الماضية: فتقديم الأقرع على عيينة أولى، لأن عيينة ارتد في أيام الردة، بل أقر أنه لم يكن أسلم قبل ذلك. وأما الأقرع فكان إسلامه حسناً، ولم يرتد بعد ذلك، ولكنه كان شريفاً، فكان التأليف لغيره بواسطته. ولذلك اعتذر - صلى الله عليه وسلم - بقوله: لا يضرك بأيهما بدأت.

وأما شعر الأعشى: فلا يتأتى المعنى على حال السداد والكمال، إلا بقوله: "وهن شر غالب لمن غلب"، فأتى به كما هو من غير تغيير. وكذا شعر عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: والله لولا أنت ما اهتدينا. ولما كانت "الألى" - بضم الهمزة بمعنى الجماعة - يجوز فيها المد والقصر وكان المد لا يلتزم هنا إلا لأجل الوزن، وكان انتظام المعنى به مقصوراً. كانتظامه به ممدودا، قصره - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا نظر له إلى غير تصحيح المعنى بالألفاظ الكاملة. فإن قيل: المد ربما أفهم تعظيماً لم يفده القصر؟. قيل: وهذا موجب الإتيان به مقصوراً، لأن المقام لا يقتضي تعظيم الظالمين. وأما قول لبيد: فلا يتأتى المعنى - مع أنه في غاية الصحة - إلا به، فلم يغيره. وأما قول طرفة: فلما كان قد يلزمه الكذب من تقديم الجار، في قوله: "بالأخبار" نطق به - صلى الله عليه وسلم - على أتم أحواله، بأن قدم "من لم تزود" الذي هو عمدة الكلام، سواء كان بضمير، أم لا. وأما "كفى الشيب والِإسلام ": فإنه لا يليق بذلك السياق الذي للنهى عن المساوىء والوعظ، أن يُقدم فيه شيء على الإِسلام، الذي هو أعظم واعظ، وأقوى زاجر، وتأكيد المعنى بالجار أحسن، فأتى به كذلك. فتأمل ما يرد عليك من مثل ذلك حق التأمل، وأعطه ما يليق به.

ثم إن وراء ذلك: أن القوافي المطلقة الموصولة بحروف العلة، لا يُعَد البيتُ شعراً إلا بوصلها، وإلا نقص الوزن، ومتى نقص، لم يعد شعرا. ولا رواية مصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم وصل شيئاً من ذلك. فالظاهر: أنه سكَّن اللام من "باطل " من شعر لبيد للوقف، كما تقدم في دميت، وكذا كل ما جاء من مثله. وأما ما "حرف " الوصل فيه من (نفس) الكلمة فيأتي به لكون الكلمة لا تصح إلا به لا لكونه وصلاً. وأما من كان يقول له - صلى الله عليه وسلم -: "ليس هكذا قال الشاعر"، من الصحابة رضي الله عنهم، فكانوا يعلمون أن الشاعر إذا قدم شيئاً، أو أخره، لم يفعل ذلك لقصد المعنى الذي أدى إليه التقديم والتأخير، وإنما هو للاضطرار، وأن ذلك لازم في صنعة الشعر، لا يحلو إلا به، فيلزم الذي يقصد الشعر أن يأتي به ليصح النظم معه، وكذا من يقصد روايته عن قائله، لتصح له الرواية. وأما النبي - صلى الله عليه وسلم -: فلما لم يكن للوزن عنده اعتبار، لم يلتفت إليه، ورأى: أن التقديم والتأخير مِخُل بالمعنى فنطق به - صلى الله عليه وسلم - على الصواب، ولم يلتفت بوجه إلى الوزن، ولا نحا أصلًا نحوه، لأنه ليس للشعر عنده حرمة من حيث كونه شعرا، فليس هو بشاعر، ولا راوية للشعر، حتى يقصد الإتيان بالبيت كما هو، لئلا ينكسر، بل قصده المعنى ليس غير، لأنه إذا أدار الأمر بين أن يأتي بمعنى معيب في لفظ مزوَّق، فهو في الظاهر حلو، وفي الحقيقة معيب كما هو حال كل شيء للشيطان فيه حظ. وأن يأتي بالمعنى خالصاً ممدّحاً في لفظ

جليل سالم، وجب أن يأتي به سالماً، لأنه لا حَظَّ للتزويق منه - صلى الله عليه وسلم - في قول، ولا في فعل، ولا حال أصلاً، ولم يكن أحد ممن كان يحاوره في ذلك يساويه في البلاغة حتى يذوق هذا الذوق من قبل أن ينبهه - صلى الله عليه وسلم -. والله الهادي. وأعلم أن هذا القول، وهو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عالم بأصل الغريزة بانحاء الشعر، معرض عن استعمال ذلك، لما فيه من المعايب، غير معول على شيء منه، لما يوقع فيه من النقائص ما لا بد من اعتقاده، ولأدى الحال إلى أمر فظيع. قال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب "الإعجاز، ما معناه: "إن من كان ناقصاً في نوع من أنواع البلاغة في شيء من وجوه الخطاب، لم تقم عليه الحجة بالقرآن حتى يعلم عجزه الكامل في ذلك النوع، ثم قال: فأما من كان متناهياً في معرفة وجوه الخطاب، وطرق البلاغة، والفنون التي يمكن فيها إظهار الفصاحة، فهو متى سمع القرآن، عرف إعجازه. وإن لم نقل ذلك، أدى الحال إلى أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعرف إعجاز القرآن حين أوحى إليه، حتى سَبَرَ الحالَ، بعجز أهل اللسان عنه، وهذا خطأ من القول. فصح من هذا الوجه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أوحى إليه القرآن عرف كونه معجزا، وعرف بأن قيل له: إنه دلالة وعلم على نبوتك. إنه كذلك من قبل أن يقرأه على غيره، أو يتحدى إليه سواه. ولذلك قلنا: إن المتناهى في الفصاحة، والعلم بالأساليب التي يقع فيها التفاصح متى سمع القرآن، عرف أنه معجز، لأنه يعرف من حال

نفسه: أنه لا يقدر عليه، ويعرف من حال غيره مثل ما يعرف من حال نفسه، فيعلم أن عجز غيره كعجزه هو، وإن كان يحتاج بعد هذا إلى استدلال آخر على أنه علم على نبوة، ودلالة على رسالة، بأن يقال له: إن هذا آية النبي، وأنها ظهرت عليه، وادَّعاها معجزة له، وبرهاناً على صدقة. انتهى. ولا يُظَنُ أني لم أسبق بالقول بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عالم بالوزن، كما أنه قادر على السجع، غير أنه لا يصوِّب إلى شيء منهما همته الشريفة، لا يجر إليه التقيد بذلك من التكلف والنقص اللذين برأه الله منهما، وأبعده عنهما. فقد قال قاضي الشافعية بمصر: صدر الدين السلمَي المناوي الشافعي في كتابه "تخريج أحاديث المصابيح ": وقد ذهب جمع من العلماء إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يُحْسِنُ الشعر - وهو الأصح - حتى قيل: إنه لم ينشد بيتاً تاماً قط، ألا ترى أنه حين ذكر بيت طرفة قال: ويأتيك من لم تزوده بالأخبار؟ وذهب قوم إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحسن الشعر، ولكن لا يقوله وتأولوا قوله تعالى: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) إنه رد على المشركين في قولهم: (بل هو شاعر) ومن ذكر بيتاً واحداً، لا يلزمه هذا الاسم. انتهى.

عدد آيات الفاتحة

فإن كنت ممن يدور مع البرهان، فقد ذكرت لك من ذلك ما فيه مقنع، وإن كنت مقيداً بالسلف، فهذا كلام بعضهم، وإن خالفه غيره. وقوله: إنَّ الأول أصح، منظور فيه. والأصح - بل الصواب -: هذا الثاني، لما ذكرت من الدلائل، وأقمت من الحجج. هذا تحرير القول إجمالاً في نفي السجع عن القرآن، وإن أردت التفصيل، فانظر كل موضع ادعى فيه كل مدع شيئاً من ذلك من كتابي: "نظم الدرر في تناسب الآي والسور" تجد فيه - بحمد الله - ما يفكك من تلك العهدة، ويخلص مما لزم من الورطة، وإنه ما سيق على ذلك النظم، إلا لحال دعا إليه، لا يبلغ الكلام ذروة البلاغة إلا به، فهو جار على ما اقتضاه من الحال، لا على التفنن في المقال. والله الهادي من الضلال، الموفق لمن اختاره إلى أشرف الأقوال والأعمال. عدد آيات الفاتحة إذا تقرر هذا، فعدد آي الفاتحة: وإن وقع الاتفاق على إجماله، فقد حصل الاختلاف في تفصيله. عد الكوفي والمكي " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، وأسقطا "أنعمت عليهم "، وعكس المدنيان، والبصري والشامي. هكذا حكي الِإجماع - على أنها سبع - المصنِّفون في العدد.

وقال الِإمام نجم الدين أبو حفص عمر النسفي في تفسيره "التيسير: هي ثماني آيات في قول الحسن البصري، وست في قول الحسين الجعفي. وسبع في قول الجمهور. فالحسن عد البسملة و "أنعمت عليهم " آيتين، وتركهما الجعفي. وحكى الأصفهاني في تفسيره: أن عمر بن عبيد عدها أيضاً ثمانية. لأنه جعل (إياك نعبد) آية. قال: وهو شاذ، وكذا القول بأنها ست. رويها - أي الحرف الذي هو نهاية فواصلها -: حرفان، يجمعهما: من. وفيها شبه الفاصلة: (إياك نعبد) ، قاله الداني. و (صراط الذين) قاله الجعبري. وروى الداني بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: هي - أي البسملة - آية من كتاب الله، ثم يقول أبو هريرة: عُدُّوا إن شئتم فاتحة الكتاب، يعني: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

مقصود سورة الفاتحة

قال أبو عمرو: وعدها آية في الحمد من أئمة الأمصار، أهل مكة. وأهل الكوفة، وكل من رأي قراءتها في صلاة الفرض من الصحابة رضي الله عنهم والتابعِين ومن بعدهم من الفقهاء، فهي عنده آية. مقصود سورة الفاتحة ومقصودها: مراقبة العباد لربهم. فإن التزام اسمه تعالى وحده - كما دل عليه تقديم الجار - في كل حركة وسكون داع إلى ذلك، وعلى ذلك دلت أسماؤها. وهكذا اسم كل سورة مترجم عن مقصودها، لأن اسم كل شيء تلحظ المناسبة بينه وبين مسماه، عنوانه الدال بالِإجمال على تفصيل ما فيه. وذلك هو الذي أنبأ به آدم عليه السلام، عند العرض على الملائكة عليهم السلام ومقصود كل سورة هاد إلى تناسبها. فهذه السورة اسمها - مع الفاتحة - أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني والأساس، والمثاني، والكنز، والشافية، والكافية، والواقية، والشفاء، والرقْيَة والحمد، والشكر، والدعاء، والصلاة. فمدار هذه الأسماء - كما ترى - على أمر خفي، كاف لكل مراد، وذلك هو المراقبة، وكل شيء لا يفتتح بها، لا اعتداد به.

وهي أم كل خير، وأساس كل معروف، ولا يعتد بها إلا إذا ثُنِّيت. فكانت دائمة التكرار، وهي كنز لكل مُنى، شافية لكل داء، كافية لكل مُهِمٍّ، وافية بكل مرام واقية من كل سوء، شافية من كل سقام،. رقية لكل مسلم، وهي إثبات الحمد الذي هو الإِحاطة بصفات الكمال، والشكر الذي هو تعظيم المنعم، وهي عين الدعاء فإنه التوجه إلى المدعو، والمراقبة أعظم توجه، وأعظم مجامعها الصلاة. وعلى قدر المقصود من كل سورة، تكون عظمتها، ويعرف ذلك مما ورد في فضائلها ويؤخذ من ذلك أسماؤها، ويدل على فضلها كثرتها. فلا سورة في القرآن أعظم من الفاتحة، لأنه لا مقصود أعظم من مقصودها. وهي جامعة لجميع معاني القرآن، ولا يلزم من ذلك اتحاد مقصودها مع مقصوده بالذات، وإن توافقا في المآل، فإنه فرق بين الشيء وبين ما جمع ذلك الشيء. فمقصود القرآن، تعريف الخلق بالمَلِكِ، وبما يرضيه. ومقصود الفاتحة: غاية ذلك، لكونها غاية له، وذلك هو المراقبة المذكورة، المستفادة من التزام ذكره تعالى في كل حركة وسكون، لاعتقاد أنه لا يكون شيء إلا به. وعلى جلالة هذا المقصد، جاءت فضائلها.

فضائل القرآن

فضائل القرآن ولكونها جامعة، ناسب أن يذكر فضائل القرآن الِإجمالية أولها، ويذكر اهتمام الصحابة بترتيبة وجمعه، وتهذيبه، فإن ذلك من فضائله. وليعلم أني لا أذكر (من ذلك) إن شاء الله في الفضائل، إلا ما صح أو حسن، أو جاز ذكره إن كان ضعيفاً، فلم ينزل إلى درجة الموضوع. ولم أذكر شيئاً من الحديث الموضوع على أبي وابن عباس، رضي الله عنهم، في فضائل كل السور: سورة، سورة، كما ذكره الواحدي والزمخشري، ومن تبعهما، لأن الموضوع لا يحل ذكره، إلا على سبيل القدح فيه. والله الموفق.

كيفية نزول الوحي

كيفية نزول الوحي روى البخاري في بدء الوحي، ومسلم في فضائل النبي - صلى الله عليه وسلم - والترمذي في المناقب، والنَّسائي في الصلاة، والبيهقي في الأسماء والصفات "، عن عائشة رضي الله عنها، أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: كيف يأتيك الوحي؟ ، قال: أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليَّ، فينفصم عني، وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني، فأعي ما يقول، قالت عائشة رضي الله عنها: لقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وأن جبينه ليتفصدُ عرقاً.

وسيأتي في سورة القيامة حديث ابن عباس رضي الله عنهما في شدة الوحي. والحكمة في جعل صوت الوحي كالصلصلة - والله أعلم - ما بين صاحبي الصوتين: الوحي، والحديد، من الشّبه في البأس الشديد والمنافع والثقل، والشدة والصلابة، والحدة والصفاء، والنفع والِإبانة، والقطع والتأثير، دون التأثر، وغير ذلك مما يكشفه التدبر، والتأمل، والتفكر، مع ما فيه من تقريب إسماع كلام الله تعالى من غير حرف، بل ولا صوت. وكذلك جاء في الحديث الآخر، الذي رواه البخاري، وأبو داود، عن أبب هريرة، ومسلم عن ابن عباس، عن رجال من الصحابة رضي الله

عنهم، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا قضى الله الأمر في السماء، سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا. ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل الخلق، ظهر له في وقع الحديد بعضُه على بعض فإنه أقوى من الوقع على الحجر. ولما كان هذا الصوت للوحي، وكان الموحي واحداً لا شريك له، شرع توحيد وحيه أيضاً، بهذا المظهر، تشريفاً له، ولئلا يلبس نوع لَبْس، ولو

نزول الكتب السماوية في رمضان

على وجه بعيد فنهى عن الجرس، ولو كان مزمار الشيطان، لتعرضه لإلباس الوحي، وتقرب منه الملائكة غيرة على هذا المقام العالي (المرام) ، والواجب الإكرام والإعظام، وجعل ما يخطفه الجنى من الوحي كقرقرة الدجاجة، التي هي من أضعف الحيوان، وهو من أضعف الأصوات وأسمجها. والله الموفق. نزول الكتب السماوية في رمضان وروى الإمام أحمد في المسند، وأبو عبيد في الفضائل، والبيهقي في الشعب والأسماء والصفات، وأبو القاسم الأصفهاني في الترغيب، والثعلبي في التفسير عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أنزلت صحف إبراهيم عليه السلام في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان وأنزل الزبور لثماني عشرة خلت من شهر رمضان (1) ، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان. ولفظ أبي عبيد: أنزلت صحف إبراهيم عليه السلام أول ليلة من شهر رمضان ونزلت التوراة على موسى عليه السلام في ست من شهر رمضان. ونزل الزبور على داود عليه السلام في اثنتي عشرة من شهر رمضان، ونزل الإنجيل على عيسى عليه السلام في ثماني عشرة من شهر رمضان، وأنزل الله تبارك وتعالى الفرقان على محمد - صلى الله عليه وسلم - في أربع وعشرين من شهر رمضان. وأخرجه أبو يعلى الوصلي في الجزء الثاني عشر من مسنده، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أنزل الله تعالى صحف إبراهيم عليه السلام في أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراة على موسى عليه السلام.

_ (1) قوله: "وأنزل الزبور لثماني عشرة خلت من شهر رمضان "، غير موجود في متن الحديث في المسند.

لست خلون من رمضان وأنزل الزبور على داود عليه السلام في إحدى عشرة ليلة خلت من رمضان، وأنزل القرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم - في أربع وعشرين خلت من رمضان. هكذا رواه موقوفاً، ومثله لا يقال بالرأي. قال الِإمام أبو شامة في كتابه "المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز": ووقع في تفسير الماوردي وغيره: أنزل الزبور لاثنتى عشرة والِإنجيل لثمان عشرة. وكذلك هو في كتاب أبي عبيد. وفي بعض التفاسير عكس هكذا، الإنجيل لاثنتي عشرة والزبور لثماني عشرة. واتفقوا على أن صحف إبراهيم عليه السلام لأول ليلة، والتوراة لست مضين والقرآن لأربع وعشرين خلت.

قال أبو عبد الله الحليمي: يريد ليلة خمس وعشرين. وفي (كتاب) الأسماء والصفات للبيهقي: عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه سأله عطية بن الأسود فقال: قد وقع في قلبي الشك في قول الله تعالى: (شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن) . وقوله: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) ، وقد أنزل في شوال، وذي القعدة، وذي الحجة، يعني: وغير ذلك من الأشهر؟. فقال ابن عباس: إنه أنزل في رمضان، وفي ليلة القدر، وفي ليلة مباركة، جملة واحدة، ثم أنزل بعد ذلك على مواقع النجوم، رسلا في الشهور والأيام. قال البيهقي في معنى قوله: "أنزل القرآن لأربع وعشرين ": إنما أراد - والله أعلم - نزول المَلَك بالقرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا. وقال في معنى قوله: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) ، يريد - والله أعلمِ - إنا أسمعناه الملك، وأفهمناه إياه، وأنزلناه بما سمع، فيكون الملك متنقلَا به من علو إلى سفل.

نزول القرآن منجما

نزول القرآن منجماً ولأبي عبيد في الفضائل، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك نجوماً إلى النبي - سع في عشرين سنة، وقرأ: (ولا يأتونك بمَثَل إلا جئناك بالحق وأحسنَ تفسيراً) ، و (وقرآنا فَرَقْنَاه لتقرأه على الناس على مُكْثٍ ونرلناه تنزيلاً) . قال أبو شامة: أخرجه الحاكم أبو عبد الله في كتاب "المستدرك " وقال: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وأخرج أبو القاسم الأصفهاني في الترغيب عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزل القرآن في النصف من (شهر رمضان إلى سماء الدنيا. فجعل في بيت العزة ثم أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عشرين سنة، جواب كلام الناس.

وللحاكم وقال: صحيح على شرطهما، والبيهقي في "الأسماء والصفات عنه أيضاً، والطبراني في الكبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القَدْر) قال: أنزل القرآن جملة واحدة قي ليلة القدر إلى سماء الدنيا وكان بمواقع النجوم، وكان ينزل على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بعضه في إثر بعض قال: "وقال الذين كفروا لولا نُزِّل عليه القرآن جملةً واحدةً كذلك لنُثَبًت به فؤادك ورتلْناه ترتيلاً".

وأسند البيهقي في الدلائل والشعب، والواحدي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم فرق في السنين، وتلا الآية: (فلا أقسم بمواقع النجوم) قال: نزل متفرقا. قال أبو شامة: هو من قولهم: نَجَّمِ عليه الدية، أي قطعها، فلما قطع الله سبحانه وتعالى القرآن، وأنزله متفرقا، قيل لتقاربه: نجوم، ومواقعها: مساقطها وهي أوقات نزولها. وروى أبو العباس أحمد بن علي المَوْهبي بسند حسن إن شاء الله، عن عمر رضيِ الله عنه، أنه قال: تَعَلَّموا القرآن خمساً خمساً، فإن جبريل نزل به خمسا خمسا. وفي الطبراني الكبير، وفي كتاب المستدرك، وقال: صحيح الِإسناد ولم يخرجاه والأسماء والصفات للبيهقي عن الحاكم، عن ابن عباس - أيضاً - رضي الله عنهما قال: فصِل القرآن من الذكر) ، فوضعِ في بيت العزة في السماء الدنيا، فجعل جبريل يُنَزَله على النبي - صلى الله عليه وسلم - يرتله ترتيلا. وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في كتاب "ثواب القرآن" عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) قال:

فضل كلام الله على سائر الكلام

دفع إلى جبريل في ليلة القدر جملة، فوضع في بيت العزة، ثم جعل ينزل تنزيلًا. وروى البيهقي في كتاب "الأسماء والصفات " من طريق أبي داود، عن جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرض نفسه على الناس بالموقف فقال: ألا رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجلّ. فضل كلام الله على سائر الكلام وروى الإِمام أحمد في المسند عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا قعوداً نكتب ما نسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخرج علينا فقال: ما هذا الذي تكتبون؟ ، فقلنا: ما نسمع منك. فقال: أَكِتَاب مع كتاب الله؟. امحضوا كتاب الله وأخلصوه، قال: فجمعنا ما كتبناه في صعيد واحد ثم أحرقناه بالنار، فقلنا: أنتحدث عنك؟ قال: نعم. تحدثوا عني ولا حرج. ومن كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار، قال: قلنا: يا رسول الله، أنتحدث

عن بني إسرائيل؟ *، قال: نعم فحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، فإنكم لا تَحَدِّثُون عنهم بشيء إلا وقد كان فيهم أعجب منه. وروى الشيخان والترمذي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول ْالله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما من الأنيياء (نبي) إلا أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه لله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة. وروى مسلم في صفة النار، والنَّسائي في "فضائل القرآن "، عن عياض

بن حمار المجاشعي رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوماً في خطبته: ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نَحَلْتُه عبداً حلالٌ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً وأن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابا، لا يغسله الماء، تقرأه نائما ويقظان.

وروى الشيخان، والترمذي، والنَّسائي، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي في أنه قال: لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل، وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار. وللطبراني والبيهقي في كتابا الزهد"، عن معاذ رضي الله عنه قال: أخذ بيدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمشى ميلاً، ثم قال: أوصيك بتقوى الله وصدق الحديث، ووفاء العهد، وأداء الأمانة، وترك الخيانة، ورحمة اليتيم وحفظ الجار، وكظم الغيظ، ولين الكلام، وبذل السلام، ولزوم الإمام، والتفقه في القرآن، وحب الآخرة، والجزع من الحساب، وقصر الأملِ، وحسن العمل، وأنهاك أن تشتم مسلماً، أو تصدق كاذباً، أو تكذِّب صادقا، أو تعصي إماماً عادلَاَ، أو أن تفسد في الأرض، يا معاذ، أذكر الله عند كل شجر وحجر، وأحدث لكل ذنب توبة السر بالسر، والعلانية بالعلانية. وروي الترمذي: والدارمي، عن الحارث الأعور قال: مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث، فدخلت على عليٍّ رضي الله عنه فأخبرته فقال: أو قد فعلوها؟. قلت نعم. قال: أما إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ألا إنها ستكون فتنة، قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتابُ الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط

المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبة وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا "إنا سمعنا قرآنا عجباً"، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم. ورواه الِإمام أحمد، والدارمي، وأبو يعلى بلفظ: أن علياً رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أتاني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن أمتك مختلفة بعدك، فقلت: فأين المخرج يا جبريل؟ ، قال: كتاب الله، به يقصم الله كل جبار، من اعتصم به نجا، ومن تركه هلك - مرتين - قول فصل. الحديث. ولفظ الدارمي: الكتاب العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، من ابتغى الهدى في غيره أضله الله. ومن ولى هذا الأمر من جبار فحكم بغيره قصمه الله، هو الذكر الحكيم. والنور المبين. الحديث. ورواه الطبراني بسند - قال الهيثمي: فيه عمرو بن واقد، وهو

متروك - عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً الفتن فعظمها وشددها، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: فما المخرج منها؟ قال: كتاب الله. الحديث جميعه. وروى أبو عبيد في الفضائل، والترمذي في الأمثال من جامعة وقال: حسن غريب والنَّسائي في التفسير، عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ضرب الله مثلًا صراطاً مستقيماً، وعلى جنبي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى رأس الصراط داع يقول: ادخلوا الصراط جميعاً ولا تعوجوا، وداع يقول من فوق الصراط - قال الترمذي: والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم - فإذا أحد فتح شيئاً من تلك الأبواب، قال: ويلك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، فإن الصراط: الِإسلام والستور حدود الله - قال: الترمذي: فلا يقع أحد في حدود الله حتى يكشف الستر - والأبواب المفتحة: محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط، القرآن والذي من فوقه: واعظ الله في قلب كل مسلم. وسيأتي في سورة الأنعام عن ابن مسعود رضي الله عنه، وعن العرباض رضي الله عنه. وروى الطبراني في الصغير - من وجه ضعيف - عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من أصبح حزيناً على الدنيا، أصح ساخطاً على ربه، ومن أصبح يشكو مصيبة نزلت به، فإنما يشكو الله تعالى، ومن تضعضع لغني لينال مما في يده، أسخط الله عز وجل، ومن أعطى القرآن فدخل النار فأبعده الله.

ولمسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال سول الله - صلى الله عليه وسلم -: الطهور شطر الِإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن - أو تملأ - ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها. وقال ابن هشام في السيرة في أوائل الهجرة، قال ابن إسحاق: ثم خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة أخرى، فقال: إن الحمد لله، أحمده وأستعينه نعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إن أحسن الحديث كتاب الله (تبارك وتعالى) . قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإِسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسنِ الحديث وأبلغه، أحبوا ما (أحب الله) ، أحبوا الله من كل قلوبكم. ولا تَمَلُّوا كلام الله وذكره ولا تقسُ عنه قلوبكم، فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي، فقد سماه الله خيرته من الأعمال، ومصطفاه من العباد. والصالح من الحديث، ومن كل ما أوتي الناس الحلال والحرام، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، واتقوه حق تقاته، وأصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحايُّوا بروح الله بينكم، إن الله يغضب أن يُنكث عهده والسلام عليكم ورحمة الله.

وقال الحافظ زين الدين: عبد الرحمن بن رجب في كتاب "الاستغناء بالقرآن ": وخرج الطبراني في الطولات بإسناد ضعيف، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب للعلاء بن الحضرمي حين بعثه إلى البحرين عهداً، وذكر فيه: كتاب الله، فيه تبيان لما كان قبلكم، وما هو كائن بعدكم، ليكون حاجزاً للناس، حجز الله بعضهم عن بعض، وهو كتاب الله، مهيمن على الكتب، مصدق لما فيها من التوراة والإنجيل والزبور، ويخبركم الله فيه بما كان قبلكم مما فاتكم دركه في آبائكم الأولين، الذين أتتهم رسل الله وأنبياؤه، كيف كان جوابهم لرسله، وكيف كان تصديقهم بآيات الله وكيف كان تكذيبهم بآيات الله، فأخبركم الله في كتابه هذا شأنهم وأعمالهم، وأعمال من هلك منهم بذنبه، لتجتنبوا مثل ذلك أن تعملوا به، لكي لا يحل عليكم من سخطه ونقمته، مثل الذي حل عليهم من سوء أعمالهم، وتهاونهم بأمر الله، وأخبركم في كتابه هذا بأخبار من نجا ممن كان قبلكم، لكي تعملوا مثل أعمالهم، فكتب لكم في كتابه هذا تبيان ذلك كله، رحمة منه لكم، وشفقة من ربكم عليكم، وهو هدى الله من الضلالة، وتبيان من العمى، وإقالة من العثرة، ونجاة من الفتنة، ونور من الظلمة، وشفاء من الأحداث، وعصمة من الهلكة، ورشد من الغواية، وبيان ما بين الدنيا والأخرة، فيه كمال دينكم. فذكره حتى قال: من عمل بما فيه نجا، ومن اتبع ما فيه اهتدى، ومن خاصم به فلح، ومن قاتل به نصر، ومن تركه ضل، حتى يراجعه، تعلموا ما فيه، وأسمعوه آذانكم، وأودعوه أجوافكم، واستخلصوه قلوبكم، فإنه نور للأبصار، وربيع للقلوب، وشفاء لما في الصدور. وروى أحمد، والترمذي، والنَّسائي، عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ثلاث يحبهم الله، حتى قال: وقوم ساروا ليلتهم، حتى إذا

كان النوم أحب إليهم مما يعدل به، فوضعوا رؤوسهم، فقام أحدهم يتملقني ويتلوا آياتي. وللبيهقي عن أبي سلمة، عن عبد الرحمن بن عوف، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب بعد ما قدم المدينة، فقال في خطبته: إن أحسن الحديث كتاب الله، أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الِإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن الحديث وأبلغه، أحبوا من أحب الله، وأحبو الله من كل قلوبكم. وقال الِإمام الغزالي في كتاب "فضل القرآن من الإحياء": وقال أحمد ابن حنبل: رأيت الله عز وجل في المنام، فقلت: يا رب ما أفضل ما

يتقرب به المتقربون إليك؟ ، قال: كلامي يا أحمد، قال: قلت: يا رب بفهم، أم بغير فهم؟ ، قال: بفهم وبغير فهم. وسيأتي في الأعراف ويس ما يتصل بهذا عن حمزة الزيات. وللإمام أحمد - وهذا لفظه - وأبي داود، وابن ماجه، وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم وصححه - وقال الدارقطني: إسناده صالح، وعلق البخاري بعضه في صحيحه - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة (من نجد) فغشينا داراً من دور المشركين، فأصبنا امرأة رجل منهم، ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعاً، وجاء صاحبها وكان غائباً، فذكر له مصابُها، فحلف لا يرت حتى يهريق من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دماً، فلما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببعض الطريق نزل في شِعْب من الشَعَاب، فقال: من رجلان يكلأننا في ليلتنا هذه من عدونا؟ فقال رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، نحن نكلؤك يا رسول الله. فخرجنا إلى فم الشعب دون العسكر، ثم قال الأنصاري للمهاجري، أتكفيني أول الليل وأكفيك آخره، أم تكفيني آخره وأكفيك أوله؟. فقال المهاجري: بل اكفني أوله وأكفيك آخره، فنام المهاجري، وقام الأنصاري يصلي، وافتتح بسورة من القرآن، فبينما هو فيها يقرؤها، جاء زوج المرأة، فلما رأى الرجل

قائماً يصلي، وعرف أنه ربيئة القوم، فنزع له بسهم فوضعه فيه، قال: فينزعه فيضعه وهو قائم يقرأ السورة التي هو فيها ولم يتحرك كراهية أن يقطعها، ثم عاد له زوج المرأة بسهم آخر فوضعه فيه، فانتزعه فوضعه وهو قائم يصلي في السورة التي هو فيها، ولم يتحرك كراهية أن يقطعها، ثم عاد له زوج المرأة الثالثة بسهم فوضعه فيه فانتزعه فوضعه، ثم ركع وسجد، ثم قال لصاحبه: اقعد فقد أتيتُ فجلس الهاجري، فلما رآهما صاحب المرأة هرب وعرف أنه قد نذر به، قال: وإذا الأنصاريْ يفوج دماً من رميات صاحب المرأة، فقال له أخوه الهاجري: يغفر الله لك، ألا كنت آذنتني أول ما رماك؟ قال: كنت في سورة من القرآن قد افتتحتها أصلي بها. فكرهت أن أقطعها وأيم الله لولا أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظه، لقطع نفسي قبل أن أقطعها.

وقيل: إن الرجلين: عمار بن ياسر، وعبَّاد بن بشر، رضي الله عنهما. وروى ابن المبارك في الزهد، عن أبي ريحانة - وكان من أصحاب

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - أنه قفل من بعض عزواته، فلما انصرف أتى أهله فتعشى، ثم دعا بوضوء فتوضا منه، ثم قام إلى مسجده، فقرأ سورة ثم أخرى، فلم يزل ذلك مكانه كلما فرغ من سورة افتتح أخرى، حتى إذا أذن المؤذن شدَّ عليه ثيابه، فأتته امرأته فقالت: يا أبا ريحانة، قد عزوتَ فتعبتَ في غزوك، ثم قدمت، ألم يكن لي حظ ونصيب؟. فقال: بلى، والله ما خطرتِ لي على بال، فلو ذكرتكِ لكان عليَّ حق، قالت: فما يشغلك يا أبا ريحانة؟ قال: لم يزل يهوى قلبي فيما وصف الله عز وجل في جنته من لباسها وأزواجها، ونعيمها ولذاتها، حتى سمعت المؤذن. وروى الحافظ أبو عبد الله بن منده، عن إسماعيل بن طلحة بن عبيد الله، عن أبيه رضي الله عنه قال: أردت مالي بالغابة، فأدركني الليل. فآويت إلى قبر عبد الله بن عمرو بن حزام رضي الله عنه، فسمعت قراءة من القبر ما سمعت أحسن منها فجئت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له،

فقال: ذلك عبد الله ألم تعلم أن الله قبض أرواحهم، فجعلها في قناديل من زبرجد، وياقوت، وعلقها وسط الجنة، فإذا كان الليل رُدَّت إليهم أرواحهم، فلا تزال كذلك، حتى إذا طلع الفجر، رُدَّت أرواحهم إلى مكانهم التي كانت فيه. ويأتي في العنكبوت قراءة ميت. وروى من طريق الحافظ أبي بكر الخطيب قال: أنا محمد بن جعفر بن علان أنا عيسى بن محمد الطوطري قال: رأيت أبا بكر بن مجاهد المقرىء في النوم كأنه يقرأ، وكأني أقول له: يا سيدي أنت ميت وتقرأ؟ ، فكأنه يقول لي: كنت أدعو في دبر كل صلاة، وعند ختم القرآن، أن يجعلني ممن يقرأ في قبره. وروى أبو بكر الخلال في كتاب "السنة" عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: المؤمن يعطي مصحفاً في قبره يقرأ فيه. وذكر أبو الحسن بن البراء في كتابه "الروضة" عن إبراهيم الحفار قال: حفرت قبراً، فبدت لَبِنَة من القبر، فشممت رائحة المسك، حين انفتحت اللبِنَة فإذا بشيخ جالس في قبره يقرأ. وروى الِإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

نمت في فراشي (1) ، فرأيت الجنة، فسمعت صوت قارىء يقرأ. فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا حارثة بن النعمان، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: كذاك البَرُّ، كذاك البَرُّ، وكان أبر الناس بأمه. قال ابن رجب: أخرجاه. وذكر أبو الشيخ الأصبهاني الحافظ -، عن صالح بن حبان، عن عبد الله بن بريدة قال: إن أهل الجنة يدخلون كل يوم مرتين على الجبار جل جلاله. فيقرأ عليهم القرآن، وقد جلس كل امرىء منهم مجلسه الذي هو مجلسه. على منابر الدر والياقوت والزبرجد، والذهب، والزمرد، فلم تَقَر أعينهم بشيء، ولم يسمعوا شيئاً قط أعظم ولا أحسن منه، ثم ينصرفون إلى رحالهم ناعمين، قريرة أعينهم، إلى مثلها من الغد. قال: وذكر يحيى بن سلام قال: أخبرني رجل من أهل الكوفة، عن داود بن أبي هند، عن الحسن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أهل الجنة ينظرون إلى ربهم في كل يوم جمعة، على كثيب من كافور، لا يرى طرفاه، وفيه نهر جار، حافتاه المسك، عليه جوار يقرأن القرآن بأحسن أصوات الأولون والأخرون.

_ (1) لا وجودلها في المسند.

وقال ابن وهب: حدثني سعيد بن أبي أيوب قال: قال رجل لابن شهاب: هل في الجنة سماع؟ ، قال: أي والذي نفس ابن شهاب بيده. إن في الجنة لشجراً حمله اللؤلؤ والزبرجد، تحته جوار ناهدات، يتغنين بالقرآن، يقلن: نحن الناعمات فلا نيأس، ونحن الخالدات فلا نموت، فإذا سمع ذلك الشجر صفق بعضه بعضاً، فلا يدري أأصوات الجواري أحسن. أم أصوات الشجر. وروى أبو عبيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ينبغي لقارىء القرآن أن يعرف إذ الناس نائمون، وبنهاره إذ الناس يفطرون. وببكائه إذ الناس يضحكون، وبورعه إذ الناس يخلطون، وبصمته إذ الناس يخوضون، وبخشوعه إذ الناس يختالون. قال: وأحسبه قال: وبحزنه إذ الناس يفرحون. وروى أبو نعيم عن أبي حازم قال: كنت ترى حامل القرآن في

خمسين رجلًا فتعرفه، قد خضعه القرآن، فأدركت القراء الذين هم القراء. فأما اليوم فليسوا بقراء، ولكنهم خراء. وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "المعروف " عن الفضيل بن عياض معضلاً قال: بلغني أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا عظَّمت أمتي الدينار والدرهم، نُزِع منها هيبةُ الِإسلام. وإذا تركوا الأمر يالمعروف، حرموا بركة الوحي. قال الغزالي: قال الفضيل: يعني: حرموا فهم القرآن، فقد شرط الله الإنابة في الفهم، فقال: "وما يتذكر إلا من ينيب ". ولمسلم وابن ماجة، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين.

فضل حامل القرآن

فضل حامل القرآن ولمسلم والترمذي والنَّسائي، وابن ماجة، عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، وأقدمهم قراءة - وفي رواية: للقرآن - فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سناً - وفي رواية: سِلْما -، ولا يؤمَّن الرجل الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه. ولعبد بن حميد عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا اجتمع ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم. ولأبي عبيد عن عائشة رضي الله عنها قالت: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، وأقدمهم هجرة، فإن كانوا في ذلك سواء، فليؤمهم أحسنهم وجهاً. قال أبو عبيد: لا أراها إلا أرادت حسن السمت والهدى. وللبخاري، وأبي داود وهذا لفظه، والنَّسائي، عن عمرو بن سلمة رضي الله عنه قال: كنا بحاضر يمر بنا الناس إذا أتوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -

فكانوا إذا رجعوا مروا بنا، فأخبرونا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال كذا وكذا وكنت غلاماً حافظاً، فحفظتُ من ذلك قرآناً كثيراً، فانطلق أبو وافد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفر من قومه، فعلمهم الصلاة وقال: يؤمكم أقرؤكم. وفي رواية: لما أرادوا أن ينصرفوا، قالوا: يا رسول الله من يؤمنا؟. قال: أكثركم جمعاً للقرآن - أو أخذا للقرآن -، فلم يكن أحد جمع ما جمعت، فقدَّمُوني وأنا غلام عليَّ شملة لي. وفي رواية: فكنت أقرأهم لما كنت أحفظ، فقدَّمُوني، فكنت أؤمهم وعليَّ بردة لي صغيرة صفراء. وفي رواية: موصلة فيها فتق، فكنت إذا سجدت خرجت إستي. وفي رواية: فكنت إذا سجدت تكشفَتْ عني، فقالت امرأة من النساء: وَارُوا عنا عورة قارئكم، فاشتروا لي قميصاً عُمانِيَّا، فما فرحت بشيء - بعد الإسلام - فرحي به، فكنت أؤمهم وأنا ابن سبع سنين، أو ثماني سنين. وفي رواية: ما شهدت مَجْمعاً من جَرْم إلا كنت إمامهم، (وكنت أصلي على جنائزهم إلى يومي هذا.

وقريب من هذا: ما وقع لزيد بن ثابت رضي الله عنه. قال شيخنا في "الإصابة في أسماء الصحابة"، وروى البخاري تعليقاً، والبغوي وأبو يعلى موصولاً، عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد. عن أبيه رضي الله عنه قال: أتِي بي النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدمه المدينة، فقيل: هذا من بني النجار وقد قرأ سبع عشرة سورة، فقرأت عليه، فأعجبه ذلك. وقال: وقتل أبوه يوم بعاث، قبل الهجرة بخمس سنين، وله يومئذ ست سنين. وسيأتي بقية ما يتم به هذا في سورة البقرة إن شاء الله تعالى. وفي التبيان للنووي: وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان القراء أصحاب مجلس عمر رضي الله عنه ومُشَاوَرته، كُهولاً وشُباناً. رواه البخاري.

وفيه: عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننْزِل الناس منازلهم. رواه أبو داود في سننه، والبزار في مسنده. قال الحاكم أبو عبد الله في "علوم الحديث ": هو حديث حسن صحيح. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن الله تبارك وتعالى قال: من آذى وليا، فقد آذنته بالحرب، رواه البخاري. وثبت في الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من صلى الصبح، فهو في ذمة الله، فلا يطلبنَكم الله بشيء من ذمته.

وعن الإمامين الجليلين: أبي حنيفة والشافعي، قالا: إن لم يكن العلماء أولياء الله، فليس لله ولي. وقال الِإمام الحافظ أبو القاسم بن عساكر رحمه الله: اعلم يا أخي وفقنا الله وإياك وجعلنا ممن يخشاه، ويتقيه حق تقاته -: أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة، وإن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) الآية. انتهى ما في التبيان. ولأحمد، والترمذي وقال: حسن غريب، والطبراني في معاجمه الثلاث. عن ابن عمر رضي الله عنهما، ولفظه في الكبير: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة، لا يهولهم الفزع، ولا يفزعون حين يفزع الناس: رجل تعلم القرآن فقام به يطلب وجه الله وما عنده،

ورجل نادى في كل يوم وليلة خمس صلوات يطلب وجه الله وما عنده. ومملوك لم يمنعه رق الدنيا عن طاعة ربه. وللبخاري وأصحاب السنن الأربعة، عن جابر رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد، ويقول: أيهما أكثر أخذا للقرآن، فإذا أشير إلى أحدهما: قدمه في اللحد وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يغسلهم، ولم يصل عليهم ". وقال عبد الرزاق في جامعه: أخبرنا معمر وابن عيينة، عن أيوب، عن حميد ابن هلال، أخبرني هشام بن عامر الأنصاري رضي الله عنه قال: قتل أبي يوم أحد فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: احفروا وأوسعوا، وأحسنوا، وادفنوا الإثنين والثلاثة في قبر، وقدموا أكثرهم قرآنا، فكانا أبي ثالث ثلاثة، وكان أكثرهم قرآناً فَقدِّم.

وأخرجه أبو عبيد عن إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب به، ولفظه: قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القَرْحَ يوم أحد، وقالوا: كيف تأمر بقتلانا؟. قال: احفروا وأوسعوا، وأحسنوا، وادفنوا في القبر الإثنين والثلاثة. وقدموا أكثرهم قرآناً، فقدم أبي بين يدي اثنين. وللشيخين وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن. فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة.

ولفظ عبد بن حميد: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَعْرِض الكتاب على جبريل عليه السلام في كل رمضان، فإذا أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الليلة التي يَعْرِضُ فيها ما يَعْرِض، أصبح وهو أجودُ من الريح المرسلة، لا يُسأل شيئاً إلا أعطاه، فلما كان الشهر الذي تُوُفًيَ بَعْدَهُ، عرض عليه عرضتين. وللشيخين عن عائشة رضي الله عنها في حديث الوفاة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أْسَرَّ إلى فاطمة رضي الله عنها ما أخبرت به بعد موته - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال لها: إن جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة، وأنه عارضه الآن مرتين، قال: وإني لا أرى الأجل إلا وقد اقترب، فاتقى الله واصبري، فإنه نعم السلف أنا لك. وللشيخين - وهذا لفظ مسلم - عن أنس رضي الله عنه، أن الله عز وجل تابع الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو شامة: يعني عام وفاته، أو يوم وفاته، يريد: أيام مرضه كلها. كما يقال: يوم الجمل، ويوم صفين. وفي جامع الأصول عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جمع الله في هذا الكتاب علم الأولين، وعلم الآخرين، وعلم ما كان، وعلم ما يكون. والعلم بالخالق جل جلاله في أمره وخلقه.

فضيلة السواك عند القراءة

فضيلة السواك عند القراءة ولمسلم وأبي داود، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأحمد بن منيع عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما - اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا، نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده. وروى عبد الرزاق في جامعه، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. أنه حث الناس على السواك، وقال: إن الرجل إذا قام فصلى، دنا الملك يستمع القرآن، فما يزال يدنو، حتى أنه ليضع فاه علي فيه، فما يلفظ من آية إلا وقعت في جوف الملك قال: فطيبوا ما هنالِك. ومثل هذا لا يقال من قبل الرأي. أي فحكمه الرفع. والله أعلم. قال المنذري: بإسناد جيد لا بأس به، فرفعناه عن علي رضي الله عنه. أنه أمر بالسواك وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن العبد إذ تسوك ثم قام يصلي، قام المَلَك خلفه، فيستمع لقراءته، فيدنو منه - أو بكلمة نحوها - حتى يضع فاه علي فيه، فما يخرج من فيه من شيء من القرآن، إلا صار في جوف الملك، فطَهِّروا أفواهكم للقرآن. قال المنذري: وروى ابن ماجة بعضه موقوفاً، ولعله أشبه، انتهى.

ورواه أبو نعيم في الحلية، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أفواهكم طرق القرآن، فطيبوها بالسواك. قال العراقي في تخريجه للِإحياء: وكلاهما - أي المرفوع والموقوف - ضعيف. وروى ابن رجب من طريق علي بن أحمد الحمامي، عن الزهري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا تسوك أحدهم، ثم قام يقرأ، طاف به الملَك يستمع القرآن حتى جعل فاه على فيه، فلا تخرج آية من فيه إلا في الملَك، وإذا قام ولم يتسوك طاف به الملك ولم يجعل فاه على فيه. وهذا مرسل جيد، يقوي المرفوع والموقوف، في أنه في حكم المرفوع. والله أعلم. ولأبي نعيم في الحلية، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن لكل شيء شرفاً يتباهى به، وإن بهاء أمتي وشرفها القرآن. ولأحمد في المسند، والطبراني، والحاكم وقال: صحيح الإِسناد، وابن حبان في صحيحه، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصبني قال: عليك بتقوى الله فإنها رأس الأمر كله. قلت: يا رسول الله زدني. قال: عليك بتلاوة القرآن وذكر الله عز وجل، فإنه نور لك في الأرض وفخر لك في السماء قلت: يا رسول الله زدني. قال: عليك بطول الصمت فإنه مطردة للشيطان وعون لك في أمر دينك. قلت: زدني. قال: إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب، ويذهب بنور الوجه، قلت: زدني. قال: قل

الحق ولو كان مُرا، قلت: زدني. قال: لا تخف في الله لومة لائم. قلت: زدني: قال: ليحجزنك عن الناس ما تعلم من نفسك. وللدارمي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: القرآن أحب إلى الله من السماوات والأرض، ومَنْ فيهن. وروى الحافظ ابن رجب فى كتاب "الفردوس" من رواية شهر بن حوشب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا كان يوم القيامة يقرأ الله القرآن، فكأنهم لم يسمعوه، فيحفظه المؤمنون، وينساه المنافقون. وللبيهقي في الشُعب عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، وجلاؤها كثرة ذكر الموت وتلاوة القرآن وقال الغزالي في كتاب فضل القرآن: وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ثلاثة يزدن في الحفظ، ويذهبن البلغم: السواك، والصوم، وقراءة القرآن.

النهي عن السفر بالمصحف إلى أرض العدو

النهي عن السفر بالمصحف إلى أرض العدو وللشيخين وأبي داود، والنَّسائي، وابن ماجه، وأبي عبيد، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن نسَافرَ بالقرآن إلى أرض العدو. قال مالك: أرَاة مخافة أن يناله العدو.

رفع القرآن

ورواه عبد بن حميد، وأبو بكر الشافعي في الجزء السابع من الغِيلَانِيَّات، عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تسافروا بالقرآن إلى - أرض العدو، فإني أخاف أن ينالوا منه شيئاً. وسيأتي في أحاديث جمع القرآن سر هذا الخوف. رفع القرآن ولابن عبد الحكم في كتاب (الفتوح) ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تقوم الساعة حتى يرفع القرآن والذكر أو الركن.

شك ابن عبد الحكم. وهو في الفردوس بنحوه من وجهين. وللدارمي عن عبد الله - يعني ابن مسعود - رضي الله عنه قال: أكثروا تلاوة القرآن قبل أن يرفع، قالوا: هذه المصاحف ترفع، فكيف بما في صدور الرجال؟. قال: يسري عليه ليلاً، فيصبحون منه فقراء، وينسون قول لا إله إلا الله، ويقعون في قول الجاهلية وأشعارهم، وذلك حين يقع عليهم القول. ورواه عنه عبد الرزاق عنه بنحوه. وزاد: (ثم قرأ) : (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) . ورواه الطبراني في الكبير - قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح، غير شداد ابن معقل وهو ثقة - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ليُنْزِعن هذا القرآن من بين أظهركم، قالوا: يا أبا عبد الرحمن ألسنا نقرأ القرآن، وقد ثبتناه في مصاحفنا؟ قال: يسري على القرآن ليلاً، فلا يبقى في قلب عبد، ولا في مصحفه منه شيء، ويصبح الناس فقراء كالبهائم، ثم قرأ عبد الله: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) . وهذا وإن كان موقوفاً، فمثله لا يقال من قبل الرأي.

ومثله ما روي الدارمي عنه أيضاً رضي الله عنه، أنه قال: ليسرين على هذا القرآن ذات ليلة، فلا تترك آية في مصحف، ولا في قلب أحد، إلا رفعت. ومثله ما رواه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سيبلي القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت، يقرأونه لا يجدون له شهوة ولا لذة. يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أعمالهم طمع لا يخالطه خوف، إن قصروا قالوا: سنبلغ، وإن أساءوا قالوا سيغفر لنا، إنا لا نشرك بالله شيئاً. وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه مُطَوَّلاً، وعن ابن عمر رضي الله عنهما مختصراً وقال: حديث حسن - وهذا لفظ أبي هريرة - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يخرج في آخر الزمان رجال يَخْتِلُون الدنيا بالدين، يلبسون جلود الضان من اللين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله عز وجل: أبي يفترون، أم في يجترؤون. فبى حلفت لأبعثن على أولئك فتنة تدع الحليم حيران. وروى مسلم والترمذي وابن ماجه، عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: القرآن حجة لك أو عليك.

ما بنبغي لحامل القرآن

وللترمذي وأحمد - قال المنذري. ورواته رواة الصحيح - عن شداد بن أوس رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما من مسلم يأخذ مضجعه فيقرأ سورة من كتاب الله، إلا وكَّل الله به مَلَكاً، فلا يقربه شيء يؤذيه، حتى يهب متى هب. ولا بن ماجه عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خير الدواء القرآن. قال النووي في التبيان: وعن طلحة بن مصرِّف: أنه كان يقال: إن المريض إذا قرىء عنده القرآن، وجد لذلك خفة، فَدَخَلْتُ على خيثمة وهو مريض فقلت: إني أراك صالحاً، فقال: إنه قرىء عندي القرآن. ما بنبغي لحامل القرآن وعند الطبراني، والحاكم وصحح سنده، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ القرآن، فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير أنه لا يوحي إليه، لا ينبغي لصاحب القرآن أن يَجدَ مع من يجد، ولا يجهل مع من جهل، وفي جوفه كلام الله.

ومعنى "يَجد فيمن يَجدُ": أي يجد في نفسه شيئاً لا يليق، أو يجد شيئا من الدنيا، أو يحصله. وفي بعض النسخ: "يَجدُ فيمن جدَّ" مضاعفاً. أي يعظم فيمن عظمَ، أي يتكبر، ويطلب أن يحظى، أو يكون كثير الرزق. ورواه الطبراني من طريق فيه إسماعيل - بن رافع - قال الهيثمي: وهو متروك - ولفظه: - من قرأ القرآن، فكأنما استدرجت النبوة بين جنبيه، غير أنه لا يوحي إليه ومن قرأ القرآن، فرأى أن أحداً أُعطي أفضل ما أعطي، فقد عظَّم ما صغَّر الله وصغَّر ما عظَّم الله، وليس ينبغي لحامل القرآن أن يَسْفَهَ فيمن يَسْفَهُ، أو يغضب فيمن يغضب، أو يحتدّض فيمن يحتدُّ، ولكن يعفو ويصفح، لفضل القرآن. وروى أبو عبيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ينبغي لقارىء القرآن أن يُعرف بليله إذ الناس نائمون، وبنهاره إذ الناس يفطرون. وببكائه إذ الناس يضحكون وبورعه إذ الناس يخلطون، وبصمته إذ الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون. قال: وأحسبه قال: وبحزنه إذ الناس يفرحون. وروى أبو نعيم عن أبي حازم قال: كنت ترى حامل القرآن في خمسين رجلًا فتعرفه قد خضعه القرآن، فأدركت القراء الذين هم القراء. وأما اليوم فليسوا بقراء، ولكنهم خراء.

وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "المعروف"، عن الفضيل بن عياض مُعْضَلاً، قال: بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا عظَّمت أمتىِ الدينار والدرهم، نزع منها هيبة الِإسلام، وإذا تركوا الأمر بالمعروف حرموا بركة الوحي. قال الغزالي: قال الفضيل: يعني حرموا فهم القرآن، وقد شرط الله الِإنابة في الفهم فقال: (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) . وروى الطبراني بسند - قال الهيثمي: فيه حُييُّ، وثقة جماعة، وفيه كلام لا يضر، وبقية رجاله رجال الصحيح - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن زوجي مسكين، لا يقدر على شيء فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لزوجها: أتقرأ من القرآن شيئاً؟. قال: أقرأ سورة كذا، وسورة كذا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: بَخ بَخٍ، زوجك غنى فلزمت المرأة زوجها، ثم أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا نبي الله قد بسط الله علينا وَرَزَقنا. وللبزار عن أنس رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن البيت الذي يقرأ فيه القرآن، يكثر خيره، والبيت الذي لا يقرأ فيه القرآن يَقِل خيره. قال البزار: لم يروه إلا أنس، وفيه عمر بن نبهان، وهو ضعيف. وفي الفردوس عن أنس رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ القرآن، فكأنما شافهني وشافهته. وللطبراني في مجامعه الثلاث، بإسناد لا بأس به، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ثلاثة لا يهولهم الفزع الأكبر، ولا ينالهم

حفظ الله للقرآن

الحساب، هم على كثيب من مسك حتى يُفْرَغَ من حساب الخلائق: رجلٌ قرأ القرآن ابتغاءَ وجه الله، وأتمَ به قوماً وهم به راضون. الحديث. ولأبي عبيد عن يحيى بن (أبي) كثير قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إبلٍ لحَي يقال لهم بنو الملَوَّح - أو بنو المصطلق - قد عَبَسَتْ أبوالُهَا من السِّمنَ فَتَقَنَع بثوبه، ثم قرأ هذه الآية: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. . . (إلى آخر الآية) . وروى أبو يَعْلَى في مسنده عن أنس رضي الله عنه، والطبراني عن أبي هرِيرة رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: القرآن غنىً لا فَقرَ بعده ولا غِنى دونَه. قال الهيثمي: وفيه يزيد بن أَبَانَ الرقاشي، وهو ضعيف حفظ الله للقرآن روى الِإمام أحمد وأبو يعلى في مسنديهما، والبَغَوى في "شرح السنَّة"

والدارمي والطبراني في الكبير، وأبو عبيد، عن عقبة بن عامر الجُهَني رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لو كان القرآن في إهَاب ماَ مستْه النار. وفي رواية: لو أن القرآن جُعِل في إهاب، ثم ألقى في النار، ما احترق. قال أبو عبد الرحمن: تفسيره: أن من جَمَع القرآن، ثم دخل النار فهو شَرٌّ من الخنزير. وقال أبو عبيد: وجه هذا عندنا: أن يكون أراد بالإهاب قلب المؤمن وجوفه الذي قد وعى القرآن.

وفي سند الطبراني ابن لهيعة، وفيه خلاف، قاله الهيثمي. وللطبراني عن عصمة هو ابن مالك الأنصاري الحُلَيْمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لو جمع القرآنُ في إهاب ما أحرقته النار. قال الهيثمي: وفيه الفضل بن المختار، وهو ضعيف وله فيه عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو كان القرآن في إهاب ما مسته النار.

فضل القرآن وقارئه

قال الهيثمي: فيه عبد الوهاب بن الضحاك، وهو متروك. فضل القرآن وقارئه وفي الفردوس عن أنس رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ القرآن، وعرف تأويله ومعانيه، ولم يعمل به، تَبَوَّأ مضجعه من النار. وللطبراني في الصغير، عن أنس رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ القرآن يقوم به آناء الليل والنهار، يُحلُّ حلاله، ويُحرِّم حرامه حرم الله لحمه ودمه على النار، وجعله رفيق السفرةِ الكرام البررة، حتى إذا كان يوم القيامة، كان القرآن حجة له". وللبيهقي في الشُّعَب عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ القرآن، فقام به آناء الليل والنهار، يحلُّ حلاله، ويُحرِّم حرامه، خلطه الله بلحمه ودمه، وجعله رفيق السفرة الكرام البررة، وإذا كان يوم القيامة، كان القرآن حجة له". ورواه أبو عبيد في كتاب "الفضائل"، عن كعب الأحبار، عن التوراة. ولفظه: أن الفتى إذا تعلم القرآن وهو حديث السن، وحَرَص عليه، وعمل به وتابعه، خلطه الله بلحمه ودمه، وكتبه عنده من السفرة الكرام البررة. فإذا تعلم الرجل القرآن وقد دخل في السن، فحرص عليه وهو في ذلك يتابعه ويتفلَّت منه، كُتب له أجره مرتين. ولأبي عبيد عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: القرآن شافع مُشَفع، ومَاحِل مصدَّق، من شفع له القرآن يوم القيامة نجا،

ومن مَحَلَ به القرآن يوم القيامة كبَّه الله في النار على وجهه. ورواه الطبراني. قال الهيثمي: وفيه الربيع بن بدر، وهو متروك. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: القرآن شافع مُشَفَّع، وَماحِلٌ مصدَّق، من جعله إمامه قاده إلى الجنة، ومن " جعله خلفه، ساقه إلى النار. وقال الشيخ محي الدين في التبيان: وروى الدارمي بإسناده، عن

ابنِ مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اقرأوا القرآن فإن الله لا يُعذَب قلبا وعى القرآن، وإن هذا القرآن مَأدُبَةُ الله، فمن دخل فيه فهو آمِن ومن أحب القرآن فليبشر". وللبيهقي في الشعب، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " قراءة القرآن في الصلاة، أفضل من قراءته في غير الصلاة". وللطبراني - قال الهيثمي: وفيه أبو سعيد بن عوذ، وثقه ابن معين في رواية، وضعفه في أخرى - والبيهقي في الدعوات، عن أوس

تجريد القرآن مما ليس منه

الثقفي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قراءة الرجل في غير المصحف بألف درجة وقراءته في المصحف تضعف على ذلك إلى ألفي درجة". تجريد القرآن مما ليس منه وروى عبد الرزاق عن الثوري، عن سَلَمَة بن كهْل، عن أبي الزعراء قال: قال ابن مسعود رضي الله عنه، جَرِّدوا القرآن، (يقول) لا يلبسوا فيه ما ليس منه. ورواه الطبراني من طريقه، ولفظه: جَردوا القرآن، لا تلبسوا به ما ليس منه. قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح، غير أبي الزعراء وقد وثقه ابن حبان وقال البخاري وغيره: لا يتابع في حديثه. ورواه أبو عبيد من طريقه بلفظ: جردوا القرآن، ولا تخلطوه بشيء. وروى عن مسروق، عن عبد الله، أنه كان يحُكُّ التعشير من المصحف. وله عن يحيى بن أبي كثير قال: ما كانوا يعرفون شيئاً مما أحدث في هذه المصاحف.

كتابة القرآن في الشيء الطاهر

وله عن يحيى بن أبي كثير: إلا هذه النقط الثلاث، عند رؤوس الآيات. كراهة تصغر حجم المصحف وروى عبد الرزاق عن الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، أن علياً رضي الله عنه كان يكره أن تتخذ المصاحف صغاراً. وروى أبو عبيد عن أبي حكيمة العبدي قال: كنت أكتب المصاحف. فبينا أنا أكتب مصحفاً إذ مر بي علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقام ينظر إلى كتابي فقال: أجلل (من) قلمك، فقضمت من قلمي قصمة، ثم جعلت أكتب. فقال: نعم هكذا، نوِّره كما نوره الله. وله عن علي رضي الله عنه - أيضاً -: أنه كان يكره أن يكتب القرآن في الشيء الصغير. وروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه وجد مع رجل مصحفاً قد كتب بقلم دقيق، فقال: ما هذا؟. فقال: القرآن كله، فكره ذلك وضربه، وقال: عظِّموا كتاب الله. قال: (وقد) كان عمر رضي الله عنه، إذا رأى مصحفاً عظيماً سرَّه. كتابة القرآن في الشيء الطاهر وله عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تكتبوا القرآن إلا في شيء طاهر".

تحريم قراءة القرآن منكوسا

وقال أبو (عبيد: حدثنا) يزيد، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الله ابن أبي بكر قال: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجدي: أن لا يمس القرآن إلا طاهر. تحريم قراءة القرآن منكوساً وروى عبد الرزاق عن الثورى، والدارمي عن محمد بن يوسف، عن سفيان - وهو الثورى -، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: يا أيها الناس تعلموا القرآن، فإن أحدكم لا يدري متى يُخْتَلُ إِليه، قال فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن، أرأيت رجلًا يقرأ القرآن منكوساً؟. قال: ذلك منكوس القلب، قال: وأتى بمصحف قد زُيِّن وذُهِّب، فقال عبد الله، أحسن ما زُيِّن به المصحف تلاوته بالحق. تفسير نكس القرآن ورواه أبو عبيد في الغريب، وقال: يختل، أي يحتاج، من الخلة والحاجة. ونكس القرآن، قال: يتأوله كثير من الناس، أنه يبدأ الرجل من آخر السورة فيقرؤها إلى أولها، وهذا شيء ما أحسب (أن) أحداً يطيقه، ولا كان هذا في زمان عبد الله، ولكن وجهه عندي: أن يبدأ من آخر القرآن من المعوذتين ثم يرتفع إلى البقرة، كنحو ما يتعلم الصبيان في الكُتَّاب، لأن السنة

ثواب قراءة القرآن

بخلاف هذا وإنما جاءت الرخصةُ في تَعْلِيم الصبي والعَجَمِي من المُفَصَّل. لصعوبة السور الطوال عليهما، فهذا عذر، فأما من قرأ القرآن وحفظه، ثم تعمد أن يقرأه من آخره إلى أوَّلهِ، فهذا النكس المنهي عنه. وإذا كرهنا هذا النكس، فنحن للنكس من آخر السورة إلى أولها أشد كراهية، إن كان ذلك يكون. وقال النووي في التبيان: ولو خالف الموالاة، فقرأ سورة لا تلى الأولى. أو خالف الترتيب فقرأ سورة، ثم قرأ سورة قبلها جاز، فقد جاء بذلك آثار كثيرة، وقد قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الركعة الأولى من الصبح الكهف، وفي الثانية بيوسف. وقد كره جماعة مخالفة ترتيب المصحف، روى ابن أبي داود عن الحسن أنه كان يكره أن يقرأ القرآن إلا على تأليفه في المصحف. وبإسناده الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قيل له: إن فلاناً يقرأ القرآن منكوساً، فقال: ذاك منكوس القلب. وأما قراءة السورة من آخرها إلى أولها فممنوع منعاً متأكداً، فإنه يذهب بعض ضروب الِإعجاز، ويزيل حكمة ترتيب الآيات. انتهى. ثواب قراءة القرآن وللحافظ أبي محمد الخلال في "كرامات الأولياء": عن أبي حمزة نصر

ابن الفرج الأسلمي قال: كان أبو معاوية الأسود يقرأ في المصحف، فذهب بصره، وكان إذا جاء وقت قراءته وفتح المصحف، رجع إليه بصره فيقرأ. فإذا أطبق المصحف ذهب بصره. وروى عبد الرزاق عن الثورى، عن عاصم بن بَهْدَلَة، عن زِرِّ بنِ حَوْشَب قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أديموا النظر في المصحف، فإذا اختلفتم في ياء وتاء، فاجعلوها يا، واذكروا القرآن. وروى الطبراني مثله. ولعبد الرزاق عن معمر، عن لَيْث، عن عبد الرحمن بن سابط قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: البيت الذي يقرأ فيه القرآن، يكثر خيره، ويوسع على أهله ويحضره الملائكة، ويهجره الشياطين، وإن البيت الذي لا يقرأ فيه، يضيق على أهله، ويقل خيره ويهجره الملائكة، ويحضره الشياطين، وإن البيت الذي يقرأ فيه القرآن ويثوَّر فيه، يضيء لأهل السماء، كما يضيء النجم لأهل الأرض.

قال معمر: وسمعت رجلاً من أهل المدينة يقول: إن أهل السماء ليتراءون البيت الذي يقرأ فيه القرآن، ويصلي فيه، كما يتراءى أهل الدنيا الكوكب الدري في السماء. وفي أمالي أبي الحسين بن شمعون، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الأنبياء سادة أهل الجنة، والشهداء قادة أهل الجنة، وحملة القرآن عُرفاء أهل الجنة. وروى الطبراني عن الحسين بن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حملة القرآن عرفاء أهل الجنة يوم القيامة. قال الهيثمي: وفيه إسحاق بن إبراهيم بن سعيد المدني، وهو ضعيف. ولأبي عبيد في الفضائل، والدارمي، والنَّسائي في الكبرى، وابن ماجه والحاكم بإسناد صحيح - كما قاله المنذري - عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن للهِ تبارك وتعالى أهْلِين من الناس، قيل من هم يا رسول الاه؟. قال: أهل القرآن، هم أهل الله وخاصته. ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما.

ولأبي عبيد عن طلحة بن عبيد الله بن كريز - مرسلاً - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله جواد يحب الجواد، ويحب معالي الأخلاق ويُبغِضُ - أو قال: يكره - سفسافها، وإن من تعظيم جلال الله، إكرام ثلاثة: الإِمام المقسط، وذي الشبيبة المسلم، وحامل القرآن، غير الغالي فيه، ولا الجافي عنه. وسيأتي في تخريج أبي داود لآخره. وروى أبو عبيد عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فضل قراءة القرآن نظراً على من يقرأ ظاهراً، كفضل الفريضة على النافلة. (وله) عن عمر رضي الله عنه، أنه كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ. وله عن ابن مسعود رضي الله عنه، إنه كان إذا اجتمع إليه إخوانه. نشروا المصحف فقرأوا، وفسر لهم. ولمسلم وابن ماجه، والدارمي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد ثلاث خَلِفَات عظام سمان؟. قلنا: نعم. قال: فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته، خير له من ثلاث خلفات عظام سمان.

ولمسلم - أيضاً - وأبي داود، وأبي عبيد في كتاب الفضائل، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله ونحن في الصُّفَّة، فقال: أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان - أو قال: إلى العقيق - فياتي منه بناقتين كوْمَاوينِ زهراوين في غير إثم ولا قطيعة رحم؟. قالوا: كلنا يا رسول الله قال: فلأن يغدو أحدكم كل يوم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، وأعدادهن من الإِبل. وروى البزار بسند - قال الهيثمي: فيه إسحاق بن إبراهيم الثقفي وهو ضعيف والطبراني في الأوسط بسند فيه حفص بن سليمان الغاضري وهو متروك، ووثقه أحمد في رواية، وضعفه في غيرها - عن كليب بن شهاب قال: كان علي رضي الله عنه في المسجد أحسبه قال: مسجد الكوفة - فسمع ضجة شديدة، فقال: ما هذا؟. قال: قوم يقرأون القرآن، أو يتعلمون القرآن، فقال: طوبي لهؤلاء.

وعزاه النووي لابن أبي داود عن علي رضي الله عنه ساكتاً عليه. وزاد: أما إنهم كانوا أحب الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولأحمد بسند - قال الهيثمي: فيه ابن لهيعة وهو حسن الحديث، وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح - عن عائشة رضي الله عنها قالت: ذُكر رجل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أولم تروه يتعلم القرآن. ولمسلم عن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب، احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومسَّاكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين. ويقرن بين أصبعيه: السبابة والوسطى ويقول: أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهَدْيِ: هَدْيُ محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشَرَّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة. ولأبي عبيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه قيل له: إنك لتُقِل الصوم؟. قال: إنه ليضعفني عن قراءة القرآن، وقراءة القرآن أحب إليَّ.. وللترمذي عن ابن مسعود - أيضاً - رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من قرأ حرفاً من كتاب الله، فله به حسنة، والحسنة بعشر

معنى الحرف المقابل بالحسنة

أمثالها، لا أقول: "الم" حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف. معنى الحرف المقابل بالحسنة قال أبو عمرو الداني في كتاب "العدد": إن هذا على حال صور الكَلِم في الرسم، دون استقرارهن في اللفظ، ألا ترى أن صورة "الم" في الكتابة ثلاثة أحرف، وهي في التلاوة تسعة أحرف، فلو كانت الكلمة إنما تعد حروفها على حال استقرارها في اللفظ دون الرسم، لوجب أن يكون لقارىء "الم" تسعون حسنة. فلما قال: إنها ثلاثة أحرف، وإن لقارئها ثلاثين حسنة، لكل حرف منها عشر حسنات، ثبت أن حروف الكلمة إنما تُعدُّ على حال صورهن في الكتابة دون التلاوة، وأن الثواب جارٍ على ذلك. قال: والكلمة هي الصورة القائمة بجميع ما يختلط بها من الشبهات. والحرف هو الشبهة. قال: وأطول الكلم في كتاب الله، ما بلغ عشرة أحرف، نحو قوله: "ليستخلفنهم " و "أنلزمكموها". فأما قوله: "فأسقيناكموه" عشرة في الرسم، وأحد عشر في اللفظ. وحروف الهجاء في الفواتح كلمات، لا حروف، لأن الحروف لا يسكت

عليه، ولا ينفرد وحده في السورة، وهذه الحروف مسكوت عليها، منفردة. انتهى وهو مشكل، فإن العامل إنما يثاب على عمله، لا على عمل غيره. فالقارىء إنما يثاب على تحريك أعضائه بالحرف، سواء كتب، أو لا، وكان مما يكتب إذا كتب أو مما يسقط في الرسم. والذي قاله، يلزم منه أن تعطل بعض الحروف التي ينطق بها، ويعملها بلسانه، أو حلقه أو شفتيه، وهذا لا يرضاه أحد، فإن ثوابه على بعض عمله دون بعض تَحكُم. والذي ئكشف به معنى الحديث: حمل الحرف على الكلمة، فلما كانت "الم" مرسومة على صورة كلمة واحدة، بين الحديث أنها ثلاث كلمات، فإن المنطوق به: إنما هو أسماء الحروف، في مسمياتها، وكل اسم منها كلمة، لا شك في ذلك. وهذا الذي ظهر لي، نقله شيخنا علامة الِإقراء شمس الدين الجزري في آخر كتابه النشر، عن شيخه الحافظ عماد الدين ابن كثير، وارتضاه ونصره، وذكر أن ابنْ مفلح ذكره في فروعه، عن شيخه أبي العباس

إعراب القرآن بمعنى توضيحه

ابن تيمية وعزاه إلى المحققين. ويؤيد ذلك ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة، والبزار، في مسنديهما. عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ حرفاً من كتاب الله، كتبت له حسنة، لا أقول: "الم" حرف، ولكن الحروف مقطعة، الألف حرف واللام حرف، والميم حرف. قال شيخنا البوصيري رحمه الله، ومدار الإسناد على موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف. ورواه الطبراني في الأوسط والكبير من طريقه ولفظه: من قرأ حرفاً من القرآن كتبت له حسنة، ولا أقول: "الم ذلك الكتاب" حرف، ولكن الألف حرف، واللام حرف، والميم حرف، والذال حرف، والكاف حرف. إعراب القرآن بمعنى توضيحه وله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعربوا القرآن، فإنه من قرأ القرآن فأعربه، فله بكل حرف عشر حسنات وكفارة عشر سيئات، ورفع عشر درجات.

وروى أحمد بسند - قال المنذري: فيه زبَّان بن فايد، وهو ضعيف - عن معاذ بن أنس رضي الله عنه: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ القرآن في سبيل الله، كتب مع الصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً. وروى أبو عبيد في الفضائل، والطبراني من طريق رجال بعضها رجال الصحيح، إلا ليث بن أبي سليم، ففيه ضعف - قاله الهيثمي - عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: أعربوا القرآن، فإنه عربي، وسيأتي قوم يثقفونه، وليسوا بخياركم. ومثله لا يقال بالرأي، فله حكم المرفوع. وروى الطبراني في الأوسط عن شيخه محمد بن عبيد، بن آدم، بن أبي إياس - قال الهيثمي: وقد ذكره الذهبي في الميزان، ولم أجد لغيره فيه كلاماً وبقية رجاله ثقات - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: القرآن ألف ألف حرف، وسبعة وعشرون ألف حرف، فمن قرأه صابراً محتسباً، كان له بكل حرف زوجة من الحور العين.

ولعل هذا العدد كان قبل أن ينسخ شيء من القرآن، وقبل أن يقتصر على حرف واحد من السبعة، فإن حروفه الآن لا تبلغ هذا العدد، ولا تقاربه. وقد روى أبو عبيد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لا يقولَنَّ أحدكم: قدم أخذت القرآن كله، وما تدريه ما كله، قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليقل: أخذت ما ظهر منه. وروى عبد الرزاق عن معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن أبي عبيدة، عن ابن امسعود رضي الله عنه قال: من قرأ القرآن فله بكل آية عشر حسنات، ولا نقول: "الم" عشر، ولكن ألف ولام وميم ثلاثون حسنة. وروى أبو يعلى بسند - قال الهيثمي: فيه عبد الله بن سعيد، بن أبي سعيد المقبري، وهو متروك - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعربوا القرآن، والتمسوا غرائبه. ولأبي عبيد وعبد الرزاق، والطبراني - قال الهيثمي: وفيه إبراهيم بن

مسلم الهَجَري وهو متروك - كذا قال شيخنا: فيه لين الحديث، رفِع موقافات، وعزاه ابن رجب إلى الحاكم في المستدرك، عن عبد الله - أيضاَ - رضي الله عنه أنه قال: إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا (من) مأدبته ما استطعتم، إنَّ هذا القرآن هو حبل الله الذي أمر به، وهو النور المبين. والشفاء النافع، عصمة لمن اعتصم به، ونجاة لمن تمسك به. وقال أبو عبيد: عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يَعْوَجُّ فتقَوَّم ولا يَزيغ فَيُستَعْتَب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن رد. وقال أبو عبيد: على كثرة الرد، اتلوه فإن الله يأجركم بكل حرف عشر حسنات لم أقل - وفي رواية: لا أقول لكم -: "الم" حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف وميم حرف. (فلفظ) أبي عبيد: ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر.

نقط المصحف وشكله

نقط المصحف وشكله وروى ابن أبي داود في كتاب "المصاحف" عن شعبة، عن محمد بن سيف قال: سألت الحسن عن الخط ينقط بالعربية؟. قال: لا بأس به؟ أما بلغك كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن تَفَقَّهوا في الدين. وأحسنوا عبارة الرؤيا وتعلموا العربية. ورواه عبد الرزاق في مصنفه: عن عبد الله بن كثير، عن شعبة. أخبرني محمد بن سيف أبو رجاء، قال: سألت الحسن عن المصحف ينْقَطُ بالعربية؟. قال: لا بأس به، أما بلغك كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فذكره، ثم قال: وسألت ابن سيرين فقال: أخشى أن يُزاد في الحروف. وفي "أخبار النحوين" لأبي طاهر عبد الواحد بن أبي هاشم المقرىء. عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: لأن أقرأ وأنقط، أحب إليّ من أقرأ وألحن. قال: وقال عمر رضي الله عنه: من قرأ القرآن فأعربه، فمات، كان له عند الله يوم القيامة كأجر شهيد.

وروى أبو عبيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعربوا القرآن. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: أعربوا القرآن فإنه عربي. وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: لأن أعرب آية من القرآن، أحب إليَّ من أحفظ آية. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: تعلموا إعراب القرآن. كما تَعَلَّمون حفظه. وعن أبي رضي الله عنه مثل ذلك. وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: تعلموا اللحن والفرائض والسنن، كما تَعَلَّمون القرآن. وعن الوليد بن محمد بن بن زيد قال: سمعت أبا جعفر يقول: قال رسول الله تَعَلَّمون: أعربوا الكلام كما تعربون القرآن. وعن أبي رجاء محمد بن سيف قال: قلت للحسن: ما تقول فيمن تعلم العربية، أيخاف أن يكون ذلك يزيد في الهجاء؟ فقال: لا بأس به،

قال عمر ابن الخطاب: عليكم بالتفقه في الدين، والتفهم في العربية، وحسن العبادة. وعن يحيى بن عتيق قال: قلت للحسن: يا أبا سعيد، الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حسن المنطق، ويقيم بها قراءته؟. فقال: حسن يا ابن أخي فتعلمها فإن الرجل يقرأ الآية بوجهها فيهلك. وعن خليل البصري قال: لما ورد علينا سلمان رضي الله عنه أتيناه نستقرئه القرآن، فقال: إن القرآن عربي، فاستقرئه رجلًا عربياً، قال: فكان زيد بن صوجان يقرئنا، ويأخذ عليه سلمان رضي الله عنه، فإذا أخطأ ميَّز عليه وإذا أصاب قال: أيم الله. أخرج هذا كله أبو عبيد في الفضائل. وروى الكلاباذي في أواخر شرحه لمعاني الأخبار، بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ القرآن، فأعرب في قراءته كان له بكل حرف عشرون حسنة، ومن قرأ بغير إعراب، كان له بكل حرف عشر حسنات. وأسند - أيضاً - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن للهِ مَلَكا، فإذا قرأ العبد القرآن، فلم يقرأ مُقَوَّما، قَوَّمه المَلَكُ فرفعه مُقَوَّماً.

ثواب في علم ولده القرآن

وحمل ذلك على الأعجمي الذي يكون عاجزاً عن إخراج الحروف من مواضعها، والألثغ ونحوهما. أو أن القارىء يسكِّن رؤوس الآي، ولا يُبَين إعرابها. وروى الطبراني عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ القرآن ظاهراً، أو نظراً حتى يختمه، أعطى شجرة في الجنة، لو أن غراباً أفرخ تحت ورقة منها، ثم أدرك ذلك الفرخ فنهض، لأدركه الهَرَمُ قبل أن يقطع تلك الورقة من تلك الشجرة. ورواه البزار وقال: لو أن غراباً أفرخ في غصن من أغصانها ثم طار. لأدركه الهَرَم قبل أن يقطع ورقها. قال الهيثمي: وفيه محمد بن محمد الهجيمي ولم أعرفه، وسعيد بن سالم القداح مختلف فيه، وبقية رجال الطبراني ثقات، وإسناد البزار ضعيف. ثواب في علَّم ولده القرآن وللطبراني في الأوسط - قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفه - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من علَّم ابنه القرآن نظراً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومن علمه إياه ظاهراً، بعثه الله يوم القيامة على صورة القمر ليلة البدر، ويقال لابنه، اقرأ، فكلما قرأ آية، رفع الله عز وجل بها الأب درجة، حتى ينتهي إلى آخر ما معه من القرآن. وللترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

من أفضل الأعمال تلاوة القرآن

يقول: ما أذِنَ الله لشي، ما أذِنَ لعبد يقرأ القرآن في جوف الليل، وإن البِرَّ ليُذَرُّ على رأس العبد ما دام في مصلاه، وما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه. قال أبو النضر: يعني القرآن، منه بدأ، وإليه يرجع الحكم فيه. وللطبراني في الأوسط بسند فيه جابر بن سليم - قال الهيثمي: ضعفه الأزدي - عن أبي هريرة رضي الله عنه، يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما من رجل يعلم وَلَدَهُ القرآن في الدنيا إلا تُوِّج أبوه يوم القيامة بتاج في الجنة يعرفه به أهلُ الجنة بِتَعَلُّم ولدِه القرآن في الدنيا. من أفضل الأعمال تلاوة القرآن وللترمذي - أيضاً - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رجل: يا رسول الله "أي الأعمال أفضل؟. قال: الحال المُرتحِلِ، قال: وما الحال المرتحل؟ قال: صاحب القرآن يضرُب القرآن إلى آخره، كلما حل ارتحل. ورواه الدارمي عن زرارة بن أبي أوفى رضي الله عنه ولفظه: يضرب

من أوله إلى آخره، ومن آخره إلى أوله، وكلما حل ارتحل. وللترمذي أيضاً وقال: حسن غريب، والدارمي، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول الرب تبارك وتعالى: من شغله القرآن عن ذكرى ومسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله على سائر الكلام، كفضل الله على خلقه. وهو عند ابن شاهين، بلفظ: يقول الرب تبارك وتعالى: من شغله قراءة القرآن عن دعائي ومسألتي، أعطيته ثواب الشاكرين وروى أبو عبيد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلى، فإذا مرَّ بآية فيها ذكر النار، قال: أعوذ بالله من النار. ولأبي بكر الشافعي في الجزء الثامن من "الغيلانيات"، عن أبي سلمة

بن عبد الرحمن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعبد الناس أكثرهم تلاوة للقرآن، وإن أفضل العبادة الدعاء. وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام أحدكم من الليل، فاستعجم القرآن على لسانه، فلم يدر ما يقول فليضجع. ولأبي داود، وأحمد، والحاكم وقال: صحيح الإِسناد، وأبي يَعْلَى والطبراني عن سهل بن معاذ بن أنس الجُهَني، عن أبيه رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ القرآن فأكمله وعمل به - وفي رواية: بما فيه - ألبس والداه تاجاً يوم القيامة، ضوؤه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لوكانت فيكم، فما ظنكم بالذي عمل بهذا. قال الهيثمي: في إسناد (أحمد) زبَّان بن فايد وهو ضعيف.

وللترمذي وقال: غريب وليس له إسناد صحيح، وابن ماجه، وأحمد بن حنبل وأحمد بن منيع، وأبي يعلى، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ القرآن فاستظهره، فأحل حلاله، وحرم حرامه، أدخله الله به الجنة، وشفعه في عشرة من أهل بيته، كلهم قد وجبت له النار. وللترمذي وحسنه - وقال ابن رجب: إنه صححه - وابن ماجه. والحاكم وصحح إسناده، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يجيء صاحب القرآن يوم القيامة، فيقول القرآن: يا رب حلِّه، فيلبس تاج الكرامة ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حُلَّة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيقول: قد رضيت عنه، فيقال له: اقرأ وارق، ويعطي بكل آية حسنة. وقد ظهر مما مضى، أن المراد هنا بالآية: الكلمة.

ثم رواه الترمذي من طريق أخرى موقوفاً على أبي هريرة، وقال: هذا أصح عندنا. قال ابن رجب:، ورواه زائدة عن عاصم موقوفاً. ولأحمد، وأبي داود، والترمذي وقال: حسن صحيح، والنَّسائي، وأبي عبيد وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقال لصاحب القرآن، اقرأ وارق، ورتل كما ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها. وقال ابن رجب: ورواه ابن أبي شيبة، عن عبد الله بن عمرو موقوفاً. قال الخطيب: وكذلك رواه أبو جعفر الرازي، عن عاصم عن زر. عن عبد الله غير منسوب، فهو منسوب في غير هذا الحديث. ولأبي عبيد، وابن أبي شيبة، والدارمي، عن بريدة رضي الله عنه بإسناد - قال شيخنا البوصيري: حسن - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن القرآن يَلْقَى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه القبر، كالرجل الشاحب، فيقول: هل

تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول: أنا صحبك القرآن، الذي أظمأتك في الهواجر وسهرتُ ليلك، إن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك - وفي نسخة: وإني - اليوم من وراء كل تجارة، قال: فيعطي الملْكَ بيمينه، والخلْد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسي والداه حُلَّتين، لا تقوَّم لهما الدنيا وما فيها. وفي رواية: لا يُقَوَّم بهما الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا؟. فيقال لهما: بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال له: اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها. قال: فهو في صعود ما دام يقرأ، هذّا كان، أو ترتيلا. قال الهيثمي: وروى ابن ماجه طرفاً منه. ولأحمد عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة: اقرأ فاصعد، فيقرأ ويصعد بكل آية درجة حتى آخر شيء معه. وهو عند الحاكم وصححه على شرط مسلم بلفظ: من قرأ القرآن وتعلمه، وعمل به ألبس والداه يوم القيامة تاجاً من نور، ضوؤه مثل ضوء الشمس، ويكسي والداه حلتين لا تُقَوَّم بهما الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن. قال شيخنا البوصيري: ورواه ابن ماجة في سننه، من أوله إلى قوله: أسهرت ليلك وأظمات نهارك.

ورواه الطبراني في الأوسط، في ترجمة محمد بن عبد الله الحضرمي. عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال الهيثمي: وفيه يحيى بن عبد الحميد الحماني، وهو ضعيف. وروى الترمذي بعضه. ولأبي عبيد في الفضائل، وأبي عمرو الداني في "البيان في تعداد آي القرآن" عن أم الدرداء قالت: سألت عائشة رضي الله عنها، عمن دخل الجنة ممن قرأ القرآن ما فضله على من لم يجمعه، فقالت: إن عدد درج الجنة بعدد آي القرآن، فمن دخل الجنة ممن قرأ القرآن، فليس فوقه أحد. وروى الحارث في مسنده عن سعيد بن أبي سعيد، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يجيء القرآن يوم القيامة في أحسن شارة، وأحسن هيئة، فيقول: يا رب قد أعطيت أجر كل ما عامل عمله، فأين أجر عملي؟. قال: فيكسي صاحب القرآن حلة الكرامة، ويتوج تاج الملك، فيقول: يا رب قد كنت أرغب له فيما هو أعظم من هذا، فيعطي الخلد بيمينه، والنعيم بشماله،فيقول له: أرضيت؟ فيقول: نعم أي رب. وقال الحارث: وحدثنا أبو عبد الرحمن المقرىء، ثنا داود أبو بحر، عن صهر له يقال له مسلم بن مسلم، عن مورق العجلي، عن عبيد بن عمير الليثي قال: قال عبادة الصامت رضي الله عنه: إذا أقام أحدكم من الليل فليجهر بقراءته، فإنه يطرد بجهر قراءته الشيطان وفسَّاق الجن. وإن الملائكة في الهواء وسكان الدار يسمعون لقراءته ويصلون بصلاته، فإذا مضت هذه الليلة، أو مضت الليلة المستأنفة فيقول: نبهيه لساعته، وكوني عليه خفيفة. فإذا حضرته الوفاة، جاءه القرآن موقوفاً عند رأسه وهم يغسلونه، فإذا فُرغ منه، دخل حتى صار بين صدره وكفنه، فإذا وضع في حفرته وجاءه منكر

ونكير، خرج القرآن، حتى صار بينه وبينهما، فيقولان له: إليك فإنا نريد أن نسأله، فيقول: والله ما أنا بمفارقه. قال أبو عبد الرحمن: وكان في كتاب معاوية بن حماد: "حتى أدخله الجنة"، هذا الحرف: فإن كنتما أمرتما فيه بشيء فشأنكما، ثم ينظر إليه فيقول: هل تعرفني؟. فيقول: لا، فيقول: أنا القرآن الذي كنت أسْهِرُ ليلَك، وأظمىء نهارك، وأمنعك شهوتك، وسمعك وبصرك، فتجدني من الأخلَاء خليلَ صدق، ومن الِإخوان أخَ صدق، فأبشر، فما عليك بعد مسألة منكر ونكير (من) همٍّ ولا حزن، ثم يخرجان عنه، فيصعد القرآن إلى ربه، فيسأل له فراشاً ودثاراً. قال: فيؤمر له بفراش ودثار، وقنديل من الجنة، وياسمين من ياسمين الجنة فيحمله إليه ملك من مقربي السماء الدنيا. قال: فيسبقهم إليه القرآن فيقول: هل استوحشت بعدي، فإني لم أزل بربي الذي خرجت منه، حتى أمر لك بفراش ودِثَار، ونور من نور الجنة، فيدخل عليه الملائكة فيحملونه، ويفرشونه ذلك الفراش، ويضعون الدثار تحت قلبه، والياسمين عند صدره، ثم يحملونه حتى يضعوه على شقه الأيمن، ثم يصعدون عنه، فيستلقي عليه، فلا يزال ينظر إلى الملائكة حتى يلحقوا بالسماء، ثم يرفع القرآن في ناحية القبر، فيوسع عليه ما شاء الله أن يوسَّع من ذلك. قال أبو عبد الرحمن: وكان في كتاب معاوية بن حماد: فيوسَّع مسيرة أربعمائة عام، ثم يحمل الياسمين من عند صدره، فيجعله عند أنفه، فيشمه غضاً، إلى يوم يُنفخ في الصور، ثم يأتي أهله في كل يوم مرة، أو مرتين. فيأتيه بخبرهم، فيدعو لهم بالخير والإِقبال، فإن تعلم أحد من ولده القرآن،

بشره بذلك، وإن كان عقبه عقب سوء، أتى الدار غدوة وعشية، فبكى عليه إلى يوم ينفخ في الصور، أو كما قال. هذا أثر شريف، لا يقال مثله من قبل الرأي. فله حكم الرفع. ورواه البزار عن معاذ رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال المنذري: إن ابن أبي الدنيا وغيره رووه عن عبادة موقوفاً. قال: ولعله أشبه. وقال: إنه منكر. والله أعلم. وروى الطبراني في الأوسط - قال الهيثمي: وفيه جعفر بن الحارث، وهو ضعيف - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقارىء القرآن إذا أحَلَّ حلاله، وحرَّم حرامه، أن يشفع في عشرة من أهل بيته، كلهم قد وجبت له النار. وروى محمد بن أبي عمر العدني، وأبو يعلى الموصلي، في مسنديهما. عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ ثلث القرآن، أعطي ثلث النبوة، ومن قرأ نصف القرآن، أعطي نصف النبوة، ومن قرأ ثلثيه أعطي ثلثي النبوة، ومن قرأ كله، أعطي النبوة كلها، ويقال له يوم القيامة اقرأ وارق بكل آية درجة، حتى يُنْجِزَ ما معه من القرآن، ويقال له:

اقبض فيقبض، فيقال له هل تدري ما في يدك؟. في يدك اليمنى الخلد، وفي الأخرى النعيم. وفي الباب عن ابن مسعود وأنس، رضي الله عنهما. وروى إسحاق بن راهويه بسند فيه سعيد بن عبد العزيز. قال شيخنا البوصيري: وهو ضعيف. كذا قال، وليس ذلك مطلقاً، بل هو إمام كبير، كان بعضهم يقدمه على الأوزاعي، ولكنه اختلط في آخره عمره. وللطبراني في الكبير - قال الهيثمي: وفيه سويد بن عبد العزيز وهو متروك، وأثنى عليه هشيم خيراً، وبقية رجاله ثقات - عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ القرآن وعمل بما فيه، ومات في الجماعة، بُعث يوم القيامة مع السفَرة والحكام - وقال إسحاق: والبررة - ومن قرأ القرآن وهو يَتَفَلَّت منه آتاه الله أجره مرتين، ومن كان حريصاً عليه ولا يستطيعه ولا يدعه، بعثه الله مع أشراف خلقه، وفضلوا على سائر الخلائق، كما فضلت النسور على سائر الطيور، وكما فضلت عين في مرجة

على ما حولها، ثم ينادي مناد: أين الذين كانوا لا تلهيهم رعاية الأنعام عن تلاوة كتابي، فيقومون، فيلبس أحدهم تاج الكرامة، ويعطي الفوز - وفي رواية: النعيم بيمينه، والخلد بشماله. وفي رواية: بيساره - ثم يكسى أبواه إن كانا مُسْلِمِين حُلَّة خيرا من الدنيا وما فيها، فيقولان: أنى لنا هذا وما بلغته أعمالنا؟. فِيقال: إن ولدكما يقرأ القرآن. وفي رواية: بما كان ولدكما يقرأ. ورواه الدارمي موقوفاً على وهب الزماري وقال: مع السفرة والحكام. قال سعيد: اسفرة: الملائكة. والحكام: الأنبياء. وروى الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب يقول لصاحبه: هل تعرفني؟ أنا الذي كنت أُسْهِر ليلَك، وأظْمِىءُ نهارَك، هذا أجرك، وأنَّ كل تاجر من وراء تجارته، وأنا لك اليوم من وراء كل تجارة، فيُعطي الملك بيمينه، والخلد بشماله ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسي والداه حلتين لا تقوَّمُ بهما الدنيا وما فيها فيقولان: أنى لنا هذا؟. فيقال لهما: بتعليم ولدكما القرآن. قال الحافظ. نور الدين الهيثمي: عند الترمذي بعضه. وروى أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو يعلي، في مسنديهما، بإسناد حسن

عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يتمثل القرآن يوم القيامة، فيؤتي بالرجل قد كان حمله فيتمثل خصما دونه فيقول: يا رب حملته آياتي فشر حامل، تعدى حدودي، وضيع فرائضي، وركب معصيتي، وترك طاعتي، فما يزال يقذف عليه الحجج حتى يقال له: فشأنك به، فيأخذ بيمينه - وفي رواية: بيده - ما يرسله حتى يكبه على منخره في النار. قال: ويؤتي بالعبد الصالح قد كان حمله، فحفظ أمره، فيتمثل خصماً دونه فيقول: يا رب حملته آياتي، فخير حامل، حفظ حدودي، وعمل بفرائضي واجتنب معصيتي، وعمل بطاعتي وما يزال يقذف له بالحجج، حتى يقال له: شأنك به، فيأخذ بيمينه، فما يرسله حتى يكسوه حلة الاستبرق. ويعقد عليه تاج الملك، ويسقيه كأس الخمر. قال الهيثمي: وفي سنده ابن إسحاق، وهو ثقة، ولكنه مدلس، وبقية رجاله ثقات. وللطبراني بسند - قال الهيثمي: رجاله ثقات - عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من تعلم آية من كتاب الله، استقبلته يوم القيامة تضحك في وجهه. وللشيخين وأبي داود، والترمذي، والنَّسائي، وابن ماجه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الماهر بالقرآن، مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق، له أجران.

ولأحمد بن منيع والترمذي وابن ماجه، وأبي يعلى، عن علي رضي الله عنه أن النبي - عز وجل - قال: من قرأ القرآن واستظهره وحفظه، أدخله الله الجنة.

وللطبراني وأبي نعيم في الحلية، عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ القرآن فأعربه، كانت له عند الله دعوة مستجابة، إن شاء عجَّلها في الدنيا، وإن شاء أخرها إلى يوم القيامة. ورواه الطبراني في الأوسط، عن جابر رضي الله عنه: ولفظه: من قرأ القرآن - أو قال: جمع القرآن - كانت له دعوة مستجابة، إن شاء عجلها في الدنيا وإن شاء ادخرها له في الآخرة. قال الهيثمي: وفيه مقاتل بن دُوَال دوز، فإن كان هو مقاتل بن حَيَّان كما قيل، فهو من رجال الصحيح، وإن كان ابن سليمان، فهو ضعيف، وبقية رجاله ثقات. ولأبي عبيد عن بكير بن الأخنس قال: كان يقال: إذا قرأ الأعجمي والذي لا يقيم القرآن، كتبه المَلَك كما أنزل. وللستة والدارمي، وعبد بن حميد، عن أبي موسى رضي الله عنه وأبي داود عن أنس رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن، مثل الأترجه، ريحها طيِّب، وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن، كمثل الثمرة، طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق - وفي

رواية، الفاجر - الذي يقرأ القرآن، كمثل الريْحَانة، ريحها طيِّب، وطعمها مرٌّ، ومثل الفاجر - وفي رواية: المنافق - الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحَنْظَلَة، طعمها مرٌّ، ولا ريح لها. زاد أبو داود: ومثل الجليس الصالح، كمثل صاحب المسك، إن لم يصبك منه شيء، أصابك من ريحه. ومثل جليس السوء، كمثل صاحب الكير، إن لم يصبك من سواده، أصابك من دخانه. وقال ابن رجب في كتاب "الاستغناء بالقرآن": وروينا بإسناد فيه نظر. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا من اشتاق إلى

فضل من تعلم القرآن وعلمه

الجنة، فليستمع كلام الله، فإن مثل القران كمثل جراب مسك، أي وقت فتحته فاخ ريحه. فضل من تعلم القرآن وعلَّمه وللترمذي وابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: تعلَّموا القرآن، فاقْرَءُوه (وأَقْرِءُوه) وارقدوا، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه، وقام به، كمثل جراب مملوء مسكاً، يفوح ريحه من كل مكان، ومثل من تعلمه فرقد وهو في جوفه، كمثل جراب أوكي على مسك. ْوقد روى عن عطاء مرسلاً، وقيل: إنه أصح. وللستة وغيرهم عن عثمان رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: خيركم - وفي رواية عبد الرزاق: أفضلكم - من تعلم القرآن وعلمه.

ورواه البيهقي في "الأسماء والصفات" عن عثمان رضي الله عنه، وزاد: وفضل القرآن على سائر الكلام، كفضل الله عز وجل على خلقه، وذاك أنه منه. وللطبراني في الصغير - بسند فيه محمد بن سنان القزاز، وثقه الدارقطني وضعفه جماعة - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خياركم من تعلم القرآن وعلمه. وعن عبد الله رضي الله عنه رفعه: خِياركم من قرأ القرآن وأَقْرَأَهُ. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وإسناده فيه شريك وعاصم وكلاهما ثقة، وفيهما ضعف. وللدارمي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه. وله عن سعد بن أبي وقًاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خياركم من تعلم القرآن وعلم القرآن.

وذكر المنذري عن ابن أبي الدنيا والبيهقى، بصيغة "روى" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أشراف أمتي حَمَلَةُ القرآن، وأصحابُ الليل. ورواه الطبراني. (قال) الهيثمي: وفيه سعد بن سعيد الجُرجاني، وهو ضعيف. وروى أبو داود عن أبي إسحاق رضي الله عنه قال: إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن، غير الغالي فيه، ولا الجافي عنه. وإكرام ذي السلطان المقسط. وبه تقدم تخريج أبي عبيد له بزيادة. قال النووي في التبيان: وهو حديث حسن. وسيأتي تفسير الغالي بأنه: المُفَرط المتناهي. والجافي بأنه: المُفْرِط المُتَداني. وللترمذي وقال: حسن صحيح، والحاكم وصحح إسناده، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب.

ولابن ماجة بإسناد - قال المنذري: حسن - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا ذر لأن تغدُوَ فتتعلَّم آية من كتاب الله، خير لك من أن تصلي مائة ركعة، ولأن تغدُوَ فتتعلَّم بابا من العلم، عُمِلَ به أو لم يُعْمَلْ به، خير من أن تصلي ألف ركعة. ولأبي داود الطيالسي في مسنده، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني امرؤ مقبوض، فتعلموا القرآن وعلموه الناس، فإني مقبوض، فإنه سيقبض العلم، وتظهر الفِتَن، حتى يختلف الِإثنان في الفريضة، فلا يجدان من يفصل بينهما. وروى أبو بكر بن أبي شيبة، والحارث في مسنديهما، وابن حبان في صحيحه والدارمي، وأبو عبيد، والنَّسائي في الفضائل عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: كنا في المسجد نتعلم القرآن، فدخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسلَّم علينا، فردَدْنَا عليه السلام، فقال: تعلَّموا القرآن وأَعْرِبوه واعتنوا به - وفي رواية: تَغَنَوا به واقتنوه - والذي نفسي بيده، لهو أشد تفلُّتا من المخاض في العُقلِ.

وجوب الاعتصام بالقرآن والسنة

وجوب الاعتصام بالقرآن والسنة ولأبي بكر بن أبي شيبة، وعبدِ بن حُميد في مسنديهما، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني تارك فيكم ما إن تسمكتم به لن تضلوا، الخليفتَيْن: كتاب الله، وعتْرَتِي، وأنهما لن يفترقا حتى يَرِدَا عليَّ الحوضَ، فانظر كيفِ تَخْلُفوُني فيهما. وروى من أوجه كثيرة عن عِدة من الصحابة، رضي الله عنهم في خطبة حَجة الوداع، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: وقد تركت فيكم أيها الناس ما إن اعتصمتم به، لن تضلوا، كتابَ الله وسُنَةَ نبيه. وروى البزار بإسناد ضعيف، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: إني خَلَّفت فيكم شيئين لن تضلواِ بعدهما أبداً ما أخذتم بهما: كتاب الله وسُنَتي. لن يفترقا حتى يَرِدَا عليَّ الحَوْض. ولأبي نعيم بإسناد ضعيف، عن أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي تُوفًي فيه، ونحن في صلاة الغداة فقال: إني تركت فيكمِ كتابَ الله وسُنتي، فاستَنْطِقُوا القرآنَ بسنتي، فإنه لن تعمى أبصارُكم، ولن تزِلَّ أقدامكم ما أخذتم بهما. واستتدل أبو نعيم بذلك على أنه أراد بقوله: وعِتْرتي، سنَتَهُ وبَيَانَهُ للقرآن. وعترته من أعلم الناس بأحواله وأفعاله، وأحكامه وسنته، فلذا حضَّ على الاقتداء بهم، والأخذ عنهم.

ذكر ذلك ابن رجب، والدارمي، ومسلم، والنَّسائي، وعبد بن حميد عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما فيناً خطيبا بماء يدعى خُمَّاً، بين مكةَ والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكَّر ثم قال: أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتِيَني رسولُ ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثَقَلَيْن، أولهما: كتاب الله، فيه الَهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به. فحثَّ على كتاب الله ورَغب فيه. وفي رواية: قال: هو حَبْلُ الله، من استمسك به وأخذ به، كان على الهُدَى، ومَنْ أخطأه ضلَّ. وفي رواية: من اتَّبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة. ثم قال: وأهل بيتي، أذكِّرُكُمُ الله في أهل بيتي، أذكِّرُكُمُ الله في أهل قال الدارمي: ثلاث مرات. ولأبي بكر الشافعي في الجزء السادس من "الفوائد الغِيلَانِيات" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خلَّفت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتابَ الله، وسنتي، ولن يفترقا إلى يَرِدَا عليَّ الحوضَ. ولمالكٍ في المُوطَأ - مُعْضلًا - قال: بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: تركت

فيكم أمرين، لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتابَ الله، وسنةَ رسوله. وللطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من تَعَلَّم كتاب الله، ثم اتبع ما فيه، هداه الله به من الضلالة في الدنيا، وَوَقَاهُ الله يوم القيامة سوءَ الحساب. ولرَزِين وعبد الرزاق في جامعه عنه - أيضاً - رضي الله عنه، أنه قال: من اقتدى بكتاب الله، لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة. ثم تلا هذه الآية: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) . ولأبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي سُرَيْح الخُزَاعي رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أبشروا، أبشروا، أليس تشهدون أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟. قالوا: نعم. قال: فإن هذا القرآن سبب، طرَفُه بيد الله، وطَرَفُه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا، ولن تهلكوا بعده أبداً. ورواه عبد بن حميد، وابن حبان في صحيحه، كلاهما من طريقه. ورواه أحمد بن منيع، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

الحث على تعاهد القرآن لكي لا ينسى

الحث على تعاهد القرآن لكي لا يُنْسى وللشيخين والترمذي، والنَّسائي، عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: استذكروا القرآن. فإنه أشد تفصياً من صدور الرجال من النَّعم وللشيخين عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تعاهدوا القرآن، فوالذي نَفْس محمد بيده، لهو أشد تَفَلُّتاً من الِإبل في عُقلِها. ولمالكٍ والشيخين، والنَّسائي، وأبي عبيد، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنما مثل صاحب القرآن - وقال أبو عبيد: مثل القرآن - كمثل صاحب الإبل المعقَلة، إن عاهد عليها - وقال أبو عبيد: إذا عاهد صاحبها على عَقْلِها - أمسكها، وإذا أطلقها - وقال أبو عبيد: وإذا أغفلها - ذ هبت.

وللطبراني في الكبير، والإِمام أحمد - قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تَعَلَّمُوا كتاب الله وتعاهدوه، وتَغَنَوا به، فوالذي نفسي بيده، لهو أشد تَفَلُّتاً من النَّعم في العُقُل. وقال الطبراني، لهو أشد تفلتا من النعم في العقل. وللطبراني - قال الهيثمي: ورجاله ثقات، إلا شيخه أحمد، فإن كان ابن الخليل، فهو ضعيف، وإلا فلم أعرفه - عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: تعاهدوا القرآن، فوالذي نفسي بيده لهو أشد تَفَصِّياً من صدور الرجال، من الإبل المُعَقَلة إلى إعْطَائها. وللطبراني في الثلاثة - قال الهيثمي: ورجال الصغير والأوسط ثقات - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: تعاهدوا القرآن، تعاهدوا القرآن. قال في الكبير: فإنه وحشي.

وقال في غيره: فهو أشد تفصياً من صدور الرجال من نوازع الطير. وهو عند البخاري والدارمي، وأبي عبيد في الغريب، مرفوعاً، ومسلم موقوفاً بلفظ: بئس ما لأحدهم أن يقول: نَسِيت آية كيْتَ وكيْتَ. بل هو نُسِّىَ واستذكروا القرآن، فلهو أشد تَفَصِّياً من صدور الرجال، من النَّعَم في عُقْلِها.

المنع من أخذ أجرة على قراءة القرآن

ولفظ أبي عبيد: ليس هو نَسِىَ، لكن نُسِّىَ. وفي رواية في الصحيحين عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا يقل أحدكم: نَسِيت آية كذا وكذا، بل هو نُسِّىَ. المنع من أخذ أجرة على قراءة القرآن ولأبي داود عن جابر رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله علينا ونحن نقرأ القرآن، وفينا الأعرابي والأعجمي، فقال: اقرأوا، فكل حسن وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح، يتعجلونه، ولا يتأجلونه.

ورواه أحمد بن منيع في مسنده ولفظه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى قوما يقرأون القرآن، فقال: اقرأوا القرآن قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه. قال شيخنا البوصيري: وله شاهد من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عند أحمد بن حنبل في مسنده قال: بينا نحن نقرأ، فينا العربي. والعجمي والأسود - وفي رواية: والأحمر والأبيض - إذ خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أنتم في خير، تقرأون كتاب الله، وفيكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيأتي على الناس زمان يَثْقِفُونه كما يَثْقِفُ الْقَدَحَ يَتَعَجَّلُونَ أُجُورَهُمْ وَلَا يَتَأَجَّلُونَهَا. وفي التبيان للنووي: وروى ابن أبي داود: أن أبا الدرداء رضي الله عنه كان يدرس القرآن مع نفر يقرؤون جميعاً، فِعْلَ الدارسة مجتمعين، عن جماعات من أفاضل السلف والخلف، وقضاة المتقدمين. وفي الفردوس عن بريدة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ القرآن يتأكل به الناس، جاء يوم القيامة، ووجهه عظم، ليس عليه لحم. ورواه أبو عبيد عن زاذان بلفظه. ومعلوم أنه لا يقال بالرأي، فله حكم الرفع، فهو مرسل، يعضد المرفوع. وفيه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: من قرأ عند أمير جائر كتاب الله لعنه الله بكل حرف قرأ عنده لعنة.

ولأبي عبيد عن الحسن رحمه الله قال: قُرَّاء القرآن ثلاثة أصناف: صنف اتخذوه بضاعة ياكلون به. وصنف أقاموا حروفه، وضيعوا حدوده، واستطالوا به على أهل بلادهم واسْتَدَروا به الولاة، كثُر هذا الضرب من حملة القرآن، لا كَثَّرهَم الله. وصنف عمدوا إلى دواء القرآن، فوضعوه على داء قلوبهم، فركدوا به في محاريبهم، وخَفُوا به في بَرانِسهم، واستشعروا الخوف وارْتَدَوُا الحزن. فأولئك الذين يُسقى بهم الغيثُ، ويُنْصَر بهم على الأعداء، والله لَهَذَا الضًرْبُ في حملة القرآن، أعز من الكبريت الأحمر. ولأبي داود، وأبي بكر بن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبي عبيد، عن سهل ابن سعد الأنصاري رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نقترىء القرآن: يقرىء بعضنا بعضا، فقال: الحمد للهِ، كتاب الله واحد وفيكم الأحمر، وفيكم الأبيض، وفيكم الأسود، اقرأوه قبل أن يقرأه، قوم يقيمونه كما يقوَّم السهم، يتعجلونه ولا يتأجلونه. ولفظ ابن أبي شيبة: يقيمون حروف القرآن، كما يُقام السهم، لا يجاوز تراقِيَهم، يتعجلون ثوابه، ولا يتأجلونه. ولفظ عبد: فقال: الحمد للهِ، كتاب الله واحد، وفيكم الأخيار. وفيكم الأحمر والأسود، ثم قال: اقرأوا، اقرأوا، اقرأوا، قبل أن يأتي قوم يقيمون حروفه كما يقام السهم، لا يجاوز تَرَاقِيَهم، يتعجلون أجره، ولا يتأجلونه.

النهي عن تلحين القرآن

ولأبي عبيد: عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. النهي عن تلحين القرآن وروى أبو عبيد، عن عِبْسٍ - وفي رواية: عابس - الغفاري رضي الله عنه، أنه رأى الناس يخرجون في الطاعون. فقال: مَالِ هؤلاء؟. فقالوا: يفرون من الطاعون. فقال: يا طاعون خذني، فقالوا: تتمنى الموت، وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يتمنين أحدكم الموت؟. قال: إني أُبادر خصالًا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتَخَوَّفَهُن على أمته: بَيعُ الحكم والاستخفافُ بالدم، وقطيعةٌ الرَّحِم، وقوماً يتخذون القرآن مَزَامِيرَ، يُقدِّمون أحدهم ليس بِأفْقِهِهِم ولا أفْضَلِهم، إلا ليغنيَهُم به غِنَاءً، وذكر خلتين أخريين. ورواه أبو عبيد - أيضاً - في كتاب الغريب بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أشراط الساعة فقال: بَيْعُ الحكم، وقطيعةُ الرحم، والاستخفاف بالدم وكثرة الشُّرَط، وأن يتخذ القرآن مزامير، يقدمون أحدهم ليس بأقرئهم ولا أفضلهم إلا ليغنيهم به غناء.

وذلك بعد أن حمل الأمر بتزيينه بالصوت على التحزين، على ما فسرته الأحاديث الواردة فيه. وروى النيسابوري في "مناقب مالك" - قال ابن رجب: بإسناده - عن عبد الله بن مطرف بن يوسف الضبي، ومطرف بن عبد الله، قالا: سمعنا مالكاً يقول: من قرأ بالتمطيط والتمديد والألحان، ضُرب ضرباً وجيعاً. وحبس حتى يتوب من ذلك. وإنما هؤلاء قوم رفعوا أنفسهم عن الغناء، فجعلوا كتاب الله يتغنَوْن به، ولقد أدركت أهل العلم والفقه ببلدنا وإنهم لهذا أشد كراهية من الغناء ولا أدري أي شيطان ألقي في أفواه الناس هذا.

وروى الإمام أحمد في ابن سيرين، أنه سئل عن هذه الأصوات التي يقرأ بها، فقال: هو مُحْدَث. ونص الإِمام أحمد على كراهة قراءة الألحان، وقال: يُحسّنه بصوته من غير تكُلف. وروى أبو عبيد - أيضاً - في الفضائل، وعبد الرحمن بن الحكم في "فتوح مصر" عن مالك بن عبادة الغافقي أبو موسى، خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه سمع عطية بن عامر رضي الله عنه (يَقُصُّ) يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال مالك: إن صاحبكم هذا لغافل، أو هالك، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إلينا في حجة الوداع فقال: عليكم بالقرآن، فإنكم سترجعون إلى قوم يشتهون الحديث عني، فمن عقل شيئاً فليحدث به،

ذم نسيان القرآن

ومن قال في ما لم أقل - وقال ابن عبد الحكم: من افترى عليَّ - فليتبوأ بيتاً، أو قال: مقعداً من جهنم. قال: لا أدري أيهما قال. ولأبي عبيد أيضاً، عن المُهَاجِر بن حبيب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أهل القرآن، لا تَوَسَّدوا القرآن، واتلوه حق تلاوته، آناء الليل والنهار وتغنَوْه واتقنوه، واذكروا ما فيه لعلكم تفلحون. ذم نسيان القرآن ولأبي داود، وأبي، بكر بن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبي عبيد في الفضائل والغريب، والدارمي، عن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من امرىء يقرأ القرآن ثم ينساه، إلا لقي الله يوم القيامة وهو أجذم. وقال أبو عبيد: الأجذم: المقطوع اليد.

زاد رزين: واقرأوا (إن شئتم) .: (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) . ولأحمد بن حنبل - قال الهيثمي: ورجاله ثقات، وفي بعضهم خلاف - عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم -: ما من أمير عشيرة، إلا جيء يوم القيامة مغلولةً يدُه إلى عنقه، حتى يطلقه الحق أو يوبقه، ومن تعلم القرآن ثم نسيه، لقي الله تبارك وتعالى وهو أجذم. ولأبي داود، والترمذي، وابن ماجة، وأبي عبيد، وابن خزيمة في صحيحه عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: عُرضت عليَّ أُجُوُر أمتي، حتى القذاةُ يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت عليَّ ذنوب أمتي، فلم أر فيها ذنباً أعظم - وقال أبو عبيد: أكبر - من سورة من القرآن، أو آية، أوتيها رجل، ثم نسيها. وروى أبو عبيد عن سلمان رضي الله عنه نحوه. وروى أبو عبيد - أيضاً - في الغريب عن الضحاك بن مزاحم قال: ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه، إلا بذنب يحدثه، لأن الله تعالى يقول:

نهي صاحب القرآن عن أن يسأل به الناس

(وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) . وإن نسيان القرآن من أعظم المصائب. نهي صاحب القرآن عن أن يسأل به الناس وللترمذي عن عمران بن حُصين رضي الله عنه، أنه مر على قارىء يقرأ القرآن ثم يسأل الناس به، فاسترجع وقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من قرأ القرآن، فليسأل الله به، فإنه سيجيء أقوام يقرأون القرآن ويسألون به الناس. حب المؤمن للقرآن دليل حبه لله وروى أبو عبيد، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لا يُسْالُ عَبْدٌ عن نفسه إلا بالقرآن، فإن كان يحب القرآن، فإنه يحب الله ورسوله. ورواه الطبراني - قال الهيثمي: ورجاله ثقات - عن عبد الله رضي الله عنه ولفظه: من أحب أن يعلم أنه يحب الله ورسوله فلينظر، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله ورسوله. وفي رواية: فإن كان يحب القرآن، ويعجبه، فهو بخير.

استحباب تحسين الصوت بالقرآن

وللترمذي عن صهيب رضي الله عنه، وعبد بن حميد عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما آمن بالقرآن من استحل محارمه. وللبخاري عن حذيفة رضي الله عنه قال: يا معشر القراء، استقيموا فقد سبقتم سبقاً بعيداً، وإن أخذتم يميناً وشمالاً، لقد ضللتم ضلالًا بعيداً. استحباب تحسين الصوت بالقرآن ولأحمد وأبي داود والنَّسائي، وابن ماجة، والدارمي، وابن حبان. والحاكم وصححه، عن البراء رضي الله عنه موصولًا، وللبخاري عنه معلقاً مجزوماً، وللبزار عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قالا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: زينوا القرآن بأصواتكم.

وزاد الدارمي قال: الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً. ورواه عبد الرزاق في جامعه، عن البراء رضي الله عنه من طريقين: قال في إحداهما: زينوا القرآن بأصواتكم. كرواية الجماعة. وفي الأخرى: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: زينوا أصواتكم بالقرآن. وكلا المعنيين صحيح، فإن من حسن صوته بالقراءة، زاد صوتُه القرآنَ حُسْناً وزاد القرآنُ صوتَه حُسْناً. وللطبراني في الكبير بإسنادين - قال الهيثمي: في أحدهما عبد الله بن خراش وثقة ابن حبان، وقال: ربما أخطأ، وضعفه البخاري وغيره، وبقية رجاله رجال الصحيح - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: زَينوا - وفي رواية: حسنوا - أصواتكم بالقرآن. وللطبراني في الأوسط - قال الهيثمي، وفيه إسماعيل بن عمرو البجَلى. وهو ضعيف - عن ابن عباس رضي الله عنهما، والبزار - قال الهيثمي: وفيه عبد الله ابن محرز، وهو متروك - عن أنس رضي الله عنه، قال ابن عباس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لكل شيء حلية وحليةُ القرآن حسن الصوت. قال أنس: وحلية القرآن الصوت الحسن. وروى البزار بسند - قال الهيثمي: فيه سعيد بن زَرْبِي، وهو

ضعيف عن عبد الله - يعني ابن مسعود - رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن حسن الصوت تزيين للقرآن. قال ابن رجب: وروى عنه موقوفا عليه، وهو أشبه. وروى ابن أبي الدنيا عن الهيثم القارىء قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النام فقال: أنت الهيثم القارىء، الذي تزين القرآن بصوتك؟. قلت: نعم. قال: جزاك الله خيراً. وقال بحر بن نصر: ما رأيت ولا سمعت في عصر الشافعي، كان أحسن صوتاً منه بالقرآن. وللشيخين، وأبي داود، والنَّسائي، والدارمي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما أذن الله لشيء، ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن، يجهر به.

وللطبراني في الأوسط، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لم يأذن الله كَأذَنِه لمترنم بالقرآن. قال الهيثمي: وفيه سليمان بن داود الشاذَكُوني، وهو كذاب. وللشيخين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس منا من لم يتغن بالقرآن. ورواه أبو يعلى الموصلي والبزار، عن عائشة رضي الله عنها بلفظ: من لم يتغن بالقرآن، فليس منا. ورواه البزار - قال الهيثمي: وفيه محمد بن ماهان، قال الدارقطني: ليس بالقوي. وبقية رجاله ثقات - عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما. ورواه الدارمي وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. والبزار والطبراني، ورجال البزار رجال الصحيح - قال الهيثمي - عن ابن عباس رضي الله عنهما. والبزار بسند فيه أبو أمية بن يعلى قال الهيثمي: وهو ضعيف - عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس منا من لم يتغن بالقرآن. بلفظ أبي هريرة، إلا قوله: القرآن. قال النووي في التبيان، وفي إسناد سعد اختلاف لا يضر.

ورواه أبو عبيد في الفضائل والغريب، عن عبد الله بن أبي نهيك قال: دخلت على سعد رضي الله عنه، فرأيته رث المتاع، رث المثال، فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس منا من لم يتغن بالقرآن. ورجح أبو عبيد أن المراد بالتغني، ضد الفقر. قال: ومنه الحديث الآخر: "من قِرأ القرآن، فرأى أن أحداً أعطى أفضل مما أعطى، فقد عظَّم صغيراً، وصغَّر عظيماً. انتهى. ولا شك أنه محمل حسن، ولكنه لا ينفي المعنى الآخر، الذي نقله النووي عن جمهور العلماء، للأحاديث الصريحة في تحسين الصوت، فيكون المراد بالتغني الأمران معاً: الغناء: والغنى. ورواه أبو داود، والطبراني - قال الهيثمي: ورجاله ثقات - عن ابن

أبي مليكة قال: قال عبيد الله بن أبي يزيد: مر بنا أبو لُبابة، فاتبعناه حتى دخل بيته، فدخلنا عليه، فإذا رجل رث البيت، رث الهيئة، فسمعته يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ليس منا من لم يتغن بالقرآن. قال: فقلت لابن أبي مليكة، يا أبا محمد، أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت؟. قال: يحسنه ما استطاع. وروى ابن ماجة عن أبي موسى رضي الله عنه، والحاكم عن البراء رضي الله عنه وعبد الرزاق عن عائشة وبريدة رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استمع قراءة أبي موسى رضي الله عنه فقال: لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود. وروى أبو يعلى الموصلي - قال الهيثمي: وفيه خالد بن نافع الأشعري وهو ضعيف - عن أبي موسى رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعائشة رضي الله عنهما مرا بأبي موسى وهو يقرأ في بيته، فقاما يستمعان لقراءته، ثم إنهما مضيا، فلما أصبح، لقي أبا موسى رضي الله عنه، فقال: يا أبا موسى، مررتُ بك البارحة ومعي عائشة وأنت تقرأ في بيتك، فقمنا واستمعنا، فقال أبو موسى: أما إني يا رسول الله لو علمت، لحبرتُه لك تحبيراً.

وروى أحمد بن منيع في مسنده عن أنس رضي الله عنه، أن أبا موسى رضي الله عنه، كان يقرأ ذاتَ ليلة، ونساءُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يستمعن، فقيل له. فقال: لو علمتُ لحبَّرت تحبيراً، ولشوقت تشويقاً. ولأبي عبيدة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد، فسمع قراءة رجل، فقال: من هذا؟ ، فقيل: عبد الله بن قيس فقال: لقد أوتي هذا من مزامير آل داود عليه السلام. وله عن أبي سلمة رضي الله عنه قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا رأى أبا موسى رضي الله عنه قال: ذكِّرنا ربنا يا أبا موسى، فيقرأ عنده. وقال النووي في التبيان: وروى الدارمي وغيره بأسانيدهم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان يقول لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: ذكِّرنا ربنا، فيقرأ عنده القرآن. وروى الطبراني بسند فيه سعيد بن زَرْبِي وهو ضعيف، عن

علقمة قال: كنت رجلاً قد أعطاني الله حسن الصوت، فكان ابن مسعود رضي الله عنه يرسل إلي فأقرأ عليه القرآن، فكنت إذا فرغت من قراءتي قال: زدنا من هذا، فداك أبي وأمي، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: حسن الصوت زينة القرآن. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقرأ القرآن، فقال: رحمه الله، لقد أذكرني كذا وكذا آية قد كنت أسقطها من سورة كذا وكذا. وفيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار، ومنهم حكيم إذا لقي الخيل - أو قال: العدو - قال لهم: إن أصحابي يأمرونكم أن تنظروهم.

تحريم التلحين في قراءة القرآن

تحريم التلحين في قراءة القرآن وللطبراني في الأوسط، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه رضي الله عنه قال: كانت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدّ، ليس فيه ترجيع. قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفه. ولأبي عبيد في الفضائل، والطبراني في الأوسط، عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الكتابين، وأهل الفسق، فإنه سيجيء بعدي قوم يرجِّعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية والنوح، لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب من يعجبه شأنهم. قال الهيثمي: وفيه بقية، وراوٍ لم يسمَّ. وللدارمي عن الأعمش قال: قرأ رجل عند أنس رضي الله عنه بلحن من هذه الألحان، فكره ذلك أنس رضي الله عنه. ما جاء في الإِسرار والجهر بالقراءة قي الصلاة وغيرها ولأبي داود - قال النووي في شرح المهذب: بإسناد صحيح -

والنَّسائي وعبد بن حميد، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، وهو في قبة له، فكشف الستر وقال: ألا إن كلكم يناجي ربه فلا يؤذِينَّ بعضكم بعضاً، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة، أوقال في الصلاة. ورواه أحمد بنحوه، عن ابن عمر رضي الله عنهما. ورواه أحمد من طريق مالك. وفي التبيان للنووي، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن رجلًا قال له: إني أقرأ المفصل في ركع واحدة، فقال عبد الله رضي الله عنه: هذًّا كهذِّ الشعر؟.. إن أقواماً يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع. رواه البخاري ومسلم، وهذا لفظ مسلم. ورواه أبو عبيد، من طريق مالك أيضاً، عن أبي حازم التمار، عن البياضي قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس وهم يصلون، وقد علت

أصواتهم، فقال: إن المصلي يناجي ربه، فلينظر بما يناجيه، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن. ولأبي عبيد عن علي رضي الله عنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرفع الرجل صوته بالقراءة في الصلاة، قبل العشاء الآخرة، وبعد، يُغَلِّطُ أصحابه. وله عن أبس سلمة بن عبد الرحمن قال: سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن حذافة رضي الله عنه، يقرأ في المسجد، يجهر بقراءته في صلاة النهار،فقال: يا ابن حذافة سمِّع الله، ولا تُسَمِّعنا. وله عن يحيى بن أبي بكر قال: قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن ههنا قوماً يجهرون بالقراءة في صلاة النهار؟. فقال: ارموهم بالبعر. وعن عمر بن عبد العزيز مثل ذلك. وله عن لقمان بن عامر قال: صلى رجل إلى جنب أبي مسلم الخولاني، فجهر بالقراءة، فلما فرغ أبو مسلم من صلاته، قال: يا ابن أخي أفسدت عليَّ وعلى نفسك. وللترمذي وحسنه، وأبي داود، والنَّسائي، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الجاهر بالقرآن، كالجاهر بالصدقة،والمسر بالقرآن، كالمسر بالصدقة.

قال الترمذي: معناه: أن الذي يسر بقراءة القرآن أفضل، ثم قال: لكي يأمن الرجل من العجب. وعند البيهقي في الشعب عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يَفْضُلُ عملُ السر على عمل العلانية سبعين ضعفاً. وللنسائي، وأبي عبيد، عن أم هانيء رضي الله عنها قالت: كنت أسمع قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا على عريشي. وقال أبو عبيد: عرشي. وقال: تعني بالليل. وروى ابن رجب: عن حذيفة رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصلي بصلاته، فافتتح الطُول، فقرأ قراءة ليس بالخفيضة، ولا بالرفيعة قراءة حسنة. يرتل فيها، يسمعنا. ولأبي داود الطيالسي.، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كنت

أسمع قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البيت وأنا في الحجرة. وللترمذي وقال: حسن صحيح غريب، ولأبي عبيد في كتاب "الفضائل"، وأبي داود والنَّسائي، عن عبد الله بن أبي قيس قال: سألت عائشة رضي الله عنها: كيف كانت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكان يُسِرُّ بالقراءة، أم يجهر؟. فقالت: كل ذلك قد كان يفعل، ربما أسر بالقراءة، وربما جهر. فقلت: الحمد للهِ الذي جعل في الأمر سعة. وروى محمد بن أبي عمر في مسنده عن يحيى بن يعمر قال: سألنا عائشة رضي الله عنها، فذكر نحوه.

المراد بحسن الصوت

ولأبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كانت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالليل يرفع طوراً، ويخفض طوراً. قال في التبيان: قال الغزالي: وطريق الجمع بين الأخبار في هذا: أن الإِسرار أبعد من الرياء، فهو أفضل في حق من يخاف ذلك، فإن لم يخف الرياء، فالجهر ورفع الصوت أفضل، لأن العمل فيه أكبر، ولأن فائدته تتعدى إلى غيره. والنفع المتعدي أفضل من اللازم، ولأنه يوقظ قلب القارىء، ويجمع همه إلى الفكر فيه، ويصرف سمعه إليه، ويطرد النوم. ويزيد في النشاط، ويوقظ غيره من نائم أو غافل وينشطه. قالوا فمهما حضره شيء من هذه النيات، فالجهر أفضل، فإن اجتمعت هذه النيات، تضاعف الأجر. انتهى. وقال في موضع آخر: وهذا كله فيمن لا يخاف رياء ولا إعجاباً، ولا نحوهما من القبائح، ولا يؤذي جماعة يُلْبِسُ عليهم صلاتهم، ويخلطها عليهم. انتهى. وأخرج أبو بكر الشافعي في الجزء الرابع من الغيلانيات، عن أنس رضي الله عنه قال: ما بعث الله نبياً إلا حسن الصوت، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسن الصوت، غير أنه لا يُرَجِّعُ. المراد بحسن الصوت ولابن ماجة عن سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -

قال: إن هذا القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتَبَاكَوْا وتغنَّوا به، فمن لم يتغن بالقرآن فليس منا. وللطبراني في الأوسط - قال الهيثمي: وفيه إسماعيل بن سيف، وهو ضعيف - وأبي يعلى عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأوا القرآن بالحزن، فإنه نزل بالحزن. ولابن ماجة عن جابر رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أحسن الناس صوتا بالقرآن، الذي إذا سمعته يقرأ، رأيت أنه يخشى الله. وهو عند الطبراني في الكبير، وفيه ابن لُهَيْعة - قال الهيثمي: وهو حسن الحديث وفيه ضعف - عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أحسن الناس قراءة، من إذا قرأ القرآن يتحزن به. وهو عند أبي عبيد عن طاووس مرسلًا، ولفظه: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الناس أحسن صوتاً بالقرآن؟ فقال: الذي إذا سمعتَه، رأيته يخشى الله. ورواه عبد بن حميد في مسنده موصولَاَ عن طاووس، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيل له: أي الناس أحسن قراءة؟. قال: الذي إذا سمعتَ قراءته، رأيتَ أنه يخشى الله عز وجل.

ثواب من يستمع القرآن

وكذا رواه الطبراني في الأوسط، والبزار، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه، ولفظه: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أحسن الناس صوتاً بالقرآن؟. قال: من إذا سمعتَ قراءته، رأيتَ أنه يخشى الله عز وجل. قال الهيثمي: وفيه حميد بن حماد بن خوار، وثقة ابن حبان، وقال: ربما أخطأ، وبقية رجال البزار رجال الصحيح. وقال المزني - في الشهادات عن الشافعي -: يحسن صوته بأي وجه كان وأحب ما يقرأ إليَّ حَدْرا وتحزينا. قال النووي في التبيان: قال أهل اللغة: يقال: حدرت بالقراءة. أدرجتها ولم تمططها. ثواب من يستمع القرآن وفي الفردوس عن أنس رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ القرآن في صلاة قائما، كان له بكل حرف مائة حسنة،، ومن استمع إلى كتاب الله، كان له بكل حرف حسنة.

تحزيب القرآن

وروى أحمد - بسند فيه عئاد بن ميسرة، ضعفه أحمد وغيره، ووثقه ابن معين في رواية، وضعفه في أخرى، ووثقه ابن حبان - عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من استمع إلى آية من كتاب الله تعالى، كتبت له حسنة مضاعفة، ومن تلاها كانت له نوراً يوم القيامة. قال النووي في التبيان: وروى الدارمي بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من استمع إلى آية من كتاب الله، كانت له نوراً. تحزيب القرآن ولأبي داود، وابن ماجة، عن أوس بن حذيفة رضي الله عنه قال: قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وفد ثقيف: فنزلت الأحلاف على المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وأنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني مالك في قبة له في المسجد - أو قال: بين المسجد وبين أهله. قال مسدد: وكان - يعني: أوساً - في الوفد الذي قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ثقيف، فكان كل ليلة يأتينا بعد العشاء فيحدثنا قائماً - وقال أبو عبيد: وهو قائم - حتى إنه ليراوح بين رجليه من طول القيام، وكان أكثر ما يحدثنا به ما لقي من قومه قريش - قال أبو عبيد: وكان أكثر ما يحدثنا شكايته قريشاً - ثم يقول: ولا سواء، كنا مستضعفين مستذلين - قال مسدد:

بمكة - فلما خرجنا إلى المدينة، كانت سجال الحرب بيننا وبينهم، نُدَال عليهم، ويدالون علينا. وقال أبو عبيد: فلما قَدِمْنا المدينة، انتصفنا من القوم، وكانت سجال الحرب بيننا، علينا ولنا. فلما كانت ذات ليلة أبطأ عن الوقت الذي كان يأتينا فيه. فقلنا: يا رسول الله لقد أبطأت علينا الليلة،. قال: إنه طرأ علي حزبي من القرآن فكرهت أن أجيء حتى أتمه - وقال أبو عبيد: أن أخرج من المسجد حتى أمضيَه - قال أوس: وسألت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف - (وقال أيو عبيد: فقلنا لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنه قد حدثنا أنه طرأ عليه حزبه من القرآن فكيف تحزبون القرآن؟ قالوا ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشر وثلاث عشر، وحزب المفصل وحْدَه. وقال أبو عبيد: ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور. وإحدى عشرة سورة، وحزب المفصل ما بين (ق) فأسفل.

فهذا الذي من هذه الأعداد الوترية - من ثلاث، إلى ثلاثَ عشرة - ثمانٍ وأربعون، وهي من أول البقرة، إلى آخر الحجرات. فإذا أضفت إلى ذلك الفاتحة مع ثمان أخرى، ليكون سبعاً وخمسين سورة - وهو النصف من عدد السورة القرآنية - كان ذلك إلى آخر سورة الحديد. وهو أربع وخمسون حزباً، وهي تسعة أعشار القرآن. ومن أول الواقعة إلى آخره عشر، وهو ستة أحزاب. وذلك سبع وخمسون سورة، نصف عدد السور. فينتظم من ذلك لغز، وهو: شيء يكون عشره مثل تسعة أعشاره سواء من غير زيادة.

وللبخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: تُوفًي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد قرأت المفصل.

وفي رواية أنه قال: جمعت المحكم في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال سعيد بن جبير: فقلت له: وما المحكم؟. قال: المفصل. ولأبي عبيد عن عائشة رضي الله عنها قالت: إني لأقرأ حزبي - أو قالت: سبعي - وأنا جالسة على فراشي، أو قالت: على سريري. وفي الموطأ عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، أنه قيل له: كيف ترى في قراءة القرآن في سبع؟. فقال زيد: حسن، ولأن أقرأه في نصف شهر، أو عشر أحب إليّ لكي أتدبره وأقف عليه. وللشيخين، وعبد الرزاق في جامعه، وأبي داود، والترمذي وقال: حسن صحيح، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألم أُخْبَرْ أنك تصوم الدهر، وتقرأ القرآن كل ليلة؟. قلت: بلى يا نبي الله، ولم أرِدْ بذلك إلا الخير. قال: فصم صوم داود عليه السلام وكان أعبد الناس، واقرأ القرآن في كل شهر. قلت: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك؟. قال: فاقرأه في عشر. قلت: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك. قال: فاقرأه في سبع، ولا تزد على ذلك. وفي رواية: فإن لزوجك عليك حقاً. ولزُوَّارك عليك حقاً. ولجسدك عليك حقاً. قال: فشدَّدت، فَشدِّد علي، وقال: إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر. قال: فصرت إلى الذي قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة نبي الله - صلى الله عليه وسلم -.

وفي رواية: أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كم يقرأ القرآن؟ قال: في أربعين. ثم قال: في شهر. ثم قال: في عشرين. ثم قال: في خمسة عشر يوماً. ثم قال: في عشر. ثم قال: في سبعة. ولم ينزل من سبعة. وفي رواية: قلت: أجد بي قوة فناقصني وناقصته، إلى أن قال: اقرأه في سبع لا تزد على ذلك، قلت: إني أجد بي قوة، قال: فإنه لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث. ولأبي عمرو الداني بسنده في كتاب "العدد" عن قيس بن أبي صعصعة رضي الله عنه، أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله في كم أقرأ القرآن؟. فقال: في كل خمسة عشر، فقال: إني أجدني أقوى من ذلك، قال: ففي كل جمعة. ولأبي عبيد: في كتاب الفضائل، عن حبان بن واسع، عن أبيه. عن سعد ابن المنذر الأنصاري رضي الله عنه، أنه قال: يا رسول الله أقرأ القرِآن في ثلاث؟ فقال: نعم إن استطعت، قال: فكان يقرؤه كذلك حتى تُوُفي. ورواه أحمد، وفي سنده ابن لُهَيْعة، عن حبان بن واسع به. وحديث ابن لهيعة حسن، وفيه ضعف. ولأبي عبيدة عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يختم القرآن في أقل من ثلاث. هذا الأولى، لكونه أرفق من الختم في أقل، وهو - صلى الله عليه وسلم - مشرِّع ما أحب إليه ما خفَّ على أمته.

وقد روى عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان يختم القرآن في ركعة، وكذا تميم الداري رضي الله عنه. ورواه عنهما أبو عبيد، وكذا عن تميم. وروى عن سليمان بن عتر التجيبي أنه كان يختم القرآن في الليلة ثلاث مرات، ويجامع ثلاث مرات، فلما مات، قالت امرأته: رحمك الله، إنْ كنت لتُرضي ربك وتُرضي أهلك، قالوا: وكيف ذلك؟ قالت: كان يقوم من الليل فيختم القرآن ثم يُلِم بأهله، ثم يغتسل، فيعود ويقرأ حتى يختم، ثم يلم بأهله ثم يغتسل فيعود ويقرأ حتى يختم، ثم يلم بأهله ثم يغتسل. فيخرج لصلاة الصبح. وفي تبيان النووي عن مسلم بن يسار قال: قال أبو أسيد رضي الله عنه: نمت البارحة عن وردي حتى أصبحت، فلما أصبحت استرجعت، وكان وردي سورة البقرة فرأيت في المنام كان بقرة تنطحني.

منع الجنب من قراءة القرآن

رواه ابن أبي داود. وروى ابن أبي الدنيا عن بعض حفاظ القرآن، أنه نام ليلة عن حزبه فأرى في المنام كان قائلاً يقول: عجبت من جسم ومن صحة. . . ومن فتى نام إلى الفجر والموت لا تؤمن خطفاته. . . في ظلم الليل إذا يسري. منع الجنب من قراءة القرآن ولأبي عبيد عن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرئنا القرآن على كل حال، إلا الجنابة. ولأبي عبيد - أيضاً - والبيهقي بإسناد - قال النووي: ضعيف - عن ثعلبة ابن أبي الكنود، عن مالك بن أبي جنادة الغافقي - وفي رواية: عبد الله بن مالك الغافقي - رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لعمر رضي الله عنه: إذا توضأت وأنا جنب، أكلت وشربتُ، ولا أصلي، ولا أقرأ، حتى اغتسل. وروى أحمد، وأصحاب السنن الأربعة، وابن خزيمة، وابن حبان. والحاكم والدارقطني، والبزار، والبيهقي، من طريق شعبة عن عمرو بن مرة، عن عبد الله ابن سَلمة، عن علي رضي الله عنه قال: لم يكن يحجب - وفي رواية: يحجز - النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القرآن شيء سوى الجنابة.

وصحح الحديث الترمذي: وابن السكَن، وعبد الحق، والبغوي في شرح السنة. وروى الدارقطني عن علي رضي الله عنه موقوفاً: اقرأوا القرآن، ما لم يصب أحدكم جنابة، فإن أصابته فلا، ولا حرفاً. وروى الترمذي، وابن ماجة، والبيهقي، وغيرهم، عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً من القرآن.

فضبلة إحياء الليل بتلاوة القرآن

والحديث ضعيف، لكن اجتماع هذه الشواهد أوصله إلى حيز الحجية. فضبلة إحياء الليل بتلاوة القرآن وللترمذي والطبراني وأبي نعيم، عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ ثلاثين آية في ليلة،، لم يضره تلك الليلة سبع ضارٍ، ولا لص طارق، وعوفي في نفسه وأهله وماله، حتى يصبح. وفي الباب عن عوف بن مالك، وابن عمر. وروى الدارمي عن الحسن مرسلا، وصاحب الفردوس عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ في ليلة مائة آية، لم يحاجه القرآن تلك الليلة، ومن قرأ في ليلة مائتي آية، كتب له قنوت ليلة، ومن قرأ في ليلة خمسمائة آية إلى الألف، أصبح وله قنطار من الأجر، قالوا: وما القنطار؟ قال: اثنا عشر ألفاً. وأخرجه أحمد وأبو يعلى، والنَّسائي في اليوم والليلة، والطبراني، - وأبو الشيخ عن تميم رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ في ليلة مائة آية، كتب له قنوت ليلة.

وللدارمي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: من قرأ ألف آية كتب له قنطار من الأجر، والقيراط من ذلك القنطار، لا تفي به دنياكم. وللطبراني في الكبير والأوسط، بإسناد - قال المنذري: حسن - عن فضالة بن عبيد، وتميم الداري، رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ عشر آيات في الليلة، كتب له قنطار، والقنطار خير من الدنيا وما فيها فإذا كان يوم القيامة يقول ربك: اقرأ وارق، لكل آية درجة، حتى ينتهي إلى آخر آية معه، فيقول الله عز وجل للعبد: اقبض. فيقول العبد بيده: يا رب أنت أعلم، يقول: لهذه الخلد، ولهذه النعيم. ولأبي داود، وابن خزيمة، وابن حِبان في صحيحه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية، كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين. قال المنذري: من سورة المُلْك إلى آخر القرآن، ألف آية، والله أعلم.

النهي عن الغلو في القرآن

ولمالك والستة - إلا البخاري - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من نام عن حزبه من الليل، أو عن شيء منه، فقرأه ما بهن صلاة الفجر، وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل. النهي عن الغلو في القرآن وروى أبو بكر بن أبي شيبة، والِإمام أحمد، وأبو يعلى، في مسانيدهم. والبزار وأبو عبيد في الفضائل، عن عبد الرحمن بن شبل الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: اقرأوا القرآن، ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به. وفي نسخة، ولا تستأثروا به. وشك أبو عبيد فقال: أو تستكثروا به. قال الهيثمي: ورجال أحمد ثقات. الغلوُّ: المبالغة المؤدية للملل، وهي ضد الجفوة. والمراد: التوسط والرفق، والاقتصاد.

يبَينه ما رواه أبو عبيد في الغريب، عن علي رضي الله عنه قال: خير هذه الأمة: النمط الأوسط، يلحق بهم التالي، ويرجع إليهم الغالي. النمط: الطريق. والغالي: المتعمق حتى يخرجه ذلك إلى إكفار الناس كنحو من مذاهب الخوارج، وأهل البدع. والجافي عنه: التارك له، وللعمل به. ولكن القصد بين ذلك. وروى أبو عبيد في الغريب - أيضاً - عن حذيفة رضي الله عنه، أن من أقرأ الناس للقرآن منافقاً لا يدع واواً ولا ألفاً، يَلْفِته بلسانه، كما تلفت البقرة الخَلَى بلسانها. اللفْت: الليّ. وفي حديث آخر: "إن الله (عز وجل) يبغض البليغ من الرجال. الذي يلفت الكلام كما تلفت البقرة الخلاء بلسانها.

وروى أبو يعلى عن حذيفة أيضاً، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن في أمتي قوماً يقرأون القرآن، ينثرونه نثر الدقل، يتأولونه على غير تأويله. وروى أبو يعلى بسند - قال الهيثمي: فيه أبو معشر نجيح، وهو ضعيف يُعتَبر بحديثه - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن لهذا القرآن شرة، وللناس عنه فترة، فمن كانت فترته إلى القصد فنعما هي، ومن كانت فترته إلى الِإعراض، فأولئك هم قوم بور. وروى الشيخان، وأبو داود، والنَّسائي - وهذا لفظ مسلم في أواخر باب الزكاة من روايات جمعت بينها - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. أن عليا رضي الله عنه بعث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو باليمن بذُهَيْبَة في تربتها، فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أربعة نفر: الأقْرَعُ بن حابِس الحَنْظَلي، وعُيَيْنَةُ ابنُ بَدْرٍ الفَزَارِيُ، وعَلْقَمةُ بنُ عُلَاثَةَ العامِرِي، ثم أحد بن كِلَاب، وزَيْدُ الخَيْر الطائي ثم أحد بني نبهان. فغضبت قريش فقالوا: يعطي صناديد نجدِ ويدعنا؟. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني إنما فعلت ذلك لأتألفهم. فجاء رجل

كث اللحية، مشرف الوجنتين، غائر العينين، ناتىء الجبين، محلوق الرأس، مَشَمِّرُ الإزار. وفي رواية: فأتاه ذو الخويصرة. وهو رجل من بني تميم فقال: اتق الله يا محمد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فمن يطيع الله إن عصيته، أيامنني على أهل الأرض ولا تأمنوني؟. ثم أدبر الرجل، فاستأذن خالد بن الوليد - رضي الله عنه - في قتله. وفي رواية: إن الذي استأذن في قتله عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دَعْهُ، فإن له أصحاباً يَحْقِر أحدُكم صلاته مع صلاتهم. وفي رواية: إن مِنْ ضِئْضِيء هذا قوماً أحْدَاثُ الأسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأحلام، يقولون: مِنْ خير قَولِ البَرِيَّة، يقرأون القرآن - وفي رواية: يتلون كتاب الله رطبا، لاِ يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام. ويدعون أهل الأوثان. وفي رواية: يمرُقون من الإسلام كما يَمْرُقُ السهم من الرمِيَّة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد.

وفي رواية عن أبي سعيد: يخرج في هذه الأمة - ولم يقل: منها - قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم. وفي رواية: يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم. وفي رواية: ليس صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرأون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم. وفي رواية: يقرأون القرآن لا يجاوز حلوقهم - أو حناجرهم - يمرُقون من الدين مروق السهم من الرميَّة، فينظر الرامي إلى سهمه، إلى نصله، إلى رصافه فيتمادى في الفوقة، هل علق بها شيء من الدمِ، آيتهم رجل أسود، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أول مثل البَضْعة تدَرْدَرُ، يخرجون على حين فُرْقَةٍ من الناس، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق. قال أبو سعيد: فاشهد أني سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشهد أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتُمس

فوجد، فأتي به، حتى نظرت إليه على نعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي نعت. وروى الطبراني عن جندب رضي الله عنه قال: لما فارقت الخوارج عليا رضي الله عنه، فخرج في طلبهم، وخرجنا معه، فانتهينا إلى عسكر القوم. وإذا لهم دوي كدوي النحل، من قراءة القرآن، وإذا فيهم أصحاب الثفِنات، أو أصحاب البرانس. أي لأنهم صارت لهم في وجوههم - من كثرة السجود - ثفنات البعير. وهو - بالمثلثة والفاء محركة - ركبته وما مس من الأرض من كركرته. فصار غليظا. وكأن رئيسهم يقال له: ذو الثفنات. والله الموفق. وروى ابن رجب عن عمر رضي الله عنه قال: إن أخوف ما أخاف عليكم ثلاثة: منافق يقرأ القرآن، لا يخطىء منه واواً ولا ألفا، يجادل الناس أنه أعلم منهم ليضلهم عن الهدى. وذلةُ عالم. وأئمة مضلون.

حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن

وفي رواية: إنما أخاف عليكم رجلين: رجل يتأول القرآن على غير تأويله ورجل ينافس الملك أخيه. وروى عن معاذ نحوه موقوفاً عليه. ومرفوعاً من وجوه، غير وجه. وعن أبي الدرداء، وسلمان، رضي الله عنهما. وروى عن عمر رضي الله عنه مرفوعاً. وفي بعض رواياتهم: وأباحوا النفاق بالقرآن. فإن للقرآن مناراً كمنار الطريق. ولأحمد. عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: هلاك أمتي في الكتاب واللين. قالوا: يا رسول الله، ما الكتاب واللين؟ قال: يتعلمون القرآن فيتأولونه على غير ما أنزل الله (عز وجل) ويحبون اللين، فيدعون الجماعات والجمع. حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن ولأبي عبيد في الفضائل، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: تعلموا القرآن، واسألوا الله به، قبل أن يتعلمه قوم يسألون به الدنيا، فإن القرآن يتعلمه ثلاثة نفر: رجل يباهى به. ورجل يستأكل به، ورجل يقرؤه لله تعالى.

وله عن عبادة بن الصامت قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم عليه مهاجر، دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن، فدفع إلي رجلا، فكنت أقرئه القرآن، فأهدي الي قوساً، فأخبرت بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: جمرة بين كتفيك تقلَّدتها. وله عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، أن ابَي بن كعب - رضي الله عنه -

أقرأ رجلا من أهل اليمن سورة، فرأى عنده قوساً، فقال: بعنيها. فقال: بل هي لك. فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. فقال: إن كنت تريد أن تقلَّد قوساً من نار فخذها. وفي رواية: لو تقوستها، لتقوست قوساً من نار. وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي رضي الله عنه: ألم أنهك عن فلان، فاردد القوس عليه، قال: فرددتها عليه. وزاد في هذه الرواية عن أبي رضي الله عنه، أنه قال: كنت أختلف إلى رجل مكفوف أقرئه القرآن، فكنت إذا أقرأته، دعا لي بطعام فأكلت منه، فحاك في نفسي منه شيء، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فقلت: يا رسول الله، إني أتاني فلان ابن فلان، فأقرئه القرآن، فيدعو لي بطعام، لا آكل مثله بالمدينة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن كان ذلك الطعام طعامه وطعام أهله الذين يأكلون فكل، وإن كان طعاماً يتحفك به، فلا تأكل. قال: فأتيته نحواً مما كنت آتيه، فلما فرغ قال: يا جارية هلمي طعام أخي فقلت له: أهذا طعامك وطعام أهلك الذي تأكل ويأكلون، فقال: لا، ولكني أتحفك به.

قال: قلت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهاني عنه.

النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود

النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود وللبخاري والنَّسائي، عن أنس رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا نعس أحدكم في الصلاة فلينصرف، حتى يعلم ما يقرؤه. ولمسلم عن علي رضي الله عنه قال: نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ راكعاً، أو ساجدا. ورواه البيهقي في الدعوات، من طريق الشافعي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إني نهيت أن أقرأ راكعا أو ساجدا، فأما الركوع فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ. ورواه أبو عبيد في الغريب، ولفظه: إني قد نهيت عن القراءة في الركوع والسجود، فأما الركوع فعظموا الله فيه، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فإنه قَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ. ورواه الدارمي في الصلاة من مسنده - عن ابن عباس أيضاً - ولفظه قال: كشف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر رضي الله عنه -

البكاء عند قراءة القرآن

فقال: أيها الناس، إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة. يراها السلم، أو ترى له، ألا إني نهيت أن أقرأ راكعاً، أو ساجداً. فذكره. البكاء عند قراءة القرآن وفي جامع الأصول، عن أسماء رضي الله عنها قالت: كان أبو بكر رضي الله عنه إذا قرأ القرآن كثير البكاء، في صلاة وغيرها. ولأبي عبيد في الفضائل والغريب، عن ابن مهدي، عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن أبيه رضي الله عنه قال: انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المِرْجل، من البكاء. وأخرج الحديث أبو داود (في الصلاة) ، والترمذي في الشمائل، من هذه الطريق، والنَّسائي في الصلاة والرقائق من غيرها، وابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما.

ما يفعله مدعو الإيمان عند سماع القرآن

وفي رواية أبِي داود، كأزيز الرحا. والأزيز يُعْنى به، غليان جوفه بالبكاء، وأصل الأزيز: الالتهاب والبكاء. وللطبراني عن جرير رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إني قارىء عليكم سُورةً، فمن قدر أن يبكي، وإلا فلْيَتَبَاكَ. ورواه أبو عبيد في الفضائل، عن عبيد بن عمير مرسلا، أنه - صلى الله عليه وسلم - أعادها عليهم ثلاث مرات، فلم يبكِ أحد، فقال في الثالثة: ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكَوْا. ولأبي عبيد، عن سليمان بن سحيم قال: أخبرني من رأى عمر رضي الله عنه يصلي، وهو يترجح، ويتمايل، ويتأوه، حتى لو رآه (غيره) ممن يجهله لقال: أصيب الرجل، وذلك لذكر النار، إذا مر بقوله تعالى: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرً) وشِبْه ذلك. ما يفعله مدعو الإيمان عند سماع القرآن وله عن أبي حازم قال: مَرَّ ابنُ عمر رضي الله عنهما برجل من أهل العراق ساقط والناس حوله، فقال: ما هذا؟ فقالوا: إذا قرىء عليه القرآن

أو سمع الله يذكر، خَرَّ من خشية الله، فقال ابن عمر: والله إنا لنخشى الله. وما نسقط. وله عن عكرمة قال: سألت أسماء - يعني: بنت أبي بكر رضي الله عنهما -: هل كان أحد من السلف يغشى عليه من الخوف؟ فقالت: لا، ولكنهم كانوا يبكون. وله عن أنس رضي الله عنه، أنه سئل عن القوم يُقرأ عليهم القرآن فيصعقون؟ فقال: ذاك فعل الخوارج. وله عن محمد بن سيرين وسئل عن رجل يقرأ عنده القرآن فيصعق. قال: ميعاد ما بيننا وبينهم: أن يجلس على حائط، ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره، فإن وقع، فهو كما قال. وقال ابن الجوزي في تفسير (سورة) الزمر من "زاد السير": وهو عند ابن رجب عن أبي نعيم. وقال عامر بن عبد الله بن الزبير: جئت أبي فقال: أين كنت؟. فقلت: وجدت قوماً ما رأيت خيراً منهم قط، يذكرون الله عز وجل، فيرعد أحدهم حتى يغشى عليه من خشية الله عز وجل، فقعدت بينهم، فقال: لا تقعد معهم بعدها. قال: فرآني كأنه لم يأخذ ذلك فيَّ، فقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلو القرآن، ورأيت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما يتلوان القرآن فلا يصيبهم هذا من خشية الله، أفتراهم أخشى لله من أبي بكر وعمر؟. قال: فرأيت أن ذلك كذلك، فتركتهم.

وقال عبد الله بن عروة بن الزبير: قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: كيف كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قرىء عليهم القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله تعالى: تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم. فقلت: إن ناساً اليوم إذا قرىء عليهم القرآن، خرّ أحدهم مغشياً عليه؟. فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وكان خوات يرعد عند الذكر. فقال له إبراهيم: إن كنت تملكه فما أبالي أن لا أعتَد بك، وإن كنت لا تملكه فقد خالفت من كان قبلك. وفي التبيان للنووي عن ابن أبي صالح قال: قدم ناس من أهل اليمن على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فجعلوا يقرأون القرآن ويبكون. فقال أبو بكر رضي الله عنه: هكذا كنا. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه صلى بالجماعة الصبح، فقرأ سورة يوسف عليه السلام، فبكى حتى سألت دموعه على ترقوته. وفي رواية: فبكى حتى سمعوا بكاءه من وراء الصفوف. انتهى. وقال ابن رجب: إن ابن عمر رضي الله عنهما قيل له: إن قوماً إذا قرىء عليهم القرآن يرقد أحدهم من خشية الله؟. قال: كذبت. قال المخبر له: بلى والله، قال: ويحك إن كنت صادقاً، فإن الشيطان ليدخل جوف أحدهم والله ما هكذا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال: وكذلك أنكر ذلك من التابعين خلق، منهم: ابن سيرين، وقتادة

وتلى قوله تعالى: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) . ثم قال: هذا نعت أولياء الله: تقشعر جلودهم، وتبكي أعينهم. وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم، والغشيان عليهم. إنما هذا من أجل البدع، وهذا من الشيطان. ثم قال ما حاصله: إن ذلك قد يحصل للصالح، لكن حال الصحابة رضي الله عنهم: أنهم يحملون ما يَرِدُ عليهم لقوة علمهم وإيمانهم، فلم يظهر

كراهة الجمع بين سورتين فأكثر في الركعة الواحدة

ما يظهر على من ضعف حاله، فإن كان مغلوباً لا تَسَبُّب له في ذلك، فهو معذور. كراهة الجمع بين سورتين فأكثر في الركعة الواحدة ولأبي عبيد عن ابن سيرين، أنه حدث أبا العالية، أن ابن عمر رضي الله عنهما يقرأ عشر سور في ركعة، فقال: قد كنت أفعله، حتى حدثني مع سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لكل سورة حَظُّها من الركوع والسجود. وله عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رجلاً أتاه فقال: قرأت القرآن في ليلة - أو قال: في ركعة - فقال ابن عمر: أفعلتموها؟ ، لو شاء الله لأنزله جملة واحدة، وإنما فصله لِتُعْطَى كل سورة حَظُّها من الركوع والسجود. وله عن غياث بن رزين، عن شيخ من المعافر، ذكر منه صلاحاً وفضلاً حدثه أن رجلا يُقال له: عَبَّاد، كان يلزم عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وكان امرءا صالحاً، فكان يقرأ القرآن، ويَقْرِن بين السور في الركعة الواحدة، فبلغ ذلك عبد الله بن عمرو، فأتاه عبَّاد يوما، فقال عبد الله بن عمرو: يا خائن أمانته ثلاث مرات، فاشتد ذلك على عبَّاد، فقال: غفر الله لك، أي أمانة بلغك أني خنتها؟. فقال أُخبرت أنك تجمع بين السورتين في الركعة الواحدة، فقال: إِني

لا أفعل ذلك، فقال: فكيف يوم تأخذك كل سورة بركعتها وسجدتها، أما إني لم أقل لك إلا ما قال لي رسول الله. ورواه ابن عبد الحكم - أيضاً - في فتوح مصر بنحوه. وقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين سور في ركعة، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة النساء. فيجمع: بأن هذا أولى. وذلك لبيان الجواز، أو لعلة اقتضت ذلك - (والله أعلم)

ما جاء في الصعق عند قراءة القرآن

ما جاء في الصعق عند قراءة القرآن وفي جامع الأصول عن أسماء رضي الله عنها قالت: القرآن أكرم من أن يزيل عقول الرجال، ما كان أحد من السلف يغشى عليه، ولا يصعق عند قراءة القرآن وإنما كانوا يبكون ويقشعرون، ثم تلين جلودهم وقلوبهم لذكر الله. ولأبي عبيد عن عائشة رضي الله عنها نحوه، ولفظه: أنه قيل لعائشة رضي الله عنها أن قوماً إذا سمعوا القرآن صعقوا، فقالت: القرآن أكرم من أن تنزف عنه عقول الرجال، ولكنه كما قال الله تبارك وتعالى: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) . ذم الرياء بقراءة القرآن ولمسلم والترمذي، والنَّسائي وابن خزيمة، وابن حبان، في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا كان يوم القيامة، وكل أمةٍ جاثيةٍ، فأول من يدعو به الله تعالى للقضاء: رجلٌ

جمع القرآن، ورجل قُتل في سبيل الله، ورجل كثيرُ المال، فيقول الله عز وجل للقارىء: الم أعلمْك ما أنزلت على رسولي فما عملت فيما علمتَ؟. قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله عز وجل له: كذبتَ، وتقول الملائكة له: كذبتَ. ويقول الله تعالى: بل أردتَ أن يقال: فلان قارىء، وقد قيل ذلك. وذكر الباقي إلى أن قال: ثم ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ركبتي وقال: يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تُسَعَّرُ بهم النار يوم القيامة. وروى الطبراني في الجزء الذي انتقاه عليه أبو بكر بن مردويه، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: الزبانية أسرع إلى فَسَقَة قراء القرآن، منهم إلى عبدة الأوثان. فيقولون: يُبْدَأْ بنا قبل عبدة الأوثان؟. فيقال لهم: ليس مَنْ عَلِمَ كمَنْ لا يعلم. وروى الطبراني في الأوسط - وفيه بكير بن شهاب الدامغاني، قال الهيثمي: وهو ضعيف - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جُبِّ الْحَزَنِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا جُبُّ الْحَزَنِ قَالَ: جُبّ في واد في قعر جهنم، تتعوذ منه جهنم كل يوم أربعمائة مرة، أعد للقراء المرائين بأعمالهم، وأن أبغض الخلق إلى الله، قارىء يُزَوِّرُ العمل.

لا يتكلم القاريء بكلام آخر وهو يقرأ

لا يتكلم القاريء بكلام آخر وهو يقرأ قال النووي في التبيان: وليعتد بما رواه ابن أبي داود عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه كان إذا قرأ القرآن، لا يتكلم حتى يفرغ مما أراد أن يقرأه. ورواه البخاري في صحيحه وقال: لم يتكلم حتى يفرغ منه. ذكره في كتاب التفسير في قول الله تعالى: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) . ولأبي داود - قال الِإمام صدر الدين المناوي في "تخريج أحاديث المصابيح": وسنده جيد، وله شواهد في صحيح مسلم وغيره - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: جلست في عصابة من ضعفاء المهاجرين، إن بعضهم ليستتر ببعض من العرى، وقارىء يقرأ علينا، إذ جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقام

الوقت الذي يستحب فيه ختم القرآن

علينا، فلما قام رسول الله ي سكت القارىء، ثم قال: ما كنتم تصنعون؟ قلنا: كنا نستمع إلى كتاب الله، فقال: الحمد للُه الذي جعل في أمتي من أُمرت أن أصبر نفسي معهم، قال: فجلس وسطنا، ليعدل بنفسه فينا، ثم قال بيده: هكذا فتحلقوا، وبرزت وجوههم، فقال: أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة، تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم، وذلك خمسمائة سنة. الوقت الذي يستحب فيه ختم القرآن وروى الدارمي عن جماعة - منهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه - قالوا: إذا قرأ الرجل القرآن نهاراً، صلت عليه الملائكة حتى يمسي، وإن قرأه ليلاً صلت عليه الملائكة حتى يصبح. قال سليمان - يعني الأعمش -: فرأيت أصحابنا يعجبهم أن يختموه أول النهار وأول الليل. ولفظ سعد رضي الله عنه: إذا وافق ختم القرآن أول الليل، صلت عليه الملائكة حتى يصبح، وان وافق ختمه آخر الليل، صلت عليه الملائكة حتى يمسي فربما بقي على أحدنا الشيء فيؤخره حتى يمسي، أو يصبح. قال أبو محمد: هذا حسن عن سعد، انتهى.

فضيلة الدعاء عند ختم القرآن

ومن المعلوم: أن مثل هذا، لا يقال من قبل الرأي، فهو مرفوع حكماً. والله الموفق. ورواه أبو عبيد في الفضائل، فقال: حدثنا هشيم، أنبانا العوام، عن ابراهيم التيمي قال: كان يقال: الرجل يختم القرآن في أول النهار صلت عليه الملائكة بقية يومه، وإذا ختمه أول الليل، صلت عليه الملائكة بقية ليلته قال: فكانوا يستحبون أن يختموا في أول النهار، أو في أول الليل. وله في الفضائل - أيضاً - عن أبي قلابة مرسلاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من شهد خاتمة القرآن، كان كمن شهد المغانم حين تقسم ومن شهد فاتحة القرآن، كان كمن شهد فتحاً في سبيل الله. فضيلة الدعاء عند ختم القرآن وله عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من ختم القرآن، فله دعوة مستجابة فكان عبد الله إذا ختم القرآن جمع أهله، ثم دعا وأمنوا على دعائه. وله عن قتادة قال: كان بالمدينة رجل يقرأ القرآن من أوله إلى آخره. على أصحاب له، فكان ابن عباس رضي الله عنهما يضع عليه الرقباء، فإذا كان عند الختم، جاء ابن عباس رضي الله عنهما فشهد ذلك. وفي التبيان للنووي: أنه رواه الدارمي، وابن أبي داود.

وقال: وروى ابن أبي داود عن عمرو بن مرة التابعي قال: كانوا يحبون أن يختم القرآن من أول الليل، أو من أول النهار. وعن طلحة بن مصرِّف التابعي الجليل قال: من ختم القرآن أية ساعة كانت من النهار، صلت عليه الملائكة حتى يمسي، وأية ساعة كانت من الليل صلت عليه الملائكة حتى يصبح. وعن مجاهد نحوه. وقال: وروى ابن أبي داود بأسانيده الصحيحة عن الحكم بن عتيبة التابعي الجليل قال: أرسل إليَّ مجاهد وعنده ابن أبي لبابه، فقالا: إنا أرسلنا إليك لأنا أردنا أن نختم القرآن، والدعاء يستجاب عند ختم القرآن. وفي بعض الروايات الصحيحة، أنه كان يقال: إن الرحمة تنزل عند خاتمة القرآن. انتهى. وللطبراني عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ صلى صلاةً فرضيةً فله دعوةٌ مستجابةٌ، ومن خَتَم القرآن فله دعوة مستجابة. قال الحافظ نور الدين الهيثمي في مجمع الزوائد: وفيه عبد الحميد بن سليمان وهو ضعيف. وله عن ثابت، أن أنس بن مالك رضي الله عنه، كان إذا ختم القرآن، جمع أهله وولده، فدعا لهم.

إنزال القرآن من سبعة أبواب

قال الهيثمي: رجاله ثقات. ورواه ابن أبي داود - كما قال النووي في التبيان - بإسنادين صحيحين عن قتادة قال: كان أنس بن مالك رضي الله عنه إذا ختم القرآن. جمع أهله ودعا. قال: وروى الدارمي بإسناده عن حميد الأعرج قال: من قرأ القرآن ثم دعا أمَّن على دعائه أربعة آلاف ملك. انتهى. إنزال القرآن من سبعة أبواب ولأحمد والطبراني، وابن أبي داود في كتاب المصاحف، عن فلفلة الجعفي قال: فزعت فيمن فزع إلى عبد الله في المصاحف، فدخلنا عليه. فقال رجل من القوم: إنا لم نأتك زائرين، ولكن جئنا حين راعنا هذا الخبر!!. فقال: إن القرآن أنزل على نبيكم من سبعة أبواب على سبعة أحرف - أو قال: حروف - وإن الكتاب قبلكم كان ينزل من باب واحد على حرف واحد، معناهما واحد. قال الهيثمي: وفيه عثمان بن حسان العامري، ذكره ابن أبي حاتم ولم يجرحه، ولم يوثقه، وبقية رجاله ثقات. انتهى.

وحديث الأبواب هذا روى من أوجه كثيرة. رواه أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده. وكذا أبو يعلى الموصلى في مسنده، ومن طريقه ابن حبان في صحيحه والبيهقي في كتاب المدخل. ومثله لا يقال بالرأي، فهو مرفوع حكما. وفي بعض الطرق التصريح برفعه إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه تفسير السبعة الأحرف: بزاجر وآمر، وحلال وحرام، ومحكم ومتشابه، وأمثال (1) . ورواه الإمام أحمد عن ابن مسعود مختصراً.

_ (1) نقل الطحاوي عن أحمد بن أبي عمران أنه قال: من قال في تأويل السبعة الأحرف هذا القول فتأويله فاسد، لأنه محال أن يكون الحرف منها حراماً لا ما سواه، أو يكون حلالاً لا ما سواه، لأنه لا يجوز أن يكون القرآن يقرأ على أنه حلال كله، أو حرام كله، أو أمثال كله. قال أبو شامة: وعندي لهذا الأثر - أيضاً - تأويلان آخران: أحدهما: ذكره أبو علي الأهوازي في كتاب "الإيضاح"، والحافظ أبو العلاء في كتاب "المقاطع": أن قوله "زاجر وآمر - إلى آخره - استئناف كلام آخر، أي هو كذلك، ولم يرد به تفسير الأحرف السبعة وإنما توهم ذلك من توهمه، لاتفاقهما في العدد، وهو السبعة. وروى: زاجرا، وآمراً، بالنصب، أي نزل على هذه الصفة من سبعة أبواب على سبعة أحرف، ويكون المراد بالأحرف غير ذلك. التأويل الثاني: أن يكون ذلك تفسيرا للأبواب، لا للأحرف، أي هذا سبعة أبواب من أبواب الكلام وأقسامه وأنواعه، أي أنزله الله تعالى كائناً من هذه الأصناف، لم يقتصر به على صنف واحد، بخلاف ما يحكى أن الإنجيل كله مواعظ وأمثال. راجع: المرشد ص 108.

وعزاه شيخنا العلامة مقرىء زمانه شمس الدين محمد، بن محمد، بن محمد ابن علي، بن الجزري، الدمشقي الشافعي، في أوائل كتابه "النشر في القراءات العشر" إلى الطبراني، من حديث عمر بن أبي سلمة المخزومي رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لابن مسعود: إن الكتب كانت تنزل من السماء من باب واحد، وإن القرآن أنزل من سبعة أبواب على سبعة أحرف: حلال وحرام، ومحكم ومتشابه، وضرب أمثال، وأمر وزجر، فأحل حلاله، وحرم حرامه، واعمل بمحكمة، وقف عند متشابهه، واعتبر أمثاله، فإن كُلًا من عند الله وما يذكَّر إلا أولو الألباب. وكذا أخرجه الحافظ نور الدين الهيثمي في مجمع الزوائد عن الطبراني. عن عمر بن أبي سلمة به، وقال: وفيه عمار بن مطر، وهو ضعيف جداً. وقد وثقه بعضهم. انتهى.

وَقَد عَدَّ الحروف سبعاً، فلما سَبَّب عنها قوله: "فأحل حلاله" إلى آخره. جعلها خمساً، فأسقط الأمر والنهي، لدخولهما في الحلال والحرام. وذلك موافق لما رواه البيهقي في فضل القرآن من "الشُعب" عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: نزل القرآن على خمسة أوجه: حلال وحرام. ومحكم ومتشابه، وأمثال. والمراد - والله أعلم - بالباب: الحسي. وبالحرف الواحد من الكتاب الأول: اللغة التي هي الروايات في الألفاظ. فتصير خاصة القرآن في هذا الحديث: نزوله من سبعة أبواب من أبواب السماء. والمراد بالحروف التي فُصِّل إليها القرآن في هذا الحديث: الوجوه المذكورة. والمراد بها في الأحاديث الآتية: اللغات التي خص القرآن من بين الكتب السالفة بجواز القراءة بها، على أنها (قراءة) ، لا ترجمة وتفسير. تنبيها على عموم الدعوة، وشرف اللغة التي نزل بها واتساعها، والتخفيف على أهلها. قال الإِمام أبو جعفر بن جرير في مقدمة التفسير: كل كتاب تقدم نزوله كتابنا فإنما نزل بلسان واحد، متى حُوِّل إلى غيره، كان ترجمة له وتفسيراً لا تلاوة، وكتابنا أنزل بألسن سبعة، بأى واحد منها تلاه التالي، كان تالياً له على ما أنزل الله، ولا يصير مترجماً له ولا مفسراً، حتى يتحول عن جميع تلك الألسن السبعة إلى غيرها. فهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: كان الكتاب الأول ينزل على حرف واحد، ونزل القرآن على سبعة أحرف.

لكل آية ظهر وبطن وحد ومطلع

لكل آية ظهر وبطن وحد ومطلع وروى البغوي في "شرح السنة"، عن علي بن زيد، عن الحسن البصري مرسلاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف، لكل آية ظهر وبطن، ولكل حد ومطلع. ورواه الطبراني في الأوسط، وأبو يعلى ورجاله ثقات، والبزار. قال ابن رجب: وابن حبان في صحيحه، وابن جرير. وفي رواية للطبراني: أن عبد الله رضي الله عنه قال: إن هذا القرآن ليس منه حرف، إلا له حد، ولكل حد مطلع. وسياق ابن رجب: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله، وإن القرآن نزل على سبعة أحرف، لكل آية ظهر وبطن، ولكلِّ حدّ ومطلع. وقال: غريب جداً. ولعل آخر الحديث مدْرَج من قول ابن مسعود رضي الله عنه، فإنه قد روى من قوله من وجه آخر، أخرجه أبو نعيم بإسناد غريب. وذكر الظهر والبطن روى من أوجه كثيرة.

تفسير الظهر والبطن والحد والمطلع

منها: عند ابن حميد - ونحوه - في كتاب "الأدب"، عن عبد الرحمن بن عوف القرشي، وليس أحد العشرة، بل غيره. قال أبو حاتم الرازي وغيره: ورواه أبو عبيد في الفضائل والغريب عن الحسن رحمه الله، ولفظه: ما أنزل الله آية، إلا لها ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع. تفسير الظهر والبطن والحد والمطلع وقال الحسن: الظهر هو الظاهر، والبطن هو السر، من قول الجاهلية: ضربت أمري ظَهْراً لِبَطْنٍ. والحد: هو الحرف الذي فيه علم الخير والشر.

والمطلع: الأمر والنهي. وفي رواية أنه قيل: إنها المطلع. قال: يطلع قوم يعملون به. وقال أبو عبيد في الغريب: أحسبه - يعني: الحسن - ذهب إلى قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما من حرف - أو قال: آية - إلا قد عمل بها قوم، أو لها قوم سيعملون بها. فإن كان هذا إلى هذا، فهو وجه. وإلا، فإن المطلع في كلام العرب، هو المأتي الذي يؤتي منه، حتى يعلم علم القرآن من ذلك المأتي. والمصعد: يصعد إليه في معرفة علمه. وقال في كتاب الغريب أيضاً في تفسير - هول المطلع -: قال الأصمعي: المطلع: موضع الاطلاع من إشراف إلى نجد. قال أبو عبيد: فشبه ما أشرف عليه من أمر الآخرة بذلك. وقد يكون المطلع: المصعد من أسفل إلى المكان المشرف، وهذا من الأضداد. وقال أبو عمرو: مطلع: مأتى، يؤتي منه.

وهو شبيه المعنى بالقول الأول. يقال: مطلع هذا الجبل من مكان كذا أي مصعده وماتاه. والظهر والبطن: قال الحسن: العرب تقول: قلبت أمري ظَهْراً لِبَطْن. وقال غيره: الظهر: لفظ القرآن، والبطن: تأويله. وفيه قول ثالث - وهو عندي أشبه الأقاويل بالصواب - وذلك: أن الله تعالى قد قص أنباء القرون الظالمة، فأخبر بذنوبهم، وما عاقبهم به، فهذا هو الظهر. إنما هو حديث حدثك به عن قوم، فهو في الظاهر خبر. وأما الباطن منه: فإنه صير ذلك الخبر عظة لك، وتحذيراً وتنبيهاً أن تفعل فعلهم، فيحل بك ما حل بهم من عقوبة، انتهى. فصار الذي تحصل من هذا أن الظهر: ما كان فهمه ظاهراً من الكلام. والبطن: ما اختص بفهمه الفَطِنُ من المعاني التي لا يوصل إليها إلا بالتأمل. والحد: غاية ما ينتهي إليه من الظاهر والباطن. فإن الحد: طرف الشيء. والمطلع: الطريق الموصل إلى ذلك الحد. فالمراد منه: أن الله سبحانه لم يخاطبنا بشيء إلا وفهمُه ممكن، إما للكافة أو للخاصة، أو لخاصة الخاصة الذين يطلعهم الله تعالى على ذلك الطريق الموصل إلى الحد والله أعلم.

وقال الِإمام شهاب الدين عمر بن محمد السهروردي في الباب الثاني من كتاب "عوارف المعارف " بعد رواية أثر عبد الله بن مسعود هذا: وهذا الكلام محرض لكل صاحب همة، أن يصغي إلى موارد الكلام، ويفهم دقائق معانيه، وغامض أسراره من قلبه. فللصوفي - بكمال الزهد في الدنيا، وتجريد القلب عما سوى الله تعالى - مطلع من كل آية، وله بكل مرة في التلاوة مطلع جديد، وفهم عتيد، وله بكل فهم عمل جديد. فَفَهْمفمْ يدعو إلى العمل، وعملهم يجلب صفاء الفهم، ودقيق النظر في معاني الخطاب. فمن الفهم علم، ومن العلم عمل، والعلم والعمل يتناوبان فيه، وهذا العمل آنفاً، إنما هو عمل القلوب، غير عمل القالب، وأعمال القلوب - للطفها وصقالتها - مشاكلة للعلوم، لأنها نيات وطويات، وتعلقات روحية وتأدبات قلبية، ومسامرات سرية، وكلما أتوا بعمل من هذه الأعمال رفع لهم علم من العلم، وأطلعوا على مطلع من فهم الآية جديد. ويخالج سرى أن يكون المطلع ليس بالوقوف بصفاء الفهم على دقيق المعنى وغامض السر في الآية، ولكن المطلع: أن يطلع عند كل آية على شهود المتكلم بها لأنها مستودع وصف من أوصافه، ونعت من نعوته، فتتحدد له التجليات بتلاوة الآيات وسماعها، ويصير له مراء منبئة عن عظيم الجلال.

ولقد نقل عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال: لقد تجلى الله تعالى لعباده في كلامه ولكن لا يبصرون. فيكون لكل آية مطلع من هذا الوجه. فالحد: حد الكلام. والمطلع: الترقي عن الكلام إلى شهود التكلم. وقد نقل عن جعفر الصادق - أيضاً -: أنه خرَّ مغشياً عليه وهو في الصلاة فسئل عن ذلك فقال: ما زلت أردد الآية حتى سمعتها من المتكلم بها. فالصوفي لما لاح له نور ناصية التوحيد، وألقى سمعه عند سماع الوعد والوعيد وقلبه بالتخلص عما سوى الله تعالى، صار بين يدي الله حاضراً شهيداً، يرى لسانه - أو لسان غيره - في التلاوة كشجرة موسى عليه السلام، حيث أسمعه الله منها خطابه إياه بإني "أنا الله "، فإذا كان سماعه من الله تعالى، واستماعه إلى الله، صار سمعُه بصرَه، وبصره سمعَه، وعلمُه عمله، وعملُه علمَه، وعاد آخرُه أوله، وأولُه آخره. ومعنى ذلك: أن الله تعالى خاطب الذر بقوله: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) فسمعت النداء على غاية الصفاء، ثم لم تزل الذرات تتقلب في الأصلاب. وتنتقل إلى الأرحام، قال الله تعالى: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) . يعني: تقلب ذرتك في أصلاب أهل السجود من آبائك الأنبياء، فما زالت تنتقل الذرات حتى برزت إلى أجسادها، فاحتجبت بالحكمة عن القدرة، وبعالم الشهادة عن عالم الغيب، وتراكم ظلماتها بالتقلب في الأطوار.

اشتمال القرآن على جميع العلوم

فإذا أراد الله تعالى بالعبد حسن الاستماع بأن يصيره صوفياً صافياً، لا يزال يرقيه في رتب التزكية والتحلية، حتى يخلص من مضيق عالم الحكمة إلى فضاء القدرة ويزال عن بصيرته النافذة سجف الحكمة، فيصير سماعه ب (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) كشفاً وعياناً، وتوحيده وعرفانه تبياناً وبرهاناً، وتندرج له ظلم الأطوار في لوامع الأنوار. انتهى. وقال الِإمام ولي الدين محمد بن أحمد الملَّوى في كتاب "تبيين معادن المعاني": قال بعض الصديقين: فالحد والمطلع يدق أمرهما ويغمض، ويختص بدركهما الأكابر العارفون، وقد يضيق عن كثير منه نطاق النطق. والظهر: سهل لكل وارد، وفيه يتكلم علماء الرسوم. وأما البطن: فيكاد يختص به أرباب القلوب، وعلماء الحقائق، قد علم كل أناس مشربهم. ثم (قال) : إن مطلع كل حرف هو المأتى الذي يؤتي منه. انتهى. اشتمال القرآن على جميع العلوم وروى أبو عبيد أيضاً عن عبد الله - هو ابن مسعود رضي الله عنه - قال: إذا أردتم العلم فأثيروا القرآن، فإن فيه خبر الأولين والآخرين.

ورواه الطبراني - قال الهيثمي بأسانيد رجال أحدها رجال الصحيح - ولفظه: من أراد العلم فليثور القرآن، فإن فيه علم الأولين والأخرين. وعزا ابن رجب في كتاب "الاستغناء بالقرآن " هذا اللفظ إلى يعقوب بن أبي شيبة في مسنده. وروى يعقوب بن أبي شيبة عنه - أيضاً - رضي الله عنه أنه قال: إن الله عز وجل أنزل في هذا القرآن تبيان كل شيء، وأن علمنا يقصر عنه. وروى أبو خيثمة زهير بن حرب في كتاب "العلم" عن مسروق قال: ما نسأل أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - عن شيء، إلا وعلمه في القرآن، إلا أن علمنا يقصرعنه. وروى عبد بن حميد في تفسيره عن علي رضي الله عنه قال: ما من شيء إلا علمه في القرآن، ولكن رأى الرجال يعجز عنه. وروى البزار في مسنده من طريق شهر، عن عبد الرحمن بن غنم، أن الحارث ابن عميرة بكى عند معاذ رضي الله عنه حين احتضر معاذ، وقال له: إنما أبكي لما يفوتني منك من العلم، فقال معاذ: إن الذي تبغي من

العلم بين لوحي المصحف، فإن أعياك تفسيره، فأطلبه من ثلاثة: عويمر أبي الدرداء أو سلمان الفارسي، أو ابن أم عبد. وإياك وذلة العالم، وجدال منافق بالقرآن. وللبخاري عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟. قال: لا والذي فلق الحب، وبرأ النسمة ما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟. قال: العقل. وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر. قال الحافظ زين الدين بن رجب: سبب هذا السؤال: أن غلاة الشيعة زعمت أن القرآن جزء يسير من الوحي، وأن جميعه عند علي، وأنه اختص بعلم تلك الأجزاء كلها هو وذريته، فلذا كان إذا سئل - هو أو أحد من ذريته - اشتد نكيره. وللشيخين عن طلحة بن مُصرِّف قال: سألت ابن أبي أوفى: أأوصى النبي - صلى الله عليه وسلم -؟. قال: لا. قلت: كيف كتب على الناس الوصية ولم يوص؟. قال: أوصى "بكتاب الله عز وجل".

وروى الإِمام أحمد عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قعدوا يتحدثون في الفقه، كانوا يأمرون أن يقرأ رجل سورة. ولأبي عبيد عن مسروق قال: ما يسأل أصحاب محمد عن شيء إلا وعلمه في القرآن، ولكن علمنا يقصر عنه. وله عن الحسن - رحمه الله - قال: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يُعلم فيما أنزلت، وما أراد بها. وله عن عمرو بن مرة قال: إني لأمرُّ بالمثل من كتاب الله لا أعرفه فأغتم به لقول الله تبارك وتعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) . وله عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: لو أَعْيَتْني آية من كتاب الله. فلم أجد أحداً يفتحها عليَّ إلا رجلًا بِبَرْكِ الغِمَاد لرحلتَ إليه. قال: وهو أقصى حِجْر باليمن. هذا، ولما لم يجمع كتاب من الكتب السالفة هذه الحروف التي فصل إليها هذا الحديث الذي رواه ابن مسعود، وكانت جامعة لصلاح الدارين. أفرد كتابنا بالذكر، ففصل ما فيه، ولم يذكر أحوال الكتب الماضية في ذلك، لأنه لم يجمع كتاب منها جميع هذه الأحرف السبعة.

إنزاله على سبعة أحرف

وإن ادعى أنَّ الإنجيل جمعها، وسلم ذلك، لم يقدر أحد أن يقول: إنه فصلها تفصيلاً يكفي أهل ذلك الدين جميعَ ما ينوبهم من غير احتياج إلى شيء آخر بخلاف القرآن، فإنه كاف، والله الهادي. ولأجل أن الكتب الُأوَل لم تكن كافية لمن أنزلت عليهم في كل أمر ينوبهم كانت تبعث فيهم الأنبياء لتسوسهم وتُعرفَهُم كل ما يجب عليهم. وإنما نحن فكتابنا كافٍ، ونزول عيسى عليه السلام إلينا في آخر الزمان، إنما هو لفتنة الدجال ويأجوج ومأجوج، ومثل ذلك مما لا تحتمله القوى. وقد طعن الحافظ أبو عمر بن عبد البر في هذا الحديث، وعلى تقدير صحته يزول عنه - بما قَررتُه - الإشكال، بأن في التوراة الحلال والحرام، وفي الإنجيل الأمر والنهى، وفي كل منهما المحكم والمتشابه. وفي الإنجيل والزبور الأمثال، فهي مفرقة في الكتب السالفة غير مجموعة في واحد منها. والله أعلم. إنزاله على سبعة أحرف وروى الِإمام أحمد والطبراني في الكبير، وأبو بكر بن أبي شيبة في

مسنديهما عن سمُرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنزل القرآنُ كل ثلاثة أحرف. وفي رواية: على سبعة أحرف. ورواه البزار في مسنده ولفظه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمرنا أن نقرأ القرآن. كما أقرَاناهُ، وقال: أنزل القرآن على ثلاثة أحرف، فلا تختلفوا فيه ولا تجافوا عنه. وفي رواية: ولا تحاجوا فيه، فإنه مبارك كله، اقرأوه كما أُقرِئْتُموه. ورواه الطبراني وقال: ولا تحاجوا فيه:. بدل: تجافوا عنه. قال الهيثمي: ورجال أحمد وأحد إسنادي الطبراني والبزار رجال الصحيح. ولا يخالف هذا ما يأتي من إنزاله على سبعة أحرف، لأن في تلك الأحاديث: أن السبعة ما كانت إلا بعد مراجعة، فربما حمل سمرة رضي الله عنه هذا الحديث عند الثالثة، فاستمر يرويه ثم استمرت المراجعة إلى تمام السبعة، ولم يسمع تمام المراجعة. أو سمعها - كما في إحدى رواياته - ورأى أن الثلاثة لا تنافي ما فوقها فإنه ليس فيها نفي له. وروى الطبراني عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، كلها شافٍ كافٍ.

ورواه الطبراني - أيضاً - عن معاذ بن جبل موقوفاً عليه. ومثله لا يقال بالرأي. قال الهيثمي: ورجاله ثقات. ولمسلم وغيره عن أبي بن كعب رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عند أضاة بني غفار، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتُك القرآن على حرف، فقال: أسال الله معافاته ومغفرته، وإني أمتي لا تطيق ذلك ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين. فقال: أسال الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك. ثم جاءه الثالثة - فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف، فقال: أسال الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيُما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا.

وفي رواية لابن جرير: فمن قرأ منها حرفاً، فهو كما قرأ. وفي رواية لأبي داود: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أبي إني أقرئت القرآن، فقيل لي: على حرف أو حرفين؟. فقال الملك الذي معي: قل على حرفين، فقلت: على حرفين. فقيل لي: على حرفين أو ثلاث؟. فقال الملك الذي معي: قل على ثلاث، فقلت: على ثلاث، حتى بلغ سبعة أحرف، ثم قال: ليس منها إلا شاف كاف، إن قلت: سميعاً عليماً، عزيزاً حكيماً، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب. وفي رواية الترمذي وقال: حسن صحيح: أن أبَيًّا رضي الله عنه قال: لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل، فقالوا: يا جبريل بعثت إلى أمة أميين، فيهم العجوز والشيخ الكبير، والغلام، والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتاباً قط، فقال لي: يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف. ورواه أبو داود الطيالسي عن أبي رضي الله عنه، أن جبريل عليه السلام أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أحجار المِرَا. فقال: يا جبريل. فذكر نحوه. ورواه ابن جرير عن أبي رضي الله عنه قال: لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه السلام عند أحجار المرا. فقال: إني بعثت إلى أمة أميين، منهم الغلام والخادم، والشيخ العاسي، والعجوز، فقال جبريل عليه السلام:

فليقرأوا القرآن على سبعة أحرف. وروى الإمام أحمد عن حذيفة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لقيت جبريل عليه السلام عند أحجار المرا. فذكره. وفي بعض طرقه: إن أمتك يقرأون القرآن على سبعة أحرف. وفي رواية: إن من أمتك الضعيف، فمن قرأ منهم على حرف، فليقرأ كما علم ولايرجع عنه. وفي رواية: فلا يتحول منه إلى غيره رغبة عنه. ورواه البزار - قال الهيثمي: وفيه عاصم بن بهدلة وهو ثقة وفيه كلام لا يضر وبقية رجاله رجال الصحيح - ولفظه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقي جبريل عليه السلام عند أحجار المرا فقال: إني أرسلت إلى أمة أمية وإلى من لم يقرأ كتاباً قط، فقال جبريل إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف، فقال: ميكائيل عليه السلام: استزده، فقال: اقرأ على حرفين، فقال ميكائيل: استزده، حتى بلغ سبعة أحرف. ورواه أبو عبيد في الفضائل، وأحمد، عن حذيفة رضي الله عنه. ولفظه: لقيت جبريل عليه السلام عند أحجار المرا، فقلت: يا جبريل إني أرسلت إلى أمة أمية فيهم، الرجل، والمرأة والغلام، والجارية، والشيخ الفاني - وقال أحمد: العاسي - الذي لم يقرأ كتاباً قط، فقال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف.

ورواه الطبراني والبزار بنحوه. والمرا: قال عبد الغافر الفارسي في "مجمع الغرائب" وابن الأثير في النهاية:. بكسر الميم: هي قباء، انتهى. وقال في القاموس: وأحجار المرا: قباء خارج المدينة، وأحجار الزيت: موضع داخل المدينة. وهذا بناء منه على أن المدينة: الموضع الذي فيه قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة وليس كذلك، بل هي اسم لجميع المحال التي كانت قبائل الأنصار مفرقة بها، فيما بين أحُد وعَيْر، وبني النضير وقريظة. فيكون المكان داخل المدينة. ويوجد في كثير من الكتب "أحجار المرى" بياء بعد الراء ممدوداً، كما هو الظاهر جمع مروة، مثل فروة وفرا. فنوع من الحجارة صلب براق، وكتابته بالياء وهم. وإن كان مقصوراً، جازت كتابته بالياء. والله أعلم.

بيان المراد بالأحرف السبعة

وسيأتي إن شاء الله بيان المراد بقوله: سميعاً عليماً، عزيزاً حكيماً، في سورة النحل. بيان المراد بالأحرف السبعة واختلفوا في المراد بسبعة أحرف. فقال المعظم: هي لغات. واختلفوا في معنى سبعة، هل هو الحصر، أو المبالغة؟. واختلف من قال بالحصر في التعيين: فعن أبي عبيد القاسم بن سلام: إنها لغة قريش، وهذيل، وثقيف. وهوازن وكنانة، وتميم واليمن. وعند بعضهم: خزاعة. وعند آخرين: الأزد، وربيعة. وعن علي وابن عباس رضي الله عنهم: أنه أنزل بلغة كل حي من أحياء العرب. وهذا يدل على أنهما فَهِمَا أن المراد بالسبعة: المبالغة، لا الحصر. قال أبو شامة في كتابه "المرشد الوجيز": وهذا هو الحق، لأنه إنما

أبيح أن يقرأ بغير لسان قريش توسعة على العرب، فلا ينبغي أن يوسع على قوم دون قوم، انتهى. وهذا في غاية الموافقة للأحاديث الذاكرة أن السبب في المراجعة: التخفيف على الأمة، والله الهادي.

وروى ابن جرير في مقدمة التفسير، وأبو عبيد في الغريب والفضائل. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: سمعت القراء فوجدتهم متقاربين فاقرأوا كما علمتم، وإياكم والاختلاف والتنطع، فإنما هو كقول أحدكم: هلم وتعال، وإنه من قرأ منكم على حرف، فلا يتحولن عنه إلى غيره. وقال ابن جرير: فمعلوم أن عبد الله رضي الله عنه لم يعن بقوله هذا من قرأ ما في القرآن من الأمر والنهي، فلا يتحول إلى قراءة ما فيه من الوعد والوعيد ونحو ذلك. وإنما عني: أن من قرأ بحرف، فلا يتحول منه إلى غيره رغبة عنه. وحرفه: قراءته.

تقول العرب لقراءة الرجل: حرف فلان، ولواحد من حروف الهجاء المقطعة: حرف، كما تقول للقصيدة: كلمة. فمن قرأ بحرف أبي، أو بحرف زيد، أو غيرهما من القراء، من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يتحول منه إلى غيره رغبة عنه، فإن الكفر ببعضه كفر بجميعه، والكفر بحرف من ذلك، كفر بجميعه. وروى البزار، وأبو يعلى، وابن جرير واللفظ له، عن أنس رضي الله عنه أنه قرأ: "إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأصوب قيلا" فقال له بعض القوم: يا أبا حمزة إنما هي: "وأقوم قيلا". فقال: أقوم، وأصوب، وأهدى واحد. وفي رواية غيره، سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول في قوله تعالى: "وأقوم قيلا" قال: وأصدق قيلا. فقيل له: إنما تقرأ: وأقوم. فقال: أقوم وأصدق واحد. قال الهيثمي: ورجال أبي يعلى رجال الصحيح، ورجال البزار ثقات. وللشيخين، وأبي عبيد، وابن جرير، عن ابن عباس رضي الله عنهما. أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أقرأني جبريل على حرف - قال ابن جرير فاستزدته فزادني، وقال الشيخان - فراجعته فزادني، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف.

قال ابن شهاب: بلغني أن تلك الأحرف إنما هي في الأمر يكون واحداً لا يختلف في حلال، ولا حرام. وللطبراني في الأوسط - قال الهيثمي: وفيه جعفر لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات - عن سليمان بن صرد رضي الله عنه قال: أتى محمداً - صلى الله عليه وسلم - المَلَكانِ، فقال أحدهما: اقرأ القرآن على حرف، فقال الآخر: زده، فما زال يستزيده حتى قال: اقرأ القرآن على سبعة أحرف. ولأبي عبيد، وأبي بكر بن أبي شيبة، والِإمام أحمد، والطبراني، وابن جرير عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه رضي الله عنه، أن جبريل عليه السلام قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأ القرآن على حرف، فقال له ميكائيل: عليه السلام: استزده. فاستزاده، فقال: على حرفين، فقال ميكائيل عليه السلام: استزده، فقال له: زدني، قال: خذه على ثلاث أحرف، حتى بلغ سبعة أحرف فسكت ميكائيل، فقال جبريل: على سبعة أحرف، كلها كاف شاف. كقولك، هلم وتعال، وأقبل، واذهب. وفي رواية: أدبر وأسرع وأعجل، ما لم تختم آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة.

قال الهيثمي: وفيه علي بن زيد بن جدعان، وهو ثقة سيء الحفظ. وقد توبع، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح. ورواه مُسَدد في تفسيره ولفظه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاني جبريل عليه السلام ومعه ميكائل عليه السلام، فقال جبريل: خذ القرآن على حرف. فأوما إليه ميكائيل: أن استزده، فقال: زدني، قال: خذه على حرفين فقال: استزده، فقال زدني، قال: خذه على ثلاثة أحرف، فكل مرة يومىء إليه: أن استزده، حتى بلغ سبعة أحرف، قال: فسكت ميكائيل، فقال جبريل: خذه على سبعة أحرف، كلها كاف شاف، كقول الرجل: هلم وأقبل، واذهب وأدبر ما لم تختم آية رحمة بعذاب، أو عذاب برحمة. وأخرجه الِإمام أحمد بإسنادين - قال الهيثمي: رجال أحدهما رجال الصحيح - والبزار، وأبو جعفر بن جرير الطبري في أول تفسيره، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف. عليم حكيم غفور رحيم. وفي رواية: أنزل القرآن على سبعة أحرف، فالمراء في القرآن كفر - ثلاث مرات - فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم فردوه إلى عالمه.

وفي رواية: فاقرأوا ولا حرج، ولكن لا تجمعوا ذكر رحمة بعذاب، ولا ذكر عذاب برحمة ورواه عنه - أيضاً - أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده، وابن حبان في صحيحه ولفظه: أنزل القرآن على سبعة أحرف: عليماً حكيما، غفوراً رحيماً. وروى الِإمام أحمد، والحميدي، وأبو يعلى، في مسانيدهم، وابن جرير والطبراني في الكبير - قال الهيثمي: ورجاله ثقات - عن أم أيوب الأنصارية رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: نزل القرآن على سبعة أحرف أيها قرأت، أصبت. وروى الِإمام أحمد، ومحمد بن يحيى بن أبي عمر، في مسنديهما عن عمرو ابن العاص، رضي الله عنه، أن رجلًا قرأ آية من القرآن، فقال له عمرو: إنما هي كذا وكذا، لغير ما قرأها الرجل، قال الرجل: هكذا أقرأنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتياه، فقال: يا رسول الله، آية كذا، وكذا، فقرأها عليه فقال: صدقت، فقال الآخر: أليس أقرأتنِيها - على نحو ما قرأها على صاحبه - فرد صاحبه عليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بلى، أنزل القرآن على سبعة أحرف. فأي ذلك قرأت، فقد أصبت. وفي رواية: فأي حرف قرأتم، فقد أصبتم، ولا تتماروا فيه، فإن المراء فيه كفر. ورواه الإمام أحمد، وأبو عبيد في الفضائل، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص قال: سمع عمرو بن العاص رجلا يقرأ آية من القرآن، فقال:

من أقرأكها؟. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فقد أقرأنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غيرهذا. فذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أحدهما: يا رسول الله آية كذا وكذا، ثم قرأها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هكذا أنزلت وقال الآخر: يا رسول الله، فقرأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: أليس هكذا يا رسول الله؟. فقال: هكذا أنزلت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فأي ذلك قرأتم أصبتم، ولا تماروا فيه، فإن المراء فيه كفر، أو آية الكفر قال الحافظ الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح، إلا أنه مرسل. وللبخاري والنَّسائي، وأبي عبيد، عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه سمع رجلًا يقرأ آية سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها على خلاف ذلك. قال: فأخذت بيده فانطلقت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك له، فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: اقرأ فكلاكما محسن، ولا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا. وروى أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو يعلى، في مسنديهما، عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنزل القرآن على سبعة أحرف. زاد أبو يعلى: ولكل آية منها ظهر وبطن. ورواه الطبراني عنه، ولفظه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر، ولكن صاحبكم خليل الله، ونزل القرآن على سبعة أحرف. لكل آية منها ظهر وبطن.

النهي عن المراء والجدال في القرآن

ورواه ابن جرير الطبري في مقدمة التفسير عنه أيضاً ولفظه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنزل القرآن على سبعة أحرف، لكل حرف منها ظهر وبطن. ولكل حرف حد. ولكل حد مطلع. ورواه ابن جرير - أيضاً - عن عبد الله رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف، كلها شافٍ كافٍ. النهي عن المراء والجدال في القرآن ولابن جرير عنه - أيضاً - رضي الله عنه قال: اختلف رجلان في سورة، فقال هذا: أقرأني النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال هذا: أقرأني النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره بذلك، قال: فتغير وجهه وعنده رجل فقال: اقرأوا كما علمتم - فلا أدري: أشيء أمر به، أم شيء ابتدعه من قِبَل نفسه - فإنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم على أنبيائهم. قال: فقام كل رجل منا وهو يقرأ على قراءة صاحبه. نحو هذا، أو معناه. ورواه أبو عبيد عنه رضي الله عنه وقال: فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده رجل أنتم له كذا وكذا - يعني: عليا رضي الله عنه - فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال علي - فلا أدري أشيء أسرَّه إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم أسمعه، أم علم الذي في نفسه فتكلم به -: قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمركم أن يقرأ كل أحد كما عُلّم.

وروى عن عبد الله أيضاً رضي الله عنه قال: تمارينا في سورة من القرآن، فقلنا: خمس وثلاثون، أو ست وثلاثون (آية) قال: فانطلقنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجدنا عليا رضي الله عنه يناجيه، قال: فقلنا: إنا اختلفنا في القراءة؟. قال: فاحمر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم على أنبيائهم، قال: ثم أسرَّ إلى علي رضي الله عنه أشياء، فقال لنا علي رضي الله عنه: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمركم أن تقرأوا القرآن كما عُلِّمتم. وروى الطبراني قي الكبير، والطبري في مقدمة التفسير، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أقرأني عبد الله ابن مسعود رضى الله عنه سورة أقرأنيها زيد رضى الله عنه وأقرأنيها أبي بن كعب رضي الله عنه، فاختلفت قراءاتهم، بقراءة أيهم آخذ؟. قال: فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: وعلي رضي الله عنه إلى جنبه، فقال علي: ليقرأ كل إنسان بما عُلِّم، كل حسن جميل. ولأحمد، وابن جرير وهذا لفظه وسياقه، عن علقمة قال: لما خرج

عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه من الكوفة، اجتمع إليه أصحابه، فودعهم ثم قال: لا تنازعوا في القرآن، فإنه لا يختلف، ولا يتلاشى، ولا يتغير لكثرة الرد، وإن شريعة الإِسلام واحدة، وحدوده وفرائضه فيه واحدة، لو كان شيء من الحرفين ينهي عن شيء مما أمر به الآخر، لكان ذلك الاختلاف. ولكنه جامع ذلك كله، لا تختلف فيه الحدود ولا الفرائض، ولا شيء من شرائع الإسلام، ولقد رأيتنا نتنازع فيه عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيأمرنا فنقرأ عليه، فيخبرنا أنا كلنا محسن. ولو أعلم أحداً أعلم بما أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني لطلبته حتى أزداد علْمَهُ (إلى) علمي، ولقد قرأت من لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعين سورة، وقد كنت علمت أنه يعرض عليه القرآن في كل رمضان، حتى كان عام قبض، فعرض عليه مرتين، فكان إذا فرغ أقرأ عليه، فيخبرني أني محسن، فمن قرأ على قراءتي فلا يدعها رغبة عنها، ومن قرأ على شيء من هذه الحروف، فلا يدعنَّهُ رغبة عنه، فإنه من جحد بآية - وفي رواية: بحرف منه - جحد به كله. ورواه الطبراني عن عبد الرحمن بن عابس، حدثنا رجل من همذان. من أصحاب عبد الله - وما سماه لنا - قال: لما أراد عبد الله أن يأتي المدينة. جمع أصحابه فقال: والله إني لأرجو أن يكون قد أصبح فيكم من الفضل ما أصبح في أجناد المسلمين من الدين والفقه، والعلم بالقرآن. إن هذا القرآن لا يختلف، ولا يستشنأ ولا ينفذ لكثرة الرد، فمن قرأ على حرف، فلا يدعه رغبة عنه، فإنه من يجحد بآية منه، يجحد به كله، فإنما هو كقول أحدكم لصاحبه: أعجل وحيهلا (1) .

_ (1) نصه في مسند الإمام أحمد: 3652 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ قَالَ حَدَّثَنَا رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ وَمَا سَمَّاهُ لَنَا قَالَ لَمَّا أَرَادَ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمَدِينَةَ جَمَعَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصْبَحَ الْيَوْمَ فِيكُمْ مِنْ أَفْضَلِ مَا أَصْبَحَ فِي أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الدِّينِ وَالْفِقْهِ وَالْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى حُرُوفٍ وَاللَّهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلَانِ لَيَخْتَصِمَانِ أَشَدَّ مَا اخْتَصَمَا فِي شَيْءٍ قَطُّ فَإِذَا قَالَ الْقَارِئُ هَذَا أَقْرَأَنِي قَالَ أَحْسَنْتَ وَإِذَا قَالَ الْآخَرُ قَالَ كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ فَأَقْرَأَنَا إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَالْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَالْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَالْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَاعْتَبِرُوا ذَاكَ بِقَوْلِ أَحَدِكُمْ لِصَاحِبِهِ كَذَبَ وَفَجَرَ وَبِقَوْلِهِ إِذَا صَدَّقَهُ صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يُسْتَشَنُّ وَلَا يَتْفَهُ لِكَثْرَةِ الرَّدِّ فَمَنْ قَرَأَهُ عَلَى حَرْفٍ فَلَا يَدَعْهُ رَغْبَةً عَنْهُ وَمَنْ قَرَأَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْحُرُوفِ الَّتِي عَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَدَعْهُ رَغْبَةً عَنْهُ فَإِنَّهُ مَنْ يَجْحَدْ بِآيَةٍ مِنْهُ يَجْحَدْ بِهِ كُلِّهِ فَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ أَحَدِكُمْ لِصَاحِبِهِ اعْجَلْ وَحَيَّ هَلًا وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ رَجُلًا أَعْلَمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنِّي لَطَلَبْتُهُ حَتَّى أَزْدَادَ عِلْمَهُ إِلَى عِلْمِي إِنَّهُ سَيَكُونُ قَوْمٌ يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ تَطَوُّعًا وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَارَضُ بِالْقُرْآنِ فِي كُلِّ رَمَضَانَ وَإِنِّي عَرَضْتُ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ مَرَّتَيْنِ فَأَنْبَأَنِي أَنِّي مُحْسِنٌ وَقَدْ قَرَأْتُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعِينَ سُورَةً. اهـ.

وروى أبو عبيد في غريب الحديث، عن عمر بن الخطاب، وأبى رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف، كلها كاف شاف. قال: وبعضهم يرويه: فاقرأوا كما علمتم. وروى هذا الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، من طريق البخاري مثل رواية أبي يعلى. ورواه الِإمام أحمد مختصراً. وروى الإِمام أحمد - أيضاً - وهذا لفظه، والحارث في مسنديهما، وابن جرير في مقدمة التفسير، وأبو عبيد في الغريب والفضائل، عن أبي الجهم - ويقال: أبو الجهيم - الأنصاري رضي الله عنه: أن رجلين اختلفا في آية من القرآن، قال هذا: تلقيتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال الآخر: تلقيتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: القرآن يقرأ على سبعة أحرف. وفي رواية للحارث: أن رجلين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تماريا في آية من القرآن، كلاهما يزعم أنه تلقاها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكلاهما ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سمعها منه. ذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فلا تماروا في القرآن، فإن مراء فيه كفر. قال الهيثمي: ورجال أحمد رجال الصحيح. وروى الحارث بن أسامة، وأبو يعلي في مسنديهما بسند منقطع، أن عثمان رضي الله عنه قال على المنبر: اذَكِّرُ الله رجلاً سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:

إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، كلهن كاف شاف، لما قام، فقاموا حتى لم يحصوا فشهدوا بذلك، ثم قال عثمان: وأنا أشهد معكم لأني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك. وسيأتي في سورتي النحل والفرقان أحاديث كثيرة من هذا. ويأتي هناك عن أبي عبيد: أنها متواترة المعنى. وللشيخين، وأبي عبيد، والدارمي، عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اقرأوا القرآن ما اتفقت - وفي رواية: ما ائتلفت - عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه.

ولأبي عبيد عن نافع بن سهيل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأ القرآن ما نهاك، فإذا لم يَنْهَكَ فَلَسْتَ تقرأ. أو قال: فلا تقرأه. وقال ابن رجب: وروى يعقوب بن أبي شيبة، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: اقرأ القرآن ما نهاك، فإذا لم ينهك فلست تقرؤه. وروى عن الحسن ومكحول، من قولهما. وروى مرفوعا عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما بإسناد لا يصح. وروى مسلم في القدر، والنسائي في فضائل القرآن والمواعظ، وأبو داود الطيالسي، ومُسَدد، وأبو بكر بن أبي شيبة، والحارث بن أبي أسامة، في مسانيدهم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: هجَّرت إلى رسول الله - سبب يوما، فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعرف في وجهه الغضبُ، فقال: إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم على أنبيائهم.

وفي رواية: تنازعنا - أي القرآن - على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال قائل: ألم يقل الله كذا وكذا؟. فأجابه الآخر: ألم يقل الله كذا وكذا؟. وفي رواية أبي بكر بن أبي شيبة: جئت يوماً، فإذا نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلوس بفناء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكنت من ورائهم، وكنت من أصغر القوم، فقال رجل: يا فلان فيم أنزلت آية كذا وكذا؟. فاختلفوا" وعلت أصواتهم. وفي رواية له كنا جلوساً عند باب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟. وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟. وفي رواية الحارث: جلست من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلساً، ما جلست قبله ولا بعده، أغبط عندي منه. قال: قعد من وراء حجرته قوم يتجادلون بالقرآن فسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرج مُغْضَباً كأنما فقيء في وجهه حب الرمان. وفي رواية الحارث: فخرج محمرةً وجْنتَاه كأنما يقطران دماً، فقال: يا قوم أبهذا أمرتم، أبهذا بعثتم. إن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، ولا تجادلوا بالقرآن، إنما ضل من كان قبلكم بجدالهم. وفي رواية: دعوا المراء في القرآن، إنما هلك الأمم قبلكم بهذا. وفي رواية: قال: الأمم قبلكم لم يلعنوا حتى اختلفوا في القرآن، إن القرآن لم ينزل ليكذِّب بعضُه بعضاً، ولكن نزل ليصدِّق بعضُه بعضاً، فانظروا ما أمرتم به فاتبعوه، وما نهيتم عنه فاجتنبوه. وفي رواية: فما كان من محكم فاعملوا به، وما كان من متشابهه

فآمنوا به ولستم مما ههنا في شيء، فإن المراء - وفي رواية: فكل مراء - في القرآن كفر. وفي رواية: لا تجادلوا في القرآن، فإن جدالاً فيه كفر. وفي رواية أبي عبيد في الفضائل من طرق كثيرة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: صلينا - وفي رواية: صليت - مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغداة، فتنحى ناس من أصحابه في بعض حجر أزواجه يقرأون القرآن، فتنازعوا في شيء منه، وأنا منتبذ عنهم - وفي رواية: فجلست ناحية - فخرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مغْضَباً فقال: إن القرآن يصدق بعضه بعضاً، فلا تكذبوا بعضه ببعض، ماعلمتم منه فاقبلوه، وما لم تعلموا فَكِلُوه إلى عالمه. قال: قال عبد الله بن عمرو: فما اغتبطت بشيء اغتباطي بانتباذي عنهم إذ لم تصبني عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال شيخنا البوصيري بعد سوق هذه الروايات مفصلة: ورواه ابن ماجة في سننه مختصراً، بإسناد صحيح، من طريق أبي معاوية عن داود - يعني: ابن أبي هند - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضى الله عنه.

وساقه ابن رجب من هذه الطريق، وقال فيه: لا تجادلوا، فإنما هلكت الأمم من قبلكم بهذا، جادلوا القرآن بعضه ببعض، فما كان فيه من حلال فاعملوا به، وما كان فيه من حرام فدعوه وانتهوا عنه، وما كان فيه من متشابه فآمنوا به. وروى مسدد في مسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فإن ذلك يوقع الشك في قلوبكم. وروى أبو داود: وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، والطبراني وغيره عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: المراء في القرآن كفر. قال أبو عبيد في غريب الحديث: ليس المراد بهذا المراء في التأويل بل في اللفظ، (على) أن يقرأ الرجل القرآن على حرف، فيقول له الآخر: ليس هو كذا، ولكنه هكذا، على خلافه، وقد أنزلهما الله (تعالى) جميعاً. انتهى. وهو في المراء، الذي يلزم منه - لا محالة - الكفر، لأن مطلق الجدال منهى عنه كما دل عليه حديث عبد الله بن عمرو الماضي وغيره، سواء كان في اللفظ أو المعنى لأنه لا يأتي إلا من ارتكاب الهوى. ومتى ترك حظ النفس، حصل الاتفاق على ما يظهر من النصوص. لأنه لا اشتباه فيه أصلاً.

خطأ من يقول في القرآن برأيه

وإن تعارض الظاهران، صرف أحدهما إلى أقرب ما يحتمله من ظاهر آخر وإن أشكل الحال، وجب أن نكف، ويقال: آمنا به، كل من عند ربنا. وروى أبو بكر بن أبي عاصم، عن النواس بن سمعان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، ولا تكذبوا بعضه ببعض، فوالله إن المؤمن ليجادل بالقرآن فيُغْلَبُ، وإن المنافق - أو قال: الفاجر - ليجادل بالقرآن فَيَغْلِب. وقال - أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن يونس بن عبيد قال: كتبت إلى ميمونُ بن مهران، فأتاني كتابه، فذكر فيه أشياء ومنها: ولا تمارين عالماً ولا جاهلاً، فإنك إذا ما ريت الجاهل خشن بصدرك، (أولم يطعك، وإذا ما ريت العالم خزن عنك علمه، ثم لم يبال ما صنعت. ورواه الدارمي في أوائل مسنده قال: أخبرنا سعيد بن عامر عن إسماعيل ابن إبراهيم فذكره بمعناه. خطأ من يقول في القرآن برأيه وروى أبو داود في العلم، والترمذي في التفسير وقال: غريب وقد تكلم بعض أهل العلم في سهل بن أبي حزم. والنَّسائي في فضائل القرآن،

وابن جرير في مقدمة التفسير، عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ. والمعنى: أخطأ في إقدامه على الكلام بالرأي. وروى هؤلاء الأربعة أيضاً في الأبواب المذكورة، وقال الترمذي: حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم، فمن كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار. وقد كتبت في بيان المعنى الرواية التي فيها "بغير علم" فبينت أن النهى عنه: الكلام بمحض الرأي، من غير استناد إلى شيء من قوانين العلم. وأما من تدبر كما أمره الله، وتكلم بما أدى إليه اجتهاده، فيما يعلم من لسان العرب، وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأقوال السلف، فأظهر المعنى، لم يُسبق إليه، جارياً على تلك القوانين، غير مخالف لها، فلقد أجاد كل الإِجادة وأفاد أعظم الإفادة.

وروى ابن جرير، وأبو يعلي، والبزار، عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفسر شيئاً من القرآن برأيه، إلا آياً تعد، علمهن إياه جبريل عليه السلام. وهذا الحديث ضعيف. قال الحافظ نور الدين الهيثمي في مجمع الزوائد: فيه راو لم يحرر اسمه عند واحد منهما، أما البزار فقال: عن حفص - أظنه ابن عبد الله - عن هشام بن عروة وقال أبو يعلي: عن فلان بن محمد، بن خالد، عن هشام. انتهى. وأما ابن جرير فسماه: جعفر بن محمد الزبيري، وقال: إنه ممن لا يعرف في أهل الآثار، فلا يجوز الاحتجاج بخبره. انتهى. فقد كفانا ضعفُه مؤنتَه. وعلى تقدير صحته، فالمراد: آي من المغيبات. ونحو ذلك، مما لا سبيل للبشر إلى الِإطلاع عليه، إلا بالوحي. وإلا كان ذلك - كما قال ابن جرير - مخالفاً لقول الله تعالى: (بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) . فلو اقتصر على آي معدودة، لم يكن مبيناً لهم ما نزل إليهم، بل بعضه ولكان مخالفاً لما رواه ابن مسعود رضي الله عنه.

قال: كان الرجل إذا تعلم عشر آيات، لم يجاوزهن، حتى يعرف معانيهن والعمل بهن. وغير ذلك مما شابهه عنه، وعن غيره من الصحابة، وكلام ابن عباس البحر في التفسير، وتوسعه فيه معروف، والله الموفق. ولأبي عبيد - أيضاً - عن إبراهيم التيمي قال: خلا عمر رضي الله عنه ذات يوم فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد، فأرسل إلى ابن عباس رضي الله عنهما، فسأل: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة؟. فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين إنا أنزل علينا القرآنُ فقرأناه، وعلمنا فيم نزل وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرأون القرآن، ولا يدرون فيم نزل، فيكون لهم فيه رأى، فإذا كان لهم فيه رأى اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا. قال: فزبره عمر رضي الله عنه وانتهره، فانصرف ابن عباس، ونظر عمر فيما قال فعرفه، فأرسل إليه فقال: أعد علي ما قلت، فأعاده عليه. فعرف عمر قوله. وروى أحمد، وابن عبد الحكم في الفتوح، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: هلاك أمتي في الكتاب واللين. قالوا: يا رسول الله: وما الكتاب واللين؟. قال: يتعلمون الكتاب فيتأولونه على غير ما أنزله الله، ويحبون اللين، فيدعون الجماعات والجُمَع.

جمع الصحابة رضي الله عنهم للقرآن

جمع الصحابة رضي الله عنهم للقرآن 1 - جمع أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وروى البخاري، والترمذي، وأبو عبيد في الفضائل، وأبو بكر بن أبي داود في كتاب المصاحف، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إليَّ أبو بكر رضي الله عنه قتل أهل اليمامة، وعنده عمر رضي الله عنه، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس - وفي رواية: بقراء القرآن - وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن. فيذهب كثير من القرآن، إلا أن تجمعوه، وأني لأرى: أن يجمع القرآن. قال أبو بكر: فقلت لعمر: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟. فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني فيه، حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر. قال زيد بن ثابت: وعمر جالس عنده لا يتكلم، فقال أبو بكر: إنك رجل عاقل شاب، ولا نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتتبع القرآن فاجمعه. فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال، ما كان أثْقَلَ عليَّ مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟. فقال أبو بكر: هو - والله - خير. فلم أزل أراجعه، حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر. وفي رواية: فلم يزل يراجعني في ذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. حتى شرح الله صدري، للذي شرح له صدرهما.

فقمت فتتبعت القرآن، أجمعه من الرقاع، والأكتاف والعُسُب. واللَخَاف - يعني الخزف -، وقال أبو بكر بن أبي داود: اللخف واللخاف: الحجارة الرقاق - وقال: ومن الأضلاع، يعني: الأكتاف. وصدور الرجال، حتى وجدتِ من سورة التوبة آيتين مع خزيمة بن ثابت، أو أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مكتوبتين مع أحد غيره: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) فكانت الصحف التي جُمع فيها القرآن عند أبي بكر رضي الله عنه حتى توفاه الله، ثم عند عمر رضي الله عنه حتى توفاه الله - رضي الله عنه -، ثم عند حفصة بنت عمر، رضي الله عنهم. ولأبي بكر بن أبي شيبة، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: لما استحر القتل بالقراء يومئذ، فرق أبو بكر على القرآن أن يضيع، فقال لعمر بن الخطاب ولزيد ابن ثابت رضي الله عنهما: اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه. أي بشاهدين يشهدان أن الذي أتى به كتب بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى إسحاق بن راهوية، وأحمد بن منيع، عن ابن عباس، عن

أبي بن كعب رضي الله عنهم قال: آخر ما نزل من القرآن (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) . ورواه عبد الله بن أحمد بلفظ: آخر آية نزلت: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) الآية. وتقدم في أوائل هذه الفضائل في آخر ما نزل غير هذا. وروى عبد الله بن الِإمام أحمد، وعبد الله بن أبي داود، عن أبي بن كعب رضي الله عنه، أنهم جمعوا القرآن في مصاحف - وقال ابن أبي داود: في مصحف - في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وكان رجال يكتبون، ويملي عليهم أُبي بن كعب رضي الله عنهم أجمعين، فلما انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) فظنوا أن هذا آخر ما أنزل من القرآن فقال لهم أبي بن كعب رضي الله عنه: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرأني آيتين: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) . قال: هذا آخر ما أنزل من القرآن. فختم (الأمر) بما فتح الله به: بالله الذي لا إله إلا هو، وهو قوله تبارك وتعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) .

وروى عبد الله بن الِإمام أحمد - أيضاً - والطبراني في الكبير، عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: آخر آية نزلت: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) الآية. قال الهيثمي: وفيه علي بن زيد بن جدعان، وهو ثقة سيء الحفظ. وبقية رجاله ثقات. وروى عبد الله بن الِإمام أحمد، وأبو بكر بن أبي داود، عن عباد بن عبد الله ابن الزبير قال: أتى الحارث بن خزيمة رضي الله عنه بهاتين الآيتين من آخر سورة براءة (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إلى عمر بن الخطاب، فقال: من معك على هذا؟. قال: لا أدري، والله إني لسمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووعيتها وحفظتها، فقال عمر رضي الله عنه: وأنا أشهد لسمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: لو كانت شت ثلاث آيات، لجعلتها سورة على حدة، فانظروا أي سورة من القرآن فضعوها فيها، فوضعها في آخر براءة. وروى ابن أبي داود، عن عبد الرحمن بن يحيى بن حاطب، أن عثمان رضي الله عنه قال: من كان عنده شيء من كتاب الله فليأتنا به، وكان لا يقبل شيئاً من ذلك حتى يشهد عليه شاهدان، فجاء خزيمة بن ثابت فقال:

2 - جمع عثمان رضي الله عنه

إني قد رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما، قيل: وما هما؟. قال: تلقيت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إلى آخر السورة، فقال عثمان رضي الله عنه: وأنا أشهد أنهما من عند الله، فأين ترى أن نجعلهما؟. فقال: اختم بهما آخر ما نزل من القرآن، فختمت بهما براءة. 2 - جمع عثمان رضي الله عنه. وروى البخاري والترمذي، وابن أبي داود عن أنس رضي الله عنه. أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قدم على عثمان رضي الله عنه، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان، مع أهل العراق. وفي رواية: كان يغازي أهل الشام مع أهل العراق، في فتح أرمينية وأذربيجان. وقال ابن أبي داود: في مرج أرمينية، وقال المرج: الثغر. وفي رواية له: وكان يغزو قِبَلَ أرمينية وأذربيجان، وأهل الشام. فتنازعوا في القرآن. وفي رواية: اجتمع لغزوة أذربيجان وأرمينية أهل الشام وأهل العراق. فتذاكروا القرآن، فاختلفوا فيه، حتى كاد يكون بينهم فتنة، فأفزع حذيفة رضي الله عنه اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان رضي الله عنهما - وفي رواية: فركب حذيفة بن اليمان لما رأى من اختلافهم إلى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصا رى. قال ابن أبي داود: ففزع لذلك عثمان فزعاً شديداً، فأرسل عثمان إلى حفصة رضي الله عنهما: أن أرسلي إلينا بالصحف - وفي رواية: بالمصحف -

ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة (رضي الله عنها) إلى عثمان (رضي الله عنه) ، فأمر زيداً بن ثابت وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام رضي الله عنهم، فنسخوا في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة رضي الله عنها، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن - في كل صحيفة أو مصحف - أن يُحْرَق. وقال ابن أبي داود، وقال غيره: أن يُخَرق. أي بالمعجمة. وفي رواية له: وأرسل إلى كل جند من أجناد المسلمين بمصحف. وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف المصحف الذي أرسل به، فذلك زمان حرقت المصاحف بالعراق بالنار. وروى ابن جرير عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنه اجتمع في غزوة أذربيجان وأرمينية أهل الشام وأهل العراق، فتذاكروا القرآن، فاختلفوا فيه، حتى كاد يكون بينهم فتنة، فركب حذيفة - لما رأى اختلافهم في القرآن - إلى عثمان رضي الله عنهما فقال: إن الناس اختلفوا في القرآن، حتى إني خشيت أن يصيبهم مثل ما أصاب اليهود والنصارى من الاختلاف. قال: ففزع لذلك فزعاً شديداً، فأرسل إلى حفصة رضي الله عنها. فاستخرج الصحيفة التي كان أبو بكر رضي الله عنه أمر زيداً رضي الله عنه بجمعها، فنسخ منها مصاحف، فبعث بها إلى الآفاق.

حرق عثمان الصحف بعد نسخ المصحف

وروى الِإمام أبو عمرو الداني في كتابه "المقنع في الرسم" عن حذيفة رضي الله عنه، أنه قال لعثمان بن عفان رضي الله عنه: ما كنت صانعاً إذا قال الناس: قراءة فلان، وقراءة فلان كما صنع أهل الكتاب؟ ، فاصنع الآن فجمع عثمان الناس على هذا المصحف، وهو حرف زيد رضي الله عنه. حرق عثمان الصحف بعد نسخ المصحف ولابن أبي داود في كتاب المصاحف، عن سالم وخارجه: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان جمع القرآن في قراطيس، وكان قد سأل زيداً بن ثابت (رضي الله عنه) النظر في ذلك، فأبي حتى استعان عليه بعمر رضي الله عنه، ففعل، فكانت تلك الكتب عند أبي بكر رضي الله عنه، حتى توفي، ثم عند عمر رضي الله عنه حتى توفي، ثم عند حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إليها عثمان رضي الله عنه، فأبت أن تدفعها، حتى عاهدها ليردنها إليها، فبعثت بها إليه، فنسخها عثمان في هذه المصاحف، ثم ردها إليها، فلم تزل عندها حتى أرسل إليها مروان، فأخذها فحرقها. وفي رواية: فلما كان مروان أمير المدينة، أرسل إلى حفصة رضي الله عنها يسألها عن الصحف ليحرقها. وفي رواية أبي عبيد: ليمزقها، وخشى أن يخالف بعض الكتَّاب بعضا فمنعته إياها. قال ابن شهاب: فحدثني سالم بن عبد الله قال: فلما توفيت حفصة. أرسل إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بعزيمة ليرسلن بها ساعة رجعوا

من جنازة حفصة فأرسل بها عبد الله بن عمر إلى مروان فغشاها. وحرقها. وفي رواية أبي عبيد: فمزقها مخافة أن يكون في شيء من ذلك اختلاف لما نسخ عثمان رضي الله عنه. وفي رواية: فأمر بها فشقت. وقال مروان: إنما فعلت هذا، لأن ما فيها قد كتب وحفظ بالمصحف. فخشيت - إن طال بالناس زمان - أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب. أو يقول: إنه قد كان منها شيء لم يكتب. وروى الطبراني - قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح - عن سالم أن مروان كان يرسل إلى حفصة رضي الله عنها يسألها عن المصحف الذي نسخ منه القرآن، فتأبى حفصة أن تعطيه إياها، فلما دفنا حفصة، أرسل مروان إلى ابن عمر رضي الله عنهما أرسل إلي بذلك الصحف. فأرسلها إليه. وقال أبو عبيد في الفضائل - بعد أن روي الحديث -: لم تسمع في شيء من الحديث أن مروان هو الذي مزق المصحف إلا في هذا الحديث. وروى أبو عبيد عن عمرو بن شرحبيل أبي ميسرة قال: أتى علي رجل وأنا أصلي فقال: ثكلتك أمك، ألا أراك تصلي، وقد أمر بكتاب الله أن يمزق؟. قال: فتجوزت في صلاتي، وكنتُ لا أحْبَسُ، فدخلت الدار فلم أحبس، ورقيت فلم أحبس فإذا أنا بالأشعري، وإذا حذيفة وابن مسعود رضي الله عنهم يتقاولان، وحذيفة يقول لابن مسعود: ادفع إليهم المصحف. فقال:

والله لا أدفعه، فقال: ادفعه اليهم فإنهم لا يألون أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خيراً، فقال: والله لا أدفعه، أقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعاً وسبعين سورة، ثم أدفعه إليهم؟. والله لا أدفعه إليهم. وللبخاري وأبي عبيد وعبد بن حميد، عن خارجة بن زيد بن ثابت، أنه سمع زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: لما نسخنا الصحف في المصحف. فقدت آية من سورة الأحزاب، كنتُ كثيرا أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري. وفي رواية: فالتمسناها، فوجدناها مع خزيمة الذي جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهادته بشهادة رجلين: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) وفي رواية: مع خزيمة، فألحقناها في سورتها في الصحف. قال عبد في روايته: ؤكان خزيمة يُدعى ذا الشهادتين، فقتل يوم صفين، مع عليٍّ رضي الله عنهما.

وفي الأثر الأول دلالة على أنه كان لا أمره الصديق رضي الله عنه ألا يكتب إلا إذا كان قد وجد مكتوباً بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمره، وقابله - مع ذلك - على المحفوظ في صدور الرجال. وفي هذا الأخير دليل من قوله: "نسخنا الصحف في المصاحف" إلى آخره أنه أعاد التتبع كما فعل أولًا، ليصح قوله: "فقدت آية من سورة الأحزاب". لأن افتقادها فرع العلم بها، ومن أبعد البعيد: أن يكون سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيراً يقرؤها ولا يحفظها، ولا سيما وهو مذكور فيمن جمع القرآن في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -. والظاهر من هذا التتبع الذي لا يجوز لمن مارس أمثال هذه الهمم أن يفهم غيره: أن يكون لا ينقل آية، إلا إذا وجد من صفاتها على حسب ما هي مكتوبة عدد التواتر، ولإرادة حفظ هذا المكتوب بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبأمره إذا جاز له لمثل هذه النازلة، نهى - صلى الله عليه وسلم - أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو، فلا يوجد مثل هذه الواقعة، فلا تكون الثقة به وإن كان محفوظاً في الصدور، كالثقة به إذا وجد ما كتب منه

الذين جمعوا القرآن من الصحابة

بحضرته - صلى الله عليه وسلم -، وكأنه لم يكن كالذي فعله الصديق رضي الله عنه من كل وجه. وروى الِإمام أحمد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: بينا نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نؤلف القرآن من الرقاع إذ قال: طوبي للشام. قيل: ولم ذلك يا رسول الله؟. قال: إن ملائكة الرحمة باسطة أجنحتها عليها. الذين جمعوا القرآن من الصحابة وروى الشيخان، والترمذي، وأبو عبيد، وأبو داود الطيالسي، عن أنس رضي الله عنه قال: جَمع القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة، كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل. وأبو زيد، وزيد. يعني زيد بن ثابت. رضي الله عنهم. قيل لأنس: من أبو زيد؟. قال: أحد عمومتي. وفي رواية للبخاري عنه: مات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد: ونحن ورثناه. واسمه سعد بن عبيد.

وهذا الحصر بالنسبة إلى علم أنس رضي الله عنه، أو بالنسبة إلى الأنصار رضي الله عنهم. قال الإِمام أبو شامة في كتاب "المرشد الوجيز": وقد أشبع القاضي أبو بكر محمد بن الطيب في كتاب "الانتصار" الكلام في حملة القرآن في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقام أدلة كثيرة على أنهم كانوا أضعاف هذه العدّة المذكورة وأن العادة تحيل خلاف ذلك، ويشهد لصحة (ذلك) كثرة القراء المقتولين يوم مسيلمة باليمامة، وذلك في أول خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وما في الصحيح من قتل سبعين من الأنصار يوم بئر معونة، كانوا يسمون القراء. وقد قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: جمعت القرآن فقرأته كله في ليلة، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأه في شهر، الحديث. وعبد الله غير مذكور في هذه العِدَّة، فدل على أنها ليست للحصر، وما كان من ألفاظها للحصر، فله تأويل. قال: وقد ذكر القاضي له تاويلات سائغة، منها:

أنه لم يجمعه على جميع وجوهه، والأحرف والقراءات التي نزل بها. وأخر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنها كلها شاف كاف، إلا أولئك النفر فقط. ثم قال: المازري: وإن لم يكمل القرآن سوى أربعة، فقد حفظ جميع أجزائه مئون، لا يحصون، وما من شرط كونه متواتراً أن يحفظ الكلُ الكل. وقال النووي في أواخر التبيان: اعلم أن القرآن العزيز، كان مؤلَّفاً في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما هو في المصاحف اليوم، ولكن لم يكن مجموعاً في مصحف، بل كان محفوظاً في صدور الرجال. فكان طوائف من الصحابة يحفظونه كلَّه، وطوائف يحفظون أبعاضاً منه، فلما كان زمن أبي بكر - رضي الله عنه - وقتل كثير من حملة القرآن. خاف موتهم، واختلاف من بعدهم، فاستشار الصحابة رضي الله عنهم في جمعه في مصحف، فأشاروا بذلك. يعني خاف عليه فجمعه. وروى البخاري في المناقب عن عبد الله بن عمرو، أنه ذُكر عنده عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، فقال: ذلك رجل لأزال أحبه بعد ما سمعت

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: استقرؤوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود - فبدأ به - وسالم مولى أبي حذيفة، وأبَى بن كعب، ومعاذ بن جبل، رضي الله عنهم. وروى ابن أبي داود عن مسروق قال: قال عبد الله - حين صنع بالمصاحف ما صنع -: والذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة إلا أعلم حيث أنزلت، وما من آية إلا أعلم فيم أنزلت، ولو أني أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني، تبلغه الإِبل لأتيته. ورواه عنه أبو عبيد، ولفظه: قال: لو أعلم أحداً تبلغنيه الإِبل. أحدث عهداً بالعرضة الأخيرة مني لأتيته. أو قال: لتكلفت أن آتيه. وروى ابن أبي داود عن زر قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لقد قرأت من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعاً وسبعين سورة، وإن لزيد ابن ثابت ذؤابتين (يلعب مع الصبيان) . وروى أبو بكر - أيضاً - عن علقمة قال: جاء رجل إلى عمر رضي الله عنه، وهو بعرفة فقال: يا أمير المؤمنين جئتك من الكوفة، وتركت بها رجلا يملي المصاحف عن ظهر قلب، قال: فغضب عمر رضي الله عنه وانتفخ حتى كاد أن يملأ ما بين شعبتي الرجل، قال: من هو ويحك؟. قال: هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: فما زال يطفأ ويتسري عنه الغضب.

حتى عاد إلى حاله التي كان عليها ثم قال: ويحك، والله ما أعلم بفتى من الناس أحداً هو أحق بذلك منه، وسأحدثك عن ذلك، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمر عند أبي بكر الليلة، كذلك في الأمر من أمر المسلمين، وأنه سمر عنده ليلة وأنا معه، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي، وخرجنا معه نمشي، فإذا رجل قائم يصلي في المسجد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من سرَّه أن يقرأ القرآن رطباً كما نزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد، قال: ثم جلس الرجل يدعو، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: سل تعطه، سل تعطه، فقال عمر رضى الله عنه: فقلت: والله لأغدون فلأبشرنه. قال: فغدوت لأبشره، فوجدت أبا بكر رضي الله عنه قد سبقنى إليه فبشره ولا - والله - ما سابقته قط إلى خير، إلا سبقني إليه. ورواه أبو عبيد ولفظه: عن علقمة، عن عمر رضي الله عنه قال: سمرنا ليلة عند أبي بكر رضي الله عنه في بعض ما يكون من حاجة رسول الله عنه فخرجنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي بيني وبين أبي بكر، فلما انتهينا الى المسجد، إذا رجل يقرأ، فقام يستمع، فقلت: يا رسول الله أنِمْتَ؟ ، فَغَمَزني بيدِهِ، فسكتُ، فقرأ وركع وسجد، وجلس يدعو ويستغفر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سَلْ تعطه، ثم قال: من سره أن يقرأ القرآن رطباً كما أنزل، فليقرأ كما قرأه ابن أم عبد. قال: علمت أنا وصاحبي أنه عبد الله فلما أصبحت غدوت عليه لأبشره فقال: قد سبقك أبو بكر رضي الله عنه، قال: وما سابقته إلى خير قط، إلا سبقني إليه.

دقة المسلمين في جمع القرآن

وروى عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة. دقة المسلمين في جمع القرآن وروى الِإمام أبو عمرو الداني في كتابه "المقنع" عن أبي قلابة، عن رجل من بني تميم يقال له - فيما أحسب - أنس بن مالك رضي الله عنه قال: اختلف المعلمون في القرآن حتى اقتتلوا، وكان بينهم قتال، فبلغ ذلك إلى عثمان رضي الله عنه فقال: أعندي تختلفون وتكذبون وتلحنون فيه يا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟. اجتمعوا فاكتبوا للناس إماماً يجمعهم، فكانوا في المسجد فكثروا، فكانوا إذا تماروا في الآية يقولون: إنه أقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلان بن فلان وهو على رأس أميال من المدينة، فيُبْعث إليه من المدينة فيجيء، فيقولون: كيف أقرأك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية كذا وكذا؟. فيقول كذا وكذا. فيكتبون كما قال. وله من رواية أخرى عن أبي قلابة قال: حدثنا من كان يكتب معهم - قال حماد: أظنه أنس بن مالك القشيري رضي الله عنه - قال: كانوا يختلفون في الآية فيقولون: أقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلان ابن فلان، فعسى أن يكون على رأس ثلاث ليال من المدينة.

فذكره نحو ما مضى. ولان أبي داود، وابن جرير، عن أبي قلابة قال: لما كان في خلافة عثمان رضي الله عنه، جعل المعلم يعلم قراءة الرجل، والمعلم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين. قال أيوب: فلا أعلمه إلا قال: حتى كفر بعضهم بقراء بعض، فبلغ ذلك عثمان رضي الله عنه، فقام خطيباً فقال: أنتم عندي تختلفون فيه وتنحتون، فمن نأى عنى من الأمصار أشد فيه اختلافاً، وأشد بحثاً. فاجتمعوا يا أصحاب محمد فاكتبوا للناس إماماً. قال أبو قلابة: فحدثني مالك بن أنس قال: كنت فيمن أملي عليهم، فربما اختلفوا في الآية، فيذكرون الرجل قد تلقاها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولعله أن يكون غائباً، أو في بعض البوادي، فيكتبون ما قبلها وما بعدها. ويدَعْون موضعها، حتى يجيء، أو يرسل إليهم، فلما فرغ من المصحف. كتب عثمان رضي الله عنه إلى أهل الأمصار: إني قد صنعت كذا، وصنعت كذا، ومحوت ما عندي فامحوا ما عندكم. وقد ساق ابن جرير خبر أبي بكر الصديق رضي الله عنه في جمعه المصحف، وخبر عثمان رضي الله عنه في مثل ذلك سياقاً واحداً، حسناً شافياً، بسند رجاله رجال الصحيح، فقال: حدثنا أحمد بن عبدة الضبي، بنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي،

عن عمارة ابن غُزِية، عن ابن شهاب، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه زيد رضي الله عنه قال: لما قتل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باليمامة، دخل عمر بن الخطاب على أبي بكر، رضي الله عنهما فقال: إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باليمامة، تهافتوا تهافُتَ الفراش في النار، وإني أخشى أن لا يشهدوا موطناً إلا فعلوا ذلك، حتى يُقْتَلُوا وهم حملة القرآن، فيضيع القرآن وُينسى، فلو جمعته وكتبته؟. فنفر منها أبو بكر رضي الله عنه وقال: أفعل ما لم يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟. فتراجعا في ذلك، ثم أرسل أبو بكر رضي الله عنه إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه. قال زيد: فدخلت عليه، وعمر رضي الله عنه عنده، فقال أبو بكر: إن هذا قد دعاني إلى أمر فأبَيْتُ عليه، وأنت كاتب الوحي، فإن تكن معه أوافقكما، وإن توافقتي لا أفعل. قال: فاقتص أبو بكر قول عمر، وعمر ساكت، فنفرت من ذلك فقلت: أنفعل ما لم يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟. إلى أن قال عمر كلمة: وما عليكما لوفعلتما؟. قال: فذهبنا ننظر، فقلنا: لا شيء، والله ما علينا في ذلك شيء. قال زيد: فأمرني أبو بكر فكتبته في قِطَع الأُدُم، وكسِرَ الأكتاف. والعُسُب فلما هلك أبو بكر وكان عمر، كتب ذلك في صحيفة واحدة،

فكانت عنده، فلما هلك كانت الصحيفة عند حفصة زوجِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم إن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قدم من غزوة غزاها بمرْج أرمينية، فلم يدخل بيته، حتى أتى عثمان ابن عفان رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين أدرك الناس، قال عثمان: وما ذاك؟. قال: غزوت مَرْج أرمينية، فحضرها أهل العراق وأهل الشام فإذا أهل الشام يقرأون بقراءة أبيِّ بن كعب رضي الله عنه، فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، فيكفرهم أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرأون بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه، فيأتون بما لم يسمع به أهل الشام، فيكفرهم أهل الشام، قال زيد رضي الله عنه: فأمرني عثمان بن عفان رضي الله عنه أن أكتب له مصحفاً وقال: إني مدخل معك رجلًا لبيباً فصيحاً، فما اجتمعتما عليه فاكتباه، وما اختلفتما فيه فارفعاه إليَّ، فجعل معه أبان بن سعيد بن العاص. قال: فلما بلغنا (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) . قال زيد: فقلت: "التابوه " وقال أبان: "التَّابُوتُ" فرفعنا ذلك إلى عثمان، فكتِبَت "التَّابُوتُ". قال: فلما فرغت عرضته (عرضة) . فلم أجد فيه هذه الآية: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) . فاستعرضت المهاجرين أسألهم فلم أجدها عند أحد منهم. ثم استعرضت الأنصار أسألهم فلم أجدها عند أحد منهم، حتى وجدتها عند خزيمة بن ثابت فكتبتها، ثم عرضته عرضة أخرى، فلم أجد فيه هاتين

الآيتين (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) . فاستعرضت المهاجرين فلم أجدها عند أحد منهم، ثم استعرضت الأنصار أسألهم (عنها) فلم أجدها عند أحد منهم، حتى وجدتها مع رجل آخر - أيضاً - يدعى خزيمة، فأثبتها في آخر براءة، ولو تمت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة. ثم عرضته عريضة أخرى، فلم أجد فيه شيئاً، ثم أرسل عثمان إلى حفصة رضي الله عنها يسألها أن تعطيه الصحيفة، وحلف لها ليردنها إليها. فأعطته إياها فعرض المصحف عليها، فلم يختلفا في شيء، فردها إليها وطابت نفسه، وأمر الناس أن يكتبوا مصاحف، فلما ماتت حفصة رضي الله عنها، أرسل إلى عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيفة بعزمة. فأعطاهم إياها، فغسلت غسلاً.

وقوله: "لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعله يعني: كاملًا وإلا فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينزل عليه شيء، سواء كان آية، أو بعض آية، أو آيات، أو سورة كاملة إلا دعى كُتَّاب الوحي فيكتبونها، أو من يكتبها منهم. وقد روى الإِمام أحمد، والبيهقي رضي الله عنه في كتاب "المدخل " والدلائل عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: كنا حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نؤلِّف القرآن من الرقاع، إذ قال: طوبى للشام، فقيل: ولم؟. قال: إن ملائكة الرحمة باسطوا أجنحتها عليهم. قال أبو شامة: ثم قال - يعني البيهقي -: وهذا يشبه أن يكون أراد به تأليف ما أنزل من الآيات المتفرقة في سورها، وجمعها فيها بإشارة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم كانت مثبتة في الصدور، مكتوبة في الرقاع واللخاف، والعسب، فجمعها منها في مصحف بإشارة أبي بكر وعمر، ثم نسخ ما جمعه في الصحف في مصاحف بإشارة عثمان بن عفان رضي الله عنه، على ما رسم المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. وأخرج هذا الحديث الحاكم في المستدرك، وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

قال: وفيه البيان الواضح: أن جمع القرآن لم يكن مرة واحدة، فقد جمع بعضه بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم جمع بحضرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه. والجمع الثالث، وهو ترتيب السور، كان في خلافة أمير المؤمنين عثمان، رضي الله عنهم أجمعين. قال أبو شامة: وخزيمة هذا - يعني صاحب آية الأحزاب - غير أبي خزيمة الذي وجد معه آخر براءة. ذاك أبو خزيمة بن أوس بن زيد، من بني النجار، شهد بدراً، وما بعدها وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه. وهذا خزيمة بن ثابت بن الفاكه، من الأوس، شهد أحُداً وما بعدها، وقتل يوم صفين. وقيل غير ذلك. قال ابن جرير: فإن قيل: فما بال الأحرف الستة غير موجودة، أنسخت فرفعت بعد ما أنزلها الله تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأقرأها - صلى الله عليه وسلم - أصحابه رضي الله عنهم، أم نسيتها الأمة، فذلك تضييع لما أُمِرَتْ بحفظه؟. قيل: لم تنسخ فترفع، ولا ضيعتها الأمة، وهي مأمورة بحفظها، ولكنها

أمرت بحفظ القرآن وخُيِّرت في قراءته وحفظه بأي تلك الأحرف السبعة شاءت، كما أمرت إذا هي حنثت في يمين وهي موسرة - أن تكفر بأي الكفارات الثلاث شاءت: إما بعتق، أو إطعام، أو كسوة. فلو اجتمع جميعها على التكفير بأي الكفارات الثلاث شاء المكفر. كانت مصيبة حكم الله: مؤدية في ذلك الواجب عليها من حق الله. فكذلك (الأمة) أمرت بحفظ القرآن، وخيرت في قراءته بأي الأحرف السبعة شاءت، فرأت علة من العلل أوجبت عليها الثبات على حرف واحد، ورفض القراءة بالستة الباقية، ولم يحظر على أحد قراءته بجميع حروفه، على ما أذن له فيه. وروى أبو عمرو الداني عن عامر قال: (قال صعصعة) : استخلف الله أبا بكر رضي الله عنه، فأقام المصحف. وعن هشام بن عروة عن أبيه أن أبا بكر رضي الله عنه أول من جمع القرآن في المصحف حين قتل أهل اليمامة وعثمان رضي الله عنه الذي جمع المصاحف على مصحف واحد. وروى أبو عبيد في الفضائل عن المطلب بن زياد عن السدي، عن عبد خير قال: أول من جمع القرآن بين اللوحين أبو بكر.

تأييد الناس عثمان في حرق الصحف

وله عن عبد خير، عن علي رضي الله عنه قال: رحم الله أبا بكر. كان أول من جمع القرآن. وروى الداني عن ابن وهب، عن مالك رحمه الله، أنه قال: إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعون من قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. تأييد الناس عثمان في حرق الصحف وعن سويد بن غَفَلة قال: قال لي علي رضي الله عنه: لو وُلِّيت لفعلت في المصاحف الذي فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه. وروى أبو عبيد، وأبو بكر بن أبي داود في كتاب المصاحف، عن سويد بن غفلة الجعفي، قال: قال علي رضي الله عنه في المصاحف - وفي رواية: حين حرق عثمان رضي الله عنه المصاحف -: لو لم يصنعه عثمان رضي الله عنه لصنعته. وفي رواية: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيراً - أو قولوا له خيراً - في المصاحف وإحراق المصاحف، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا جميعا

، فقال: ما تقولون في هنه القراءة، فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتى خير من قراءتك وهذا يكاد أن يكون كفرا. قلنا: فما ترى؟. قال: أرى أن نجمع الناس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة. ولا يكون اختلاف. قلنا: فنعم ما رأيت. قال: فقيل: أي الناس أفصح، وأي الناس أقرأ؟. قالوا: أفصح سعيد ابن العاص، وأقرؤهم زيد بن ثابت، فقال: ليكتب أحدهما، ويملي الآخر، ففعلا وجمع الناس على مصحف واحد. قال علي رضي الله عنه: والله لو وليت لفعلت الذي فعل. ورواه من طريق مصعب بن سعد، وقال في آخره: فما رأيت أحدا عاب ذلك عليه. وقال النووي في التبيان: وكان فعله - أي عثمان رضي الله عنه - أي الذي ذكر في جمع المصحف، وإتلاف ما سواه - باتفاق منه ومن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وسائر الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم. وإنما لم يجمعه - صلى الله عليه وسلم - (في مصحف واحد) ، لما كان يتوقع من زيادة، أو نسخ بعض المتلو، ولم يزل ذلك التوقع إلى وفاته - صلى الله عليه وسلم -. وروى ابن أبي داود - أيضاً - عن أبي المحياة عن بعض آل طلحة بن مصرف قال: دفن عثمان المصاحف بين القبر والمنبر.

وروى ابن أبي داود، وأبو بكر بن أبي شيبة، عن عبد خير، أنه قال: قال علي رضي الله عنه: يرحم الله أبا بكر، هو أول من جمع ما بين اللوحين. وفي السنن الكبرى للبيهقي عن علي رضي الله عنه قال: اختلف الناس في القرآن على عهد عثمان رضي الله عنه، فجعل الرجل يقول للرجل: قراءتي خير من قراءتك فبلغ ذلك عثمان رضي الله عنه، فجمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إن الناس قد اختلفوا اليوم في القراءة وأنتم بين ظهرانيهم، فقد رأيت أن أجمعهم على قراءة واحدة، قال: فاجتمع رأينا مع رأيه على ذلك. قال: وقال علي رضي الله عنه: لو وليت مثل هذا الذي ولى، لصنعت مثل الذي صنع. وفي رواية: يرحم الله عثمان، لو كنت أنا لصنعت في المصاحف ما صنع عثمان - رضي الله عنه -. أخرجه البيهقي في المدخل. وروى الداني، وأبو عبيد، وابن أبي داود، عن مصعب بن سعد - يعني: ابن أبي وقاص - قال: أدركت الناس - قال ابن أبي داود -: متوافرين - حين شقق عثمان المصاحف، فأعجبهم ذلك. أو قال: لم يعب ذلك أحد.

عدد المصاحف التي نسخها عثمان

وقال أبو عبيد: وقال مصعب بن سعد: أدركت الناسَ حين فعل عثمان رضي الله عنه ما فعل، فما رأيت أحداً أنكر ذلك. يعني من المهاجرين والأنصار. وأهل العلم. عدد المصاحف التي نسخها عثمان قال أبو عمرو: وأكثر العلماء على أن عثمان رضي الله عنه، لما كتب المصحف جعله على أربع نسخ، وبعث إلى كل ناحية من النواحي بواحدة منهن. فوجه إلى الكوفة إحداهن، وإلى البصرة أخرى، وإلى الشام الثالثة. وأمسك عند نفسه واحدة. وقد قيل: إنه جعله سبع نسخ، ووجه من ذلك - أيضاً - نسخة إلى مكة، ونسخة إلى اليمن، ونسخة إلى البحرين. والأول: أصح، وعليه الأئمة، انتهى. وقد روى ابن أبي داود قي كتاب "المصاحف " القول الأول عن حمزة الزيات وقال: فبعث بمصحف منها إلى الكوفة، فوضع عند رجل من مراد. فبقي حتى كتبت مصحفي عليه. والقول الثاني رواه عن أبي حاتم السجستاني.

المنع من القراءات الشاذة

وتصديق ما مضى من النقول عن الصحابة رضي الله عنهم بموافقة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه: أنه ببركته وحسن نيته، وقع الحفظ لهذه الأمة، فانقطع ما كان به الخلاف بحفظ ما أثبته على سبيل التواتر، وذهاب ما أمر بتركه، فلم ينقل منه شيء من وجه يصح، واجتمعت الأمة على حظر قراءته، والمنع الشديد من تلاوته. المنع من القراءات الشاذة قال الشيخ محيي الدين النووي في شرح المهذب: ولا تجوز القراءة في الصلاة ولا غيرها بالقراءة الشاذة، لأنها ليست قرآناً، فإن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر فلو خالف وقرأ بالشاذ، أنكر عليه.

وقد اتفق فقهاء بغداد على استتابة من قرأ بالشواذ. ونقل الِإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر إجماع المسلمين على أنه لا تجوز القراءة بالشاذ، وأنه لا يُصَلى خلف من قرأ بها. قال العلماء: فمن قرأ بالشاذ - إن كان جاهلًا به وبتحريمه - عُرف ذلك فإن عاد إليه بعد ذلك، أو كان عالماً به، عُزرَّ تعزيراً بليغاً، إلى أن ينتهي عن ذلك، ويجب على كل مكلَّف قادر على الإنكار أن ينكر عليه. فإن قرأ الفاتحة في الصلاة بالشاذ، فإن لم يكن فيها تغيير معنى، ولا زيادة حرف ولا نقصه، صحت صلاته، وإلا، فلا.

ترك البسملة بين الأنفال وبراءة

ترك البسملة بين الأنفال وبراءة روى أحمد وأبو داود، والترمذي وقال: حسن، وأبو عبيد في الفضائل وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو بكر بن أبي داود في كتاب المصاحف، والحاكم - وصححه على شرط الشيخين، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قلت لعثمان رضي الله عنه: ما حملكم إلى أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني. وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" ووضعتموها في السبع الطول، ما حملكم على ذلك؟. فقال عثمان رضي الله عنه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يأتي عليه الزمان، وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، وكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها - وقال أبو عبيد: في الموضع الذي يذكر فيه - كذا وكذا، فإذا نزلت عليه الآية يقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، فإذا نزلت عليه الآية يقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت - براءة من أواخر القرآن نزولًا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبين لنا أمرها. وفي رواية: أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" ووضعتها في السبع الطول.

بدعة تزيين المصحف

وروى البخاري عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: قلت لعثمان رضي الله عنه: الآية التي في البقرة: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) لم تكتبها وقد نسختها الآية الأخرى؟ قال: يا ابن أخي لا أغَير شيئا عن مكانه. بدعة تزيين المصحف وروى ابن أبي داود، عن أبي بن كعب، وأبي ذر، وأبي الدرداء، وأبي هريرة، رضي الله عنهم، أن كلا منهم قال: إذا حليتم مصاحفكم، وزوقتم مساجدكم فعليكم الدثار. وروى أيضاً - عن برد بن سنان قال: ما أساءت أمة العمل، إلا زَينَتْ مصاحفها ومساجدها. وروى أيضاً عن شقيق، وأبي وائل من طريقين، أن كلا منهما قال: مر عليَّ عبد الله بمصحف، قد زين بالذهب، فقال: إن أحسن ما زُيِّنَ به المصحف، تلاوته في الحق. وعن أبي وائل قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: الرجل يقرأ القرآن منكوساً. فقال: منكوس القلب.

النهي عن خلط سورة بسورة في القراءة

ورواه أبو عبيد بسند صحيح. وللطبراني برجال - قال الهيثمي: ثقات - عن عبد الله رضي الله عنه، أنه جاءه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن، أرأيت رجلًا يقرأ القرآن منكوساً؟. قال: ذاك منكوس القلب، فأتى بمصحف قد زُين وذُهِّب، فقال عبد الله: إن أحسن ما زين به المصحف تلاوته في الحق. وقد تقدم في أوائل الفضائل. وتقدم كلام أبي عبيد عليه في غريب الحديث. النهي عن خلط سورة بسورة في القراءة وفي مصنف عبد الرزاق في الجامع عن ابن عيينة، عن "عبد الرحمن بن حرملة: سمعت بن المسيب يقول: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبي بكر رضي الله عنه وهو يصلي وهو يخافت، ومر بعمر رضي الله عنه وهو يجهر، ومر ببلال رضي الله عنه وهو يخلط فأصبحوا فاجتمعوا عنده فقال: مررت بك يا أبا بكر وأنت تخافت، قال: أجل بأبي وأمي، إني أسمع من أناجي. قال: ارفع شيئاً. قال: مررت بك يا عمر وأنت تجهر. قال: أجل بأبي وأمي، أسمع الرحمن، وأوقظ الوسنان، وأطرد الشيطان. قال: اخفض شيئاً.

قال: ومررت بك يا بلال وأنت تخلط. قال: أجل بأبي وأمي، أخلط الطيب بالطيب. قال: اقرأ كل سورة على نحوها. ورواه أبو عبيد عن يحيى بن سعيد، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد ابن المسيب، وقال: قال لبلال: مررت بك وأنت تقرأ من هذه السورة ومن هذه السورة، فقال: أخلط الطيب بالطيب. فقال: اقرأ السورة على وجهها. ورواه عن عمر مولى غُفْرة وقال: قال لبلال: إذا قرأت السورة فانفذها. وروى هذا الحديث أبو داود بإسناد - قال النووي في شرح المهذب: صحيح - عن أبي قتادة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج ذات ليلة، فإذا هو بأبي بكر رضي الله عنه يصلي يخفض من صوته، ومر بعمر رضي الله عنه وهو يصلي رافعاً صوته، فلما اجتمعا عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا بكر مررت بك وأنت تصلي تخفض من صوتك. قال قد أسمعتُ من ناجيتُ يا رسول الله، وقال لعمر رضي الله عنه: مررت بك وأنت تصلي رافعاً صوتك؟. فقال: يا رسول الله، أوقظ الوسنان، وأطرد الشيطان. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئاً. وقال لعمر: اخفض من صوتك شيئاً.

قال النووي: ورواه أبو داود - أيضاً - بإسناد صحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه بهذه القصة، ولم يذكر قوله: "فقال لأبي بكر" وزاد: "وقد سمعتك يا بلال تقرأ من هذه السورة، ومن هذه السورة. قال: كلام طيب يجمعه الله بعضه إلى بعض، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: كلكم قد أصاب". هذا ما أردت جمعه من فضائل القرآن، وحَمَلَته، وآدابه، والاعتناء بجمعه على العموم.

فضائل القرآن بخصوص السور

فضائل القرآن بخصوص السور وأما بخصوص السور: ما جاء في الاستعاذة فروى أبو داود، والترمذي، والنَّسائي، وابن ماجة، عن أبي سعيد

الخدري رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام من الليل كبَّر. ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، ثلاثاً، تبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، ثم يقول: لا إله إلا الله، ثلاثاً، ثم يقول: الله أكبر كبيرا، ثلاثاً، أعوذ بالله السميع العليم، من الشيطان الرجيم. من همزه، ونفخه، ونفثه. قال النووي: ولكن الحديث ضعيف. ورواه أبو عبيد في غريب الحديث، ولفظه: "كان إذا استفتح القراءة في الصلاة قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

من همزه ونفثه ونفخه، فقيل: يا رسول الله، ما همزه ونفثه ونفخه؟. فقال: أما همزه: فالموتة. وأما نفثه: فالشعر. وأما نفخه: فالكبر. قال أبو عبيد: الموَتة: الجنون. وإنما سمَّاه همزاً لأنه جعله من النَخْس والغمز، وكل شيء دفعته فقد همزته. وسمى الشعر نفثاً، لأنه كالشيء ينفثه الِإنسان من فيه، مثل الدقيقة ونحوها وأما الكبر فإنه سمي نفخاً، لما يوسوس إليه الشيطان في نفسه. فيعظمها عنده ويحقر الناس في عينه حتى يدخله الكبر، والتجبر والزهو. لكن المختار لجميع القراء العشرة، وعامة الفقهاء، في لفظ التعوذ: " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " من غير زيادة، موافقة لما ورد في سورة النحل من قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) - أي أردت قراءته، إرادةً قاربت الشروع فيها (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) . وموافقة لما في الصحيحين عن سليمان بن صُرَد رضي الله عنه قال: استبّ رجلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأحدهما يسب صاحبه مُغْضَباً، قد

احمر وجهه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إني لأعلم كلمة لو قالها، لذهب عنه ما يجده، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنَّسائي في اليوم والليلة، وأبو يعلى الموصلي في مسنده، عن أبي بن كعب رضي الله عنه. ورواه الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه. قال شيخنا العلامة مقرىء زمانه شمس الدين بن الجزري في كتابه النشر، وقد روى الطبراني في الكبير، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر حديثاً يأتي في سورة الحجر - إلى أن قال: ثم قرأ

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) . وروى أبو الفضل الخزاعي، من طريق يعقوب الحضرمي. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أعوذ بالله السميع العليم. فقال لي: يا ابن أم عبد قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أخذته عن جبريل، عن ميكائيل، عن اللوح المحفوظ. وقال: حديث غريب جيد الإسناد من هذا الوجه. وذكر شيخنا له طرقاً غير هذه، ثم قال: ورواه الخزاعي - أيضاً - في كتابه " المنتهى " بإسناد غريب،

ما جاء في البسملة

عن عبد الله بن مسلم بن يسار قال: قرأت على أبي بن كعب رضي الله عنه فقلت: أعوذ بالله السميع العليم. فقال: يا بني عمن أخذت هذا؟. قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، كما أمر الله عز وجل. وأورد شيخنا عن أبي عمرو الداني، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول ما نزل جبريل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمه الاستعاذة، فقال: يا محمد قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم قال: قل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. ورواه ابن جرير بلفظ: "أستعيذ بالله السميع العليم" من وجه ضعيف ومنقطع. ما جاء في البسملة وروى ابن مردويه في تفسيره بسند - قال ابن رجب: ضعيف - عن بريدة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أنزلت عليَّ آية لم تنزل على نبي غير سليمان بن داود عليه السلام وغيري. وهي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

فضل سورة الفاتحة

وروى أبو داود عن ابن عباس، والبراء، رضي الله عنهم، وصحح الحاكم حديث ابن عباس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعرف فصل السورة، حتى ينزل عليه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. ورواه البزار - قال الهيثمي: بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعرف خاتمة السورة، حتى ينزل عليه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فإذا نزل (بسم الله الرحمن الرحيم) ، علم أن السورة قد ختمت، واستقبلت - أو ابتدَأت - سورة أخرى. قال ابن رجب: وروى أبو ذر الهروي في معجمه بإسناد ضعيف. عن أبي بريدة - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ: (بسم الله الرحمن الرحيم) ، فسردها عشرين مرة. فضل سورة الفاتحة وروى الِإمام أحمد في المسند، عن ابن جابر رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -

قال: ألا أخبرك يا عبد الله بن جابر بأخْيَر سورة في القرآن؟. قلت: بلى يا رسول الله، قال: اقرأ الحمد للهِ رب العالمين، حتى تختمها. قال الهيثمي: وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو سيء الحفظ. وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات. وروى البخاري، وأبو داود، والنسائى، وابن ماجة -، والدارمي. عن أبي سعيد بن المُعَلى رضي الله - عنه قال،: كنت أصلي بالمسجد، فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم أجبه، ثم أتيته فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي، قال: ألم يقل الله عز وجل: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ) ؟. ثم قال: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن، قبل أن تخرج من المسجد، فأخذ بيدي، فلما أردنا أن نخرج قلت: يا رسول الله إنك قلتَ: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن، قال: (الحمد لله رب العالمين) ، هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته. ولابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسير فنزل، ونزل رجل إلى جانبه، فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: ألا أخبرك بأفضل القرآن؟. قال: بلى، فتلا: (الحمد لله رب العالمين) .

وروى مالك في الموطأ عن أبي سعيد بن المُعَلى - أيضاً - رضي اللُه عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نادى أبي بن كعب رضي الله عنه وهو يصلي، فلما فرغ من صلاته لحقه، قال أبي: فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على يدي فقال: إني لأرجو أن لا تخرج من المسجد، حتى تعلم سورة ما أنزل الله في التوراة، ولا في الِإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها، قال أبي: فجعلت أبطىء في المسجد رجاء ذلك، فلما دَنَوْتُ قلت: يا رسول الله ما السورة التي وعدتني؟. قال: كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟. قال أبن: فقرأت - الحمد لله رب العالمين - حتى أتيت على آخرها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هي هذه السورة، وهي السبع المثاني، والقرآن العظيم، الذي أعطيت. وأخرجه إسحاق في المسند عن أبي نفسه رضي الله عنه. وعند ابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم باختصار. وقال: على شرط مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وعند الترمذي وقال: حسن صحيح. وعبد بنِ حميد عن أبي هريرة نفسه رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على أبي بنِ كعب رضي الله عنه فقال: يا أبي - وهو يصلي - فالتفت أبي فلم يجبه، وصلى أبى فخفَّف، ثم انصرف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وعليك السلام ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك؟. فقال: يا رسول الله إني كنت في الصلاة. قال: أفلم تجد فيما أنزل الله إليَّ (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) ؟. قال: بلى، ولا أعود إن شاء الله. قال: أتحب أن أعلِّمك سورة لم ينزل في التوراة، ولا في الإنجيل. ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها؟ قال: نعم يا رسول الله. قال: لعلك أن لا تخرج من ذلك الباب حتى أخبرك بها. قال: فقمت معه، فجعل يحدثني ويدي في يده، فجعلت أتباطأ. كراهية أن يخرج قبل أن يخبرني بها، فلما دنوت من الباب، قلت: يا رسول الله، السورة التي وعدتني، فقال رسول الله - عز وجل -: كيف تقرأ في الصلاة؟ فقرأت أم الكتاب، قال: هي، هي، وهي السبع المثاني التي قال الله عز وجل: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) . الذي أوتيت. وفي رواية غيره قال: فقرأت أم القرآن، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

والذي نفسي بيده، ما أنزل في التوراة، ولا في الِإنجيل، ولا في الزبور. ولا في الفرقان مثلها، وأنها سبع من المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته. ولأحمد في المسند، والدارمي، وأبي عبيد في الفضائل والغريب، بسند صحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال - وقرأ عليه أبي رضي الله عنه أم القرآن - فقال: والذي نفسي بيده، ما أنزل في التوراة، ولا في الإنجيل - قال الدارمي: والزبور، وقال أبو عبيد: ولا في الزبور - ولا في الفرقان مثلها، وإنها السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أعطيت. ورواه أبو داود، والدارمي، عنه أيضاً، وقال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الحمد لله أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني. وللطبراني عن أبي زيد رضي الله عنه قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض فجاج المدينة، فسمع رجلًا يتهجد، ويقرأ بأم القرآن، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستمع حتى ختمها، ثم قال: ما في القرآن مثلها. وفي الفضائل لأبي عبيد، عن الحسن رحمه الله رفعه: من قرأ فاتحة الكتاب، فكأنما قرأ التوراة والِإنجيل، والزبور والقرآن.

وللبخاري، وأبي داود، والترمذي وقال: حسن صحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الحمد لله رب العالمين) أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني. ورواه الطبراني ولفظه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: الحمد لله رب العالمين، سبع آيات، إحداهن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، - وهي السبع المثاني، والقرآن العظيم، وهي أم القرآن، وفاتحة الكتاب. ولمسدد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: السبع المثاني: فاتحة الكتاب. ولأبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أوتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعاً من المثاني الطُّوَل، وأوتي موسى عليه السلام ستاً، فلما ألقى الألواح، رفعت ثنتان، وبقي أربع. ولإِسحاق بن راهوية عن علي رضي الله عنه، أنه سئل عن فاتحة الكتاب، فقال: حدثنا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أنها نزلت من كنز تحت العرش. وعَزَاه ابن رجب في كتاب "الاستغناء بالقرآن" إلى مسند يعقوب بن أبي شيبة بسند منقطع. وهو في كتاب الفضائل لأبي عبيد بإسناد ضعيف. وروى الطبراني في الأوسط - (بإسناد) قال الهيثمي: فيه الوليد

ابن الوليد، وثقه أبو حاتم، وابن حبان، وتركه جماعة، وبقية رجاله ثقات - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من مولود يولد، إلا وهو مكتوب في تشبيك رأسه خمس آيات من فاتحة الكتاب. وللترمذي، والنسائي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم عن أبي هريرة، عن أبي ابن كعب - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أنزل الله في التوراة، ولا في الإنجيل مثل أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي مقسومة بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. ولمسلم، والأربعة، وعبد الرزاق في مصنفه الجامع، وأبي عبيد في الفضائل عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن، فهي خداج (ثلاثاً) غير تمام،

فقيل لأبي هريرة رضي الله عنه: إنا نكون وراء الِإمام؟. فقال: اقرأ بها في نفسك (يا فارسي) فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي (نصفين) ولعبدي ما سأل، فإذا قال: الحمد للهِ رب العالمين قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى علي عبدي وإذا قال: مالك يوم الدين، قال الله: مجَّدني عبدي - وقال مرة: فوَّض إِليَّ عبدي - فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله: هذا بيني وبين عبدي - زاد أبو عبيد: أولها لي، وآخرها لعبدي - ولعبدي ما سأل. فإذا قال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل.

وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه هذا الحديث من طريق عبد الرزاق ولفظه: قال الله: قسمت الصلاة بيني، وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل. قال أبو هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأوا، يقول العبد: الحمد لله رب العالمين، فيقول الله: حمدني عبدي، ويقول العبد: الرحمن الرحيم، فيقول الله: أثنى علي عبدي، ويقول العبد: مالك يوم الدين، فيقول الله: مجدني عبدي، وقال: هذه بيني وبين عبدي، يقول العبد: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: إحداهما لعبدي ولعبدي ما سأل، قال: يقول عبدي: اهدنا الصراط المستقيم، إلى آخرها، يقول الله: هذه لعبدي، ولعبدي ما سأل. أخرجه مسلم بمعناه. وللشيخين وأصحاب السنن الأربعة، وعبد الرزاق في جامعه، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعداً. ورواه الدارقطني عنه بلفظ " لا تجزىء صلاة لا يقرأ الرجل فيها بفاتحة

الاستشفاء والرقية بفاتحة الكتاب

الكتاب "، وقال: إسناده حسن، ورجاله ثقات كلهم. ورواه ابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما - قال النووي: بإسناد صحيح - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب. ولأبي داود، والترمذي وقال: حسن، والبيهقي وصححه. والدارقطني وقال: إسناده حسن، والخطابي وقال: إسناده جيد لا مطعن فيه. عن عبادة ابن الصامت رضي الله عنه قال: كنا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الفجر، فقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال: لعلكم تقرأون خلف إمامكم؟. قلنا نعم. هذا يا رسول الله، قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها. الاستشفاء والرقية بفاتحة الكتاب وللدارمي، والبيهقي في الشعب، عن عبد الملك بن عمير رحمه الله - مرسلاً -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فاتحة الكتاب شفاء من كل داء.

وقد وصله أبو الحسن الخلعي في السابع من فوائده، عن جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما، ولفظه: فاتحة الكتاب شفاء من كل داء، إلا السام والسام: الموت. وللبزار عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا وضعت جنبك على الفراش، وقرأت فاتحة الكتاب، وقل هو الله أحد، فقد أمنت من كل شيء إلا الموت. وللبخاري ومسلم، وأبي داود، والترمذي واللفظ له، وعبد بن حميد، وأبي عبيد، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية، فنزلنا بقوم فسألناهم القِرَى، فلم يَقْرونا، فلدغ سيدهم، فأتونا فقالوا: هل فيكم من يرقى من العقرب؟. - وفي رواية: فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحي سليم لَدغ، فهل فيكم من راقٍ؟. قلت: نعم، ولكن لا أرقيه حتى تعطونا غنماً. قالوا: فإنا نعطيكم ثلاثين شاة، فقبلنا. فقرأت عليه " الحمد للهِ رب العالمين " سبع مرات. وفي رواية: إنه كان يجمع بزاقه - ويتفل.

فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي، وما به قلبة. وفي رواية: فأمر له بثلاثين شاة، وسقانا لبناً. وفي رواية: عبداً. فجعلت أقرأ فاتحة الكتاب، وأمسح المكان الذي لدغ حتى برأ. فأعطونا الغنم، فقبضنا الغنم. قال: فعرض في أنفسنا شيء فقلنا: لا تعجلوا حتى تأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فلما قدمنا عليه ذكرت له الذي صنعت. قال: وما علمت - وفي رواية: وما يدريك - إنها رقية، اقبضوا الغنم واضربوا لي معكم بسهم. ولفظ أبي عبيد: فرقاه رجل منهم، فأعطى قطيعاً من غنم، فأبى أن

يقبله فقدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكروا ذلك له، فقال: من أخذ برقية باطل، لقد أخذت برقية حق، خذوا واضربوا لي معكم بسهم. وللبخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن نفرا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مروا بماء فيهم لديغ أو سليم، فعرض لهم رجل من أهل الماء فقال: هل فيكم راق؟. (إن في الماء رَجلاً لديغا أو سليماً) ، فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاءٍ فبرأ، فجاء بالشاء إلى أصحابه. فكرهوا ذلك وقالوا: أخذت على كتاب الله أجراً؟. حتى قدموا المدينة، فقالوا: يا رسول الله، أخذ على كتاب الله أجراً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله. ولأبي داود في السنن بإسناد - قال النووي: صحيح - والنَّسائي. والبيهقي في الدعوات، والدارقطني في السنن في آخر كتاب الأطعمة وهذا لفظه، عن خارجة بن الصلت التميمي، عن عمه - قال النووي: واسمه: علاقة بن صحار وقيل: عبد الله رضي الله عنهما - أنه أتى النبي - لمجيفاسلم، ثم أقبل راجعاً من عنده، فمر على قوم فوجد عندهم رجلاً مجنوناً، فرقاه بفاتحة الكتاب فبرأ، فأعطى مائة شاة، قال: فأتيت

النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال: هل إلا هذا؟. قال: لا، قال: خذها، فلعمري من أكل برقية باطل فلقد أكلت برقية حق. ولفظ أبي داود: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فسلمت، ثم رجعت على قوم عندهم رجل مجنون، مُوثَق بالحديد، فقال أهله: إنا حُدثْنَا أن صاحبك هذا قد جاء بخير، فهل عندك شيء تداويه؟. فرقيته بفاتحة الكتاب فبرأ فأعطونا مائة شاة، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فقال: هل إلا هذا؟ - وفي رواية: هل قلت غير هذا؟ - قلت: لا، قال: خذها، فلعمري لمن أكل برقية باطل، لقد أكلت برقية حق. قال النووي في الأذكار: ورويناه في كتاب ابن السنى بلفظ آخر. وهي رواية أخرى لأبي داود، قال: أقبلنا من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتينا على حي من العرب، فقالوا: هل عندكم دواء؟. فإن عندنا معتوهاً في القيود، فجاءوا بالمعتوه في القيود، فقرأت عليه فاتحة الكتاب ثلاثة أيام غدوة وعشية، أجمع بزاقي، ثم أتفل. وفي رواية: كلما ختمها جمع بزاقه ثم تفله. فكأنما نشط من عقال. فأعطوني جعلا، فقلت: لا، فقالوا: سل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسألته، فقال: كل

فلعمري من أكل برقية باطل، لقد أكلت برقية حق. ولأبي عبيد عن قيس بن أبي حازم قال؟ جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني رقيت فلاناً، كانت به ريح فبرأ، والله إنْ رَقَيْتُه إلا بالقرآن، فأمر لي بقطيع من الغنم، أفآخذه؟. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أخذ برقية باطل، لقد أخذت برقية حق. وله عن طلحة بن مصرِّف قال: كان يقال: إذا قرىء القرآن عند المريض، وجد لذلك خفة، قال: فدخلت على خيثمة وهو مريض، فقلت: إني أراك اليوم صالحا؟. قال: إنه قرىء عندي القرآن. وعند مسلم، والنَّسائي، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما جبريل عليه السلام قاعد عند النبي - صلى الله عليه وسلم - (سمع) نقيضاً من فوقه، فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء، فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى

ما جاء في أن الفاتحة تعدل ثلثي القرآن

الأرض فلم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما، لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته. النقيض - بالمعجمة - هو: الصوت. وسيأتي في آخر الفلق قراءتها مع المعوذتين عند المريض. ما جاء في أن الفاتحة تعدل ثلثي القرآن ولعبد بن حميد عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: فاتحة الكتاب تعدل بثلثي القرآن. ولا يشكل هذا الحديث بالأحاديث المسمية لها أم القرآن، وأم الكتاب. لأنها اشتملت على جميع مقاصده، بحيث إنه ما من شيء من مقاصده إلا وهو تابع لها، فهي له أصل، كما قاله العلماء. فإن مقاصده - كما ذكر الإمام حجة الإِسلام الغزالي - ستة: ثلاثة مهمة وثلاثة متمة. الأولى: تعريف المدعو إليه، كما أشير إليه بصدرها، وتعريف

الصراط المستقيم وقد صُرح به فيها، وتعريف الحال عند الرجوع إليه سبحانه وهو الآخرة، كما أشير إليه بقوله: مالك يوم الدين. والثلاثة الثانية: تعريف أحوال المطيعين، كما أشير إليه بقوله: الذين أنعمت عليهم. وحكاية أحوال الجاحدين، وقد أشير إليها بالمغضوب عليهم ولا الضالين. وتعريف منازل الطريق، كما أشار إليه (إياك نعبد وإياك نستعينُ) . وإنما كان لا يشكل، لأنه ليس الذكر بالصريح، كالِإشارة والتلويح. كما سيأتي في الفرق بين سورتي الإخلاص: الكافرون، وقل هو الله أحد. قال الِإمام ناصر الدين بن الميلق: دلالات القرآن الكريم، إما أن تكون بالمطابقة، أو بالتضمن، أو بالالتزام. وهذه السورة تدل على جميع مقاصدي القرآن بالتضمن والالتزام، ولا تدل على جميعها بالمطابقة. والاثنان من الثلاثة: ثلثان. وأيضاً: الحقوق ثلاثة: حق الله على عباده، وحق العباد على الله. وحق بعض العباد على بعض. وقد اشتملت الفاتحة - صريحاً - على الحقين الأولين، فناسب كونها

كيف كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - للقرآن

بصريحها ثلثين، وحديث "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين "، شاهد لذلك. والله أعلم. ولأبي عبيد بسند رجاله ثقات، عن أبي النهال سيَّار بن سلامة، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سقط عليه رجل من المهاجرين، وعمر يتهجد من الليل، يقرأ بفاتحة الكتاب لا يزيد عليها، ويكبر ويسبح، ثم يركع ويسجد، فلما أصبح الرجل ذكر ذلك لعمر، فقال عمر: لأمك الويل، أليست تلك صلاة الملائكة؟. كيف كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - للقرآن وللبخاري وأبي داود، والنَّسائي، والترمذي، وابن ماجة، عن قتادة أنه سأل أنَساً رضي الله عنه، عن قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: كان يَمدُّ مداً ثم قرأ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) يمد ببسم الله، ويمد بالرحمن ويمد بالرحيم. وللطبراني في الكبير - قال الهيثمي: ورجاله ثقات -

عن مسعود بن يزيد الكندي قال: كان ابن مسعود رضي الله عنه يُقرىء رجلًا، فقرأ الرجل: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) مرسلة، فقال ابن مسعود: ما هكذا أَقْرَأَنِيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: كيف أَقْرَأَكَها يا أبا عبد الرحمن؟. قال: أقرأنيها: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ" بمدودها. وروى الطبراني في الأوسط - قال الهيثمي، وفيه من لم أعرفه. عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: - كانت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المد، ليس فيه ترجيع. ثم ينام قدر ما صلى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى. حتى يصبح ثم نعتت قراءته، فإذا هي تنعت قراءة مُفَسرة حرفاً حرفاً. ولعبد الرزاق عن ابن التيمي، عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتنفس في الحمد ثلاث مرات. وللترمذي من رواية ابن أبي مليكة، عن أم سلمة رضي الله عنها

قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقَطِّع قراءته يقول: الحمد للهِ رب العالمين، ثم يقف الرحمن الرحيم، ثم يقف، وكان يقرؤها مَلِكِ يوم الدين. وقال: هذا حديث غريب. وأخرجه أحمد وأبو داود فقالا: قالت: قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين (يُقَطعُ) قراءته، آيةً، آيةً. وروى الإمام أبو يعقوب البويطي عنها رضي الله عنها قالت: كان - صلى الله عليه وسلم - (يقرأ) في الصلاة " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " آية، الحمد للهِ رب العالمين - آيتين - الرحمن الرحيم، ثلاثة. مالك يوم الدين. أربعة. وعد السهروردي في كتابه "الصباح" إلى "الضالين". وكذا فعل أبو عبد الله أحمد بن محمد، المعروف بابن أوس المقرىء

الدليل على أن البسملة آية من الفاتحة

في كتابه، "الوقف والابتداء" فعد إلى (الضالين) . وأسند ذلك عن أم سلمة رضي الله عنها من طريق ابن جريج. وزاد بعد قوله: "الضالين " يقطع قراءته حرفاً حرفاً، ويمد حتى بلغ سبعاً. الدليل على أن البسملة آية من الفاتحة وذكر الحديث عن أم سلمة رضي الله عنها ابنُ خزيمةَ في صحيحه ولفظه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ في الصلاة أول الفاتحة " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " فعدها آية. "الحمد لله رب العالمين" آيتين. "الرحمن الرحيم" ثلاث آيات "مالك يوم الدين" أربع آيات. وقال: هكذا (إيَّاكَ نعبدُ وإيَّاكَ نستعين) وجمع خمس أصابعه. فقد تبين أن العدد كان بالأصابع، زيادة على الوقف. ورواه - أيضاً - البيهقي، والطحاوي.

وأسند أبو عمرو الداني في كتابه "البيان في عدد آي القرآن" مستدلًا على العدِّ فيَ الصلاة باليسار، عن أم سلمة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُعُدُّ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - آية فاصلة - الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين. وكذلك كان يقرؤها: (إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم) ، إلى آخرها سبع، وعقد بيده اليسرى، وجمع كفيه. وروى أبو داود، وابن خزيمة، والدارقطنى وقال: رجال إسناده كلهم ثقات وهو إسناد صحيح، والحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين: عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قرأ يُقَطِّع قراءته آية، آية. وفي رواية: يُقَطِّع قراءته: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالكِ يوم الدين. (وكذلك كان يقرؤها: إياك نعبدُ وإياكَ نَسْتَعِينُ) . وروى الداني في بيانه من طريق ابن جريج، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: دخل في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد للهِ رب العالمين، إلي آخرها سبع يا أم سلمة. وروى عبد الرزاق في جامعه، وأبو عبيد في الفضائل، عن ابن جريج (قال) : أخبرني أبي، أن سعيد بن جبير (رضي الله عنه) أخبره أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ولقد آتيناك سبعاً من المثاني" أم القرآن. وقرأها علي كما قرأتها عليك، ثم قال: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " الآية السابعة، قال ابن عباس: وقد أخرجها الله لكم، فما أخرجها لأحد قبلكم. قال عبد الرزاق: قرأها علينا ابن جريج: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " آية. الحمد لله رب العالمين، آية. الرحمن الرحيم، آية. مالك يوم الدين. آية. إياك نعبد وإياك نستعين، آية. اهدنا الصراط المستقيم، آية. صراط الذين أنعمت عليهم، إلى آخرها. زاد أبو عبيد قال: فقلت لأبي: فأخبرك سعيد أن ابن عباس رضي الله عنهما قال له: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " آية من القرآن؟. قال: نعم.

وروى ابن خزيمة في صحيحه، والبيهقي، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني) قال: هي فاتحة الكتاب. قيل: فأين السابعة؟. قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. قال النووي في شرح المهذب: وفي سنن البيهقي عن علي، وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم، رضي الله عنهم: أن الفاتحة هي السبع المثاني. وهي سبع آيات، وأن البسملة هي الآية السابعة. وفي سنن الدارقطنى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قرأتم الحمد، فاقرأوا " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، إنها أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني. و" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، إحدى آياتها. قال الدارقطني: رجال إسناده كُلهم ثقات، وروى موقوفاً. وفي سنن الدارقطني - أيضاً - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبريدة رضي الله عنه: بأي شيء تستفتح القرآن، إذا افتتحت الصلاة؟. قال: قلت: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، (قال: هي هي، ثم خرج.

وروى النسائي في سننه، وابن خزيمة في صحيحه، عن نعيم بن عبد الله المُجْمِر قال: صليت وراء أبي هريرة رضي الله عنه فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن، حتى إذا بلغ (ولا الضالين) قال: آمين. قال الناس: آمين، ويقول كلما سجد: الله أكبر، وإذا قام من الجلوس في الاثنين قال: الله أكبر، ثم يقول إذا سلم: والذي نفسي بيده، إني لأشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال النووي: ورواه (أبو حاتم) ابن حبان في صحيحه. والدارقطني في سننه وقال: هذا حديث صحيح (ورواته كلهم ثقات) . (ورواه الحاكم في المستدرك على الصحيح، وقال،: على شرط البخاري ومسلم. واستدل به الحافظ والبيهقي في كتاب "الخلافيات" ثم قال: ورواة هذا الحديث كلهم ثقات، مُجْمَع على عدالتهم، محتج بهم في الصحيح. ورواه الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه كان إذا قرأ وهو يؤم الناس، افتتح ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أمَّ الناس، قرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وفي رواية: جهر ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. قال أبو هريرة: وهي آية من كتاب الله، أقرأوا إن شئتم فاتحة الكتاب، فإنها الآية السابعة. وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ولأمر قال الدارقطني: رجال إسناده كلهم ثقات. وروى الدارقطني في السنن، والحاكم في الستدرك وقال: هذا إسناد صحيح وليس له علة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجهر ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وفي رواية الدارقطني - قال: إسنادها صحيح، ليس في روايته مجروح -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جهر ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وفي رواية أخرى رواها الترمذي والدارقطني: كان النبي يفتتح الصلاة ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

وروى الدارقطني بسند - قال: رواته كلهم ثقات - عن عبد خير قال: سئل عليَّ رضي الله عنه، عن السبع المثاني فقال: الحمد للهِ رب العالمين. فقيل: إنما هي ست آيات، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية. ولصاحب الفردوس عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، سبحت معه الجبال، إلا أنه لا يسمع ذلك منها. ولأبي عبيد عن سعيد بن المسيب: أنَ كِتابَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى قيصر فقرأه، فقال: إن هذا الكتاب لم أره بعد سليمان بن داود: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وروى أبو عبيد عَدَّها آيةً من الفاتحة، عن محمد بن كعب القرظي وغيره. وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جهر ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

فضل " آمين " بعد الفاتحة

فضل " آمين " بعد الفاتحة وفي الفردوس عن أنس رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثم قرأ فاتحة الكتاب، ثم يقول: آمين، لم يبق في السماء مَلَك مقرب، إلا استغفر له. ولمسلم، وأبي داود، والنَّسائي، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبَّر فكبِّروا، فإذا قرأ فأنصتوا، وإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا: آمين، يجبكم الله. ولأبي داود وهذا لفظه، والترمذي وقال: حسن، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه، أنه حفظ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سكتتين: (سكتة إذا

كبَّر) وسكتة إذا فرغ من قراءة (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) . وصدقه على ذلك أبي بن كعب رضي الله عنه. وروى الشيخان وغيرهما - وهذا لفظ (البخاري) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا قال الإِمام: (غير المغضوب عِليهم ولا الضالين) ، فقولوا: آمين، فإنه من وافق قوله قول الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه.

وروى أبو داود، والترمذي وقال أيضاً: حسن، عن وائل بن حُجْر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فقال: آمين، مد بها صوته. ولابن ماجة بإسناد - قال المنذري: صحيح - وابن خزيمة في صحيحه، وأحمد والطبراني في الأوسط، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما حسدتكم اليهود (على شيء) ما حسدتكم على السلام والتأمين.

ولأبي داود عن أبي زهير النميري رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلًا يدعو. فقال: أوْجَبَ إن ختم، فقال رجل من القوم: بأي شيء يختم؟. قال: بآمين (فإنه إن ختم بآمين فقد أوجب) . قال أبو زهير: آمين مثل الطابع على الصحيفة. وللبيهقي في الدعوات، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - جلوساً، فقال: إن الله عز وجل أعطاني خصالًا ثلاثاً: أعطاني الصلاة في الصفوف، وأعطاني التحية، إنها لَتَحِيَّةُ أهل الجنة، وأعطاني التأمين ولم يعطه أحداً من النبيين قبلي، إلا أن يكون الله أعطى هارون، يدعو موسى وهارون يؤمِّن، عليهما السلام. وروى عبد الرزاق في جامعه عن بشر بن رافع، عن أبي عبد الله، عن

أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان موسى بن عمران عليه السلام إذا دعا أمَّن هارون عليه السلام. قال: وسمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: "آمين" اسم من أسماء الله عز وجل.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الجزء الثاني: مَصَاعِدُ النَّظَرِ للإشْرَافِ عَلَى مَقَاصِدِ السِّوَرِ ويُسَمَّى: "المَقْصِدُ الأَسْمَى في مُطَابَقَةِ اسْمِ كُلِّ سُورَةٍ لِلمُسَمَّى"

سورة البقرة

سورة البقرة مدنية إجماعاً. قال النجم النسفي: ونزلت يوم النحر بمنى في حجة الوداع (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) وهي آخر آية نزلت. وقال الشمس الأصفهاني: قال ابن عباس رضي الله عنهما: هذه السورة أول ما نزل بالمدينة، نزلت في مُدَدٍ شتى. وقيل: فيها آخر آية نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) .

عدد آياتها

وقيل: هذه الآية ليست بمدنية، نزلت يوم النحر في حجة الوداع. وهو قول من لم يتحقق الفرق الذي تقدم بين المكي والمدني، على أنه قد حكاه في سورة النساء ولم يعتمده، ثم حكاه في سورة المائدة واعتمده. والله الموفق. وتسمى: السنام، والذروَة، والزهراء، والفسطاط عدد آياتها وعدد آيها مائتان وثمانون كوفي، وسبع بصري، وخمس فيما عداهما. اختلافها: إحدى عشرة آية. انفرد الكوفي بعد (الم) ، والشامي بعد (ولهمِ عذاب عظيم) والبصري بعد (إلا خائفين) ، (قولاً معروفا) . والمدني الأول بعد (من الظلمات إلى النور) ، والمدني الأول والمكي بعدِّ (يسئلونك ماذا ينفقون) . والكوفي والشامي والمدني الأخير بعدِّ (لعلكم تتفكرون) . والمدني الأخير والبصري والمكي بعدِّ (الحي القيومُ) . وأسقط الشامي (مُصْلِحُون) ، والمدني الأول (واتقون يا أولي الألباب)

ما يشبه الفاصلة فيها

والمدني الأخير (في الآخرة من خَلاَق) ما يشبه الفاصلة فيها وفيها مُشْبِهُ الفاصلة: اثنا عشر.

منها أحد عشر موضعاً لم يعدها أحد بالإجماع. والثاني عشر جاء فيه خلاف. أول (من خَلاق) ، (وهم يتلون الكتاب) ، (هم في شِقاق) ، (والأنفس والثمرات) ، (في بطونهم إلا النار) ، (طعامُ مسكين) ، (من الهُدَى والفرقان) ، (والحرماتُ قِصاص) ، (عند المَشْعَرِ الحَرام) ، وأول (ماذا ينفقون) ، (الخبيثَ منه تُنْفِقون) .

مقصودها

والثاني عشر: (ولا شَهِيدُ (، وغلط من عزاها إلى المكي. وفيها مما يشبه الوسط، وهو آيتان اثنتان. (كن فيكون) ، (ليكتمون الحقَّ وهم يعلمون) . رويها: سبعة أحرف، يجمعها قولك: قم لندبر. القاف: (من خلاق) ، واللام: (السبيل) . مقصودها والمقصود من هذه السورة: إقامة الدليل على أن الكتاب هدى ليُتَّبَع في كل حال، وأعظم ما يهدي إليه الإيمان بالغيب، ومجمعه: الِإيمان بالآخرة، ومداره: الإيمان بالبعث، الذي أعربت عنه قصة البقرة، التي مدارها الِإيمان بالغيب، فلذلك سميت بها السورة، وكانت بذلك أحق من قصة إبراهيم عليه السلام، لأنها في نوع البشر، ومما تقدم في قصة بني إسرائيل من الِإحياء بعد الِإماتة بالصعق، وكذا ما شاكلها. لأن الإِحياء في قصة البقرة عن سبب ضعيف في الظاهر، بمباشرة من كان من آحاد الناس. فهي أدل على القدرة، ولا سيما وقد اتْبعتْ بوصف القلوب والحجارة، بما عم المهتدين بالكتاب والضالين، فوصفها بالقسوة الموجبة للشقوة، ووصف الحجارة بالخشية الناشئة في الجملة عن التقوى المانحة للمدد المتعدي نفعه إلى عباد الله.

وفيها إشارة إلى أن هذا الكتاب فينا كما لو كان فينا خليفة من أولي العزم من الرسل عليهم السلام يرشدنا في كل أمر يحزبنا، وشأن ينوبنا، إلى صواب المخرج منه، فمن أعرض خاب، ومن تردد كاد، ومن أجاب أتقى وأجاد. وسميت بالزهراء: لا يجابها إسفار الوجوه في يوم الجزاء لمن آمن بالغيب ولم يكن في شك مريب، فيحال بينه وبين ما يشتهي. ولأنها سورة الكتاب الذي هو هادٍ، والهادي يلازمه النور الحسي المدرك بالبصر، أو المعنوي المدرك بالبصيرة. وبالسنَام: لأنه ليس في الِإيمان بالغيب - بعد التوحيد الذي هو الأساس الذي ينبني عليه كل خبير، والتاج الذي هو نهاية السير. والعالي على كل غير أعلى ولا أجمع من الِإيمان بالآخرة. ولأن السنام أعلى ما في الطية الحاملة، والكتاب الذي هي سورته، هو أعلى ما في الحامل للأمة في مسيرهم إلى دار القرار، وهو الشرع الذي أتاهم به رسولهم - صلى الله عليه وسلم -. وبهذا علم - أيضاً - سر التسمية بالذروة وبالفسطاط، والفسطاط: هو الخيمة، والمدينة، والجماعة، ولا شك أن الكتاب من الدين بتلك المنزلة. ولا سيما وفي سورته الدعائم الخمس الخطيرة، وهو: الجهاد، وغير ذلك.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى مالك في الموطأ، أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها. أي يتعلم فرائضها وأحكامها، مع حفظه لها. وروى الطبراني بإسناد - قال الهيثمي: فيه عدي بن المفضل، وهو ضعيف - عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة، لا يدخله الشيطان تلك الليلة. وروى الطبراني في الكبير بسند فيه عاصم بن بهدلة - قال الهيثمي: وهو ثقة وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لكل شيء سنام، وسنام القرآن سورة البقرة، وإن لكل شيء لُبَاباً، وإنَّ لباب القرآن المفصَّل، وإن الشياطين لتخرج من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة، وإن أصفَرَ البيوت، للجوف الذي ليس فيه من كتاب الله شيء. وهو مرفوع حكماً.

وفي بعض طرقه: ما خلق الله من سماء، ولا أرض، ولا سهل، ولا جبل أعظم من آية الكرسي. وهو ما تمسك به المبتدعة في قولهم بخلق القرآن، ولا متمسك فيه. لأن الخلق وقع على المخلوقات التي سماها، لا على الآية، كما لو قلت، لا سيف أمضى من القدر لم يلزم منه أن يكون القدر سيفاً. ومنه: " لا شخص أغير من الله ". الشخص غيره، وهو واضح. وبمثل (هذا) فسره الأئمة: ابن عيينة وأحمد، وأبو عبيد، رحمهم الله. وروى ابن أبي حاتم في تفسيره عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:: يا رسول الله، إنَّا نقرأ من القرآن فنرجو. ونقرأ فنكاد أن نيأس - أو كما قال - فقال: ألا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار؟. قالوا: بلى يا رسول الله قال: (الم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) ، إلى قوله (المفلحون) هؤلاء أهل الجنة، قالوا: إنا نرجو أن نكون من هؤلاء، ثم قال: (إن الذين كفروا سواء عليهم - إلى قوله: عظيم) ، هؤلاء أهل النار، قالوا: لسنا هم يا رسول الله، قال: أجل. وروى الترمذي في جامعه، والطبراني، وأبو يعلى في مسنده، وابن حبان في صحيحه من طريقه، عن سهل بن سعد رضي الله عنه، والدارمي

عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن لكل شيء سناماً، وإن سنام القرآن سورة البقرة، من قرأها في بيته ليلا، لم يدخل الشيطان بيته ثلاث ليال ومن قرأها نهاراً، لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام. وروى أحمد - قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح - والدارمي. ومحمد بن يحيى، وأبو بكر بن أبي شيبة، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تعلَّموا سورة البقرة، فإن أخْذَها بركة، وتَرْكَها حسرة، ولا تستطيعها البَطَلَة. قال الدارمي وأحمد، ثم سكت ساعة، ثم قال: تعلموا البقرة وآل عمران فإنهما الزهراوان.

وقال الدارمي وأحمد: وأنهما يُظلان صاحبهما يوم القيامة، كأنهما غمامتان. وقال الجماعة: يجيئان يوم القيامة كأنهما غمامتان - أو غيايتان - أو فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا. زاد الدارمي: وأن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه القبر. الحديث كما تقدم في الفضائل العامة. قال شيخنا الحافظ شهاب الدين البوصيري: وله - أي أصل الحديث - بدون هذه الزيادة شاهد عند البزار بسند صحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وروى الدارمي عن عبد الله رضي الله عنه موقوفاً: ما من بيت تقرأ فيه سورة البقرة، إلا خرج منه الشيطان، وله ضراط. وعن خالد بن معدان قال: سورة البقرة تعلمها بركة، وتَرْكها حسرة ولا تستطيعها البطلة، وهي فسطاط القرآن. وللدارمي، وعبد بن حميد، عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها

قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) ، و (إلهكم إله واحد) . وروى أبو عبيد في الفضائل، وعبد الرزاق في المصنف الجامع. ومسلم في الصحيح، والطبراني في الأوسط في ترجمة أحمد بن خليل، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: اقرأوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرأوا الزهراوين: سورةَ البقرة، وسورةَ آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو غيايتان، أو فِرْقان من طير صَواف تُحَاجانِ عن صاحبهما، اقرأوا سورة البقرة، فإن أخْذَها بركة، وتَرْكَها حسرة ولا تستطيعها - وفي رواية: ولا تطيقها - البَطَلَةُ.

قال معاوية بن سلام: بلغني أن البطلة: السحرة. وزاد مسلمٍ في رواية: ما من عبد يقرأ بهما في ركعة قبل أن يسجد. ثم يسأل الله شيئا إلا أعطاه، إن كادت لتحصي الدين كله. والغياية - بمعجمة وتحتانيتين -: الظلَّة. وذلك أنَ تالي هاتين السورتين حق تلاوتهما، لما كان في الدنيا حاملًا لثقلهما، وحرارة أمرهما ونهيهما، ناسب في يوم الجزاء أن ترفعا عنه وتظلاه دفعاً للحر والنصب عنه. ولعل خصوصية البقرة في طرد الشيطان من أجل أن مقصودها ومدلول اسمها ملازم لطرد الشيطان، ببيان خفي أمره، وإبطال عظيم شره، بفتنته ومكره فيما جر به الإنسان إلى القتل من كبره، فوضح أمر القاتل حتى وقع القصاص الذي هو جناه، فزال بذلك أثر الذنبين اللذين هما أول المعاصي. وهما: الكبر، والقتل. ومنعها من السحرة، من أجل ما فيها من قصة سليمان عليه السلام من توهية السحر، وإبطال ضرره، وتوهية كيد أهل الكتاب الذين هم أعظم الناس إكباباً على السحر، مع إتيان أنبيائهم عليهم السلام بإبطاله. وطرح أمره وإهماله. وسيأتي هذا الحديث بهذا اللفظ في آل عمران.

وروى الطبراني في الأوسط في ترجمة مقدام بن داود، بن عيسى الرعيني - قال الهيثمي: وهو ضعيف - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي عبع قال: اقرؤا القرآن، ولا تاكلوا به، ولا تستكثروا به. ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، تعلموا القرآن، فإنه شافع لأصحابه يوم القيامة، تعلموا البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة، تعلموا الزهراوين. فذكر نحوه. قال المنذري: الغيايتان - مثنى غياية، بغين معجمة، وياءين تحتانيتين - وهي: كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه، كالسحابة والغاشية ونحوهما، وفرقان: أي قطعتان. ولمسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كثيراً ما يقرأ في ركعتي الفجر، في الأولى منهما: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) الآية التي في البقرة، وفي الآخرة منهما: (آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون) . وفي رواية: والتي في آل عمران: (تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) . ورواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ

في ركعتي الفجر: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) في الركعة الأولى وبهذه الآية: (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) . أو (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) . قال أبو داود: شك الداوردي. ولأحمد عن رجل، عن معقل بن يسار رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: البقرة سَنَام القرآن وذروته، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكاً واستخرجت (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) من تحت العرش. فوصلت بها أو فوصلت بسورة البقرة. قال الحافظ نور الدين الهيثمي: ورواه الطبراني، وأسقط المبهم. وروى وكيع في تفسيره عن الحسن قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي القرآن أفضل؟. قال: سورة البقرة، وسئل: فأي آية أفضل؟. قال: آية الكرسي. وسيأتي تخريجه من عند الحارث بزيادة.

وسيأتي هذا الحديث في سورة يس، من مسند أبي يعلى الموصلي، إن شاء الله تعالى. وللترمذي - وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث حكيم بن جبير، وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير وضعفه - عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لكل شيء سنام، وإن سنام القرآن سورة البقرة، وفيها آية هي سيدة أي القرآن، آية الكرسي. ورواه عبد الرزاق في جامعه، والحاكم وقال: صحيح الإسناد. ولفظه: سورة البقرة فيها آية هي سيدة آي القرآن، لا تقرأ في بيت وفيه شيطان إلا خرج منه، آية الكرسي. وعند مسلم، والترمذي، والنَّسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة.

وزاد مسلم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده، فليجعل لبيته نصيباً من صلاته، فإن الله جاعلٌ في بيته من صلاته خيرا. ورواه أبو عبيد عنه، ولفظه: صلوا في بيوتكم، ولا تجعلوها قبوراً. وزَينُوا أصواتكم بالقرآن، فإن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة. وللطبراني عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي في قال لأصحابه: تعلموا البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة. ولأبي عبيد عن أنسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الشيطان يخرج من البيت إذا سمع سورة البقرة تقرأ فيه. وعند الحاكم عن عبد الله رضي الله عنه موقوفاً، وقال: صحيح على شرطهما ومرفوعاً بإسناد - قال المنذري: حسن بما تقدم -: اقرأوا سورة البقرة في بيوتكم فإن الشيطان لا يدخل بيتاً تقرأ فيه سورة البقرة.

وهو مرفوع على كلا التقديرين، لأن مثله لا يقال من قبل الرأي. ورواه أبو عبيد موقوفاً بلفظ: إن الشيطان يفر من البيت يسمع فيه سورة البقرة. وروى عبد الرزاق عن معمر، عن ابن إسحاق، عن أبي الأحوص. وكذا الطبراني بأسانيد - قال الهيثمي: رجال أحدها رجال الصحيح - قال: قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن هذا القرآن مأدبة الله، فمن استطاع أن يتعلم منه شيئاً فليفعل، فإن أصفر البيوت من الخير، الذي ليس فيه من كتاب الله شيء وإن البيت الذي ليس فيه من كتاب الله شيء خرب. كخراب البيت الذي لا عامر له وإن الشيطان ليخرج من البيت يسمع سورة البقرة تقرأ فيه. وفي الفردوس عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ سورة البقرة في ليلة، تُوِّجَ بها تاجاً في الجنة. ورواه الدارمي عن عبد الرحمن بن الأسود موقوفاً عليه، وله حكم الرفع.

وعند ابن حبان في صحيحه عن أسيد بن حضير رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما أنا أقرأ سورة البقرة، إذ سمعت وجبة من خلفي، فظننت أن فرسي انطلق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأ أبا عتيك. قال: فالتفتُ فإذا مثل المصباح مُدَلى بين السماء والأرض، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: اقرأ أبا عتيك، فقال: يا رسول الله: فما استطعت أن أمضي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تلك الملائكة تنزلت لقراءة سورة البقرة أما إنك لو مضيت، لرأيت العجائب. وللشيخين وغيرهما - واللفظ لمسلم - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن أسيد بن حضير رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله بينما أنا البارحة من جوف الليل أقرأ في مِرْبَدي، إذ جالت فرسي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أقرأ ابنَ حضير قال: فقرأت ثم جالت أيضاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأ ابنَ حضير، قال: فانصرفت وكان يحيى - يعني ابنه - قريباً منها خشيت أن تطأه، فرأيت مثل الظلَّة فيها أمثالى السرُج، عرجت في الجو

حتى ما أراها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تلك الملائكة (كانت) تسمع لك، ولو قرأت لأصبحت يراها الناس، ما تستتر منهم. ورواه إسحاق في مسنده، والنَّسائي في الكبرى، وابن حبان في صحيحه بنحوه. ورواه عبد الرزاق عنه بلفظ: فغشيتني مثل السحابة، فيها المصابيح. وامرأتي نائمة إلى جنبي وهي حامل، والفرس مربوط في الدار، فخشيت أن تنفر الفرس فتفزع المرأة، فتلقى ولدها، فانصرفت من صلاتي، فذكرت ذلك للنبي حين أصبحت، فقال: اقرأ أسيد، ذلك ملَكُ يستمع القرآن. ورواه البخاري، وأبو عبيد، عن أبي سعيد الخدري، عن أسيد بن حضير رضي الله عنهما قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس، فسكت فسكت، ثم قرأ فجالت ثم قرأ فجالت، فانصرف إلى ابنه يحيى، وكان قريباً منها فأشفق أن تصيبه، فلما انصرف رفع رأسه إلى السماء فإذا هو بمثل الظلة، فيها أمثال المصابيح. عرجت إلى السماء، حتى ما يراها، فلما أصبح، حَدَّثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: يا ابنَ حضير اقرأ، يا ابنَ حضير اقرأ، قال: أشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى وكان منها قريباً، فانصرفتُ إليه،، ورفعتُ

رأسي إلى السماء فإذا هي مثلُ الظُلَّة، فيها أمثال المصابيح، فعرجتْ حتى لا أراها. قال: أوتدري ما ذاك؟. قال: لا يا رسول الله، قال: تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأتَ لأصبحتْ ينظر الناس إليها، لا تتوارى منهم. ورواه عن كعب بن مالك، عن أسيد بن حضير رضي الله عنهما، أنه كان على ظهر بيته يقرأ القرآن، وهو حَسَن الصوت، فذكر نحوه. ورواه الحافظ ابن رجب من طريق عبد الله بن محمد البغوي، وأبو عبيد - أيضاً - من طريق أخرى، ولفظه: قال: قلت يا رسول الله، بَيْنَما أنا أقرأ البارحة بسورة البقرة - فلما انتهيت إلى آخرها، سمعت رَجَّةً من خلفي، حتى ظننتُ أن فرسي تَطْلِقُ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأ أبا عتيك (مرتين. قال: فالتفتُ إلى أمثال المصابيح ملء ما بين السماء والأرض. فقال: اقرأ أبا عتيك) فقال: والله ما استطعت أن أمضي. فقال: تلك الملائكة نزلت لقراءة القرآن - وقال البغوي: لقراءة سورة البقرة - أما إنك لو مضيتَ، لرأيتَ الأعاجِيب. ورواه الحافظ ابن رجب من طريق عثمان بن أبي شيبة من حديث

محمود بن لبيد: أن أسيد بن حضير رضي الله عنهما، كان من أحسن الناس صوتاً بالقرآن فقرأ ليلة وفرسُه مربوط عنده، وابنُه نائم إلى جنبه، فأدار الفرس في رباطه، فقرأ فأدار الفرس في رباطه، فانصرف وأخذ ابنه، وخشى أن يطأه الفرس، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأ أسيد فإن الملائكة لم تزل يستمعون صوتك، فلو أنك قرأت، أصبحت ظلة بين السماء والأرض، يراها الناس فيها الملائكة. قال ابن رجب: وفي هذا السياق دلالة على فضيلة الصوت الحسن بالقرآن. ولأبي عبيد - أيضاً - عن جرير بن يزيد: أن أشياخ أهل المدينة حدثوه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيل له: ألم تر ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه لم تزل دارُه البارحة تزهو مصابيح؟. قال: فلعله قرأ سورة البقرة، فسئل ثابت فقال: قرأت سورة البقرة.

ولعل خصوصية البقرة بذلك، من أجل قوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ) . فإن ظهور مجد الله سبحانه بني إسرائيل على الطور، كان في ظلل الغمام والنار، ولذلك تليت الآية بقوله تعالى: (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) . ولأبي عبيد في الغريب والفضائل، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: جَردوا القرآن، ليَرْبُوَ فيه صغيركم، ولا ينأى عنه كبيركم، فإن الشيطان يخرج من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة. وفي رواية الفضائل: يفر من البيت الذي يسمع فيه سورة البقرة. ثم ذكر أبو عبيد اختلاف الناس في معناه، فقيل: جرّدوه من النقط والفواتح والتعشير ونحوه. ولا تخلطوا به غيره. وروى: أن رجلا قرأ عند ابن مسعود رضي الله عنه فقال: أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم. فقال عبد الله: جَرِّدُوا القرآن. وقيل: بل المعنى: أن يتعلم وحده، وتُتْرَكَ الأحاديث. ثم رد أبو عبيد هذا، بأن فيه إبطالَ السنن، وبأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين وجه الناس إلى العراق قال: جردوا القرآن، وأقِلُّوا الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا شريككم.

ففي قوله: "أقلوا الرواية" ما يبين أنه لم يرد بتجريد القرآن ترك الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما أراد - عندنا - علمُ أهلِ الكتاب. وأيد ذلك بأن عبد الله نفسه كان يحدِّث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بحديث كثير، ثم قوى أنه إنما حثهم على أن لا يتعلم شيء من كتب الله عز وجل، لأن ما خلا القرآن من كتب الله، إنما يؤخذ عن اليهود والنصارى، وليسوا بمأمونين عليها. وروى فيه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أنه قال: من أشراط الساعة: أن تُوضع الأخيار، وتُرفع الأشرارُ، وأن تُقرأ المثنَاةُ على رؤوس الأشهاد، لا تغَيرُ قيل: وما المثنَاة؟. قال: ما استُكْتِبَ من غير كتاب الله. قال أبو عبيد: فسألت رجلاً من أهل العلم بالكتب الأولى عن المثناة فقال: إن الأحبار والرهبان من بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام، وضعوا كتاباً فيما بينهم على ما أرادوا من غير كتاب الله عز وجل، فسمَّوْه المثناة كأنه يعني: أنهم أحلوا فيه ما شاءوا، وحرموا فيه ما شاءوا، على خلاف كتاب الله. فبهذا عرف تأويل حديث عبد الله بن عمرو، وأنه إنما كره الأخذ عن أهل الكتاب لذلك المعنى، وقد كانت عنده كُتُب (وقعت) إليه يوم

اليرموك، فاظنه قال هذه لمعرفته بما فيها، ولم يرد النهي عن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته. وكيف ينهي عن ذلك وهو من أكثر أصحابه حديثاً عنه. انتهى. وأصل حديث المثناة هذا، في أوائل الدارمي. وهذه المثناة (تسمى) عندهم الله، المثناة - بالشين المعجمة - غير أنهم يلوون ألسنتهم على عادتهم في لحونهم في جلوسهم. وأخبرني بعضهم: أن معنى هذه اللفظة عندهم: الجمع والضم. فتكون المثناة تعريبها، وهي في أكثر من مائة سفر. وذلك أنه كان يجتمع أحبارهم، فيكتبون ما يرون أنهم محتاجون إليه من الأحكام والآداب، ثم إذا انقرضوا، اجتمع من خلف بعدهم من الأحبار في العصر الثاني، فزادوا ما شاؤوا. وعندهم: أن هؤلاء الأحبار لا يفعلون ذلك إلا عن الله وحياً. فعندهم: أن كل ما كتبوه فهو (وحي) من عند الله، كما قال تعالى: (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) . وما زالوا كذلك عصراً بعد عصر، إلى أن زادت عدة مجلداتها على العد " - تجاوزت الحد، فيقال: إنها تقارب مائتي مجلد، فلما رأوا ذلك، منعوا من

فقد عُلم من هذا كله إنه إنما نمنع مما لا نعلمه، وأما ما علمناه بشهادة كتابنا المهيمن على كل كتاب، بصدقه أو كذبه، فإنه يقضي به. فالمصدَّقُ كتابُنا لا غيره. والله الموفق. وروى أبو عبيد في الغريب أيضاً، عن ابن عباس رضي الله عنهما. حين قيل له أقرأ القرآن في ثلاث؟. فقال: لأن أقرأ البقرة في ليلة فأدَّبَّرها. أحب إليَّ من أن أقرأ كما تقول هذرمة. يعني: السرعة. وعند الترمذي في فضائل القرآن، واللفظ له وقال حسن، والنسائي في السير، وابن ماجة في السنة مختصراً، وابن حبان في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بَعَثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَعْثاً وهم ذووا عدد فاستقرأهم فاستقرأ كل رجل منهم، يعني: ما معه من القرآن، فأتى على رجل من أحدثهم سِناً، فقال: ما معك يا فلان؟ قال: معي كذا وكذا، وسورة البقرة، فقال: أمعك سورة البقرة؟. قال: نعم، قال: اذهب فأنت أميرهم فقال رجل من أشرافهم: والله ما منعني أن أتعلم البقرة، إلا خشية أن لا أقوم بها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تَعَلَّموا القرآنَ، فاقْرَؤُوه وأَقْرِؤُوه وقوموا. فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه، وقام به، كمثل جراب محشو مسكاً يفوح ريحه في كل مكان، ومثل من تعلمه، فيرقد وهو في جوفه، كمثل جراب أُوكي على مسك.

وروى الطبراني في الأوسط، عن عثمان رضي الله عنه قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - وفدا إلى اليمن، فامًر عليهم أميراً منهم، وهو أصغرهم، فمكث أياما لم يَسِرْ، "فلقى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً منهم، فقال: يا فلان مالَكَ، أما انطلقت؟. قال: يا رسول الله أميرُنا يشتكي رجله، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونفث عليه "بسم الله، وبالله، أعوذ بعزة الله وقدرته، من شر ما فيها" سبع مرات، فبرأ الرجل، فقال شيخ: يا رسول الله، أتؤمِّرُه علينا وهو أصغرنا؟. فذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قراءته القرآن، فقال الشيخ: يا رسول الله، لولا أني أخاف أن أتوسَّدَه فلا أقوم به لتعلمته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تَعَلَّمْه، فإنما مثل القرآن كجراب ملأتَهُ مسكاً، ثم ربطت على فِيهِ، فإن فَتَحْتَ فاحَ لك ريحُ المسك، وإن تركتَه كان مسكاً موضوعاً، كذلك مثل القرآن إذا قرأته أو كان في صدرك. قال الهيثمي: وفيه يحيى بن سلمة بن كهيل، وضعفه الجمهور، ووثقه ابن حبان، إلا أنه قال: في أحاديث ابنه عنه مناكير. قال الهيثمي: وليس هذا من رواية ابنه عنه. وروى عبد الرزاق عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا كان ثلاثة قي سفر، فليؤمهم أقرؤُهم، وإن كان أصْغَرَهم، فإذا أمَّهُم فهو أميرُهم.

قال أبو سلمة: فذاك أمير أفَرَه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن عبد البر في كتاب "الاستيعاب": وكانت راية بني مالك بن النجار في تبوك، مع عمارة بن حزم رضي الله عنه، فأخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودفعها إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه، فقال عمارة: يا رسول الله، أبلغك عني شيء؟. قال: لا، ولكن القرآن مقدَّم، وزيد أكثر أخذاً منك للقرآن. ثم قال: وهذا عندي خبر لا يصح. لكن شيخنا ذكره في كتاب "الإصابة" ولم يتعقبه، وقال: وكان فيمن ينقل التراب مع المسلمين، يعني في الخندق، فنعس فرقد، فجاء عمارة بن حزم فأخذ سلاحه (وهو لا يشعر) ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا رُقَاد ويومئذ نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُرَوَّعَ المؤمِنُ، ولا يؤخذ متاعه جاداً ولا لاعبا. انتهى. فمن الغرائب: أن يقدِّر الله بعد سنتين أنه تنزع له (الراية) ، كما آتاه الله من اليقظة في كتابه، ممن أخذ سلاحه في حال نومه. وروى الحارث بن أبي أسامة عن الحسن رحمه الله: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

فضل آية الكرسي

قال: أفضل القرآن: سورة البقرة، وأعظم آيةٍ فيه: آيةٌ الكرسي. قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ في ليلة مائة آية، لم يحاجه القرآن، ومن قرأ مائتين كُتِبَ له قنوتُ ليلة، ومن قرأ بالمائة إلى الألف، أصبح وله قنطار، والقنطار دية أحدكم: اثنا عشر ألفاً. قال: وإن أصفر البيوت من الخير، البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن. وإن الشيطان ليفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة. فضل آية الكرسي وروى عبد الرزاق عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: إن الله اختار الكلام، فاختار القرآن، واختار القرآن فاختار منه سورة البقرة. واختار من سورة البقرة آية الكرسي، واختار البلاد فاختار الحرم، واختار الحرم، فاختار موضع البيت. وفي أمالي أبي الحسين بن شمعون عن عائشة رضي الله عنها،

أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فشكا إليه: أن ما في بيته ممحوق البركة، قال: أين أنت من آية الكرسي، ما تليت في شيء على طعام، ولا إدام، إلا أنمَى الله بركة ذلك الطعام والِإدام. وعند البخاري، وابن خزيمة، وغيرهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وَكلَني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ، فجعل يَحْثو من الطعام فأخذته، فقلت: لأدفعنَك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني محتاج وعليَّ دَيْن، ولي عيال، وبي حاجة شديدة، فخلَّيْت عنه فأصبحت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحةَ؟ قلت: يا رسول الله شكى حاجةً شديدة وعِيالًا فَرَحمتُه، فخلَّيْت سبيلَه، قال: أما إنه كَذَبَكَ وسيعود، فعرفت أنه سيعود، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنه سيعود، فرصدته، فجاء يحثو من الطعام. فذكر الحديث في قبضه عليه، واعتذاره وتَرفُقِهِ، إلى أن قال: فأخذته - يعني: في الثالثة - فقلت: لَأَرْفَعَنَّكَ إلى رسول الله يكوهذه آخر ثلاث مرات، تزعم أنك لا تعود، ثم تعود، قال: دعني، فإني أُعَلِّمُك كلماتٍ ينفعُك الله بها، قلت: وما هنً؟ ، قال: إذا أويتَ إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي (الله لا إلَه إلَاَ هُوَ الحَيُ القَيُومُ) حتى تختم الآية، فإنك لن يزالَ عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تُصبح، فخلَّيت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما فعل أسيرك البارحة؟ ، قلت: يا رسول الله زَعم أنَهُ يُعَلِّمُني كلمات ينفعني الله بهن، فخلَّيت سبيله، قال: ما هن؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك. الحديث. وفيه: وكانوا أحرص شيء على الخير. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أما إنه صَدَقَك وهو كَذُوب، تَعْلَم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟. قال: لا، قال: ذاك الشيطان.

وللنسائي في "اليوم والليلة" من الكبرى، عنه رضي الله عنه، أنه كان على تمر الصدقة، فوجد أثر كفّ، كأنه قد أُخِذَ منه، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أتريد أن تأخذه؟. (قلت: نعم. قال) قل: سبحان من سخرك بمحمد، قال أبو هريرة: فقلت، فإذا أنا به قائم بين يَدَي، فأخذته لأذهب به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال: إنما أخذتُه لأهل بيت فُقَرَاءَ من الجن ولن أعود، فعاد، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أتريد أن تأخذه؟ فقلت: نعم. قال: فقل: سبحان من سخرك لمحمد. قال أبو هريرة: فقلت فإذا أنا به قائم، فأردت به لأذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعاهدني ألا يعود، فتركته، ثم عاد. فذكرته للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أتريد أن تأخذه؟. فقلت: نعم. فقال: سبحان الذي سخرك لمحمد، فإذا أنا به. قلت: عاهدتَني فكذبت وعدتَ، لأذهبن بك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال: خلً عني أُعَلِّمْكَ كلماتٍ إذا قلتَهن لم يقربك ذَكَرْ ولا أنثى من الجن، قلت: وما هؤلاء الكلمات؟ ، قال: آية الكرسي، اقرأها عند كل صباح ومساء. قال أبو هريرة رضي الله عنه: فخلَّيْتُ عنه، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: وما علمتَ أنه كذلك. وعند أحمد، والقاضي أبي عبد الله المحاملي في السادس عشر من فوائده، والترمذي واللفظ له وقال: حسن غريب، من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، أنه كانت له سهوة فيها تمر، وكانت تجيء

الغول وتأكل منه، فشكا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: اذهب، فإذا رأيتَها فقل: بسم الله، أجيبي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فأخذها، فحلفت أن لا تعود فأرسلها، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما فعل أسيرك؟. قال: حلفت أن لا تعود، قال: كذبَت، وهي معاودة للكذب، فأخذها مرة أخرى فحلفت أن لا تعود، فأرسلها، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما فعل أسيرك؟. قال: حلفت أَن لا تعود، قال: كذبَت وهي معاودة للكذب، فأخذها مرة أخرى فقال: ما أنا بتاركِكِ حتى أذهب بك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني ذاكِرةٌ لك شيئاً: آية الكرسي، اقرأها في بيتك، فلا يقربك الشيطان ولا غيره، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما فعل أسيرك؟ قال: فأخبره بما قالت، قال: صدَقَتْ وهي كَذُوبٌ. وفي بعض طرقه قال: أرسلني وأعلمك آية من كتاب الله، لا تضعها على مال ولا ولد، فيقربه الشيطان أبداً، قلت: وما هي؟. قال: لا أستطيع أن أتكلم بها، آيةُ الكرسي. ولفظ المحاملي: عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: كان تمر لنا في سهوة فكنت أراه كل يوم من غير أن نأخذ منه شيئاً، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إن تمراً لنا في سَهْوَةٍ لنا، وإنَّا نجده ينقص كل يوم من غير أن نأخذ منه شيئاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تلك جِنَيةٌ - أو غُولٌ - تأكل طعامك، وستجدها هِرَّةً، فإذا رأيتها فقل: بسم الله، أجيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فانطلقتُ فدخلتُ البيتَ، فإذا سنور في التمر، فقلت: بسم الله أجيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هي عجوزٌ جالسةٌ. فقلت: يا عدوة الله انطلقي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: أنشُدُك الله يا أبا أيوب لما تركتني فلن أعود، فتركتها ثم غدوتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ما فعل الرجل وأسيره؟. فقلت: أخذتها يا رسول الله، فناشدتني فحلفتْ أن لا تعودَ، قال: كذبَتْ تُعُوُد،

فانطلقت فإذا سنور في البيت قلت بسم الله أجيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: أنشدك الله يا أبا أيوب لما تركتني فوالله لا أعود أبداَ، فتركتها، ثم غدوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ما فعل الرجل وأسيره؟. فأخبرته، قال: كذبت ستعود. فأخذتها الثالثة، فقلت: يا عدوة الله أليس قد زعمتِ أنَك لا تعودين؟. قالت: يا أبا أيوب اتركني، فوالله لأعلمنَك شيئاً إذا قلتَه حين تصبح، لم يدخل بيتَك الشيطان حتى تمسى، وإذا قلتَه حين تمسى لم يدخل الشيطان بيتك حتى تصبح. قلت: ما هو؟. قالت: آية الكرسي، فتركتها، - ثم غدوت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما فعل الرجل وأسيره؟. قلت: أخذتها فناشدتني الله وقالت: اتركني، فوالله لأعلمنك شيئاً إذا قلته حين تمسي لم يدخل الشيطان بيتك حتى تصبح، وإذا قلته حين تصبح لم يدخل الشيطان بيتك حتى تمسي. فقلت: ما هو؟. فقالت: آية الكرسي. قال صدقت وإنها لكذوب. السهوة - بفتح السين المهملة -: الطاق في الحائط، يوضع فيها الشيء. وقيل: هي الصُّفَّة، وقيل: المخدع بين البيتين. وقيل: هو شيء شبيه بالرف. وقيل: بيت صغير كالخزانة الصغيرة. قال المنذري: كل واحد من هؤلاء يسمى: سهوة، ولفظ الحديث يحتمل الكل، ولكن ورد في بعض طرق هذا الحديث ما يرجح الأول. والغول - بضم المعجمة - هو شيطان يأكل الناس، وقيل: هو من

يتلون من الجن. انتهى. وعند الحارث بن أبي أسامة، وأبي يعلى الموصلي، وابن حبان في صحيحه والنَّسائي في اليوم والليلة من الكبرى، والطبراني - بإسناد قال المنذري: جيد - عن أُبَي بن كعب رضي الله عنه أنه كان له جَرِين فيه تمر، وكان مما يتعاهده، فيجده ينقص، فحرسه ذات ليلة، فإذا هو بدابة كهيئة الغلام المحتلم، قال: فسلمتُ، فرد السلام، فقلت: ما أنت جن أم أنس؟. قال: جن، فقلت: ناولني يدك، فإذا يد كلب، وشعر كلب. فقلت: هذا خلق الجن؟. فقال: لقد علمت الجنُّ أن ما فيهم من هو أشد مني، فقلت: ما يحملك على ما صنعت؟. قال: بلغني أنك تحب الصدقة، فأحببت أن أصيب من طعامك. فقلت: ما الذي يحرزنا منكم؟. فقال: هذه الآية، آية الكرسي. وفي رواية للنسائي: إذا قلتَها حين تصبح أُجِرْتَ منا إلى أن تمسى. وإذا قلتها حين تمسى أُجِرْتَ منا إلى أن تصبح. قال: فتركته، وغدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره. فقال: صدق الخبيث. الجَرِينُ - بفتح الجيم، وكسر الراء المهلمة - هو البيدر.

وللدارمي عن ابن مسعودرضي الله عنه قال: لقي رجل من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من الجن فصارعه، فصرعه الإِنسي، فقال له الإنسي: إني لأراك ضئيلا شَخِيتاً، كان ذُرَيْعَتَيْكَ ذُرَيْعَتَا كلب، فكذلك أنتم معشر الجن أم أنت من بينهم كذلك؟. قال: لا والله إني من بينهم لضليع. ولكن عاوِدْنِي الثانية فإن صرعتني علمتك شيئاً ينفعك. قال: نعم. قال: تقرأ (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ؟. قال: نعم. قال: فإنك لا تقرؤها في بيت إلا خرج منه الشيطان، له خبَج كخَبَجِ الحمار. ثم لا يدخله حتى يصبح. قال أبو محمد: الضبيل: الدقيق. والشَخِيتُ: الهزول. والضَّلِيعُ: جَيِّدُ الأضلاع. والخبج: الريح. ورواه الدينوري في الجزء الثامن عشر من "المُجَالَسَة" عن ابن مسعود رضي الله عنه، ولفظه: لقي رجل من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - رجلًا من الجن فصارعه فصرعه الِإنسي، فقال له الجني: عاوِدْنِي، فعاوده فصرعه الإِنسي، فقال له الإِنسي: أراك ضئيلاً شخيتاً، كان ذِراعيك ذِراعَا كلب، فكذلك أنتم معاشر الجن أم أنت منهم كذا؟. قال: لا والله إني منهم لضليع، ولكن عاوِدْني الثالثة، فإن صرعتني علمتك شيئاً ينفعك، فعاوده فصرعه، فقال: هات علمني، قال: هل تقرأ آية

الكرسي؟. قال: نعم، قال: فإنك لا تقرؤها في بيت، إلا خرج منه الشيطان، ثم لا يدخله حتى يصبح، فقال رجل من القوم: يا أبا عبد الرحمن مَنْ ذاك الرجلُ من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، هو عمر رضي الله عنه؟. فقال: من يكون هو إلا عمر؟!. ورواه أبو عبيد في "الغريب"، فقال في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن رجلاً من الجن لقيه فقال: هل لك أن تصارعني، فإن صرعتَني علَّمْتُك آية إذا قرأتها حين تدخل بيتك لم يدخله شيطان؟. فصارعه فصرعه عمر رضي الله عنه - فذكر نحوه - وقال: تقرأ آية الكرسي، فإنه لا يقرؤها أحد إذا دخل بيته، إلا خرج الشيطان وله خَبَج كخبج الحمار. ثم رواه عن ابن مسعود رضي الله عنه خرج رجل من الإِنس فلقيه رجل من الجن، فذكر الحديث، قال: فقيل لعبد الله: أهو عمر رضي الله عنه) ؟. فقال: وما عسى أن يكون إلا عمر. وقال: "ضئيلا شخيتا" هما جميعاً: النحيف الجسم الدقيق. والضليع: العظيم الخلق. والخبج: الضراط. وهو الحَبَجُ أيضاً بالحاء، يعني المهملة. وله أسماء سوى هذين كثيرة. وعند مسلم وأبي داود وأبي عبيد، من حديث أبَي بن كعب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟. قال: قلت: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) .

قال: فضرب في صدري وقال: لِيُهِنَكَ العلمُ أبَا المنذِر. ورواه عبد الرزاق في جامعه، وأحمد - قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح - وعبد بن حميد، ومسدد، وابن أبي شيبة في كتابه، وزادوا: والذي نفسي بيده إن لهذه الآية لَلِساناً وشفتين، تُقَدِّس المَلِكَ عند ساق العرش. وسيأتي الكلام على سر هذا الحديث قريباً. ولأبي داود عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءهم في صُفَة المهاجرين، فسأل إنسانٌ: أي آية في القرآن أعظم؟. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) . ورواه الطبراني في الكبير، عن الأسقع البكري والد واثلة بلفظه، إلا أنه قال: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) . حتى انقضت.

ورواه إسحاق بن راهويه بإسناد فيه مجهول، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، فأيما أنزل عليك أعظمُ؟. قال: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) حتى تختم. وعزاه ابن رجب إلى الِإمام أحمد، والنَّسائي، وابن حبان في صحيحه. ورواه أبو الحسن الخِلَعي في الجزء الثالث عشر من فوائده، عن أبي ذر رضي الله عنه في حديث طويل، قال: قلت: فأي شيء أعظم مما أنزل الله عليك؟. قال: آية الكرسي، يا أبا ذر ما السماوات السبع في الكرسي، إلا كحَلَقَةُ مُلقاة في فَلاة من الأرض، وفضلُ العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على الحلقة. قلت: فبأبي أنت وأمي، فكم الأنبياء؟. قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً. قلت: فكم الرسل من ذلك؟. قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر، جما غَفِيراً. قلت: فمن كان أولُهم؟. قال: آدم، قلت: آدم نبي مرسل؟. قال: نعم، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، ثم سواه قبلا. يا ذر أربعة سريانيون: آدم، وشيث، وجنوح وهو إدريس، وهو أول من خط بالقلم، ونوح. وأربعة من العرب: هود، وصالح، وشعيب،

ونبيكم.. - يعني: وإبراهيم من كوثا - وسائرهم من بني إسرائيل. على الكل أفضل الصلاة والسلام. فأول الأنبياء: آدم، وآخرهم: أنا، وأول أنبياء بني إسرائيل: موسى وآخرهم: عيسى عليه السلام. قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله "فكم كتابا أنزله الله؟. قال: أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب. أنزل الله على شيث بن آدم عليهما السلام خمسين صحيفة، وأنزل الله على جنوخ وهو إدريس عليه السلام ثلائين صحيفة، وأنزل الله على إبراهيم عليه السلام عشر صحائف، وأنزل الله على موسى عليه السلام من قبل التوراة عشر صحائف، وأنزل التوراة والِإنجيل، والزبور والفرقان. وقوله: "كحلقة ملقاة في فلاة"، يدل على أن السماوات كُرَيَّة متداخِلة. وعند الحاكم - وقال: صحيح الِإسناد - من طريق حكيم بن جبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سورة

البقرة فيها آية، هي سيدة آي القرآن، لا تقرأ في بيت وفيه شيطان. إِلا خرج منه، آية الكرسي. وللقاضي أبي عبد الله المحاملي في الخامس عشر من فوائده، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله عَلمْني شيئاً ينفعني الله به، قال: اقرأ آية الكرسي، فإنه يحفظك وذريتك ويحفظ دارك. حتى الدويرات حول دارك. وروى الدينوري في الجزء الحادي والعشرين من المُجالسة، عن الحسن رحمه الله، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إِن جبريل عليه السلام أتاني فقال: إن عفريتاً من الجن يكيدك، فإذا أويت إِلى فراشك، فقل: (الله اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) حتى تختم آية الكرسي. ولأبي عبيد عن أبي أمامة، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، أنه قال: ما أرى رجلاً ولدَ في الِإسلام، أو أدرك عقلُه في الِإسلام، يبيت أبداً، حتى يقرأ هذه الآية (الله اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ، الآية، ولم تعلموا ما هي، إِنما أعطيها نَبِيكم - صلى الله عليه وسلم - من كنز تحت العرش، ولم يعطها أحد قبل نبيكم وما بت ليلة قط حتى أقرؤها ثلاث مرات، أقرؤها في الركعتين بعد العشاء الآخرة، وفي وِتْرِي، وحين آخذ مضجعي من فِراشي. والسر - والله أعلم - في طردها الشيطان في جميع الأوقات: أن المقصود

منها - كما بينتُه في نظم الدرر -: الدلالة على مضمون الآية التي قبلها، من تمام القدرة المستلزم للوحدانية، المستلزمة للإِحاطة بجميع صفات الكمال، مع التصريح بتلك الصفات الثبوتية والسلبية، كلها أو جلها، وذكر الاسم الأعظم، وما يدل عليه فيها عشرين مرة. فلا جرم أن - من قرأها، فتَنَسمَتْ أنفاسه من تلك القدرة، ضربت على بيته من سرادقات العظمة، فطردت عنه وعمن شاء الله من جيرانه الشيطان. وأعْلَتْهُ عن حضيض الآفات، إلى حضرات الرحمن. وعلى هذا المقصود دلت تسميتها بالكرسي، لأنه على قدر مملكة المَلِك. تكون قدرته، وعلى حسب قدرته، يكون علوه وعظمته. وما تقدم من كونها تُقَدِّسُ، مؤيِّدُ لما ذكرت من مقصودها، فإن النطق آية تمام القدرة، ولما كانت نسبتها بذلك من سائر آيات القرآن، مثل نسبة الِإنسان من جميع الحيوان، بُيِّنَتْ أبهي البيان، انتظم قوله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) . وروينا في "سباعيات " الصيدلاني ومسند الإِمام أحمد، عن أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سال رجلاً من أصحابه: معك آية الكرسي؟. قال: نعم. قال: ربع القرآن.

وكذا قال في الكافرون والنصر. وسبب كون هذه الآية ربعاً، لا ثلثاً كالإِخلاص: أنها - وإن أثبتت الإلهية - لم يُصرح فيها بالصمدية، ولا بنفي الولد والمكافىء، فهي بسورة "الكافرون " أشبه من حيث إنها داعية إلى الإقبال على صاحب تلك الأوصاف دون غيره. وسيأتي لهذا في "الكافرون " تتمة. وعند النسائي والطبراني باسانيدَ، أحدها صحيح - قال المنذري: وقال شيخنا أبو الحسن: على شرط البخاري - وابنُ حبان في "كتاب الصلاة" وصححه من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، أن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ آية الكرسي دُبَر كل صلاة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت. وزاد الطبراني في بعض طرقه: وقل هو الله أحد. قال المنذري: وإسناده بهذه الزيادة جيد أيضا

وعند الطبراني بإسناد حسن، عن الحسن بن علي رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ آية الكرسي دبر الصلاة المكتوبة، كان في ذِمَّة الله إلى الصلاة الأخرى. ولصاحب الفردوس عن أنس، وأبي أمامة رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ آية الكرسي في دبر الصلاة المكتوبة، قال أنس: كان له مثل أجر نبي. وقال أبو أمامة: كان الرب يتولى قبض روحه بيده، وكان بمنزلة من قاتل عن أنبياء الله حتى يستشهد.

فضل خواتيم سوره البقرة

ولأبي الشيخ ابن حيان، والترمذي في فضائل القرآن وقال: غريب. عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ آية الكرسي حين يصبح وآيةً من أول "حم المؤمن" حُفِظَ في يومه ذلك حتى يُمْسِي، ومن قرأها حين يمسي حُفِظَ في ليلته حتى يُصْبحَ. ولفظ الترمذي: من قرأ حم المؤمن إلى: "وإليه المصيرُ"، وآية الكرسي حين يصبح، حفظ بها حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي، حفظها بهما حتى يصبح. وسيأتي هذا الحديث في غافر، إن شاء الله تعالى، وفيه زيادة قراءة الدخان. فضل خواتيم سوره البقرة ولصاحب الفردوس عن أبي قتادة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ آية الكرسي، وخواتيم سورة البقرة، عند الكَرْبِ، أغاثه الله. وعند الستة، وعبد الرزاق في جامعه، وابن خُزَيْمَة، والدارِمِي، وعبدِ. ابن حميد وأبي عُبَيد، عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلةٍ كَفَتَاهُ.

ورواه الدارمي - كما في نُسْخَتَيْن - عن ابن مسعود رضي الله عنه. قال المنذري: أجزأتاه عن قيام تلك الليلة، وقيل: كفتاه ما يكون من الآفات تلك الليلة. وقيلِ: كفتاه مِنْ كل شيطان فلا يقربُه ليلتَه. وقيل: معناه: حَسْبُه بها فَضْلاً وأجْراَ. والله أعلم. انتهى. والصواب في مثل هذا: التعميم، فإنَّ اللفظ يحتمله، والفَضْلُ أوْسَعُ.

وفي الفردوس عن عقبة بن عامر، وأبي مسعود، رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ خاتمة سورة البقرة حتى يختمها في ليلة، أجزأت عنه قيام تلك الليلة. وروى الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من قرأ في ليلة آخر سورة البقرة، فقد أكثر وأطاب. وله برجال - قال الهيثمي: ثقات - عن شَدَّاد بن أوسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله عز وجل كتب كتاباً قبل أن يخلُقَ السماوات والأرض بألفَيْ عام، فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، لا يُقْرآنِ في دار ثَلاَثَ لَيَال، فيقربُها شيطان. وله عن عقبة بنِ عامر رضي الله عنه قال: تَرَدَّدُوا في الآيتين من آخر سورة البقرة "آمن الرسول" إلى خاتمتها، فإن الله اصطفى بهما محمداً - صلى الله عليه وسلم -. وعند مسلم، والنًسائي في الصلاة، والترمذي في التفسير، وأبي يعلى الموصلي في مسنده، وأبي نعيم في الحلية في ترجمة طلحةَ بنِ مصرِّف، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما أسْرِيَ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى إلى سدرة المنتهى (وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فَيُقْبَضُ منها، وإليها يَنْتَهِي ما يَهْبِطُ به من فوقها، فيُقْبَضُ منها، قال:

(إذ يغشى السًدْرَةَ ما يَغْشَى) ، قال: فراش من ذهب، قال: فأعْطِي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا: أعْطِيَ الصلواتِ الخَمْسَ، وأعْطِيَ خَواتِيمَ سورةِ البقرة، وغُفِر لمن مات لا يشرك بالله شيئاً من أمته المُقْحَمَاتُ. وقال أبو نعيم: صحيح متفق عليه من حديث طلحة، لم نكتبه إلا من حديث مالك عن أبي الزبير. ورواه أبو عبيد عن ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ: الآيات الأواخر من سورة البقرة، إنهن لمن كنز تحت العرش. وعند أبي عبيد فِى الفضائل، والترمذي في الجامع واللفظ لهما، والنسائي وابن حبان في صحيحه، وأحمد بن منيع في مسنده، والدارمي، والطبراني في الأوسط في ترجمة أحمد بن محمد بن صدقة، وأحمد بن عمرو القَطَوَاني. والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام، أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، فلا تقْرَءانِ في دار ثلاث ليال، فيقربُها شيطان. ولفظ ابن منيع: فمن قرأ بهما في (بيته) لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام. وقال: هو عنده على العرش. ولفظ ابن صدقة بعد قوله: "بألفي عام فهو عنده على العرش: أنزل في ذلك الكتاب آيتين ختم بهما سورة البقرة، وأن الشيطان لا يلج بيتاً قرئت فيه ثلاث ليال. والباقي سواء. وفي رواية الحاكم: ولا يقرآن في بيت فيقربه الشيِطِان ثلاث ليال. وقال صحيح على شرط مسلم. وعند مسدد، وأبي بكر بن أبي داود، عن علي رضي الله عنه أنه قال: ما كنت أرى أحدا يعقل، ينام حتى يقرأ - الآيات الأواخر من سورة البقرة فإنهن من كنز تحت العرش. ولفظ ابن أبي داود: ما كنت أرى أحداً يعقل ينام - قبل أن يقرأ الآيات الثلاث الأواخر من سورة البقرة.

قال النووي: وإسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.. وروى أيضاً عن علي رضي الله عنه: ما أرى أحداً يعقل في الإسلام ينام حتى يقرأ آية الكرسي. وللإِمام أحمد بن حنبل - قال الهيثمي: بأسانيد رجال أحدها رجال الصحيح - وأحمد بن منيع، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعطيت خواتيم سورة البقرة من بيت من تحت العرش - (وفي رواية: آيتين أوتيتهما من كنز من بيت تحت العرش) - لم يؤتهما نبي قبلي: الآيتان من آخر سورة البقرة. وللطبراني في الكبير والأوسط، وأحمد في السند - قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح - عن حذيفة رضي الله عنه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة - وفي رواية: خواتيم سورة البقرة - من كنز تحت العرش، لم يعطها نبي قبلي. قال ابن رجب: وخرَّجه النسائي، وعِندَه: وأوتيتُ هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة، من كنز تحت العرش، لم يعط منه أحد قبلي، ولا يعطي منه أحد بعدي. وأشار إلى أنه في صحيح مسلم.

وللدارمي عن أيفع بن عبد الله الكلاعي - وجزم الذهبي أنه تابعي - قال: قال رجل يا رسول الله، أي سورة في القرآن أعظم؟. قال: "قل هو الله أحد" قال: فأي آية في القرآن أعظم؟. قال: آية الكرسي (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) ، قال: فأي آية يا نبى الله تحب أن تصيبك وأمتك؟. قال: خاتمة سورة البقرة، فإنها من خزائن رحمة الله، من تحت عرشه، أعطاها هذه الأمة، لم تترك خيراً من خير الدنيا والآخرة، إلا اشتملت عليه. وفي رواية: أن رجلاً قال: يا رسول الله، أي آية في القرآن أعظم؟. قال: آية الكرسي، وخاتمة البقرة. فعلى هذه الرواية هو متصل، فيه مبهم. وخرج ابن مردويه في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قرأ آخر سورة البقرة، أو آية الكرسي، ضحك، وقال: إنهما من كنز الرحمن تحت العرش. وإذا قرأ: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) ، (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) استرجع واستكان.

وله عن علي رضي الله عنه قال: ما كنت أرى أن أحداً يعقل ينام. حتى يقرأ هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة، وأنهن لمن كنز تحت العرش. ولابن جرير في التفسير، والبزار في مسنده، عن أبي هريرة رضي الله عنه - أو غيره - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعضهم وقفه على أبي هريرة. فذكر حديثاً في الإِسراء. وفيه: إن الله قال: يا محمد جعلت من أمتك أقواماً قلوبهم أناجيل. وأعطيتك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم، لم أعطها نبياً قبلك. وأعطيتك خواتيم سورة البقرة، من كنز تحت العرش، لم أعطها نبياً قبلك. وسيأتي في الكوثر ما يتصل بهذا. وعند الحاكم وصححه على شرط البخاري، عن أبي ذر رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش، فتعلموهن وعلموهن نساءكم وأبناءكم، فإنهما صلاة وقرآن ودعاء. وفي إسناده معاوية بن صالح، قال المنذري: لم يحتج به البخاري، إنما احتج به مسلم.

وهو عند أبي عبيد في الفضائل، وأبي داود في المراسيل، والدارمي، من حديث جبير بن نفير مرسلا. وللِإمام أحمد، وأبي يعلى الموصلي، في مسنديهما، والطبراني، وأبي عبيد في الفضائل، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: اقرأ - وفي رواية: يقول على المنبر: اقرأوا - بهاتين الآيتين من آخر سورة البقرة، إني أعطيتهما من تحت العرش. قال الهيثمي: والحديث حسن. ولفظ أبي عبيد: فإن ربي جل جلاله أعطانيهما من تحت العرش. وفي سورة الشعراء حديث في فضل البقرة، وهاتين الآيتين. وروى الدارمي، عن عبد الله رضي الله عنه قال: من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة، لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح: أربع من أولها وآية الكرسي، وآيتان بعدها، وثلاث خواتيهما، أولها: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)

وقال في رواية أخرى: من قرأها، لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان، ولا شيء يكرهه، ولا يُقْرآنَ على مجنون إلا أفاق. وله عن المغيرة بن سبيع - وكان من أصحاب عبد الله - قال: من قرأ عشر آيات من البقرة عند منامه، لم ينس القرآن: أربع آيات من أوَلها، وآية الكرسي، وآيتان مِنْ بعدها، وثلاث من آخرها. وللبيهقي في الدعوات - وقال: موقوف حسن - عن العلاء بن اللجلاج. أنه قال لبنيه:إذا أدخلتموني في قبري، فضعوني في اللحد وقولوا: بسم الله وعلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسنوا عليَّ التراب سنا، واقرأوا عندي أول البقرة وخاتمتها، فإني رأيت ابن عمر يستحب ذلك. وفي الفردوس عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ من أول البقرة أربع آيات، وآية الكرسي، والآيتين بعدها، والثلاث من آخرها، كلأه الله في أهله، وولده، وماله، ودنياه، وآخرته. وللطبراني - قال الهيثمي: عن شيخه يحيى بن عثمان بن صالح. صدوق إن شاء الله، كما قال الذهبي، قال ابن أبي حاتم: وقد تلكموا فيه، وبقية رجاله وثقوا - عن بريدة رضي الله عنه قال: بلغني أن معاذ بن جبل رضي الله عنه أخذ الشيطان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتيته فقلت: بلغني أنك أخذت الشيطان على عهد رسول الله - - صلى الله عليه وسلم -؟. قال: نعم، ضَمَّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تمر الصدقة، فجعلته في غرفة لي، فكنت أجد فيه كل يوم

نقصاناً، فشكوت ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: هو عمل الشيطان فارصده، فرصدته ليلاً، فلما ذهب هَوِي من الليل أقبل على صورة الفيل، فلما انتهى إلى الباب، دخل من خلل الباب على صورته، فدنا من التمر فجعل يلتقم، فشددت عليَّ ثيابي فتوسطته، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، يا عدو الله وَثَبْتَ إلى تمر الصدقة فأخذته، وكانوا أحق به منك، لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيفضحك، فعاهدني أن لا يعود، فغدوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لي: ما فعل أسيرك؟. فقلت: عاهدني أن لا يعود. قال: إنه عائد فارصده، فرصدته الليلة الثانية فصنع مثل ذلك، فصنعت مثل ذلك، وعاهدني ألا يعود، فخلًيْتُ سبيله، ثم غدوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأخيرة فإذا مناديه ينادي: أين معاذ؟. فقال لي: يا معاذ ما فعل أسيرك؟. فأخبرته، فقال لي: إنه عائد فارصده فرصدته الليلة الثالثة، فصنع مثل ذلك، وصنعت مثل ذلك. فقلت: يا عدو الله، عاهدتني مرتين وهذه الثالثة، لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيفضحك. فقال: إني شيطان ذو عيال. وما أتيتك إلا من نصيبين، ولو أصبت شيئاً دونه ما أتيتك، ولقد كنا في مدينتكم هذه، حتى بعث صاحبكم، فلما نزلت عليه آيتان، أنفرتنا منها. فوقعنا بنصيبين، ولا يقرآن في بيت، إلا لم يلج فيه الشيطان ثلاثا، فإن خليت سبيلي علمتكهما؟. قلت، نعم، قال: آية الكرسي وخاتمة سورة البقرة، "آمن الرسول" إلى آخرها، فخليت سبيله، فغدوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأخبره، فإذا مناديه ينادي: أين معاذ بن جبل؟. فلما دخلت عليه قال لي: ما فعل أسيرك؟. قلت: عاهدني ألا يعود، وأخبرته بما قال فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صدق الخبيث وهو كذوب. قال: فكنت أقرؤهما عليه بعد ذلك، فلا أجد فيه نقصانا.

اشتمال سورة البقرة على آخر ما نزل من القرآن

وللطبراني في الكبير أيضاً - قال الهيثمي: ورجاله وثقوا كلهم، وفي بعضهم ضعف - عن مالك بن حمزة، بن أبي أسيد الساعدي، عن أبيه. عن جده أبي أسيد الساعدي الخزرجي رضي الله عنه، وله بئر بالمدينة يقال لها: بئر بضاعة، قد بصق فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهي يتبشر بها، ويتيمن بها. قال: فلما قطع أبو أسيد تمر حائطه، جعلها في غرفة، فكانت الغول تخالفه إلى مسربته، فتسرق تمره، وتفسده عليه، فشكا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: تلك الغول يا أبا أسيد، فاستمع عليها، فإذا سمعت اقتحامها، فقل: بسم الله أجيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت الغول: يا أبا أسيد، اعفني أن تكلفني أن أذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعطيك موثقا من الله أن لا أخالفك إلى بيتك، ولا أسرق تمرك، فأدلك على آية تقرؤها على بيتك، فلا تخالف إلى أهلك، وتقرؤها على إنائك فلا يكشف غطاؤه فأعطته الموثق الذي رضي به منها، فقالت: الآية التي أدلك عليها هي آية الكرسي. ثم حكت أسنانها تضرط. فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقص عليه القصة حيث ولَّت. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صدقت وهي كذوب. اشتمال سورة البقرة على آخر ما نزل من القرآن وروى البخاري في التفسير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: آخر آية نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، آية الربا.

وروى أبو عبيد عن ابن شهاب قال: آخر القرآن عهداً بالعرش: آية الربا وآية الديْنِ. وله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: آخر آية أنزلت من القرآن: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) .

قال: زعموا: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث بعدها تسع ليال بدأ به يوم السبت، وتوفي يوم الإثنين. انتهى. ولا مخالفة، لأنها من آيات الربا والذين. وقال بعض العلماء: هي أرجى آية في القرآن، لأنها أطول آية فيه. وقد أرشد الله فيها العباد إلى حفظه بأنواع كثيرة من الاحتياط، وإذا كان هذا لطفه بأموالهم الفائتة، فكيف يكون حفظه عليهم لإيمانهم الذي ينفعهم في آخرتهم على الدوام. وروى مسلم وغيره عن ابن عباس - وغيره - رضي الله عنهما قال: لما نزلت: (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) ، دخل قلوبهم منها شيء، لم يدخلها من شيء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: قولوا: سمعنا وأطعنا وسلمنا، قال: فألقى الله عز وجل في قلوبهم الإيمان، فأنزل الله عز وجل (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ) - "إلى قوله

قوله - (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) . قال: قد فعلت، (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) ، قال: قد فعلت (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) ، قال: قدفعلت. ورواه عن أبي هريرة بنحوه، وقال: "نعم" موضع "قد فعلت ". وفي سورة طه عن أبي أمامة رضي الله عنه في فضلها. وتقدم في الفاتحة من ذلك.

سورة آل عمران

سورة آل عمران مدنية إجماعاً. هكذا قالوا. وقال النجم النسفي في تيسيره: مكية في قول عكرمة والحسن البصري مدنية في قول عامة أهل التفسير. وقال الجعبري في شرح الشاطبية: مدنية، إلا خمس آيات فمكية. وهي إحدى الزهراوين. وتاج القرآن. عدد آياتها وفواصلها وآيها مائتان في جميع العدد، فهي متفقة الِإجماع، مختلفة التفصيل. اختلافها في سبع آيات:

(الم) عدها الكوفي وحده. (الإِنجيل) الأول، أسقطها الشامي وحده. (وأنزل الفرقان) أسقطها الكوفي وحده. (الِإنجيل) الثاني، عدها الكوفي وحده. (ورسولاً إلى بني إسرائيل) عدها البصري وحده. (مما تحبون) الأول، أسقطها الكوفي والبصري، وأبو جعفر القاريء وعدها الباقون وشيبة بن نصاح. (مقامُ إبراهيم) عدها الشامي وأبو جعفر، ولم يعدها الباقون وشيبة. وفيها مما يشبه الفواصل ما يتلفق من قولى الداني والجعبري، ثلاث عشرة كلمة: (ولهم عذاب شديد) . (عِنْدَ الله الإِسْلامُ) . (وحَصُوراً) (إلا رَمْزاً) ، (يخلق ما يشاء) ، (في الأميين سبيل)

(أفغير دين الله يبغون) (لهم عذاب أليم) . (إليه سبيلاً) ، (من بعد ما أراكم ما تحبون) . (يوم التقى الجمعان) ، (أذى كثيراً) (متاع قليل) . وفيها عكس ذلك وهو ما يشبه الوسط، وهو رأس آية: ست. (بالأسحار) ، (يفعل ما يشاء) ، (يقول له كن فيكون) ، (قال له كن فيكون) (ولِيَعْلَم المؤمنيِن) (في البلاد) رويها تسعة أحرف: مر لقد أطنب. القاف: (الحريق) ، والهمزة: (السماء) ، و (الدعاء) ، و (ما يشاء) .

مقصودها

مقصودها ومقصودها: التوحيد. وذلك أن الفاتحة - وهي أم القرآن - لما كانت جامعة للدِّين إجمالاً جاء ما به التفصيل، وهو القرآن، الذي هي أمه، محاذياً لذلك، فابتدأ بسورة الكتاب، المحيط بأمر الدين، كما أن الفاتحة محيطة بأم القرآن، ثم بسورة التوحيد، الذي هو سر حرف الحمد، أول حروف الفاتحة السبعة، لأن التوحيد هو الأساس الذي لا يقوم بناء شيء من الدين بدونه، كما أن الفاتحة أس القرآن. وأيضاً: فلما ثبت بالبقرة أم الكتاب، في أنه هدى، وقامت به دعائم الِإسلام الخمس، جاءت هذه لإِثبات أمر الدعوة الجامعة، في قوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) ، فأثبت الوحدانية له سبحانه بإبطال إلهية غيره بإثبات أن عيسى عليه السلام - الذي كان يحيي الموتى - عبده، فغيره بطريق الأولى. وعلم أن الذي أقدره على إحياء الموتى، تارة بالنفخ، وتارة بغيره، هو الذي أقدر أحاد بني إسرائيل - على عهد موسى عليه السلام - على إحياء ذلك القتيل، بضربه بلحم تلك البقرة، التي أمرهم موسى عليه السلام بذبحها وسميت بها السورة إشارة إلى ما تقدم من التطبيق بين اسمها ومسماها. فلما ثبت بهذا: أن الكل عبيده سبحانه، جاءت سورة النساء داعية إلى إقبالهم إليه، واجتماعهم عليه. والدليل على أن المقصود من هذه السورة، الدلالة على التوحيد: تسميتها بآل عمران، فإنه لم يعرب عن هذا القصد في هذه السورة، ما

أعرب عنه ما ساقه سبحانه فيها من أخبارهم، بما فيها من الأدلة على القدرة التامة الموجبة للتوحيد، الذي ليس في درج الِإيمان أعلى منه، فهو التاج الذي هو خاصة الملك المحسوسة، كما أن التوحيد خاصته المعقولة. والتوحيد موجب لزهادة المتحلي بهذه السورة. فلذلك سميت الزهراء، وهو في نفسه ملزوم للأنوار الزاهرة، والأضواء الباهرة كلها، التي هي الأدلة الحقة للدين الحق، فلا يمكن رؤيتها على الحقيقة بدون تصحيحه. والله تعالى الهادى".

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى مسلم في صحيحه، والترمذي وقال: حسن غريب، عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

يقول: يؤتي يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تَقْدُمه سورة البقرة وآل عمران، وضرب لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أمثال، ما نسيتهن بعد، فقال: تأتيان كأنهما غمامتان، أو ظلتان سوداوان، بينهما شَرْقٌ، أو كأنهما فِرْقان من طير صواف، يحاجان عن صاحبهما. ولفظ الترمذي: كأنهما غمامتان بينهما إشراق، أو كأنهما غمامتان سوداوان، أو كأنهما ظلتان من طير صواف، يجادلان عن صاحبهما. وللطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تعلَّموا الزهراوين: البقرة وآل عمران، فإنهما تجيئان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف، يحاجان عن صاحبهما تعلموا البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البَطَلَة. وله في الأوسط، عن أنس رضي الله عنه نحوه. والمعنى في هذا الحديث - وما أشبهه -: أنه يجيء فضل العمل وثواب القراءة، لما أشار إليه قوله: وأهله الذين كانوا يعملون به. وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة السجدة التعبير عن هذا المراد بأوضح مما هنا، وأقرب إلى الظاهر، والله الموفق. والِإشارة بالسواد إلى قوة الإظلال.

والشرق: قال المنذري: بفتح الشين المعجمة، وقد تكسر وبسكون الراء، بعدهما قاف، أي بينهما فرق يضيء. وفي القاموس: أن الشرق: الضوء نفسه، فهو حينئذ الفارق بينهما. وسر تمثيلهما بذلك: أما بالغمام والظلة: فلما مضى في البقرة من ظهور مجد الله تعالى - الذي هذه سورة توحيده - في الغمام. وذلك لأن مظهر الرحمة بالغيث والظل، والنسيم، والروح، كما كان لبني إسرائيل. ولأن بني إسرائيل كانت علامة قبول أعمالهم: نزول نار تأكل القربان فعوضنا من ذلك ظلا يروح الأجسام، وينعش الأرواح، معه نور يشرح الصدور ويبهج النفوس. وأما الطير: فللِإيمان بما فيها من إكرام عيسى عليه السلام بتكوين الطير مع أنه عبد الله، وإكرام الشهداء بأن أرواحهم في جوف طير خضر تسرح في الجنة وتأكل من ثمارها. وشاركتها البقرة في الشهداء، وفي إكرام الخليل عليه السلام بإحياء الطيور. وأما النور: ففي مقابلة النار، وكما كان لبني إسرائيل المذكورين في كثير منها من عمود النور في الغمام بالنهار. والله الموفق.

وعند الطبراني في الأوسط والكبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى عليه الله وملائكته حتى تغيب الشمس. وللبيهقي في الشعب عن مكحول مرسلاً، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ سورة آل عمران يوم الجمعة، صلت عليه الملائكة إلى الليل. ورواه الدارمي عن مكحول موقوفاً عليه. وللطبراني في الأوسط بسند - قال المنذري: فيه بقية - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما خيب الله امرءاً قام في جوف الليل، فافتتح سورة البقرة وآل عمران. ولأحمد وأبي داود، والترمذي وقال: حسن صحيح، وابن ماجة، عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) . وفاتحة سورة آل عمران: (الله لا إله إلّاَ هو الحي القيوم) .

وفي رواية للإِمام أحمد: أن الآية الثانية لآية آل عمران، آية الكرسي. ولأحمد عن أم سلمة رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر في دعائه أن يقول، اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، قالت: قلت: يا رسول الله، وإن القلوب لتتقلب؟. قال: نعم، ما خلق الله من بشر من بنى آدم، إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله عز وجل، فإن شاء الله أقامه، وإن شاء أزاغه. فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب. قالت: قلت: يا رسول الله، ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟. قال: بلى، قولي: اللهم رب النبي محمد، اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مُضِلات الفتن ما أحييتني. قال الهيثمي: وروى الترمذي بعضه، ورواه أحمد، وفيه شهر بن حوشب وهو ضعيف وقد وثق.

وللطبراني بسند فيه عمر بن المختار - قال الهيثمي: وهو ضعيف - عن غالب القطان، قال: أتيت الكوفة في تجارة، فنزلت قريباً من الأعمش، فلما كان ليلة أردت أن أنحدر، قام فتهجد من الليل فمر بهذه الآية: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) . قال الأعمش: وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة، وهي عند الله وديعة، (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) قالها مراراً، قلت: لقد سمع فيها شيئاً، فغدوت إليه فودَّعته ثم قلت: يا أبا محمد، إني سمعتك تردد هذه الآية. قال: أو ما بلغك فيها؟. قلت: أنا عندك منذ شهر لم تحدثني. قال: والله لأحدثنًك بها سنة، فأقمت سنة فكتبت على بابه، فلما مضت السنة. قلت: يا أبا محمد قد مضت السنة، قال: حدثني أبو وائل، عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يجاء بصاحبها يوم القيامة، فيقول الله تعالى: عبدي عهد إليَّ وأنا أحق من وفي بالعهد، أدخلوا عبدي الجنة. وله - أيضاً - عن شيخه عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم

قال الهيثمي: وهو ضعيف - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن هذا الصراط محتضر تحضره الشياطين، يقولون: يا عباد الله، هذا الطريق، واعتصموا بحبل الله جميعاً. قال: الصراط المستقيم: كتاب الله. وللإِمام أحمد عن أبي يحيى مولى آل الزبير عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بعرفة يقرأ هذه الآية: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) . وأنا على ذلك من الشاهدين يا رب. ورواه الطبراني، إلا أنه قال: وسمعت رسول الله يكبر ويقول حين قرأ هذه الآية ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (قال: وأنا أشهد أن لا إله إلا أنت العزيز الحكيم. قال الهيثمي: وفي إسناديهما مجاهيل. ولصاحب الفردوس عن أنس رضي الله عنه، وأبي الشيخ بن حيان عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إلى قوله: (الِإسلام) قال أنس رضي الله عنه: عند منامه -، خلق الله منه سبعين ألف ملك يستغفرون له إلى يوم القيامة (1) .

_ (1) حديث أنس، مداره على مجاشع بن عمرو، وهو منكر الحديث.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: قال: وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة، وهي لي عند الله وديعة، جيء به يوم القيامة. فقيل: عبدي هذا عهد إليّ عهدا، وأنا أحق من وَفي بالعهد. ولأبي الشيخ ابن حبان، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ سورة البقرة وآل عمران، إيماناً واحتساباً، جعل الله له يوم القيامة جناحين منظومين بالدر والياقوت، يطير بهما على الصراط أسرع من البرق. ولأبي عبيد في الفضائل والغريب، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: من قرأ سورة آل عمران، فهي غنى. وله فيهما عنه - رضي الله عنه -: نعم كنز الصعلوك سورة آل عمران. يقوم بها الرجل من آخر الليل. وللطبراني عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - افتقده يوم الجمعة، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى معاذاً فقال: يا معاذ مالي لم أرك؟. فقال: يارسول الله ليهودِيٍّ عَلَيَّ وقية من تبر، فخرجت إليك، فحبسني عنك، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا معاذ ألا أعلمك دعاء تدعو به، فلو كان

عليك من الدَّين مثل. صَبِر أداه الله عنك - وصبر، أي بالمهملة. وزن كتف: جبل باليمن - قال في القاموس: مطل على ثغر - فادع الله يا معاذ، قل: (اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) . رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، تعطي من تشاء منهما، وتمنع من تشاء، ارحمني رحمة تغنني بها عن رحمة من سواك. وفي رواية بعده: اللهم أغنني من الفقر، واقض عني الدين، وتوفني في عبادتك، وجهاد في سبيلك. ورواه الطبراني في الصغير بإسناد جيد، عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لمعاذ بن جبل: ألَا أعلمك دعاء تدعو به لو كان عليك مثل جبل دَيْنا لأداه الله تعالى عنك؟. (قل اللهم مالك الملك - فساقه - إلى: كل شيء قدير) ، رحمن الدنيا، ورحيم الآخرة، تعطيهما من تشاء، وتمنعهما من تشاء، بيدك الخير، ارحمني رحمة تغنني بها عن رحمة من سواك. قال العلائي: وأخرجه الحاكم في المستدرك بلفظ آخر.

وروى البزار - قال الهيثمي: برجال الصحيح - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أرأيت قوله تعالى: (وجنة عرضها السماوات والأرض) ، فأين النار؟. قال: أرأيت الليل يطمس كل شيء، فأين النهار؟. قال: حيث شاء الله، قال: فكذلك حيث شاء الله. وعند ابن حبان في صحيحه من طريق عبيد بن عمير أنه قال لعائشة رضي الله عنها: أخبرينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فسكتت ثم قالت: لما كان ليلة من الليالي، قال: يا عائشة ذريني أتعبد الليلة

لربي، فقلت: والله إني أحب قربك، وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي، قالت: فلم يزل يبكي حتى بَل حجره، قالت: وكان جالساً فلم يزل يبكي حتى بل لحيته، قالت: ثم بكى حتى بل الأرض، فجاء بلال يُؤْذِنُه بالصلاة فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟. قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟. لقد نزلت عليَّ الليلة آية، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: (إن في خلق السماوات والأرض) الآية كلها. ورواه ابن مردويه في التفسير، وابن أبي الدنيا في كتاب "التفكر" من وجه آخر. وفيه: أتاني في ليلته حتى مس جلده جلدي، ثم قال: ذريني حتى أتعبد لربي. وفيه: فقام إلى القِرْبَةِ فتوضأ منها، ولم يكثر صب الماء، وقال بعد البكاء في السجود: ثم اضطجع على جنبه يبكي، حتى أتاه بلال يؤذنه بصلاة الصبح. قال ابن رجب: وخرَّجه عبد بن حميد بسياق مطول، من طريق أبي جناب الكلبي، وهو متكلم فيه.

وروى ابن أبي الدنيا عن سفيان يرفعه: من قرأ آخر آل عمران، ولم يتفكر فيها ويله، فعد بأصابعه عشراً. وروى ابن أبي الدنيا - أيضاً - أن الأوزاعي سئل: ما أدق ما يخرج عن العهدة في التفكر؟. (فأطرق هنيهة) ، فقال: يقرؤهن وهو يعقلهن. وللطبراني في الكبير - بسند فيه يحيى الحماني وهو ضعيف - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتت قريش اليهود فقالوا: بم جاءكم موسى؟. قالوا: عصاه ويده بيضاء للناظرين. وأتوا النصارى فقالوا: كيف كان عيسى؟. قالوا: كان يبرىء الأكمه والأبرص، ويحي الموتى. فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً، فنزلت هذه الآية: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) ليتفكروا فيها.

وللبيهقي في الشعب، عن عثمان رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ آخر آل عمران في ليلة، كتب له قيام ليلة. ورواه الدارمي موقوفاً على عثمان رضي الله عنه. وللشيخين، وأبي داود في السنن، والنَّسائي، وابن ماجه، وعبد بن حميد والبيهقي في الدعوات، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رقد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرآه استيقظ فتسوك وتوضأ، وهو يقول: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) . حتى ختم السورة، ثم قام فصلى ركعتين أطال فيهما القيام والركوع والسجود، ثم انصرف فنام حتى نفخ، ثم فعل ذلك ثلاث مرات: ست ركعات، كل ذلك يستاك ثم يتوضأ، ويقرأ هؤلاء الآيات، ثم أوتر بثلاث، ثم أتاه المؤذن، فخرج إلى الصلاة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: اللهم اجعل في قلبي نوراً. . . الحديث.

ورواه أبو بكر الشامي في الخامس من "الغيلانيات"، عن الفضل بن العباس رضي الله عنهما قال: بتّ ليلةً عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما انصرف من العشاء الآخرة، انصرفتُ معه، فلما دخل البيت ركع ركعتين خَفِيفَتَيْن، ركوعهما مثلُ قعودهما، وسجودهما مثل قيامهما، وذلك في الشتاء، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحجرة، وأنا في البيت، فقلتُ: والله لارْمُقَن الليلةَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ولأنْظُرَ كيف صَلاَتُهُ، قال: فاضطجع في مُصَلاَّهُ حتى سمعت غطيطه. قال: ثم تَعَارَّ، فنظر في أفق السماء وكبَّر، ثم قرأ العشر الآيات من سورة

آل عمران، ثم أخذ سواكاً فاستن، ثم خرج فقضى حاجته، ثم رجع إلى شَنٍّ مُعلَّقةٍ فصبَّ على يده، ثم توضأ ولم يوقظ أحداً، وصلى ركعتين. ركوعهما مثل سجودهما، وسجودهما مثل قيامهما، وقال: فأراه صلى مثل ما رقد، ثم اضطجع مكانه، ورقد حتى سمعت غطيطه. وللدارمي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إن أخاً لكم أُري في المنام: أن الناس يسلكون في صدع جبل وَعْرٍ طويل، وعلى رأس الجبل شجرتان خَضْرَوَانِ تَهْتِفان: هل فيكم مَنْ يقرأ سورة البقرة، هل فيكم من يقرأ سورة آل عمران؟. فإذا قال الرجل: نعم. دنتا بأعذاقهما - أي أغصانهما - حتى يتعلق بهما فتخطو به الجبل. وله عن مسروق قال: قرأ رجل عند عبد الله رضي الله عنه البقرة وآل عمران

فقال: قرأت سورتين فيهما اسم الله الأعظم، الذي إذا دُعى به أجاب، وإذا سُئِل به أعطى. وله عن كعب قال: من قرأ البقرة وآل عمران، جاءتا يوم القيامة تقولان: يا رب لا سبيل عليه. وله عن عبد الله رضي الله عنه قال: نعم كنز الصعلوك سورة آل عمران يقوم بها في آخر الليل. وله عن أبي السليل قال: أصاب رجل دما، فأوى إلى وادي مجنة. وَادٍ لا يمشي فيه أحد، إلا أصابته حية، وعلى شفير الوادي راهبان، فلما أمسى قال أحدهما لصاحبه: هلك - والله - الرجل. قال: فافتتح سورة آل عمران، فقالا: قرأ سورة، لعله سينجو قال: فأصبح سليماً. ولابن السنى عن السيد الجليل - قال النووي: المجمع على جلالته -

أبي عبد الله: يونس بن عبيد الله، بن دينار البصري، التابعي المشهور. قال: ليس رجل يكون على دابة صعبة فيقول في أذنها: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) . إلا وقفت بإذن الله تعالى. ورواه البيهقي في كتاب "الدعوات" عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله. - ولفظه: إذا استصعبت دابة أحدكم، أو كانت شموساً، فليقرأ هذه الآية في أذنها: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) . وروى أبو داود، والترمذي، والنَّسائي، عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قمت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - (فبدأ فاستاك، وتوضأ ثم قام فصلى، فقرأ سورة البقرة، لا يمر بآية رحمة، إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوذ، ثم ركع بقدر قيامه، يقول في ركوعه: سبحان ذي الجبروت والملكوت، والكبرياء والعظمة ثم سجد بقدر قيامة، ثم قال في سجوده مثل ذلك، ثم قام فقرأ بآل عمران، ثم قرأ سورة، سورة. وفي سورة طه عن أبي أمامه رضي الله عنه) حديث في فضل القرآن.

سورة النساء

سورة النساء مدنية إجماعاً، كذا قال بعضهم. وقال الأصبهاني: إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح، في عثمان بن أبي طلححة، وهي: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) . وقيل: نزلت عند هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: السورة مكية، ولا خلاف أن منها ما نزل بالمدينة. والظاهر الأول، فإن في البخاري عن عائشة رضي الله عنها: ما نزلت سورة النساء، إلا وأنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها

ولا خلاف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما بنى بها بالمدينة. عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها وآيها مائة وسبعون وخمس ايات في المدنيين، والمكي والبصري، والكوفي والشامي، دون غيرهم. (فيُعذَبُهم عذاباً أليماً) عدها الشامي وحده. وفيها مما يشبه الفواصل ثمانية: (إحداهن قِنْطاراً) ، (عليهن سبيلاً) ، (إلى أجَل قريب) (للناس رسولا) ، (لَمَنْ ليبَطًئَنَّ) ، (يكتب ما يُبَيتُون) ، (مِلَّةَ إبراهيمَ حنيفا) ، (ولا الملائكة المقربون) وعكسه أربعة: (ألا تَعُولوا) ، (مرِيئاً) ، (أجْراً عَظِيماً) ، (ولا لِيَهْدِيَهُمْ طريقاً) .

مقصودها

ورويها أربعة أحرف: ملنا. كذا قال الجعبري، وليس كذلك، وإنما رويها سبعة عشر حرفاً، كما عرف في علم العروض، يجمعها قولك: أغث مرض، صلف، قد طعن. تطلب. مقصودها مقصودها: الاجتماع على التوحيد، الذي هَدَتْ إليه سورة آل عمران والكتاب الذي حدت إليه سورة البقرة، لأجل الدين الذي جمعته الفاتحة تحذيراً مما أراده شاس بن قيس وأنظاره من الفرقة. ولما كان مقصودها الاجتماع على ما دعت إليه السورتان قبلها من

فضائلها

التوحيد، وكان السبب الأعظم في الاجتماع والتواصل - عادة - الأرحام العاطف التي مدارها النساء، سميت "سورة النساء". لذلك. ولأن بالاتقاء فيهن تتحقق العفة والعدل الذي لبابه التوحيد. فضائلها وأما فضائلها: فروى أبو عبيد، عن حارثة بن مضرِّب لأم قال: كتب إلينا عمر رضي الله عنه: - تعلموا سورة النساء، والأحزاب، والنور. وروى الشيخان، وأبو داود، والترمذي، والنَّسائي، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأ في القرآن، فقلت: يا رسول الله أقرأ عليك، وعليك أنزل؟. قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فقرأت عليه سورة النساء، حتى جئت إلى هذه الآية:

(فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) . قال: حسبك الآن، فالتفت إليه، فإذا عيناه تذرفان. وفي رواية الترمذي: تهملان. وفي رواية لمسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وهو على المنبر اقرأ على، فذكر الحديث. وروى الطبراني برجال - قال الهيثمي: ثقات -، وابن أبي الدنيا عن محمد بن فضالة الظفري، وكان ممن صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاهم في مسجد بني ظفر، فجلس على الصخرة التي في مسجد

بني ظفر اليوم، ومعه عبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأناس من أصحابه، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - قارئاً، فقرأ حتى أتى على هذه الآية: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) . فبكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى اضطرب لحياه، فقال: أي رب شهدت على من أنا بين ظهرانيه، فكيف بِمَنْ لم أره. وروى عن يحيى بن عبد الرحمن، بن لبيبة، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قرأ هذه الآية بكى، وقال: يا رب هذا شهدت على من أنا بين ظهريه، فكيف بمن لم أر. وروى الروياني - وذكره ابن رجب - عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: دخلت المسجد أنا وفلان وفلان حين هدأ الناس للمَقِيل، فجاء

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جلس إلينا، قال: فيومئذ نزلت هذه الآية: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) ، وكان ابن مسعود رضي الله عنه حسن الصوت، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأ يا ابن مسعود سورة النساء، فقرأ حتى بلغ (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) . الآيات، فاشار النبي - صلى الله عليه وسلم -: اسكت ثم قال: حق والله لهم إذا صافحتهم النار وصافحوها، أن يودوا لو تسوى بهم الأرض، وبكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبكينا، حتى كدنا نموت. ثم قال: أرددها علينا، فقرأ حتى انتهى عند هذه الآية، قال: حق لهم إذا صافحتهم النار - مثل قوله الأول - ثم بكى وبكينا معه، ثم قال: ارددها، فرددها سبع مرات، كل ذلك يبكي ويقول: حق لهم - مثل قوله الأول - لم يسكت حتى اشتهينا أن يسكت من شدة حزنه وبكائه وما نراه صنع. قال ابن رجب: وهذا سياق غريب، وفيه نكارة، وفيه أبو داود. نفيع، وفيه ضعف شديد. وروى ابن المبارك عن موسى بن عبيدة، عن خالد بن يسار، قال: لا قرأها ابن أم عبد علي النبي - صلى الله عليه وسلم - بكى فاشتد بكاؤه، ثم قام

مغطياً رأسه حتى دخل بيته. قال ابن رجب: وهذا مرسل ضعيف. وفي جامع الأصول - غير معزو - عن علي رضي الله عنه أنه قال: ما في القرآن أحب إلي من هذه الآية: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) . وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: خمس آيات ما يسرني أن لي بهن الدنيا وما فيها، إحداهن: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) و (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) .

و (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) . و (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) . و (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) . وروى البخاري في فضائل القرآن، عن يوسف بن ماهك "، أن عراقياً سأل أم المؤمنين عائشة رضي الله عها أن تريه مصحفاً، فقالت: لم؟. قال: لعلي أؤلف القرآن عليه، فإنه يُقْرَا غير مؤلَّف، قالت: وما يضرك أيه قرأت قبل؟! إنما نزل ما نزل (منه) ، سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الِإسلام، نزل الحلال والحرام،

ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا نَدَعُ الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا نَدَعُ الزنا أبداً، لقد نزل بمكة على محمد - صلى الله عليه وسلم - وإني لجارية ألعب: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده، قال: فأخرجت له المصحف، فأملت عليه آي السور. ورواه أبو عبيد عن يوسف بن ماهك، قال: إني لعند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، إذ جاء أعرابي فقال: يا أم المؤمنين أريني مصحفك؟. قالت: لم؟ ، قال: لعلي أؤلف القرآن عليه، فإنَا نقرؤه غير مؤلَّف - فذكره. وقال في آخره: فأمليت عليه آي السور. وروى الِإمام أحمد في المسند، عن مسلم بن مِخْرَاق، عن عائشة رضي الله عنها، قال: ذُكر لها: أن ناساً يقرؤون القرآن في الليلة مرة أو مرتين. فقالت: أولئك قرأوا، ولم يقرأوا، كنت أقوم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة التمام فكان يقرأ بالبقرة، وآل عمران، والنساء، فلا يمر بآية فيها تخويف إلا دعا الله واستعاذه، ولا يمر بآية فيها استبشار، إلا دعا الله، ورَغِبَ إليه. وروى أبو عبيد في الفضائل والغريب، عن حذيفة رضي الله عنه قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، فكان إذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب تعوذ، وإذا مر بآية فيها تنزيه لله سبح.

ولفظه في الغريب: أنه كان يصلي من الليل، فإذا مر بآية فيها ذكر الجنة سأل، وإذا مر بآية فيها ذكر النار تعوذ، وإذا مر بآية فيها تنزيه لله سبح. وقال: يعني ما ينزه عنه تبارك اسمه، من أن يكون له شريك. أو ولد وما أشبه ذلك. وأصل التنزيه: البعد مما فيه الأدناس، والقرب مما فيه الطهارة والبراءة ثم كثر استعمال الناس النزهة في كلامهم حتى جعلوها في البساتين والخضر ومعناه راجع إلى ذلك الأصل. وله في الفضائل عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قمت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبدأ فاستاك، ثم توضأ، ثم قام يصلي، فقمت معه فاستفتح البقرة، لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوذ، ثم قرأ آل عمران، ثم قرأ سورة النساء، أو قال: ثم قرأ سورة، سورة يفعل مثل ذلك. وله عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم ليلة التمام، فيقرأ بسورة البقرة، وآل عمران، والنساء، لا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله ورغب، ولا يمر بآية فيها تخويف إلا دعا واستعاذ.

وله عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلى، فإذا مر بآية فيها ذكر النار قال: أعوذ باللُّه من النار. وللدارمي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من قرأ آل عمران فهو غني والنساء مُحَبِّرة. قال أبو محمد: أي مُزَيِّنة. وروى مسلم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، فافتتح سورة البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى فقلت:: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلا إذا مر بآية تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، ثم قام قياماً طويلاً، قريباً مما ركع، ثم سجد

فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده، قريباً من قيامه. ورواه أبو داود وهذا لفظه، والترمذي، والنَّسائي: أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل، فكان يقول: الله أكبر ثلاثاً، ذو الملكوت والجبروت، والكبرياء والعظمة، ثم استفتح فقرأ البقرة، ثم ركع فكان ركوعه نحواً من قيامه، فكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثم رفع رأسه من الركوع، فكان قيامه نحواً من ركوعه، يقول: لربي الحمد، ثم سجد، فكان سجوده نحواً من قيامه، فكان يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثم رفع رأسه من السجود، وكان يقعد فيما بين السجدتين نحواً من سجوده، وكان يقول: ربي اغفر لي، فصلي أربع ركعات، فقرأ فيهن البقرة، وآل عمران، والنساء والمائدة. قال أبو داود: أو الأنعام، شك شعبة. ورواه عبد الرزاق في جامعه، ولفظه: عن حذيفة رضي الله عنه، أنه مر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي بالمسجد في المدينة، قال: فقمت أصلي وراءه، يخيل إلى أنه لا يعلم، فاستفتح سورة البقرة، فقلت: إذا جاء مائة آية ركع، فلم يركع، فقلت: إذا جاء مائتي آية ركع، فجاءها فلم يركع، فقلت: إذا ختمها ركع، فختم فلم يركع، فلما ختم قال: قال: اللهم لك الحمد. اللهم لك الحمد، اللهم لك الحمد، وقرأ ثم افتتعآل عمران، فقلت: إن ختمها ركع فختمها فلم يركع، وقال: اللهم لك الحمد ثلاث مرات، ثم

افتتح سورة المائدة فقلت: إذا ختم ركع، فختمها فركع، فسمعته يقول: سبحان ربي العظيم ويرجِّع شفتيه فاعلم أنه يقول غير ذلك فلا أفهم غيره، ثم افتتح سورة الأنعام فتركته وذهبت. ورواه الحارث بن أبي أسامة عن حذيفة رضي الله عنه، أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة، فاستقبل القبلة، وأقامني عن يمينه، ثم قرأ فاتحة الكتاب، ثم استفتح البقرة لا يمر بآية رحمة إلا سأل، ولا بآية خوف إلا استعاذ ولا بِمَثَلٍ إلا فكَّر، حتى ختمها، وقال في الركعة الثانية: قرأ بفاتحة الكتاب ثم استقبل آل عمران، لا يمر بآية رحمة إلا سأل، ولا بآية خوف إلا استعاذ ولا بمثل إلا فكر، حتى ختمها. وروى أحمد، عن عائشة رضي الله عنها، أنه ذكر لها: أن ناساً يقرأون القرآن في الليل مرة أو مرتين، فقالت: أولئك قرأوا، ولم يقرأوا، كنت أقوم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة التمام، فكان يقرأ سورة البقرة وآل عمران والنساء، فلا يمر بآية فيها تخويف إلا دعا الله واستعاذ، ولا يمر بآية فيها استبشار، إلا دعا الله ورغب إليه. وروى أبو عبيد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال: من قرأ البقرة وآل عمران والنساء في ليلة، كان - أو كتب - من القانتين.

وروى الطبراني عن إبراهيم، عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: إن في القرآن لَآيتَيْن، ما أذنب عبد ذنباً، ثم تلاهما واستغفر الله، إلا غفر له فسألوه عنهما، فلم يخبرهم، فقال علقمة والأسود أحدهما لصاحبه: قم بنا، وقاما إلى المنزل، فأخذا المصحف، فتصفحا سورة البقرة، فقالا: ما رأيناهما، ثم أخذا في سورة النساء، حتى انتهيا إلى هذه الآية: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) . فقالا: هذه واحدة، ثم تصفحا آل عمران، حتى انتهيا إلى قوله: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) . قالا: هذه أخرى، ثم أطبقا المصحف، ثم أتيا عبد الله فقالا: هما هاتان الآيتان؟ ، قال: قال: نعم. قال الهيثمي: وإسناده جيد، إلا أن إبراهيم لم يدرك ابن مسعود. ورواه أبو عبيد في الفضائل من وجه آخر، ولفظه: أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: في القرآن آيتان، ما قرأهما عبد مسلم عند ذنب إلا غفر له قال: فسمع بذلك رجلان من أهل البصرة، فأتياه، فقال: أئتيا أبي بن كعب فإني لم أسمع فيهما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وقد سمعه أبي، فأتيا أبي بن كعب فقال لهما: اقرأا القرآن، فإنكما ستجدانهما، فقرأا حتى إذا بلغا آل عمران (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) . وقوله: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) . فقالا: قد وجدناهما، فقال أبي: أين؟. فقالا: في آل عمران والنساء. فقال: هما هما.

وروى أبو نعيم في الحلية، في ترجمة حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش قال: إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قائماً يصلي، فلما بلِغ الآية من النساء، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: سل تعطه، فقال: اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفد، ومرافقة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - في أعلى الخلد. والآية تنتهي إلى قوله: (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) . وروى الطبراني - قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح - عن عبد الله - يعني ابن مسعود - رضي الله عنه قال: إن في النساء لخمس آيات، ما يسرني الدنيا وما فيها، وقد علمت أن العلماء إذا مروا بها يعرفونها: (إن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ ما تُنْهَوْنَ عنه نُكَفرْ عنكم سَيئَاتِكُمْ ونُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كريماً) . وقوله: (إن اللَّه لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَةٍ وإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها ويُؤتِ مِنْ لَدُنْهُ أجراً عظيما) .

(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) الآية. (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) . هذه أربع آيات، لم أر الخامسة في النسخة التي نقلت منها. ورواه أبو عبيد في الفضائل، فذكره كما هنا. ثم قال: وقوله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) . وقال عبد الله: ما يسرني أن لي الدنيا بها ومافيها. وللبزار - قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح، غير أبي عبيدة بن حذيفة وقد وُثق - عن حذيفة رضى الله عنه قال: نزلت آية الكلالة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسير له، فوقف النبى - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هو بحذيفة وإذا رأس ناقة حذيفة رضي الله عنه عند مؤتزر النبي - صلى الله عليه وسلم - فلقَّاها إياه، فنظر حذيفة، فإذا عمر رضي الله عنه فلقَّاها إياه، فلما كان في خلافة عمر رضي الله عنه، نظر عمر في الكلالة، فدعا حذيفة فسأله عنها فقال حذيفة: لقد لقَّانيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلقَّيْتُكَها كما لقَّاني واللهِ إني لصادق، ووالله لا أزيد على ذلك شيئاً أبداً.

وروى أبو عبيد، عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: آخر آية نزلت: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ) .

سورة المائدة

سورة المائدة مدنية إجماعاً وان أنزل: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) الآية بعرفة فإن العبرة في المدني بالنزول بعد الهجرة، كما مضى. قال الأصفهاني: وروى أن السورة نزلت منصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية، ومنها ما نزل عام الفتح، وهو: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) الآية. عدد آياتها وما يشبه الفاصلة فيها وآيها مائة وعشرون للكوفي، وثلاث وعشرون للبصري، واثنتان وعشرون للباقين.

اختلافها ثلاث آيات: (أوْفوا بالعُقُود) ، (وَيَعْفُو عن كثير) ، لم يعدهما الكوفي، وعدهما غيره. (فإنَّكُمْ غالِبُون) عدها البصري وحده. وفيها مما يشبه الفواصل، ولم يعد بإجماع، تسعة مواضع: (نَقِيباً) ، (جَبَّارِينَ) ، (لِقَوْمِ آخَرِينَ) (ومِنْهَاجاً) ، (الجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) ، (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) . و (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ) على قراءة من قرأ بالجمع. ولا عكس لذلك. ورويها ستة أحرف: مل ندبر. اللام: ثلاثة السبيل.

مقصودها

مقصودها ومقصودها: الوفاء بما هدى إليه الكتاب، ودل عليه ميثاق العقل من توحيد الخالق، ورحمة الخلائق، شكراً للنعمة، واستدفاعاً للنقمة. وقصة المائدة أدل ما فيها على ذلك، فإن مضمونها: أن من زاغ عن الطمأنينة، وزاغ عن الثبات والسكينة، بعد الكشف الشافي، والإنعام الوافي، نوقش الحساب، فأخذه العذاب. وتسميتها بالعقود، أوضح دليل على ما ذكرت، وكذا الأحبار.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى أبو عبيد في الفضائل، والنَّسائي، وابن ماجة بسند صحيح، والإمام أحمد: أن أبا ذر رضي الله عنه قال: قام رسول الله ي ليلة من الليالي يقرأ آية واحدة الليل كله، حتى أصبح بها يقوم، وبها يركع، وبها يسجد، قال القوم لأبي ذر: أي آية هي؟. قال: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) . وفي رواية للإمام أحمد: فلما أصبح قلت: يا رسول الله، ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت، تركع بها وتسجد؟. قال: إني سألت ريى الشفاعة فأعطانيها، وهي نائلة إن شاء الله من لا يشرك بالله شيئاً. ولمسلم عن عبد الله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا قوله تعالى في إبراهيم عليه السلام: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) .، وقول عيسى عليه السلام: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) . فرفع يده وقال: اللهم أمتي أمتي وبكى.

فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد - وربك أعلم - فاسأله. فأتاه جبريل عليه السلام، فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قال. فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك، ولا نسوؤك. وللِإمام أحمد عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ردد آية حتى أصبح. وروى الترمذي في التفسير عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: آخر سورة أنزلت المائدة. وروى أبو عبيد في كتاب الفضائل عن عطية بن قيس، وضمرة بن حبيب - رحمهما الله تعالى - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المائدة من آخر القرآن تنزيلا، فأحلوا حلالها، وحرموا حرامها.

وروى أبو عبيد - أيضاً - عن محمد بن كعب القرظي رحمه الله قال: نزلت سورة المائدة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، فيما بين مكة والمدينة، وهو على ناقته، فانصدعت كتفها، فنزل عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجط الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال:

أنزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المائدة، وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله، فنزل عنها. قال الهيثمي: وفيه ابن لهيعة، وقد يحسّن حديثه. وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة، عن أم عمرو ابنة عيسى، قالت: (حدثني) عمى رضي الله عنه، أنه كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسير، فأنزلت عليه سورة المائدة، فعرفنا أنه ينزل عليه، فاندقت كتف راحلته العضباء من ثقل السورة. وعند الإمام أحمد، وأبي بكر بن أبي شيبة، والطبراني - أيضاً - عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها، أنها قالت: إني لآخذة بزمام ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العضباء، إذْ نزلت عليه سورة المائدة كلها، فكادت من ثقلها تدق بعضد الناقة.

ورواه أبو يعلى الموصلي عنها - أيضاً - رضي الله عنها، وفيه: أنها أنزلت جميعاً، وهي آخذة بزمام الناقة. وللإمام أحمد عنها أيضاً، رضي الله عنها، قالت: نزلت سورة المائدة على النبي - صلى الله عليه وسلم - جميعاً إن كادت من ثقلها لتكسر الناقة. ولأبي عبيد، عن جبير بن نفير قال: حججت فدخلت على عائشة رضي الله عنها فقالت: يا جبير هل تقرأ المائدة؟. قلت: نعم، قالت أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه. وله أن ابن عون سأل الحسن: هل نسخ من المائدة شيء؟. فقال: لا. وروى البيهقي في أواخر الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ولد نبيكم - صلى الله عليه وسلم - يوم الإثنين، ونبىء يوم الإثنين، وخرج من مكة يوم ال‘ثنين، وفتح مكة يوم الإثنين، ونزلت سورة المائدة يوم الإثنين، (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ، وتوفي يوم الإثنين.

وفي رواية أخرى: ودخل المدينة يوم الإثنين. ولعله أراد: أن السورة نزلت فيه. إلا الآية المذكورة، وأراد بذكرها بالخصوص: أنها هي التي دلت على أن الدين كمل بنزول المائدة، وإن كان نزولها هي يوم الجمعة، كما يأتي. فدل ذلك على عظم يوم الإثنين، لأنه ختم فيه أعظم الأديان، لأن الله جعله محل افتتاح الخير واختتامه، بثباته وكماله. وروى البخاري في المغازي وغيره، ومسلم في آخر الكتاب،. والترمذي في التفسير، والنَّسائي في الحج، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رجلًا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: أي آية؟. قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) . فقال عمر رضي الله عنه: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم -، نزلت وهو قائم بعرفة يوم جمعة. وللبخاري في التفسير، ومسلم، والترمذي، والنَّسائي، عن طارق بن شهاب رضي الله عنه قال: قالت اليهود لعمر رضي الله عنه: إنكم تقرأون

آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً، فقال عمر رضي الله عنه: إني لأعلم حيث أنزلت، وأين أنزلت، وأين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث أنزلت (يوم عرفة، وَإِنًا والله نعرفه، قال سفيان: وأشك كان يوم الجمعة أم لا "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) . وللترمذي وقال: حسن غريب، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قرأ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) ، وعنده يهودي فقال: لو أنزلت هذه الآية علينا لاتخذناها عيداً، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: فإنها نزلت في يوم عيدين، في يوم جمعة، ويوم عرفة. وللبخاري عن سفيان قال: ما في القرآن آية أشد عليَّ من قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) ، أي فكذلك نحن لسنا على شيء حتى نقيم الكتاب والسنة. وروى ابن المبارك عن الضحاك بن مزاحم في قوله تعالى:

(لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) . فقال: والله ما في القرآن آية أخوف عندي منها. وروى عبد بن حميد عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في خطبته المائدة وسورة التوبة، ثم قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أحلوا ما أحل الله فيهما، وحرموا ما حرم الله فيهما. يعني لأنهما من آخرما نزل، فلم ينسخ منهما شيء كما مضى. وأورده ابن رجب، إلا أنه قال: المائدة وسورة البقرة. والظاهر: أن التوبة أصح. وقال ابن رجب: إنَّ في سند عبد شيخه إبراهيم بن الحكم بن أبان وهو ضعيف.

سورة الأنعام

سورة الأنعام مكية. قال أبو عمرو الداني: إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة. وقال النجم النسفي: بين مكة والمدينة، (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ - إلى قوله -: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) . وعزا الجعبري ذلك إلى ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد. وقال: قال الكلبي: إلا قوله تعالى جواب قول فنحاص - أو مالك -: (إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا) إلى آخر الثنيتين.

وقال الأصفهاني: وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هي مكية كلها إلا آيتين منها نزلتا بالمدينة، قوله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ، وقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ) . وقيل: مكية إلا ست آيات نزلت بالمدينة، قوله: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) إلى آخر ثلاث آيات، وقوله: ((قُلْ تَعَالَوْا) إلى آخر ثلاث آيات. وباقي السورة كلها نزلت بمكة جملة واحدة، انتهى. وهذا القول الذي فيه استثناء الست ذكره البغوي عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال الأستاذ أبو الحسن الحرالِّي في مفتاحه: إن قوله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ) الآية مدنية،

عدد آياتها وما يشبه الفاصلة فيها

عدد آياتها وما يشبه الفاصلة فيها وآيها مائة وخمس وستون في الكوفي، وست في البصري والشامي. وسبع في المدنيّين والمكي. اختلافها أربع آيات: (وجعل الظلمات والنور) عدها المدنيان والمكي، ولم يعدها الباقون. (قل لست عليكم بوكيل) عدها الكوفي وحده. (كن فيكون) و (إلى صراط مستقيم) أسقطهما وحده. وعدها غيره. وفيها ما يشبه الفواصل وليس معدوداً بإجماع خمسة مواضع: (من طين) ، (إنما يستجيب الذين يسمعون) ، (مبشرين ومنذرين) . (صراط ربك مستقيماً) ، (فسوف تعلمون) . ولا عكس لذلك.

مقصود السورة

رويها خمسة أحرف: لم نظر. مقصود السورة ومقصودها: الاستدلال على ما دعا إليه الكتاب في السور الماضية من التوحيد بأنه سبحانه الحائز لجميع الكمالات، من الإيجاد والإعدام، والقدرة على البعث وغيره. وأنسب الأشياء المذكورة فيها لهذا المقصد: الأنعام. لأن الإِذن فيها - كما ذكرته في أصل هذا الكتاب - مسبَّب في قوله: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) ، عما ثبت له من الفلق، والتفرد بالخلق، وتضمن باقي ذكرها إبطال ما اتخذوه من أمرها دينا، لأنه لم يأذن فيه، ولا إذن لأحد معه، لأنه المتوحد بالألوهية، لا شريك له، وحصر المحرمات من المطاعم التي جلّها في هذا الدين وغيره. فدل ذلك على إحاطة علمه اللازم عنه شمول القدرة، وسائر الكمالات، وذلك عين مقصودها.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى أبو عبيد في كتاب "الفضائل"، والدارمي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: الأنعام من نواجب القرآن. وروى محمد بن الظفر الحافظ في "غرائب شعبة"، عن عبد الله ولفظه: الأنعام من نواجب - أو نجائب - القرآن. وروى أبو عبيد - أيضاً - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت سورة الأنعام بمكة جملة، ونزل معها سبعون ألف ملك، يجأرون حولها بالتسبيح. وأخرجه الطبراني في الصغير. قال الهيثمي: وفي سنده يوسف بن عطية الصفار، وهو ضعيف.

وأخرجه أبو نعيم في الحلية، في ترجمة عبد الله بن عون، من حديث ابن عمر رضىِ الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نزلت الأنعام: جملة واحدة، يشيعها سبعون ألف ملك، لهم زجل بالتسبيح والتحميد. وروى الطبراني في الأوسط، في ترجمة محمد بن عبد الله بن عرس المصري: من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نزلت سورة الأنعام، ومعها موكب من الملائكة يسد ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والتقديس، والأرض ترتج، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: سبحان الله العظيم، سبحان الله العظيم. ولابن حبان عن جابر رضي الله عنه قال: لما نزلت سورة الأنعام. سبح النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق. وروى أحمد بن منيع، والطبراني في الكبير - وفي سنده شهر وهو

ضعيف وقد وثق - عن أسماء بنت يزيد - رضي الله عنها - قالت نزلت سورة الأنعام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة وتقدم مثله عنها في سورة المائدة وللدارمي عن كعب رحمه الله فاتحة التوراة، الأنعام، وخاتمتها هود. وأخرجه عبد الله بن الإمام أحمد من زياداته في كتاب الزهد لأبيه ولفظه: فاتحة التوراة، فاتحة الأنعام، وخاتمتها خاتمة هود. وهذا كلام من هو بصير بالكتابين - رحمه الله - فإن أول التوراة خلق السماء والأرض، والنور والظلمة، والنجوم والمياه، والنبات والأشجار والدواب كلها والطيور، وخلق آدمٍ - عليه السلام - وتقدير ذريته، وأنه سلطهم على جميع ما في الأرض براً وبحرا، سهلا وجبلا كما ذكرته في كتاب نظم الدرر" في أوائل سورة البقرة. وكذلك سورة الأنعام من أولها (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ. . .) ، إلى آخرها (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ) وما بين ذلك: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ)

(وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ) . (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ) إلى آخرها. (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا) . (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) . إلى غير ذلك من الأنعام والحرث وغيرها، وذكر في آخرها - وهو (في) آخر السفر الخامس - وهو تلخيص ما مضى في التوراة من الأحكام وغيرها، بزيادة لعن من يكفر من بني إسرائيل ويعمل بغير ما شرع الله له. وأخبر سبحانه بما هم فيه من صلابة الرقاب وقساوة القلوب، وغلظ الأكباد. وقد ذكرت في الكتاب المذكور كثيراً من ذلك، عند (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ) في سورة النساء، وعند: (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) في المائدة، وذكر سبحانه في السفر المذكور: إن كلمته نفذت فيهم بالخلافة فلا انفكاك لهم عنها، وأن من أطاع كان طاهراً، وأحسن سبحانه جزاءه، وذكر من عظمته سبحانه وقدرته على الانتقام شيئاً كثيراً، وذكر ما يمكن أن يراد به الآخرة، بخلاف ما مضى فإنه لم يذكر فيه الآخرة،

لا تصريحاً ولا تلويحاً. وذلك أنه قال في هذا السفر عن بني إسرائيل: "هذا الجيل جيل متقلب بنوا من لم يكن فيهم أمانة، همءَاسَفوني بآلهتهم. وأسخطوني بأوثانهم، وأنا ابتليهم بأمة جاهلة، وأسخطهم بها، لأن النار تتقد من غضبي، وتحرق أسفل الجحيم، وتأكل الأرض وأنهارها، وتلهب أساس الجبال، ثم قال: يقول الرب: هذا كله محفوظ في خزائني، في يوم النقلة أجازيهم في الوقت الذي تزل فيه أقدامهم. وكذلك في سورة هود، فيها البشارة والنذارة، ولعن كثير من كفرة الأمم أمة أمة، وذكر ما قاساه منهم أنبياؤهم، إلى أن ختم بقصة موسى عليه السلام ثم لعن فرعون وآله، ثم ذكر اليوم المجموع له الناس، وتفصيل الناس فيه إلى قسمين، ثم ذكر أن بني إسرائيل اختلفوا بعد أن جاءهم البيان بالكتاب ثم ذكر التطهر بالصلاة، دعم بجميع الحسنات، وذكر أن الاختلاف لا يزال قائماً، إتماما لكلمته سبحانه التي سبقت بذلك. وروى أبو عبيد عن كعب قال: إن أول ما أنزل الله من التوراة "بسم الله الرحمن الرحيم، قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم" ثم ذكر الآيات. انتهى. وهو يعني: أن هذه الآيات التي كتبها الله تعالى لموسى عليه السلام في ألواح الجوهر أول ما كتب، كما بينته في كتاب "نظم الدرر" وهي: توحيد الله، والنهي عن الشرك، واليمين الكاذبة، والعقوق، والقتل، والزنا والسرقة، والزور، ومد العين إلى ما في يد الغير، والأمر بتعظيم السبت. ويؤيده ما روى أبو عبيد في الفضائل أيضاً، والترمذي في الاستئذان وقال: حسن صحيح، والنَّسائي في السير، وابن ماجة في الأدب، عن صفوان بن عسال رضي الله عنه قال قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى

هذا النبي فقال صاحبه: لا تقل نبي، فإنه لو سمعك كان له أربع أعين، قال: فأتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألاه عن تسع آيت بينات، فقال: لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تمشوا ببرىء إلى ذي سلطان فيقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا المحصنة، أو قال: لا تولّوا يوم الزحف، وعليكم خاصَّة يهود ألا تعدوا في السبت، قال: فقبلا يديه ورجليه، وقالا: نشهد أنك نبي قال: فما منعكما أن تتبعوني؟. فقالا: إن داود عليه السلام دعا أن لا يزال من ذريته نبي، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود.

ويمكن تطبيق الحديث على ما في التوراة عندهم الآن، فإن كلا من اليمين الحانثة، والزور، يمكن دخوله في قذف المحصنة، والمشي بالبريء والربا في مد العين إلى الغير، ويبقى العقوق، فلعل الراوي وهم في إبداله بالسحر، أوهم بدلوا ما في التوراة، والله أعلم. وروى أبو عبيد أيضاً، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) ، قال: هي الآيات الثلاث في سورة الأنعام (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) ، والتي في بني إسرائيل: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) ، إلى آخر الآيات. وله عن منذر الثوري قال: قال الربيع بن خيثم: أيسرك أن تلقى صحيفة محمد - صلى الله عليه وسلم - عليها خاتمه؟ قال: نعم وأنا أرى أنه سيطرفني، قال: فما زادني على هؤلاء الآيات (. سورة الأنعام: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) . إلى آخر الآيات.. وروى ابن رجب عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من سره أن ينظر إلى وصية محمد - صلى الله عليه وسلم - التي عليها خاتمه، فليقرأ؟ (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)

إلى قوله: (تتقون) . وروى الِإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وفي جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً، ولا تعوجوا، وداع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب، قال: ويحك لا تفتحه إنك إن تفتحه تلجه، والصراط: الإسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة: محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب الله،، الداعي من فوق: واعظ الله في قلب كل مسلم. وروى رزين - قال المنذري: ولم أره في شيء من أصوله، إنما رواه أحمد والبزار مختصراً بغير هذا اللفظ بإسناد حسن - عن ابن مسعود - رضي الله عنه -

أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ضرب الله مثلًا صراطاً مستقيماً وعن جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، الأبواب ستور مرخاة وعند رأس الصراط داع يدعو: استقيموا على الصراط ولا تعوجوا، وفوق ذلك داع يدعو كلما هم عبد أن يفتح شيئاً من الأبواب، قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن فتحته تلجه، ثم فسره فأخبر أن الصراط: هو الإِسلام، وأن الأبواب المفتحة: محارم الله، وأن الستور المرخاة: حدود الله، والداعي على رأس الصراط: هو القرآن، والداعي من فوقه: هو واعظ الله في قلب كل مؤمن. ويمكن تطبيق هذا على: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) . وللطبراني في الصغير - قال: وإسناده جيد - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " لعائشة رضي الله عنها: يا عائشة، (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا) أصحاب البدع وأصحاب الأهواء، ليس لهم توبة، أنا منهم بريء وهم مني براء.

سورة الأعراف

سورة الأعراف مكية، قال أبو حيان: كلها، قاله ابن عباس وجماعة. وقال مجاهد وقتادة - قال الأصفهاني وأبو حيان: ومقاتل -: إلا قوله تعالى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ) الآية. قال النجم النسفي: إلى قوله: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ) ، فإنها نزلت بالمدينة. قال الأصفهاني: وهي ثماني آيات. قال أبو حيان: وروى هذا أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما.

عدد آياتها وما يشبه الفاصلة فيها

عدد آياتها وما يشبه الفاصلة فيها وآيها مائتان وخمس في البصري والشامي، وست في المدني والمكي والكوفي. واختلافها خمس آيات: (المص) عدها الكوفي وحده. (مخلصين له الدين) عدها البصري والشامي، ولم يعدها الباقون. (كما بدأ كم تعودون) عدها الكوفي وحده. (ضعفا من النار) عدها المدنيان والمكي، ولم يعدها الباقون. (الحسنى على بني إسرائيل) الثالث، عدها المدنيان والمكي أيضاً لم يعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفواصل، وليس معدوداً بإجماع: تسعة مواضع: (فدلاهما بغرور) . (في سم الخياط) . (والإنس في النار) ، (بكل صراط توعدون) ،

مقصودها

(آل فرعون بالسنين) ، (وخر موسى صعقاً) . (ولا يهديهم سبيلا) (عذاباً شديدا) ، ورابع بني إسرائيل. وعكسه ستة: (وخلقته من طين) ، (فسوف تعلمون) ، (ثم لأصلبنكم أجمعين) وثلاثة بني إسرائيل. ورويها أربعة أحرف: من دلَّ، الدال: من (ص) . واللام: ثلاثة بني إسرائيل. مقصودها ومقصودها: إنذار من أعرض عما دعا إليه الكتاب في السور الماضية. من التوحيد والاجتماع على الخير، والوفاء لما قام على وجوبه من الدليل في الأنعام وتحذيره بقوارع الدارين.

فضائلها

وأدل ما فيها على هذا المقصد: أمر الأعراف، فإن اعتقاده يتضمن الإشراف على الجنة والنار، والوقوف على حقيقة ما فيها، وما أعد لأهلها الداعي إلى امتثال كل خير، واجتناب كل شر، والاتعاظ بكل مرقق. فضائلها وأما فضائلها: فروى أبو عبيد في الفضائل، والطبراني في الكبير، وأبو داود الطيالسي، وعند الِإمام أحمد، وهذا لفظهما - وفي السند عمران

القطان وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه النسائي وغيره، وبقية رجاله ثقات - عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أعطيت مكان التوراة السبع الطوال، وأعطيت مكان الزبور المئين، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضلت بالمفصل. ولفظ أبي عبيد: أعطيت السبع مكان التوراة، وأعطيت المئين مكان الإنجيل، وأعطيت المثاني مكان الزبور، وفضلت بالمفصل. ورواه الطبراني في الكبير، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعطاني ربي السبع الطول مكان التوراة، والمثين مكان الإنجيل، وفضلت بالمفصل. قال الهيثمي: وفيه ليث بن أبي سليم، وقد ضعفه جماعة، ويعتبر بحديثه، وبقية رجاله رجال الصحيح. ثم أسند أبو عبيد عن سعيد بن أبي هلال قال: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أعطيت السبع الطول مكان التوراة. ثم ذكر حديثه عن وائلة رضي الله عنه. ورواه الدارمي عن عبد الله رضي الله عنه موقوفا عليه قال: السبع

الطول مثل التوراة، والمئون مثل الإنجيل، والمثاني مثل الزبور، وسائر القرآن بعد فضل. ولأبي عبيد وأحمد - قال الهيثمي: ورجال بعض أسانيده رجال الصحيح - والبزار، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من أخذ السبع الطوال فهو حبر. قال الهيثمي: ورواه أحمد عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. ورواه الطبراني - قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح - عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)

قال: هي السبع الطوال. وقال أبو عبيد: حدثنا هشيم، أنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) . قال: هي السبع الطوال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس. ثم أسند عن مكحول وعطية بن قيس مثل قول سعيد سواء، إلا أنه قال: والتي يقال لها: يونس، قال: وهي السابعة. وكذا عن أبي محمد شداد بن عبيد الله القادمي، ويحيى بن الحارث الذماري، وقال: وأن يونس تسمى السابعة.

وقال يحيى: وليست تعد الأنفال ولا براءة من السبع الطول. وللطبراني في الكبير - قال المنذري: ورواته رواة الصحيح، إلا المسيب ابن واضح، قال الهيثمي: وهو ضعيف وقد وثق - عن عبد الله بن بشير - رضي الله عنه - قال: خرجت من حمص، فآواني الليل إلى البقيعة. فحضرني من أهل الأرض، فقرأت هذه الآية من الأعراف: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض) إلى آخر الآية، فقال بعضهم لبعض: احرسوه الآن حتى يصبح، فلما أصبحت ركبت دابتي. وروى ابن أبي داود عن عروة، أن زيداً بن ثابت رضي الله عنه قال لمروان: رأيتك تقرأ في المغرب بقصار المفصل، لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ فيها بطولي الطوليين"، الأعراف. وقال مرة في تفسير الطوليين: الأنعام والأعراف

ورواه أبو داود نفسه في السنن. وقال: قلت: ما طولي الطوليين؟. قال: الأعراف، (والأخرى: الأنعام) . قال - يعني ابن جريج -: وسألت أنا ابن مليك: فقال لي من قبل نفسه: المائدة والأعراف. قال الحافظ المنذري في مختصره: ورواه البخاري مختصراً، ورواه النسائي، انتهى. ورواه عبد الرزاق في جامعه ولفظه: قلت: وما طولي الطوليين؟. قال: الأعراف. قال: قلت لابن أبي مليكة: وما الطوليان؟. فكأنه قال من قبل رأيه: الأنعام، والأعراف. وروى النسائي بإسناد - قال النووي في شرح المهذب: حسن - عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في المغرب بالأعراف، فرقها في الركعتين. ولأبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي أيوب - أو زيد بن ثابت - رضي الله عنهما -

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في المغرب بالأعراف، في ركعتين. ولعبد الله بن أحمد في زوائد المسند - قال الهيثمي: عن شيخه محمد ابن يعقوب الربالي وهو مستور، وبقية رجاله رجال الصحيح - عن أبي بن كعب رضي الله عنه في قوله عز وجل: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) قال: جمعهم فجعلهم أرواحاً، ثم صورهم فاستنطقهم، فتكلموا ثم أخذ عليهم العهد والميثاق، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟. قالوا: بلى. قال: فإني أشهد عليكم السماوات السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم، أن تقولوا يوم القيامة: لم نعلم بهذا. اعلموا أنه لا إله غيري، ولا رب غيري، ولا تشركوا بي شيئاً، إني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي، قالوا: شهدنا بأنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك، فأقروا، ورفع عليهم آدم عليه السلام ينظر إليهم، فرأى الغنى والفقير وحسن الصورة، ودون ذلك. فقال: يا رب لولا سويت بين عبادك؟. قال: إني أحببت أن أشكر. ورأى الأنبياء فيهم مثل السرج عليهم، خصوا بميثاق آخر الرسالة والنبوة، وهو قوله تعالى: (وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم - إلى قوله - وعيسى ابن مريم) - عليهما السلام -، كان في تلك الأرواح، فأرسله إلى مريم عليها السلام، فحدث عن أبيّ أنه دخل من فيها.

ولأحمد - قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح - عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله عز وجل أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان يوم عرفة، فأخرج من صلبه كل ذرية ذراهم، فنثرهم بين يديه، ثم كلمهم قبلاً، قال: ألست بربكم؟. قالوا: بلى شهدنا أن تقولوا - إلى قوله -: المبطلون. ولابن السنى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن رجل عن أبيه، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أخي به وجع، فقال: ما وجع أخيك؟. قال: به لمم، قال: فابعث به إليَّ، فجاء فجلس بين يديه، فقرأ

عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فاتحة الكتاب، وأربع آيات من أول سورة البقرة وآيتين من وسطها: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) حتى فرغ من الآية، وآية الكرسي، وثلاث آيات من آخر سورة البقرة، وآية من أول آل عمران، و (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) . إلى آخر الآية، وآية من سورة الأعراف: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) وآية من سورة المؤمنين - وفي رواية: وآخر سورة المؤمنين -: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) . وآية من سورة الجن: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) . وعشر آيات من سورة الصافات من أولها وثلاثاً من آخر سورة الحشر، وقل هو الله أحد، والمعوذتين. ورواه البيهقي في الدعوات عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: حدثني أبي بن كعب رضي الله عنه. ورواه ابن ماجة في السنن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: حدثني أبي أبو ليلى رضي الله عنه قال: كنت جالساً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء أعرابي فقال: يا نبي الله، إن لي أخاً وبه وجع. قال: وما وجعه؟. قال: له لممَ، قال: فأتني به

فذكره، وفي آخره: فقام الرجل كأنه لم يشتك شيئاً قط. ولابن السنى عن فاطمة رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما دنا ولادها - أمر أم سلمة وزينب بنت جحش رضي الله عنهما أن تأتيا فتقرءا عندها آية الكرسي. و "إن ربكم الله" إلى آخرها وتعوذاهِا بالمعوذتين. وفي كتاب "الاستغناء بالقرآن " لابن رجب: أن ابن عدي خرج من طريق ابن لهيعة عِن أبي صخر - وهو حميد بن زياد. - عن نافع،

عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يدع قراءة آخر سورة الأعراف في كل جمعة. قال ابن رجب: ولعل سر ذلك: أن فيه (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) . وقد قال كثير من السلف: إنها نزلت في قراءة القرآن في الصلاة، وفي خطبة الجمعة، حتى قال الإمام أحمد: أجمعوا على ذلك. ففي تلاوتها في خطبة الجمعة أمر للناس بالإنصات للموعظة وما فيها من تلاوة القرآن والذكر، وقد أبدل الناس ذلك في هذه الأزمان، بذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "إذا قلت لصاحبك: أنصت ". الحديث، لكن إنما يورده المؤذن بين يدي الِإمام. وروى الحافظ زين الدين ابن رجب بسنده إلى سليم بن عيسى قال: دخلت على حمزة فوجدته يمرغ خده في الأرض ويبكى. فقلت: أعيذك بالله، فقال: يا هذا استعذت لماذا؟. فقال: رأيت البارحة في منامي كأن القيامة قد قامت وقد دعى بقراء القرآن، فكنت ممن حضر، فسمعت قائلاً يقول بكلام عذب: لا يدخل علي إلا من عمل بالقرآن، فرجعت القهقري، فهتف باسمي: أين حمزة بن حبيب الزيات؟. فقلت: لبيك داعي

الله، فبادرني ملك فقال: قُلْ لبيك اللهم، فقلتُ كما قال لي. فأدخلني داراً سمعت فيها ضجيج القرآن، فوقفت أرعد، فسمعت قائلًا يقول: لا بأس عليك، أرق واقرأ، فأدرت وجهي فإذا أنا بمنبر من در أبيض، وحافتاهُ من ياقوت أصفر، مراقيه من زبرجد أخضر، فقيل لي: ارق واقر فرقيت، فقيل لي: اقرأ سورة الأنعام فقرأت وأنا لا أدري على من أقرأ، حتى بلغت الستين آية: (وهو القاهر فوق عباده) ، فقال لي: يا حمزة ألست القاهر فوق عبادي؟. فقلت: بلى، فقال: صدقت، اقرأ، فقرأت حتى أتممتها. ثم قال لي: اقرأ، فقرأت الأعراف، حتى بلغت آخرها، فأومات بالسجود، فقال لي: حسبك ما مضى لا تسجد يا حمزة، من أقرأك هذا القرآن؟. قلت: سليمان. قال: صدقت من أقرأ سليمان؟. قلت: يحيى، قال: صدق يحيى، على من قرأ يحيى؟. قلت: على أبي عبد الرحمن السلمى، فقال: صدق أبو عبد الرحمن السلمى، من أقرأ أبا عبد الرحمن السلمى؟. قلت: ابن عم نبيك علي بن أبي طالب قال: صدق علي، من أقرأ علياً؟. قلت: نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال: فمن أقرأ نبيي محمداً؟. قلت: جبريل عليه السلام،

قال: فمن أقرأ جبريل عليه السلام؟. فسكت، قال: فقال لي: يا حمزة قل: أنت. قال: فقلت: ما أحسن أن أقول: أنت!!. قال: قل: أنت. فقلت: أنت، فقال: صدقت يا حمزة. وحق القرآن لأكرمن أهل القرآن يا حمزة، سيما إذا عملوا بالقرآن كلامي، وما أحببت أحداً كحبي أهل القرآن، أدن يا حمزة، فدنوت فضمخني بالغالية (1) ، ثم قال: ليس أفعل بك وحدك، قد فعلت ذلك بنظرائك: من فوقك، ومن دونك، ومن أقرأ القرآن كما أقرأت لم يرد به غيري، وما خبأت لك يا حمزة عندي أكثر، فاعلم أصحابك بمكاني من حبي لأهل القرآن وفعلى بهم، فهم المصطفون الأخيار ولا أذنا سمعته، ولا عينا نظرته، فقلت: سبحانك، سبحانك أي رب. فقال: يا حمزة، أي نظار المصاحف؟. فقلت: يا رب أحفاظ هم؟. فقال: لا، ولكن أحفظه لهم حتى يوم القيامة، فإذا لقوني رفعت لهم بكل آية درجة. أفتلومني أن أبكي وأتمرغ في التراب؟ وسيأتي في سورة يس منام له أيضاً حسن.

_ (1) قال في اللسان. 3 / 37: الضْمخ: لطخ الجسد بالطيب، حتى كأنما يقطر.

سورة الأنفال

سورة الأنفال وتسمى: الجهاد. مدنية اجماعاً، نزلت في بدر، كما رواه أبو عبيد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما. قال الجعبري: واختلف في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) . وقال النجم النسفى والشمس الأصفهاتي: وقيل: إلا آية، وهي قوله تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا. . .) الأية. قال الأصفهاني: نزلت في قصة وقعت بمكة، ويمكن أن تنزل الآية في ذلك بالمدينة. ولا خلاف أن هذه السورة نزلت في يوم بدر وأمر غنائمه.

عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها

وقال النسفي: وقيل: غير قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ) ، فإنها نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال. وقال البغوي: مدنية، قيل: إلا سبع آيات، من قوله: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، إلى آخر سبع آيات، فإنها نزلت بمكة. والأصح: أنها نزلت بالمدينة وإن كانت الواقعة بمكة. وقال الجعبري في شرح الشاطبية: وقيل: هي أول المدني. عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها وآيها خمس وسبعون في الكوفي، وست في المدنيين والمكي والبصري وسبع في الشامي. اختلافها ثلاث آيات: (ثم يغلبون) عدها البصري والشامي، ولم يعدها الباقون. (وليقضي الله أمراً كان مفعولا) الأول، أسقطها الكوفي وحده. وعدها الباقون. (بنصره وبالمؤمنين) أسقطها البصري وحده، وعدها غيره.

مقصودها

وفيها ما يشبه الفواصل، وليس معدوداً بإجماع، ثمانية مواضع: (أولئك هم المؤمنون) ، (رجز الشيطان) ، (فوق الأعناق) . (عن المسجد الحرام) ، (إلا المتقون) ، (يوم الفرقان) ، (يوم التقى الجمعان) .، وثاني: (كان مفعولاً) . وعكسه أوله. رويها سبعة أحرف: مدن قطرب، أو: قطرب ندم. الدال: للعبيد والقاف: الحريق والباء: أربعة العقاب. مقصودها ومقصودها: تبرؤ العباد من الحول والقوة، وحثهم على التسليم لأمر الله واعتقاد: أن الأمور ليست إلا بيده، وأن الِإنسان ليس له فعل يثمر ذلك الاعتصام بأمر الله، المثمر لاجتماع الكلمة، المثمر لنصر الدين، وإذلال المفسدين، المنتح لكل خير، والجامع لذلك كله: أنه كما ثبت بالسور الماضية وجوب اتباع أمر الإله، والاجتماع عليه، لما ثبت من تفرده واقتداره، كان مقصود هذه السورة إيجاب اتباع الداعي إليه بغاية الإذعان والتسليم

فضائلها

والرضا، والتبرؤ من كل حول وقوة، إلى من أنعم بذلك كله، ولو شاء سلبه. وأدل ما فيها على هذا المقصود: قصة الأنفال، التي اختلفوا في أمرها وتنازعوا قسمها، فمنعهم الله منها، وكف عنهم حظوظ الأنفس، وألزمهم الإخبات والتواضع، وأعطاها نبيه - صلى الله عليه وسلم -، لأنه الذي هزمهم بما رمى من الحصيات التي خرق الله فيها العادة، بأن بثها في أعين جميعهم، وبما أرسل من جنوده، فكان الأمر له وحده يمنحه من يشاء، ثم لما صار له - صلى الله عليه وسلم -، رده فيهم، منة منه عليهم، وإحساناً إِليهم. واسمها الجهاد كذلك، لأن الكفار دائماً أضعاف المسلمين، وما جاهد قوم منا قط إلا أكثر منهم. وتجب مصابرة الضعيف: فلو كان النظر إلى غير قوته سبحانه ما أطيق ذلك. فضائلها وأما فضائلها: فروى أبو عبيد عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها نزلت في بدر. ولأحمد - قال الهيثمي: ورجاله ثقات - عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أنه سُئِلَ عن الأنفال فقال: فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين

اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فانتزعه الله من أيدينا، وجعله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقسمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المسلمين عن بواء. يقول: على السواء. وفي كتب الفتوح في وقعة القادسية من بلاد العراق، قالوا: ولما صلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الظهر، أمر غلاماً - كان عمر رضي الله عنه ألزمه إياه، وكان من القراء - بقراءة سورة الجهاد - يعني الأنفال - وكان المسلمون كلهم إذ ذاك يتعلمونها، فقرأها على الكتيبة التي تليه، وقرئت في كل كتيبة، فهشت قلوب الناس، وعرفوا السكنية مع قراءتها. قال مصعب بن سعد: وكانت قراءتها سنة، يقرؤها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الزحف وويستقرئها، فعمل الناس بذلك. قالوا: ولما فرغ من القراءة كبّر سعد، فكبر الذين يلونه، وكبّر

بعض الناس بتكبير بعض، فتخشخش الناس، ثم ذكر أمر اليوم الأول في القتال. وفي الفتوح لأبي القاسم عبد الرحمن بن حبيش، وكذا تلميذه الحافظ أبو الربيع بن سالم الكلاعي، في أواخر وقعة اليرموك، عن كتاب سيف بن عمر، عن أشياخه: وكان القارىء يوم ذاك المقداد بن الأسود.

قالوا: ومن السنة التي سنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد بدر أن تقرأ سورة الجهاد عند اللقاء، وهي سورة الأنفال، ولم يزل الناس بعد على ذلك. وروى البزار - وفي مسنده عبد العزيز بن عمران، وهو ضعيف - عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: نزل الِإسلام بالكره والشدة. فوجدنا خير الخير في الكراهة، فخرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة فجعل لنا في ذلك العلاء والظفر، وخرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر على الحال التي ذكر الله عز وجل: (وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون) - إلى قوله: (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) ، والشوكة: قريش، فجعل الله لنا في ذلك العلاء والظفر، فوجدنا خير الخير في الكره.

سورة براءة

سورة براءة وهي من المثين، والأنفال من المثاني، وهي ما دون المئة، وقد بين ذلك في أصل هذا الكتاب. واسمها أيضاً: التوبة، والفاتحة، والبحوث، والمبعثرة، والمثيرة والحافرة، والمخزية، والمهلكة، والمشردة، والمرشدة، والمنكلة والمدمدمة. وسورة البعوث، وسورة العذاب، والمقشقشة. وهي مدنية إجماعاً. قال الجعبري: وقيل: هي آخر المدني. وقال أبو حيان: إلا آيتين من آخرها نزلتا بمكة، وهذا قول الجمهور.

عددد آياتها وما يشبه الفاصلة فيها

عدد آياتها وما يشبه الفاصلة فيها وآيها مائة وتسع وعشرون في المكي، وثلاثون في عدد الباقي. اختلافها ثلاث آيات: (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، عدها البصري وحده. (إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً) وهو الأول، عدها الشامي وحده. (وعاد وثمود) ، عدها المدنيان والمكي، ولم يعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفواصل وليس معدوداً بإجماع: خمسة عشر موضعاً: (إلا الذين عاهدتم من المشركين) بعده: (ثم لم ينقصوكم) . قال أبو عمرو الداني: على أن أهل البصرة قد جاء عنهم خلاف فيه. وفي قوله: (برىء من المشركين) ، والصحيح عندهم ما قدمناه. (وقاتلوا المشركين) ، (برحمة منه ورضوان) ، (وقَلَّبوا لك الأمور) (وفي الرقاب) ، (ويؤمن للمؤمنين) ، (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) ، (ويعذبهم الله عذاباً أليما) وهو الثاني

مقصودها

(ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون) ، (ما على المحسنين من سبيل) . (من المهاجرين والأنصار) ، (وتفريقاً بين المؤمنين) ، (فيقتلون ويقتلون) . (أن يستغفروا للمشركين) ، (أنهم يفتنون) . وعكسه موضع: (ويشف صدور قوم مؤمنين) . رويها خمسة أحرف: برنمل. اللام: قليل. والباء: الغيوب. مقصودها ومقصودها: معاداة من أعرض عما دعت إليه السور الماضية، من اتباع الداعي إلى الله في توحيده، واتباع ما يرضيه، ومولاة من أقبل عليه. وأدل ما فيها على الإبلاع في هذا المقصد: قصة المخلفين، فإنهم -

لاعترافهم بالتخلف عن الداعي بغير عذر في غزوة تبوك المحتمل على وجه بعيد منهم رضي الله عنهم للإعراض بالقلب - هجروا وأعرض عنهم بكل اعتبار، حتى بالكلام، حتى بالسلام، إلى أن تيب عليهم، فذلك معنى تسميتها بالتوبة، وهو يدل على البراءة. لأن البراءة منهم بهجرانهم حتى في رد السلام، كان سبب التوبة، فهو من إطلاق المسبب على السبب. وتسميتها ببراءة واضح أيضاً فيما ذكر من مقصودها. وكذا الفاضحة: لأن من افتضح كان أهلًا للبراءة منه. والبحوث: لأنه لا يبحث إلا عن حال البغيض. والمبعثرة، والنفرة، والمثيرة، والحافرة، والمخزية، والمهلكة والمشردة. والمدمدمة. لأنه لا يبعثر إلا حال العدو. وكذا ما بعده. والمشردة: عظيمة المناسبة مع ذلك، لما أشارت إليه الأنفال في: (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) . وكذا سورة البعوث سواء. وسورة العذاب أيضاً: واضحة في مقصودها، وكذا المقشقشة: لأنهم قالوا: إن معناه: المبرئة من النفاق، من تقشقشت قروحه: إذا تقشرت للبراء. وتوجيهه: أن من عرف أن الله برىء منه ورسوله والمؤمنون لأمر، فهو جدير بأن يرجع عن ذلك الأمر. وعندي: أنه مضاعف القش الذي معناه الجمع، لأنها جمعت أصناف المنافقين، وعليه خرّج ما ورد في وصف أبي جهم بن حذيفة رضي الله عنه

لمن أراد نكاحها: "أخاف عليك قشقاشته"، أي تتبعه لمداق الأمور أخذا من القش الذي هو تطلب المأكول من ههنا وههنا، أو عصاه التي هي غاية ذلك. ومادة " قش "، ومقلوبها "شق"، ومضاعفها " قشقش، وشقشق": تدور على الجمع وتلازمه الفرقة، فإنه لا يجمع إلا ما كان مفرقاً، ولا يفرق إلا ما كان مجتمعا. وقد برهنت على تطبيق ذلك على الجزئيات المذكورة في كتب اللغة، في كتاب "نظم الدرر" الذي هذا الكتاب فرع منه.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى أبو عبيد في الفضائل، وأبو عمرو الداني في كتاب العدد وهذا لفظه، عن حذيفة رضي الله عنه قال: أنكم تسمعون هذه السورة سورة التوبة، وإنها سورة العذاب، والله ما تركت أحداً إلا نالت منه. أهل المدينة يسمونها، التوبة، وأهل مكة: الفاضحة. ورواه الطبراني في الأوسط - قال الهيثمي: ورجاله ثقات - ولفظه: قال: التي تسمون التوبة، هي سورة العذاب، وما تقرأون منها مما كنا نقرأ إلا ربعها. وتقدم في أواخر الفضائل العامة سر وضعها مع الأنفال. وروى الطبراني - أيضاً - في الكبير عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال زمن الفتح: أن هذا عام الحج الأكبر، قال: اجتمع حج المسلمين وحج المشركين في ثلاثة أيام متتابعات واجتمع النصارى واليهود في ثلاثة أيام متتابعات، فاجتمع حج المسلمين والمشركين، والنصارى

واليهود، العام في ستة أيام متتابعات، ولم يجتمع منذ خلقت السماوات والأرض كذلك قبل العام. ولا يجتمع بعد العام حتى تقوم الساعة. قال الهيثمي: رجاله موثقون، ولكن متنه منكر. وله فيه عن أبي راشد قال: رأيت المقداد فارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضى عنه - جالساً على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص، قد فضل عليها من عظمه، يريد الغزو، فقلت له: لقد أعذر الله إليك. قال: أتت علينا سورة البعوث: (انفروا خفافاً وثقالا) . قال الهيثمي: وفيه بقية بن الوليد وفيه ضعيف، وقد وثق، وبقية رجاله ثقات. وروى الطبراني في الأوسط في ترجمة محمد بن إبراهيم بن عامر الأصبهاني بسند - قال الهيثمي: فيه نهشل بن سعيد وهو متروك - عن علي، يعني ابن أبي طالب رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يحفظ منافق سور: براءة، وهود، ويس، والدخان، وعم يتساءلون. وروى أبو عبيد، وأبو عمرو الداني، عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما: سورة التوبة. قال: تلك الفاضحة، ما يزال

ينزل: ومنهم، ومنهم، حتى خشينا أن لا تدع أحداً. زاد أبو عبيد: قال: فقلت: فسورة الأنفال. قال: نزلت في بدر. قال: فقلت: فسورة الحشر. قال: نزلت في بني النضير. وروى أبو عبيد عن أبي عطية قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن تعلموا سورة التوبة، وعلموا نساءكم سور النور. وروى ابن خزيمة في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: دخلت المسجد يوم الجمعة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فجلست قريباً من أبي بن كعب رضي الله عنه، فقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة براءة. فقلت لأبي: متى نزلت هذه السورة. قال: فتجهمني ولم يكلمني، ثم مكثت ساعة ثم سألته فتجهمني ولم يكلمني، ثم مكثت ساعة، ثم سألته فتجهمني ولم يكلمني فلما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، قلت لأبي: سألتك فتجهمتني ولم تكلمني؟ قال أبي رضي الله عنه: ما لك من صلاتك إلا ما لغوت. فذهبت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا نبي الله كنت بجنب أبي وأنت تقرأ براءة، فسألته: متى نزلت هذه السورة؟. فتجهمني ولم يكلمني، ثم قال: ما لك من صلاتك إلا ما لغوت. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صدق أبي.

وقال ابن رجب: إن عبد الله بن الِإمام أحمد، وسعيد بن منصور. خرجا عن أبي رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ براءة يوم الجمعة. وروى ابن ماجة: أن هذه الواقعة في سورة تبارك. ويجمع بأنه قرأ آيات من كل منهما. وروى عبد الرزاق في جامعه - في وجوب الخطبة - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر يوم الجمعة إذ قرأ آية، فسمعها أبو ذر رضي الله عنه، فقال لأبي بن كعب رضي الله عنه: متى أنزلت هذه الأية؟. فأنصت عنه أبيّ رضى الله عنه ثلاثا، كل ذلك ينصت عنه، حتى إذا نزل النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال أبي لأبي ذر رضي الله عنهما: ليس من جمعتك إلا ما قد مضى منها، فسأل أبو ذر رضي الله عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. فقال: صدق أبي.

وروى عن الحسن: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ آية يوم الجمعة فقال ابن مسعود رضي الله عنه لأبي بن كعب رضي الله عنه: أهكذا نقرؤها؟. فصمت عنه أبي رضي الله عنه، وكانوا في الجمعة، فلما فرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أبي لابن مسعود - رضي الله عنهما -: لم يُجمِّع اليوم، فأتى النبيً - صلى الله عليه وسلم - فسأله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صدق أبي. وروى عبد بن حميد في مسنده عن جابر رضي الله عنه قال: قال سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه لرجل في يوم الجمعة: لا جمعة لك، فذكر الرجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال: يا رسول الله، إن سعداً قال لي: لا جمعة لك. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لمَ يا سعد؟. قال: إنه تكلم وأنت تخطب، قال: صدق سعد. ولأبي عبيد، عن أبي عبد الرحمن الحبليِّ أنه سمع عقبة بن عامر رضي الله عنه يقول: وكان عقبة أحسن الناس صوتاً بالقرآن. قال عمر رضي الله عنه: يا عقبة أعرض علي سورة، قال: فعرض عليه سورة "براءة من الله ورسوله". ولابن السني عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قال في كل يوم حين يصبح، وحين يمسي: (حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) سبع مرات، كفاه الله ما همه - وفي نسخه: ما أهمه - (من أمر الدنيا والآخرة.

ورواه أبو داود موقوفاً وقال: كفاه الله ما أهمه صادقاً كان، أو كاذباً قال المنذري، وقد يقال: إن مثل هذا لا يقال من قبل الرأي والاجتهاد، فسبيله سبيل المرفوع.

سورة يونس

سورة يونس عليه السلام مكية إجماعاً. قال الأصفهاتي: وعن ابن عباس رضي الله غنهما، أنها مكية إلا آية واحدة، قال الغزنوي: على رأس الأربعين وهي قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) . فإنها مدنية، نزلت في اليهود. - وقال البغوي: مكية، إلا ثلاث آيات من قوله:

عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ) ، إلى آخرها. ونسب أبو حيان قول البغوي هذا إلى ابن عباس رضي الله عنهما عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها وآيها مائة وعشر آيات في الشامي، وتسع عند الباقين. اختلافها ثلاث آيات: (مخلصين له الدين) ، عدها الشامي وحده. (ولنكونن من الشاكرين) ، أسقطها الشامي وحده، وعدها الباقون. (وشفاء لما في الصدور) عدها الشامي وحده. وفيها مما يشبه الفواصل، وليس معدوداً بإجماع ثلاثة. (الر) ، (متاع في الدنيا) ، (بوأنا بني إسرائيل) وعكسه موضع واحد (على الله الكذب لا يفلحون) ورويها ثلاثة أحرف: ملن. اللام بوكيل.

مقصودها

مقصودها ومقصودها: وصف الكتاب بأنه من عند الله، لما اشتمل عليه من الحكمة وأنه ليس إلا من عند سبحانه، لأن غيره لا يقدر على شيء منه. وذلك دالّ بلا ريب على أنه واحد في ملكه، لا شريك له في شيء من أمره. وتمام الدليل على هذا: قصة قوم يونس عليه السلام، بأنهم لما آمنوا عند المخايل كشف عنهم العذاب، فدل - قطعاً - على أن الآتي به إنما هو الله الذي آمنوا به، إذ لو كان غيره، لكان إيمانهم به سبحانه موجباً للإيقاع بهم، ولو عذبوا كغيرهم لقيل: هذه عادة الدهر، كما قالوا: (قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) . ودلّ ذلك على أن عذاب غيرهم من الأمم، إنما هو من عند الله لكفرهم، لما اتسق من ذلك طرداً بأحوال سائر الأمم، من أنه كلما وجد الإصرار على التكذيب، وجد العذاب وعكساً: من أنه كلما انتفى في وقت يقبل قبول التوبة، انتفى، والله الموفق.

فضائلها

فضائلها. وأما فضائلها: فروى أبو داود في فضائل القرآن عن سعيد بن جبير. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أوتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعاً من المثاني الطول، وأوتي موسى ستاً، فلما ألقى الألواح رفعت ثنتان وبقي أربع. وتقدم في الأعراف عن سعد بن جبير: أن يونس إحدى الطول. وروى الإِمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من أخذ السبع الطول، فهو حبر. وله - أيضاً - عن أبي هريرة رضي الله عنه مثله. ولأحمد (أيضاً) ، وأبي داود في الصلاة، والنَّسائي في فضائل القرآن. وابن عبد الحكم في كتاب الفتوح، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما،

أن رجلًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أقرئني يا رسول الله فقال: اقرأ ثلاثاً من ذوات (الر) . فقال: كبرت سني، واشتد قلبي، وغلظ لساني - وقال ابن عبد الحكم: وضعف عظمي، وثقل لساني - قال: فاقرأ ثلاثاً من ذوات (حم) . فقال مثل مقالته. فقال: اقرأ ثلاثاً من (السبحات) - وقال ابن عبد الحكم: من ذوات سبح - فقال مثل مقالته. فقال الرجل: يا رسول الله، أقرئني سورة جامعة، فاقرأه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إذا زلزلت) حتى فرغ منها. فقال الرجل: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها أبداً. ثم أدبر الرجل. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفلح الرويجل، مرتين. وطوله ابن عبد الحكم أكثر من هذا. وروى عبد بن حميد والبزار، عن جابر عن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في هذه الآية (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)

قال: هي الرؤيا الصالحة، يراها العبد أو ترى له. قال الهيثمي: وفيه محمد بن السائب الكلبي، وهو ضعيف جداً. وروى أبو داود عن أبي زميل سماك بن الوليد قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما فقلت: ما شيء أجده في صدري. قال: ما هو؟. قلت: والله لا أتكلم به. قال: فقال لي: أشيء من شك؟. قال: وضحك.

قال: ما نجا من ذلك أحد. قال: حتى أنزل الله عز وجل: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) . قال: فقال لي: إذا وجدت في نفسك شيئاً فقل: هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم. قال ابن رجب: وروى ابن أبي الدنيا عن أبي مودود قال: بلغنا أن عمر بن عبد العزيز قرأ ذات يوم: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا) فبكى بكاء شديداً، حتى سمعه أهل الدار، فجاءت فاطمة فجلست تبكي لبكائه، وبكى أهل الدار لبكائها، فجاء عبد الملك فدخل عليهم وهم على تلك الحال يبكون، فقال: يا أبت ما يبكيك؟. قال: خير يا بني، ودَّ أبوك أنه لم يعرف الدنيا ولم تعرفه، والله يا بني لقد خشيت أن أهلك، والله يا بني لقد خشيت أن أكون من أهل النار.

سورة هود

سورة هود عليه السلام مكية إجماعاً. وقال الأصفهاني - بعد أن حكى الإجماع -: وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَها مكية إلا آية واحدة، وهي قوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ) . وقال الغزنوي: إلى آخر الآيتين. وعن مقاتل: مكية كلها، إلا ثلاث آيات: قوله تعالى: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ) . وقوله تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ)

نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه. وقوله: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) نزلت في نَبْهَان التمار. فهذه الثلاثة مدنية، على أن الأول يشبه المكي. وقال أبو حيان: وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها مكية كلها إلا قوله: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ) الآية.

عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها

عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها وآياتها مائة وإحدى وعشرون في المدني الأخير والمكي والبصري. ثنتان في المدني الأول والشامي، وثلاث في الكوفي. واختلافها سبع آيات. (إني برىء مما تشركون) عدها الكوفي وحده.

(يجادلنا في قوم لوط) أسقطها البصري وحده. (من سجيل) ، عدها المدى الأخير والمكي، ولم يعدها الباقون. (منضود) ، أسقطها الأخير والمكي، وعدها الباقون. (إن كنتم مؤمنين) ، عدها المدنيان والمكي، ولم يعدها الباقون. (ولا يزالون مختلفين) ، أسقطها المدنيان والمكي، وعدها الباقون. (إنا عاملون) ، أسقطها المدني الأخير والمكي، وعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفاصلة، وليس معدوداً بإجماع تسعة مواضع: (السر) ، (يعلم ما تسرون وما تعلنون) ، (إنما أنت نذير) . (فسوف تعلمون) ، (سوف تعلمون) ، (وفار التنور) ، (فينا ضعيفا) . (ذلك يوم مجموع له الناس) . وعكسه موضع (كما تسخرون) . ورويها اثنا عشر حرفاً "قد ظنَ زلط ذم صبر".

مقصودها

مقصودها ومقصودها: وصف الكتاب بالِإحكام والتفصيل، في حالتي البشارة والنذارة المقتضى لوضع كل شيء في أتم محاله وإنفاذه، مهما أريد، الموجب للقدرة على كل شيء. وأنسب ما فيها لهذا المقصد: ما ذكر في سياق قصة هود عليه السلام من أحكام البشارة والنذارة بالعاجل والآجل في قوله تعالى: (يوم القيامة) والتصريح بالجزم بالعاجلة بالمنابذة، الناظر إلى أعظم مدارات السورة (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ) ، والعناية بكل دابة، والقدرة على كل شيء من البعث وغيره، المقتضى للعلم بكل معلوم، اللازم منه التفرد بالملك.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى الترمذي وقال: حسن غريب، والحاكم وصححه، وأبو نعيم في الحلية في ترجمة أبي إسحاق السبيعي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله قد

شبت، قال: شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت. ورواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده بسند - قال ابن دقيق العيد في "الاقتراح": إنه خرج برواية البخاري ولفظه - قال أبو بكر: يا رسول الله أراك قد شبت، قال: شيبني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون. قال: وذكر البزار فيه اختلافاً. ورواه مسدد، وأبو يعلى الموصلي، عن عكرمة قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما شيبك؟. فذكره بمثله. ورواه عبد الرزاق مرسلاً، عن معمر، عن أبي إسحاق قال:

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: شيبتني هود وأخواتها: سورة الواقعة، وسورة القيامة، والمرسلات، وإذا الشمس كورت، وإذا السماء انشقت، وإذا السماء انفطرت. ورواه أبو بكر الشافعي في الأول من الغيلانيات، عن مسروق، عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، أسرع إليك الشيب، فقال: شيبتني هود وأخواتها. ومسروق لم يدرك أبا بكر رضي الله عنه.

ورواه أبو يعلى عن عكرمة، عن أبي بكر رضي الله عنه - وهو لم يدركه أيضاً - قال: قلت: يا رسول الله أسرع إليك الشيب، قال: شيبتني الواقعة، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت، وهود. ورواه الطبراني في الأوسط - قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح - فلم يذكر هود. ورواه الطبراني - أيضاً - في الكبير - قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيحِ - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، أن رجلًا قال: يا رسول الله قد شِبْت؟. قال: شيبتني هود وأخواتها. ورواه الطبراني أيضاً - قال الهيثمي: وفيه عمرو بن ثابت وهو متروك - عن عبد الله - يعني ابن مسعود رضي الله عنه - أن أبا بكر رضي الله عنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما شيبك يا رسول الله، قال: شيبتني هود والواقعة. وللطبراني في الكبير عن سهل بن سعد رضي الله عنه قاك: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: شيبتني هود وأخواتها، الواقعة، والحاقة وإذا الشمس كورت.

قال الهيثمي: وفيه سعيد بن سلام العطار، وهو كذاب. انتهى. وروايته لا تقدح فيه، لما مضى له من الشواهد، والله أعلم. ولأبي عبيد من طريق ابن شهاب قال: قالوا: يا رسول الله، إنا نرى في رأسك شيباً، فقال: كيف لا أشيب وأنا أقرأ سورة هود، وإذا الشمس كورت. وروى الترمذي في الشمائل، وأبو يعلى، عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله لقد شبت، قال: شيبتني هود وأخواتها. وتقدم في براءة حديث علي رضي الله عنه في فضلها. وللدارمي مرسلاً، عن كعب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأوا سورة هود يوم الجمعة. وعن عبد الله بن رباح مثله. وروى ابن رجب عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: يا رسول الله لقد أسرع إليك الشيب، قال: أجل لقد شيبتني هود وأخواتها.

قال عطاء: أخواتها: اقتربت الساعة، والمرسلات عرفاً، إذا الشمس كورت. وروى ابن السنى عن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمانٌ لأمتي من الغرق إذا ركبوا (السفينة) أن يقولوا: (بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) . (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) الآية. قال النووي: هكذا هو في النسخ (إذا ركبوا) ، لم يقل السفينة. وروى البغوي من طريق البخاري في التفسير من صحيحه، عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة - فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فأنزل الله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) . فقال: يا رسول الله، إليَّ هذا؟. قال: لجميع أمتي كلهم.

وروى أحمد، والطبراني في الكبير - قال الهيثمي: بإسناد فيه على بن زيد وهو سيء الحفظ ثقة، وبقية رجاله ثقات - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة أتت رجلًا تشتري منه شيئاً، فقال: ادخلي الدولج (1) حتى أعطيك فدخلت، فقبلها وغمزها، فقالت: ويحك إني مغيب (1) ، فتركها (1) . وفي رواية: أن رجلاً جاء إلى عمر رضي الله عنه قال: امرأة جاءت تبايع، فأدخلتها الدولج، فأصبت منها ما دون الجماع، فقال: ويحك لعلها مغيبة في سبيل الله؟. قال: نعم. قال: فأت أبا بكر فاسأله. قال: فأتاه

_ (1) قال ابن الأثير في النهاية 2/ 141: الدولج: الخدع، وهو البيت الصغير داخل البيت الكبير. وأصل الدولج: وولج، لأنه فوعل، من ولج يلج إذا دخل، فأبدلوا من الواو تاء، فقالوا: تولج. ثم أبدلوا من التاء دالًا، فقالوا: دولج. (2) المرأة الغيب: التي غاب عنها زوجها، سواء غاب عن البلد بسفر، أو كان بالبلد. راجع: شرح مسلم للنووي 155/14 وفيه: المغيب؟ بضم اليم، وكسر الغين، وإسكان الياء. (3) مسند الإمام احمد 269/1.

فسأله. فقال: لعلها مغيبة في سبيل الله؟. فقال مثل قول عمر ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونزل القرآن: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) إلى آخر الآية، فقال: يا رسول الله، إلي خاصة أم للناس عامة؟. فضرب عمر رضي الله عنه صدره بيده، وقال: لا، ولا نعمة عين، بل للناس عامة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صدق عمر. قال الهيثمي: ورواه الطبراني في الأوسط باختصار كثير، وإسناد ضعيف. ورواه النسائي في الرجم من الكبرى، عن ابن مسعود رضي الله عنه. ورواه النسائي - أيضاً - عن موسى بن طلحة، عن أبي اليسر قال: أتته امرأة وزوجها قد بعثه - صلى الله عليه وسلم - في بعث، فقالت له: بعني بدرهم تمراً. قال: فقلت لها - وقد أعجبتني -: إن في البيت تمراً أطيب من هذا. فانطلق بها، فذكر الحديث نحوه.

سورة يوسف

سورة يوسف مكية كلها إجماعاً. وقال أبو حيان: وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - وقتادة: إلا ثلاث آيات من أولها. عدد آياتها وما يشبه الفواصل منها وآيها مائة واحدى عشرة إجماعاً. وفيها ما يشبه الفواصل، وليس معدوداً بإجماع، اثنا عشر موضعا. (الر) ، (منهن سكيناً) ، (السجن فتيان) ،

مقصودها

(وأخريابسات) موضعان، (حمل بعير) ، (كيل يسير) ، (فصبرجميل) ، كلاهما (يأت بصيراً) ، (فارتد بصيراً) ، (لأولى الألباب) . وعكسه موضعان: (عشاء يبكون) ، (بضع سنين) . ورويها أربعة أحرف: نرمل. اللام: (وكيل) . مقصودها ومقصودها: وصف الكتاب بالإبانة لكل ما يوجب الهدى لما ثبت فيما مضى - ويأتي في هذه السورة - من تمام علم منزله غيباً وشهادة، وشمول قدرته قولاً وفعلاً. وهذه القصة - كما ترى - أنسب الأشياء لهذا المقصود، وأدل عليه مما في آخرها، فلذلك سميت سورة يوسف.

فضلها

فضلها وأما فضلها: فروى أبو عبيد في الفضائل عن عون بن عبد الله بن عتبة أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَلُّوا، فقالوا: يا رسول الله حَدِّثْنَا، فأنزل اللة تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) ، قال ثم نعته فقال: (كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) الآية. قال: ثم ملوا ملة أخرى، فقالوا: يا رسول الله، حَدِّثنا شيئاً فوق الحديث، ودون القرآن، يعنون القصص، فأنزل الله جل ثناؤه:

(الر تلك آيات الكتاب المبين، إلى قوله: نحن نقص عليك أحسن القصص) . قال: فإن أرادوا الحديث، دلهم على أحسن الحديث، وإن أرادوا القصص، دلهم على أحسن القصص. وروى إسحاق بن راهويه، وابن مردويه في تفسيره من طريقه وأبو يعلى الموصلي في مسنده، عن سعد - هو ابن أبي وقاص رضي الله عنه في قوله: (نحن نقص عليك أحسن القصص) . الآية، قال: أنزل الله القرآن على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فتلاه عليهم زماناً، فقالوا: يا رسول الله لو قصصت علينا، فأنزل الله تعالى: (الر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) إلى (نحن نقص عليك أحسن القصص) الآية، فتلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زماناً، فقالوا: يا رسول الله لو حدثتنا؟. فأنزل الله تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً) الآية، كل ذلك يؤمرون بالقرآن. قال خلاد: وزاد فيه آخر، قالوا: يا رسول الله لو ذكرتنا؟. فأنزل الله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) . قال شيخنا البوصيري: هذا حديث حسن. وروى ابن إسحاق: أن الأنصار لما بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعقبة ورجعوا، قام رافع بن مالك في المدينة بسورة يوسف، بعث بها معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

وكانت أول سورة دخلت المدينة. وروى أبو داود والدارمي، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: تعلقت بقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله أقرئني سورة هود وسورة يوسف عليهما السلام، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عقبة إنك لن تقرأ من القرآن أحب إلى الله، ولا أبلغ عنده من (قل أعوذ برب الفلق) . ولفظ أبي داود: قلت يا رسول الله أقرئني من سورة يوسف، ومن سورة هود، عليهما السلام، قال: يا عقبة اقرأ بأعوذ برب الفلق، فإنك لن تقرأ بسورة أحب إلى الله، وأبلغ عنده منها، فإن استطعت ألا تفوتك فافعل. هذا القول - مع أنه حق في نفسه، لأن كل القرآن بالنسبة إلى حب الله تعالى ليس واحدا، لأن المراد به: لازمه، وهو الإثابة - ترغيب في الفلق، لا تزهيد في السورتين. وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ المعوذتين أول ما أنزلتا على عقبة رضي الله عنه، فلم يرهما وقعتا عنده بما يليق بهما، كما يأتي إن شاء الله تعالى عند ذكرهما.

سورة الرعد

سورة الرعد قال الداني وتبعه الجعبري: وعطاء: مكية. قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقال قتادة: هي مدنية، إلا قوله تعالى: (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ) . قال الجعبري: وعنه من أولها إلى: (ولو أنَّ قرآناً) . والأحاديث الواردة في سبب نزول آية الرعد في أرْبَدَ وعامرِ بن الطُفَيْلِ وغيرهما تدل على أنها مدنية.

والأحاديث الواردة في سبب نزول: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ) تدل على أنها مكية. والله أعلم. وقال النجم النسفي: هي مدنية في قول عكرمة والحسن وقتادة ولم يستثن شيئاً، وكذا قال الغزنوي: قال قتادة: كلها مدنية. وقال مقاتل: هي مكية، إلا الآية التي في آخر السورة. وقال الأصفهاني: وقيل: هي مكية، إلا آيتين: (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ) الآية، (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا) الآية. وعزا الغزنوي هذا القول إلى ابن عباس رضي الله عنهما. وقال الأصفهاني: وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أنها مدنية إلا آيتين نزلتا بمكة، وهما قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ) إلى آخرهما. وقيل: المدني منها قوله تعالى: (هو الذي يريكم البرق) ، إلى قوله: (دعوة الحق) .

عدد آياتها وما يشبه الفاصلة فيها

عدد آياتها وما يشبه الفاصلة فيها وأيها ثلاث وأربعون في الكوفى، وأربع في المدنيين والمكي، وخمس في البصري، وسبع في الشامي. واختلافها خمس آيات: (لفي خلق جديد) ، أسقطها الكوفي وحده. (هل يستوي الأعمى والبصير) ، عدها الشامي وحده. (أم هل تستوي الظلمات والنور) ، أسقطها الكوفي وحده. (أولئك لهم سوء الحساب) ، عدها الشامي وحده. (من كل باب) أسقطها المدنيان والمكي. وفيها ما يشبه الفواصل، وليس معدوداً بإجماع، خمسة مواضع: (المر) ، (وما تغيض الأرحام وما تزداد) ، (لربهم الحسنى) . (يكفرون بالرحمن) . وعكسه موضع واحد: (يضرب الله الأمثال) .

مقصودها

رويها سبعة أحرف: (نرق لعبد) ، العين: متاع وردف النون والقلوب: واو، والباقي: ألف. مقصودها ومقصودها: وصف الكتاب بأنه الحق في نفسه، وتارة يتأثر عنه، مع أن له صوتاً وصيتاً، وإرغاباً وإرهاباً، يهدي بالفعل. وتراه لا يتأثر، بل يكون سبباً للضلال والعمى. وأنسب ما فيها لهذا المقصد: الرعد، فإنه مع كونه حقاً في نفسه يسمعه الأعمى والبصير، والبارز والمستتر، وتارة يتأثر عنه البرق والمطر وتارة لا. وإذا نزل المطر: فتارة ينفع إذا أصاب الأراضي الطيبة وسلمت من عاهة، وتارة يخيب إذا نزل على السباخ الخوارة، وتارة يضر بالإغراق، أو الصواعق، أو البرد، وغيرها.

فضائلها

فضائلها وروى الترمذي، والنَّسائي، والحاكم، والبيهقي في الدعوات، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سَمِعَ الرعد والصواعق، قال: اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك. وللطبراني في الكبير - قال الهيثمي: وفيه قابوس بن أبي ظبيان وهو ضعيف، وقد وثق - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -:

إن كان كما تقول، فأرنا أشياخنا الأول من الموتى، وافتح لنا هذه الجبال. جبال مكة التي قد ضمتنا، فنزلت: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى) . وسيأتي في سورة الشعراء - إن شاء الله تعالى - حديث في ذلك وغيره عن الزبير رضي الله عنه.

سورة إبراهيم

سورة إبراهيم عليه السلام مكية كلها. قال الغزنوي: عند أكثر المفسرين. ويروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعطاء، وقتادة، إلا آيتين نزلتا بالمدينة في قتلى قريش يوم بدر: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا) إلى آخرهما (وَبِئْسَ الْقَرَارُ) . وقال البغوي: إلى قوله: (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) مع تسميتهما آيتين. عدد آياتها وما يشبه الفاصلة منها وآيها إحدى وخمسون في البصرى، واثنتان في الكوفى، وأربع في المدنيين والمكي، وخمس في الشامي.

واختلافها سبع آيات: (لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) ، و (أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور) ، لم يعدهما الكوفي والبصري، وعدهما الباقون. (وعادًا وثمود) لم يعدها الكوفي والشامي، وعدها الباقون. (بخلق جديد) عدها المدني الأول والكوفي والشامي، ولم يعدها الباقون. (وفرعها في السماء) لم يعدها المدني الأول، وعدها الباقون. (وسخر الليل والنهار) لم يعدها البصري، وعدها الباقون. (عما يعمل الظالمون) عدها الشامي، ولم يعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفواصل وليس معدوداً بإجماع، سبعة مواضع: (الر) ، (يضل الله الظالمين) ، (دائبين) ، (يأتيهم العذاب) (أجل قريب) ، (غير الأرض والسماوات) (من قطران) .

مقصودها

وعكسه ثلاثة: (ما يشاء) ، (فيها سلام) ، (وأفئدتهم هواء) ورويها عشرة أحرف: أصدم لظن بذر. مقصودها ومقصودها: التوحيد، وبيان أن هذا الكتاب غاية البلاع إلى الله، لأنه كافل ببيان الصراط الدال عليه، المؤدي إليه. وأدل ما فيها على هذا المرام: قصة إبراهيم عليه السلام. أما التوحيد: فواضح. وأما أمر الكتاب: فلأنه من جملة دعائه لذريته الذين أسكنهم عند البيت المحرم، ذرية إسماعيل عليه السلام: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) .

ما ورد في شأنها

ما ورد في شأنها أما ما ورد في شأنها: فروى البزار عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان فيه العمل الصالح. وديوان فيه ذنوبه. وديوان فيه النعم من الله عليه. فيقول

الله تعالى لأصغر نعمة - أحسبه قال: في ديوان النعم - خذي ثمنك من عمله الصالح، فتستوعب عمله الصالح ثم تتنحى فتقول: وعزتك وجلالك ما استوفيت، وتبقى الذنوب والنعم وقد ذهب العمل الصالح، فإذا أراد الله أن يرحم عبداً قال: يا عبدي قد ضاعت حسناتك، وتجاوزت عن سيئاتك - أحسبه قال -: ووهبت لك نعمتي. وروى البزار - برواةٍ قال المنذري: ثقات - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، تبتلي هذه الأمة في قبورها، فكيف بي وأنا امرأة ضعيفة؟. قال: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) . وروى الشيخان وغيرهما - وهذا لفظ مسلم - عن البراء بن عازب رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) نزلت في عذاب القبر، يقال له: من ربك؟. فيقول: ربي الله، ونبي محمد، فذلك قوله: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) . وفي رواية لأبي داود عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن المسلم إذا سئل في القبر فشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فذلك قول الله تعالى:

(يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) . وللطبراني في الأوسط - قال الهيثمي: وفيه عطية العوفي وهو ضعيف - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عليه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في هذه الآية (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) قال: في الآخرة في القبر. وروى ابن رجب عن مسروق قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن هذه الآية (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) قالت: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه في حجري وأنا ألمسه إذ ذكرت هذه الآية ففاضت عيناي حتى قطرت دموعي على وجهه، فرفع رأسه إليَّ فقال لي: ما يبكيك؟ فقالت: يا رسول الله ذكرت قول الله عز وجل: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) ، فقال: سبقت الناس يا عائشة. قلت: فأين الناس يومئذ؟. قال: على الجسر. وآخره في مسلم. وقال عبد الله بن الإمام أحمد: أخبرت عن سياد بن جعفر قال: دخلت على حبيب أبي محمد، فقال: اقرأ علي، فأخذت مصحفه، فأول ما وقع في يدي: (وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) . فجعل يقول وَاسْتَفْتَحُوا) ، ويبكي.

سورة الحجر

سورة الحجر مكية كلها إجماعاً. عدد آياتها وما يشبه الفاصلة فيها وآيها بالإجماع: تسع وتسعون، على عدد الأسماء الحسنى الكافلة لحفظ الوجود، وانتظامه على ما يراد منه. فلا غرو ان كانت هذه السورة كفيلة بالوعد بالحفظ للذكر، وإظهار ذلك الوعد في مظهر العظمة، للإعلام بنفوذ الكلمة. ولذلك تمت الكلمة في الكفاية لأمر المستهزئين، الذين كانوا رؤوس من جعلوا القرآن عضين. قال الجعبري: وفيها ما يشبه الفواصل موضع واحد: (الر)

مقصودها

ورويها ثلاثة أحرف: ملن. مقصودها ومقصودها: وصف الكتاب بأنه في الذروة من الجمع للمعاني. الموضحة للحق من غير اختلاف أصلًا. وأشكل ما فيها وأمثله وأشبهه في هذا المعنى: قصة أصحاب الحجر فإن وضوح آيتهم عندهم - وعند كل من شاهدها، أي سمع بها وصحت عنده - كوضوح ما دل عليه مقصود هذه السورة في أمر الكتاب عند جميع العرب، لاسيما قريش. وأيضاً آيتهم في غاية الإيضاح للحق، والجمع لمعانيه الدائرة على التوحيد، المقتضى للاجتماع على الداعي. ومن هنا يتضح ويتأيد ما اخترته من الإعراب لقوله تعالى: (كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) . من تعليقي له بقوله: (فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) كما حققته في أصل هذا الكتاب. على أن لفظ الحجر يدل على ما دل عليه مقصود السورة من الجمع والاستدارة التي روحها الإحاطة، المميزة للمحاط به من غيره، بلا لبس أصلاً.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى البزار - مرسلاً ومتصلاً - عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما: قالا: جاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاً يقرأ سورة الحجر

وسورة الكهف، فسكت. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم. وللطبراني في الكبير بسند فيه خالد بن نافع الأشعري - قال الهيثمي: قال أبو داود: متروك، وقال الذهبي: هذا تجاوز في الحد لا يستحق الترك، فقد حدث عنه أحمد بن حنبل وغيره، وبقية رجاله ثقات - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا اجتمع أهل النار في النار، ومعهم من شاء الله من أهل القبلة، قال الكفار للمسلمين، ألم تكونوا مسلمين؟. قالوا: بلى. قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النار؟. قالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها. فسمع الله ما قالوا، فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة فأخرجوا. فلما رأى ذلك من بقي من الكفار في النار، قالوا: يا ليتنا كنا مسلمين فنخرج كما خرجوا. قال: ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) . وروى أبو عبيد في كتاب "الفضائل، والغريب "

عن يحيى بن أبي كثير مرسلاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر هو وأصحابه على إبل لحي يقال لهم بنو الملوح - أو بنو المصطلق - وقد عبست أبوالها من السمن، فتقنع بثوبه، ثم قرأ قول الله تعالى: (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ) إلى آخر الآية. ومعنى "عبست": أن تجف أبوالها وأبعارها على أفخاذها وذلك إنما يكون من كثرة الشحم، فذلك العبس. وروى الطبراني - قال الهيثمي: ورجاله ثقات - عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما هلك قوم لوط إلا في الأذان، ولا تقوم القيامة إلا في الأذان. قال الطبري: معناه عندي - والله أعلم -: في وقت أذان الفجر وهو وقت الاستغفار والدعاء.

سورة النحل

سورة النحل وتسمي أيضاً سورة النعم. (مكية) إلا ثلاث آيات وهي قوله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) إلى آخرها، فإنها نزلت بالمدينة حين هَمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتمثيل بقريش إن أظهره الله بهم، كما مثلوا بعمه حمزة رضي الله حين قتلوه بأحد. قال أبو عمرو الداني في كتاب العدد: هذا قول عطاء،

وقال ابن عباس رضي الله عنهما مثله، إلا أنه قال: نزلت بين مكة والمدينة منصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحد. وما نزل بين مكة والمدينة، وكذا ما نزل بعد الهجرة، فهو مدني. وقال الأصفهاني: وفي رواية أخرى عن ابن عباس: هي مكية إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة، وهي قوله: (ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً - إلى قوله -: يعلمون) . وعن قتادة: هي مكية، إلا خمس آيات: (ولا تشتروا بعهد الله) . الآيتين، ومن قوله؟ (وإن عاقبتم) إلى آخرها. وعن ابن السائب: هي مكية، إلا خمس آيات، قوله: (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا) ، (وإن عاقبتم) إلى آخرها. (وعن مقاتل: مكية، إلا سبع آيات، قوله: (ثم إن ربك) . الآيتن، وقوله: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ) الآيتين،

وقوله: (وإن عاقبتم) إلى آخرها. وقال قتادة - قال الجعبري: وجابر بن زيد -: من أولها أربعون آية قال الجعبري: إلى (والذين هاجروا في الله) مكي، ومن ثم إلى آخرها مدني. قال الجعبري: فجوز الأمرين باعتبار الطرفين. انتهى. وذكرابن عبد البر في الاستيعاب بغير إسناد، أن خالد بن عقبة جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: اقرأ عليَّ، فقرأ عليه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) الآية. فقال: أعد، فأعاد فقال: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وما يقول هذا بشر. ورواه البيهقي في الشعب، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بسند جيد، إلا أنه قال: الوليد بن المغيرة، بدل خالد بن عقبة. وكذا ذكره ابن إسحاق في السيرة بنحوه. ورواه البيهقي في الدلائل. وفي بعض رواياته: أن الوليد قال لقريش - وقد أنكروا عليه اجتماعه بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وسماعه لبعض ما جاء به - فقال: ما فيكم رجل أعلم بالشعر

مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته. وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الوليد قال قريش وقد حضر الموسم: أن وفود العرب ستقدم عليكم، وقد سمعوا بأمر صاحبكم. فأجمعوا فيه رأياً، ولا تختلفوا، فيكذب بعضكم بعضاً، فقالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا فيه رأياً نقوم به، فقال: بل أنتم فقولوا أسمع. فقالوا: نقول كاهن، قال: ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان، فما هو بمزمزمة الكاهن ولا سجعه، قالوا: نقول مجنون. قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه، ولا تخالجه ولا وسوسته، قالوا: فنقول: شاعر، قال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر: رجزه، وهزجه، وقريضه، ومقبوضه، ومبسوطه، فما هو بالشعر. قالوا: فنقول: ساحر، قال: ما هو بساحر، قد رأينا السَّحار وسحرهم. فما هو بنفثهم وعقدهم. قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟. قال: والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجني، فما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف

إنه باطل، وإن أقرب القول فيه أن تقولوا: ساحر جاء بقول هو سجع يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته. ولقد كان هذا الذي ظنه الوليد عليه من الله ما يستحق، حتى لقد كان كذبهم سبباً لِإسلام كثير من الصحابة رضي الله عنهم. ومن ألطف ما في ذلك: ما رواه مسلم في الجمعة من صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ضماداً رضي الله عنه قدم مكة، وكان من أزد شنوءة، وكان يرقى من هذه الريح، فسمع سفهاء مكة يقولون: إن محمداً مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل، لعل الله يشفيه على يدي. قال: فلقيه، فقال: يا محمد أني أرقى من هذه الريح، وإن الله يشفى على يديّ من شاء، فهل لك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ومن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،

عدد آياتها وما يشبه الفاصلة منها

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أما بعد، فقال: أعد على كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات، فقال ة لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناموس - وفي نسخة: قاموس، وفي نسخة: قاعوس - البحر. هات يدك أبايعك على الِإسلام، فبايعه. فقال رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: وعلى قومك، فقال: وعلى قومي. الحديث. عدد آياتها وما يشبه الفاصلة منها وآيها مائة وثمانون وعشرون بلا خلاف بين العادين. وفيها مما يشبه الفواصل، وليس معدوداً بإجماع: اثنا عشر موضعاً (قصد السبيل) ، (وما يشعرون) ،

مقصودها

(والله يعلم ما يسرون وما يعلنون) أي الذي بعده: (إنه لا يحب المستكبرين) ، (ما يشاؤون) ، (والملائكة طيبين) ، (ما يكرهون) ، (أفبالباطل يؤمنون) ، (هل يستوون) ، (وما عند الله باق) ، (متاع قليل) . وعكسه خمسة: (ويخلق ما لا تعلمون) ، (وما تعلنون) ، (وهم مستكبرون) ، (كن فيكون) ، (على الله الكذب لا يفلحون) . رويها ثلاثة أحرف: نمر. الراء: موضعان (قدير) . مقصودها ومقصودها: الدلالة على أنه تعالى تام القدرة والعلم، فاعل بالاختيار منزه عن شوائب النقص.

فضائلها

وأدل ما فيها على هذا المعنى: أمر النحل، لما ذكر من شأنها في دقة الفهم، في ترتيب بيوتها على شكل التسديس، ترتيباً لا يصل إليه أكابر المهندسين، إلا بعد تكامل كبير، وقانون يقيسون به ذلك التقدير وذلك على وجه هو أنفع الوجوه لها، وفي رعيها، وسائر أمرها، من اختلاف ألوان ما يخرج منها، من أعسالها وشموعها، وجعل الشمع نوراً وضياء، والعسل بركة وشفاء، مع أكلها من كل الثمار، النافع منها والضار، وغير ذلك من الأسرار. ووسمها بالنعم واضح في ذلك، والله أعلم. فضائلها وأما فضائلها: فروى مسلم وأبو داود، والترمذي، والنَّسائي،

وابن جرير، عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كنت في المسجد، فدخل رجل فصلى، فقرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه: فلما قضينا الصلاة، دخلنا جميعاً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، فدخل آخر فقرأ - وفي رواية: ثم قرأ هذا سوى قراءة صاحبه - فأمرهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأا، فحسن النبي - صلى الله عليه وسلم - شأنهما - وفي رواية: فقال لهما النبي - صلى الله عليه وسلم -: قد أصبتم وأحسنتم - فسقط في نفسي من التكذيب، ولا إذ كنت في الجاهلية، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قد غشيني، ضرب في صدري، ففضت - وفي رواية: فارفضضت - عرقا فكأنما أنظر إلى الله عز وجل فرق، فقال لي: يا أبي إن ربي أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه أن يهون على أمتي، فرد إلي الثانية أن أقرأه على حرفين، فزددت إليه أن هون على أمتي، فرد إليَّ في الثالثة أن أقرأه على سبعة أحرف ولك بكل ردّة رددتكها مسألة تسألنيها، فقلت: اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إليَّ الناس - وفي رواية: الخلق كلهم - حتى إبراهيم عليه السلام.

وفي رواية لابن جرير عن أبي رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أعيذك بالله من الشك والتكذيب، وقال: إن الله أمرني أن أقرأ القرآن على حرف، فقلت: اللهم رب خفف عن أمتي، فقال: اقرأه على حرفين، فأمرني أن أقرأه على سبعة أحرف، من سبعة أبواب من الجنة، كلها شاف كاف. وللنسائي رضي الله عنه قال: أقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة، فبينا أنا في المسجد جالس، إذ سمعت رجلاً يقرؤها بخلاف قراءتي، فقلت له: من علمك هذه السورة؟ فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: لا تفارقني حتى نأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيت فقلت: يا رسول الله، إن هذا خالف قراءتي في السورة التي علمتني يا رسول الله - فقال - صلى الله عليه وسلم -: اقرأ يا أبي، فقرأتها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحسنت، ثم قال للرجل: اقرأ فقرأ فخالف قراءتي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحسنت، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أبي إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها كاف شاف. وفي (رواية) أخرى له: ما حاك في صدري منذ أسلمت، إلا أني قرأت آية وقرأها آخر غير قراءتي، فقلت: أقرأنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال الأخر: أقرأنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله أقرأتني آية كذا وكذا؟. قال: نعم، وقال الآخر: ألم تقرئني آية كذا وكذا؟.

قال: نعم قال: إن جبريل وميكائيل عليهما السلام أتياني، فقعد جبريل عليه السلام عن يميني، وميكائيل عليه السلام عن يساري، فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف، وقال ميكائيل: استزده، حتى بلغ سبعة أحرف فكل حرف شاف كاف. وروى أبو عبيد هذه الرواية عن أبي رضي الله عنه. وروى عقبها عن سليمان بن صرد عن أبي بن كعب رضي الله عنهما أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - برجلين قد اختلفا في القراءة، ثم ذكر مثل ذلك. وأخرجه المحاملي في الجزء السادس عشر من أماليه الأصبهانيات. ولفظه (فقال) : يا أبي إن الملكين أتياني، فقال أحدهما: اقرأ القرآن على حرف، وقال الآخر: زده، فقلت: زدني، قال: اقرأه على حرفين، فقال الآخر: زده، قلت، زدني، قال: اقرأ على ثلاثة أحرف، فقال الآخر: زده، فقلت: زدني، قال: اقرأ على أربعة أحرف، قال الآخر: زده، قلت: زدني، قال: اقرأ على أربعة أحرف، قال الآخر: زده، قلت: زدني، قال: حتى انتهى إلى سبعة أحرف، فقال: إن القرآن نزل على سبعة أحرف. ورواه النسائي في سننه، وعبد بن حميد في مسنده،

ولفظه: قالَ: قرأ رجل آية، وقرأتها على غير قراءته، فقلت: من أقرأك هذا؟ قال: أقرأنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانطلقت به إلى النبي فقلت: يا رسول الله أقرأتني آية كذا وكذا؟ فقال: نعم، فقال الرجل: أقرأتني آية كذا وكذا؟ ، فقال: نعم، فقال: إن جبريل وميكائيل عليهما السلام أتياني، فجلس جبريل عن يميني، وميكائيل عن يساري، فقال جبريل: يا محمد اقرأ القرآن على حرف، فقال ميكائيل: استزده، فقلت: زدني، فقال: اقرأه على حرفين، فقال ميكائيل: استزده، فقلت: زدني، فقال: اقرأه على ثلاثة، فقال ميكائيل: استزده، فقلت: زدني كذلك حتى بلغ سبعة أحرف، فقال: اقرأه على سبعة أحرف، كلٌ شاف كاف. ورواه أحمد بن منيع في مسنده عن سليمان بن صرد وهو الخزاعي رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اقرأ القرآن على سبعة أحرف، كل شاف كاف. وفي رواية له عن سليمان - أيضاً - رضي الله عنه قال: أتى أبي بن كعب رضي الله عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجلين قد اختلفا في القرآن فاستقرأهما فاختلفا، فقال لكل واحد منهما: أحسنت، فقال: إني أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف. قال شيخنا البوصيري: ورواه النسائي أيضاً، ورواه أبو داود في سننه من طريق سليمان عن أبي رضي الله عنهما، فجعله من مسند أبي رضي الله عنه.

ورواه الطبراني عن سليمان بن صرد رضي الله عنه قال: أتى محمداً - صلى الله عليه وسلم - الملكان، فقال أحدهما: اقرأ القرآن على حرف فقال الآخر: زده، فلم يزل يستزيده، حتى قال: اقرأ القرآن على سبعة أحرف. وفي رواية عنده، عن سليمان رضي الله عنه يرفعه، قال: أتاني ملكان فقال أحدهما: اقرأ، قال الآخر: على كم، قال: على حرف قال: زده، حتى انتهى إلى سبعة أحرف. وروى ابن جرير عن أنس بن مالك، عن عبادة بن الصامت، عن أبي بن كعب رضي الله عنهم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنزل القرآن على سبعة أحرف. وروى ابن جرير أيضاً عن سليمان بن صرد، عن أبي بن كعب رضي الله عنهما قال: رحت إلى المسجد، فسمعت رجلًا يقرأ، فقلت: من أقرأك؟. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانطلقت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: استقرىء هذا، قال: فقرأ، فقال: أحسنت قال: فقلت: فإنك أقرأتني كذا وكذا. فقال: وأنت قد أحسنت، قال: فقلت: قد أحسنت، قد أحسنت؟ ، قال: فضرب بيده على صدري، ثم قال: اللهم أذهب عن أبي الشك. قال: ففضت عرقاً، وامتلأ جوفه فرقاً ثم قال: إن الملكين أتياني، فقال أحدهما: اقرأ القرآن على حرف وقال الآخر: زده، قال: قلت: زدني، قال: اقرأه على حرفين، حتى بلغ سبعة أحرف. ورواه البيهقي في السنن الكبرى عن سليمان، عن أبي رضي الله عنهما قال: قرأت آية، وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه خلافها، فأتينا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: ألم تقرئني آية كذا وكذا؟. قال: بلى، قال ابن مسعود - رضي الله عنه -

ألم تقرئنيها كذلك؟. قال: بلى. قال: كلاكما محسن، قلت: ما كلانا أحسن ولا أجمل. قال: فضرب صدري وقال: يا أبيّ إني أقرئت القرآن. فقيل لي: على حرف، أم على حرفين؟. فقال: الملك الذي معي: على حرفين، فقلت: على حرفين. فقيل لي: على حرفين أم ثلاثة؟. فقال الملك الذي معي: على ثلاثة، فقلت: على ثلاثة حتى بلغ سبعة أحرف، قال: ليس فيها إلا شاف كاف، قلت: غفور رحيم عليم حكيم، نحو هذا، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو رحمة بعذاب. ولابن جرير عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: ما حاك في صدري منذ أسلمت، إلا أني قرأت آية فقرأها رجل غير قراءتي، فقلت: أقرأنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال الرجل: أقرأنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أليس أقرأتني آية كذا وكذا؟ ، قال: بلى، قال الرجل: ألم تقرئني آية كذا وكذا؟. قال: بلى، إن جبريل وميكائيل - عليهما السلام - أتياني، فقعد جبريل عن يميني، وميكائيل عن يساري فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف، وقال ميكائيل: استزده، قال جبريل: اقرأ القرآن على حرفين، فقال ميكائيل: استزده، حتى بلغ سبعة أحرف وكل شاف كاف. وفي رواية: حتى بلغ ستة أحرف، قال: اقرأه على سبعة أحرف كل كاف شاف. وروى أبو عبيد في الفضائل، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه،

أنه قال: ليس الخطأ أن تدخل بعض السورة في الأخرى، ولا أن تختم الآية بحكيم عليم، أو عليم حكيم، أو غفور رحيم، ولكن الخطأ أن تجعل فيه ما ليس منه، أو أن تختم آية رحمة بآية عذاب، أوآية عذاب بآية رحمة. وقال أبو عبيد في معنى ذلك ما حاصله: أنه إذا أبدل شيئاً من ذلك غلطاً، أو سبق لسان، أو نحو ذلك، لم يخرج عن كونه شافياً كافياً، فإن الكل صفات الله، ومعاني نحو هذا يقارب بعضه بعضاً، فلا يعنف على هذا الإبدال، ولا يقال له: أخطات، بل يقال له: التلاوة كذا وكذا بخلاف ما إذا ختم آية رحمة بعذاب، أو آية عذاب برحمة، فإنه غيّر المعنى فحينئذ يطلق عليه الخطأ. وليس المراد بالحديث والأثر: أنه يجوز له أن يتعمد إبدال ذلك والله أعلم. وهذه السورة التي وقع لأبيّ الخلاف فيها مع صاحبيه رضي الله عنهم هي سورة النحل. روى الِإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في أول تفسيره عن أبي رضي الله عنه قال: دخلت المسجد فصليت، فقرأت النحل، ثم جاء رجل آخر فقرأها على غير قراءتي، ثم دخل رجل آخر، فقرأ بخلاف قراءتنا. فدخل في نفسي من الشك والتكذيب أشد مما كان في الجاهلية، فأخذت بأيديهما، فأتيت بهما النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله استقرىء هذين، فقرأ أحدهما، فقال: أصبت، ثم استقرأ الآخر، فقال: أحسنت، فدخل قلبي أشد مما كان في الجاهلية من الشك والتكذيب فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدري فقال: أعاذك الله من الشك وخسأ عنك الشيطان، ففضت عرقاً. فقال: أتاني جبريل عليه السلام فقال: اقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: إن أمتي لا تستطيع ذلك حتى قال سبع مرات، فقال: اقرأ على سبعة أحرف، ولك بكل ردة رددتها مسألة.

وفي رواية: سمعت رجلًا يقرأ في سورة النحل قراءة تخالف قراءتي ثم سمعت آخر يقرؤها يخالف ذلك، فانطلقت بهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إني سمعت هذين يقرأان في سورة النحل، فسألتهما من أقرأهما؟ فقالا: رسول "الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: لأذهبن بكما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ خالفتما ما أقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأحدهما: اقرأ، فقرأ فقال: أحسنت، ثم قال للآخر: اقرأ فقرأ، فقال: أحسنت، فوجدت في نفسي وسوسة الشيطان حتى احمر وجهي، فعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجهي، فضرب بيده في صدري، ثم قال: اللهم اخسأ الشيطان عنه، يا أبي أتاني آت من ربي فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: رب خفف عن أمتي، ثم أتاني الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: رب خفف عن أمتي، ثم أتاني الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد مثله، ثم أتاني الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف، ولك بكل ردة مسألة، فقلت: يا رب اغفر لأمتي، رب اغفر لأمتىِ، واختبأت الثالثة شفاعة لأمتي يوم القيامة. وفي رواية عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أن رجلين اختصما في آية من القرآن، وكلّ يزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرأه، فتقارأا إلى أبي رضي الله عنه، فخالفهما أبي رضي الله عنهم، فتقارأوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا نبي الله اختلفنا في آية من القرآن، وكلنا يزعم أنك أقرأته، فقال لأحدهما: اقرأ، فقرأ، فقال: أصبت، وقال للآخر: اقرأ فقرأ خلاف ما قرأ صاحبه، فقال: أصبت، وقال لأبي: اقرأ، فقرأ فخالفهما، فقال: أصبت، قال أبي: فدخلني من الشك في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ما دخل بي من أمر الجاهلية، قال: فعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي في وجهي، فرفع يده فضرب صدري، وقال: استعذ بالله من الشيطان الرجيم، قال: ففضت عرقا، وكأني أنظر إلى الله فرقاً،

وقال: إنه أتاني آت عن ربي وقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: رب خفف عن أمتي، قال: ثم جاء فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: رب خفف عن أمتي. قال: ثم جاء الثالثة فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: رب خفف عن أمتي، قال: ثم جاء في الرابعة فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف، ولك بكل ردة مسألة قال: قلت: رب اغفر لأمتي، رب اغفر لأمتي، واختبات الثالثة شفاعة لأمتي، حتى إن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام ليرغب فيها. وفي رواية: اقرأه على سبعة أحرف من سبعة أبواب من الجنة. وفي رواية: من قرأ منها حرفاً، فهو كما قرأ. قال أبو عبيد في كتاب الفضائل، بعد إيراد طرق حديث السبعة الأحرف: قد تواترت هذه الأحاديث كلها على الأحرف السبعة، إلا حديثاً واحداً يروي عن سمرة رضي الله عنه، ثم أسند ما تقدم عنه في الفضائل العامة وقال: ولا نرى المحفوظ إلا السبعة، لأنها المشهورة، وقد بينت فيما مضى: أنه لا معارضة. وسيأتي الالتفات إلى هذا الحديث بالتفات بديع في سورة "لم يكن" إن شاء الله تعالى، وبيان أنه بسبب ما تضمنه هذا الحديث قرأها النبي - صلى الله عليه وسلم - على أبي رضي الله عنه، فيا لها من كرامة ما أجلها وأعلى قدرها ومحلها. ويأتي في سورة الفرقان حديث عمر رضي الله عنه في السبعة الأحرف.

وقال النووي في التبيان: عن عمر رضي الله عنه، أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر سورة النحل، حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد، وسجد الناس. حتى إذا كانت الجمعة الثانية قرأ بها، حتى إذا جاء السجدة قال: يا أيها الناس إنا نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر رضي الله عنه، رواه البخاري. قال: وهذا الفعل والقول منه في هذا المجمع دليل ظاهر على: على أنه لا وجوب. وقال ابن رجب: وقد روى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أنه قرأ في يوم عيد في خطبة العيد سورة البقرة، وكذلك عمر رضي الله عنه. كان يكثر تلاوة القرآن على المنبر، وربما قرأ سورة النحل ثم نزل فسجد. وروى الإِمام أحمد والطبراني بسند فيه شهر - قال الهيثمي: وثقة أحمد وجماعة، وفيه ضعف لا يضر، وبقية رجاله ثقات - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفناء بيته جالس، إذ مر به عثمان بن مظعون، فَكَشَرَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَلَا تَجْلِسُ قَالَ بَلَى قَالَ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَقْبِلَهُ فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَدِّثُهُ إِذْ شَخَصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَنَظَرَ سَاعَةً إِلَى السَّمَاءِ فَأَخَذَ يَضَعُ بَصَرَهُ حَتَّى

وَضَعَهُ عَلَى يَمِينِهِ فِي الْأَرْضِ فَتَحَرَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جَلِيسِهِ عُثْمَانَ إِلَى حَيْثُ وَضَعَ بَصَرَهُ وَأَخَذَ يُنْغِضُ رَأْسَهُ كَأَنَّهُ يَسْتَفْقِهُ مَا يُقَالُ لَهُ وَابْنُ مَظْعُونٍ يَنْظُرُ فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ وَاسْتَفْقَهَ مَا يُقَالُ لَهُ شَخَصَ بَصَرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَاءِ كَمَا شَخَصَ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَأَتْبَعَهُ بَصَرَهُ حَتَّى تَوَارَى فِي السَّمَاءِ فَأَقْبَلَ إِلَى عُثْمَانَ بِجِلْسَتِهِ الْأُولَى قَالَ يَا مُحَمَّدُ فِيمَ كُنْتُ أُجَالِسُكَ وَآتِيكَ مَا رَأَيْتُكَ تَفْعَلُ كَفِعْلِكَ الْغَدَاةَ قَالَ وَمَا رَأَيْتَنِي فَعَلْتُ قَالَ رَأَيْتُكَ تَشْخَصُ بِبَصَرِكَ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ وَضَعْتَهُ حَيْثُ وَضَعْتَهُ عَلَى يَمِينِكَ فَتَحَرَّفْتَ إِلَيْهِ وَتَرَكْتَنِي فَأَخَذْتَ تُنْغِضُ رَأْسَكَ كَأَنَّكَ تَسْتَفْقِهُ شَيْئًا يُقَالُ لَكَ قَالَ وَفَطِنْتَ لِذَاكَ قَالَ عُثْمَانُ نَعَمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ آنِفًا وَأَنْتَ جَالِسٌ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَمَا قَالَ لَكَ قَالَ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي، وأحببت محمداً - صلى الله عليه وسلم -. وروى أحمد باسناد - قال الهيثمي: حسن - عن عثمان بن أبي العاضي رضي الله عنه قال: كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالساً إذ شخص ببصره، ثم صوبه، حتى كاد أن يلزقه بالأرض، قال: وشخص ببصره

قال: أتاني جبريل عليه السلام، فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الوضع من هذه السورة، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) . وللطبراني في حديث طويل، وفي مسنده - كما قال الهيثمي - عاصم ابن بهدلة، وهو ثقة وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح، عن أبي الضحى قال: اجتمع مسروق وشتير بن شكل في المسجد، فقال مسروق. هل سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: أن أجمع آية في القرآن: حلال وحرام، وأمر ونهي، ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) إلى آخر الآية؟. قال: نعم. قال: وأنا قد سمعته. ورواه أبو عبيد في الفضائل، من طريق أخرى، عن الشعبي قال: التقى مسروق بن الأجدع وشتير بن شكل، فذكره. وذكر الحافظ زين الدين بن رجب، عن الحسن، أنه قرأ هذه الآية ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) ثم وقف فقال: إن الله جمع لكم الخير

كله، والشر كله، في آية واحدة، فوالله ما ترك العدل والاحسان شيئاً من طاعة الله إلا جمعه، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئاً إلا جمعه. وروى ابن رجب من طريق أبي مسعود الجريري، حدثني شيخ في مسجد الأشياخ، كان يحدثنا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينا نحن حول مريض لنا، إذ هدأ وسكن، حتى ما يتحرك منه عرق، فسجيناه وأغمضناه، وأرسلنا إلى ثيابه وصدره وسريره، فلما ذهبنا لنحمله لنغسله. تحرك، فقلنا: سبحان الله، سبحان الله، ما كنا نراك إلا قد مت، قال: فإني قد مت وذهب بي إلى قبري، فإذا إنسان حسن الوجه، طيب الريح، قد وضعني في لحدي، وطواه بالقراطيس، إذ جاءت إنسانة سوداء منتنة الريح، فقالت: هذا صاحب كذا، وهذا صاحب كذا، أشياء استحي من ذكرها، كأنما أقلعت عنها ساعتئذ، قال: قلت: أنشدك الله أن تدعني، وهذه قالت: انطلق يخاصمك، فانطلقت، فإذا دار فيحاء واسعة، فيها مصطبة كأنها من فضة، وفي ناحية منها مسجد، ورجل قائم يصلي، فقرأ سورة النحل، فتردد في مكان منها، ففتحت عليه فانفتل، فقال: السورة معك؟. فقلت: نعم، فقال: أما إنها سورة النعم، ورفع وسادة قريبة منه، فأخرج صحيفة فنظر فيها، فبادرته السوداء، فقال: فعل كذا، وفعل كذا قال: وجعل الحسن الوجه يقول: وفعل كذا، وفعل كذا، يذكر محاسني، قال: فقال الرجل: عبد ظالم لنفسه، ولكن الله عزَّ وجلّ تجاوز عنه، لم يجيء أجل هذا بعد أجل هذا يوم الإثنين، فقال لهم: انظروا، فإن أنا مت يوم الإثنين فأرجو إلى ما رأيت، وإن لم أمت يوم الإثنين، فإنما هو هذيان الوجع، فلما كان يوم الإثنين صح، حتى بعد العصر، ثم أتاه أجله فمات.

سورة الإسراء

سورة الإسراء وتسمى سورة بني إسرائيل، وسورة سبحان، والأقصى. مكية إجماعاً. وقال الغزنوي: غير ثماني آيات، فيها خبر وفد ثقيف، وخبر ما قالت اليهود للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليست هذه بأرض الأنبياء) ، وذلك من قوله تعالى: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ - إلى قوله -: (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) فإن هذه الآيات مدنيات. روى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما عدد آياتها وما يشبه الفاصلة منها وآيها مائة وإحدى عشرة في الكوفى، وعشر في عدد الباقين.

اختلافها آية (للأذقان سجداً) ، عدها الكوفي وحده. وفيها مما يشبه الفواصل وليس معدوداً بإجماع، أربعة عشر موضعاً: (لبنى إسرائيل) ، (بأس شديد) ، (ويبشرالمؤمنين) ، (السنين والحساب) ، (لمن نريد) ، (وبالوالدين إحساناً) ، (قتل مظلوماً) ، (لوليه سلطاناً) . (بها الأولون) ، (عذاباً شديداً) ، (ورحمة للمؤمنين) ، (وصمَّا) (وبالحق نزل) (للأذقان يبكون) وعكسه اثنان: (الجبال طولاً) ، (بكم لفيفا)

مقصودها

ورويها أحد عشر حرفاً: "قلّ من سعد بفره"، وبعد كلّ ألف التنوين، إلا الراء من (البصير) أول آيها. مقصودها ومقصودها: الإقبال على الله وحده، وخلع كل ما سواه، لأنه وحده المالك لتفاصيل الأمور، وتفضيل بعض الخلق على بعض. وذلك هو العمل بالتقوى، التي أدناها خلع الأنداد، واعتقاد التوحيد. على ما دعا إليه افتتاح النحل. وأعلاها: الإحسان، الذي اختتمت به، وهو الفناء عما سوى الله. وذلك شرح ما أشار إليه آخر التي قبلها، من قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) . وكل ما أسمائها واضح الدلالة على هذا: أما سبحان - الذي هو علم للتنزيه - فمن أظهر ما يكون فيه، لأن من كان على غاية النزاهة عن كل نقص، كان جديراً بأن: (لا تعبدوا إلا إياه) وأن يعرض كل مخلوق عن كل ما سواه، لكونه متصفاً بما ذكر.

وأما الإِسراء: فمن عرف أموره كلها في السّرى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام، إلى المسجد الأقصى، ثم العروج من المسجد الأقصى، إلى السماوات العلي، إلى سدرة النتهي، ثم إلى ما شاء العليُّ الأعلى، ثم التردد بين موسى عليه السلام، وبين من أسرى به من السماء السادسة إلى ما وصل إليه في المرة الأولى من الحد الأسمى، والحضرة الشماء، والمحل الأقدس الأنهى، الذي وصل إليه دون غيره من الخلائق وهو فوق السماء السابعة، بما لا يعلمه إلا الله تعالى، مرة بعد أخرى ثم الرجوع إلى المسجد الأقصى، ثم إلى الكعبة العظمى، قبل فجر تلك الليلة، علم أن الفاعل لذلك متصف بكل ما ذكر، فأقبل بكليته، وانقطع دائماً إليه. وكذا تسميتها بالأقصى، فإنه مشير إلى قصة الإِسراء. وأما بنو إسرائيل، فمن أحاط - أيضاً - بتفاصيل أمرهم في مسيرهم إلى الأرض المقدسة، الذي هو كالِإسراء، وإيتائهم الكتاب، وما ذكر مع ذلك من شأنهم في هذه السورة، الذي هو معروف بالفرق بين الإسراءين والفرق بين الإيتاءين، عرف ذلك.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى البخاري في فضائل القرآن، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: بنو إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، إنهن من العتاق الأول، وهن من تلادي. ورواه أبو عبيد، فأسقط سورة الأنبياء، وقال: هن من تلادي، وهن من العتيق الأول. وقال: إن معناه: من أول ما أخذت من القرآن، شبهة بتلاد المال القديم، ومعناه: أن ذلك كان بمكة. وروى الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب، والبيهقي في

الدعوات، من حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا ينام حتى يقرأ - وفي رواية البيهقي: كان يقرأ كل ليلة - بني إسرائيل والزمر. ولأحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سأل أهل مكة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن ينحي الجبال عنهم فيزدرعوا، فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم، وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم. قال: لا، بل أستأني بهم، وأنزل الله هذه الآية: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا) . وفي رواية: فدعا، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن ربك يقرئك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبا، فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة، قال: بل افتح لهم باب التوبة والرحمة. قال البيهقي: ورجال الروايتين رجال الصحيح، إلا أنه وقع في أحد طرقه عمران بن الحكم، وفي بعضها: عمران أبو الحكم، وهو ابن

الحارث - وهو الصحيح - وهو من رجال الصحيح. ورواه البزار بنحوه. وروى ابن رجب من طريق الطبراني، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يهبط الله عز وجل آخر ساعة من الليل فيقول: ألا مستغفر يستغفرني فأغفر له، ألا سائل يسألني فأعطيه، ألا داع يدعوتي فأستجيب له، حتى يطلع الفجر، قال: فقال: "إن قرآن الفجر كان مشهوداً"، فيشهده الله وملائكته ". وروى أبو طاهر المخلص عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ينزل ربنا عز وجل " كل ليلة إلى السماء الدنيا نصف الليل الأخير، أو الثلث الأخير، فيقول - فذكره نحوه - وقال: حتى يطلع الفجر أو ينصرف القارىء من صلاة الصبح. وروى الطبري في الصغير بسند - قال الهيثمي: فيه ابن إسحاق

وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح، وعلى الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، قد شد لهم إبليس أقدامها بالرصاص، فجاء ومعه قضيب فجعل يهوي به إلى كل صنم منها، ليخر لوجهه، فيقول: (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) حتى مر عليها كلها. وسيأتي إن شاء الله تعالى في سبأ حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند الشيخين بنحوه. ولأبي عبيد، عن خيثمة قال: قال عبد الله: عليكم بالشفاءين: القرآن والعسل، قال أبو عبيد: يريد عبد الله هذه الآية: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) ، والآية التي في النحل: (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ) .

ولأحمد في المسند، والطبراني، عن معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه كان يقول: آية العزة - وفي رواية: العز - (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) إلى آخر السورة. وللطبراني والبيهقي في الدعوات، والحاكم وقال: صحيح الإسناد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما كربني أمْرٌ إلا تمثل لي جبريل عليه السلام، قال: يا محمد قل: توكلت على الحي الذي لا يموت، و (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا) .

وللطبراني في الدعاء، وأبي يعلى - قال الهيثمي: وفيه موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف - عن أبي هريرة - أيضاً - رضي الله عنه قال: بينا أنا أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، استقبله رجل رث الثياب رث الهيئة، مستقام، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا فلان ما الذي بلغ بك ما أرى؟. قال: الفقر والسقم. قال: أفلا أعلمك كلمات إذا قلتهن ذهب عنك الفقر والسقم؟. فقال: لا، ما يسرني بهذا إني شهدت معك بدراً وأحداً، قال: فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: وهل يدرك أهل بدر وأهل أحد ما يدرك الفقير القانع؟. قال أبو هريرة: فقلت: يا رسول الله فعلمنيهن. قال: قل: توكلت على الحي الذي لا يموت، والحمد للهِ الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً. قال: فلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا هريرة بعد أيام فقال: يا أبا هريرة، ما الذي أرى من حسن حالك؟. فقال: يا رسول الله ما زلت أقرأ الكلمات منذ علمتنيهن. وروى عبد الرزاق في جامعة عن جعفر بن سليمان، عن سعيد الجريري قال: بلغني أنه من قرأ الآية: (الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك) إلى آخر السورة، لم يصبه سرق. ورواه الأستاذ أبو عثمان الصابوني في كتاب "المائتين" موصولاً عن

ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هي - يعني (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) الآية - أمان من السرق. قال: وكان رجل من المهاجرين تلاها حين أخذ مضجعة فدخل عليه سارق فجمع ما في البيت، ثم حمله والرجل ليس بنائم، حتى انتهى إلى الباب، فوجد الباب مرذوماً، فوضع الكارَّة، وفعل ذلك ثلاث مرات، فضحك صاحب البيت وقال: إني قد حصنت بيتي، قال: فذهب اللص. قال الصابوني: هذا حديث غريب الإسناد والمتن، لم أكتبه إلا من هذا الطريق. وفي الفردوس عن أبي موسى رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ في مصبح أو مسمى (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ) ، الآية. لم يمت قلبه في ذلك اليوم، ولا تلك الليلة. وروى الأصفهاني في ترغيبه، عن إبراهيم - يعني ابن الأشعث - قال: سمعت الفضل يقول: إن رجلًا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أسره العدو، فأراد أبوه أن يفديه، فأبوا عليه، إلا بشيء كثير لم يطقه فشكى ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أكتب إليه فليكثر من قوله: (توكلت على الحي الذي لا يموت) .

و (الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً) إلى آخرها، قال: فكتب بها الرجل إلى ابنه، فجعل يقولها، فغفل العدو عنه، فاستاق أربعين بعيراً، وقدم بها إلى المدينة. قال المنذري: وهذا معضل (1) . وسيأتي في الطلاق مما يمكن أن يتصل بهذا.

_ (1) الحديث المعضل: هو ما سقط من إسناده - في أي موضع كان - راويان فأكثر على التوالي، فهو حديث غير متصل السند، وعدم الاتصال يجعله من قبيل الحديث الضعيف، ومن العلماء من يلحقه بالمرسل، ومنهم من يلحقه بالمنقطع، مع أنه أسوأ حالاً منهما ما لم يات متصلا من طرق أخرى. ومثاله: قول الإمام مالك في الموطأ 2/ 980: بلغني أن أبا هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل إلا ما يُطيق "، فهذا الحديث معضل لكنه جاء متصلاً عند مسلم في كتاب الإيمان من صحيحه: عن مالك بن أنس، عن محمد بن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة، فالإعضال كان في إسقاط محمد بن عجلان وأبيه. راجع: دكتور محمد أديب الصالح، لمحات في أصول الحديث ص 237. 239

سورة الكهف

سورة الكهف مكية إجماعاً. وقال الأصفهاني: قيل هذا إجماع المفسرين من غير خلاف. وقد روى عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وقتادة: أن فيها آية مدنية، وهي قوله: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) . وجعلها الغزنوي آيتين. قال الأصفهاني: وعن مقاتل: من أولها إلى (صَعِيدًا جُرُزًا) مدني وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) الآيتين، وباقيها مكي.

عدد آياتها وما يشبه الفاصلة فيها

عدد آياتها وما يشبه الفاصلة فيها وآيها مائة وخمس آلِات في المدنيين والمكي، وست في الشامي، وعشر في الكوفي، وإحدى عشرة فِى البصري. اختلافها إحدى عشرة آية: (وزدناهم هدى) لم يعدها الشامي، وعدها الباقون. (ما يعلمهم إلا قليل) ، عدها المدني الأخير، ولم يعدها الباقون. (إني فاعل ذلك غداً) ، لم يعدها المدني الأخير، وعدها الباقون. (وجعلنا بينهما زرعاً) لم يعدها المدني الأول والمكي، وعدها الباقون. (لن تبيد هذه أبداً) ، لم يعدها المدني الأخير والشامي، وعدها الباقون. (من كل شيء سبباً) ، لم يعدها المدني الأول والمكي، وعدها الباقون. (فأتبع سبباً) ، (ثم أتبع سبباً) .

(ثم أتبع سبباً) عدهن الكوفي والبصري ولم يعدها الباقون. (عندها قوماً) ، لم يعدها الكوفي والمدني الأخير، وعدها الباقون. (بالأخسرين أعمالاً) ، لم يعدها المدنيان والمكي، وعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفواصل وليس معدوداً بإجماع، اثنا عشر موضعاً: (قيماً) ، (بأساً شديداً) ، (ويبشر المؤمنين) ، (وهم رقود) (عليهم بنياناً) (بسلطان بين) ، (مراء ظاهرا) ، (خضراً) ، (ولم تظلم منه شيئاً) . (على ربك صفا) (آذانهم وقرا) (من دونهما قوماً) وعكسه ثلاثة:

مقصودها

(عوجا) ، (نهراً) ، (عندها قوماً) ورويها خمسة عشر - حرفاً، (ازل مرض فظ بعفص نجد) ، وبعد كل ألف التنوين. مقصودها ومقصودها: وصف الكتاب بأنه قيم، لكونه زاجراً عن الشريك الذي هو خلاف ما قام عليه الدليل في "سبحان "، من أنه لا وكيل دونه، ولا إله إلا هو وقاصًّا (بالحق) أخبار قوم قد فضلوا في أزمانهم، وفق ما وقع الخبر به في سبحان، من أنه يفضل من يشاء، ويفعل ما يشاء.

وأدل ما فيها على هذا المقصد: قصة أهل الكهف، لأن خبرهم أخفى ما فيها من القصص، مع أن سبب فراقهم لقومهم الشرك، وكان أمرهم موجباً بعد طول رقادهم للوحدانية، وإبطال الشرك.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى مسلم وأبو داود، والنَّسائي، والترمذي وأحمد بن حنبل، وأبو يعلى الموصلي، وأحمد بن منيع، والحارث بن أبي أسامة، والطبراني، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ - وفي رواية: من حفظ - عشر آيات من أول - وفي رواية: من آخر - سورة الكهف، عصم من الدجال. وفي رواية: من فتنة الدجال. وفي رواية للترمذي: من قرأ ثلاث آيات من أول سورة الكهف. ورواه النسائي في "اليوم والليلة" عن ثوبان رضي الله عنه. ولفظه: من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من الدجال. ولمسلم وأبي داود، عن النواس بن سمعان رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الدجال - إلى أن قال -: فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف.

زاد أبو داود: فإنها جواركم من فتنته. وروى النسائي في السنن، والبيهقي في الدعوات وغيره مرفوعاً. والحاكم موقوفاً ومرفوعاً وقال: صحيح الإسناد، والدارمي في مسنده. وسعيد بن منصور في سننه، كلاهما موقوفاً فقط، عن أبي سعيد رضي الله عنه: من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بين الجمعتين. ولفظ الدارمي: من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة، أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق. ومثله لا يقال من قبل الرأي، فهو مرفوع على كل حال. قال المنذري: وفي أسانيدهم كلها - إلا الحاكم - أبو هاشم يحيى بن دينار الرماني، والأكثرون على توثيقه، وبقية الإسناد ثقات، وفي إسناد الحاكم الذي صححه نعيم بن حماد. ثم قال في فصل الرواة في آخر الكتاب: قال النسائي: ضعيف، وابن معين: صدودق، وأنا أعرف الناس به، كان رفيقي في البصرة، كتب عن

روح بن عبادة خمسين ألف حديث. ورواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. والطبراني في الأوسط في ترجمة أحمد بن محمد بن صدقة، مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولفظ النسائي والحاكم: من قرأ الكهف كما أنزلت، كانت له نوراً يوم القيامة من مقامة إلى مكة، ومن قرأ عشر آيات من آخرها، ثم خرج الدجال، لم يسلط عليه. ورواه الطبراني لى الأوسط، في حديث طويل - قال الهيثمي: ورجاله

رجال الصحيح - بلفظ: من قرأ سورة الكهف، كانت له نوراً يوم القيامة من مقامه إلى مكة، ومن قرأ عشر آيات من آخرها، ثم خرج الدجال، لم يضره. ورواه عبد الرزاق في جامعه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه - موقوفاً عليه -، قال: من قرأ سورة الكهف كما أنزلت، ثم أدرك الدجال لم يسلط عليه - أو لم يكن عليه سبيل - ومن قرأ خاتمة سورة الكهف، أضاء نوره من حيث قرأها ما بينه وبين مكة. وفي الفردوس عن البراء، وابن عباس، رضي الله عنهم، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ عشر آيات من الكهف، ملئ من قرنه إلى قدمه إيماناً، ومن قرأها في ليلة جمعة، كانت له نوراً، فإن خرج الدجال لم يتبعه. وفيه أيضاً: عن ابن عباس، وأبي هريرة، رضي الله عنهم، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة، أعطى نوراً كما بين صنعاء إلى بصري، ومن قرأها في يوم جمعة حفظ إلى الجمعة الأخرى وعوفي من الداء والدَّبيلة، وذات الجنب، والبرص والجذام، والجنون وفتنة الدجال. ولابن مردويه في تفسيره بإسناد - قال المنذري: لا بأس به - عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء، يضيء له يوم القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين.

ولأحمد في المسند، والطبراني، بسند حسن، عن معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من قرأ أول سورة الكهف وآخرها، كانت له نوراً من قدمه إلى رأسه، ومن قرأها كلها، كانت له نورا ما بين الأرض والسماء. وعند البزار، وإسحاق بن راهويه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ في ليلة: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) . كان له نور من عدن أبين إلى مكة، حشوه الملائكة. قال المنذري: ورواته ثقات، إلا أن أبا قرة الأسدي لم يرو عنه - فيما أعلم - غير النضر بن شميل. ولأبي عبيد في الفضائل، والدارمي، كلاهما عن محمد بن كثير، عن

الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لبابة، عن زر بن حبيش رحمه الله، أنه قال: من قرأ آخر سورة الكهف لساعة يريد أن يقومها من الليل، قامها - وقال: قال عبدة: فجربناه فوجدناه كذلك. وقال ابن كثير: وقد جربناه - أيضاً - في السرايا غير مرة، فأقوم في الساعة التي أريد. قال: وابتدىء من قوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) ، إلى آخرها. وللشيخين، وأحمد، والترمذي، عن البراء رضي الله عنه قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف، وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين، فتغشته سحابة فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك له، فقال: تلك السكينة تنزلت للقرآن، وهذا الرجل هو أسيد بن الحضير، كما مضى في البقرة.

وقال الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير: وفي المختارة للحافظ الضياء المقدسي، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي - رضي الله عنه - مرفوعاً: من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة، وإن خرج الدجال، عصم منه. ولابن السنى عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من رأى شيئاً فأعجبه فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، لم تضره العين. ورواه البيهقي في الدعوات، ولفظه: ما أنعم الله على عبد نعمة في

أهل ولا مال أو ولد، فيقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، فيرى فيه آفة دون الموت. وبنحو هنذا اللفظ رواه الأستاذ أبو عثمان الصابوني في كتاب "المائتين" وقال: وما أنعم الله على عبد نعمة من أهل، أو مال، أو ولد. . . الحديث. (وقال) : هذا حديث غريب الإِسناد والمتن، ولا أعلم أني كتبته إلا من هذا الوجه. وشرح ما تقدم من أسرار كثير مما تضمنته هذه الأخبار: أما تخصيصها بيوم الجمعة، فلتذكيرها بالبداية من خلق آدم عليه السلام، والنهاية من قيام الساعة، الخاصين بيوم الجمعة، مع ما فيها من لواحقهما من ذكر الجنتين وإن اختلف الحالان. ومن ذكر قصة أصحاب الكهف بما فيها من الدلالة على البعث، ومن ضرب المثل للحياة الدنيا، ومن قصة الحشر، ومن قصة الحوت، وأمر ذي القرنين في السد وما يتبعه، وغير ذلك من نفخ الصور، وتلك التي تكون في البعث والنشور، وما ذكر في الجنان والنيران، من الثبور والحبور. وأما ما ينشأ عنها من النور، ولكونها سورة الكتاب الهادي للصواب.

الموصوف بدوام الاستقامة، المانعة من الشك والارتياب، والزلزلة والاضطراب وكذلك فعل النور بصاحبه، يوضح له الخفايا، ويفتح له الخبايا، وكل باب. وأما السكينة: فلما خص الله به أصحاب الكهف وموسى والخضر وذا القرنين عليهم السلام، من الطمأنينة على الحق، والسكون على الخير. والنصر على المبطلين، وفي كونها سورة الكتاب أعظم مشير إلى ذلك، وكاشف لسره. ولهذا كان ما تقدم في فضائل البقرة، الواصفة للكتاب المذكور، فيها آية السكينة الموروثة عن آل موسى وآل هارون، عليهم السلام: من دُنُوِّ الملائكة والمصابيح المزهرة، لكونها سورة الكتاب المنير للألباب. وأما عصمتها من الدجال: فلما فيها من التذكير بتنزيه الله تعالى عن كل نقص، وماله من القدرة التامة، وكل كمال، وما اتفق من عصمة أصحاب الكهف ممن ناوأهم والربط على قلوبهم مع ضعفهم، وكثرة المخالفين لهم. والاكتفاء فيها بالعشر من أولها، لجمعه بين التنزيه والبعث، ولقاء الله الذي لا يكون شيء منها إلا بعد الدجال، بل وبعد الموت. وذكر قصة أهل الكهف إجمالاً، وبالعشر من آخرها، لجمعها للبعث المذكور، والتنزيه والتوحيد، الذي وقع به الاختتام، المنافي للانقسام وقبول الانقسام بوجه، فأعلم ببطلان أمر الدجال، إلى غير ذلك من الأسرار التي تدق عن الأفكار. وبالثلاث لتنبيهها على التفكر في الكتاب، الهادي إلى كل صواب ولا سيما البشارة والنذارة، الموجبان للعدل، الحاملات على المتاب والعدول عن كل ارتياب، ولإعلامها بالتوحيد بالبراءة من الولد، المستلزم قبوله للمجانسة

المستلزمة للقسمة، المستلزمة للحاجة، المبرهنة على إبطال أمر الدجال، إلى غير ذلك من أمور لا تدخل تحت المقدور، وبدور لا تسع أنوارها الصدور. كما تشير إليه قصة موسى مع الخضر عليهما السلام، والتسليم من أنه فوق كل ذي علم عليم.

سورة مريم

سورة مريم عليها السلام وتسمى - أيضاً - كهيعص. مكية. قال الأصفهاني: قيل: بإجماعهم، من غير خلاف علمناه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما - قال أبو حيان: ومقاتل: هي مكية غير سجدتها. وقيل: غير آيتين منها، قوله: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ) والتي تليها. عدد آياتها وما يشبه الفاصلة فيها وآيها تسع وتسعون في المدني الأخير والمكي، وثمان في عدد الباقين. اختلافها ثلاث آيات:

مقصودها

(كهيعص) عدها الكوفي وحده. (في الكتاب إبراهيم) عدها المدني الأخير والمكي، ولم يعدها الباقون. (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا) ، لم يعدها الكوفي، وعدها الباقوِن. وفيها مما يشبه الفواصل، وليس معدوداً بإجماع، أربعة مواضع: (الرأس شيبا) ، (وقري عينا) ، (للرحمن صوما) . (اهتدوا هدى) وعكسه موضع: (كن فيكون) . ورويها ستة أحرف: أدم يزن. مقصودها ومقصودها: بيان اتصافه سبحانه بشمول الرحمة بإضافة جميع النعم على جميع خلقه، المستلزم للدلالة على اتصافه بجميع صفات الكمال. المستلزم لشمول القدرة على إبداع المستغرب، المستلزم لتمام العلم، الموجب للقدرة على البعث، والتنزه عن الولد، لأنه لا يكون إلا لمحتاج، ولا يكون إلا مثل الوالد، ولا سمَِىَّ له سبحانه، فضلاً عن مثيل.

وعلى هذا دلت تسميتها بمريم، لأن قصتها أدل ما فيها على تمام القدرة، وشمول العلم، لأن أغرب ما في المخلوقات وأجمعه خلقاً الآدمي وأعجب أقسام توليده الأربعة: ما كان من أنثى بلا توسط ذكر، لأن ذلك أضعف الأقسام، وأغرب وجوه ذلك، أن يتولد منها - على ضعفها - أقوى النوع، وهو الذكر، ولا سيما وقد أوتي قوة في الخلق والخلق، كما دل عليه وصفه هنا بغلام، ولا سيما وقد أوتي قوة الكلام والعلم والكتاب، التي هي خواص الآدمي في حال الطفولية، ولا سيما إذا انضم إلى ذلك أن يخبر بسلامته الكاملة التي لا يشوبها نوع من عطب، فيكون الأمر كذلك، لم يقدر - ولا يقدر - أحد مع كثرة الأعداء، على أن يمسه بشيء من أذى، ثم حفظ في هذه المدد الطويلة، والدهور المديدة، في جميع جواهره وأعراضه. هذا إلى ما جمعته القصة من إخراج الرطب في غير حينه من يابس الحطب ومن إنباع الماء في غير موضعه، وعلى مثل ذلك أيضاً دلت تسميتها، بما في أولها من الحروف المقطعة. بيان ذلك: أن مخرج الكاف من أقصى اللسان، مما يلي الحلق ويحاذيه من أسفل الحنك، وهي أدق مخرج القاف قليلاً إلى مقدم الفم، ولها من الصفات الهمس، والشدة، والانفتاح، والاستفال. ومخرج الهاء من أقصى الحلق، لكنها أدق من الهمزة، إلى جهة اللسان قليلا، ولها من الصفات: الهمس، والرخاوة، والانفتاح، والاستفال والخفاء.

ومخرج الياء من وسط اللسان، ووسط الحنك الأعلى، ولها من الصفات: الجهر، والرخاوة، والانفتاح، والاستفال، وهو أغلب صفاتها. ومخرج العين، من وسط الحلق، ولها من الصفات: الجهر، وبين الشدة والرخاوة، والانفتاح والاستفال. ومخرج الصاد: من طرف رأس اللسان، وبين أصول الثَّنيتين السفليين وله من الصفات: الهمس، والرخاوة، والإطباق، والاستعلاء، والصفير. فالافتتاح بهذه الأحرف في هذه السورة، إشارة - والله أعلم - إلى أن أهل الله عامة، من ذكر منهم في هذه السورة وغيرهم، يكون أمرهم عند المخالفين - أولاً - كما تشير إليه الكاف ضعيفاً، مع شدة وانفتاح، كما كان حال النبي - صلى الله عليه وسلم - أول ما دعا إلى الله تعالى، فإنه اشتهر أمره، ولكنه كان ضعيفاً بإنكار قومه عليه، إلا أنهم لم يبالغوا في الإِنكار، ثم يصير الأمر في أوائل العراك - كما تشير إليه الهاء - إلا استفال، ثم يزداد بتمالؤه المستكبرين عليهم ضعفاً وخفاء، وإلى هذا تشير قراءتها بالإمالة، ولا بد مع ذلك من نوع ظهور، كما يشير إليه انفتاح الهاء، وعليه نبهت قراءة الفتح. وهكذا كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رح بسبّ آلهتهم وتسفيه أحلامهم، وتضليل آبائهم، فقاموا عليه الباً واحدا، فهاجر أكثر الصحابة رضوان الله عليهم إلى الحبشة، وخاف أبو طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - دهماء العرب، فقال قصيدته اللامية الطويلة في ذلك، يستعيذ فيها بحرم الله وببيته من

المبطلين، وتمادي الحال، حتى الجأتهم قريش إلى الشِّعْب، فانحاز فيه بنو هاشم. وانضم معهم بنو المطلب، وتكوّن في وسط أمرهم - كما تشير إليه الياء وقراءتها بالفتح - لهم قوة، مع رخاوة واشتهار واستفال، وهو الأغلب عليهم ظاهراً، كما تشير إليه قراءة الإمالة فيكون ذلهم من وراء عز، وعزهم من ساتر ذل، فتنة من العليم الخبير ليتميز المخلص من غيره، يعرف ذلك من عاناه، ونظر إليه بعين الحقيقة واجتلاه، وهذا كما كان عند قيام من قام من قريش في نقض الصحيفة الظالمة وإخراجهم من الشعب، ثم كان عند موت خديجة رضي الله عنها وأبي طالب وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - لما توالى عليه من المصائب إلى الطائف فردوه - بأبي هو وأمي ونفسي وولدي وعيني - على تلك الصورة التي يعرفها من طالع السيرة، فلما قرب من مكة المشرفة، لم يستطع دخولها بغير جوار فاختفى في غار حراء، وأرسل إلى من يجيره، ثم أرسل، ثم كرر الإرسال حتى أجاره المطعم بن عدي، فلبس السلاح هو ومن أطاعه من عشيرته وأدخله - صلى الله عليه وسلم -، حتى طاف بالبيت، ثم انصرف إلى منزله ثم قضى الله سبحانه - وهو الذي يفعل ما يشاء، لا يسأل عما يشاء، ولا راد لحكمه، ولا معقب لأمره - أن قتل المطعم هذا في بدر كافراً إلى النار وبئس القرار، بعد أن اجتهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في سلامته، والإيصاء به في أن لا يقتل، ليعلم أنه سبحانه مختار في عموم رحمته، التي أشارت إليها هذه السورة وخصوصها،

لئلا ييأس عاص، أو يأمن طائع، وليظهر سر قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله ليؤيد هذا الحديث بالرجل الفاجر". ثم إذا علا أمرهم عن الوسط صاعداً قوي، كما تشير إليه العين. فصار بين الشدة والرخاوة، وفيه انفتاح بشهرة، مع استفال في بعض الأمر. كما كان حاله مجيهئم عند مبايعة الأنصار رضوان الله عليهم. وأما آخر أمرهم: فهو - وإن كان فيه نوع من الضعف، وضرب من الرخاوة واللين، كما كان في غزوة حنين والطائف - فإنه يعقبه قوة عظيمة بالإطباق واستعلاء واشتهار يملأ الآفاق، كما يشير إليه الصفير. هذا في أهل الله عامة، المذكورين في هذه السورة، وغيرهم.

وامَّا مَا يخص عيسى عليه الذي هو صورة سورتها، ومطمح إشارتها. فجعل الحروف اللسانية من هذه الحروف، أغلبها ثلاثة أحرف منها، إشارة إلى أن إبراهيم عليه السلام بما أعطى في نفسه وفي ذريته ولسان الصدق المذكور به، إجابة لدعوته في قوله: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) ، وتحقيقاً لوعده في هذه السورة في قوله: (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) ، هو لسان هذا الوجود، وإلى أن دولة إله الذين عيسى عليه السلام من أعيانهم، هي وسط هذا الوجود حقيقة وخياراً. فموسى عليه السلام أول أصحاب شرائعهم بمنزلة القاف، التي هي من أقصى اللسان من أول مخارجه، وله حظ كبير منها، فإنه من أجله قتل أبناء بني إسرائيل، وولد في سنة القتل، وكان سبب هجرته وابتداء سيره إلى الله تعالى، قتله القبطي، وقرب نجيا، ومن صفاتها الجهر، والشدة - والانفتاح والاستعلاء والقلقلة، وهو - صلى الله عليه وسلم - عريق في كل من خيرات ذلك. وداود عليه السلام ثاني ذوي كتبهم، بمنزلة الهمزة التي هي أبعد من مخرج الهاء إحدى هذه الحروف، وهو أول من جمع من بني إسرائيل بين الملك والنبوة، وله حظ من وصفها بالاستفال في أول أمره، وفي آخره بما كان من بكائه ونواحه، قتواضعه وإخباته لربه وصلاحه.

فالكاف هنا إشارة إلى أن عيسى عليه السلام، هو ثاني الشارعين منهم في الوجود، و "الهاء"، عبارة عن أنه من عقب داود، عليهما السلام، كل منهما له حظ من صفات الحرف المشير إليه، الدَّال عليه. والصاد التي هي من طرف اللسان، وهي خاتمة هذه الحروف، إشارة - بما فيها من الإطباق، المشير إلى تطبيق الرسالة لجميع الوجود، ومن الاستعلاء المشير إلى نهاية العظمة، والصفير المشير إلى غاية الانتشار والشهرة - إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإلى مقرر دينه ومجدّده عيسى عليه السلام. ويشير الكاف - أيضاً - بما فيه من الصفات، إلى أن أول أمر عيسى عليه السلام يكون فيه مع الشدة ضعف. ثم تشير - أيضاً - الهاء التي هي من أقصى الحلق، إلى أن أمره يبطن بعد ذلك الظهور، ويخفي بارتفاعه إلى السماء، ويدل وصفها بالاستفال على أن السماء التي يكون بها قريبة إلى العالم السفلي، وهو كذلك، فإنه في الثانية، بدلالة رتبة الكاف والهاء في مخرجهما. وتشير الياء بجهرها إلى ظهور بنزوله، وتدل بكونها من وسط اللسان على تمكنه في أموره، وباعتلائها على شيء في ذلك، وهو ضعف الأتباع وحصرهم في ذلك الوقت، وتدل بانفتاحها ورخاوتها على ظهور على الدجال في أولئك القوم الذي جهدهم البلاء عند نزوله، ومسهم الضر قبل حلوله. وتليح غلبة الاستفال عليها إلى أمر يأجوج ومأجوج لما يوحيه إليه: "إني قد أخرجت عباداً لي، لا يدان لأحدهم، فجرّز عبادي إلى الطور". وتدل العين بكونها من وسط الحلق على انحصارهم، وبجهرها على أنه لا سبيل للعدو عليهم، ولا وصول بوجه إليهم، وبما فيها من البينية

والاستفال على جهدهم مع حسن العاقبة، وتبشر بما فيها من الانفتاح بحصول الفتح الذي ليس فوقه فتح. وتدل الصاد بمخرجها على القوة الزائدة، وبالهمس والرخاوة على أنها قوة لا بطش فيها، وبالإطباق والاستعلاء على عموم الدين جميع الناس. وبالصفير على أنه ليس وراء ذلك إلا النفخ في الصور، لعموم الهلاك لكل موجود مقطور ثم بعثرة القبور، وتحصيل ما في الصدور. وكل هذا من ترتيب سنته سبحانه في المصطفين من عباده على هذا النحو البديع، وترتيب هذه الحروف على النظم الدال عليه، دائر على القدرة التامة، والعلم الشامل، والحكمة الباهرة، رحمهم سبحانه بأن نكبهم طريق الجبارين التي أوصلتهم إلى القسوة، وجنبهم سنن المستكبرين التي تلجىء - ولا بد - إلى الشقوة، فجعل نصرهم في لوامع انكسار، وكسرهم في جوامع انتصار، وحماهم من فخامة دائمة تجر إلى بذ وعلو واستكبار ومن رقة ثابتة تحمل على ذل وسفول وصغار، فلقد انطبق الاسمان على المسمى واتضحا غاية الاتضاح في أمره وتما.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فقال أبو عبيد في الفضائل، حدثنا إسماعيل بن مجالد. عن هلال الوزان، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أنه قرأ سورة مريم عليها السلام حتى انتهى إلى السجدة (خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) ، فسجد بها. فلما رفع رأسه قال: هذه السجدة قد سجدناها، فأين البكاء؟.

رضي الله عنهما - وقد اختلف ناس في ورود النار - فأهوى بأصبعه إلى أذنيه وقال: صمَّتا إن لم أكن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الورود: الدخول، لا يبقى بر ولا فاجر، إلا دخلها، فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم عليه السلام، حتى إن للنار - أو قال: لجهنم - ضجيجاً من بردهم، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا. وروى الإِمام أحمد من حديث أم سلمة رضي الله عنها في قصة هجرتهم إلى الحبشة والنجاشي، وفيه: أنه دعا أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله وقال لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: هل معك مما جاء به - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - من شيء؟ قال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي فاقرأه عليّ، فقرأ عليه صدراً من "كهيعص"، قالت: فبكى والله النجاشي، حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته، حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم. ثم قال النجاشي: والله إن هذا والذي جاء به موسى عليه السلام ليخرج من مشكاة واحدة. وروى ابن المبارك، عن عباد المنقري، عن بكر المزني قال: لما

نزلت هذه الآية: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) ، ذهب ابن رواحة إلى بيته، فبكى فجاءت امرأته فبكت، وجاءت الخادم فبكت، وجاء أهل البيت فجعلوا يبكون، فلما انقضت عبرته قال: يا أهلاه ما يبكيكم؟ قالوا: لا ندري، ولكنا رأيناك بكيت فبكينا، قال: آية نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينبئني فيها ربي أني وارد النار، ولم ينبئني أني أصدر عنها.

سورة طه

سورة طه وتسمى: سورة موسى عليه السلام. مكية إجماعاً. عدد آياتها وآيها مائة وثلاثون وآيتان بصري، وأربع مدنيان ومكي، وخمس كوفي وأربعون شامي. اختلافها إحدى وعشرون آية: (طه) عدها الكوفي وحده. (نسبحك كثيراً) ، وكذا: (ونذكرك كثيراً) ، لم يعدهما البصري وعدهما الباقون.

(ومحبة مني) ، لم يعدها الكوفي والبصري، وعدها الباقون. (كي تقر عينها ولا تحزن) ، عدها الشامي، ولم يعدها الباقون. (وفتناك فتوناً) ، عدها البصري والشامي، ولم يعدها الباقون. (في أهل مدين) عدها الشامي، ولم يعدها الباقون. (واصطنعتك لنفسي) ، عدها الكوفي والشامي، ولم يعدها الباقون. (فأرسل معنا بني إسرائيل) ، عدها الشامي وحده. (ولقد أوحينا إلى موسى) ، عدها الشامي - أيضاً - وحده. (ما غشيهم) عدها الكوفي وحده. (غضبان أسفا) عدها المدني الأول والمكي، ولم يعدها الباقون. (وعداً حسنا) عدها المدني الأخير وحده. (ألقى السامري) لم يعدها المدني الأخير، وعدها الباقون. (وإله موسى) عدها المدني الأول والمكي، ولم يعدها الباقون. (فَنَسيَ) لم يعدها المدني الأول والمكي، وعدها الباقون.

ما يشبه الفاصلة فيها

(إليهم قولاً) عدها المدني الأخير وحده. (إذ رأيتهم ضلوا) عدها الكوفي وحده. (قاعا صفصفا) ، لم يعدها المدنيان والمكي، وعدها الباقون. (منى هدى) ، (زهرة الحياة الدنيا) لم يعدها الكوفي وحده. ما يشبه الفاصلة فيها وفيها مما يشبه الفواصل، وليس معدوداً بإجماع، اثنان وعشرون موضعاً: (فاعبدني) ، (بآياتي) ، (قولًا ليناً) ، (فيها سبلا) (وبينك موعدا) (على الله كذبا) ، (ثم ائتوا صفا) ، (سجدا) ، (والذي فطرنا) ، (ما أنت قاض) ، (عليكم غضبي) ، (بملكنا) ، (جسداً له خوار) ،

(ولا برأسي) ، (لا مساس) ، (منها جميعاً) ، (ضنكا) . (حشرتني أعمى) ، (لزاماً) ، (رزقا) (رسولا) . وعكسه خمسة: (فتردى) (يا موسى) ، (المقدس طوى) ، (من أهلي) ، (هارون أخي) ، (على عيني) . ورويها ستة عشر حرفاً: قدح، عوف، تاري، الخمسة. تعتبرتاء التأنيث هاء للوقف، وتاء للوصل. الهاء: (طه) فإن ألفها لبيان الحركة. الياء: (السامري) التاء: (أمتا) الواو: (سوى) ،

مقصودها

الحاء: (ضحى) ، فإن ألفها للتنوين. مقصودها ومقصودها: إعلام الداعي - صلى الله عليه وسلم - بإقبال المدعوين، والترفق إلى أن يكونوا أكثر الأمم زيادة في شرفه - صلى الله عليه وسلم -. وعلى هذا المقصد الشريف دل اسمها المشهور بطريق الرمز والإِشارة ليتبين أهل الفطنة والبصارة، وذلك كما في أولها من الحروف المقطعة لأنه لما كان ختام سورة مريم عليها السلام حاملًا على الخوف العظيم، من أن تهلك أمته - صلى الله عليه وسلم - قبل ظهور أمره الذي أمره الله به، وقبل اشتهار دعوته، لقلة من آمن منهم إذ ذاك، ابتدأه سبحانه بالطاء إشارة بمخرجها الذي هو من رأس اللسان وأصول الثنيتين العليين، إلى قوة أمره وانتشاره، وعلوه وكثرة أتباعه. لأن هذا المخرج أكثر المخارج حروفاً، وأشدها حركة، وأوسعها انتشاراً، وبما فيها من صفات الجهر والإطباق، والاستعلاء والقلقلة، إلى انقلاب ما هو فيه من الأسرار جهراً، وما هو فيه من الرقة فخامة، لأنها من حروف التفخيم، وأنه يستعلي أمره، وينشر ذكره، حتى يطبق جميع الوجود ويقلقل سائر الأمم. ولكن يكون ذلك مما تشير إليه الهاء، بمخرجها من أقصى الحلق، على حد بعده من طرف اللسان، مع طول كبير، وتماد كثير، بما فيها من صفات الهمس والرخاوة، والانفتاح، والاستفال، والخفاء، مع مخافته وضعف كبير، وهدوء وخفاء عظيم، ومقاساة شدائد كبار، مع نوع فخامة واشتهار وهو وإن

كان اشتهاراً يسيراً يغلب هذا الضعف كله وإن كان قوياً شديداً وقراءة الِإمالة للهاء تشير إلى شدة الضعف، وقراءة التفخيم - هي لأكثر القراء - مشيرة إلى فخامة القدر، وقوة الأمر، بما لها من الانفتاح، وإن رئي أنه ليس كذلك. "لقد أمر أمره: إنه ليخافه ملك بني الأصفر". وإن كان معنى الحرفين: يا رجل، فهو إشارة إلى قوته، وعلو قدره. وفخامة ذكره، وانتشار أتباعه، وعموم أمره. وإن كان إشارة إلى وطء الأرض فهو إلاحة إلى قوة التمكن، وعظيمِ القدرة، وبعد الصيت، حتى تصير الأرض كلها ملكًا له ولأتباعه، وملكًا لأمرائه وأشياعه، والله أعلم. وذكر ابن الفرات في تاريخه: أن هجرة الحبشة كانت في السنة الثامنة من المبعث.

فالظاهر - على ما يأتي في فضائلها من قصة إسلام عمر رضي الله عنه -: أن نزول هذه السورة، أولها، كان قريب هجرة الحبشة، فيكون سبحانه قد رمز له - صلى الله عليه وسلم - على ما هو ألذ في محادثة الأحباب، من صريح الخطاب، بعدد مسمى الطاء، إلى أن وهن الكفار الوهن الشديد، يقع في السنة التاسعة من نزولها، وذلك في غزوة بدر الموعد في سنة أربع من الهجرة، وبعدد اسمها إلى أن الفتح الأول يكون في السنة الحادية عشرة من نزولها، وذلك في عمرة الحديبية في ذي القعدة، سنة ست من الهجرة عند نزول سورة الفتح. ورمز له بعدد مسمى الهاء إلى أن مبدأ النصرة بالهجرة في السنة الخامسة من نزولها، وذلك في غزوة بدر الكبرى في السنة الثانية من الهجرة. وبعدد حرفي اسمها - لا بعدد اسميهما - إلى أنه في السنة الثالثة عشرة من نزولها، يكون الفتح الأكبر بالاستعلاء على مكة المشرفة، الذي كان سبباً قريباً للاستعلاء على جميع الأرض، وذلك في أواخرها في شهر رمضان سنة ثمان من الهجرة، وكان تمامه بفتح الطائف، بإرسال وفدهم وإسلامهم وهدم طاغيتهم في سنة تسع، وهي السنة الرابعة عشرة. وبعدد اسميهما: إلى أن تطبيق أكثر الأرض بالإِسلام، يكون في السنة الثامنة عشرة من نزولها، وذلك بخلافة عمر رضي الله عنه، وهو الوزير المطلوب بإشارتها التي كانت سبب إسلامه، وكانت خلافته في السنة الثالثة عشرة من الهجرة.

وكذا دل مقصودها بإضافتها إلى موسى عليه السلام، بتأصل قصته وما كان فيها من قدرة الله وحكمته. والله الموفق.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى أبو عبيد في الفضائل، عن شهر بن حوشب رحمه الله قال: يرفع القرآن عن أهل الجنة، إلا طه ويس. ولابن ماجة، والطبراني في الأوسط في ترجمة موسى بن سهل أبي عمران الجوني، والحاكم، والمخلّص في التاسع من فوائده، عن أبي أمامة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، في سور ثلاث: في البقرة، وآل عمران، وطه. قال القاسم: فالتمستها، أنه: (الحي القيوم) .

قال ابن رجب: قال هشام بن عمار: (هو الحي القيوم) . وللطبراني في الأوسط - أيضاً - والدارمي في المسند، والبيهقي في الأسماء والصفات، وابن خزيمة في كتاب التوحيد، عن أبي هريرة رضي الله عنهْ فال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إِنَ الله قرأ طه وشى، قبل أن يخلق آدم عليه السلام - في رواية الدامي: قبل أن يخلق السماوات والأرض - بألف عام، فلما سمعت الملائكة القرآن، قالت: طوبي لأمة ينزل هذا عليها، وطوبي لأجواف تحمل هذا، وطوبي لألسن تتكلم بهذا. قال شيخنا حافظ العصر ابن حجر: وقد زعم ابن حيان: أنه موضوع وتبعه ابن الجوزي. وقال الهيثمي: في سند الطبراني إبراهيم بن مهاجر بن مسمار ضعفه البخاري بهذا الحديث، ووثقه ابن معين.

وقال الحافظ عماد الدين بن كثير: هذا غريب، وفيه نكارة، وإبراهيم ابن مهاجر وشيخه تكلم فيهما. ولأبي يعلى، عن معقل بن يسار، رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اعملوا بالقرآن، أحلوا حلاله، وحرموا حرامه، واقتدوا به ولا تكفروا بشيء منه، ما تشابه عليكم منه فردوه إلى الله، وإلى أولى العلم من بعدي كما يخبروكم، وآمنوا بالتوراة والإنجيل والزبور، وما أوتي النبيون من ربهم، وليسعكم القرآن، وما فيه من البيان، فإنه شافع مشفع، وماحل مصدق، وإني أعطيت سورة البقرة من الذكر الأولى، وأعطيت طه، والطواسين والحواميم، من ألواح موسى، وأعطيت فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش، وأعطيت المفصل نافلة. وسيعاد هذا الحديث في الشعراء. وأخرج الحاكم منه من قوله: وأعطيت طه، إلى آخره. قال ابن رجب في كتابه الاستغناء بالقرآن، وقال: صحيح الإسناد. وليس كما قال، عبد الله بن أبي حميد ضعيف جداً.

ورواه من طريق أخرى، أولها: أعطيت البقرة من الذكر الأول. وأعطيت طه، إلى آخره. قال: وأخرجه هشام بن عمار في كتاب "المبعث" له، ولفظه: أعطيت مكان التوراة السبع الطول، وأعطيت مكان الإنجيل المئين، وأعطيت مكان الزبور المثاني، وأعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم البقرة تحت العرش لم يعطها نبي قبلي، وأعطاني ربي المفصل نافلة. وروى أبو عبيد في الفضائل عن ابن عوف قال: حدثني رجل من أهل الكوفة أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صلى ليلة، قال: فذكروا ذاك فقال بعضهم: هذا مقام صاحبكم منذ الليلة يردد آية، حتى أصبح قال ابن عوف: بلغني أن الآية (رب زدني علماً) . وروى الطبراني في الكبير بسند - قال الهيثمي: فيه يحيى بن سعيد العطار، وهو ضعيف - عن جرير رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) قال: قبل طلوع الشمس: صلاة الصبح، وقبل غروبها: صلاة العصر.

وللطبراني في الأوسط بسند - قال الهيثمي: رجاله ثقات - عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل بأهله الضيف، أمرهم بالصلاة، ثم قرأ: وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها، الآية. ومن أعظم فضائلها: أن قراءة أولها كان سبباً لإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو الفاروق، الذي كان إسلامه فتحاً أيَّد الله به هذا الدين ففرق به بين الحق والباطل، فعزّ به المسلمون، فرغب في الِإسلام بسبب ذلك من وفقه الله له، وذلك هو عين مقصودها. روى عبد بن حميد في مسنده، والبيهقي في دلائل النبوة، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللَهُمَّ أعزَّ الدين - وقال البيهقي: الإِسلام - بأحب هذين الرجلين إليك: أبو جهل ابن هشام، أو عمر بن الخطاب - وقال عبد: بعمر بن الخطاب، أو بأبي جهل بن هشام - قال: فكان - يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه - أحبهما إلى الله تعالى.

وقال عبد: فكان أحبهما إليه عمر رضي الله عنه. وروى البيهقي - أيضاً - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرج عمر رضي الله عنه متقلداً السيف، فلقيه رجل من بني زهرة، فقال له: أين تعمد يا عمر؟. قال: أريد أن أقتل محمداً، قال: وكيف تأمن في بني هاشم وبني زهرة، وقد قتلت محمداً؟. قال: فقال له عمر: ما أراك إلا قد صبوت وتركت دينك الذي أنت عليه؟. قال: أفلا أدلك على العجب؟. إن ختنك وأختك قد صبوا وتركا دينك الذي أنت عليه. قال: فمشى عمر زامراً - يعني غضبان - حتى أتاهما، وعندهما رجل من المهاجرين يقال له: خباب، فلما سمع خباب رضي الله عنه بحس عمر توارى في البيت، فدخل عليهما فقال: ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم؟. قال: وكانوا يقرأون "طه"، فقالا: كان حديثاً تحدثناه بيننا. قال: فلعلكما قد صبوتما؟. فقال له ختنه: يا عمر إن كان الحق في غير دينك. قال: فوثب عمر على ختنه - وفي رواية: زوج أخته - سعيد بن زيد ابن

عمرو بن نفيل، فوطئه وطئاً شديداً. قال فجاءت أخته لتدفعه عن زوجها، فنفحها نفحة بيده، فدمى وجهها فقالت - وهي غضبانة -: وإن كان الحق في غير دينك، إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. فقال عمر: أعطوني الكتاب الذي هو عندكم فأقرأه. قال: وكان عمر يقرأ الكتاب، فقالت له أخته: إنك رجس، وإنه لا يمسه إلا المطهرون، فقم فاغتسل، أو توضأ. قال: فقام عمر فتوضأ، وأخذ الكتاب، فقرأ طه، حتى انتهى إلى: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) . قال: فقال عمر: دلوني على محمد، فلما سمع خباب قول عمر رضي الله عنهما، خرج من البيت وقال: أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لك ليلة الخميس: "اللهم أعز الإِسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام ". وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدار التي في أصل الصفا. قال: فانطلق عمر، حتى أتى للدار، وعلى باب الدار حمزة وطلحة رضي الله عنهما، وناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى حمزة، وجل القوم من عمر، فقال حمزة عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا عمر، إن يرد اللهُ

بعمر خيراً يسلم، فيتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن يرد غير ذلك، يكن قتله علينا هيناً. قال: والنبي - صلى الله عليه وسلم - داخل يوحى إليه، قال: فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى عمر رضي الله عنه، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف، فقال ما أنت بمنته يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزى والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة؟. فهذا عمر بن الخطاب، اللهم أعز الِإسلام - أو الدين - بعمر بن الخطاب. فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله، وإنك عبد الله ورسوله. وأسلم وقال: أخرج يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد رواه محمد بن إسحاق بن يسار في المغازي، وقال في الحديث: فقرأ طه، حتى إذا بلغ: (إن الساعة آتية أكاد أخفيها لنجزي كل نفس بما تسعى - إلى قوله -: فتردى) وقرأ: (إذا الشمس كورت - حتى بلغ -: علمت نفس ما أحضرت) ، فأسلم عند ذلك. وروى البيهقي من طريق ابن إسحاق عن عبد العزيز بن عبد اللُه بن عامر ابن ربيعة، عن أمه ليلى رضي الله عنها قالت: كان عمر بن

الخطاب من أشد الناس علينا في إسلامنا، فلما تهيأنا للخروج إلى أرض الحبشة جاءني عمر بن الخطاب وأنا على بعيري نريد أن نتوجه، فقال: أين أم عبد الله؟. فقلت له: آذيتمونا في ديننا فنذهب إلى أرض الله حيث لا نؤذي في عبادة الله، فقال: صحبكم الله، ثم ذهب، فجاء زوجي عامر ابن ربيعة رضي الله عنه، فأخبرته بما رأيت من رقة عمر. فقال: ترجين يسلم؟. فقلت: نعم. قال: فوالله لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب وهذا من شدته على المسلمين، ثم رزقه الله تعالى الِإسلام. قال ابن إسحاق: والمسلمون يومئذ بضع وأربعون رجلاً، وإحدى عشرة امرأة. وروى هذا الحديث ابن هشام في تهذيب السيرة من طريق ابن إسحاق وزاد فيه: أنه اغتسل، كما أمرته أخته. وفيه: أنه لما قرأ الآيات من صدر طه قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه، فلما سمع ذلك خباب رضي الله عنه خرج إليه. وفيه أشياء حسنة، وقد سقته مستوفى في "نظم الدرر" مع أشياء حسنة. وفيه: أنه أراد أن يعلم بإسلامه جميع قريش، فأتى أنقلهم للحديث

جميل بن معمرة فأخبره، فصرخ بأعلى صوته: أن ابن الخطاب صبأ؟ فقال عمر: كذب، ولكني أسلمت، فثاروا إليه، فما برح يقاتلهم حتى قامت الشمس على رؤوسهم وأعيا فقعد، وقال: أما والله لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم، أو تركتموها لنا. وروى البخاري، والبيهقي في الدلائل وهذا لفظه، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إني لعلي سطح، فرأيت الناس مجتمعين على رجل وهم يقولون: صبأ عمر، صبأ عمر، فجاء العاص بن وائل، عليه قباء ديباج فقال: إن كان عمر قد صبأ فمه أنا له جار، قال: فتفرق الناس عنه فتعجبت من عزه. وروى أبو عبيد القاسم بن سلام الجمحي في كتابي، فضائل القرآن. وغريب الحديث عن يحيى بن أبي كثير مرسلاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر هو وأصحابه على إبل لحي يقال لهم: بنو الملوح، أو بنو المصطلق، وقد عبست أبوالها من السمن، فتقنع بثوبه، ثم قرأ هذه الآية - وفي رواية: قول الله تعالى -: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) إلى آخر الآية. قال: ومعنى "عبست": أن تجف أبوالها وأبعارها على أفخاذها وذلك إنما يكون من كثرة الشحم، فذلك العبس.

سورة الأنبياء

سورة الأنبياء عليهم السلام مكية إجماعاً. عدد آياتها وما يشبه الفاصلة فيها وآياتها مائة واثنتا عشرة في الكوفى، وإحدى عشرة في الباقين. اختلافها آية، (ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم) ، عدها الكوفي وحده. وفيها مما يشبه الفاصلة ولم يعد بإجماع: أربعة مواضع: (أكثرهم لا يعلمون) ، (ولا يشفعون) ، (لكم ولما تعبدون) (إنكم وما تعبدون) .

مقصودها

وعكسه ثلاثة: (له إبراهيم) (يا إبراهيم) ، (على إبراهيم) . ورويها: من. مقصودها ومقصودها: الاستدلال على تحقق الساعة وقربها، ولو بالموت، ووقوع الحساب فيها، على الجليل والحقير، لأن موجودها لا شريك له يعوقه عنها. وهو من لا يبدل القول لديه. والدال على ذلك أوضح دلالة: مجموع قصص جماعة ممن ذكر فيها من الأنبياء عليهم السلام، ولا تستقل قصة منها استقلالا ظاهراً لجميع ذلك. كما بينته في أصل هذا الكتاب "نظم الدرر"، ولا تخلو قصة من قصصهم عن دلالة على شيء من ذلك، فنسبت إلى الكل.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى أبو نعيم عن عبد الرحمن بن زيد، بن أسلم. عن أبيه عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه، أنه نزل به رجل من

العرب، فأكرم مثواه وكلم فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاءه الرجل فقال: إني استقطعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَادِياً، وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك. قال عامر: لا حاجة لي في قطيعتك، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) . وروى الترمذي - واللفظ له -، والنَّسائي، وابن السنى، والإمام أحمد - قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح، غير إبراهيم بن محمد ابن سعد، بن أبي وقاص، وهو ثقة -، والحاكم وقال: صحيح الِإسناد، عن سعيد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت، (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب اللهُ له. ولفظ الحاكم: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: هل أدلكم على اسم الله الأعظم، الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعى به أجاب الدعوة التي دعا بها يونس عليه السلام، حيث نادى في الظلمات الثلاث: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)

فقال رجل: يا رسول الله هل كانت ليونس عليه السلام خاصة، أم للمؤمنين عامة؟. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا تسمع إلى قول الله عز وجل: (وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) . ولفظ ابن السنى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إِلا فرج عنه، كلمة أخي يونس عليه السلام: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) . وعند الإمام أحمد في أوله قصة بين سعد وعثمان رضي الله عنهما.

سورة الحج

سورة الحج مكية. قال أبو عمرو الداني: إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة في الذين تبارزوا يوم بدر، وهم ثلاثة مؤمنون: علي، وحمزة، وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم، وثلاثة كافرون: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة وهي قوله تعالى: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ- إلى قوله -: وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) .

هذا قول ابن عباس رضي الله عنهما، وعطاء بن يسار، إلا أن ابن عباس رضي الله عنهما لم يذكر إلى أين ينتهين، وذكره عطاء. وقيل عن ابن عباس: هي أربع آيات، ينتهين إلى قوله (الحريق) وقال الجعبري: (قال) ابن عباس: مكية إلا أربعاً، وعطاء: إِلًا سِتاً. واتفقا على أنهن من (هذان خصمان) ، إلى: (الحميد) ، فكأنَّ عطاء عد (الحميم) و (الجلود) ، ولم يعدهما ابن عباس. وقال قتادة: الحج مدنية، إلا أربع آيات منها نزلت بمكة، وهن:

(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى - إلى قوله -: عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) . وعزاه الأصفهاني إلى ابن عباس رضي الله عنهما. قال الجعبري: ويجمع بينهما بالأصالة والتبع. قلت: ويقدح في هذا الجمع الاستثناء في كل قول، ومن أغرب الأشياء: أن البغوي قال: مكية، إلا عشر آيات من قوله: (هذان خصمان - إلى قوله -: (وهُدُوا إلى صراط الحميد) . وقال الأصفهاني: وقال أبو سليمان الدمشقي: أولها مدني، إلى قوله: (وبشر المحسنين) ، وسائرها مكي. وقال هبة الله بن سلامة: هي من أعاجيب سور القرآن، لأن فيها مكيا ومدنيا، وحضرياً وسفرياً، وحربياً وسِلْمِيَّاً، وليلياً ونهارياً، وناسخاً ومنسوخاً. فأما المكي: فمن رأس الثلاثين إلى آخرها، وأما المدني: فمن رأس

عدد آياتها وما يشبه الفاصلة منها

خمس وعشرين، إلى رأس ثلاثين منها، وأما الليلي: فمن أولها، إلى رأس خمس آيات، وأما النهاري: فمن رأس خمس، إلى رأس تسع، وأما السفري: فمن رأس تسع، إلى اثنتي عشرة، وأما الحضري: فإلى رأس العشرين. عدد آياتها وما يشبه الفاصلة منها وآيها أربع وسبعون في الشامي، وخمس في البصري، وست في المدنيين وسبع في المكي، وثمان في الكوفي. اختلافها خمس آيات: (من فوق رؤوسهم الحميم) ، (والجلود) ، عدها الكوفي وحده. (وعاد وثمود) ، لم يعدها الشامي. (وقوم لوط) ، لم يعدها البصري والشامي، وعدها الباقون. (هو سماكم المسلمين) ، عدها المكي، ولم يعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفواصل، وليس معدوداً بإجماع، أربعة مواضع: (ثياب من نار) ، (والباد) ، (فأمليت للكافرين) (معاجزين)

مقصودها

وعكسه ثلاثة: (ما يشاء) ، (من حديد) ، (تقوى القلوب) . ورويها: أنظم، زبرجد، قط.. الهمزة: (يشاء) . مقصودها ومقصودها: الحث على التقوى، المعلية عن دركة الاستحقاق الحكيم بالعدل، إلى درجة استئهال الإنعام بالفضل، في يوم الجمع، لطيف التذكير به.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى عبد بن حميد في مسنده، والبزار - قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح، غير هلال بن خبَّاب وهو ثقة - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: نزلت: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في مسير له، فرفع بها صوته، حتى دأب إليه أصحابه، فقال: أتدرون أي يوم هذا؟. (قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذلك) يوم يقول الله عز وجل لآدم عليه السلام: يا آدم، قم فابعث بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحد في الجنة، فكبُرَ ذلك على المسلمين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سددوا وقاربوا، وأبشروا، فوالذي نفسي بيده، ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير، أو كالرقمة في ذراع الدابة، وإن معكم لخليقتين ما كانا

مع شيء قط إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج، ومن هلك من كفرة الإنس والجن. وقال ابن رجب: وروى الجورجاني في كتاب "النواحين" عن النضر ابن عربي، عمن حدثه، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، إذ قال:

يا بلال أنصت الناس، فأوحى إِليه، فتلا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا) إلى آخر الآية. قال: فخر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى وقعت أعِنَّة الخيل على أعناقها من أيديهم. وروى أبو عبيد عن خالد بن معدان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فضلت سورة الحج على غيرها بسجدتين. وروى أبو عبيد، وأبو داود، والترمذي، وقال: ليس إسناده بالقوي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه قال: قلت: يا رسول الله، أفي الحج سجدتان؟. قال: نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما.

وقال أبو عبيد: فلا يقرأها. وهذا الحديث إنما ضعفوه بابْنِ لهيعة، ومشرح بن هاعان، وليس ضعفهما فاحشاً، بل هما ممن يحسن لهما، فقد أثنى على كل منهما غير واحد. وقال شيخنا في تقريبه - وهو لا يذكر إلا زبدة الأقوال - قال في ابن لهيعة: صدوق، وفي مشرح مقبول، وبين في خطبة كتابه: أن من يقول فيه ذلك لا يطلق عليه ضعيف، فحديثهما حسن، وأقل ما فيه أنه مقوٍّ لحديث عمرو بحيث يصير صحيحاً لغيره، أو قريباً من ذلك جداً. ولأبي داود، وابن ماجة، والحاكم - قال النووي في شرح المهذب: بإسناد حسن - عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: أقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس عشر سجدِة في القرآن، منها ثلاثة في المفصل وفي سورة الحج سجدتان.

وروى عبد الرزاق في جامعه، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، أن عمراً وابن عمر، رضي الله عنهما، كانا يسجدان في الحج سجدتين. قال: وقال عمر رضي الله عنه: فضلت بسجدتين. وروى عبد الرزاق - أيضاً - عن الثوري، وأبو عبيد بن مروان بن معاوية كلاهما عن عاصم بن سليمان، عن أبي العالية، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فضلت سورة الحج بسجدتين.

وروى أبو عبيد في الفضائل، فقال: حدثنا هشيم، أنا منصور. عن ابن سيرين، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه سجد في الحج سجدتين وقال: إن هذه السورة فضلت على السور بسجدتين. ولأبي عبيد عن الزهري قال: أول آية نزلت في القتال: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) ، ثم ذكر القتال في آي كثيرة. انتهى. ومثله لا يقال من قبل الرأي.

سورة المؤمنون

سورة المؤمنون مكية إجماعاً. عدد آياتها وما يشبه الفاصلة منها وآيها مائة وثماني عشرة في الكوفي، وتسع عشرة عند الباقين. اختلافها آية. (وأخاه هارون) ، لم يعدها الكوفي، وعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفواصل ولم يعد بإجماع، ثلاثة مواضع: (مما تكلون، (وفار التنور) (عذاب شديد) . رويها: نم.

مقصودها

مقصودها مقصودها: اختصاص المؤمنين بالفلاح. واسمها واضح الدلالة على ذلك.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: (فروى) عبد الرزاق في جامعه، والِإمام أحمد من طريقه وعبد بن حميد في مسنده، والترمذي عن عبد، عن عبد الرزاق. والنسائي في الصلاة والتفسير، والبيهقي في كتاب الدعوات، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال: كان إذا نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوحي يسمع عنده وجهه كدوي النحل، فنزل عليه يوماً، فمكثنا - وفي رواية: فسكتنا - ساعة، فسرى عنه، فاستقبل القبلة ورفع يديه فقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرض عنا وأرضنا، ثم قال: لقد أنزل عليَّ عشر آيات، من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) حتى ختم عشر آيات) .

ولابن السني عن محمد بن إبراهيم، عن أبيه هو إبراهيم بن الحارث ابن خالد التيمي، رضي الله عنه قال: وجهنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية، فأمرنا أن نقرأ إذا أمسينا وأصبحنا: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا) ، فغنمنا وسلمنا. ولابن السني - أيضاً -، وأبي عبيد في الفضاثل، وابن أي حاتم في تفسيره، وأبي يعلى الموصلي في الجزء الرابع والعشرين من مسنده والبغوي في تفسيره، والبيهقي في الدعوات، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه قرأ في أذن مبتلى فأفاق، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما قرأت في أذنه؟. قال: قرأت: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا) حتى فرغ من آخر السورة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو أن رجلاً موقناً قرأ بها على جبل لزال.

وروى أبو نعيم في الحلية، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، هو ابن خالد التيمي القرشي، عن أبيه رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية، وأمرنا أن نقول إذا أمشينا وأصبحنا: "أفحسبتم" الآية، وقَرأْنَاهَا فغنمنا وسلمنا. وروى مسلم، وأبو داود، والنَّسائي، من حديث عبد الله ابن السائب رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ بعض سورة المؤمنين، فلما انتهى إلى ذكر موسى وهارون، قطع وركع. وعلقه البخاري. وفي رواية: صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح بمكة فاستفتح سورة

المؤمنين، حتى جاء ذكر موسى وهارون - أو ذكر عيسى - شك الراوي - أخذته سعلة فركع. ورواه عبد الرزاق في جامعه، عن عبد الله بن السائب رضي الله عنه قال: صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - الصبح بمكة، فاستفتح بسورة المؤمنين، حتى إذا جاء موسى وهارون - أو ذكر عيسى، ابن عباد يشك أو اختلفوا عليه - أخذت النبي - صلى الله عليه وسلم - سعلة، فحذف فركع. وروى مسلم والترمذي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) . وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)

ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب. ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام. وغذي بالحرام، فَأنى يستجاب لذلك.

سورة النور

سورة النور مدنية كلها إجماعاً. عدد آياتها وما يشبه الفاصلة فيها وآيها ستون وآيتان في المدنيين والمكي، وأربع في عدد الباقين. اختلافها آيتان: (بالغدو والآصال) ، (يذهب بالأبصار) ، لم يعدهما المدنيان والمكي. وعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفواصل، وليس معدوداً بإجماع: موضعان: (لهم عذاب أليم) ، بعده في الدنيا والآخرة.

مقصودها

(تمسسه نار) . وعكسه: (إن كتم مؤمنين) . ورويها: لم نرب. فالباء: "حساب"، الحساب " مقصودها ومقصودها: مدلول اسمها المودع قلبها، المراد منه: أنه تعالى شامل العلم، اللازم منه تمام القدرة، اللازم منه إثبات الأمور على غاية الحكمة اللازم منه تأكيد الشرف للنبي - صلى الله عليه وسلم -، اللازم منه شرف من اختاره سبحانه لصحبته، على منازل قربهم منه، واختصاصهم به، اللازم منه غاية النزاهة والشرف والطهارة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، التي مات - صلى الله عليه وسلم - وهو عنها راض، ثم ماتت هي رضي الله عنها صالحة محسنة، وهذا هو المقصود بالذات، ولكن إثباته محتاج إلى تلك المقدمات.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها - وذكرت الإفك - قالت: جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكشف عن وجهه، وقال: أعوذ بالله السميع العليم، من الشيطان الرجيم، (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) الآية.

وروى الِإمام أبو جعفر بن جرير عن شقيق، وأبو عبيد عن أبي وائل قال كل منهما: استعمل علي بن أبي طالب ابن عباس - رضي الله عنهم - على الحج، قال: فخطب الناس خطبة لو سمعها الترك والروم لأسلموا، ثم قرأ سورة النور، فجعل يفسرها. وفي رواية: شهدت ابن عباس رضي الله عنهما، وولى الموسم، فقرأ سورة النور على المنبر ثم فسرها، لو سمعته الروم لأسلمت. ولابن جرير عن أبي وائل قال: ولى ابن عباس رضي الله عنهما الموسم فخطبهم فقرأ على المنبر سورة النور، والله لو سمعتها الترك لأسلموا. وله عن شقيق بن سلمة - أيضاً - قال: قرأ ابن عباس رضي الله عنهما سورة البقرة، فجعل يفسرها، فقال رجل: لو سمعت هذا الديلم لأسلمت وقال بعض العلماء في آيات الإفك: إنها أرجى ما في القرآن، لأن الله عظم شأن الإفك، وتوعد عليه غاية الوعيد، وجعله منافيا للإيمان، ثم أمر

بالعطف على بعض من وقع فيه، ووصفهم بالقرابة والسكنة والهجرة، وندب إلى الإنفاق والعفو عنهم والصفح. وروى عبد بن حميد عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أتى أحدكم باب حجرته فليسلم، فإنه يرجع قرينه الذي معه من الشيطان، فإذا دخلتم حجركم فسلموا يخرج ساكنها من الشياطين، فإذا رحلتم فسلموا على أول حلس تضعونه على دوابكم، لا يشرككم في مركبها الشيطان، فإن أنتم لم تفعلوا شرككم، وإذا أكلتم فسموا حتى لا يشرككم في طعامكم، ولا تبيتوا القمامة معكم في حجركم فإنها مقعدة. وروى أبو عبيد عن أبي عطية قال: كتب إلينا عمر رضي الله عنه: أن علموا نساءكم سورة النور. وعن الحاكم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا تنزلوهن الغرف، ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن الغزل، وسورة النور، يعني النساء.

وروى البزار - قال الهيثمي: ورجاله ثقات - عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر رضي الله عنه، لو رأيت مع أم رومان رجلاً ما كنت فاعلاً به؟. قال: كنت والله فاعلاً به شراً. قال: فأنت يا عمر؟. قال: كنت والله قاتله، كنت أقول: لعن الله الأعجز، فإنه خبيث. قال: نزلت: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) . وللطبراني في الأوسط - قال الهيثمي: ورجاله ثقات - عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم، وآوتهم الأنصار رضي الله عنهم، رمتهم العرب عن قوس واحدة فنزلت

(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) .

سورة الفرقان

سورة الفرقان مكية إجماعاً. وقال أبو حيان: وقال ابن عباس وقتادة: إلا ثلاث آيات نزلن في المدينه، وهي: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ - إلى قوله: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) . وتقدمه إلى نقل ذلك ابن الجوزي، وهو مروى عن ابن عباس في الطبراني الأوسط، في ترجمة محمد بن عبد الله الحضري قال: قرأناها على

مقصودها

عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنين: ((وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ - الآية: ثم نزلت: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ، فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرح فرحاً قط أشد منه بها، وبـ (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) . ومعلوم: أن ابن عباس ما هاجر إلا مع أبيه قبل الفتح بقليل. مقصودها ومقصودها: إظهار شرف الداعي - صلى الله عليه وسلم - بإنذار المكلفين عامة بما له سبحانه من القدرة الشاملة، المستلزم للعلم التام، المدلول عليه بهذا القرآن المبين، المستلزم لأنه لا موجود على الحقيقة سوى من أنزله فهو الحق، وما سواه باطل. وتسميتها بالفرقان، واضح الدلالة على ذلك، فإن الكتاب ما نزل إلا للتفرقة بين الملتبسات، وتمييز الحق من الباطل، ليهلك من هلك عن بينة. ويحيى من حي عن بينة، فلا يكون لأحد على الله حجة، ولله الحجة البالغة. لكن في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يرده، فإنه لما

قال: إن القاتل لا توبة له، احتج عليه بهذه الآية، فقال: هذه مكية في المشركين، والنساء مدنية.

عدد آياتها وفواصلها

عدد آياتها وفواصلها وآيها سبع وسبعون آية من غير اختلاف. وفيها مما يشبه الفواصل، ولم يعدّ بإجماع، تسعة مواضع: (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) ، (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) ، (قَوْمٌ آخَرُونَ) ، (أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) . (وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) ، (مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ) ، (صَرْفًا وَلَا نَصْرًا) (فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا) ، (عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) . وعكسه موضعان: (ضَلُّوا السَّبِيلَ) ، (ظُلْمًا وَزُورًا) . ورويها: برّنمل.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى الجماعة: مالك، والشيخان، والأربعة، وابن جرير في مقدمة التفسير، وأبو عبيد في كتاب الفضائل، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنهما يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاختلفت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية أبي عبيد: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرأنيها فكدت أساوره في الصلاة، فتربصت حتى سلم، فلببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرؤها؟. قال: أقرأنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: كذبت، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أقْرَأنِيهَا على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقلت: يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرسله، أقرأ يا هشام فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هكذا أنزلت، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اقرأ يا عمر، فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هكذا أنزلت، آه هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرأوا ما تيسر منه.

قال أبو عبيد في رواية: قال ابن شهاب في الأحرف السبعة: هي في الأمر الواحد الذي لا اختلاف فيه. فيا له من حديث ما أشرفه وأجله، وأرفع قدره ومحله، فرق به الفاروق في سورة الفرقان بين الحق والباطل. وقد تقدم في سورة النحل ما مضى في الفضائل العامة كثير مما ينضم إلى هذا الحديث. وروى ابن جرير عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمع عمر ابن الخطاب رضي الله عنه رجلًا يقرأ القرآن، فسمع آية على غير ما سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتى به عمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن هذا قرأ آية كذا وكذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنزل القرآن على سبعة أحرف، كلها كاف شاف. وروى الإمام أحمد، وابن جرير، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي

طلحة عن أبيه، عن جده أبي طلحة قال: قرأ رجل عند عمر رضي الله عنه فغير عليه فقال: لقد قرأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يغير عليَّ، قال: فاجتمعا عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقرأ الرجل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: أحسنت. قال: فكان عمر رضي الله عنه وجد في نفسه من ذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا عمر إن هذا القرآن كله صواب ما لم تجعل مغفرة عذاباً، أو عذاباً مغفرة. قال الهيثمي: ورجاله ثقات. ولفظ ابن جرير: فاختصما عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ألم تقرئني آية كذا وكذا؟. قال: بلى، فوقع في صدر عمر شيء عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في وجهه. قال: فضرب صدره وقال: أبعد شيطان، قالها ثلاثاً، ثم قال: يا عمر إن القرآن كله صواب، ما لم تجعل آية رحمة عذاباً، أو عذاباً رحمة. قال أبو عبيد: فقد تواترت هذه الأحاديث كلها على الأحرف السبعة إلا حديثاً واحداً يروي عن سمرة بن جندب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أنزل القرآن على ثلاثة أحرف. قال: ولا نرى المحفوظ إلا السبعة، لأنها المشهورة، انتهى.

وقد تقدم في الفضائل العامة تأويل الحديث المذكور بما لا يخالف أحاديث السبعة. قال ابن رجب: وروى ابن أبي الدنيا عن ابن أبي ذؤيب قال: حدثني من شهد عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة، وقرأ عنده: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا) فبكى عمر حتى غلبه البكاء. وعلا نشيجه، فقام من مجلسه، ودخل بيته، وتفرق الناس.

سورة الشعراء

سورة الشعراء وتسمى: الظلة. مكية: قال الجعبري، قال عبد الكريم: كلها. فقوله تعالى: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ) إلى آخرها. في كافرين تهاجياً، واتبع كلا فريق. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إلا أربع آيات نزلت بالمدينة: (وَالشُّعَرَاءُ) إلى آخرها، في شعراء النبي - صلى الله عليه وسلم -: زيد وكعب، وابن رواحة. والظاهر: أن الثلاث في الكافرين. والأخيرة في المسلمين.

عدد آياتا وما يشبه الفاصلة فيها

وقال أبو عمرو الداني: نزلن - أي الأربع الآيات - بالمدينة، في حسان ابن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، شعراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورضي الله عنهم. وهذا الذي قاله أبو عمرو هو الظاهر، وأما زيد فلا أدري من هو. عدد آياتا وما يشبه الفاصلة فيها وآيها مائتان وست وعشرون في المدني الأخير. والمكي، والبصري وسبع وعشرون في المدني الأول والكوفي والشامي. اختلافها أربع آيات. (طسم) عدها الكوفي وحده. (فلسوف تعلمون) ، لم يعدها الكوفي، وعدها الباقون. (أينما كنتم تعبدون) ، بعده: "من دون "، لم يعدها البصري وعدها الباقون. (ما تنزلت به الشياطين) لم يعدها المدني الأخير والمكي، وعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفواصل، وليس معدوداً بإجماع، موضع واحد:

مقصودها

(فينا وليداً) . وعكسه موضعان: (معنا بني إسرائيل) ، (من عمرك سنين) ورويها: ملن. اللام: أر بع (إسرائيل) . مقصودها ومقصودها: أن هذا الكتاب بين في نفسه بإعجازه أنه من عند الله. مبين لكل ملتبس. ومن ذلك: بيان آخر التي قبلها، بتفصيله وتنزيله على أحوال الأمم وتمثيله، وتسكين أسفه - صلى الله عليه وسلم - خوفاً من أن يعم أمته الهوان بعدم الإيمان، وأن يشتد قصدهم لأتباعه بالأذى والعدوان، بما تفهمه "سوف" من طول الزمان، بالإشارة إلى إهلاك من علم منه دوام العصيان ورحمة من أراده للهداية والإحسان. وتسميتها بالشعراء أدل دليل على ذلك، بما يفارق به القرآن الشعر من علو مقامه، واستقامة مناهجه وعز مرامه، وصدق وعده ووعيده، وعدل تبشيره وتهديده. وكذا تسميتها بالظلة، إشارة إلى أنه أعدل في بيانه، وأدل في جميع

فضائلها

شأنه، من المقادير التي دلت عليه قصة شعيب عليه السلام، بالمكيال والميزان، وأحرق من الظلة لمن يبارزه بالعصيان. فضائلها وأما فضائلها: فروى أحمد، وأبو يعلي الموصلي، في مسنديهما، عن معقل ابن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا إني أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول، وأعطيت طه والطواسين والحواميم من ألواح موسى، وأعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش، وأعطيت المفصل نافلة.

وقد مضى مطولًا في سورة طه. وروى الطبراني في المعجم الكبير عن ابن عباس رضي الله عنهما - قال الهيثمي: ورجاله وثقوا، إلا أن على بن أبي طلحة قيل: إنه لم يسمع من ابن عباس رضي الله عنهما - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحرص أن يؤمن جميع الناس، ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله عزَّ وجل أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول، ثم قال الله عز وجل لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) . وروى أبو يعلي من طريق عبد الجبار بن عمر الأيلي، عن عبد الله بن عطاء ابن إبراهيم - قال الهيثمي: وكلاهما قد وثق، وضعفهما الجمهور - عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: لما نزلت: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) صاح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي قبيس: يا آل عبد مناف (إني نذير لكم) ، فجاءته قريش، فحذرهم وأنذرهم، قالوا: تزعم أنك نبي يوحي إليك، وأن سليمان سخر له الريح والجبال، وأن موسى سخر له البحر، وأن عيسى كان يحيى الموتى؟. فادع الله أن يسير عنا هذه الجبال،

ويفجر لنا أنهاراً، فنتخذها محارث، فنزرع ونأكل، وإلا فادع الله فيحيي لنا موتانا فنكلمهم ويكلمونا، وإلا فادع الله أن يصير هذه الصخرة التي تحتك ذهباً فننحت منها وتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف فإنك تزعم أنك كهيئتهم، فبينا نحن حوله إذ نزل عليه الوحي، فلما سرى عنه قال: والذي نفسي بيده لقد أعطاني ما سألتم، ولو شئت لكان، ولكنه خيرني بين أن تدخلوا باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم، وبين أن يكلكم إلى ما اخترتم لأنفسكم فتضلوا عن باب الرحمة ولا يؤمن مؤمنكم، فاخترت باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم. وأخبرني أنه إن أعطاكم ذلك ثم كفرتم، إنه معذبكم عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فنزلت: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) ، حتى قرأ ثلاث آياف ونزلت: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى) .

وقال أبو عبيد: حدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن عاصم بن أبي بكر بن عبد العزيز بن مروان قال: وفدت إلى سليمان بن عبد الملك ومعنا عمر بن عبد العزيز، فنزلت على ابنه عبد الملك بن عمر وهو عزب، فكنت معه في بيت، فصلينا العشاء وأوى كل رجل منا إلى فراشه، ثم قام عبد الملك إلى المصباح فأطفاه وأنا أنظر إليه، ثم قام يصلي حتى ذهب بي النوم، فاستيقظت فإذا هو في هذه الآية: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) .. فيبكي ثم يرجع إليها، فإذا فرغ منها فعل مثل

ذلك حتى قلت: سيقتله البكاء، فلما رأيت ذلك قلت: لا إله إلا الله والحمد لله كالمستيقظ من النوم، لأقطع ذلك عنه، فلما سمعني سكت، فلما أسمع له حساًه وفي كتاب الاستغناء بالقرآن لابن رجب: وروى أبو نعيم عن عبد الله بن رباح قال: كان صفوان بن محرز إذا قرأ هذه الآية: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) بكى، حتى أقول: قد اندق قضيض زوره (1) .

_ (1) قال في النهاية. 4 / 77) : قال القتيبي: هو عندي خطأ من بعض النقلة وأراه (قصص زوره) . ويحتمل إن صحت الرواية: أن يراد بالقصيص صغار العظام، تشبيهاً بصغار الحصى. اه.

سورة النمل

سورة النمل مكية كلها إجماعاً. عدد آياتها وما يشبه الفاصلة فيها وأيها تسعون وثلاث في الكوفي، وأربع في البصري والشامي، وخمس في المدنيين والمكي. اختلافها آيتان: (وأولوا بأس شديد) ، عدها المدنيان والمكي، ولم يعدها الباقون. (من قوارير) لم يعدها الكوفي وحده.

مقصودها

وفيها مما يشبه الفواصل، وليس معدوداً بإجماع، ثلاثة مواضع: (طس) ، (غير بعيد) ، (وما يشعرون أيَّان) ورويها: من. مقصودها ومقصودها: وصف، هذا الكتاب بالكفاية لهداية الخلق أجمعين، بالفصل بين الصراط المستقيم، وطريق الحائرين، والجمع لأصول الدين، لإحاطة علم منزله بالخفي والمبين، وبشارة المؤمنين، ونذارة الكافرين بيوم اجتماع الأولين والآخرين، وكل ذلك يرجع إلى العلم المستلزم للحكمة. فالمقصود الأعظم منها: إظهار العلم والحكمة، كما كان مقصود التي قبلها: إظهار البطش والنقمة. وأدل ما فيها على هذا المقصود: ما للنمل من حسن التدبير وسداد المذاهب في العيش، ولاسيما ما ذكر عنها سبحانه من صحة القصد في السياسة، وحسن التعبير عن ذلك القصد، وبلاغة التأدية.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى الطبراني في الأوسط - قال الهيثمي: وفيه عبد الكريم أبو أمية وهو ضعيف، ومن لم أعرفهم - عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تخرج من المسجد حتى أعلمك آية من سورة لم تنزل على أحد قبلي، غير سليمان بن داود عليهما السلام فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ أسكفة الباب، قال: بأي شيء تستفتح صلاتك وقراءتك؟. قلت: ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قال: هي هي، ثم أخرج رجله الأخرى.

سورة القصص

سورة القصص مكية كلها. قال الجعبري وغيره: إلا (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) . قال يحيى بن معاذ: جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر، وهو بالجحفة فقال: يا محمد أتشتاق إلى بلادك التي ولدت فيها؟ فقال: نعم. فقال: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) .

عدد آياتها وما يشبه الفاصلة فيها

قال ابن الجوزي: هذا قول ابن عباس، وروى عن الحسن وعطاء وعكرمة: أنها مكية كلها. وقال البغوي، وابن الجوزي أيضاً، والأصفهاني: قال مقاتل: فيها من المدني: (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون - إلى قوله -: لا نبتغي الجاهلين) . عدد آياتها وما يشبه الفاصلة فيها وآيها ثمان وثمانون في جميع العدد، متفقة الإجمال، مختلفة الفواصل. اختلافها آيتان: (طسم) ، عدها الكوفي وحده. (من الناس يسقون) ، لم يعدها الكوفي، وعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفاصلة موضع: (امرأتين تذودان) . وعكسه موضع:

مقصودها

(مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) ورويها: نرمل. مقصودها ومقصودها: التواضع للهِ، المستلزم لرد الأمر كله إليه، الناشىء عن الإيمان بالآخرة، الناشىء عن الإيمان بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - الثابتة بإعجاز القرآن، المظهر للخفايا، على لسان من لم يتعلم قط من أحد من الخلق، المنتج لعلو المتصف به. وذلك هو المأخوذ من تسميتها بالقصص، الذي حكم لأجله شعيب بعلو الكليم - عليهما السلام - على من ناوأه، وقمعه لمن عاداه، فكان المآل وفق ما قال.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى البزار عن عتبة بن النّذر رضي الله عنه، أن

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل: أي الأجلين قضى موسى عليه السلام؟. قال: أبرهما وأوفاها، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، لما أراد موسى فراق شعيب - عليهما السلام - أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به، فأعطاها ما ولدت غنمه في ذلك العام من قالب لون قال: فما مرت شاة إلا ضرب جنبيها موسى عليه السلام بعصاه، فولدت قوالب ألوانها كلها، وولدت ثنتين وثلاثا، كل شاة ليس فيها فشوش ولا ضبوب، ولا كمشة تفوت الكف، ولا ثغول. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا فتحتم الشام فإنكم ستجدون بقايا منها -، وهي السامرية. ورواه الطبراني، إلا أنه قال: فلما وردت الغنم الحوض، وقف - صلى الله عليه وسلم - بإزاء الحوض، فلم يصدر منها شيء إلا ضرب جنبيها فحملت فنتجت كلها قوالب لون واحد، ليس فيها فشوش، ولا ضبوب ولا ثعول، ولا كمشة تفوت الكف، فإن افتتحتم الشام وجدتم بقايا منها فاتخذوها، وهي السامرية.

قال يحيى بن بكير: الفشوش: التي ينفش لبنها عند الحلب. والضبوب: التي يضب ضرعها عند الحلب. والكمشة: التي تعتاص عند الحلب. قال الهيثمي: وفي إسنادهما ابن لهيعة وهو ضعيف، وقد يحسن حديثه. وبقية رجالهما رجال الصحيح. ورواه ابن عبد الحكم في فتوح مصر، من طريق ابن لهيعة - أيضاً - وقال: إلا ضرب جنبها، وقال: ولا كمشة. وروى أبو يعلى بسند - قال الهيثمي: رجاله ثقات - عن أبي سعيد

رضي الله عنه: أنه سئل عن قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) قال: معاده: آخرته. ورواه الطبراني عن ابن عباش رضي الله عنهما أنه قال: معادك: الجنة. وفي رواية: إلى معاد: قال: الموت. قال الهيثمي: رواه بإسنادين، رجال أحدهما رجال الصحيح، غير حصيف وهو ثقة وفيه ضعف. وذكر ابن إسحاق أنه وقدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة عشرون رجلاً، - أو قريباً من ذلك - من النصارى حين ظهر خبره في الحبشة، فدعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتلا عليهم القرآن فلما سمعوا فاضت أعينهم من الدمع، حتى استجابوا له، وآمنوا به، وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم من أمره. ويقال: فيهم نزلت هذه الآيات: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) .

سورة العنكبوت

سورة العنكبوت مكية. قال قتادة: إلا عشراً من أولها إلى: (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ) فإنهن نزلن بالمدينة. نقله أبو عمرو الداني والجعبري. قال أبو حيان: نزل أوائلها في مسلمين بمكة كرهوا الجهاد حين فرض بالمدينة. وقيل: في مِهْجَع مولى عمر رضي الله عنهما، قتل ببدر فجزع أبوه وامرأته عليه.

عدد آياتها وما يشبه الفاصلة فيها

وقال النجم النسفي: مكية إلا قوله في قصة سعد: (ووصينا الِإنسان بوالديه حُسْناً) وقوله: (ومن الناس من يقول آمنَّا بالله) فإنهما نزلتا بالمدينة. وقال الأصفهاني تبعاً لابن الجوزي: وبأنها مكية قال الحسن وقتادة وعطاء وجابر بن زيد، ومقاتل، ورواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما. وفي رواية عن ابن عباس: أنها مدنية. وقال هبة الله المفسر: نزل من أولها إلى رأس العشر بمكة، وباقيها بالمدينة. وقال غيره عكس ذلك: نزلت العشر بالمدينة، وباقيها بمكة. عدد آياتها وما يشبه الفاصلة فيها وآيها تسع وستون في جميع العدد، متفقة الإجمال فقط.

مقصودها

واختلافها ثلاث آيات: (الم) عدها الكوفي وحده. (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) عدها المدنيان والمكي، ولم يعدها الباقون. (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) عدها البصري والشامي، ولم يعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفواصل، وليس معدوداً بإجماع، موضع واحد: (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ) . ورويها: نمر. مقصودها ومقصودها: الحث على الاجتهاد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعاء إلى الله تعالى وحده، من غير تعريج على غيره سبحانه أصلاً لئلا يكون مثل المعرِّج، مثل العنكبوت، فإن ذلك مثل كل من عرج عنه سبحانه، وتعوض عوضا منه، فهي سورة ضعف الكافرين، وقوة المؤمنين وقد ظهر سر تسميتها بالعنكبوت، والله تعالى أعلم.

فضائلها

فضائلها أما فضائلها: فروى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه - قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح، إلا أن الأعمش قال: أرى أبا صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن فلاناً يصلي بالليل، فإذا أصبح سرق، قال: سينهاه ما تقول. يعني قول الله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) . وروى عبد بن حميد في مسنده عن الزهري، عن رجل، عن ابن عمر

رضي الله عنهما، قال: خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى دخل بعض حوائط الأنصار رضي الله عنهم، فجعل يلتقط من التمر ويأكل، فقال لي: يا ابن عمر مالك لا تأكل؟. قلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا أشتهيه، قال: لكني أشتهيه وهذه صبح رابعة منه لم أذق طعاماً، ولم أجده، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر، فكيف يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يخبئون رزق سنتهم بضعف اليقين؟. فوالله ما برحنا ولارمنا، حتى نزلت: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله عز وجل لم يأمرني بكثرة الدنيا ولا اتباع الشهوات، فمن كنز دنيا يريد بها حياة باقية، فإن الحياة بيد الله ألا وأني لم أكنز ديناراً ولا درهماً، ولا أخبأ رزقاً لغد. وروى الحافظ زين الدين ابن رجب من طريق الحافظ أبي بكر الخطيب عن إبراهيم بن إسماعيل بن خلف قال: كان أحمد بن نصر خليّ، فلما قتل في المحنة وصلب رأسه، أخبرت أن الرأس يقرأ القرآن، فمضيت فبت بقرب من الرأس مشرفاً عليه، وكان عنده رجالة وفرسان يحفظونه، فلما هدأت العيون، سمعت الرأس يقرأ: (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) . فاقشعر جلده.

سورة الروم

سورة الروم مكية كلها إجماعاً. وقيل: إلا قوله: (فسبحان الله حين تمسون) عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها وآيها خمسون وتسع آيات في المدني الأخير والمكي، وستون آية في غيره. اختلافها أربع آيات: (الم) ، عدها الكوفي وحده. (غلبت الروم) لم يعدها المدني الأخير والمكي، وعدها الباقون.

مقصودها

(في بضع سنين) لم يعدها المدني الأول والكوفي، وعدها الباقون. (يقسم المجرِمون) عدها المدني الأول، ولم يعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفواصل، وليس معدوداً بإجماع، أربعة مواضع: (بنصر الله) (حين تمسون) ، (والمساكين) ، (وابن السبيل) . وعكسه موضع: (يفرح المؤمنون. ورويه ا: نمر. مقصودها ومقصودها: إثبات الأمر كله لله، فتأتي الوحدانية مطلقاً في الإلهية وغيرها، والقدرة على كل شيء فيأتي البعث ونصر أوليائه، وخذلان أعدائه، وهذا هو المقصود بالذات، واسم السورة واضح فيه بما كان من السبب في نصر الروم من الوعد الصادق، والسر المكتوم.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى أحمد فِى المسند، عن معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ألا أخبركم لم سمي الله تعالى إبراهيم عليه السلام خليله الذي وفى، لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى: سبحان اللة حين تمسون وحين تصبحون، حتى يختم الآية.

ولأبى داود - وسكت عليه، لكن تكلم فيه البخاري في تاريخه، قال النووي: وفي كتاب الضعفاء - عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قال حين يصبح: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ، إلى قوله، (وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) ، أدرك ما فاته في يومه ذلك، ومن قالها حين يمسي، أدرك ما فاته في ليلته. ولعبد الرزاق في جامعه عن شبيب بن روح، عن رجل من أصحاب محمد قال: صَلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الفجر، فقرأ سورة الروم، فالتبس فيها عليه، فلما انصرف قال: ما بال رجال يصلون معنا بغير طهور؟. من صلى معنا فليحسن طهوره، فإنما يلبس علينا القرآن أولئك. ورواه أحمد عن أبي روح الكلاعي قال: صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة، فقرأ فيها بسورة الروم، فلبس عليه بعضها، فقال: إنما لبس علينا الشيطان من أجل أقوام يأتون الصلاة بغير وضوء، فإذا أتيتم الصلاة، فأحسنوا الوضوء.

وفي رواية: فردد في آية، فلما انصرف قال: إنه لبس عليه القرآن أن أقواماً منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء، فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء. قال المنذري: هكذا رواه، ورجال الروايتين محتج بهم في الصحيح ورواه النسائي عن أبي روح، عن رجل. يعني كرواية عبد الرزاق. وروى عبد الرزاق عن معمر، عن عبد الملك بن عمير: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في الفجر يوم الجمعة بسورة الروم. وروى الطبراني في الكبير عن شيخه عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، وهو ضعيف، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قيل له: نجد الصلوات الخمس في كتاب الله تعالى؟. قال: نعم، فقرأ عليه:

(فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ) : الغرب، (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) : الصبح. (وَعَشِيًّا) : العصر، (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) : الظهر، (وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ) قال: صلاة العشاء.

سورة لقمان

سورة لقمان عليه السلام مكية. قال ابن الجوزي: في قول الأكثرين. وقال أبو عمرو الداني والجعبري: قال ابن عباس: إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة. وقال عطاء: إلا آيتين. وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة الشريفة أتته أحبار اليهود، فقالوا: يا محمد إنك تقول: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) ، أتعنينا أم قومك؟. قال: كلا قد عنيت. قالوا: إنك تتلو: أنا قد أوتينا التوراة وفيها

بيان كل شيء؟. فقال - صلى الله عليه وسلم -: هي في علم الله قليل. فأنزل الله عز وجل: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ) . قال الداني: إلى آخر الآيتين. وقال الجعبري: إلى آخر الثلاث. وعزا أبو حيان كونها ثلاثاً إلى ابن عباس رضي الله عنهما. وقال ابن الجوزي: وعن الحسن أنه قال: مكية إلا آية نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى: (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة) ، لأن الصلاة والزكاة مدنيتان، انتهى. وهو غير مسلم في الصلاة، فإنها فرضت في مكة.

عدد آياتا وما يشبه الفواصل فيها

عدد آياتا وما يشبه الفواصل فيها وآيها ثلاثون، في المدنيين والمكي، وأربع في الباقين. اختلافها آيتان: (الم) عدها الكوفي وحده. (مخلصين له الدين) ، عدها البصري والشامي، ولم يعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفاصلة، وليس معدوداً بإجماع، موضع (في الدنيا معروفاً) وعكسه موضع: (لصوت الحمير) . ورويها: ظن مرد. مقصودها ومقصودها: إثبات الحكمة للكتاب، اللازم منه حكمة منزله سبحانه في أقواله وأفعاله. وقصة لقمان عليه السلام، المسمى بها السورة، دليل واضح على ذلك.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى النسائي، وابن ماجه، بإسناد - قال النووي في شرح المهذب: حسن - عن البراء رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

يصلي بنا الظهر، فنسمع منه الآية بعد الآيات من سورة لقمان والذاريات. وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: مفاتيح الغيب خمس، لا يعلمهن إلا الله (إن الله عنده علم الساعة) . وروى أحمد والبزار - ورجال أحمد رجال الصحيح - عن بريدة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: خمس لا يعلمهن إلا الله: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) .

سورة السجدة

سورة السجدة وتسمى أيضاً: الم تنزيل، والمضاجع، والمنقسمة، والمنجية. مكية. وقال الِإمام أبو عمرو الداني: قال ابن عباس رضي الله عنهما وعطاء: إلا ثلاث آيات منها، نزلت بالمدينة في علي رضي الله عنه، والوليد بن عتبة، وكان بينهما كلام، فقال الوليد لعلي رضي الله عنه: أنا أبسط منك لساناً، وأحد منك سناناً، وأرد منك للكتيبة، فقال له علي رضي الله عنه: أسكت فإنك فاسق، فأنزل الله عز وجل فيهما: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا) ، إلى آخر الآيات الثلاث.

عدد آياها

وقال الجعبري: إلى: (تكذبون) ، انتهى. وهذا النقل فيه نظر، فإن علياً رضي الله عنه لم ينقل من طريق صحيح أنه اجتمع بالوليد بعد أن هاجر، إلا ساعة المبارزة ببدر، فإن كان قال له ذلك حينئذ، وإلا فمتى؟. وقال ابن الجوزي: هى مكية بإجماعهم. وقال الكلبي: فيها من المدني ثلاث آيات، أولها: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا) . وقال مقاتل: فيها آية مدنية، هي قوله تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) الآية. وقال غيرهما: فيها خمس آيات مدنيات، أولها: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) انتهى. عدد آياها وآيها عشرون وتسع في البصري، وثلاثون في عدد الباقين. اختلافها آيتان: (الم) ، عدها الكوفي وحده. (لفي خلق جديد) لم يعدها الكوفي والبصري، وعدها الباقون.

مقصودها

وليس فيها شيء مما يشبه الفواصل. وفيها عكسه، وهوما يشبه الوسط وهو آية ثلاثة مواضع: (من طين) ، (يستوون) ، (إسرائيل) . وريها: ملن. مقصودها ومقصودها: إنذار الكفار بهذا الكتاب، السَّارِّ للأبرار بدخول الجنة والنجاة من النار، واسمها "السجدة" منطبق على ذلك بما دعت إليه آيتها من الأخبار، وترك الاستكبار. وكذا تسميتها بالمضاجع، وتسميتهاب (الم تنزيل) مشيراً إلى تأمل جميع السورة، فهو في غاية الوضوح في مقصودها، وتسميتها بالمنقسمة أيضاً، دال عليه من جهة: أنها انقسمت للإعاذة من عذاب القبر، الذي هو مقدمة عذاب النار. وكذا المنجية: فإن مَنْ قَبِلَ الإنذار، نجا من النار.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى الترمذي في الجامع، والنَّسائي في اليوم والليلة. والدارمي وعبد بن حميد في المسند، والطبراني فيما انتخبه عليه ابن مردويه. والبيهقي في الدعوات، عن جابر رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا ينام حتى يقرأ: الم تنزيل السجدة، وتبارك الذي بيده الملك. ورواه مُسدد، وقال بعده: وقال طاووس: فضلتا على كل سورة من القرآن بستين حسنة. وفي جامع الأصول عن الترمذى: بسبعين حسنة. وروى أبو يعلى عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ كل ليلة، الم تنزيل السجدة. وروى أبو عبيد عن أبى خيثمة، قال: قلت لأبي الزبير: أسمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يذكر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا ينام، حتى

يقرأ: الم تنزيل السجدة، وتبارك الذي بيده الملك؟. فقال: ليس جابر حدثنيه، ولكن حدثنيه صفوان: أو ابن صفوان. شك أبو خيثمة. وروى أبو عبيد من طريق عاصم بن أبي النجود عن المسيب بن رافع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: تجيء الم السجدة يوم القيامة لها جناحان، تظل صاحبها، تقول: لا سبيل عليك، لا سبيل عليك. ولمسلم وأبي عبيد في الفضائل، وأبي داود، والترمذي، والنَّسائي وعبد الرزاق في جامعه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة: الم، تنزيل السجدة، وهَلْ أتى على الِإنسان.

وفي رواية: وفي صلاة الجمعة، سورة الجمعة، وإذا جاءك المنافقون. وللشيخين، والدارمي، وعبد الرزاق، عن أبي هريرة رضي الله عنه مثله في صلاة الصبح. ولفظه: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر يوم الجمعة بـ "الم تنزيل السجدة" في الركعة الأولى، وفي الثانية: (هل أتى على الإِنسان) . وروى عبد الرزاق في جامعه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة. و (سبح اسم ربك الأعلى) ، وفي صلاة الصبح يوم الجمعة: (الم تنزيل) ، و (تبارك الذي بيده الملك) . وسر ذلك: أن في كل من السجدة والملك والإِنسان ذكر ابتداء الخلق والبعث، والجنة، والنار، فهي مذكرة بخلق آدم عليه السلام فيه وقيام الساعة فيه، إلى غير ذلك من أحوال الآخرة.

وللدارمي عن خالد بن معدان مرسلاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: اقرأوا المنجية، وهي: (الم تنزيل) فإنه بلغني أن رجلا كان يقرؤها وما يقرأ شيئاً غيرها، وكان كثير الخطايا، فنشرت جناحها عليه، وقالت: رب اغفر له، فإنه كان يكثر قراءتي، فشفعها الرب فيه، وقال: اكتبوا له بكل خطيئة حسنة، وارفعوا له درجة. وله عن خالد أيضاً: أنها تجادل عن صاحبها في القبر، تقول: إن كنت في كتابك فشفعني فيه، وإن لم أكن من كتابك فامحني، وأنها تكون كالطير. تجعل جناحها عليه فتشفع له، فتمنعه من عذاب القبر. وقال في تبارك مثله، فكان خالد لا يبيت حتى يقرأها. وينبغي أن يعلم: أن نسبة مثل هذا الكلام إلى القرآن، أو بعضه غير مشكلة، لأنه يمكن - والله أعلم - أن يجعل الله تعالى للألفاظ التي يقرؤها القارىء صوراً تعرف بها، ويطلق عليها اسم القرآن على سبيل المجاز أو الاشتراك، لدلالتها عليه، كما أنه سبحانه مكننا في هذه الدار من تصوير ذلك الكتاب، ويطلق على تلك الصور ذلك، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو) ، ويجعل الله لتلك الصورة قوة النطق، ولله تعالى القدرة البالغة، فهو على كل شيء قدير. وللدارمي - أيضاً - عن كعب رحمه الله، قال: من قرأ "تنزيل" السجدة

وتبارك، كتب له سبعون حسنة، وحط عنه بهما سبعون سيئة، ورفع له بهما سبعون درجة. ولعبد الرزاق في جامعه، عن أبي مجلز، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في صلاة الظهر، ثم قام، فيرون أنه قرأ (الم تنزيل) ، وهو يصلي بأصحابه رضي الله عنهم. ورواه أحمد، وأبو داود، والحاكم، عن ابن عمر رضي الله عنهما ولفظه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في صلاة الظهر، ثم قام فركع فرأوا أنه قرأ: (الم تنزيل) السجدة. ولعبد الرزاق عن ابن جريج: أخبرني عطاء، أن رجلين فيما مضى كان يلزم أحدهما تبارك، فجادلت عنه حتى نجا، وأما صاحب السجدة الصغرى،

فتنقسم في قبره قسمين، قسم عند رأسه، وقسم عند رجليه، حتى نجا. فسميت المنقسمة. وله عن يحيى بن أبي كثير قال: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه رضي الله عنهم، أن يقرأواة (الم السجدة) و (تبارك الذي بيده الملك) ، فإنهما تعدل كل آية منهما سبعين آية من غيرهما، ومن قرأهما بعد العشاء الآخرة كانتا له مثلهما في ليلة القدر. ولأبي عبيد عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه كان يقول في (تنزيل) السجدة و (تبارك الذي بيده الملك) قال: فيهما فضل ستين درجة على غيرهما من سور القرآن. وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: (وجعلناه هدى لبني إسرائيل) قال: جعل موسى عليه السلام هدى لبني إسرائيل. وفي قوله تعالى: (فلا تكن في مرية من لقاءه) من لقاء موسى ربه عز وجل. قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح.

سورة الأحزاب

سورة الأحزاب مدنية إجماعاً. وآيها سبعون وثلاث في جميع العدد، ليس فيها اختلاف في إجمال ولا تفصيل. وفيها مما يشبه الفواصل، وليس معدوداً بإجماع، موضع واحد، (إلى أوليائكم معروفاً) . ورويها أحد عشر حرفاً "فمد له رزق بظن".

مقصودها

مقصودها ومقصودها: الحث على الصدق في الِإخلاص في التوجه إلى الخالق من غير مراعاة بوجه ما للخلائق، لأنه عليم بما يصلحهم، حكيم فيما يفعله. فهو يعلم من يشاء، وإن كان ضعيفاً، ويردى من يريد وإن كان قوياً، فلا يهتمن الماضي لأمره برجاء لأحد منهم في بره، ولا خوف منه في عظيم شره، وخفى مكره. وتسميتها بالأحزاب أوضح دليل على ذلك، بتأمل القصة التي أشارت إليها، ودلت عليها.

فضلها

فضلها وأما فضلها: فروى صاحب الفردوس عن أنس رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لكل شيء قائمة، وقائمة القرآن سورة الأحزاب. وروى أبو داود، والترمذي وقال: حسن، والنَّسائي، وابن ماجة والحاكم، والبيهقي في الدعوات - قال النووي: بالأسانيد الصحيحة - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة الحاجة: الحمد للهِ، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأرسله بالحق بشيراً

ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. وفي رواية للبيهقي، ثم يقرأ الثلاث آيات: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) ، إلى آخر الآية، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) . ثم يقرأ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) . ثم تتكلم بحاجتك. وخَرجَهُ مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مختصراً. وخرجه مسلم من حديث جرير رضي الله عنه، وفيه آية الحشر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) .

وفي صحيح مسلم عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، أن رجلاً خطب عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله. تقدم في سورة النحل لهذا الحديث طريق أخرى عند مسلم. وروى عبد الرزاق في جامعة عن زر قال: قال أبي بن كعب - رضي الله عنه -

كأيِّن تقرأون سورة الأحزاب؟. قلت: بضعاً وثمانين آية، قال: لقد كنا نقرؤها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو سورة البقرة، أو هي أكبر ولقد كنا نقرأ فيها آية الرجم "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم". وروى أبو عبيد في الفضائل، ولفظه: قال لي أبي بن كعب: يا زرّ كائن تعد - أو قال: كأيِّن تقرأ - سورة الأحزاب؟. قلنا: اثنتين وسبعين، أو ثلاثاً وسبعين آية. فقال: إن كانت لتعدل سورة البقرة وإن كنا لنقرأ فيها آية الرجم. قلت: وما آية الرجم؟. قال: "إذا زنا الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتة، نكالاً من الله، والله عزيز حكيم". ويأتي - إن شاء الله تعالى - في سورة "لم يكن " حديث عن أبي موسى رضي الله عنه، أنه نزلت سورة نحو براءة، ثم رفعت. وروى الطبراني بأسانيد - قال الهيثمي: ورجال بعضها رجال الصحيح - عن قتادة رحمه الله قال: خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب رضي الله عنها وهي بنت عمته، وهو يريدها لزيد رضي الله عنه فظنت أنه يريدها لنفسه، فلما علمت أنه يريدها لزيد رضي الله عنه أبت. فأنزل الله تعالى:

(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) فَرضيَتْ وسَلَّمَت. وروى الطبراني في الكبير، وأحمد - قال الهيثمي: وفيه ليث، بن أبي سليم وهو مضطرب الحديث، وبقية رجالهما رجال الصحيح - عن عبد الله بن قيس رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -صلاة، ثم قال: على مكانكم أثبتوا، ثم أتى الرجال فقال: إن الله أمرني أن آمركم أن تتقوا الله وتقولوا قولاً سديداً، ثم تخلل إلى النساء فقال: إن الله أمرني أن آمركم أن تتقين الله وأن تقلن قولَا سديداً.

سورة سبأ

سورة سبأ مكية إجماعاً. وقال الأصفهاني تبعاً لابن الجوزي: وقال الضحاك وابن السائب ومقاتل: فيها آية مدنية، وهي قوله تعالى: (ويرى الذين أوتوا العلم) الآية. عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها وأيها خسون وخمس آيات في الشامي، وأربع في عدد الباقين. اختلافها آية: (عن يمين وشمال) عدها الشامي، ولم يعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفواصل، وليس معدوداَ بإجماع، أربعة مواضع:

مقصودها

(معاجزين) موضعان. (كالجواب) . (وبين ما يشتهون) . وعكسه موضع: (قَبْلَكَ مِنْ نذير) . ورويها: ظن لدبر. مقصودها ومقصودها: أن الدار الآخرة التي أشار إليها آخر الأحزاب بالعذاب والمغفرة، بعد أن أعلم أن الناس يسئلون عنها، كائنة لا ريب في إتيانها، لما في ذلك من الحكمة وله عليه من القدرة. ولقصة سبأ التي سميت بها السورة مناسبة كبيرة لهذا المقصد لما فيها من الآيات الشهودية المشهودة - لاسيما عند العرب - على قدرته سبحانه على الإِيجاد والإِعدام، للذات والصفات، والتحويل لما يريد من الأحوال. والتصرف بالحكمة في الِإعطاء والمنع ابتداء وجزاء لمن شكر، أو كفر.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة يوم الفتح، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصُباً، فجعل يطعنها بعود كان في يده ويقول: (جاء الحق وزهق الباطلُ، إن البَاطِلَ كان زَهُوقاً) (جاء الحق وما يُبدئ الباطلُ وما يُعيدُ) . وفي السير: أن الأصنام كانت مشدودة بالرصاص، وأنه ما أشار إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار إلى قفاه إلا وقع لوجهه، حتى مما بقي منها صنم إلا وقع، فقال تميم بن أسد الخزاعي: وفي الأصنام معتبر وعلم. . . لمن يرجو الثواب أو العقابا وروى أحمد في المسند، والطبراني في الكبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سبأ: ما هو، أرجل، أم امرأة، أم أرض؟.

قال: بل هو رجل ولد عشرة، فسكن اليمن منهم ستة، وسكن الشام منهم أربعة. فأما اليمانيون: فمذحج، وكندة والأزد، والأشعريون. وأنمار، وحمير. وأما الشاميون: فلخم: وجذام، وعاملة، وغسان. قال الهيثمي: وفي سندهما ابن لهيعة وفيه ضعف، وبقية رجالهما ثقات. ورواه الطبراني من طريق أخرى فيها شيخ الطبراني لم يعرفه الهيثمي، وبقية السند رجال الصحيح.

وروى عبيد الله بن محمد العَيْشِي في جزءيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان لكل قَبِيل من الجن مقعد من السماء يستمعون فيه الوحي، وكان الوحي إذا نزل، سمع له صوت كإمرار السلسلة على الصفوان - قال العيشي: يعني على الحجر - فلا ينزل على سماء إلا صُعقوا: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) . ثم يقال: يكون العام كذا، ويكون العام كذا، فتسمع الجن ذلك فتخبر به الكهنة، فتخبر الكهنة الناس، فيجدونه كما قالوا، فلما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دحروا. فقالت العرب: هلك من في السماء، فجعل صاحب الإِبل ينحر كل يوم بعيراً وجعل صاحب البقر ينحر كل يوم بقرة، وصاحب الشاة يذبح كل يوم شاة، حتى أسرعوا في أموالهم، فقالت ثقيف وكانت أعقل العرب: يا آيها الناس عليكم أموالكم، فإنه لم يهلك من في السماء، وإن هذا ليس بانتشار، أليس ترون معالمكم من النجوم كما هي؟ فقال إبليس: لقد حدث اليوم حدث، ائتوني من تربة الأرض، فأتوه من تربة كل أرض، فجعل يشمها، حتى أتى من تربة مكة، فشمها فقال: من ههنا حدث الحدث، فنظروا فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بعث.

وروى الطبراني في الكبير عن شيخه يحيى بن عثمان بن صالح - قال الهيثمي: وقد وثق، وتُكلم فيه بغير قادح، وبقية رجاله ثقات - عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أراد الله أن يوحي بأمره، تكلم بالوحي، أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله، فإذا سمع بذلك أهل السماء صعقوا وخروا سجداً، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل عليه السلام، فيكلمهم الله من وحيه بما أراد فينتهي به جبريل على الملائكة عليهم السلام، كلما مر بسماء سأله أهلها، ماذا قال ربنا يا جبريل؟ قال الحق وهو العلي الكبير، فيقول كلهم مثل ما قال جبريل عليه السلام. فينتهي به جبريل حيث أمر من السماء والأرض.

سورة فاطر

سورة فاطر وتسمى سورة اللائكة. مكية إجماعاً. عدد آياتها وما يشبه الفاصلة فيها وآيها أربعون وست آيات في المدني الأخير والشامي، وخمس في عدد الباقين. اختلافها سبع آيات: (لهم عذاب شديد) وهو الأول، عدها البصري والشامي. ولم يعدها الباقون. (بخلق جديد) ، (والأعمى والبصير) لم يعدهن ثلاثتهن. وعدهن الباقون.

مقصودها

(مَنْ في القبور) لم يعدها الشامي وحده. (أن تزولا) عدها البصري وحده. (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) عدها المدني الأخير والبصري والشامي. ولم يعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفواصل، وليس معدوداً بإجماع، ثلاثة مواضع: (لهم عذاب شديد) وهو الثاني، (جُدَدٌ بِيضٌ) ، (وجاءكم النذير) . ورويها: زد برغل. مقصودها ومقصودها: إثبتا القدرة الكاملة لله تعالى، اللازم منها تمام القدرة على البعث، الذي عنه يكون أتم الإِبقاءين بالفعل دائماً أبداً بلا انقطاع، ولا زوال أصلًا، ولا اندفاع، في دار المقامة التي أذهب سبحانه عنها الحزن والنصب واللغوب. ودار الشقاوة الجامعة لجميع الأنكاد والهموم. ولاسم السورة "فاطر" أتم مناسبة لمقصودها، لأنه لا شيء يعدل ما في

الجنة من تجدد الخلق، فإنه لا يؤكل منها شيء إلا عاد كما كان في الحال. ولا يراد شيء إلا وجد في أسرع وقت فهي دار. الإِبداع والاختراع بالحقيقة، وكذا النار، كلما نضجت جلودهم بدَّلناهم جلوداً غيرها. وكذا تسميتها بالملائكة بأنهم يُبْدَعُون خلقاً جديداً، كل واحد منهم على صورته التي أراد الله كونه عليها، لا يزاد فيها، ولا ينقص، كلما أراد الله ذلك من غير سبب أصلاً غير إرادته المطابقة لقدرته سبحانه، وعز شأنه من غير تدريج بسبب توليد ولا غيره، فكل واحد منهم نوع برأسه، وهم من الكثرة على وجه لا يحاط به. وما يعلم جنود ربك إلا هو.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى أبو عبيد في الفضائل، عن عامر بن عبد قيس قال: أربع آيات من كتاب الله إذا قرأْتُهُنً، ما أبالي ما أصبح عليه وأمسي: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم) ، (وإن يَمْسَسْكَ الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا رَادَّ لفضله) ، (سيجعل الله بعد عسر يسراً) . (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) . وروى أبو يعلى - بإسناد قال المنذري: صحيح - والحاكم

وقال: صحيح على شرط مسلم عن جابر رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أوى الرجل إلى فراشه ابتدره مَلَكٌ وشيطان، فيقول المَلَكُ: اختم بخير، ويقول الشيطان: اختم بشر، فإن ذكر الله ثم نام، بات المَلَكُ يكلؤه، فإذا استيقظ قال المَلَكُ: افتح بخير، وقال الشيطان: افتح بشر،، فإن قال: الحمد لله الذي رد علي نفسي ولم يمتها في منامها، (الحمد لله الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا) إلى آخر الآية، الحمد لله الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه - وزاد الحاكم: الحمد لله الذي يحى الموتى وهو على كل شيء قدير - فإن وقع عن سريره فمات، دخل الجنة.

سورة يس

سورة يس وتسمى - أيضاً -: القلب، والدافعة، والقاضية، والمُعِمَّة. قال ابن الجوزي: قاله - أي إنها مكية - ابن عباس، والحسن. وعكرمة، وقتادة، والجمهور. وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة أنهما قالا: إنها مكية إلا آية منها: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ) . وحكى أبو سليمان الدمشقي: أنها مدنية. وقال: وليس بالمشهور.

عدد آياتها وما يشيه الفواصل فيها

عدد آياتها وما يشيه الفواصل فيها وآيها ثمانون وثلاث آيات في الكوفى، واثنتان في عدد الباقين. اختلافها آية: (يس) ، عدها الكوفي وحده. وفيها مما يشبه الفواصل، ولم يُعَدَّ بإجماع، موضع: (رجل يسعى) . وعكسه اثنان: (من العيون) ، (فيكون) . ورويها: نم. مقصودها ومقصودها: إثبات الرسالة التي هي روح الوجود، المفاض فيه من جهة المَلِكِ، وقلب جميع الحقائق، وبها قوامها للمرسل بها، الذي هو خالصة المرسلين، الذين هم قلب الموجودات كلها، ذوات ومعادن، إلى أهل مكة أم القرى وقلب الأرض، وهم قريش قلب العرب، الذين هم قلب الناس،

بصلاحهم صلاحهم كلهم، وبفسادهم فسادهم، فلذلك كان من حولها جميع أهل الأرض. وجل فائدة الرسالة: إثبات الوحدانية للعزيز الرحيم، ذي الجلال والِإكرام، والِإنذار بيوم الجمع، الذي به - مع ستره عن العيان، الذي هو من خواص القلب - صلاح الخلق فهو قلب الأكوان، وبه الصلاح أو الفساد للِإنسان. وعلى ذلك تنطبق معاني أسمائها: يس، والقلب، والدافعة، والقاضية. والمُعِمَّة. لأن، من اعتقد الرسالة كفته جميع مهمة، ودفعت عنه سائر ملمة. وقضت له بكل خير، وأعطته بكل كل مراد. وكل من هذا له أتم نظر إلى القلب، كما لا يخفى. والمعمة: الشاملة بالخير والبركة. قال في القاموس: عمهم بالعطية، وهو مِعَم خير، يعم خيره. ومن المعلوم: أن القلب كذلك. وأما يس: فمشير إلى سر كونها قلب المشير إلى البعث، الذي هو من

أجل مقاصدها الذي يكون به صلاح القلب، الذي به قبول ما ذكر. وذلك أنه لما كان قلب كل شيء أبْطَنَ ما فيه وأنْفَسَ وكان قلبُ الِإنسان غائباً عن الإحساس، وكان مودعاً من المعاني الجليلة، والِإدراكات الخفية والجلية، ما يكون للبدن سبباً في إصلاحه أو إسعاده، وكانت الساعة من عالم الغيب وفيها انكشاف الأمور، والوقوف على حقائق المقدور، وبملاحظتها في إصلاح أسبابها تكون الشقاوة السرمدية. وكانت قد بينت في هذه السورة بيانا لم يكن في غيرها، بما وقع من التصريح في قلبها الذي هو وسطها - بنفختيها المميتة لكل من في الأرض. فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون، والباعثة (فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون) ، والتصريح بالمعاد الجثماني والاستدلال عليه بالدليل، الذي نقل أن أبا نصر الفارابي - الذي وُسِم بأنه العلم الثاني - كان يقول: وددت لو أن هذا العالم الرباني - يشير إلى العلم الأول أرسطو

وقف على هذا القياس الجلى، حتى أعلم ما يقول فيه، ويتلو قوله تعالى: (قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) . وترتيب القياس أن يقال: الله أنشأ العظام، وأحياها أول مرة، وكل من أنشأ شيئاً وأحياه أول مرة، فهو قادر على إنشائه وإحيائه ثاني مرة، ينتج: أن الله قادر على إنشاء العظام وإحيائها بعد إفنائها. فلما اختصت بذلك عن باقي القرآن، كانت قلباً له، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، على ما سياتي في الفضائل. هذا ما هداني الله - وله الحمد - إليه، من بيان السر في كونها قلباً. ثم رأيت البرهان النسفي قال في تفسيره في آخر السورة، بعد أن ذكر الحديث في تسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - لها قلباً: قال الغزالي فيه: إن ذلك - أي كونها قلباً - لأن الإيمان صحته بالاعتراف بالحشر، والحشر متقرر في هذه السورة بأبلغ وجه، فجعلت قلب القرآن لذلك. واستحسنه الإِمام المحقق فخر الدين الرازي. ويمكن أن يقال: إن هذه السورة ليس فيها إلا تقرير الأصول الثلاثة: الوحدانية والرسالة، والحشر، بأقوى البراهين. فابتدأها ببيان الرسالة بقوله: (إنك لمن المرسلين) ودليله: ما قدمه عليها بقوله: (والقرآن الحكيم) ، وما أخره عنها بقوله: (لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم) وأنهاها ببيان الوحدانية والحشر.

فقوله: (فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء) إشارة إلى التوحيد. وقوله: (وإليه ترجعون) ، إشارة إلى الحشر. وليس في هذه السورة إلا هذه الأصول الثلاثة ودلائلها. ومن حصل من هذا القرآن، هذا القدر فقد حصل نصيب قلبه، وهو التصديق الذي بالجنان. وأما الذي باللسان، والذي بالأركان، ففي غير هذه السورة. فلما كان فيها أعمال القلب لا غير، سماها قلباً، ولهذا ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - قراءتها عند رأس من دنى منه الموت، لأن في ذلك الوقت يكون اللسان ضعيف القوة، والأعضاء ساقطة المنة لكن القلب يكون قد أقبل على الله (تعالى) ، ورجع عن كل ما سواه، فيقرأ عند رأسه ما يزداد به قوة في قلبه، فيشتد تصديقه بالأصول الثلاثة. انتهى وفيه بعض تصرف. وقوله: إن وظيفتي اللسان والأركان ليس في هذه السورة منهما شيء. ربما يعكس عليه قوله تعالى: (ومالي لا أعبد الذي فطرني) ، (وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله) ، (وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم) . هذا، وقد استمد من هذا الصريح في أمر الحشر، كل ما انبث في القرآن من ذكر الآخرة الذي بمراعاته وإتقانه، يكون صلاح جميع الأحوال، في

الدارين، وبإهماله ونسيانه يكون فسادها فيهما. هذا ما شاركت به غيرها مما جمعته من جميع معانيه المجموعة في الفاتحة من الأسماء الحسنى: الله، والرب، والرحمن، والرحيم، ومالك يوم الدين. الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون، والأمر بالعبادة بسلوك الصراط المستقيم، وتفصيل أهل النعيم، وأهل الجحيم، وإثبات الأصول الثلاثة التي يصير بها المكلف مؤمناً: الوحدانية، والحشر، والرسالة، التي هي قلب الوجود، وبها صلاحه، وهي ممدة لكل روح يكون به حياة هنيئة، وهي مبدأ الصلاح، كما أن البعث غايته وأن الخاتم لها إنسان عين الموجوادات وقلبها، فأثبت له ذلك على أصرح وجه وآكده. ومع جمع ما افتتحت به السورة من الحروف المقطعة، المنشورة أول السور، عمادا للقرآن وشحذا للأذهان، لصنفي المنقوطة أو العاطلة، ووصفى المجهورة والمهموسة. ولما كان القلب من الإِنسان المقصود بالذات من الأكوان، في نحو ثلث بدنه من جهة رأسه وكانت الياء في نحو ذلك من حروف أبجد، فإنها العاشرة منها. والسين بذلك المحل من حروف أب ت ث، فإنها الثانية عشرة منها وعَلَا هَذَانِ الحرافانِ بما فيهما من الجهر عن غاية الضعف، ونزر بما لهما من الهمس عن نهاية الشدة، إشارة إلى أن القلب الصحيح هو الزجاجي الشفاف، الجامع بين الصلابة والرقة، الذي علا بصلابته عن رقة الماء. الذي لا تثبت فيه صورة ونزل بلطافته عن قساوة الحجر، الذي لا يكاد ينطبع فيه شيء إلا بغاية الجهد، فكان جامعاً بين الصلابة والرقة متهيئاً لأن تنطبع فيه الصور وتثبت، ليكون قابلًا مفيداً، فيكون متخلقاً من صفات مُوجَدةٍ بالقدرة والاختيار، اللذين دلت عليهما سورة الملائكة، وبمعرفة الخير فيجتلبه والشر فيجتنبه، فيكون فيه شاهد من نفسه على الاعتقاد الحق في صانعه.

وكانت المجهورة أقوى، فقدمت الياء لجهرها، وكانتا بعد الاختلاف بالجهر والهمس قد اتفقتا في الانفتاح والرخاوة والاستفال، إشارة إلى أن القلب لا يصلح - كما تقدم - مع الصلابة التي هي في معنى الجهر، إلا بالإِخبات، الذي هو في معنى الهمس، وبالنزول عن غاية الصلابة إلى حَدِّ الرخاوة، لئلا يكون حجرياً قاسياً، وبأن يكون مستفلًا، ليكون إلى ربه - بتواضعه وبُعْدِه عن النفور والاستكبار - سائراً واصلاً وزادت الصفير الذي فيه شدة وانتشار وقوة بضعفها عن الياء بالهمس فتعادلتا. ودل صفيرها على النفخ في الصور، الذي صرحت به هذه السورة. ودل جهر الياء على قوته، ودل كونها من حروف النداء على خروجه عن الحد في شدته، حتى تبدو عنه تلك الآثار، المخلية للديار، المفنية للصغار والكبار، ثم الباعثة لهم من جميع الأقطار إجابة لدعوة الواحد القهار. وكان مخرجهما من اللسان، الذي هو قلب المخارج الثلائة، لتوسطه وكثرة منافعه في ذلك، وكانت الياء من وسطه، والسين من طرفه، وكان هذان المخرجان - مع كونهما وسطا - مداراً لأكثر الحروف. هذا مع ما لهما من الأسرار، التي تدق عن تصور الأفكار. قال تعالى: (يس) . وإن أريد يا إنسان فهو قلب الموجودات كلها، وخالصها، وسرها. ولبابها. وإن أريد: يا سيد، فهو خلاصة من سادهم.

وإن أريد: يا رجل فهو خلاصة البشر. وإن أريد: يا محمد، فهو خلاصة الرجال، الذين هم لباب البشر. الذين هم سر الأحياء الذين هم عين الموجودات، فهو خلاصة الخلاصة. وخيار الخيار، وإنسان العين، وعين القلب. وكأن من قال معناه: يا محمد، نظر إلى الاتحاد في عدد حروف اسمه - صلى الله عليه وسلم -، بالنظر إلى المِيمَيْن في المشددة، وعدد اسمى الحرفين. ولا يخفى أن الهمزة في اسم الياء ألف ثانية، فمبلغ عددها اثنا عشر. ثم إنه لما كان الأنبياء عليهم السلام من نوره - صلى الله عليه وسلم -، لأنه أولهم خلقاً وآخرهم بعثاً، فكانوا في الحقيقة إنما هم ممهدون لشرعه، وكأن سبحانه إنما أرسله ليتمم مكارم الأخلاق، وكأن قد جعل سبحانه من المكارم أن لا يكلم الناس إلا بما يسع عقولهم، وكانت عدة المرسلين عليهم السلام، كما في حديث أبي أمامة الباهلي عن أبي ذر رضي الله عنهما، عند أحمد في المسند ثلاثمائة وخمسة عشر. وفيه: أن الأنبياء عليهم السلام مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً. وهو في الطبراني الكبير، عن أبي أمامة رضي الله عنه، أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر عدد الرسل فقط. ولما كانت عقول العرب لا تسع بوجه أول الدعوة قبل الِإيمان. أنهم منه، أقسم سبحانه ظاهراً أنه منهم، ورمز الأصفياء باطناً إلى أنهم منه. بجعلهم عدد أسماء حروف اسمه "محمد" الذي رمز إليه بالحرفين أول السورة.

فضائلها

فكأنه قال: إنك يا ياسين - الذي تأويله محمد، الذي عدد أسماء حروفه بعدِّهم - لأصلهم. فصار رمزاً في رمز، وكنزاً نفيساً تحت كنز، وسراً من سر، وخفاء من وراء ستر، وهو ألذ في مناداة الأحباب، من صريح الخطاب. فضائلها وأما فضائلها: فروى أبو داود، والنَّسائي، وابن ماجة، وأبو يعلى الموصلي والإِمام أحمد في مسنديهما، وابن حبان في صحيحه، والطبراني، عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: البقرة سنام القرآن - الحديث كما مضى في البقرة، إلى أن قال: - ويس قلب القرآن، لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له، اقرؤوها على موتاكم. وأخرجه البيهقي في الشعب عن معقل رضي الله عنه، ولفظه: من قرأ

يس ابتغاء وجه الله، غفر له ما تقدم من ذنبه، فاقرأوها عند موتاكم. ورواه أبو داود في السنن، والبيهقي في الدعوات عنه، ولفظهما: اقرأوا على موتاكم يَس. ورواه أبو عبيد ولفظه: اقرأوها على موتاكم. يعني: يس. قال شيخنا البوصيري: وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، رواه البزار في مسنده. ولأحمد. وأبي داود، والنَّسائي، وابن ماجة وابن حبان، والحاكم عن معقل بن يسار - أيضاً - رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: اقرأوا على موتاكم يس. وروى ابن رجب في كتابه "الاستغناء بالقرآن" عن أسد بن وداعة قال: لما حضر غضيف بن الحارث رضي الله عنه - الموت، حضره إخوانه،

فقال: هل فيكم من يقرأ سورة يس؟. قال رجل من القوم: نعم. قال: اقرأ ورتل وأنصتوا. فقرأ ورتل واستمع القوم، فلما بلغ: (فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون) ، خرجت نفسه. وللترمذي وقال: غريب، والدارمي، عن أنس رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن لكل شيء قلباً، وقلب القرآن يس، ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات. زاد في رواية: دون يس. وعند الأصبهاني في الترغيب عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأيس في ليلة الجمعة، غفر له. ورواه أبو يعلى ولفظه: من قرأ يس في ليلة، أصبح مغفوراً له. ورواه الطبراني من رواية الحسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه. ولفظه: من قرأ يس في يوم أو ليلة ابتغاء وجه الله، غفر له

ورواه الدارمي من هذه الطريق، ولفظه: من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفرله تلك الليلة. ورواه أبو يعلى والطيالسي بهذا اللفظ، عن ابي هريرة - أيضاً - رضي الله عنه. وللطبراني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من دام على قراءة يس كل ليلة، ثم مات، مات شهيداً. وعند مالك، وابن السنى، وابن حبان في صحيحه، عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ لس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له. وتقدم في براءة حديث علي رضي الله عنه في فضلها. وفي طه مرسل عن شهر بن حوشب كذلك. وروى أحمد بن منيع عن أمامة، عن أبي بن كعب رضي الله عنهما؟ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ يس يريد بها وجه الله غفر له. ومن قرأ يس فكأنما قرأ القرآن اثنتي عشرة مرة. ومن قرأ يس وهو في سكرات الموت،

جاء رضوان خازن الجنة بشربة من شراب الجنة حتى يسقيه وهو على فراشه حتى يموت ريان، ويبعث ريانا. وروى الِإمام أحمد في المسند عن سماك بن حرب عن رجل من أهل البادية - رضي الله عنه - أنه صلى خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسمعه يقرأ في صلاة الفجر (ق والقرآن المجيد) و (يس والقرآن الحكيم) . وللدارمي عن عطاء بن أبي رباح قال: بلغني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ يس في صدر النهار، قضيت حوائجه. ورواه أبو الشيخ ابن حيان عن ابن عباس، والبراء بن عازب، رضي الله عنهم مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: ومن قرأها في صدر النهار، وقدمها بين يدي حاجته قضيت. ورواه القاضي أبو عبد الله المحاملي في الخامس من أماليه عن عبد الله ابن الزبير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من جعل يس أمام حاجته قضيت له.

وذكر ابن هشام في السيرة في مقدمة الهجرة، اجتماع قريش في دار الندوة، ومعهم إبليس في هيئة شيخ نجدي للمشاورة قيماً يصنعونه برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن أبا جهل أشار بأن يقتلوه، وصوب رأيه الشيخ النجدي. ثم قال: قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: اجتمعوا له - يعني ليقتلوه - وفيهم أبو جهل بن هشام، فقال - وهو على بابه -: إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره، كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان ْالأردن، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ريح، ثم بعثتم من بعد موتكم. فجعلت لكم نار تحرقون فيها، قال: وخرج عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذ حفنة من تراب في يده، ثم قال: نعم، أنا أقول ذلك أنت أحدهم، وأخدذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات من: (يس والقرآن الحكيم، إنك لمن المرسلين، على صراط مستقيم - إلى قوله -: وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون) ، حتى فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هؤلاء الآيات، ولم يبق منهم رجل، إلا وقد وضع على رأسه تراباً، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب، فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال: ما تنتظرون ههنا؟. قالوا محمداً. قال: خيبكم الله، قد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلًا إلا وقد وضع على رأسه تراباً، وانطلق لحاجته، فما ترون ما بكم؟. قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه، فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يطلعونه، فيرون علياً على الفراش متسجياً بِبرْدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائماً عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى

أصبحوا فقام علي عن الفراش، فقالوا: والله لقد كان صَدَقَنَا الذي حَدَثَنَا. وللدارمي عن الحسن رحمه الله قال: من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله، ومرضاة الله غفر له، وقال: إنها تعدل القرآن كله. وله عن ابن عباس رضي الله عنهما قالت، من قرأ يس حين يصبح. أعطى يسر يومه حتى يمسى ومن قرأها في صدر ليلة، أعطى يسر ليلته حتى يصبح. وروى الأصبهاني عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ سورة يس في ليلة الجمعة، غفر له: وروى عبد الرزاق عن معمر قال: سمعت رجلًا يحدث: إن لكل شيء قلباً، وقلب القرآن يس ومن قرأها فإنها تعدل القرآن، أو قال: تعدل قراءة القرآن كله، ومن قرأ "قل يا أيها الكافرون" فإنها تعدل ربع القرآن. و"إذا زلزلت" شطر القرآن. ولأبي بكر الشافعي في الجزء السابع من "الغيلانيات"، عن عبد الله بن سمحج الجني، رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما من مريض تقرأ عنده يس، إلا مات ريان، وأدخل قبره ريان، وحشر يوم القيامة ريان. هكذا في نسختي: ابن سمحج. (وفي "تجريد الصحابة" للحافظ شمس الدين الذهبي: أنه كان

اسمه سمجح فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله. وكذا ذكره شيخنا في كتاب "الِإصابة"، وضعف عبد الله بن الحسين المصيصي شيخ الطبراني، أحد رواة الحديث. وفي الفردوس عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: سورة يس، تدعى في التوراة: المعمة.

ولأبي الشيخ عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ في ليلة (الم تنزيل السجدة) ، و (يس) ، و (اقتربت الساعة) . و (تبارك) ، كن له حرزاً من الشيطان وشركه، ورفعه الله في الدرجات يوم القيامة. وروى البزار من طريق الفضل بن عيسى الرقاشي - قال الهيثمي: وهو ضعيف - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب تبارك وتعالى قد أشرف عليهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة. فذلك قول الله تعالى: (سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) . قال: فينظر إليهم، وينظرون إليه، لا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره في ديارهم. هذا وجَعْلُ هذه السورة مرة كالقرآن يتلوه في الليلة مرة واحدة، وتارةً كالقرآن عشر مرات، وأخرى كالقرآن ثنتي عشرة مرة، لا تعارض فيه، ولله الحمد، بل هو بالنظر إليه بحسب جهات متنوعة. فالأول ناظر إلى: أن قلب الشيء لما كان هو المصرف له ولا يمكن عادة تفكره بدونه كان عديلاً له بدون قلب. والثاني وهو العشر، ناظر إلى: أن القلب كالشيء من غير قلب عشر مرات، لأن منافع البدن وهي أعوان القلب، تابعة للقلب، ولما كان يعدم تمام الانتفاع بعدم واحدة منها، عد الباقي عَدَماً. وبتلك المنافع يكون تمام المعارف، التي هي المقصودة منه. وهي قسمان: أعيان، ومعان.

الدماغ، والرئة، والكبد والطحال، والكليتان، والحواس الخمس الظاهرة، فإن في كل حاسة الدية كاملة. أو يقال: إن ذلك بالنظر إلى الحواس الظاهرة والباطنة من غير نظر إلى الأعيان، وللثالثة بالنظر إلى الحواس العشر الظاهرة والباطنة واليدين وللرجلين، فتلك اثنتا عشرة، لأن اليدين والرجلين عضوان فقط، ولهذا قوبلا بديتين. ومهما نقص من هذه الأشياء. نقص من بيان المدركات بحسبه. فكأن سورة يس مع القرآن بدونها بهذه المنزلة في البيان، والله أعلم. وروى الحافظ ابن رجب في كتابه "الاستغناء بالقرآن" من طريق أبي الطيب عبد المنعم بن غلبون، عن مُجَّاعة بن الزبير، قال: دخلت على حمزة الزيات فوجدته يبكى، فقلت: ما يبكيك؟. فقال: فكيف لا أبكي وقد رأيت ربي تبارك وتعالى الليلة في منامي، كأني عُرضت على الله،؟ فقال لي: يا حمزة اقرأ القرآن كما علمتك، فوثبت قائماً، فقال لي: يا حمزة اجلس فإني أحب أهل القرآن. ثم قال لي: يا حمزة اقرأ، فقرأت حتى بلغت سورة طه فقلت: "طوى وأنا اخترتك" فقال: بين طوى وأنا اخترناك. ثم قال لي:

اقرأ، فقرأت حتى بلغت سورة يس، فقلت: "تنزيل العزيز الرحيم". فقال: جل وعز: قل: "تنزيل العزيز الرحيم"، يا حمزة كذا قرأت، وكذا أقرأت حملة العرش، وكذا يقرؤه المقربون، ومضى في الأعراف منام له حسن أيضاً.

سورة الصافات

سورة الصافات وتسمى: الزينة. مكية كلها إجماعاً. قاله ابن الجوزي. عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها وآيها مائة وثمانون وآية في البصرى، وأبي جعفر من المدني، وآيتان في عدد الباقين. اختلافها آيتان: (وما كانوا يعبدون) . لم يعدها البصرى وحده. (وإن كان ليقولون) وهو الثاني، لم يعدها أبو جعفر، وعدها الباقون. وشيبة من المدنيين. لقوله تعالى فيها: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) .

مقصودها

وفيها مما يشبه الفواصل. وليس معدوداً بإجماع، ستة مواضع: (الملأ الأعلى) ، (أم من خلقنا) ، (ماذا ترى) . (ما تؤمر) . (وعلى إسحاق) . (وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا) . وعكسه ثلاثة: (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) . (أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ) . (كيف تحكمون) . ورويها سبعة أحرف: فقد منبر. مقصودها ومقصودها: الاستدلال على آخر يس من التنزه عن النقائص. اللازم منه رد العباد للفصل بينهم بالعدل، اللازم منه الوحدانية مطلقاً في الإِلهية وغيرها، وذلك هو المعنى الذي أشار إليه تسميتها بالصافات. لأن الصف يلزم منه الوحدة في الحشر. باجتماع التفرق، وفي المعنى باتحاد الكلمة. مع أن المراد منه هنا: الاتحاد في التنزيه

(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فتقدم في الأعراف حديث في فضل عشر آيات من أولها. وروى صاحب الفردوس عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله: من قرأ يس والصافات ليلة الجمعة، ثم سأل الله تعالى، أعطاه سؤله. وفي الترغيب بصيغة "روى" عند الطبراني، عن عبد الله بن أرقم. عن أبيه رضي الله عنه قال: من قال دبر كل صلاة: سبحان ربك ربِّ العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين "، فقال اكتال بالجريب الأوفى من الأجر. والجريب - بفتح الجيم، وآخره موحدة -: مكيال ضخم، هو بمقدار أردبين، وذلك أربعة أخماس وسق، والوسق: ستون صاعاً، والصاع: أربعة أمداد، والمد: رطل وثلث، وهو ملء كفى الإِنسان المعتدل إذا ملأهما ومد يده وبه سمي مُدًّا.

قال صاحب القاموس: وقد جربت ذلك فوجدته صحيحاً. ولابن السني في اليوم والليلة، وعبد بن حميد في المسند، والبيهقي في الدعوات، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا فرغ من صلاته لا أدري قبل أن يسلم أو بعده، يقول: ولفظ البيهقي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير مرة، ولا مرتين يقول في آخر صلاته أو حين ينصرف. ولفظ عبد: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول دبر الصلاة، لا أدري قبل التسليم، أو بعد التسليم. وفي روايته: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم من صلاة قال: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182) . وروى عبد الرزاق في تفسيره وأبو نعيم في الحلية، والبغوي في تفسيره عن علي رضي الله عنه قال: من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليقل آخر مجلسه، أو حين يقوم: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182) . ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره بسند صحيح إلى الشَعْبِى مرسلاً بهذا اللفظ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى من

الأجر يوم القيامة فليقل آخر مجلسه، أو حين يريد أن يقوم: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182) .

سورة ص

سورة ص وتسمى: سورة داود. مكية. قال الجعبري: لذكر الآلهة. وقيل: مدنية، انتهى. فلا يغتر بقول أبي حيان: مكية بلا خلاف. وكذا قال ابن الجوزي: مكية بإجماعهم. عدد آياتها وفواصلها وآيها - قال الِإمام أبو عمرو الداني -: ثمانون وخمس، آيات في البصرى. وهو عدد أيوب ابن المتوكل. وست في عدد المدنيين والمكي والشامي،

مقصودها

وعاصم الجحدري وثمان في الكوفي. اختلافها ثلاث آيات: (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) عدها الكوفي وحده. (كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) ، لم يعدها البصري، وعدها الباقون. (وَالْحَقَّ أَقُولُ) . عدها الكوفي وعاصم الجحدري من البصري. ولم يعدها الباقون. ولا أيوب بن المتوكل من البصري. وفيها مما يشبه الفواصل وليس معدوداً بإجماع، أربعة مواضع: (من ذكرى) ، (قوم نوح وعاد) ، (وقوم لوط) (لداود سليمان) . ورويها عشرة أحرف: قطرب، صد، من، ولج. مقصودها ومقصودها: بيان ما ذكر في آخر الصافات، من أن جند الله هم الغالبون، وإن رُئي أنهم ضعفاء، وإن تأخر نصرهم غلبة، أخرها لهم سلامة

للفريقين، لأنه سبحانه واحد لكونه محيطاً بصفات الكمال. ومن الحكمة البالغة: جعلهم - أولا - ضعفاء، لأن نصرهم حينذاك أدل على القدرة فإنهم لو كانوا أقوياء، لأسند النصر إلى قوتهم، لا إلى قدرة ربهم سبحانه. وعلى ذلك دلت تسميتها بـ "ص"، لأن مخرجه من طرف اللسان وبين أصول الثتيتين السفليين وله من الصفات: الهمس، والرخاوة، والِإطباق. والاستعلاء والصفير. ولأن ما له من الصفات العالية أكثر من ضدها وأفخم، وأعلى وأضخم. ولذلك ذكر من فيها من الأنبياء الذين لم يكن لهم على أيديهم هلاك، بل ابتلوا وعوفوا، وسلمهم الله من أعدائهم من الجن والإِنس. وإلى هذا المقصد الِإشارة بما روى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وغيره من أن معناه: الله صادق فيما وعد، أو صَادَ محمد قلوب الخلق واستمالها. وتسمى سورة داود عليه السلام، كما قاله ابن الجوزي. ولا شك أن حاله - صلى الله عليه وسلم - أدل أحوال منِ فيها من الأنبياء على هذا المقصد لما كان فيه من الضعف أو لا، والملك آخراَ، مع ما في ذلك من الإِشارة إلى جعل نبينا - صلى الله عليه وسلم - خليفة الله في عباده، وأنه وأتباعه يملكون جميع الأرض، بطولها والعرض، إلى أن يكون ذلك على يد أعظم هذه الأمة عيسى ابن مريم،

فضائلها

الذي هو من نسل داود عليهما السلام. فضائلها وأما فضائلها: فروى البخاري، وأبو داود، والترمذي، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن مجاهداً قال له: أأسجد في "ص"؟. فقرأ: (ومن ذريته داود وسليمان) - حتى أتى -: (فبهداهم اقتده) . فقال: نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ممن أمر أن يقتدي بهم.

وفي رواية عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: ليس من عزائم السجود، وقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها. وفي رواية للنسائي: أنه قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في "ص"، وقال: سجدها داود عليه السلام توبة، ونسجدها شكراً. ولأبي داود عن أبي سعيد رضي اللَه عنه قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة "ص" وهو على المنبر، فلما بلغ السجدة نزل فسجد، وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها، فلما بلغ السجدة، تيسر الناس للسجود، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هي توبة نبي، ولكني رأيتكم تيسرتم للسجود، فنزل فسجد، وسجدوا. ومعنى "تَيَسرْتُمْ ": من اليسر، ضد العسر، تهيأتم. وهو معنى قوله في رواية أخرى: "تشَزَنْتُم " بمثناة فوقانية، ثم شين معجمة، ثم زاي ثم نون.

ورواه الدارمي في الصلاة ولفظه: قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فقرأ "ص"، فلما مر بالسجدة نزل فسجد، وسجدنا معه، وقرأها مرة أخرى، فلما بلغ السجدة تيسرنا للسجود، فلما رآنا قال: إنما هي توبة نبي، ولكني أراكم قد استعددتم للسجود فنزل وسجد وسجدنا. وللترمذي واللفظ له - وقال: غريب - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما - قال النووي في شرح المهذب: قال الحاكم: هو حديث صحيح - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله رأيتني وأنا نائم، كأني أصلي خلف شجرة فسجدت، فسجدت الشجرة لسجودي. وفي رواية ابن حباد: فرأيت كأني قرأت سجدة فسجدت فسجدت الشجرة كأنها سجدت بسجودي، فسمعتها تقول: اللهم اكتب لي بها أجراً، وحُطَّ عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود. قال ابن عباس رضي الله عنهما: فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ سجدة ثم سجد. فقال مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة. ورواه أبو يعلى والطبراني عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: رأيت فيما يرى النائم كأني تحت شجرة، وكأن الشجرة تقرأ "ص"، فلما أتت على السجدة سجدت، فقالت في سجودها: اللهم اغفر لي بها، اللهم حط بها عني وزراً، وأحدث لي بها شكراً وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود. فغدوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال: أسجدت يا أبا سعيد؟ قلت: لا

قال: فأنت أحق بالسجود من الشجرة ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة "ص"، ثم أتى على السجدة، وقال في سجوده، ما قالت الشجرة في سجودها. قال المنذري: وفي إسناده يمان بن نصر لا أعرفه. وروى الِإمام أحمد - قال المنذري: ورواته رواة الصحيح - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أنه رأى رؤيا أنه يكتب "ص"، فلما بلِغ إلى سجدتها، رأى الدواة والقلم وكل شيء بحضرته انقلب ساجداَ. قال: فقصصتها على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يزل يسجد بها. وروى النسائي في السنن، والبيهقي في الدعوات عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تعارَّ من الليل قال: لا إله إلا الله الواحد القهار رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار. وفي كتاب "الاستغناء بالقرآن" لابن رجب عن ابن أبي الدنيا: أنه روى عن مقاتل بن حيان قال: صليت خلف عمر بن عبد العزيز فقرأ: (وقفوهم إنهم مسئولون) ، فجعل يكررها لا يستطيع أن يجاوزها، يعني من البكاء.

سورة الزمر

سورة الزمر وتسمى: الغرف. مكية. قال ابن الجوزي: رواه العوفي، وابن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما - وبه قال الحسن ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، وجابر بن زيد. وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إلا آية نزلت بالمدينة: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) الآية. وإلا ثلاثاً في وحشي قاتل حمزة - رضي الله عنه -

عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها

عنهما: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) الآية، إلى آخر الآيات الثلاث إلى -: (وأنتم لا تشعرون) . وقال مقاتل: (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ) مدنية. وكذا: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) . ذكر ذلك ابن الجوزي وغيره. عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها وآيها خمس وسبعون فيالكوفي، وثلاث في الشامي - واثنتان في عدد الباقين. اختلافها سبع آيات: (فيه يختلفون) ، لم يعدها الكوفي، وعدها الباقون. (مخلصاً له الدين) الثاني، عدها الكوفي والشامي، ولم يعدها الباقون. والأول لا خلاف فيه، أنه رأس آية. (له ديني) عدها الكوفي، لم يعدها الباقون. (فبشر عباد) لم يعدها المدني الأول والمكي، وعدها الباقون. (من تحتها الأنهار) عدها المدني الأول والمكي، ولم يعدها الباقون.

مقصودها

(من هادٍ) الثاني. و (فسوف تعلمون) . عدها الكوفي، ولم يعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفواصل، وليس معدوداً بإجماع، ستة مواضع: (الدين الخالص) (ما يشاء) بعده (بما كنتم تعملون) ، بعده: إنه عليم، (كلمة العذاب) (متشاكسون) ، (وجيء بالنبيين) . ورويها ستة أحرف: من لبدر. مقصودها ومقصودها: الدلالة على أنه سبحانه صادق الوعد، وأنه غالب لكل شيء، فلا يعجل، لأنه لا يفوته شيء ويضع الأشياء في أوفق محالها. وعلى ذلك دلت تسميتها بالزمر، للإِشارة بها إلى أنه سبحانه أنزل كلا من المحشورين داره المعدة له، بعد الإِعذار في الإِنذار، والحكم بينهم بما استحقه أعمالهم عدلا منه سبحانه يا أهل النار، وفضلًا على المتقين الأبرار. وعلى مثل ذلك دلت تسميتها بالغرف، ولا سيما مع ملاحظة ختم الآية بقوله تعالى: (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ) .

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فتقدم في سورة الِإسراء حديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا ينام حتى يقرأ بني إسرائيل والزمر.

وروى الطبراني في الكبير - قال الهيثمي: بأسانيد، رجال الأول رجال الصحيح غير تمام بن بهدلة، وهو ثقة وفيه ضعف - عن أبي الضحى قال اجتمع مسروق وشتير ابن شكل في المسجد، فتقوص إليهما حلق المسجد فقال مسروق: ما أرى هؤلاء جلسوا إلينا إلا ليسمعوا منا خيراً، فإما أن تحدث عن عبد الله وأصدقك، وإما أن أحدث عن عبد الله وتصدقُني. فقال: حدث يا أبا عائشة فقال مسروق: أسمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: إنَ أجمع آية في القرآن: حلال وحرام، أمر ونهي: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) إلى آخر الآية؟ قال: نعم. قال: وأنا قد سمعته. قال: فهل سمعت عبد الله بن مسعود يقول: إن أكبر آية في كتاب الله تفويضا: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لايحتسب) ؟. قال: نعم. قال: وأن قد سمعته. قال: فهل سمعت عبد الله بن مسعود يقول: إن أشد آية في القرآن فرحاً: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) إلى آخر الآية؟ قال: نعم. قال: وأنا قد سمعته. وفي رواية: أن شتيرا هو الذي حدث وقال فيه: حدثنا عبد الله بن مسعود: إن أعظم آية في كتاب الله:

(اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) . قال مسروق: صدقت. والباقي بنحوه. ورواه أبو عبيد في كتاب الفضائل ففال: حدثنا عمر بن عبد الرحمن. عن منصور بن المعتمر عن الشعبي قال: قال: التقى مسروق بن الأجدع وشتير بن شكل، فقال شتير لمسروق: إما أن تحدث عن عبد الله رضي الله عنه وأصدقك وإما أن أحدثك وتصدقني، فقال مسروق: حدث وأصدقك قال شتير: سمعت عبد الله يقول: ما خلق الله من سماء ولا أرض، ولا جنة ولا نار أعظم من آية في سورة البقرة (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ثم قرأها حتى أتمها، فقال مسروق: صدقت. قال: وسمعت عبد الله رضي الله عنه يقول: ما في القرآن آية أجمع لخير ولا لشر، من آية في سورة النحل: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) . قال: صدقت. قال: وسمعت عبد الله رضي الله عنه يقول: ما في القرآن أعظم فرحاً من آية في سورة الغرف: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) . قال: صدقت.

قال: وسمعت عبد الله يقول: ما في القرآن أكثر وأكبر تفويضاً من آية في سورة النساء القصري: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) . قال: صدقت. قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن عبد العزيز بن أبي سلمة، عن محمد بن المنكدر وصفوان بن سليم قالا: التقى ابن عباس وعبد الله بن عمرو، رضي الله عنهم، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: أي آية في كتاب الله أرجى؟ فقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قول الله تبارك وتعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ) . فقال ابن عباس: لكن قول الله تبارك وتعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) . قال ابن عباس: فرضي منه بقوله: بلى. قال: فهذا لما يعترض في الصدر فيما يوسوس به الشيطان. وروى أبو الشيخ والبيهقي، عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: كنا جلوساً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة، فهاجت ريح، فوقع ما كان فيها من ورق نخر وبقي ما كان من ورق أخضر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

ما مثل هذه الشجرة؟. فقال القوم: الله ورسوله أعلم، فقال: مثل المؤمن إذا اقشعر من خشية الله وقعت عنه ذنوبه، وبقيت حسناته. وروى الطبراني في الكلبي - قال الهيثمي في مجمع الزوائد: وفيه أبين بن سفيان، ضعفه الذهبي - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى وحشي بن حرب قاتل حمزة، رضي الله عنهما يدعوه إلى الإِسلام، فأرسل إليه: يا محمد كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أنه من قتل أو أشرك أو زنا، يلق أثاماً، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً. وأنا قد فعلت ذلك كله، فهل تجد لي من رخصة؟. فأنزل الله تعالى: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) . فقال وحشي: هذا شرط شديد، لعلي لا أقدر عليه فهل لي غير ذلك؟. فأنزل الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) . فقال وحشي: أراني بعد ذلك في شبهة، فلا أدري أيغفر لي، أم لا، فهل غير هذا؟ فأنزل الله عز وجل:

(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) . فقال وحشي: هذا، فجاء فأسلم، فقال المسلمون: هذا له خاصة، أم المسلمين عامة؟. فقال: بل للمسلمين عامة. قال البغوي: وروى ابن عمر رضي الله عنهما، أن هذه الآيات نزلت في عياش أبي ربيعة والوليد بن الوليد، ونفر من المسلمين كانوا قد

أسلموا ثم فُتِنُوا، وكنا نقول: لا يقبل الله من هؤلاء صرفاً ولا عدلاً أبداً. فأنزل الله هذه الآيات، فكتبها عمر بن الخطاب رضي الله عنه بيده، ثم بعثها إليهم، فأسلموا وهاجروا. فأخبرهم بالذي أبكاهما. وقال ابن رجب: وروى الجوزجاني، وابن أبي الدنيا، والطبراني، عن عباد المنقري. قال: قرأت على محمد بن المنكدر آخر الزمر، فبكى الشيخ بكاء غير متباك. ثم قال: حدثني عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخر الزمر وهو على المنبر، فتحرك المنبر من تحته مرتين. ورواه العقيلي فقال: آخر سورة الرحمن. قال ابن رجب: والرواية الأولى أصح. وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام من الليل افتتح صلاته فقال: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، (فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ، اهدني لما اختلفت فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي إلى

صراط مستقيم. وفي كتاب "الاستغناء بالقرآن" لابن رجب: أن أبا نعيم روى عن يحيى بن الفضل الأنيسي قال: سمعت بعض من يذكر عن محمد بن المنكدر، أنه بينما هو ذات ليلة قائم يصلي، إذا اشتد بكاؤه فكثر، حتى فزع له أهله وسألوه: ما الذي أبكاه، فاستعجم عليهم وتمادي في البكاء. فأرسلوا إلى أبي حازم، فأخبروه، فجاء أبو حازم إليه فإذا هو يبكي فقال: يا بن أخي ما الذي أبكاك حتى رُعت أهلك؟. أفمن علة، أم ما بك؟. فقال: إنه مرت بي آية من كتاب الله. قال: وما هي؟. قال: قول الله عز وجل: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) . قال: فبكى أبو حازم معه فاشتد بكاؤهما - فقال بعض أهله لأبي حازم: جئنا بك لتفرج عنه، فزدته.

سورة غافر

سورة غافر وتسمى: الطَّول، والمؤمن. مكية إجماعاً. قال الزمخشري: قال الحسن: إلا قوله: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) لأن الصلوات نزلت بالمدينة. انتهى. وتقدم رد مثل هذا في لقمان. وقال ابن الجوزي والأصبهاني: وحكى عن ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة: أن فيها آيتين نزلتا بالمدينة، وهما قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ) والتي بعدها. وقال الزجاج: ذكر أن الحواميم كلها نزلت بمكة.

عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها

وقال أبو حيان: الحواميم مكيات. قالوا: بإجماع. ونقله الزمخشري وأتباعه عن ابن عباس وابن الحنفية - رضي الله عنهما -. عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها وآيها ثمانون وآيتان في البصرى، وأربع في المدنيين والمكي، وخمس في الكوفي، وست في الشامي. اختلافها تسع آيات: (حم) عدها الكوفي، ولم يعذها الباقون. (يوم التلاق) لم يعدها الشامي، وعدها الباقون. (يوم هم بارزون) ، عدها الشامي، ولم يعدها الباقون. (كاظمين) لم يعدها الكوفي، وعدها الباقون. (وأورثنا بني إسرائيل الكتاب) لم يعدها المدني الأخير والبصري. وعدها الباقون.

(وما يستوي الأعمى والبصير) ، عدها المدني الأخير والشامي، ولم يعدها الباقون. (والسلاسل يسحبون) ، عدها المدني الأخير والكوفي والشامي. ولم يعدها الباقون. (في الحميم) عدها المدني الأول والمكي، ولم يعدها الباقون. (أينما كنتم تشركون) ، عدها الكوفي والشامي، ولم يعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفواصل، وليس معدوداً بإجماع تسعة مواضع: (شديد العقاب) ، (مخلصين له الدين) ، موضعان: الأول بعده (ولو كره الكافرون) والثاني بعده (الحمد لله رب العالمين) . (لدى الحناجر كاظمين) ، (من حميم ولا شفيع) . (وهامان وقارون) (تولون مدبرين) ، (يتحاجون في النار) (والسلاسل) .

مقصودها

وعكسه موضعان: (يطاع) ، (يقوم الأشهاد) ورويها ثمانية أحرف، يجمعها، من عقل دبَّر. مقصودها ومقصودها: الاستدلال على آخر التي قبلها من تصنيف الناس في الآخرة إلى صنفين، وتوفية كل ما يستحقه على سبيل العدل، فإن فاعل ذلك له العزة الكاملة، والعلم الشامل. فمن يسلم أمره كله إليه، وجادل في آياته الدالة على القيامة أو غيرها. بقوله فإنه يخزيه، فيعذبه ويرديه. وعلى ذلك دلت تسميتها بغافر، إشارةً إلى الآية التي فيها هذه الصفة. فإنه لا يقدر على غفران ما يشاء، لكل من يشاء، إلا كامل العزة، ولا يعلم جميع الذنوب ليسمى غافراً لها إلا بالغ العلم. وكذا في المتاب والعقاب، وكذا الدلالة بتسميتها بالطول بمثل ذلك. وبالمؤمن، فإن قصته تدل على هذا المقصد. ولا سيما أمر القيامة. الذي هو جل المقصود والمدار الأعظم، لمعرفة المعبود.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى أبو عبيد في كتاب الفضائل، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن لكل شيء لبابا ولباب القرآن آل حم. أو قال الحواميم. وروى أيضاً، عن عبد الله - يعني ابن مسعود - رضي الله عنه قال: إذا وقعتُ في آل حم وقعت في روضات دمثات، أتأنَق فيهن. وأيضاً عنه، أنه قال: حم ديباج القرآن.

وأيضاً عن مسعر أنه قال: بلغني أنَّه كُنَّ يُسمَّيْنَ العرائس. ورواه الدارمي في مسنده فقال: حدثنا جعفر بن عون، عن مسعر. عن سعد بن إبراهيم قال: إن الحواميم يسمين العرائس. وقال الأصفهاني: وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إن لكل شيء ثمرةً وإن ثمرة القرآن ذوات حم، هن روضات مخصبات متجاورات، فمن أحب أن يرتفع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم. وروى أبو عبيد عن محمد بن قيس قال: رأى رجل في المنام سبع نسوة حسان في مكان واحد، فقال: من أنتن بارك الله فيكن؟. فقلن: إن شئت كنا لك، نحن الحواميم أو قال: آل حميم. وأيضاً عن ابن سيرين: أنه كان يكره أن يقول: الحواميم. ويقول: آل حميم. قال أبو عبيد: كما يقول: هؤلاء آل فلان، كأنك أضفتهم إليه. وقال ابن الجوزي في: زاد المسير: قال ابن قتيبة: إن "حم" اسم

من أسماء الله تعالى، أضيفت هذه السور إليه لشرفها، فقيل: آل حميم. قال الكميت: وجدنا لكم في آل حميم آية. . . تأولها منا تقي ومعرب وقد يجعل "حم" اسماً للسورة، ويدخل الِإعرابَ ولا ينصرف، ومن قال هذا، قال في الجمع الحواميم. كما يقال: طس، والطواسين. وقال محمد بن القاسم الأنباري: العرب تقول: وقع في الحواميم، وفي آل حميم. وأنشد أبو عبيدة: حلفت بالسبع اللواتي طولت. . . وبمئين بعدها قد أمبئت

وبمثاني ثنيت فكررت. . . وبالطواسين اللواتي ثلثت وبالحواميم اللواتي سبعت. . . وبالمفصل اللواتي فصلت انتهى ما في زاد المسير. وروى البغوي بسنده عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: إن مثل القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلًا، فمر بأثر غيث، فبينما هو يسير فيه ويتعجب منه إذ هبط على روضات دمثات، فقال: عجبت من الغيث الأول فهذا أعجب وأعجب فقيل له: إن مثل الغيث الأول، مثل عظم القرآن، وإن مثل هؤلاء الروضات الدمثات مثل آل حم في القر وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ الدخان كلها، وأول حم غافر، إلى: (إليه المصير) ، وآية الكرسي، حين يمسي حفظ بها حتى يصبح، ومن قرأها حين يصبح حفظ بها حتى يمسي.

قال الترمذي: غريب، وقد تكلم بعضهم في عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي مليكة - يعني: أحد رواته - من قبل حفظه. ورواه الدارمي، ولفظه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ آية الكرسي وفاتحة المؤمن - إلى قوله -: (إليه المصير) لم ير شيئاً يكرهه حتى يمسي، ومن قرأها حين يمسي لم ير شيئاً يكرهه حتى يصبح. وقال النووي رحمه الله: وروى الترمذي وابن السني بإسناد ضعيف. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ حم المؤمن - إلى قوله -: (إليه المصير) وآية الكرسي حين يصبح، حُفظ بها حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بها حتى يصبح. وروى أبو داود، والترمذي، والترمذي. واللفظ له وقال: حسن صحيح، والنَّسائي، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح الِإسناد، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الدعاء هو العبادة، ثم قرأ: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) .

وروى أبو عبيد عن امرأة من أهل بيت عامر بن عبد قيس، أن عامر بن عبد قيس رحمه الله قرأ ليلة من سورة المؤمن، فلما انتهى إلى: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ) قالت: فكظم، أي سكت مكروبا، سكوت من انسدت مجاري أنفاسه، حتى أصبح. أو قالت: فلم يزل يرددها حتى أصبح.

سورة فصلت

سورة فصلت (السجدة) وتسمى: المصابيحِ، وفصلت. مكية كلها إجماعاَ. قاله ابن الجوزي. عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها وآيها خمسون وآيتان في البصرى والشامي، وثلاث في المدنيين والمكي. وأربع في الكوفي. اختلافها آيتان: (حم) عدها الكوفي، ولم يعدها الباقون. (عاد وثمود) لم يعدها البصري والشامي، وعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفواصل، وليس معدوداً بإجماع، موضعان:

(عذاباً شديداً) . (هدى وشفاء) . ورويها عشرة أحرف: رز، طب، ظن، مض، ضد. مقصود ها ومقصودها: الإِعلام بأن العلم إنما هو ما اختاره المحيط بكل شيء قدره، وعلماً من علمه لعباده فشرعه لهم فجاءتهم به عنه رسله. وذلك العلم هو الحامل على الإيمان بالله، والاستقامة على طاعته. المقترن بهما النافع في وقت الشدائد، كما تقدم تصريحاً في الزمر في قوله: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) . وتلويحاً آخر غافر في قوله تعالى: (قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) الآية. فتكون عاقبة الكشف الكلي حين يكون سبحانه سمع العالم الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، إلى آخر الحديث القدسي. وعلى ذلك دل اسمها "فصلت " (بالإِشارة إلى ما في الآية المذكورة فيها

هذه الكلمة من الكتاب المفصَّل لقوم يعلمون. والمصابيح بالِإشارة إلي اعتبار ما فيها من لطف الصنع، فتكون هدى للباطن، كما أنها هدى في الظاهر، والسجدة بالِإشارة إلى ما فيها آيتها من الطاعة بالسجود الذي هو أقرب مقرب من الملك الديان، والتسبيح الذي هو المدخل للإيمان.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى الدارمي عن طاووس قال: فضلت حم السجدة وتبارك على كل سورة في القرآن بستين حسنة. وروى عبد بن حميد في مسنده، والبيهقي في الدلائل، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال أبو جهل والملأ من قريش: لقد انتشر علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلًا عالماً بالسحر والكهانة والشعر فكلمه، ثم أتانا ببيان من أمره؟ ، فقال عتبة: لقد سمعت بقول السحر والكهانة والشعر، وعلمت من ذلك علماً، وما يخفي في أن كان كذلك، فأتاه فلما أتاه قال له عتبة: يا محمد أنت خير أم هاشم، أنت خير أم عبد المطلب، أنت خير أم عبد الله؟ فلم يجبه. قال: فيم تشتم آلهتنا، وتضلل آباءنا، فإن كنت إنما بك الرياسة، عقدنا ألويتنا لك، فكنت رأسنا ما بقيت، وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي أبيات قريش شئت، وإن كان بك المال. جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك؟. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساكت لا يتكلم، فلما فرغ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. (حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) . حتى بلغ: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه، ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم. فقال أبو جهل: يا معشر قريش، والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته، فانطلقوا بنا إليه فأتوه

فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما حَسِبْنَا إلا أنك قد صبوت إلى محمد وأعجبك أمره، فإن يَك بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد؟. فغضب وأقسم بالله أنه لا يكلم محمداً أبدا، وقال لقد علمتم أني من أكثر قريش مالًا، ولكني أتيته - فقص عليهم القصة - فأجابني بشيء والله ما هو بسحر، ولا شعر، ولا كهانة، قرأ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، (حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا "لقوم يعقلون" لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) . قال يحيى: كذا قال: لقوم يعقلون - حتى بلغ: (فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) . فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب. وروى البيهقي في الدلائل - أيضاً - من طريق ابن إسحاق قال: حدثني يزيد بن زياد مولى بني هاشم عن محمد بن كعب قال: حُدِّثتً أن عتبة ابن ربيعة - وكان سيداً حليماً قال ذات يوم وهو جالس في نادي قريش. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس وحده في المسجد: يا معشر قريش ألا أقوم إلى هذا فأكلمه فأعرض عليه أموراً لعله أن يقبل منا بعضها، ويكف عنا؟. قالوا: بَلَى يا أبا الوليد، فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث فيما قال له عتبة، وفيما عرض عليه من المال والملك وغير ذلك حتى إذا فرغ عتبة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم، قال فاستمع مني، قال: أفعل. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بسمِ الله الرحمن الرحيم (حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) ، فمضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤوها

عليه، فلما سمعها عتبة أنصت لها، وألقى بيديه خلف ظهره معتمداً عليها. يستمع منه، حتى انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السجدة، فسجد فيها ثم قال: سمعت أبا الوليد؟ قال: سمعت قال: فأنت وذاك، فقام عتبة إلى أصحابه، فقال " بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي. ذهب به، فلما جلس إليهم، قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟. قال: ورائي: أنِّي - والله - قد سمعت قولاً ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بِالشعر ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني، واجعلوها بي، خَلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، واعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب، فقد كفيتموه بغيركم، وأن يظهر على العرب، فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك - والله - يا أبا الوليد بلسانه؟ ، فقال هذا رأي، فاصنعوا ما بدا لكم. وروى البيهقي في الأسماء والصفات عن الحاكم، عن جبير بن نفير. عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أحب إليه من شيء خرج منه يعني: القرآن.

ورواه أيضاً من هذا الوجه عن جبير، عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنهما، وقال: قال أبو عبد الله: هذا حديث صحيح الإِسناد - وقال البيهقي: ويحتمل أن يكون جبير رواه عنهما جميعاً، ورواه غيره عن أحمد بن حنبل، دون ذكر أبي ذر.

سورة حم عسق

سورة حم عسق وتسمى: عسق، والشورى. مكية. قال ابن الجوزي وغيره: عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقاله الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة والجمهور. وحكى عن ابن عباس وقتادة، أنهما قالا: إلا أربع آيات من قوله: (قل لا أسألكم عليه أجراً) إلى آخر الأربع،، فنزلن بالمدينة. وتبعه عليه أبو حيان. عدد آياتها وفواصلها وآيها خمسون آية فيما سوى الكوفي.

مقصودها

وتزيد ثلاث آيات عند الكوفي لانفراده بعدِّ (حم) ، وبعدِّ (عسق) وبعدِّ (كالأعلام) . فاختلافها هذه الثلاث، انفرد بعدهن الكوفي، ولم يعدهن الباقون. وفيها مما يشبه الفواصل وليس معدوداً بإجماع، ستة مواضع: (أن أقيموا الدين) ، (كَبُر على المشركين) ، (من كتاب) (طرف خفي) ، (عليهم حفيظا) ، (من يشاء عقيماً) . ورويها تسعة أحرف: قدم، لصب، نزر مقصودها ومقصودها: الاجتماع على الدين، الذي أساسه الإيمان، وأمُّ دعائمه الصلاة، وروح أمره الألفة بالمشاورة، المقتضية لكون أهل الدين كلهم فيه سواء، كما أنهم في العبودية لشارعه سواء.

وأعظم نافع في ذلك الِإنفاق، والمواساة فيما في اليد، والعفو والصفح عن المسيء والِإذعان للحق، والخضوع للأمر، وإن صعب وشق، وذلك كله هو الداعي إليه هذا الكتاب الذي هو روح جسد هذا الدين، المعبر عما دعا إليه من محاسن الأعمال، وشريف الخلال بالصراط المستقيم. وتسميتها بالشورى واضح المطابقة لذلك لما في آياتها، وكذلك بالأحرف المقطعة فإنها جامعة للمخارج الثلاثة: الحلق، والشفة، واللسان، وكذا جمعها لصنفي المنقوطة والعاطلة، ووصفي المجهورة والمهموسة. وكذا تسميتها ببعضها، بدلالة الجزء على الكل، على أن هذه الحروف يجوز أن تكون إشارة إلى كلمات منتظمة من كلام عظيم، يشير إلى معنى هذا الجمع، نحو أن يقال: حكمة محمد عَلَتْ وعمت، فشفت سقام القلوب. ويجوز أن تعتبر مفردة، فتكون إشارة إلى أسرار تملأ الأقطار، وتشرح الصدور والأفكار. فإن نظرت إلى مخارجها، وجدتها قد حصل الابتداء فيها باد في وسط الحلق إلى اللسان باسم الحاء، وثنى بأوسط حروف الشفة وهي الميم. وحصل الرجوع إلى وسط الحلق بأقصاه من اللسان في اسم العين، وهو جامع للحلق واللسان. وقصد ثالثاً إلى اللسان بالسين، الذي هو مع كونه أوسط حروف اسمه من أدق ما يخرج منه إلى الشفتين وهو رأسه، وله التصاق بالثنيتين السفليين، واتصال بأعلى الفم، ففيه بهذا الاعتبار "حم" ثُمَّ حصل بعد هذا الظهور بطون إلى أصل اللسان، وهو أقصاه من الشفة بالقاف. ولاسم هذا الحرف جمع بالابتداء بأصل اللسان مع سقف الحلق. والاختتام بأصل الشفة العليا، والثنيتين السفليين. ففي هذه الحروف ثلاثة وهي أكثرها لها نظر، بما فيها الجمع إلى

مقصود السورة وقد اتسق الابتداء فيها بما كان من حرفين، جمعهما مخرج بالأعلى تْم بالأدنى، إشارة إلى أنه يكون لأهل هذا الدين بعد الظهور بطون، كما كان في أول الِإسلام، حيث حصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقاربه في الشِّعب. وفي ذلك أيضاً إشارة إلى أنه من تحلية الظاهر ينتقل إلى تصفية الباطن: مَنْ زيَّن ظاهره بجميع الأعمال الصالحة، صحح الله باطنه بالمراقبة الخالصة الناصحة، على أن هذا التدلي بُشرى بأن الحال الثاني يكون أعلى من الأول، كما كان أعلى من الأول، كما كان عند الظهور من الشِّعب، بما حصل من نقض الصحيفة الظالمة، لأن الثاني من مراتب هذه الحروف أقوى صفة مما هو أعلى منه مخرجاً، فإن الحاء لها من الصفات: الهمس والرخاوة، والاستفال والانفتاح، والميم له من الصفات: الجهر والانفتاح، والاستفال، وبين الشدة والرخاوة. والعين لها من الصفات ما للميم سواء. والسين لها من الصفات: الهمس والرخاوة، والاستفال والانفتاح، والصفير. والقاف لها من الصفات: الجهر والشدة، والانفتاح والاستعلاء، والقلقلة. فالحرفان الأخيران لكل منهما خمس صفات، فتلك عشر كاملة، أغلبها قوة، هي بمنزلة ما بعد هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه عشر سنين، أغلبها نصر وفتح. والحرف الأخير منهما كله قوة، بمنزلة الخمس الأخيرة من سني الهجرة من سنة الحديبية التي هي أول الفتح، إلى سنة الوفاة، فإنها كلها فتح. والحرف الأول من أصل حروف هذا الاسم، أكثر صفاته الضعف. ويزيد بالِإمالة التي قرأ بها كثير من القراء. والثاني والثالث، هما على السواء في القوة والضعف، وهما إلى القوة

ارجَحَ قليلاً، وذلك كما تقدم من وسط الحال عند الخروج من الشِّعب. والرابع فيه قوة وضعف، وضعفه أكثر، فإن فيه للضعف ثلاث صفات، وللقوة صفتين. وذلك كما كان حال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند آخر أمره بمكة الشرّفة حين مات الوزيران: خديجة رضي الله عنها، وعمه أبو طالب. ولكن ربما كانت الصفتان القويتان غالبتين على الصفات الضعيفة، بما فيهما بالانتشار بالصفير، والجمع الذي مضت الِإشارة إليه، من الإِشارة إلى ضخامة تكون باجتماع أنصار كما وقع من بيعة الأنصار. والخامس - وهو الأخير - كله قوة، كما وقع بعد الهجرة عند اجتماع الكلمة وظهور العظمة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "فلما هاجرنا انتصفنا من القوم، وكانت سجال الحرب بيننا وبينهم ". ثم تكاملت القوة عند تكامل الاجتماع، بعد قتال أهل الردة، بعد موته: - صلى الله عليه وسلم -، لا جرم، انتشر - بعد الاجتماع - أهل هذا الدين في أقطار الأرض يميناً وشمالًا فما قام لهم مخالف، ولا واقفتهم أمة من الأمم على ضعف حالهم وقلتهم، وقوة غيرهم وكثرتهم، إلا ومروا عليهم، فجعلوها كأمس الذاهب. وقد جمعت هذه الحروف - كما مضى - وصفي المجهورة والمهموسة، وكانت المجهورة أغلبها، إشارة إلى ظهور هذا الدين على كل دين كما حققه شاهد الوجود، وصنفا المنقوطة والعاطلة. وكانت كلها عاطلة - إلا حرفاً واحداً - إشارة إلى أن أحسن أحوال المؤمن:

أن يكون الأغلب عليه المحو، لا يرى لنفسه صفة من الصفات، بل يعدها في زمرة الأموات، وإلى أن المتحلى بالأعمال الصالحة الخالصة من أهل القلوب من أرباب هذا الدين، قليل جداً. وكان المنقوط آخرها، إشارة إلى أن نهاية المراتب عند أهل الحق: الجمع بعد المحو والفرق. وكان حرف الشفة من بين حروفها الميم، وهي ذات الدائرة المستوية الاستدارة: إشارة إلى أن لأهل هذا الدين من الاجتماع، والانطباق عليه. والِإطافة به، والِإسراع إليه، ما ليس لمن تقدمهم، وإلى أن لهم من القدم الراسخ في القول، المقتطع من الفم، المختتم بالشفتين ما لا يبلغه غيرهم. بحيث أنه لا نهاية له، مع حسن استنارته، بتناسب استدارته. ثم إنك إذا بلغت نهاية الجمع في الأحرف، بأن جمعت أعداد مسمياتها، وهو مائتان وثمانية وسبعون، إلى أعداد أسمائها، وهو خمسمائة وأحد وثلاثون، بلغ تسعاً وثمانمائة سنة وفي السنة الموافقة لهذا العدد من هجرة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وُلدت. فكان الابتداء في أصل هذا الكتاب حينئذ بالقوة القريبة من الفعل. وسنة ابتدائي فيه بالفعل وهي سنة إحدى وستين، في شعبان منها، كان سني إذ ذاك قد شارف أربعاً وخمسين سنة وهو موافق لعد حرفي "دن" أمراً من الدين، الذي هو مقصود السورة. فكأنه برز الأمر إذ ذاك بالشروع في الكتاب، لتحصيل مقصودها. وسنة وصولي إلى هذه السورة وهي سنة إحدى وسبعين، في شعبان منها، كان سني قد شارف أربعاً وستين سنة. وهو موافق لعدد أحرف دين، الذي هو مقصود السورة. فأنا أرجو بهذا الاتفاق الغريب، أن يكون ذلك مشيراً إلى أن الله تعالى يجمع بكتابي "نظم الدرر" الذي خصني بإلهامه، وادخرُه إلى أهل الدين جمعاً

عظيماً، جليلَاَ جسيماً يظهر له أثر بالغ في اجتماعهم، وحسن تأسيهم برؤوس نقلته واتباعهم. ومن الآثار الجليلة في لحظ هذه الأحرف للجمع، أنه لما كان مقصود سورة مريم عليها السلام وصف الرحمن، المنزل لهذا القرآن، بشمول الرحمة لجميع الأكوان، وكانت هذه السورة لرحمة خاصة هي الاجتماع على هذا الدين، فكانت هذه الخاصة ثانية لتلك العامة، ومتشعبة منها، كانت بمنزلة اليسار، وتلك بمنزلة اليمين. فلذلك - والله أعلم - قال الأستاذ أبو الحسن الحِرَالِيِّ في كتاب له في الحرف: ولما كان ذلك - أي هذا الاسم - المجتمع من هذه الأحرف المقطعة. أول هذه السورة، مما ينسب إلى أمر الشمال، كان متى وضع على أصابع اليسار، ثم وضعت على هائجة ظلم أو جور استولى عليه بحكم إحاطة حكمة الله، وكانت خمستها مضافة إلى خمس "كهيعص" المستولية على حكمة اليمين، محيطاً ذلك بالعشر، المحيط بكل الحكمة التي مسندها الياء، الذي هو أول العشر، ومحل الاستواء بما هو عائد وحدة الألف.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى الطبراني في الكبير - قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح، غير شيخ الطبراني محمد بن عبدوس - عن ميمونة رضي الله عنها قالت: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "حم عسق"، فقال: يا ميمونة نسيتُ ما بين أولها إلى آخرها، قالت: فقرأتها فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى الترمذي في القدر من جامعه وقال: حسن صحيح غريب. والنسائي في التفسير، والبغوي من طريق الِإمام أحمد وهذا لفظه: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم قابضاً على كفيه ومعه كتابان فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ ، قلنا: لا يا رسول الله. فقال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفاً في

الأصلاب، وقبل أن يستقروا نطفاً في الأرحام، إذ هم في الطينة منجدلون، فليس بزائد فيهم، ولا بناقص، إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة، ثم قال للذي في يساره: هذا كتاب من رب العالمين، بأسماء أهل النار، وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم، قبل أن يستقروا نطفاً في الأصلاب، وقبل أن يستقروا نطفاً في الأرحام، إذ هم في الطينة منجدلون، فليس بزائد فيهم ولا بناقص منهم إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة. فقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: ففيم العمل إذن يا رسول الله؟. فقال: اعملوا وسَدِّدوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أيّ عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أيّ عمل. ثم قال: فريق في الجنة فضل من الله وفريق في السعير، عدل من الله عز وجل. وروى البغوي في تفسير قوله تعالى: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) الآية، بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن

النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن جبريل عليه السلام، عن الله عز وجل قال: من أهان لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة، وإني لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث الحَرِد، وما تقرب إليَّ عبدي المؤمن بمثل أداء ما افترضت عليها وما يزال عبدي المؤمن يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً ومؤيداً، إن دعاني أجَبْتُه، وإن سألني أعطيته، وما ترددت في شيء أنا فاعله، تردُدِي في قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت، وأكره مساءته، ولا بد له منه، وإن من عبادي المؤمنين لمن يسألتي الباب من العبادة فأكفُه عنها لا يدخله العجب فيفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانَه إلا الفقر، ولو أغنيتُه لأفسده ذلك. وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانَه إلا السقم، ولو أصححته لأفسده ذلك. وذلك أني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم وإني عليم خبير. التردد له بداية ونهاية، فبدايته الجهل، وغايته اللطف والرفق. فبدايته مما يتعالى الله سبحانه وتعالى عنه، والمراد هنا غايته، وهو أنه فعل فعل المتردد فيما يكره حبيبه ولا بد له منه، وذلك أنه يتطلف حتى يكون ذلك المفعول على أرفق الوجوه بحبيبه كمن يريد أن يسقي من يعز عليه جداً دواءً، فهو يجتهد في أقل ما يجد من الأدوية كراهة حتى إنه إن قدر أن يجعله في مشموم أو ملموس لا يجد له كراهة أصلاً، فعل.

وهو موافق للأحاديث الأخر: "موت المؤمن بعرق الجبين ".

"من أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه ". فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه عند الغَرْغَرَة، يرى مقعده من الجنة، فيهون ذلك عليه ما يلقى من الألم، ويُحبُّ أن يموت ليصل إلى ما رأى من الخير

مثل ما يجد الشهيد من ألم القتل، إلا ما يجد غيره من ألم القرصة. وإذا علم هذا وحفظ، دفع كل إشكال يمكن أن يورد في هذا المقام. والله أعلم. وهذه اللفظة التي أزيل إشكالها، وحل - ولله الحمد - عقالها، رواها البخاري في الرقاق من صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تبارك وتعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه، ولئن استعادني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت، وأنا أكره مساءته. وهذا الحديث انفرد به البخاري، وهو وإن كان من رواية خالد بن مخلد القطواني وقد قال الِإمام أحمد: إن له مناكير. فهذا الحديث ليس منها، كما قال شيخنا الحافظ أبو الفضل ابن حجر، في مقدمة شرح

البخاري: إن أبا أحمد بن عدي تتبعها وأوردها في كامله، وليس فيها شيء مما أخرجه البخاري. قال: وروى له الباقون، سوى أبي داود. وروى البغوي، والإِمام أحمد، وأبو يعلى - قال الهيثمي: وفيه أزهر بن راشد وهو ضعيف - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله، حدثنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) ، وسأفسرها لك يا علي، ما أصابكم من مرض، أو عقوبة أو بلاء في الدنيا، فبما كسبت أيديكم، والله عز وجل أكرم من أن يثني عليكم - وفي رواية أحمد: عليهم - العقوبة في الآخرة، وما عفى الله عنه في الدنيا، فالله أجل من أن يعود بعد عفوه ". ونقله ابن رجب من تفسير سفيان بن عيينة عنه بلفظ: ألا أخبركم بأرجى آية؟. والباقي بنحوه. وروى الترمذي، واللفظ له وقال: حسن، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح الِإسناد، والبيهقي في الزهد،

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) الآية، ثم قال: يقول الله عز وجل: ابن آدم تفرغ لعبادتي، أملأ صدرك غني، وأسد فقرك، وإن لا تفعل، ملأت صدرك شغلًا، ولم أسد فقرك.

سورة الزخرف

سورة الزخرف مكية. قال ابن الجوزي: بإجماعهم. قال: وقال مقاتل: هي مكية إلا آية، قوله: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا) . عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها وآيها ثمان وثمانون في الشامي، وتسع في الباقين. اختلافها آيتان: (حم) عدها الكوفي، ولم يعدها الباقون.

مقصودها

(فإنه سيهدين) ولم يعدها الكوفي والشامي، وعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفواصل، ولم يُعَدُّ بإجماع، موضع: (عن السبيل) . وعكسه موضعان: (مقرنين) ، (قرين) . ورويها ثلاثة أحرف: ملن. مقصودها ومقصودها: البشارة بإعلاء هذه الأمة بالعقل والحكمة، حتى يكونوا أعلى الأمم شأناً، لأن هدايتهم بأمر لدني هو من غريب الغريب، الذي هو للخواص، فهو من المرتبة الثانية من الغرابة، وأن ذلك أمر لا بد لهم منه. وإن اشتدت نفرتهم منه، وإعراضهم عنه. قال تعالى شاهداً لذلك: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) ، أي تكونون أهلاً لأن يسألكمِ العلماء من جميع الأمم عن دقائق الأحكام والحكم، وحتى تكونوا أهلاً للجنة لما قال تعالى:

(وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) . وغير ذلك من الدلالات في آيات هذه السورة، كما يشهده أهل البصائر. وعلى ذلك دلت تسميتها بالزخرف، كما في آيتها، من أنه لو أراد أن يعم الكفر جميع الناس لعمهم بسبوغ النعم، ولكنه لم يعمهم بذلك، بل فاوت بينهم، فأفقر بعضهم وأكثر بؤسهم وضرهم وفرق أمرهم، ليسهل ردهم عن الكفر الذي أدتهم إليه طبائعهم ونقائصهم، لما يشهدون من قباحة الظلم والعدوان، إلى ما يرونه من مجالس العرفان، واجتماع كلمة الدين والإيمان، ولذة الخضوع للملك الديان، فيخضع لهم الملوك والأعيان. ويصير لهم الفرقان على جميع أهل العصيان.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى أبو داود، والترمذي، والنَّسائي - قال النووي في الأذكار: بالأسانيد الصحيحة - والبيهقي في الدعوات، عن علي بن ربيعة قال: شهدت علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أُتي بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله، ثم قال: (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) . ثم قال: الحمد لله ثلاث مرات - قال البيهقي ثم قال: سبحان الله، يعني ثلاث مرات - ثم قال: لا إله إلا أنت سبحانك، إني ظلمت نفسي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك، فقيل: يا أمير المؤمنين من أي شيء ضحكت؟ قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل كما فعلتُ ثم ضحك فقلت: يا رسول الله، من أي شيء ضحكت؟ قال: إن ربك سبحانه وتعالى يعجب من عبده إذا قال: رب اغفر لي ذنوبي. يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري. وقال البيهقي: قال: علم عبدي أنه لا رب له غيري. ورواه البغوي في التفسير، وفي روايته: فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله، فلما استوى قال: الحمد لله، ثم قال:

(سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) . ثم حمد ثلاثاً، وكبر ثلاثاً. وروى البيهقي في الدعوات عن عبد الله بن ربيعة أيضاً قال: خرج علي رضي الله عنه من باب القصر، فوضع رجله في غرز السرج فقال: بسم الله، فلما استوى على الدابة قال: الحمد لله الذي حملنا في البر والبحر، ورزقنا من الطيبات، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) . وسبح ثلاثاً، وحد ثلاثاً ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع. ثم قال: رب اغفر لي لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع. ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله ليعجب من عبده إذا قال: رب اغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. والعجب - كما مضى في التردد - له بداية هي الجهل، ونهاية هي الِإكرام، وهي المراد هنا، فإن الِإنسان إذا أعجبه شيء فعله من يحبه. أكرمه غاية الِإكرام، والله (تعالى) الموفق. ولمسلم في المناسك، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذ استوى على بعيره خارجاً إلى سفر كبَّر، ثم قال: (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) .

سورة الدخان

سورة الدخان مكية كلها إجماعاً. قال ابن الجوزي: وقال الزمخشري، وأبو حيان، قيل: إلا قوله: (إنَا كاشفوا العذاب) عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها وآيها خسون وتسع في الكوفي، وسبع في البصرى، وست فيما عداهما. اختلافها أربع آيات:

مقصودها

(حم) عدها الكوفي، ولم يعدها الباقون. (إن هؤلاء ليقولون) ، عدها الكوفي أيضاً، ولم يعدها الباقون. (إن شجرة الزقوم) ، لم يعدها المدني الأخير والمكي، وعدها الباقون. (في البطون) ، لم يعدها المدني الأول والمكي والشامي، وعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفواصل، وليس معدوداً بإجماع، موضعان: (يحي ويميت) ، (بني إسرائيل) . ورويها حرفان: من. مقصودها ومقصودها: الِإنذار بالهلكة لمن لم يقبل ما في الذكر الحكيم من الخير والبركة رحمة جعلها بين عامة خلقه مشتركة. وعلى ذلك دل اسمها "الدخان" إذا تؤملت آياته، فإنه تعالى هددهم بآيتان العذاب لهم من جهة السماء، في صورة الدخان. وهددهم بالانتقام منهم بالبطشة الكبرى لكذبهم، ومرتكبهم.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى الترمذي وقال: غريب. والدارقطني، والبغوي في التفسير، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ حم الدخان، أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك.

وفي رواية للترمذي: من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة، غفر له. وفي رواية للدارقطني: من قرأ يس في ليلة، أصبح مغفوراً له، ومن قرأ الدخان في ليلة الجمعة، أصبح مغفوراً له. ورواه الأصبهاني في ترغيبه، والقاضي أبو عبد الله المحاملي في الثاني عشر من فوائده ولفظه: "من صلى بسورة الدخان في ليلة، بات يستغفر له سبعون ألف ملك حتى يصبح ". وروى الدارمي عن عبد الله بن عيسى قال: أخبرت أنه من قرأ حم

الدخان ليلة الجمعة إيماناً وتصديقاً، أصبح مغفوراً له. وله أيضاً عن يحي بن الحارث - هو الذماري عن أبي رافع قال: من قرأ الدخان في ليلة الجمعة، أصبح مغفوراً له، وزوج من الحور العين. وله حكم الرفع، لأن مثله لا يقال من قبل الرأي. وللطبراني والأصبهاني، عن أبي أمامة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة، أو يوم الجمعة، بنى الله له بيتاً في الجنة. وتقدم في التوبة حديث علي رضي الله عنه في فضلها.

سورة الجاثية

سورة الجاثية وتسمى الشريعة. مكية إجماعاً. وقال ابن الجوزي: رواه العوفي وابن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو قول الحسن وعكرمة ومجاهد ومقاتل وقتادة والجمهور. وحكى عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: هي مكية إلا آية، وهي قوله: (قل للذين آمنوا يغفروا) . وتبعه على ذلك الأصفهاني. عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها وآيها ثلاثون وسبع في الكوفي، وست في عدد الباقين. لقوله تعالى فيها: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) .

مقصودها

اختلافها آية واحدة: (حم) عدها الكوفي، ولم يعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفاصلة موضع: (أهواء الذين) . ورويها حرفان: (من) ، كالتي قبلها سواء. مقصودها ومقصودها: الدلالة على أن منزل هذا الكتاب - كما دل عليه ما في الدخان - ذو العزة لا يغلبه شيء، وهو يغلب كل شيء، والحكمة لأنه لمِ يصنع شيئاً إلا في أحكم مواضعه، فعلم أنه المختص بالكبرياء، فوضع شرعا هو في غاية الاستقامة، لا تستقل العقول بإدراكه، أمر فيه ونهى، ورغب ورهب، ثم بطن حتى إنه لا يعرف، وظهر حتى إنه لا يجهل. فمن المكلفين من حكم عقله وجانب هواه، فشهد جلاله، فسمع وأطاع، ومنهم من اتبع هواه فضل عن نور العقل فزاغ. فاقتضت الحكمة - ولا بد - أن يجمع سبحانه الخلق، ويظهر كل الظهور، وبدين عباده ليشهد رحمته المطيع، وكبرياءه العاصي المضيع، وينشر العدل، ويظهر الفضل، ويتجلى في جميع صفاته لجميع خلقه يوم الفصل. وعلى ذلك دل اسمها "الشريعة".

فضائلها

واسمها "الجاثية" واضح الدلالة فيه، إذا تؤمل كل من آيتيهما، والله الهادي. فضائلها وأما فضائلها: فاختصاصها بما اختص الله به من الكبرياء (وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) . روى مسلم عن أبي سعيد، وأبي هريرة، رضي الله عنهما، وأبو داود. وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول الله

عز وجل: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما. أدخلته النار. وفي رواية: عذبته. وفي رواية: قصمته. ولأبي عبيد عن تيمم الداري رضي الله عنه أنه أتى المقام ذات ليلة. فقام يصلى، فافتتح السورة التي يذكر فيها الجاثية، فلما أتى على هذه الآية: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) . فلم يزل يرددها حتى أصبح. وروى البيهقي عن الخليل بن مره، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الحواميم سبع وأبواب جهنم سبع، تجيء كل حميم تقف على باب من هذه الأبواب فتقول: اللهم لا يدخل هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرؤني. ثم قال: هكذا بلغنا بهذا الِإسناد المنقطع.

سورة الأحقاف

سورة الأحقاف مكية. قال النجم النسفي: إلا قوله: (والذي قال لوالديه) الآيتين. فإنهما نزلتا بالمدينة. وقال أبو حيَّان: قال ابن عباس رضي الله عنهما: (قل أرأيتم إن كان من عند الله) . و (فاصبر كما صبر أولو العزم) الآيتان مدنيتان. وقال ابن الجوزي: وروى العوفي وابن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها مكية. وبه قال الحسن ومجاهد، وعكرمة وقتادة، والجمهور. وروى عن ابن عباس وقتادة أنهما قال: فيها آية مدنية:

عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) . وقال مقاتل: نزلت بمكة غير آيتين: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) و، (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) ، نزلتا بالمدينة. عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها وآيها ثلاثون وخمس في الكوفى، وأربع في عدد الباقين. اختلافها كالتي قبلها: (حم) ، عدها الكوفي دون غيره. وفيها مما يشبه الفواصل ولم يعد بإجماع، موضعان: (عذاب الهون) ، (ما يوعدون) . ورويها ثلاثة أحرف: نمر. مقصودها ومقصودها: إنذار الكافرين بالدلالة على صدق الوعد في قيام الساعة. اللازم للعزة والحكمة الكاشف لها أتم كشف، بما وقع الصدق في الوعد به. من إهلاك المكذبين، وأنه لا يمنع من شيء من ذلك مانع، لأنه لا شريك له، فهو المستحق للإِفراد بالعبادة. وعلى ذلك دلت تسميتها بالأحقاف، بما دلت عليه قصة قوم هود - عليه السلام -

من التوحيد وإنذارهم بالعذاب دنيا وأخرى، ومن إهلاكهم، وعدم إغناء ما عبدوه عنهم، ودفنهم تحت أحقافهم، بما تحقق من إعراضهم وخلافهم، ومباعدتهم للحكمة في عبادتهم حجراً، وإنكارهم أن يكون النبي بشراً، فسلبت أرواحهم بالريح العقيم، ودمرت أشباحهم بالعذاب الأليم. فدل ذلك قطعاً على أنه العزيز الحكيم.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى أحمد بإسنادين - قال الهيثمي: رجال أحدهما ثقات - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة (من الثلاثين) من آل حم - يعني: الأحقاف - قال: وكانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سميت الثلاثين. وروى الطبراني - قال الهيثمي: برجال الصحيح - عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا معشر اليهود أروني اثني عشر رجلًا منكم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، يحط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه، فأسكتوا فما أجابه منهم أحد. ثم رد عليهم فلم يجبه أحد (ثم ثلَّث فلم يجبه أحد) ، فقال: أبيتم؟. فوالله لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأنا المقفى، آمنتم أو كذبتم، ثم انصرف وأنا معه، حتى كدنا أن نخرج، فإذا رجل من خلفه فقال: كما أنت يا محمد، فأقبل. فقال ذاك الرجل: أي رجل تعلموني منكم يا معشر اليهود؟. قالوا: والله ما نعلم فينا رجلا كان أعلم بكتاب، ولا أفقه منك ولا من أبيك من قبلك، ولا من جدك قبل أبيك. قال: فإني أشهد أنه نبي الله الذي تجدونه في التوراة، قالوا: كذبت، ثم

ردوا عليه وقالوا فيه شراً. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كذبتم لن يقبل منكم قولكم. قال: فخرجنا ونحن ثلاثة: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا، وابن سلام. فأنزل الله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) . انتهى. ويجمع بين هذا فيما يفهم: أن هذا أول إسلامه، وبين ما في الصحيح: أنه كان في منزل النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه أسلم في بيته - صلى الله عليه وسلم -، فدعا أقاربه من اليهود وهم من بني قينقاع، فقالوا فيه ما قالوه، ثم أراد أن يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - كرامته في غير قومه، فذهب إلى طائفة أخرى في الحال قبل أن يعلموا بإسلامه، فدخل إليهم ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم - في أثره، فكان ما تقدم. ومعنى حط الغضب عن جميع اليهود بإسلام اثني عشر: إن إسلام أولئك يستلزم إسلام بقية اليهود كما ذكر في حديث آخر، والله تعالى الموفق. وروى أبو عمرو الداني في كتاب "البيان بعدد آي القرآن" من طريق أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قلت لرجل: أقرئني من الأحقاف ثلاثين آية، فأقرأني - وفي رواية، فقرأ - خلاف ما أقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقلت لآخر: أقرئني من "الأحقاف ثلاثين آية، فأقرأني خلاف ما أقرأني الأول، فأتيت بهما إلى

النبي - صلى الله عليه وسلم - فغضب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه جالس، فقال علي: قال لكم: اقرأوا كما علمتم. وللطبراني في الأوسط في ترجمة محمد بن أحمد بن لبيد البيروق. عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: (حتى إذا بلغ أشده) قال: ثلاث وثلاثون سنة وهو الذي رفع عليه عيسى بن مريم (عليه السلام) . قال الهيثمي في مجمع الزوائد: وفيه صدقة بن يزيد، وثقة أبو زرعة. وأبو حاتم، وضعفه أحمد وجماعة، وبقية رجاله ثقات.

سورة محمد

سورة محمد - صلى الله عليه وسلم - وتسمى: القتال، والذين كفروا. مدنية. وقال النجم النسفي: مكية، ويقال: مدنية وهو الصحيح، انتهى. ويقال: فيها آية مدنية نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - حين خرج إلى الغار في ابتداء الهجرة، وجعل ينظر إلى مكة، وهي: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) .

عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها

عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها وآيها ثلاثون وثمان في الكوفي، وتسع في المدنيين والمكي والشامي. وأربعون آية في البصرى. اختلافها آيتان: (أوزارها) ، لم يعدها الكوفي، وعدها الباقون. (للشاربين) ، عدها البصري، ولم يعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفواصل، ولم يعد بإجماع، تسعة مواضع: (فضرب الرقاب) ، (بعضكم ببعض) ، (تنصروا الله ينصركم) (فتعسا لهم) ، (الذين من قبلهم) ، (دمَّر الله عليهم) . (قال آنفاً) ، (لأريناكهم) ، (بسيماهم) . رويها حرفان: "مل" اللام: (أقفالها) ، (أمثالها) وقيل: الميم كاف، أو هما مضمومتان. مقصودها ومقصودها: التقدم إلى المؤمنين في حفظ حظيرة الدين، بإدامة الجهاد

للكفار، حتى يلزموهم الصغار، أو يبطلوا ضلالهم، كما أضل الله أعمالهم، لا سيما أهل الردة الذين فسقوا عن محيط الدين إلى أودية الضلال المبين، والتزام هذا الخلق الشريف، إلى أن تضع الحرب أوزارها، بإسلام أهل الأرض كلهم، بنزول عيسى عليه السلام. وعلى ذلك دل اسمها "الذين كفروا" لأن من المعلوم: أن من صدك عن سبيلك قاتلته، وأنك إن لم تقاتله كنت مثله. واسمها "محمد" واضح في ذلك، لأن الجهاد كان خلقه - صلى الله عليه وسلم -، إلى أن توفاه الله تعالى، وهو نبي الملحمة، لأنه لا يكون حمد، وثم نوع ذم، كما تقدم تحقيقه في سورة فاطر وفي سبأ والفاتحة. ومتى كان كَفٌّ عن أعداء الله، كان ذم. وأوضح أسمائها في هذا المقصد: "القتال"، فإن من المعلوم: أنه لأهل الضلال.

فضائلها

فضائلها وأما ما ورد فيها، ففي آية الساعة: ما روى الترمذي، وأبو يعلى، عن أبي هريرة رضيِ الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ما ينتظر أحدكم، إلا غِنًى مُطغياً، أو فقرًا منسياً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال، والدجال شر غائب ينتظر، أو الساعة، وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ. ومن فضائلها: ما خصت به من سبب الترقي في مصاعد الكمال،

بالأمر بالاستغفار، في قوله تعالى: (واستغفر لذنبك) زيادة في الشرف. روى مسلم في الدعوات وأبو داود في الصلاة، والنَّسائي في اليوم والليلة، عن الأغَر المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنه لَيُغانُ على قلبي، وإني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة. يعني: أنه - صلى الله عليه وسلم - إذا ارتقى من مقام أكمل، إلى مقام أكمل منه، رأى أن الأول بالنسبة إلى الثاني ذا غَيْن فيستغفر منه، فيرتقي إلى أكمل منه، وهكذا، والله أعلم. وروى البغوي بسنده عن هشام بن عروة، عن أبيه - قال ابن رجب والدارقطني في أفراده: بإسناد ضعيف - عن سهل بن سعد رضي الله عنه. وهذا لفظ عروة قال: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) فقال شاب من اليمن: بل على قلوب أقفالها، حتى يكون الله يفتحها، أو يفرجها، فما زال الشاب في نفس عمر رضي الله عنه حتى ولى فاستعان به. وروى أبو نعيم عن إبراهيم بن الأشعث، أن فضيل بن عياض قرأ

سورة محمد، فشرع يبكي ويردد هذه الآية: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) . وجعل يقول: إن بلوت أخبارنا (فضحتنا وهتكت أستارنا، إنك إن بلوت أخبارنا أهلكتنا وعذبتنا، ويبكى.

سورة الفتح

سورة الفتح مدنية كلها إجماعاً. نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راجع من عمرة الحديبية. عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها وآيها تسع وعشرون، ثلاثون إلا واحدة، بلا خلاف. وفيها مما يشبه الفواصل، ولم يعد بإجماع، سبعة مواضع: (بأس شديد) ، (أو يسلمون) ، (آية للمؤمنين) ، (وعلى المؤمنين) ، (آمنين) ، (ومقصرِّين) ، (لا تخافون) .

مقصودها

ورويها سبعة أحرف: لمزن برد. مقصودها ومقصودها: اسمها الذي يعم فتح مكة وما تقدمه من صلح الحديبية وفتح خيبر ونحوهما. وما تفرع عنه من. إسلام أهل جزيرة العرب، وقتال أهل الردة، وفتوح جميع البلاد، الذي يجمعه كله إظهار هذا الدين على الدين كله. وهذا كله في غاية الظهور، بما نطق به ابتداؤها وأثناؤها، في مواضع منها: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ) . وانتهاؤها: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ - إلى قوله: (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) . أي بالفتح الأعظم، وما دونه من الفتوحات. (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً) . كما كان للرسول - صلى الله عليه وسلم -.

(وَأَجْرًا عَظِيمًا) كذلك بسائر الفتوحات، وما حوت من الغنائم. ثم الثواب الجزيل على ذلك في دار الجزاء. ومن عجائب هذه السورة: أنها تسع وعشرون آية، وقد جمعت حروف المعجم وهي تسع وعشرون حرفاً، في آخر آية فيها، وهي: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. إلى آخرها، إثر قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) . ولم تجتمع هذه الحروف في آية إلا في هذه، وفي آية في أواخر سورة التوحيد "آل عمران" إشارة إلى علو التوحيد على كل كفر، كما أشارت إليه الآية التي قبلها، وأشير في آية آل عمران إلى تمادي الوقت، كما ذكر في أصل هذا الكتاب. وأشير في هذه إلى قربه. وذلك أنه لما كانت هذه العمرة التي نزلت فيها هذه السورة، وهي عمرة الحديبية، قد حصل لهم فيها كسر، لرجوعهم قبل وصولهم إلى قصدهم، ولم يكن ذلك بسبب خلل أتى من قِبَلِهم، كما كانت في غزوة أحد، بشَّرهم سبحانه فيما في هذه السورة، من البشائر الظاهرة تصريحاً وبما في هذه الآية الخاتمة من جمعها لجميع حروف العجم تلويحاً، إلى أن أمرهم لا بد من تمامه وخفوق ألويته وأعلامه. وافتتحها بميم محمد المضمومة، وختمها بميم "عظيما" المنصوبة، إشارة

بما للميم من الختام بمخرجها، إلى أن تمام الأمر قد دنا جدا إبانه، وحضر من غير شك زمانه. وبما في أوله من الضم إلى رفعة دائمة في حمد كبير. وبما في آخر من النصب إلى تمام الفتح، وقربه على وجه عظيم. فكان جمع الأحرف في آية واحدة على هذا الوجه، مشيراً إلى ما ذكر. وكان كونها تسعا وعشرين، وكون عدد الآيات فيها مطابقاً لذلك، مشيراً إلى أن الفتوح من ذلك الحين، لا تزال في ازدياد إلى نهاية تسع وعشرين سنة، فيحصل هناك التمام، فيبدأ - كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند نزول آية المائدة بكمال الدين - النقص. ولقد كان الأمر كذلك، فإن الله تعالى فتح بعد جميع بلاد العرب، بلاد فارس بكمالها وقتل ملكها يزدجرد، ومزق ملكها، فلم يقم بعده لهم ملك إلى اليوم، وفتح أكثر بلاد الروم والغرب وتواترت الفتوح، وارتفعت رايات الِإسلام براً وبحراً، إلى أن ظهر الدين، كما قال تعالى: (على الدين كله) ، ثم قتل عند تمام ذلك أمير المؤمنين عثمان الشهيد رضي الله عنه. ختام سنة خمس وثلاثين من الهجرة، وذلك لتسع وعشرين من نزول هذه

فضائلها

السورة سنة ست من الهجرة، فنقص بقتله رضي الله عنه كثيراً، وتفرقت الكلمة، وانحل - بعد - النظام، فقام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في جمع شمله، فكان كلما رتق رتقا، فتُقِ من ناحية أخرى فَتْقُ، واستمر الأمر متماسكاً، ألى أن مضت خلافة النبوة ثلاثون سنة، لنزول أمير المؤمنين الحسين بن علي رضي الله عنهما عن الأمر للِإصلاح بين الناس في ربيع الأول، سنة إحدى وأربعين، ثم ظهر النقصان، وجاء الملك العضوض كما أخبر به الصادق، وحكم به الخلائق، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. فضائلها وأما فضائلها: فروى القعنبي، وأبو مصعب، في موطأيهما. والبخاري في الصحيح من رواية القعنبي عن مالك، عن زيد بن أسلم عن أبيه، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، فسأله عن شيء فلم يجبه، فقال عمر رضي الله عنه ثكلتك أمك يا عمر، نزرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك

قال عمر رضي الله عنه: فحركت بعيري حتى تقدمت أمام الناس، فخشيت أن يكون نزل فيَّ قرآن فما نشبت أن سمعت صارخاً يصرخ بي، فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلمت، فقال: لقد أنزلت في الليلة سورة، لهي أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) . وروى الإِمام أحمد في المسند عن مخفَع بن جارية الأنصاري رضي الله عنه وكان أحد القراء الذين قرؤوا القرآن، قال: شهدنا الحديبية، فلما انصرفنا عنها، إذ الناس ينفرون - ولا رواية: يوجفون - الأباعر، فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس؟. قالوا: أوحى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرجنا مع الناس نوجف، حتى وجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على راحلته عند كراع الغميم، واجتمع الناس إليه، فقرأ عليهم: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) . فقال رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي رسول الله أو فتح هو؟. قال: أي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح.

وللنسائي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أقبلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية، فذكر أنهم نزلوا دهاساً من الأرض - يعني بالدهاس: الرمل - فذكر قصة نومهم عن الصبح، وصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - حين استيقظوا، ثم قال: فركب، فسرنا وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أنزل الوحي، اشتد عليه وعرفنا ذلك منه، فتنحى منتبذاً خلفنا. فجعل يغطي رأسه، فيشتد عليه، حتى عرفنا أنه قد أنزل عليه، فأتانا فأخبرنا أنه قد أنزل عليه: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) .. وروى محمد بن نصر المروزي في كتاب "قيام الليل" عن هشام بن عروة عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوحى إليه وهو على ناقة وضعت جرانها (1) فما تستطيع أن تتحرك حتى يسري عنه. وقد مضى في سورة المائدة ما يشبهه. وللشيخين - وهذا لفظ مسلم - وأحمد، والترمذي، والنَّسائي، عن أنس رضي الله عنه قال: لما نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) . إلى آخر الآية مرجعه من الحديبية، وأصحابه مخالطوا الحزن والكآبة، قد حيل بينهم وبين مناسكهم ونحروا الهدى بالحديبية، فقال: نزلت عليّ آية

_ (1) قال في النهاية. 1 / 263: الجران: باطن العنق.

هي أحب إليَّ من الدنيا، فلما تلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال رجل من أصحابه: قد بين الله عز وَجَل لك ما يفعل بك - وفي رواية: هنيئاً مريئاً لك يا رسول الله، هذا لك - فماذا يفعل بنا؟. فأنزل الله عز وجل الآية التي بعدها: (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) . وروى البيهقي في الدلائل، من طريق ابن إسحاق، عن المسور ومروان في قصة الحديبية قالا: ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعاً، فلما كان بين مكة والمدينة، نزلت عليه سورة الفتح من أولها إلى آخرها: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) . وروى عبد الرزاق عنِ معمر، عن ابن إسحاق، عن أبي برزة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في الصبح: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الجزء الثالث: مَصَاعِدُ النَّظَرِ للإشْرَافِ عَلَى مَقَاصِدِ السِّوَرِ ويُسَمَّى: "المَقْصِدُ الأَسْمَى في مُطَابَقَةِ اسْمِ كُلِّ سُورَةٍ لِلمُسَمَّى"

سورة الحجرات

سورة الحجرات مدنية إجماعاً. وشذَّ من قال: مكية. عدد آياتها وآيها ثماني عشرة باتفاق العادِّين، وأجمعوا - أيضاً - على أن نظيرتها: التغابن. وليس فيها اختلاف، ولا ما يشبه الفواصل. ورويها ثلاثة أحرف: نمر. مقصودها ومقصودها: توقير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحفظ ذلك من إجلاله بالظاهر ليكون

دليلاً على الباطن فيسمى إيماناً، كما أن الِإيمان بالله تعالى يشترط فيه تقبل الأعمال الظاهرة، والِإذعان لفعلها بشرائطها وأركانهاوحدودها، لتكون بينة على الباطن، وحجة شاهدة له (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) . واسمها "الحجرات" واضح الدلالة على ذلك، بما دلت عليه آيته، من ذم المنادين والتلويح لهم إلى الِإقبال على ما يحصِّل المغفرة، بأنهم قد ارتكبوا ما كانوا به من المذنبين.

فضائلها

فضائلها وأما ما ورد في بعض أمرها: فروى الِإمام أحمد - قال الهيثمي: ورجاله ثقات - والطبراني عن الحارث بن ضرار الخزاعي - وقال الطبراني: ابن سرار رضي الله عنه قال: قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاني إلى الِإسلام فدخلت فيه وأقررت به، فدعاني إلى الزكاة فأقررت بها. وقلت: يا رسول الله، أأرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإِسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته فيرسل إليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رسولاً لإِبان كذا وكذا، ليأتيك بما جمعت من الزكاة؟. فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإِبان الذي أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبعث إليه، احتبس الرسول فلم يأته، فظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. فدعا بسروات قومه فقال لهم: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان وقّت وقتاً يرسل إليَّ رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة. وليس من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة كانت، فانطلقوا فنأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوليد بن عقبة ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض

الطريق، فرق فرجع، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي، فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البعث إلى الحارث، فأقبل الحارث بأصحابه إذا استقل البعث وفصل من المدينة، فلقيهم الحارث فقالوا: هذا الحارث، فلما غشيهم قال لهم: إلى أين بعثتم؟. قالوا: إليك قال: ولم؟. قالوا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله. قال: والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته ولا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: منعت الزكاة، وأردت قتل رسولي؟ قال: لا، والذي بعثك بالحق ما رأيته، ولا أتاني. وما أقبلت إلا حين احتبس عليَّ رسولُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خشيت أن تكون كانت سخطة من الله عز وجل ورسوله. قال: فنزلت الحجرات: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) إلى هذا المكان: (فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) . والحارث هذا: هو الحارث بن أبي ضرار المصطلقي، أبو جويرية أم المؤمنين رضي الله عنها. وبنوا المصطلق بطن من خزاعة. وقد سقط من هذه الرواية أداة الكنية. واسم أبي ضرار: حبيب بن الحارث. وعن علقمة بن ناجية رضي الله عنه قال: بعث إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوليد بن عقبة بن أبي معيظ يصدق أموالنا، فسار حتى كان قريباً منا، وذلك

بعد وقعة المريسيع، فرجع فركبت في أثره، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أتيت قوماً في جاهليتهم، أخذوا اللباس، ومنعوا الصدقة، فلم يغير النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلت الآية: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ. . .) الآية. فأتى المصطلقيون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إثر الوليد بطائفة من صدقاتهم يسوقونها، وبنفقات يحملونها، فذكروا ذلك له، وأنهم خرجوا يطلبون الوليد بصدقاتهم فلم يجدوه، فدفعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان معهم قالوا: يا رسول الله، بلغنا مخرج رسولك فسررنا بذلك وقلنا: نتلقاه، فبلغنا رجعته، فخفنا أن يكون ذلك من سخطة علينا، وعرضوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشتروا منه ما بقي، وقبل منهم الفرائض، وقال: ارجعوا بنفقاتكم، لا نبيع شيئاً من الصدقات حتى نقبضه فرجعوا إلى أهليهم، وبعث إليهم من يقبض بقية صدقاتهم. وفي رواية عن علقمة: أنه كان في وفد بني المصطلق على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر الوليد بن عقبة، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: انصرفوا غير محبوسين، ولا محصورين. رواه الطبراني بإسنادين. قال الهيثمي: في أحدهما يعقوب بن حميد بن كاسب، وثقه ابن حبان. وضعفه الجمهور وبقية رجاله ثقات.

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوليد ابن عقبة إلى بني وليعة، وكانت بينهم شحناء في الجاهلية، فلما بلغ بني وليعة استقبلوه، لينظروا ما في نفسه، فخشى الْقَوْمَ فرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: والله بني وليعة أرادوا قتلي ومنعوني الصدقة، فلما بلغ بني وليعة الذي قال الوليد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله لقد كذب الوليد، ولكن كان بيننا وبينه شحناء، فخشينا أن يعاقبنا بالذي كان بيننا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لينتهين بنوا وليعة، أو لأبعثن إليهم رجلاً كنفسي، يقتل مقاتلهم، ويسبي ذراريهم، وهو هذا، ثم ضرب بيده على كتف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: وأنزل الله في الوليد (يا أيها الذين إن جاءكم فاسق بنبأ) الآية. رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عبد الله بن عبد القدوس التميمي. وقد ضعفه الجمهور ووثقه ابن حبان، وبقية رجاله ثقات. وعن أم سلمة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انصرف إلى بيتها فصلى فيه ركعتين بعد العصر، فأرسلت عائشة إلى أم سلمة رضي الله عنهما: ما هذه الصلاة التي صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتك؟. فقالت: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعد الظهر ركعتين فقدم عليه وفد بني المصطلق فيما صنع بهم عاملهم الوليد بن عقبة، ولم يزالوا يعتذرون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى جاء المؤذن يدعوه إلى صلاة العصر، فصلى المكتوبة، ثم صلى عندي في بيتي تلك الركعتين. ما صلاهما قبل ولا بعد.

وعن أم سلمة - أيضاً - رضي الله عنها، أنه نزل في بني المصطلق، فيما صنع، بهم عاملهم الوليد بن عقبة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) ، الآية. قالت: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه إليهم يصدق أموالهم، فلما سمعوا به أقبل رَكْبٌ منهم، فقالوا: نسير مع رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونحمله، فلما سمع بذلك، ظن أنهم ساروا إليه ليقتلوه فرجع، فقال: إن بني المصطلق منعوا صدقاتهم يا رسول الله، وأقبل القوم حتى قدموا المدينة، وصفوا وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصف، فلما قضى الصلاة انصرفوا، فقالوا: إنا نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، سمعنا يا رسول الله برسولك الذي أرسلت يصدق أموالنا، فسررنا بذلك وقرت به أعيننا، وأردنا أن نلقاه، ونسير مع رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسمعنا أنه رجع، فخشينا أن يكون رده غضب من الله ورسوله علينا، فلم يزالوا يعتذرون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى نزلت فيهم هذه الآية. رواه الطبراني، قال الهيثمي: وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف. وفي الصحيح ما يتعلق بالركعتين بعد العصر فقط. وروى الشيخان في: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الناس أكرم؟. قال: أكرمهم عند الله أتقاهم قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال

فأكرم الناس يوسف نبي الله، بن نبي الله، بن نبي الله ابن خليل الله، قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: فعن معادن العرب تسألونني؟. قالوا: نعم، قال: فخياركم في الجاهلية، خياركم في الِإسلام إذا فقهوا.

سورة ق

سورة ق قال الأصفهاني: وتسمى: الباسقات. مكية. قال الأصفهاني: رواه العوفي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما. وبه قال الحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة والجمهور. وحكى عن ابن عباس وقتادة: أن فيها آية مدنية: (ولقد خلقنا السماوات والأرض) . عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها وآيها خمس وأربعون بالِإجماع، ولا اختلاف فيها. وفيها مما يشبه الفواصل ولم يعده أحد من العادِّين، أربعة مواضع:

مقصودها

(ق) ، (رزقا للعباد) ، (هذا ما توعدون) ، (عليهم بجبار) وعكسه موضعان: (وثمود) ، (وإخوان لوط) . ورويها سبعة أحرف: جد، صد، جظ، بطر. الجظ - بالجيم والظاء المعجمة -: الضخم. مقصودها ومقصودها: تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرسالة، التي معظمها الِإنذار بيوم الخروج بالدلالة على ذلك، بعد الآيات المسموعة الغنية بإعجازنا عن تأييد الآيات المربية، الدالة قطعاً على الِإحاطة بجميع صفات الكمال. وأحسن من هذا، أن يقال: مقصودها: الدلالة على إحاطة القدرة. التي هي نتيجة ما ختمت به الحجرات، من إحاطة العلم لبيان أنه لا بد من البعث ليوم الوعيد، لتنكشف هذه الِإحاطة بما يحصل من الفصل بين العباد بالعدل، لأن ذلك سر الملك، الذي هو سر الوجود والذي تكفل بالدلالة على هذا كله، ما شوهد من إحاطة مجد القرآن بإعجازه في بلوغه في كل من جمع المعاني، وعلو التراكيب، وجلالة المفردات، وجزالة المقاصد وتلاؤم الحروف،

وتناسب النظم ورشاقة الجمع، وحلاوة التفصيل، إلى حد لا تطيقه القوى. من إحاطة أوصاف الرسل، الذي اختاره سبحانه لِإبلاغ هذا الكتاب، في الخلق والخلق، وما شوهد من إحاطة القدرة، بما هدى إليه القرآن من آيات الإيجاد والِإعدام. وعلى كل من الاحتمالين، دل اسمها "ق"، بما في آيته من المجد لهذا الكتاب. والمجد هو الشرف والكرم، والرفعة والعلو، وذلك لا يكون، إلا والآتي به كذلك، وهو ملازم لصدقه في جميع ما أتى به. وللقاف وحدها أتم دلالة على ذلك. أولاً بمخرجها، فإنه من أصل اللسان، مما يلي الحلق ويحاذيه من الحنك الأعلى، فإن ذلك إشارة إلى أن المقصود من السورة: الأصل والعلو. وكل منهما دل على الصدق دلالة قوية. فإن الأصل في وضع الخبر: الصدق، ودلالته على الكذب عقلية، لا وضعية، وهي - أيضاً محيطة باسمها ومسماها بالمخارج الثلاث، والإِحاطة بالحق لا تكون إلا مع العلو وهو لا يكون إلا مع الصدق. ولِإحاطتها سمي بها الجبل المحيط بالأرض، هذا مخرجها.

وأما صفتها: فإنها عظيمة في ذلك، فإن لها الجهر، والشدة، والانفتاح. والاستعلاء والقلقلة، وكل منها ظاهر الدلالة على ذلك جيداً. وأدل ما فيها من المخلوقات على هذا المقصد: النَخل، لما انفردت به عما شاركها من النبات، بالِإحاطة بالطول، وكثرة المنافع، فإنها جامعة للتفكه بالقلب، ثم الطلع، ثم البسر ثم الرطب، وبالاقتيات بالثمر، والخشب والحطب والعصى، والخوص النافع للافتراش وغيره، والليف النافع للحبال وغيرها، وما سوى ذلك من الخلال. هذا مع كثرة ملابسة العرب - الذين هم أول مدعو بهذا الذكر - لها. ومعرفتهم بخواصها وأدل ما فيها على العظمة والمجد: الطول، مع أنه ليس لعروقها من الامتداد في الأرض ما لغيرها. ومثل ذلك غير كاف في العادة في

فضائلها

الِإمساك عن السقوط، وفي كثرة الحمل، وعظم الاقتناء وتناضد الثمر. ولذلك سميت السورة الباسقات، لا النخل. فضائلها وأما فضائلها: فإنها أول المفصل، كما مضى في الفضائل العامة في تحزيب القرآن. وقيل: أوله الحجرات. قال الشيخ محي الدين في شرح المهذب: وحكى القاضي عياض: أنه من الجاثية وهو غريب.

وقد روى الدارمي عن عبد الله رضي الله عنه موقوفاً عليه: إن لكل شيء سناما، وإن سنام القرآن سورة البقرة، وإن لكل شيء لبابا، وإن لباب القرآن المفصَّل. ويشبه أن يكون مرفوعاً حكماً. قال أبو محمد: اللباب: الخالص. وروى ابن أبي داود في كتاب "المصاحف" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الفجر بأول المفصل، فقرأ ذات يوم بقصار المفصل فقيل له في ذلك، فقال: إني سمعت بكاء صبي فأحببت أن أفرغ أمه له.

وروى ابن أبي داود أيضاً، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد مولى بني أسد قال: لما دخل البصريون على عثمان رضي الله عنه، ضربوه بالسيف على يديه فوقعت على: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، فمد يده وقال: والله إنها لأول يد خطت المفصل. وروى عبد الرزاق عن عاصم بن عمر، أن عمر رضي الله عنه كان يقول لبنيه: إن كان أحد منكم متعلماً، فليتعلم من المفصل فإنه أيسر وروى مسلم، والدارمي واللفظ له، والترمذي وقال: حسن صحيح. وعبد الرزاق، عن قطبة بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعة الأولى من الفجر: (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ) . قال سعيد: وسألته مرة أخرى فقال: سمعته يقرأ بـ قاف.

وللترمذي وقال: حسن صحيح، وعبد الرزاق، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، سأل أبا واقد الليثي رضي الله عنه: ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ به في الفطر والأضحى؟ قال: يقرأ بـ قاف والقرآن المجيد، واقتربت الساعة وانشق القمر. وسر ذلك: أن في ق الحث على الاستبصار بما جرت عادة أهل العيد له من الانتشار لنظر البساتين، وفضول الدنيا، والإِقبال على الملاذ، وقبض النفس عما تهيأت بالعيد للانبساط فيه من الشهوات، بذكر النار والحشر. وغير ذلك من المواعظ، التي لا توجد في غيرها، مع الوجادة، وهو للقبض عن الدنيا بالكلية، لأنها محل الكدر، والحث على الإِقبال على ما عند المليك المقتدر، من دار الصفاء. وذكر ابن رجب عن كتاب الزهد للِإمام أحمد، عن معتمر بن سليمان التميمي قال: صلى بنا أبي فقرأ سورة ق في صلاة الفجر، فلما انتهى إلى

هذه الآية: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) غلبته عبرته، ولم يستطع أن يجوزها، فركع. وقال في مناسبة قراءتها في خطبة الجمعة: إن آخرها حاث عل أمر الله بالتذكير بالقرآن. وروى النسائي عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنها قالت: ما أخذت "ق والقرآن المجيد"، إلا من فيِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان يصلي بها في الصبح. وروى مسلم وأبو داود عنها رضي الله عنها، أنها قالت: ما أخذت "ق والقرآن المجيد" إلا عن لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقرؤها في كل جمعة على المنبر إذا خطب للناس.

ولفظ أبي داود: وكانت تنورنا وتنور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحداً.

سورة الذاريات

سورة الذاريات مكية إجماعاً. وآيها ستون باتفاق العادين، ولا اختلاف فيها، ولا ما يشبه الفاصلة. ولا عكسه. ورويها ثمانية أحرف: قرَّ، من، وكفَّ. مقصودها ومقصودها: الدلالة على صدق ما أنذرت به سورة ق تصريحاً، وبشرت به تلويحاً، ولا سيما من مصاب الدنيا، وعذاب الآخرة.

واسمها "الذاريات" ظاهر في ذلك، بملاحظة جواب القسم، فإنه - لشدة الارتباط - كالآية الواحدة وإن كان خمسا. وللتعبير عن الرياح بالذاريات، أتم إشارة إلى ذلك، فإن تكذيبهم بالوعيد، لكونهم لا يشعرون بشيء من أسبابه، وإن كانت موجودة معهم. كما أن يأتي من السحاب من الرحمة والنقمة، أسبابه موجودة، وهي الرياح، وإن كانوا لا يرونها، والريح من شأنها الذر، وهوالتفريق، فإذا أراد الله جمعت، فكان ما أراد، فإنها تفرق الأبخرة، فإذا أراد سبحانه جمعتها فحملها سبحانه ما أوجد فيها، فأوقرها به، فأجراها إجراءً سهلًا، فقسم منها ما أراد، تارة برقاً، وأخرى رعداً، يصل صليل الحديد على الحديد، أو الحجر على مثله، مع لطافة السحاب. وكل ما نشاهد فيه من الأسباب: آونة مطراً، ومرة ثلجاً، أو برداً. وحيناً صواعق ونيراناً ووقتاً جواهر ومرجاناً، فتكون مرة سروراً ورضواناً. وأخرى غموماً وأحزاناً، وغبناً وخسرانا، على أنهم أخيل الناس في بعض ذلك، يعرفون السحاب الذي يخيّل المطر، والذي لا يخيّله، والذي مطره دان، والذي لم يأن له أن يمطر، إلى غير ذلك ذكرها أهل الأدب وحَمَلَة اللغة عنهم وكل ذلك بتصريف الملائكة عن أمر الله تعالى. ولذلك - والله أعلم - سُنَّ أن يقال عند الرعد: سبوح قدوس، بياناً لأن المصرف الحق هو الله رب الملائكة. أي الذين أقيموا لهذا، والروح، أي الذي يحمله هذا الجسم من مطر. أو نار، أو غيرهما والله الموفق.

فضائلها

فضائلها وأما ما ورد فيها: ففي توله تعالى: (وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) . روى البغوي من طريق البخاري عن عبادة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من تعارَّ من الليل، فقال: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد للهِ، وسبحان الله، والله أكبر ولا حول ولا توة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي - أو دعا - استجيب له، فإن توضأ، قبلت صلاته. وتقدم في لقمان حديث في فضلها.

سورة والطور

سورة والطور مكية إجماعاً. عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها وآيها أربعون وسبع آيات في المدنيين والمكي، وثمان في البصري. وتسع في الكوفي والشامي. اختلافها آيتان: (والطور) ، لم يعدها المدنيان والمكي، وعدها الباقون. (إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) ، عدها الكوفي والشامي، ولم يعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفواصل، ولم يعد بإجماع، موضعان: (يَوْمَ يُدَعُّونَ) ، (سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) .

مقصودها

وعكسه ثلاثة مواضع: (لواقع) ، (ولكم البنون) (حين تقوم) . ورويها أربعة أحرف: نعمر. مقصودها ومقصودها: تحقيق وقوع العذاب، الذي هو مضمون الوعيد المقسم على وقوعه في الذاريات، الذي هو مضمون الِإنذار المدلول على صدقه في ق، وأن وقوعه أثبت وأمكن من الجبال التي أخبر الصادق بسيرها، وجعل دَكَّ بعضها آية على ذلك، ومن الكتاب في أثبت أوضاعه، لِإمكان غسله وحرقه ومن البيت الذي يمكن عامره وغيره إخرابه، والسقف الذي يمكن رافعه وضعه، والبحر الذي يتمكن من سحره أن يرسله. وقد بان أن اسمها أدل ما يكون على ذلك، بملاحظة القسم وجوابه. حتى بمفردات الألفاظ في خطابه.

فضائلها

فضائلها وأما ما ورد فيها: فروى الشيخان، وأبو داود، وابن ماجة، والنَّسائي. والدارمي، والبغوي من طريق أبي مصعب عن مالك، وأورده الترمذي بغير سند، عن جبير بن مطعم رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ في المغرب بالطور. قال البخاري في التفسير: فلما بلغ هذه الآية. (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) . كاد قلبي أن يطير.

وقال ابن ماجة -:، فلماسَمعته يقرأ.: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) - إلى قوله - (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) . كاد قلبي يطرب. وذكر ابن رجب عن كتاب "الزهد" للإمام أحمد، عن ابن عبد العزيز بن سلمان قال: قرأ رجل عند أبي "والطور" حتى انتهى إلى: (إن عذاب ربك لواقع) فبكى القوم، حتى ما كنت أسمع قراءة القارئ. وروى أبو داود، والترمذي، والنَّسائي، وابن حبان في صحيحه. والحاكم، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -

قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من جلس مجلساً كثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا اله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا كان كفارة لما بينهما. وفي رواية: إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك. قال ابن عباس: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) . أي من مقامك.

وروى أبو عبيد عن يحيى بن حمزة عن أبيه، عن جده، قال: افتتحت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما سورة الطور، فلما انتهت إلى قوله: (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ) ذهبت إلى السوق في حاجة، ثم رجعت وهي تكررها: (وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ) ، (وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ) وهي في الصلاة.

سورة والنجم

سورة والنجم مكية إجماعاً. عدد آياتها وآيها ستون وآيتان في الكوفي والشامي، وآية في عدد غيرهما. اختلافها ثلاث آيات: عد الكوفي (مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) ، ولم يعدها الباقون. وعد الشامي (عَنْ مَنْ تَوَلَّى) ، ولم يعدها الباقون. ولم يعد الشامي (إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) ، وعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفواصل، وليس معدوداً بإجماع، ثلاثة مواضع:

(عن ذكرنا) ، (هو أغنى) ، (وتضحكون) . ورويها إن جعلنا الألف رويا، كان المقصود خمسة أحرف: أفدنا. وإلا: فرويها تسعة عشر حرفاً: عسل أزد، غر ثقيف، وضحك شنه.

مقصودها

مقصودها ومقصودها: ذم الهوى، لإنتاجه الضلال، بالإخلاد إلى الدنيا، التي هي دار الكدر والبلاء والتصرم والفناء. ومدح العلم، لإثماره الهدى، في الإقبال على الأخرى، لأنها دار البقاء، في السعادة أو الشقاء. والحث على اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في نذارته التي بينتها "ق"، وصدقتها الذاريات وأوقعتها الطور. كما يتبع في بشارته، لأن علمه هو العلم، لأنه لا ينطبق عن الهوى، لا في صريح كتابه، ولا في بيانه له، لأن الكل عن الله الذي له صفات الكمال فلا بد من بعث الخلق إليه، وحشرهم لديه، لتظهر حكمته غاية الظهور، فيرفع أهل التزكي والطهور، ويضع أهل التدسي والفجور ويفضح كل متحل بالزور، منتحل للشرور. وعلى ذلك دل اسمها "النجم"، لمن تأمل القسم والجواب، وما نظم به من نجوم الكتاب.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى البزار بإسناد جيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تليت عنده سورة النجم، فلما بلغ السجدة سجد، وسجدنا معه، وسجدت الدواة والقلم. قال النووي في التبيان: وثبت في الصحيحين عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، أنه قرأ على النبي - صلى الله عليه وسلم - (النجم) ، فلم يسجد. وثبت في الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - سجد في النجم.

فدل على أنه ليس بواجب. وقال المنذري في الترغيب في البكاء من خشية الله: وروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) . بكى أصحاب الصفة، حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسهم بكى معهم، فبكينا لبكائه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يلج النار من بكى من خشية الله، ولا يدخل الجنة مُصِرٌّ على معصية الله، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيغفر لهم. رواه البيهقي. وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سجد النبي - صلى الله عليه وسلم -

بالنجم وسجد المسلمون معه والمشركون، والإِنس والجن. وروى - أيضاً - عن عبد الله رضي الله عنه قال: أول سورة أنزلت فيها سجدة: النجم، قال: فسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسجد من خلفه إلا رجلاً رأيته أخذ كفًّا من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافراً، وهو أمية. بن خلف. وقال ابن رجب: وروى وكيع بن زياد بن أبي مسلم، عن صالح أبي الخليل، قال: ما رؤى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبتسماً - أو قال: ضاحكاً - منذ أنزلت عليه هذه الآية: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) .

سورة القمر

سورة القمر وتسمى: اقتربت. مكية إجماعاً. وقال أبو حيان: وقيل: غير ذلك عدد آياتها وآيها خمسون وخمس بإجماع أهل العدد، وليس فيها اختلاف، ولا ما يشبه الفواصل ورويها حرف واحد: الراء. مقصودها ومقصودها: بيان آخر النجم في أمر الساعة، من تحققها، وشدة قربها. وتصنيف أهلها باعتبار ما ذكر هنا، من العجب من القرآن، والضحك

فضائلها

والبكاء والعمل، إلى طالب علم مهتد به فهو فائز. وإلى مُتْبع نَفْسَهُ شَهَواتِها، ضال بإهمالها فهو خائب. وذلك لأنه سبحانه وعد بذلك، بإخبار - صلى الله عليه وسلم - عنه به، وتحقق صدقه بما أيده به من آياته التي ثبت بها اقتداره على ما يريد، من الإيجاد والإعدام. فثبت تفرده بالملك، وأيد اقترابها بالتأثير في آية الليل، بما يدل على الاقتدار على نقض السماوات المستلزم لإهلاك الأرض، فأذن ذلك بأنه ما بقي إلا تأثير آية النهار، وعندها يكون طي الانتشار، وعموم البوار. المؤذن بالإحضار، لدى الواحد القهار. وأدل ما فيها على هذا الغرض كله: أول آياتها، فلذلك سميت بما تضمنته من الاقتراب والقمر. وكانت تسميتها بالقمر أشهر، لدلالته على الاقتراب المختتم به النجم. بالإشارة، لا بالعبارة ولم تسم بالاشتقاق، لأنه إذا أطلق، انصرف إلى الإثم. فكانت السماء به أحق. فضائلها وأما فضائلها: فروى مسلم والأربعة عن عبد الله، بن عبد الله، بن عتبة، بن مسعود أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، سأل أبا واقد الليثي

رضي الله عنه: ماذا كان يقرأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأضحى والفطر؟. قال: كان يقرأ فيهما بـ "قاف والقرآن المجيد" "واقتربت الساعة وانشق القمر". وروى أبو الشيخ في كتاب "الثواب" عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ في ليلة: "الم تنزيل، ويس". و"تبارك الذي بيده الملك"، "واقتربت" كن له نورا.

وللحاكم وقال: صحيح الإسناد، عن أبي عبد الرحمن السلمي، أن حذيفة رضي الله عنه خطبهم بالمدائن يوم جمعة فقال: إن الله تعالى يقول: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد أذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق، ألا وإن الغاية النار، والسباق من سبق إلى الجنة. ورواه عبد الرزاق عن ابن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: سمعت حذيفة رضي الله عنه يوم الجمعة وهو على المنبر قرأ: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ، (فقال: قد اقتربت الساعة. وقد انشق القمر، واليوم المضمار، وغدا السباق. وللطبراني في الأوسط عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من سأل عني، أو سره أن ينظر إليَّ، فلينظر إلى أشعث، شاحب، مشمر، لم يضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة، رفع له علم فشمر إليه. اليوم المضمار، وغدا السباق، والغاية الجنة أو النار. وروى الطبراني - قال المنذري: ورواته محتج بهم في الصحيح، والحاكم وقال: صحيح الِإسناد - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

اقتربت الساعة، ولا تزداد منهم إلا بُعدا. ولفظ الحاكم: اقتربت الساعة، ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصاً. ولا يزدادون من الله إلا بعداً. وروى البخاري وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن أهل مكة سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يريهم آية، فأراهم القمر شقين، حتى رأوا حراء بينهما.

سورة الرحمن

سورة الرحمن عزَّ وَجَل وتسمى: عروس القرآن، والرفرف. قال ابن عباس رضي الله عنهما - قال النسفي: والضحاك -: مكية. وقال قتادة - قال النسفي: ومقاتل بن حيان والواقدي -: مدنية وقال الأصفهاني: وقيل فيها مكي ومدني. قال أبو حيان: هي مكية في قول الجمهور. عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها وآيها سبعون وست في البصرى، وسبع في المدنيين والمكي، وثمان في الكوفي والشامي. اختلافها خمس آيات:

مقصودها

(خلق الإنسان) الأول، لم يعدها المدنيان، وعدها الباقون. (وضعها للأنام) لم يعدها المكي، وعدها الباقون. (شواظ من نار) عدها المدنيان والمكي، ولم يعدها الباقون. (يكذب بها المجرمون) ، لم يعدها البصري، وعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفواصل، ولم يعد بإجماع، موضعان: (خلق الِإنسان) الثاني، (رب المشرقين) . وعكسه موضع: (خلق الإِنسان) الأول. ورويها ثلاثة أحرف: نمر. مقصودها ومقصودها: الدلالة على ما ختمت به القمر من عظيم الملك، وتمام الاقتدار، بعموم رحمته، وسبقها بغضبه، المدلول عليه بكمال علمه، اللازم عليه شمول قدرته، المدلول عليه بتفصيل عجائب مخلوقاته، وبدائع مصنوعاته، في أسلوب التذكير بنعمائه، والامتنان بجميل آلائه، على وجه منتج للعلم بإحاطته بجميع أوصاف الكمال. فمقصودها بالذات: إثبات الاتصاف بعموم الرحمة، ترغيباً في إنعامه. بمزيد امتنانه وترهيباً من انتقامه، بقطع إحسانه. وعلى ذلك دل اسمها "الرحمن"، لأنه العام الامتنان.

فضائلها

واسمها "عروس القرآن" واضح البيان في ذلك، لأنها الحاوية لما فيه من حلى وحلل وجواهر وكلل، والعروس مجمع النعم، والجمال والبهجة، في نوعها والكمال. وكذا "الرفرف" بما في آيته من جليل الإنعام، البالغ إلى أنهى غايته. فضائلها وأما فضائلها: فروى البيهقي في الشُّعب عن علي رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لكل شيء عروس، وعروس القرآن الرحمن. وسر ذلك والله أعلم، أن العروس تمام نعمة الِإنسان، وغاية تمتعه، لما تبدو به من الزينة وأنواع الحلية، وتقترن به من مسرات النفوس، وانشراح الصدور. وقد اشتملت هذه السورة على جميع نعم الدنيا والآخرة، من ذكر الخلق والرزق، بالأقوات والفواكه، والحلى وغيرها، والفهم والعلم، والجنة وتفصيل ما فيها، والنار وأهوالها، فإنها نعمة من حيث إنها - بالخوف منها - سبب لنيل الجنة وما فيها، ومن حيث إنها سارة لمن ينجو منها بالنجاة منها، وبأن من عاداه الله عذب بها، وسجن فيها. وعلى ذلك كله، دل افتتاحها بالرحمن. وروى الترمذي وقال: غريب، عن جابر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فسكتوا، فقال: لقد قرأتها على الجن ليلة الجن، فكانوا أحسن مردوداً منكم،

كنت كلما أتيت على قوله: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) ، قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نُكذبُ، فلك الحمد. ورواه البزار عن ابن عمر، رضي الله عنهما. قال الهيثمي: وشيخه عمرو بن مالك الراسبي وثقة ابن حبان. وضعفه غيره وبقية رجاله رجال الصحيح. ورويناه في الخامس من أجزاء أبي محمد جعفر السراج، تخريج

الحافظ أبي بكر الخطيب عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة الرحمن - أو قرئت عنده - فقال: ما لي أسمع الجن أحسن جواباً لردها منكم؟. قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟. قال: ما أتيت على قول الله عز وجل: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) إلا قالت الجن: ولا بشيء من آلائك ربُ نُكذَب. وروى الِإمام أحمد من طريق ابن لهيعة - قال الهيثمي: وفيه ضعف. وحديثه حسن وبقية رجاله رجال الصحيح - عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر، والمشركون يسمعون: "فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ". وروى ابن هشام في السيرة قبل حديث المستضعفين المعذَبين في الله. عن ابن إسحاق أنه قال: فحدثني يحيى بن عروة بن الزبير عن أبيه قال: كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، اجتمع يوماً أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يُجهر لها به قط، فمن رجل يسمعونه؟. فقال عبد الله بن مسعود: أنا. قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه. قال: دعوني فإن الله سيمنعني. فغدا حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها حتى قام عند المقام، ثم قرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - رافعاً بها صوته - (الرحمن علم القرآن) قال: وتأملوه فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن أم عبد؟. ثم قالوا: إنه يتلو بعض ما جاء به محمد فقاموا إليه - فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه، وقد أثروا في وجهه. فقالوا:

هذا الذي خشيناه غليك. فقال: ما كان أعداء الله أهون عليَّ منهم الآن. ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا، قالوا: لا، حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون. وروى الترمذي - وقال: حسن - عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلًا وهو يقول: ياذا الجلال والإكرام، فقال: قد استجيب لك فسل.

سورة الواقعة

سورة الواقعة مكية. قال النجم النسفي غير قوله: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) ، وقوله: (أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) . فإنهما نزلتا في سفره إلى المدينة. عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها وآيها تسعون وست آيات في الكوفي، وسبع في البصري، وتسع على عدد أسماء الله الحسنى عن عدد الباقين. واختلافها أربع عشرة آية: (فأصحاب الميمنة) ، وكذا (أصحاب المشأمة) ، لم يعدهما الكوفي وعدهما الباقون.

(عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) لم يعدها البصري والشامي ؤعدها الباقون. (وأباريق) عدها المدني الأخير والمكي، ولم يعدها الباقون. (وحور عين) ، عدها المدني الأول والكوفي، ولم يعدها الباقون. (ولا تأثيما) لم يعدها المدني الأول والمكي، وعدها الباقون. (وأصحاب اليمين) لم يعدها المدني الأخير والكوفي، وعدها الباقون. (إنا أنشاناهن إنشاءا) لم يعدها البصري، وعدها الباقون. (وأصحاب الشمال) لم يعدها الكوفي، وعدها الباقون. (في سموم وحميم) لم يعدها المكي، وعدها الباقون. (إن الأولين والآخرين) لم يعدها المدني الأخير والشامي، وعدها الباقون. (لمجموعون) عدها المدني الأخير والشامي، ولم يعدها الباقون. (وكانوا يقولون) عدها المكي، ولم يعدها الباقون. (فروح وريحان) عدها الشامي، ولم يعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفواصل، ولم يعد بإجماع، سبعة مواضع:

مقصودها

(خافضة) ، وأول (السابقون) ، (في سموم) (إن الأولين) (أيها الضالون) ، (لأكلون) ، (المكذبين) . وعكسه ثلاثة هواضع: (الواقعة) ، (كاذبة) ، (ثلاثة) ورويها أحد عشر حرفاً: أجدع، سنبل، ثمر. مقصودها ومقصودها: شرح أحوال الأقسام الثلاثة المذكورة في الرحمن: الأولياء من السابقين، واللاحقين، والأعداء المشاققين: من المصارحين، والمنافقين من الثقلين، للدلالة على تمام القدرة بالفعل، بالاختيار الذي دل عليه آخر الرحمن، بإثبات الكمال، ودل عليه آخر هذه بالتنزيه بالنفي لكل شائبة نقص، ثم بالإثبات بوصف العظمة لجميع الكمال، من الجلال والجمال. ولو استوى الناس لم يكن ذلك من بليغ الحكمة، فإن استواءهم يكون شبهة لأهل الطبيعة. واسمها "الواقعة" دال على ذلك، بتأمل آيته، وما تعلق الطرف

فضائلها

به، وقد اختصت هي والرحمن والقمر عن باقي سور القرآن التي هي على أطوالها، وكونها على التوالي، بأنه لم يوجد في واحدة منها الاسم الأعظم الجامع، كما اختصت المجادلة بأنه لم تخل عنه فيها آية واحدة لِسِرٍّ ذكرته في الأصل، يتطلبه من كان من أولى الفضل، الذين جعل الله لهم قوة الوصل والفصل. فضائلها وأما فضائلها: فروى أبو عبيد في كتاب الفضائل، والحارث بن أبي أسامة بسند ضعيف، والبيهقي في الشعب والبغوي في التفسير، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ كل ليلة سورة الواقعة، لم تصبه فاقة أبدا قال البغوي: وكان أبو طيبة - يعني راويه عن ابن مسعود - لا يدعها أبدا. وذكره رزين في جامعة وزاد: "وفي المسبحات آية كألف آية".

قال المنذري: ولم أره في شيء من الأصول - يعني التي جمعها رزين - وذكره أبو القاسم الأصبهاني في ترغيبه، بغير إسناد. ولأبي عبيد وأبي داود، عن مسروق بن الأجدع، قال: من أراد أن يعلم نبأ الأولين والآخرين، ونبأ أهل الجنة ونبأ أهل النار، ونبأ الدنيا والآخرة، فليقرأ سورة الواقعة. ولأبي عبيد - أيضاً - عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت للنساء: لا تعجز إحداكن أن تقرأ سورة الواقعة. وروى عبد الرزاق عن جابر بن سمرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -

كان يخفف الصلاة، كان يقرأ في الفجر الواقعة ونحوها من السور. وروى الِإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال لما نزلت (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) . شق ذلك على المسلمين، فنزلت: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنتم ثلث أهل الجنة، نصف أهل الجنة، وتقاسمونهم النصف الباقي.

سورة الحديد

سورة الحديد مدنية إجماعاً. وعزى أبو حيان الِإجماع إلى النقاش. وذكر الأصفهاني عن ابن السائب: أنها مكية.

عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها

وكذا قال الزمخشري وأتباعه. وهي آخر النصف الأول من عدد السور، فإنها السورة السابعة والخمسون. عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها وآيها عشرون وتسع في الكوفي والبصري - ثلاثون إلا واحدة - وثمان في عدد الباقين. واختلافها آيتان: (من قِبَله العذاب) ، عدها الكوفي، ولم يعدها الباقون. (وآتيناه الِإنجيل) ، عدها البصري، ولم يعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفواصل، وليس بها بالِإجماع، خمسة مواضع: (فالتمسوا نوراً) ، (بينهم بسور) ، (هم الصديقون) (عذاب شديد) (بأس شديد) ورويها ستة أحرف يجمعها: من بزدر. أو: زمن برد.

مقصودها

مقصودها. ومقصودها: بيان أن عموم الرسالة مناسب لعموم الإِلهية، بالإرسال إلى الأزواج الثلاثة، المذكورة في السورتين الماضيتين من الثقلين، تحقيقاً لأنه سبحانه مختص بجميع صفات الكمال تحقيقاً لتنزهه من كل شائبة نقص. المبدوء به هذه السورة، المختوم به ما قبلها، المقتضي لجهاد من يحتاج إلىِ الجهاد، ممن عصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسيف، وما ترتب عليه من النفقة، ردًّا لهم عن النقائص الجسمانية، وإعلاء لهم إلى الكمالات الروحانية، التي دعا إليها الكتاب حذراً مِنْ سُوءٍ الحساب، يوم التجلي للفصل بين العباد بالعدل، ليدخل أهل الكتاب وغيرهم في الدين طوعاَ، أو كرهاً، ويعلم أهل الكتاب - الذين كانوا يقولون: إنه ليس أحد أفضل منهم. فضيلة هذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - على جميع من تقدمه من الرسل عليهم السلام، بعموم رسالته، وشمول خلافته، وانتشار دعوته، وكثرة أمته، تحقيقاً لأنه لا حدّ لفائض فضله سبحانه، لتكون هذا السورة التي هي آخر النصف الأول من حيث العدد غاية - للمقصود من السورة التي هي أوله عند الالتفات والرد، كما كانت السورة التي هي آخر النصف الأول في المقدار كاشفة لمقصد الأولى فيما دعت إليه من الهداية، وحدت عليه من الِإنذار. وعلى ذلك دل اسمها "الحديد" بتأمل آيته، وتدبر سر ما ذكر فيه وغايته.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى الطبراني في الكبير عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نزلت سورة الحديد يوم الثلاثاء، وخلق الله الحديد يوم الثلاثا. وفيه مسلمة بن علي وهو ضعيف.

وروى: أن هذه السورة كانت سبب إسلام عمر رضي الله عنه الذي وصف في الكتب القديمة بأنه ركن شديد قرن من حديد، ربان الِإسلام، عزَ به كما يعز الِإنسان بالسلاح من الحديد. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: منذ أسلم عمر رضي الله عنه، كان إسلامه فتحاً. وقد تقدم في سورة طه: أنَّ إسلامه رضي الله عنه، كان سنة ثمان من النبوة، فهو قبل الهجرة بست أو خمس سنين، إذا ضممتها إلى ثلاث وعشرين سنة بعد الهجرة، وهي التي كان قتله رضي الله عند انتهائها، كانت تسعاً - أو ثمانياً - وعشرين سنة، على عدد آي هذه السورة، على الاختلاف المذكور في عددها، وإذ ذاك تناهت قوة الِإسلام، فكان بمنزلة تمام سن الاكتهال، وكان في زمن عثمان رضي الله عنه في مثل سن الوقوف، وحين قتل عثمان رضي الله عنه، أخذ في الضعف. وروى البيهقي في الدلائل عن عمر رضي الله عنه، أنه قال: أتحبون أن أعلمكم كيف كان إسلامي؟. قال: قلنا: نعم. قال كنت من أشد الناس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبينا أنا في يوم حار شديد الحر بالهاجرة، في بعض طرق مكة، إذ لقيني رجل من قريش، فقال: أين تريد يا ابن الخطاب؟. فقلت: أريد التي والتي، قال: عجباً لك يا ابن الخطاب، أنت تزعم أنك. كذلك وقد دخل الأمر في بيتك؟. قال: قلت: وما ذاك؟. قال: أختك قد أسلمت. قال: فرجعت مغضباً حتى قرعت الباب، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أسلم الرجل والرجلان ممن لا شيء له، ضمهما إلى الرجل الذي في يده السعة فينالان من طعامه. وكان قد ضم إلى زوج أختي رجلين، فلما قرعت الباب، قيل: من هذا؟ قيل: عمر بن الخطاب، فبادروا واختفوا مني، وقد كانوا يقرأون صحيفة بين أيديهم، تركوها أو نسوها، فقامت أختي تفتح الباب. فقلت: يا عدوة نفسها أصبوت؟. وضربتها بشيء في يدي على رأسها

فسال الدم، فلما رأت الدم بكت وقال: يا ابن الخطاب ما كنتَ فاعلًا فافعل، فقد صبوتُ. قال: قال: ودخلت حتى جلست على السرير، فنظرت إلى الصفيحة وسط البيت، فقلت: ما هذا؟. ناولينيها، فقالت: لست من أهلها، أنت لا تطهر من الجنابة، وهذا كتاب لا يمسه إلا المطهرون فما زلت بها حتى ناولتنيها، ففتحتها فإذا فيها: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فلما مررت باسم من أسماء الله عز وجل ذعرت، فألقيت الصحيفة، ثم رجعت إلى نفسي فتناولتها، فإذا فيها: (سبح للهِ ما في السماوات والأرض) فلما مررت باسم من أسماء الله ذعرت، ثم رجعت إلى نفسي، فقرأتها حتى بلغت: (آمنوا بالله ورسوله) إلى آخر الآية فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. فخرجوا إليَّ مبادرين وكبروا. وقالوا: أبشر يا بن الخطاب فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا يوم الإثنين فقال: اللهم أعز دينك بأحب الرجلين إليك: إما أبو جهل بن هشام، وإما عمر بن الخطاب، وإنا نرجو أن تكون دعوة رسول الله - عز وجل -، فأبشر، قال: قلت: فأخبروني أين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما عرفوا الصدق مني قالوا: في بيت بأسفل الصفا، فخرجت حتى قرعت الباب عليهم، فقالوا: من هذا؟. قلت: ابن الخطاب. قال: وقد علموا من شدتي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما يعلمون بإسلامي فما اجترأ أحد يفتح الباب، قال: افتحوا له، إن يرد الله به خيراً يهده، ففتحوا إليَّ الباب حتى أخذ رجلان بعضدي، حتى أتيا بي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: خلوا عنه، ثم أخذ بمجامع قميصي. ثم جذبني إليه، ثم قال: أسْلِمْ يا ابن الخطاب. اللهم اهده، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فكبر المسلمون تكبيرة سمعت بعجاج مكة، وكانوا مستخفين فلم أشأ أن أرى رجلاً يضرب فيضرب، إلا رأيته، ولا يصيبني من ذلك شيء، فخرجت حتى جئت خالي وكان شريفاً، فقرعت عليه الباب، فقال: من هذا؟. فقلت: ابن الخطاب، فخرج إليَّ فقلت: قد علمت أني قد صبوت؟. قال: أو فعلت؟.

قلت: نعم، قال: لا تفعل قلت: قد فعلت، فدخل وأجاف الباب دوني، فقلت: ما هذا شيء، فذهبت إلى رجل من عظماء قريش فناديته، فخرج إليَّ، فقلت مثل مقالتي لخالي، وقال مثل ما قال ودخل وأجاف الباب دوني، فقلت في نفسي: ما هذا شيء، إن المسلمين يضربون وأنا لا أضرب، فقال لي رجل أتحب أن يعلم بإسلامك؟. فقلت: نعم، قال: فإذا جلس الناس في الحجر فأت فلاناً، - لرجل لم يكن يكتم السر - فقل له فيما بينك وبينه: إني قد صبوت، فإنه قلما يكتم السر، قال فجئت وقد اجتمع الناس في الحجر، فقلت فيما بيني وبينه: إني قد صبوت، قال: أو قد فعلت؟. قلت: نعم، قال: فنادى بأعلى صوته: إن ابن الخطاب قد صبأ، فبادر إليَّ أولئك الناس فما زلت أضربهم ويضربونني، فاجتمع على الناس. قال خالي: ما هذه الجماعة؟. قيل: عمر قد صبأ، فقام على الحجر فنادى، فأشار بكمه هكذا: ألا إني قد أجرت ابن أختي فكشفوا عني، فكنت لا أشاء أن أرى رجلاً من المسلمين يَضرِبُ وُيضْرَبُ إلا رأيته، فقلت: ما هذا بشيء حتى يصيبني، فأتيت خالي فقلت: جوارك عليك رد، فقال: ما شئت، فما زلت أضْرِبُ وأُضْرَبُ، حتى أعزَّ الله الإِسلام. وروى أحمد، وأبو داود، والترمذي وقال: حسن غريب. والنَّسائي في الكبرى، من حيث عُرْباض بن سارية رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ المسبحات كل ليلة قبل أن يرقد، ويقول: فيهن آية خير من ألف آية.

وروى أبو عبيد في الفضائل، والدارمي في سننه المسمى بالمسند، عن معاوية بن صالح، عن بحير بن سعد الكلاعي، عن خالد بن معدان مرسلاً. وقال النسائي في روايته: قال معاوية - يعني: ابن صالح -: إن بعض أهل العلم كانوا يجعلون المسبحات ستاً؟ سورة الحديد، والحشر. والحواريين، وسورة الجمعة والتغابن، وسبح اسم ربك الأعلى. وذكر أبو القاسم الغافقي في "فضائل القرآن" من حديث علي رضي الله عنه، إذا أردت أن تسأل الله حاجة، فاقرأ خمس آيات من أول سورة الحديد، إلى قوله: "عليم بذات الصدور". ومن آخر الحشر من قوله: "لو أنزلنا هذا القرآن) ، إلى آخر السورة ثم تقول: يا من هو كذا، افعل بي كذا، ثم يدعو بما يريد. وروى أبو داود بإسناد جيد عن أبي زميل أنه قال لابن عباس رضي الله عنهما: ما شيء أجده في صدري؟. قال: ما هو؟. قلت: والله ما أتكلم به. فقال لي: أشيء من شك؟.

قال: وضحك. قال: ما نجا من ذلك أحد. قال: حتى أنزل الله عز وجل: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) الآية. ثم قال: إذا وجدت في نفسك شيئاً فقل: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) . وروى الطبراني في الكبير - بسند فيه موسى بن يعقوب الزمعي. وثقه ابن معين وغيره وضعفه ابن المديني، وبقية رجاله رجال الصحيح - عن عبد الله بن الزبير عن ابن مسعود رضي الله عنهم، أنه قال: لم يكن بين إسلامهم، وبين أن نزلت هذه الآية يعاتبهم الله بها، إلا أربع سنين: (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) .

وقال ابن الجوزي: وروى أبو الحسن بن جهضم بإسناده عن إبرإهيم بن الأشعث قال: كان مبتدأ توبة فضيل أنه خرج ليقطع الطريق. فسمع قوماً يقول بعضهم لبعض: مرُّوا، مرُّوا لا يفاجئنا فضيل، فسمع ذلك فاغتم وتفكر، وقال يخافني هذا الخلق هذا الخوف العظيم؟.. فتقدم وسلم عليهم وأمَّنهم، وخرج يرتاد لهم علفاً، ثم رجع فسمع قارئاً يقرأ: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) فمزق ثيابه، وقال: والله بلى، قد آن.

سورة المجادلة

سورة المجادلة وتسمى: قد سمع. مدنية. قال النسفي: إلا قوله: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ) الْآية، فإنها مكية. عدد آياتها وما يشبه الفاصلة فيها وآيها إحدى وعشرون في المدني الأخير والمكي، واثنتان في عدد الباقين. (اختلافها آية: (أولئك في الأذلين) ، لم يعدها المدني الأخير والمكي، وعدها الباقون.

مقصودها

وفيها مما يشبه الفواصل، ولم يعد بإجماع، موضع واحد: (عذاباً شديداً) . ولاعكس له. ورويها خمسة أحرف. يجمعها: زمن در. مقصودها ومقصودها: الِإعلام بإيقاع البأس الشديد، الذي أشارت إليه الحديد بمن حاد الله ورسوله، لما له سبحانه من تمام العلم، اللازم عنه تمام القدرة. اللازم عنه الِإحاطة بجميع صفات الكمال. وعلى ذلك دلت تسميتها بالمجادلة بأول قصتها وآخرها، وتكرير الاسم الأعظم الجامع في القصة وجميع السورة، تكريراً لم يكن في سواها، بحيث لم تخل منه آية، وأما الآيات التي تكرر في كل منها المرتين فأكثر، فكثيرة.

فضائلها

فضائلها وأما ما ورد فيها: فروى أحمد، والبزار، والطبراني - قال الهيثمي: وإسناده جيد لأن حمادا سمع من عطاء بن السائب حالة الصحة - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سام عليكم، ثم (يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ) ؟. فنزلت هذه الآية: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) إلى آخر الآية. ولأبي يعلى عن أنس رضي الله عنه، أن يهوديا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: السلام عليكم، فرد القوم، فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: هل تدرون ما قال؟. قالوا: الله ورسوله أعلم، سلّم يا نبي الله، قال: لا: ولكنه قال: كذا وكذا، رُدُّوهُ علي، فردوه عليه فقال: أقلت السلام عليكم؟. قال: نعم، قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا سلَّم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا: وعليك، أي عليك ما قلت. (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) ، (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) . وروى البغوي بسنده عن ابن عمرو - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

مر بمجلسين في مسجده، أحد المجلسين يدعون الله ويرغبون إليه، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه قال: كلا المجلسين على خير، وأحدهما أفضل من صاحبه، أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه ويعلمون الجاهل، فهؤلاء أفضل، وإنما بعثت معلماً ثم جلس إليهم.

سورة الحشر

سورة الحشر وتسمى: سورة النضير. مدنية إجماعاً. قال الأصفهاني: ذكر المفسرون: أن جميعها نزل في بني النضير عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها وآيها عشرون، وأربع آيات، في جميعِ العدد. ولا اختلاف فيها. وفيها مما يشبه الفواصل وليس معدودا بإجماع، خمسة مواضع: (لم يحتسبوا) ، (وأيدي المؤمنين) ، (ولا ركاب)

مقصودها

(أحداً أبداً) (بينهم شديد) . وليس فيها عكس ذلك. ورويها أربعة أحرف، وهي: منبر مقصودها ومقصودها: بيان ما دل عليه آخر المجادلة من التنزه عن شوائب النقص، بإثبات القدرة الشاملة، لأنه سبحانه وتعالى قوي عزيز. المستلزمة للعلم التام، المستلزم للحكمة البالغة المستلزمة للحشر، المظهر لفلاح المفلح، وخسارة الخاسر، على وجه الثبات، الكاشف أتم كشف لجميع صفات الكمال. وأدل ما فيها على ذلك: تأمل قصة بني النضير، المعلم بأول الحشر. المؤذن بالحشر الحقيقي، بالقدرة على الحشر الأول، بعد إطباق الولي والعدو على ظن أنه لا يكون. فلذا سميت بالحشر، وببني النضير، لأنه سبحانه حشرهم بقدرته من المدينة الشريفة إلى خيبر. ثم حشرهم - وغيرهم من اليهود - الحشر الثاني من خيبر إلى الشام الذي هو آية الحشر الأعظم إلى أرض المحشر، لقهر هذا النبي الكريم أهل الكتاب، المدعين لأنهم أفضل الناس، وأنهم مؤيدين بما لهم من الدين القويم، على ما يوجب إليه الحديد، كما قهر أهل الأوثان الذين هم عالمون بأنهم بدلوا الدين الصحيح.

فضائلها

فثبت بظهور دينه على كل دين - على حد سواء، كما وعده به ربه سبحانه - صدقه في كل ما جاء به، وأعظم ما جاء به - بعد التوحيد - الِإيمان بالبعث الآخر، لأنه محط الحكمة، وموضع إظهار النقمة والرحمة. فضائلها وأما فضائلها: فروى ابن السني عن أنس رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى رجلاً إذا أخذ مضجعه، أن يقرأ سورة الحشر. فقال: إن مت، مت شهيداً. أو قال: من أهل الجنة. وروى الترمذي، وابن السُنَي، من رواية خالد بن طهمان - وقال: غريب، وفي بعض النسخ: حسن غريب - وقال النووي: فيه ضعف. عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن النبي: - صلى الله عليه وسلم - قال: من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرحيم، وقرأ ثلاث آيات من سورة الحشر، وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي. وإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة.

ورواه الدارمي من طريق أخرى أيضاً. وللبيهقي في الشعب من حديث أبي أمامة رضي الله عنه - بسند ضعيف - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ خواتيم الحشر في ليل أو نهار، فمات من يومه أو من ليلته فقد أوجب الله له الجنة. وللدارمي عن الحسن - موقوفاً عليه - قال: من قرأ آخر سورة الحشر إذا أصبح، فمات من يومه ذلك، طبع بطابع الشهداء. وإن قرأها إذا أمسى، فمات من ليلته، طبع بطابع الشهداء. وفي الفردوس عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا علي إذا صدع رأسك، فضع يدك عليه، واقرأ عليه آخر سورة الحشر.

سورة الممتحنة

سورة الممتحنة مدنية إجماعاً. وآيها ثلاث عشر، بلا خلاف، كما ولا كيفا، ولا شيء فيها مما يشبه الفواصل، ولا عكسه. ورويها خمسة أحرف: لم نرد. مقصودها ومقصودها: براءة من أقر بالإيمان من الكفار، دلالة على صحة مدعاه. كما أن الكفار تبرأوا من المؤمنين وكذبوا بما جاءهم من الحق، لئلا يكونوا على باطلهم أحرص من المؤمنين على حقهم. وتسميتها بالممتحنة، أوضح شيء فيها، وأدله على ذلك، لأن الصهر

فضائلها

أعظم الوصل وأشرفها بعد الدين، فإذا بقي ومنع، دل على أعظم المقاطعة لدلالته على الامتهان. فضائلها وأما فضائلها: فتمييز الخبيث من الطيب. وروى البيهقي في الدلائل وغيره، عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة، عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم، في عمرة الحديبية لما صالح الكفار، فكان في شرطهم لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك، إلا رددته إلينا، فلم يأته أحد من الرجال، إلا رده في تلك المدة، وإن كان مسلماً. وجاء المؤمنات، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط - رضي الله عنها -

ممن خرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينئذ وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرجعها إليهم، فلم يرجعها إليهم، لما أنزل الله فيهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ) الآية. قال عروة: فأخبرتني عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمتحنهن بهذه الآية: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ) الآية. قال عروة: قالت عائشة رضي الله عنها: فمن أقر بهذا الشرط منهن قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد بايعتك، كلاماً يكلمها به، والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة وما بايعهن إلا بقوله. رواه البخاري في الصحيح.

وقال البغوي في المبايعة يوم فتح مكة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من بيعة الرجال وهو على الصفا، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أسفل منه وهو يبايع النساء بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويبلغهن عنه، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان منتقبة متنكرة مع النساء خوفاً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعرفها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً، فرفعت رأسها وقالت: والله إنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال - وبايع يومئذ على الِإسلام والجهاد فقط - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ولا تسرقن، فقالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح، وإني أصبت من ماله هنات، فلا أدري أيحل لي، أم لا؟. فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرفها، فقال لها: وإنك لهند بنت عتبة؟. قالت: نعم فاعف عني ما سلف عفا الله عنك، ولا تزنين. فقالت هند: أو تزني الحرة؟. فقال: ولا تقتلن أولادكن، فقالت هند: ربيناهم صغاراً وقتلتموهم كباراً وأنتم وهم أعلم - وكان ابنها حنظلة ابن أبي سفيان قتل يوم بدر - فضحك عمر رضي الله عنه حتى استلقى، وتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،

فقال: ولا تأتين ببهتان بين أيديكن وأرجلكن - قالت هند: والله إن البهتان لقبيح. وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، قال: ولا تعصين في معروف قالت هند: ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء. فأقر النسوة بما أخذ عليهن. قتل الأولاد: الوأد. وافتراء البهتان: التقاط ولد وإلحاقه بالزوج.

سورة الصف

سورة الصف وتسمى: الحواريون. قال ابن عباس ومجاهد وعطاء - قال النسفي: وعامة المفسرين - مكية. وقتادة - قال النسفي: وعكرمة والحسن - مدنية. وعَكْسُ هذا النقل للأصفهاني، فعزا كونها مكية إلى ابن يسار فقط، وقال: وعن ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة والجمهور: إنها مدنية. وكذا قال أبو حيان: مدنية في قول الجمهور. وهو معنى قول البغوي: مدنية. وقال عطاء: مكية، فالله أعلم.

عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها

عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها وآيها أربع عشرة انفاقاً، ولا اختلاف في تفصيلها، كما أنه لا اختلاف في إجمالها. وفيها مما يشبه الفاصلة، موضع واحد: (وفتحٌ قريب) . ولا عكس لذلك. وريها ثلاثة أحرف، وهي: صمن. مقصودها ومقصودها: الحث على الاجتهاد التام، والاجتماع على قلب واحد، في جهاد من دعت الممتحنة إلى البراءة منهم، بحملهم على الدين الحق، أو محقهم عن جديد الأرض، تنزيهاً للملك الأعلى عن الشرك، وصيانة لجنابه الأقدس عن الإفك، ودلالة على الصدق في البراءة منهم والعداوة لهم. وأدل ما فيها على هذا المقصد: الصف، بتأمل آيته، وتدبر ما له من جليل النفع في أوله، وأثنائه، وغايته. فضائلها وأما فضائلها: فروى الترمذي في التفسير، والدارمي أول الجهاد،

وأبو يعلى في الجزء الأخير من مسنده - وهذا لفظه - عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: ذكرنا أحب الأعمال إلى الله، فقلنا: من يسأل لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهبناه أن نسأله فتفرقنا رجلًا رجلًا حتى اجتمعنا عنده، سار بعضنا إلى بعض فلم ندر، ثم أرسل إلينا، فقرأ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه السورة: (سبح لله ما في السماوات وما في الأرض) - إلى قوله -: (بُنْيَانٌ مَرْصُوص) . قال ابن سلام: فقرأ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السورة كلها، من أولها إلى آخرها. قال أبو سلمة: فقرأها علينا ابن سلام. قال يحيى: فقرأها علينا أبو سلمة قال ابن كثير: فقرأها علينا الأوزاعي. قال عبد الله: فقرأها علينا ابن كثير.

سورة الجمعة

سورة الجمعة مدنية إجماعاً. وآيها إحدى عشر بالاتفاق، ولا اختلاف في تفصيلها، ولا شيء فيها مما يشبه الفواصل. ورويها حرفان: وهما: من. مقصودها ومقصودها: بيان أول الصف، بدليل - هو أوضح شرائع الدين، وأوثق عرى الِإسلام - وهو الجمعة، التي اسمها مبين للمراد منها، من فرضية الاجتماع، وإيجاب الاقبال عليها والتجرد عن غيرها والانقطاع، لما وقع من التفرق حال الخطبة عمن بعث للتزكية، بالاجتماع عليه في الجهاد وغيره، في العسر واليسر، والمنشط والمكره.

فضائلها

واسمها "الجمعة" أنسب شيء فيها لهذا المقصد، بتدبر آياته، وتأمل أوائله وغاياته الحاثة على قوة التواصل والاجتماع، والحاملة على دوام الِإقبال على المتزكي، والحب له والاتباع. فضائلها وأما فضائلها: فروى الترمذي وقال: حسن صحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة، وفي السجدة الثانية: إذا جاءك النافقون. وهو عند ابن الجارود بنحوه. وروى الشيخان: البخاري في التفسير، ومسلم في الفضائل، والترمذي في التفسير والمناقب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ نزلت سورة الجمعة فلما قرأ: (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) ، قال رجل: مَنْ هؤلاء يا رسول الله فوضع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده على

سلمان رضي الله عنه، ثم قال: لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء.

سورة المنافقون

سورة المنافقون مدنية إجماعا. نزلت في غزوة بني المصطلق عدد آياتها وآيها إحدى عشرة بالإجماع. ولا اختلاف في تفصيلها. وفيها مشبه الفاصلة موضع واحد: (أجل قريب) وليس فيها عكس ذلك ورويها: النون.

مقصودها

مقصودها ومقصودها: كمال التحذير مما يثلم الإيمان، من الأعمال الباطنة والترهيب مما يقدح وفي الإسلام، من الأحوال الظاهرة، بمخالفة الفعل للقول، فإنه نفاق في الجملة، فيوشك أن يجرَّ إلى كمال النفاق فيخرج من الدين، ويدخل الهاوية. وتسميتها بالمنافقين، واضحة في ذلك.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى مسلم في صحيحه، وعبد الرزاق، عن عبيد الله بن أبي رافع قال: استخلف مروان أبا هريرة رضي الله عنه على المدينة. فصلى بالناس الجمعة، فقرأ بالجمعة والمنافقين. وقال عبد الرزاق فقرأ في الركعة الأولى سورة الجمعة، وفي الركعة الثانية: إذا جاءك المنافقون، فقلت: يا أبا هريرة قرأت بسورتين سمعت عليا رضي الله عنه يقرأ بهما؟. قال: سمعت حِبي أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بهما. وسر القراءة بهما في هذه الصلاة - والله أعلم -: تحذير من نطق بكلمة الِإسلام ولا سيما المنافقين من أهل الكتاب والأميين، عن الِإبطاء عنها. وحثهم في المبادرة إليها، والِإعلام بأن من تخلف عنها، تهاوناً بها، فهوا منافق، ليس له من القرآن غير مَثَل الحمار، والِإظهار لقوة الِإسلام في الجهر بعيب المخالف من الفريقين في أعظم المجامع، لأنه حق، كما أخبر به في الصف لا بد من إتمامه ولو كره الكافرون والمشركون.

سورة التغابن

سورة التغابن قال ابن عباس رضي الله عنهما، وعطاء بن يسار: مكية، إلا ثلاث آيات منها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، شكى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - جفاء أهله وولده، فأنزل الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) إلى آخر الآيات الثلاث. وقال قتادة - قال النسفي: وعكرمة -: مدنية. وعكس الأصفهاني هذا النقل فقال: إن الجمهور قالوا: هي مدنية، منهم ابن عباس والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة. وقال بأنها مكية: الضحاك. وقال عطاء بن يسار: مكية، إلا ثلاث آيات: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلى آخرها.

عدد آياتها

عدد آياتها وآيها ثماني عشرة في جميع العدد. ولا اختلاف في تفصيلها. وفيها مما يشبه الفواصل، ثلاث مواضع: (ما تسرون) ، (وما تعلنون) ، (التغابن) . ورويها أربعة أحرف وهي: من در. مقصودها ومقصودها: الإبلاغ في التحذير، مما حذرت منه المنافقون، بإقامة الدليل القاطع على أنه لا بد من العرض على الملك للدينونة على النقير والقطمير يوم القيامة، يوم الجمع الأعظم. واسمها "التغابن" واضح الدلالة على ذلك، وهو أدل ما فيها - عليه. فلذلك سميت به.

فضائلها

فضائلها وأما ما ورد فيها: فقال البغوي: وقال عطاء بن يسار: كان عوف بن مالك الأشجعي ْرضي الله عنه ذا أهل وولد وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه، وقالوا: إلى من تدعنا؟. فيرق لهم ويقيم، فأنزل الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ. . .) الآيات. وروى الطبراني بسند ضعيف، عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه -

أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس عدوك الذي إن قتلته كان لك نوراً، وإن قتلك دخلت الجنة، ولكن أعدى عدو لك ولدك الذي يخرج من صلبك، ثم أعدى عدو لك مالك الذي ملكت يمينك. وروى الطبراني في الكبير والأوسط - بإسنادين أحدهما جيد - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خلق الله جنة عدن بيده، ودلى فيها ثمارها، وشق فيها أنهارها، ثم نظر إليها فقال لها: تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون. فقال: وعزتي لا يجاورني فيك بخيل. ورواه أبو بكر البزار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه - موقوفاً ومرفوعاً - قال: خلق الله الجنة: لبنة من ذهب. ولبنة من فضة، وملاطها المسك وغرسها. وقال لها: تكلمي. فقالت: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) . فدخلتها الملائكة فقالت: طوباك منزل الملوك. ورواه ابن أبي الدنيا عن أنس رضي الله عنه مطولا، ولفظه: خلق الله جنة عدن بيده: لبنة من درة بيضاء، ولبنة من ياقوتة حمراء، ولبنة من

زبرجدة خضراء، ملاطها مسك، حشيشها زعفران، حصباؤها اللؤلؤ. ترابها العنبر، ثم قال لها: انطقي. قالت: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) فقال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل، ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) . وروى أبو الشيخ عن أبي بن كعب رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ التغابن رفع عنه موت الفجاءة.

سورة الطلاق

سورة الطلاق وتسمى: (سورة النساء القصرى. مدنية: إجماعا. عدد آياتها وما يشبه الفاصلة فيها وآيها إحدى عشرة آية. في البصرى، واثنتا عشرة في عدد الباقين. اختلافها ثلاث آيات: (بالله واليوم الآخر) . عدها الشامي، ولم يعدها الباقون. (يجعل له مخرجاً) ، عدها المدني الأخير والمكي والكوفي، ولم يعدها الباقون. (يا أولى الألباب) ، عدها المدني الأول، ولم يعدها الباقون.

مقصودها

وفيها ما يشبه الفاصلة، ولم يعد بإجماع، خمسة - مواضع: (ثلاثة أشهر) ، (حساباً شديداً) ، (عذاباً شديداً) (إلى النور) ، (شيء قدير) . وعكسه موضع واحد: (له أخرى) ورويها أربعة أحرف، وهي: رق جم. مقصودها ومقصودها: تقدير حسن التدبير في المفارقة والمهاجرة بتهذيب الأخلاق بالتقوى لا سيما إن كان ذلك عند الشقاق، لا سيما إن كان في أمر النساء. لا سيما عند الطلاق، ليكون الفراق على نحو التواصل والتلاق. واسمها "الطلاق " أجمع ما يكون لذلك، فلذا سميت به. وكذا سنورة الننساء القصرى، لأن - العدل في الفراق بعض مطلق العدل، الذي هو محط مقصود سورة النساء

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى الطبراني من طريق إسماعيل بن عمرو البجلي - قال الهيثمي: وهو ضعيف - عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يا أيها الناس اتخذوا تقوى الله تجارة، يأتكم الرزق بلا بضاعة ولا تجارة. ثم قال: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) . وفي سورة الزمر حديث في فضلها. وروى أحمد، وابن ماجة، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلو هذه الآية: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) فجعل يرددها حتى

نعست، فقال: يا أبا ذر، لو أن الناس أخذوا بها لكفتهم. وروى أبو داود واللفظ له، والنَّسائي، وابن ماجة، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، والبيهقي في الدعوات، وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من لزم الاستغفار، جعل الله له من كل ضيق مخرجاً، ومن كل هم فرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب. ومدار أسانيدهم على الحكم بن مصعب، قال المنذري فيه: صويلح الحديث لم يرو عنه غير الوليد بن مسلم فيما أعلم، وذكره ابن حبان في الثقات، وفي الضعفاء أيضاً وقال: يخطىء. وروى آدم بن أبي إياس في تفسيره عن محمد بن إسحاق قال: جاء مالك الأشجعي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أسر ابني عوف، فقال له: أرسل

إليه إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فأتاه الرسول فأخبره، فأكب عوف يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وقد كانوا شدوه بالقد، فسقط القد عنه، فخرج فإذا هو بناقة لهم فركبها فأقبل فإذا هو بسرح القوم، فصاح بهم، فاتبع آخرها أولهم، فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب، فقال أبوه: عوف ورب الكعبة، فقالت أمه: واسوأتاه، وعوف كئيب متألم ما فيه من القد، فاستبق الباب والخادم إليه، فإذا عوف قد ملأ الفناء إبلًا، فقص على أبيه أمره وأمر الإبل، فأتى أبوه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بخبر عوف، وخبر الإبل، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اصنع بها ما أحببت وما كنت صانعا بإبلك، ونزل: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) . وهذا سند منقطع، فإن محمداً ابن إسحاق لم يدرك مالكاً الأشجعي. وقد مضى آخر سبحان ما يشبه أن يكون متصلا بهذا. وروى أبو الشيخ والبيهقي، من رواية الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من انقطع إلى الله عز وجل كفاه كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا، وكله الله إليها. قال المنذري: واختلف في سماع الحسن من عمران رضي الله عنه.

سورة التحريم

سورة التحريم وتسمى سورة النبي. مدنية إجماعاً. وآيها اثنتا عشرة بالِإجماع. ولا اختلاف في تفاصيلها. وفيها مما يشبه الفاصلة موضع: (وصالح المؤمنين) رويها ثلاثة أحرف، وهي: رمن. مقصودها ومقصودها: الحث على تقدير التدبير في الآداب مع الله ومع رسوله، لا سيما للنساء اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حسن عشرته، وكريم صحبته، وبيان أن الأدب الشرعي تارة يكون باللين، وأخرى بالسوط وما داناه، ومرة

فضائلها

بالسيف وما والاه واسماها "التحريم والنبي" موضح لذلك فضائلها وأما ما ورد فيها: فروى البغوي بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما اعتزل النبي - صلى الله عليه وسلم - نساءه، إلى أن قال: دخلت عليه، فقلت: يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء، فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكال، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك، وما تكلمت وأحمد الله - بكلام

إلا رجوت أن الله يصدق قولي الذي أقول. ونزلت هذه الآية: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ) . (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ) الأية. وروى الحاكم وقال: صحيح الإِسناد - قال المنذري: كذا قال (الحاكم - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) تلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم على أصحابه، فخر فتى مغشياً عليه، فوضع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده على فؤاده، فإذا هو يتحرك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا فتى، قل: لا إله إلا الله، فقالها فبشره بالجنة، فقال أصحابه: يا يا رسول الله أمن بيننا؟. قال: أو ما سمعتم قول الله تعالى: (ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) .

سورة الملك

سورة الملك وتسمى: تبارك. والمانعة، والواقية، والمنجية. قال النسفي: قال ابن مسعود: كنا نسمي "تبارك الذي بيده الملك" على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنجية، وهي في التوراة سورة الملك. انتهى. وهي مكية. وقيل: مدنية.. عدد آياتها وآيها إحدى وثلاثون آية في المدني الأخير والمكي، وثلاثون فقط فيما عداهما. اختلافها آية: (قد جاءنا نذير) . عدها المدني الأخير والمكي. ولم يعدها غيرهما. وعدها شيبة، ولم يعدها أبو جعفر.

مقصودها

وفيها مما يشبه الفواصل، ثلاثة مواضع: (طباقا) ، (للشياطين) ، (يأتكم نذير) . ورويها ثلاثة أحرف: رمن. مقصودها ومقصودها: الخضوع للهِ، لاتصافه بكمال الملك، الدال عليه تمام القدرة، الدال عليه قطعاً إحكام المكونات، الدال عليه تمام العلم، الدال عليه مع إحكام المصنوعات، علم ما في الصدور، لينتج ذلك العلم بتحتم البعث لدينونة العباد على ما هم عليه من الصلاح والفساد كما هي عادة الملوك، لتكمل الحكمة، وتتم النعمة. واسمها "الملك" واضح في ذلك، لأن الملك محل الخضوع، من كل ما يرى الملك. وكذا "تبارك" لأن من كان كذلك، كان له تمام الثبات والبقاء. فكان له من كل شيء كمال الخضوع والاتقاء. وكذا اسمها: المانعة، والواقية، والمنجية. لأن الخضوع حامل على لزوم طريق السعادة ومن لزمها نجا مما يخاف، ومنع من كل هول، ووقى كل محذور.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى أبو داود، والترمذي وحسنه واللفظ له، والنسائي وأبو عبيد في الفضائل، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من القرآن سورة ثلاثون آية - وفي رواية: إن سورة من القرآن ثلاثون آية - شفعت لرجل حتى غفر له وهي (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) .

ورواه عبد بن حميد في مسنده ولفظه: إن سورةً من كتاب الله عز وجل، ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل فأخرجته من النار، وأدخلته الجنة، وهي سورة تبارك. وللترمذي وقال: غريب، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا رسول الله ضربت خبائي على قبر، وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هي المانعة، هي المنجية تنجيه من عذاب القبر. وللحاكم وقال: هذا إسناد عن اليمانيين صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: وددت أنها في قلب كل مؤمن. يعني: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) . ورواه الطبراني في الكبير بسند فيه إبراهيم بن الحكم بن أبان وهو ضعيف - بلفظ: لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي، يعني: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) . وعند الحاكم أيضاً وصحح إسناده، والطبراني في الكبير، من طريق عاصم بن بهدلة - قال الهيثمي: وهو ثقة وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال

الصحيح - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يؤتي بالرجل في قبره، فتوتي رجلاه فتقولان ليس لكم على ما قِبَلِنَا سبيل، فقد كان يقرأ علينا سورة الملك، ثم يؤتي من قبل صدره - أو قال: بطنه - فيقول: ليس لكم على ما قبلي سبيل، كان يقرأ في سورة الملك، ثم يؤتي من قبل راحته، فتقول: ليس لكم على ما قبلي سبيل، كان يقرأ في سورة الملك. فهي المانعة تمنع عذاب القبر، وهي في التوراة سورة الملك، من قام بها في ليلة فقد أكثر وأطنب. ورواه عبد الرزاق موقوفا على ابن مسعود رضي الله عنه. وفي رواية له وللطبراني - موقوفاً أيضاً - مات رجل فجاءته ملائكة العذاب، فجلسوا عند رأسه، فقال: لا سبيل لكم إليه، قد كان يقرأ في سورة الملك. فذكر نحوه. وهو في النسائي مختصراً بلفظ: من قرأ (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) كل ليلة منعه الله بها من عذاب القبر، وكنا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسميها المانعة، وإنها في كتاب الله سورة، من قرأ بها في ليلة، فقد أكثر وأطاب. ورواه الطبراتي في الكبير والأوسط - قال الهيثمي: ورجاله ثقات ولفظه: كنا نسميها في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -المانعة، وأنها في كتاب الله سورة، من قرأبها في ليلة فقد أكثر وأطنب.

ورواه أبو عبيد في الفضائل من طريق مرة الطيب ومن طريق زر بن حبيش عن عبد الله قال: إن الميت إذا مات، أوقدت نيران حوله، فتأكل كل نار ما يليها، إن لم يكن له عمل يحول بينه وبينها، وإن رجلًا مات لم يكن يقرأ من القرآن إلا سورة ثلاثين آية، فأتته من قبل رأسه فقالت: إنه كان يقرؤني، فأتته من قبل رجليه فقال: إنه كان يقوم بي، فأتته من قِبَلِ جوفه. فقالت: إنه كان وعائي. قال مرة: فنظرت أنا ومسروق فلم نجد سورة ثلاثين آية إلا تبارك. وروى مالك في الموطأ، عن ابن شهاب، أن حميد بن عبد الرحمن أخبره: أن "قل هو الله أحد" تعدل ثلث القرآن، وأن (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) تجادل عن صاحبها في قبره. وروى البيهقي عن الخليل بن مرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينام حتى يقرأ تبارك. وحم السجدة.

وللطبراني في الصغير والأوسط بسند - قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح - عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سورة من القرآن ما هي إلا ثلاثون آية، خاصمت عن صاحبها حتى أدخلته الجنة، وهي سورة تبارك. وقد مضى في آل عمران وغيرها، أن يحمل مثل هذا: أنه يأتي ثواب القرآن فيجادل. وعندي: أنه لا مانع من أن الله تعالى يخلق صورة من الصور، من رآها علم أنها تدل على السورة التي نسب إليها الكلام، ويطلق عليها القرآن، كما أن الله تعالى ألهمنا في هذه الدار إلى تصوير القرآن بالكتابة. ويطلق عليه أنه قرآن تجاوزا، أو بالاشتراك. كما في حديث: "لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو". وقد مضى نحو هذا في السجدة، والله الموفق. وروى ابن ماجة بإسناد - قال المنذري: حسن -، وابن خزيمة في صحيحه، عن أبي بن كعب رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ يوم الجمعة تبارك وهو قائم يذكر بأيام الله، وأبو ذر رضي الله عنه يغمز أبي بن كعب رضي الله فقال: متى أنزلت هذه السورة إني لم أسمعها إلا الآن؟. فأشار إليه أن: اسكت، فلما انصرفوا قال: سألتك متى أنزلت هذه السورة فلم تخبرني، فقال أبي رضي الله عنه: ليس لك اليوم من صلاتك معنا إلا ما

لغوت فذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بالذي قال أبي رضي الله عنه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صدق أبي رضي الله عنه.

سورة ن

سورة ن وتسمى: القلم. مكية إجماعاً. قال الأصفهاني: وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن فيها من المدني: (إنا بلوناهم) ، إلى قوله: (لو كانوا يعلمون) . وقوله: (فاصبر) ، إلى قوله: (من الصالحين) . وقال أبو حيان: ومعظمها نزل في الوليد بن المغيرة وأبي جهل بن هشام. عدد آياتها وآيها اثنتان وخمسون إجماعاً. ولا اختلاف فيها. وفيها مشبه الفاصلة، ثلاثة مواضع:

مقصودها

(ن) ، (كذلك العذاب) ، (الحوت) وعكسه موضعان: (مصبحين) ، (ولا يستثنون ". ورويها حرفان، وهما: نم. مقصودها ومقصودها: إظهار ما ستر، وبيان ما أبهم، في آية: (فستعلمون من هو في ضلال مبين) بتعيين المهتدي الذي برهن على هدايته، حيازته العلم الذي هو النور الأعظم، الذي لا يضل بمصاحبه، بتقبل القرآن، والتخلق بالفرقان، الذي هو صفة الرحمن. وأدل ما فيها على هذا الغرض: (ن) ، وكذا: والقلم. فلذا سميت بكل منهما. وبالكلام على كل منهما يعرف ذلك. وحاصله: أن النون مبين محيط في بيانه كما يحيط ضوء الشمس بما يظهره، وكما تحيط الدواة بمدادها بآية ما دل عليه بمخرجه وصفاته، واستقراء الكلم الواقع فيها المعاني التي اشتركت في لفظه. وأما القلم: فإبانته للمعارف، أمر لا ينكر

فضائلها

فضائلها وأما ما ورد فيها: فروى الطبراني في الكبير وقال: لم يرفعه عن حماد بن زيد إلا مؤمل بن إسماعيل - قال الهيثمي: مؤمل ثقة كثير الخطأ، وقد وثقه ابن معين وغيره، وضعفه البخاري وغيره، وبقية رجاله ثقات - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أول ما خلق الله القلم والحوت. فقال للقلم: اكتب. قال: ما أكتب؟. قال: كل شيء كائن إلى يوم القيامة. ثم قرأ: (ن والقلم وما يسطرون) ، فالنون: الحوت والقلم: القلم.

وروى الشيخان وغيرهما، وأورده البغوي في تفسير: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ) بسنده، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: العين حق. وفي رواية عند أحمد وابن ماجة: يحضرها الشيطان، وحسد ابن آدم.

وفي الحلية عن جابر: العين حق، تدخل الجمل القدر، والرجل القبر وعن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت: يا رسول الله إن بني جعفر تصيبهم العين أفاسترقي لهم؟. قال: نعم، فلو كان شيء يسبق القضاء لسبقته العين.

سورة الحاقة

سورة الحاقة مكية إجماعاً. عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها وآيها إحدى وخمسون آية في البصرى والشامي، واثنتان في عدد الباقين. اختلافها: (الحاقة) الأولى، عدها الكوفي ولم يعدها الباقون. وأما (ما الحاقة) فهي آية بالاتفاق. قاله السخاوي. (كتابه بشماله) عدها المدنيان والمكي، ولم يعدها الباقون. وفيها مشبه الفاصلة، ثلاثة مواضع:

مقصودها

(حسوما) ، (صرعى) ، (بيمينه) . قال أبو عمرو الداني: وقيل: إن البصرى يعد "حسوما" وليس بصحيح. ورويها تسعة أحرف: منهل، أي، عقد. مقصودها ومقصودها: تنزيه الخلق ببعث الخلائق، لإِحقاق الحق. وإزهاق الباطل، بالكشف التام بشمول العلم للكليات والجزئيات، وكمال القدرة على العلويات والسفليات، وإظهار العدل بين سائر المخلوقات، فيميز المسلم من المجرم بالمُلَذِّذ والمؤلم. وتسميتها بالحاقة في غاية الوضوح في ذلك، وهو أدل ما فيها عليه.

فضائلها

فضائلها وأما ما ورد فيها: فروى الطبراني في الأوسط - وفي سنده السائب بن يسار الطائفي قال الهيثمي: لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات - عن يزيد بن عامر السوائي رضي الله عنه أنهم بيناهم يطوفون بالطاغية إذ سمعوا متكلماً وهو يقول: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) . ففزعنا لذلك فقلنا: ما هذا الكلام الذي لا نعرفه؟. فنظرنا فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - منطلقاً. وروى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: خرجت أتعرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن أسْلِمَ فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أعجب من تأليف القرآن، قلت: هذا والله شاعر، كما قالت قريش فقرأ: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون) . قال: فقلت: كاهن فقرأ: (وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)) - إلى آخر السورة - فوقع الِإسلام في قلبي كل موقع. قال ابن رجب: شريح لم يسمع من عمر رضي الله عنه.

سورة المعارج

سورة المعارج وتسمى: سأل، والواقع. مكيه إجماعاً. قال أبو حيان: قال الجمهور: نزلت في النضر بن الحارث حين قال: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ) .

عدد آياتها

عدد آياتها وآيها أربعون وثلاث آيات في الشامي، وأربع في عدد الباقين. اختلافها آية: (خمسين ألف سنة) لم يعدها الشامي، وعدها الباقون وليس فيها ما يشبه الفاصلة، ولا عكسه. ورويها تسعة أحرف، وهي: نجمع، بدلها. مقصودها ومقصودها: إثبات القيامة، وإنذار من كفر بها، وتصوير عظمتها بعظمة ملكها، وطول يومها، وتسلية المنذر بها لمن كذبه من الصغار، والذل والتبار. ودل على وجوب وقوعها سابقاً، بما ختمه بتسميتها في السورة الماضية بالحاقة، تنبيهَاً على أنه لا بد منها ولا محيد عنها. ودل على ذلك: القدرة في أولها، والعلم في أثنائها، والتنزه عما في إهمالها من النقص في آخرها، ولا خَفَاء بِمَا أخبر من أنه أرسل جميع رسله بالتحذير منها. فأرسل نوحَا عليه السلام في الزمان الأقدم كما ذكر في سورته، عندما اختلف الناس بعدما كانوا عليه في زمان أبيهم آدم عليه السلام من الاتفاق. على الدين الحق، فافترقوا إلى مصدق ومكذب، فعلم منه: أن من

بعده أولى ذالك لقربهم منها. وأتبع ذلك الِإعلام بأنه دعا إلى ذلك الجن الذين كان سبيلهم فيها سبيل الآدميين، واتِبع ذلك بعد إرسال أول الرسل بها زماناً، آخرهم وأولهم نبوة، حيث كان نبيا وآدم بين الروح والجسد. فبدأ في سورة المزمل بنبوته، وزيادة تزكيته وتقديسه ورفعته، والإخبار عن رسالته، والتحذير من مخالفته، وأتبع ذلك الِإنذار بها، بالصدع بالرسالة، لمحو كل ضلالة. فلما تقررت نبوته، وثبتت رسالته، جعل سورة القيامة كلها لها إعلاماً. بأن الأمر عظيم جداً يجب الاعتناء به، والتأهب له، والاجتهاد بغاية القوة. وإفراغ الجهد. أتبع ذلك بذكر الِإنسان دلالة على أنه المقصود بالذات من الأكوان. فليس من الحكمة أن يجعله سبحانه سدى. ثم أقسم في المرسلات أن أمرها حق لا بد منه، ثم عجب في "عم" منهم في تساؤلهم وتعجبهم منها. ثم أقسم على وقوعها في النازعات، وصور من أمرها وهزا هزها ما أراد. ثم أولى ذلك الدلالة في سورة عبس، على أن من الناس من طبع على قلبه فلا حيلة في تصديقه بها، مع ما تبين بالسورة الماضية، وغيرها من أمرها. ثم صورها في كوِّرَتْ، تصويراً صارت به رأى عين، لو كشف الغطاء ما ازداد الموقنون بها يقيناً. ثم بين في الانفطار: أن الأمور فيها ليست على منهاج الأمور هنا، بل الأسباب كلها منقطعة والأسباب مرتفعة، إلا سبباً يدلي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

فضائلها

والكل خاضعون مخبتون خاشعون، أعظمهم في الدنيا تجبراً، أشدهم هناك صغاراً وتحسراً، ثم أتبع ذلك من يستحق هنالك النكال والسلاسل والأغلال، ثم أولاه رفعة أهل الإيمان الذين طبعهم على الإِقرار بها والعرفان. فأعلم بذلك أن أكثر القرآن في شأنها العظيم، لأنه لا كتاب بعد القرآن ينتظر، ولا أمة أشرف من هذه تخص ببيان أعظم من بيانها. وإِذْن ذلك بأن الأمر قد قَرب، والهول قد دهم، والخوف قد فدح. ليستمر أهل الاختصاص في النجاة من عذابها، والخلاص حين لا مفر، ولا ملجا ولات حين مناص. نسأل الله العافية في يومها، والعيشة الراضية. وعلى هذا المقصد دل كل من أسمائها: سأل، والواقع، والمعارج. وهي أنسب ما فيها للدلالة على ذلك. والله الهادي. فضائلها وأما ما ورد فيها: فروى الطبراني في الكبير عن القاسم، والحسن بن سعد أنهما قالا: قيل لعبد الله رضي الله عنه: إن الله عز وجل يكثر ذكر الصلاة في القرآن: (الذين هم على صلاتهم دائمون) ، و (الذين هم على صلاتهم يحافظون) ، قال: ذلك لمواقيتها، قالوا: ما كنا نراه إلا تركها، قال فإن تركها الكفر.

قال الهيثمي: والحسن بن سعد والقاسم لم يسمعا من ابن مسعود رضي الله عنه. وروى البغوي من طريق ابن لهيعة: حدثني يزيد بن أبي حبيب، أن أبا الخير أخبره قال: سألنا عقبة بن عامر رضي الله عنه عن قول الله عز وجل: (الذين هم على صلاتهم دائمون) أهم الذين يصلون أبدا؟. قال: لا، ولكنه إذا صلى لم يلتفت عن يمينه، ولا عن شماله، ولا خلفه.

سورة نوح

سورة نوح عليه السلام مكية إجماعاً. عدد آياتها وآيها عشرون وثمان في الكوفي، وتسع في البصري والشامي، وثلاثون في المدنيين والمكي. اختلافها أربع آيات: (ولا سواعا) لم يعدها الكوفي، وعدها الباقون. (ويعوق ونسرا) ، عدها المدني الأخير والكوفي، ولم يعدها الباقون.

مقصودها

(ولقد أضلوا كثيراً) ، عدها المدني الأول والمكي، ولم يعدها الباقون. (فأدخلوا ناراً) ، لم يعدها الكوفي، وعدها الباقون. ورويها ثمانية أحرف وهي: جر، تم، نطلق. مقصودها ومقصودها: الدلالة على القدرة، على ما أنذر به آخر سأل، من إهلاك المنذرين، وتبديل خير منهم، ومن القدرة على إيجاد القيامة، الذي طال إنذارهم به، وهم عنه معرضون، وبه مكذبون. وتسميتها بنوح عليه السلام، أدل ما فيها على ذلك، فإن أمره في إهلاك قومه بسبب تكذيبه في ذلك مشهور، ومقصوص في غير ما موضع ومذكور. وتقرير أمر البعث في قصته في هذه السورة مقرر ومسطور. فضائلها وأما ما ورد فيها: فروى البغوي من طريق البخاري، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صارت الأوثان التي كانت تعبد في قوم نوح في العرب بعد؛

أما وُد فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ. وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير، لآل ذي الكلاع. ثم قال: وكانت للعرب أصنام أخر.

سورة الجن

سورة الجن وتسمى: قل أوحى. مكية إجماعاً. عدد آياتها وآيها ثمان وعشرون من غير خلاف في الإجمال. واختلفوا عند التفصيل في آيتين: (لن يجيرني من الله أحد) عدها المكي، ولم يعدها الباقون. (من دونه ملتحداً) لم يعدها المكي، وعدها الباقون. هكذا رأيت في كتاب أبي عمرو الداني.

مقصودها

ورأيت في كتابي الجعبري والسخاوي: أن الخلاف بين الشامي وغيره. لا بين المكي وغير. فالله أعلم. ولا شيء فيها مما يشبه الفواصل. ووويها أربعة أحرفت، وهي: "قد طب. مقصودها ومقصودها: إظهار شرف هذا النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث لين له قلوب الجن والِإنس وغيرهم، فصار مالكاً لقلوب المجانس وغيره. وذلك لعظمة هذا القرآن، ولطف ما له من عظيم الشّان. هذا والزمان في آخره، وزمان لبثه في قومه دون العشر من زمن قوم نوح - عليهما السلام - أول نبي بعثه الله إلى المخالفين، وما آمن معه من قومه إلا قليل. وعلى ذلك دلت تسميتها بالجن، وبـ "قل أوحى"، بتأمل الآية المشتملة على ذلك، وما فيها من لطيف، المسالك.

فضائلها

فضائلها وأما ما ورد فيها: فروى الطبراني في الكبير، والبغوي في تفسيره - بسند فيه عبد الرحمن ابن إسحاق الكوفي وهو ضعيف - عن كردم بن أبي السائب رضي الله عنه قال: خرج أبي يريد مكة، وذلك أول ما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - فآوينا - وقال البغوي: فآوانا المبيت - إلى صاحب غنم، فلما انتصف الليل، جاء الذئب فأخذ حملاً من غنمه، فوثب الراعي فقال: يا عامر

الوادي جارك. فسمعنا صوتاً، لا نرى صاحبه: يا سرحان أرسله، قال: فأتى الحمل يشتد ما به كدمة، حتى دخل في الغنم. قال: وأنزل الله على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة - وقال البغوي: بمكة -: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ) الآية.

سورة المزمل

سورة المزمل مكية. قال ابن عباس رضي الله عنهما: إلا آية من آخرها، وهي قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ) إلى آخر السورة، فإنها نزلت بالمدينة. وقال الأصبهاني: وعن ابن عباس رضي الله عنهما: مكية سوى آيتين منها، قوله: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) والتي بعدها. وقال ابن يسار ومقاتل: فيها آية مدنية: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ) إلى آخرها.

عدد آياتها وما يشبه الفاصلة فيها

عدد آياتها وما يشبه الفاصلة فيها وآيها ثماني عشرة آية في المدني الأخير، وتسع عشرة في المكي والبصري، وعشرون عند الباقين. اختلافها ثلاث آيات: (يا أيها المزمل) ، عدها الكوفي والمدني الأول والشامي، ولم يعدها الباقون. (إلى فرعون رسولا) لم يعدها المكي وعدها الباقون. (الوِلْدَان شيبا) ، لم يعدها المدني الأخير، وعدها الباقون. وفيها مشبه الفاصلة، موضعان: (قرضاً حسناً) ، (وأعظم أجراً) . ورويها ثلاثة أحرف، وهي: ملبّ. مقصودها ومقصودها: الِإعلام بأن محاسن الأعمال تدفع الأخطار والأوحال. وتخفف الأحمال والأثقال ولا سيما الوقوف بين يدي الملك المتعال، والتجرد في خدمته في ظلمات الليل، فإنه نعم الإله لقبول الأفعال والأقوال، ومحو ظلل الضلال، والمُعين الأعظم على الصبر والاحتمال، لما يرد من الكدورات في دار الزوال، والقلعة والارتحال. واسمها "المزمل" أدل ما فيها على هذا المقال.

فضائلها

فضائلها وأما ما ورد فيها: فروى البغوي في تفسير: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) من طريق البخاري عن أنس رضي الله عنه، أنه سئل: كيف كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -؟. فقال: كانت مدا، ثم قرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يمد بسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم. وروى عبد بن حميد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت في بيت ميمونة رضي الله عنها فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل، فقمت عن يساره،

فأخذ بيدي، فجعلني عن يمينه، ثم صلى ثلاث عشرة ركعة، منها ركعتا الفجر، ثم حزرت قيامه في كل ركعة (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) وروى الجزجاني عن سعد بن إبراهيم قال: أتى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بعشائه وهو صائم، فقرأ: إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) . فلم يزل يبكي حتى رفع طعامه، وإنه لصائم.

سورة المدثر

سورة المدثر مكية إجماعاً. وقال الأصفهاني: قال مقاتل: فيها آية مدنية، (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً) . عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها وآيها خمسون وخمس آيات في المدني الأخير والمكي والشامي، وست في عدد الباقين. اختلافها آيتان: (في جنات يتساءلون) لم يعدها المدني الأخير، وعدها الباقون.

مقصودها

(عن المجرمين) لم يعدها الكي والشامي، وعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفواصلِ: (والمؤمنون بهذا مثلاَ) . ورويها ثلاثة أحرف، وهي: ندر، أو: رند. مقصودها ومقصودها: الجد والاجتهاد في الإنذار، بدار البوار، لأهل الاستكبار. وإثبات البعث في أنفس المكذبين الفجار، والإِشارة بالبشارة لأهل الأذكار بحكم العزيز الغفار. واسمها "المدثر" أدل ما فيها على ذلك. وذلك واضح لمن تأمل النداء والمنادى به والسبب.

فضائلها

فضائلها وأما ما ورد فيها: فروى الطبراني في الكبير، من طريق عطية - قال الهيثمي: وهو ضعيف - عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته يستمع متى يؤمر، فقال أصحابه رضي الله عنهم: فكيف نقول؟. قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. وفي رواية: ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا نقر في الناقور) . وروى ابن أبي الدنيا عن معاوية بن قرة قال: ما يسرني بهذه الآية الدنيا وما فيها (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) - إلى قوله -:

(الشافعين) ألا ترى: أن ليس فيهم خير. وللحاكم وقال: صحيح الإسناد، عن بهز بن حكيم قال: أمَّنَا زرارة بن أوفى رضي الله عنه في مسجد بني قشير، فقرأ المدثر، فلما بلغ (فإذا نقر في الناقور) خر ميِّتاً.

سورة القيامة

سورة القيامة مكية إجماعاً. عدد آياتها. وآيها أربعون في الكوفى، وتسع وثلاثون فيما عداه. اختلافها آية: (لتعجل به) ، انفرد بها الكوفي. قال الجعبري: وفيها مما يشبه الوسط، وهو رأس آية، موضعان: (بصيرة) ، (معاذيره) . ورويها سبعة أحرف، وهي: منبر لان، أو: مَنْ، بَر، لان.

مقصودها

مقصودها ومقصودها: الدلالة على عظمة المدثر، المأمور بالإنذار - صلى الله عليه وسلم -، لعظمة مرسله سبحانه، وتمام اقتداره بأنه كشف له العلوم حتى صار إلى الأعيان بعد الرسوم، بشرح آخر سورته من أن هذا القرآن تذكرة عظيمة، لما أودعه الله فيه من وضوح المعاني، وعذوبة الألفاظ، وجلالة النظم، ورونق السبك، وعلو المقاصد. فهو لذلك معشوق لكل طبع، معلوم ما خفى من إشاراته، بصدق النية، وقوة العزم، بحيث يصير كأنه كان منسياً بعد حفظه فذكر، (فمن شاء ذكره) وعلم معانيه، وتخلق بها. وإنما المانع عن ذلك مشيئته، فمن شاء حجبه عنه أصلا ورأساً، ومن شاء حجبه عن بعضه، ومن شاء كشف عنه الحجاب، وجعله منه على أعظم صواب، دون شك ولا ارتياب. كما كان المدثر - صلى الله عليه وسلم - حين كان خلقه القرآن. واسمها القيامة - واضح في ذلك، وليس فيها ما يقوم بالدلالته عليه غيره. وإذا تؤملت الآية مع ما أشارت إليه لا النافية للقسم، من أنها من الوضوح في جد، لا يحتاج إلى إقسام عليه، لأنه لا يوجد أحد يَدَعُ مَنْ تَحتَ يَدِه يعدو بعضهم على بعض، ويتصرفون فيما حوله من غير حساب، فكيف بأحكم الحاكمين، الذي وكل بعبيده أضعافهم من الملائكة، فهم يديرون في كل لحظة فيهم كؤوس المنايا، ويأخذون منِ أمرهم به سبحانه إلى دار (البرزخ للتهيئة للعرض، ويسوقونهم زمرا، بعد زمر، إلى العود إلى الأرض، حتى ينتهي الجمع في القبور، ويقيمهم بالناقور، والنفخ في الصور. إلى الحساب، للثواب والعقاب، ولم يحجب عن علم ذلك، حتى ضل عنهم

فضائلها

أكثر الخلق، إلا مشيئته سبحانه بتغليب النفس الأمارة، حتى صارت اللوامة منهمكة في الشر، شديدة اللوم على الإقصار عن شيء منه. كما أنه ما جلاه لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، حتى كان خلقه، ولمن أراد من أتباعه، إلا إرادته شرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فضائلها. وأما ما ورد فيها: فقد روى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعالج من

التنزيل شدة، وكان يحرك شفتيه فأنزل الله تعالى: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) - قال: جمعه في صدرك ثم تقرؤه - فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) . قال: فاستمع له وأنصت، ثم قال: إن علينا أن تقرأه. قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه جبريل عليه السلام استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه - صلى الله عليه وسلم -، كما أقرأه. وروى أبو داود - ومن طريقه البغوي والترمذي، وأحمد، وأبو بكر الشافعي في السابع من (الغيلانيات) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ منكم: (والتين والزيتون) فانتهى إلى آخرها: (أليس الله باحكم الحاكمين) فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين. ومن قرأ: (لا أقسم بيوم القيامة) ، فانتهى إلى قوله (أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى) ، فليقل: بلى - وفي رواية الترمذي: بلى وعزة ربنا -. ومن قرأ: (والمرسلات) ، (أليس ذلك بقادر على أن يحمى الموتى) فليقل: بلى يا رب. وإذا قرأ: (والتين والزيتون (أليس الله بأحكم الحاكمين) . فليقل: بلى يا رب. وإذا قرأ (والمرسلات عرفا) (فبأي حديث بعده يؤمنون) فليقل: آمنا بالله.

وروى البغوي من طريق أبي داود عن موسى ابن أبي عائشة قال: كان رجل يصلي فوق بيته، فكان إذا قرأ (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) ، قال: سبحانك بلى، فسألوه عن ذلك فقال: سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

سورة الإنسان

سورة الإِنسان وتسمى: الأمشاج، وهل أتى، والدهر. مكية. وقال جابر بن زيد: مدنية. وقال الأصفهاني: قالت طائفة، منهم مجاهد وقتادة: مدنية كلها. وقال ابن يسار ومقاتل - وحكى عن ابن عباس رضي الله عنهما -: مكية. وقالت طائفة: إن فيها مكياً ومدنياً، ثم في ذلك قولان: أحدهما: أن المكي منها آية، وهي: (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) . وباقيها جميعه مدني، قاله الحسن وعكرمة.

عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها

وثانيهما: أولها مدني إلى قوله: (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً) . ومن هذه الآية إلى آخرها مكي. هكذا في نسختي من تفسير الأصفهاني. ورأيت في تفسير البغوي عكس ذلك، فإنه قال: وقال الحسن وعكرمة: هي مدنية إلا آية، وهي قوله تعالى: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) . عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها. وآيها إحدى وثلاثون آية اتفاقاً، ولا اختلاف فيها. وفيها مما يشبه الفواصل، ولم يعد اتفاقاً، ستة مواضع: (السبيل) ، (مسكيناً) ، (ويتيماً) (قوارير) ، الثاني، (مخلدون) . وعكسه: (قوارير) الأول. ورويها ثلاثة أحرف، وهي: رمل. مقصودها ومقصودها: ترهيب الإنسان من الكفران، بما دل عليه آخر القيامة من العرض على الملك الديان لتعذيب العاصي في النيران، وتنعيم المطيع في الجنان، بعد جمع الخلائق كلها الإنس والملائك والجان، وغير ذلك من

فضائلها

الحيوان، ويكون لهم مواقف طوال، وزلازل وأهوال لِكُل منها أعظم شأن. وأدل ما فيها على ذلك: الإِنسان، بتأمل آيته، وتدبر مبدأه وغايته. وكذا تسميتها بـ هل أتى، والدهر، والأمشاج، من غير ميل ولا اعوجاج. فضائلها. وأما فضائلها: فروى الشيخان عن أبي هريرة رصي الله عنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر يوم الجمعة (الم تنزيل) . و (هل أتى على الإِنسان) . ورواه مسلم أيضاً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال ابن رجب: خرج الطبراني، وأبو نعيم، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نزلت: (هل أتى على الِإنسان - إلى قوله -: رأيت نعيماً وملكاً كبيراً) ورجل من الحبشة عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: وإن عيني لترى ما ترى عيناك في الجنة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: نعم، فاستبكى حتى فاضت نفسه، قال ابن عمر رضي الله عنهما: فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدليه في حفرته بيده. وفي سنده أيوب بن عتبة، وهو ضعيف باتفاقهم. قاله ابن رجب.

سورة المرسلات

سورة المرسلات مكية. قال الأصفهاني: ويقال لها: سورة العرف. وقال الأصفهاني: مكية كلها في قول الجمهور. وحكى عن ابن عباس وقتادة ومقاتل: أن فيها آية مدنية، وهي: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) . عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها. وآيها خمسون آية عند الجميع. ولا اختلاف فيها. وفيها مما يشبه الفواصل، موضعان:

مقصودها

(شامخات) ، (عذراً) . مقصودها. ومقصودها: الدلالة على آخر الِإنسان، من إثابة الشاكرين بالنعيم. وإصابة الكافرين بعذاب الجحيم، في يوم الفصل، بعد جمع الأجساد، وبعث العباد، بعد طي هذا الوجود، وتغيير العالم المشهود، المحسوس المعهود، بما له سبحانه من القدرة على إنبات النبات، وإنشاء الأقوات، وإنزال العلوم. واتساع الفهوم، لإحياء الأرواح، وإسعاد الأشباح، بأسباب خفية، وعلل مرئية، وغير مرئية، وتطوير الإنسان، في أطوار الأسنان، وإيداع الإيمان، فيما يرضي من الأبدان، وإيجاد الكفران، في أهل الخيبة والخسران، مع اشتراك الكل في التبيان، في أساليب هذا القرآن، الذي عجز الإنس والجان على الإتيان بمثل آية منه، على كثرتهم وتطاول الأزمان. واسمها المرسلات، وكذا العرف، واضح الدلالة على ذلك، لمن تدبر الأقسام، وتذكر ما دلت عليه من معاني الكلام. فضائلها. وأما فضائلها: فروى الشيخان، البخاري ومسلم، وغيرهما

عن أم الفضل رضي الله عنها، أنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالمرسلات، وهي آخر صلاة صلاها. ورواه عبد الرزاق في جامعه، ولفظه: أنها رضي الله عنها قالت: آخر ما سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في المغرب سورة والمرسلات. ورواه البخاري وأبو داود، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أم الفضل بنت الحارث رضي الله عنها سمعته وهو يقرأ: (والمرسلات عرفا) ، فقالت: يا بني لقد أذكرتني بقراءتك هذه السورة، إنها لآخر ما سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها في المغرب. وللشيخين والنَّسائي، وأبي يعلى، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:

كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة عرفة التي قبل يوم عرفة، في غار بمنى - وفي رواية: بالخيف من منى. وفي رواية: في مسجد الخيف - وقد أنزلت عليه: (والمرسلات عرفا) ، فنحن نأخذها. وفي رواية: وإنا نتلقاها من فيه رطبة. وفي رواية: وإن فاه لرطب بها. إذ وثبت علينا حية. وفي رواية: إذ سمعنا حس الحية. وفي رواية: إذ خرجت علينا حية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقتلوها فابتدرناها لنقتلها، فسبقتنا. وفي رواية: فذهبت فدخلت جحرها. وفي رواية: في شق جحر، فأدخلنا عوداً، فقلعنا بعض الجحر وأخذنا سعفة فأضرمنا فيها ناراً، فلم نجدها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دعوها، فقد وقاها الله شركم، كما وقاكم الله شرها. وعندي: أنه يؤخذ من هذا: أن قراءتها أمان من الحية.

سورة عم

سورة عَمَّ وتسمى: النبا، والتساؤل. مكية إجماعاً. عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها. وآيها إحدى وأربعون في البصري، وأربعون فيما سواه. اختلافها آية: (عذاباً قريباً) . عدها البصرى، ولم يعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفواصل، ستة مواضع: (يوم ينفخ في الصور) ، (وفتحت السماء)

مقصودها

(وسيرت الجبال) (الرحمن) الأول. (اليوم الحق) ، (وما قدمت يداه) ولا عكس له. ورويها أحد عشر حرفاً، وهي: قفزت شمس بنجد. مقصودها. ومقصودها: الدلالة على أن يوم القيامة الذي كانوا مجمعين على نفيه. وصاروا بعد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - في خلاف فيه مع المؤمنين، ثابت ثباتاً، لا يحتمل شكاً ولا خلافاً بوجه، لأن خالق الخلق - مع أنه حكيم قادر على ما يريد - دبرهم أحسن تدبير وبنى لهم مسكناً وأتقنه، وجعلهم على وجه يبقى به نوعهم من أنفسهم، بحيث لا يحتاجون إلى أمر خارج يرونه. فكان ذلك أشد لألفتهم وأعظم لأنس بعضهم ببعض، وجعل سقفهم وفراشهم كافلين لمنافعهم. والحكيم لا يترك عبيده - وهو تام القدرة، كامل السلطان - يمرحون. يبغى بعضهم على بعض، ويأكلون خيره، ويعبدون غيره، فكيف إذا كان حاكماً؟. فكيف إذا كان أحكم الحاكمين؟.

فضائلها

هذا ما لا يجوز في عقل، ولا يخطر ببال أصلًا، فالعلم واقع به قطعاً. وكل من أسمائها واضح في ذلك، بتأمل آيته، ومبدأ ذكره وغايته. فضائلها. وأما فضائلها: فروى الطبراني في الأوسط عن علي رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يحفظ منافق سورة هود، وبراءة، والدخان، وعم يتساءلون.

سورة النازعات

سورة النازعات وتسمى: الساهرة، والطامة. مكية إجماعاً. عدد آياتها. وآيها ست وأربعون في الكوفي، وخمس في ما سواه. اختلافها آيتان: (ولأنعامكم) لم يعدها البصري والشامي، وعدها الباقون. (فأما من طغى) ، لم يعدها المدنيان والمكي، وعدها الباقون. ولا شيء فيها ممايشبه الفواصل. ورويها سبعة أحرف، وهي: طار حمقه.

مقصودها

مقصودها. ومقصودها: الِإقسام على بعث الأنام ووقوع القيام، يوم الزحام، وزلل الأقدام بعد البيان التام، فيما مضى من هذه السور العظام، تنبيهاً على أنه وصل الأمر في الظهور إلى مقام، ليس بعده مقام، وصور ذلك بنزع الأرواح بيدي الملائكة الكرام، ثم أمر فرعون اللعين، وموسى عليه السلام. واسمها (النازعات) واضح في ذلك المرام. وإذا تُؤُمِّل القسم وجوابه المعلوم للأئمة الأعلام. وكذا الساهرة والطامة، إذا تؤمل السياق، واشتدت العناية بالتدبر والوفاق. فضائلها وأما ما ورد فيها: فروى أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح. والحاكم وصححه. والحارث بن أبي أسامة، والبغوي في التفسير، وعبد بن حميد في مسنده، عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب ربعِ الليلِ - وفي رواية ثلثا الليل - قام فقال: يا أيها الناس اذكروا الله ذكرا كثيراَ، جاءت الرادفة تتبعها الرادفة، جاءت الرادفة تتبعها الرادفة، جاء الموت

بما فيه، قال أبي بن كعب رضي الله عنه: فقلت: يا رسول الله. إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟. قال: ما شئت. قلت: الربع؟. قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير لك. قلت: فالنصف؟. قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير. قلت: فالثلثين؟. قال: ما شئت فإن زدت فهو خير. قال: أجعل لك صلاتي كلها؟. قال: إذاً تُكفى همك، ويغفر لك ذنبك. وروى البيهقي في "الدعوات" عن ابن عباس رضي الله عنهما في المرأة يعسر عليها ولدها، قال: يكتب في قرطاس ثم تسقى: بسم الله الذي لا إله إلا هو الحليم الكريم، سبحان الله وتعالى رب العرش العظيم. الحمد للهِ رب العالمين، (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35) ، (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46) . هذا موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما.

سورة عبس

سورة عبس مكية إجماعاً. عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها. وآيها أربعون آية في الشامي، وإحدى وأربعون عند أبي جعفر والبصري، واثنتان وأربعون في عدد الباقين. اختلافها ثلاث آيات: (ولأنعامكم) ، لم يعدها البصري والشامي، وعدها الباقون. (إلى طعامه) ، لم يعدها أبو جعفر وحده، وعدها الباقون وشيبة. (فإذا جاءت الصاخة) ، لم يعدها الشامي، وعدها الباقون. وفيها مشبه الفواصل، ثلاثة:

مقصودها

(من نطفة خلقه) ، (وعنباً) ، (وزيتوناً) وعكسه موضعان: (شيء خلقه) ، (وحبًّا) . ورويها ثمانية أحرف: وهي: بخله مارق. مقصودها. ومقصودها: شرح (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) بأن المراد الأعظم: تزكية القابل للخشية للتخويف بالقيامة، التي قام الدليل على القدرة عليها بابتداء الخلق من الإنسان، وبكل من الِإبتداء والِإعادة لطعامه، والتعب ممن أعرض مع قيام الدليل، والِإشارة إلى أن الِإستغناء والترف أمارة الإعراض وعدم القابلية، والتهيؤ للكفر والفجور، وإلى أن المصائب أمارة الطهارة والِإقبال، واستكانة القلوب وسمو النفس بشريف الأعمال. واسمها "عبس" هو الدال على ذلك، لتأمل آياته، وتدبر فواصله وغاياته. فضائلها. وأما ما ورد فيها: فروى أبو داود عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رجلًا قال له:

إني أقرأ المفصل في ركعة، قال: أهذًّا كهذِّ الشعر ونثر الدقل؟. لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ النظائر، السورتين في ركعة: الرحمن والنجم في ركعة واقتربت والحاقة في ركعة. والطور والذاريات في ركعة، وإذا وقعت و"ن " في ركعة، وسأل سائل والنازعات في ركعة، وويل للمطففين وعبس في ركعة، وعم يتساءلون والمرسلات والدخان وإذا الشمس كورت. في ركعة. قال المنذري في مختصر السنن: وقد أخرج مسلم في صحيحه طرفاً منه. وروى الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رجلا قال له: قرأت المفصل البارحة في ركعة. فقال ابن مسعود: هذًّا كهذِّ الشعر؟.

لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرن بينهن، فذكر عشرين سورة من المفصل وسورتين من آل حم.

سورة التكوير

سورة التكوير مكية إجماعاً. عدد آياتها. وآيها تسع وعشرون إجماعاً، إلا عند أبي جعفر، فهي عنده وثمان. اختلافها آية: (فأين تذهبون) لم يعدها أبو جعفر وحده، وعدها الباقون وشيبة. ولا شيء فيها مما يشبه الفواصل. ولا عكسه. ورويها أربعة أحرف، وهي: تنسم، (أو تسنم) ، أو تسمن.

مقصودها

مقصودها. ومقصودها: التهديد الشديد، بيوم الوعيد، الذي هو محط - الرحال. لكونه أعظم مقام لظهور الجلال، لمن كذب بأن هذا القرآن تذكرة في صحف مكرمة، بأيدي سفرة. والدلالة على حقيقة كونه كذلك، بأن السفير به أمين في الملأ الأعلى، مكين لمكانته فيما هنالك، والموصل له إلينا منزه عن التهمة، بريء من النقص، لما يعلمونه من حاله قبل النبوة، وما كانوا يشهدون له به من الكمال في صحبته لهم المتطاولة، التي نبههم بالتعليق بها على ما لا يشكون فيه من أمره، ولم يأتهم بعدها إلا بما هو شرف له، وتذكير بما في أنفسهم، وفي الآفاق من الآيات. وذلك كاف لهم في الحكم بأنه صدق، والعلم اليقين بأنه حق. واسمها التكوير أدل ما فيها على ذلك، بتأمل الظرف وجوابه، وما فيه من بديع القول وصوابه، وما تسبب عنه من عظيم الشأن لهذا القرآن. فضائلها. وأما فضائلها: فروى الترمذي، وأحمد - قال الهيثمي: بإسنادين رجالهم ثقات - والطبراني بإسناد أحمد، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأى عين فليقرأ: إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت، أحسب أنه قال: وسورة هود.

قال المنذري: لم يصف الترمذي هذا الحديث بحسن ولا بغرابة. وإسناده متصل ورواته ثقات مشهورون، ورواه الحاكم وقال: صحيح الِإسناد. وقال ابن رجب: وأخرجه الترمذي، ولم يذكر سورة هود، وقال: حسن غريب. قال النووي في التبيان: وقد روى ابن أبي داود بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قرأ: (إذا الشمس كورت) يحزنها شبه الرثاء. انتهى. وروى مسلم وأبو داود والدارمي، وعبد الرزاق، عن عمر بن حريث رضي الله عنه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في صلاة الصبح إذا الشمس كورت. ولفظ عبد الرزاق: يقرأ في الصبح: والليل إذ عسعس. ولفظ أبي داود: كاني أسمع صوت النبي - صلى الله عليه وسلم -

يقرأ في صلاة الغداة بـ (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) . وتقدم في، سورة هود - عليه السلام - من فضلها. وروى ابن أبي الدنيا عن عبد الأعلى بن أبي عبد الله العنبري قال: رأيت عمر بن عبد العزيز خرج يوم الجمعة في ثياب دسمة وراء حبشي يمشي، فلما انتهى إلى الناس رجع الحبشي، فكان عمر إذا انتهى إلى الرجلين قال: هكذا رحمكم الله، حتى صعد المنبر، فخطب فقرأ (إذا الشمس كورت) فقال: وما شأن الشمس؟. (وإذا النجوم انكدرت) حتى انتهى (وإذا الجحيم سعرت، وإذا الجنة أزلفت) فبكى، وبكى أهل المسجد. وارتج المسجد بالبكاء، حتى رأيت أن حيطان المسجد تبكي معه.

سورة الانفطار

سورة الانفطار مكية إجماعاً. وآيها تسع عشرة آية في جميع العدد، ولا اختلاف فيها. وفيها مشبه الفاصلة ستة مواضع: (ما قدمت) ، (فسوَّاك) ، (يعلمون) ، (الأبرار) ، (الفجار) ، (لنفس شيئاً) . ورويها خمسة أحرف، وهي: مكنته.

مقصودها

مقصودها. ومقصودها: التحذير من الإِنهماك في الأعمال السيئة اغتراراً بإحسان الرب وكرمه ونسياناً ليوم الدين، الذي يحاسب فيه على النقير والقطمير، ولا تغني فيه نفس عن نفس شيئاً. واسمها "الانفطار" أدل ما فيها على ذلك. فضائلها وأما ماورد فيها: فروى الطبراني في معاجمه الثلاثة - قال الهيثمي: ورجاله ثقات - عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أراد الله جل اسمه أن يخلق النسمة فجامع الرجل المرأة، طار ماؤه في كل عرق وعصب منها، فإذا كان اليوم السابع أحضر الله كل عرق بينه وبين آدم، ثم قرأ: (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) . وروى أبو عبيد عن رجل قال: كنت بمكة، فلما صليت العشاء، إذا رجل أمامي قد أحرم في نافله، فاستفتح: "إذا السماء انفطرت"، فلم يزل فيها حتى نادى منادي السحر، فسألت عنه فقيل: سعيد بن جبير.

وروى أبو عبيد - أيضاً عن صالح بن مسمار قال: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) . قال: جهله.

سورة التطفيف

سورة التطفيف مكية. فيما قال جابر بن زيد. وقال عكرمة: عن ابن عباس رضي الله عنهما: مدنية وهو الظاهر، لما يأتي في فضلها. وقال النسفي في تفسيره: وقال مقاتل والواقدي: تعد مكية، ونزلت بعد خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة، قبل دخول المدينة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت بين مكة والمدينة، في مهاجره - صلى الله عليه وسلم -، فأضيفت إلى المدينة انتهى. وقيل: نصفها مكي، ونصفها مدني.

عدد آياتها

وقال الأصفهاني: قال ابن مسعود والضحاك ويحيى بن سلام: مكية وقال ابن عباس رضي الله عنهما، والحسن، وعكرمة وقتادة، ومقاتل. مدنية لكن ابن عباس وقتادة قالا: فيها ثمان آيات مكية: (إن الذين أجرموا) إلى آخرها. وقال مقاتل: فيها آية مكية وهي قوله: (إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين) . وذكر هبة الله بن سلامة أنها نزلت في الهجرة بين مكة والمدينة: نصفها يقارب مكة، ونصفها يقارب المدينة. عدد آياتها وآيها ست وثلاثون وفاقأ، ولا اختلاف في تفصيلها، ولا شيء فيها مما يشبه الفواصل ولا عكسه. ورويها حرفان، وهما: نم. مقصودها ومقصودها: شرح آخر الانفطار، بأنه لا بد من دينونة العباد يوم التناد، بإسكان الأولياء أهل الرشاد دار النعيم، والأشقياء أهل الضلال والعناد دار الجحيم، ودل على ذلك بأنه مربيهم، والمحسن إليهم بعموم

فضائلها

النعمة، ولا يتخيل عاقل أن أحداً يربي أحداً من غير سؤال، عما حمله إياه. وكفله به. واسمها " التطفيف" أدل ما فيها على ذلك. فضائلها وأما ما ورد فيها: فروى ابن ماجة وابن حبان في صحيحه، والبيهقي. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، كانوا من أخبث الناس كيلا، فأنزل الله عز وجل: (ويل للمطففين) ، فأحسنوا الكيل بعد ذلك. وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قرأ (ويل للمطففين) حتى بلغ: (يوم يقوم الناس لرب العالمين)

فبكى حتى خرَّ وامتنع من قراءة ما بعده. وروى الطبراني في الكبير - قال الهيثمي: ورجاله ثقات - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية: (يوم يقوم الناس لرب العالمين) فقال: كيف بكم إذا جمعكم الله عز وجل كما تجمع النبل في الكنانة خمسين ألف سنة، لا ينظر إليكم. وروى البغوي عن المقداد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد، حتى تكون قَدْرَ مَيْل أو اثنين قال فتصهرهم الشمس، فيكونون في العرق بقدر أعمالهم. فمنهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاماً، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشير بيده إلى فيه يقول: ألجمه إلجاماً.

سورة الانشقاق

سورة الانشقاق مكية إجماعاً. عدد آياتها وآيها عشرون وثلاث في البصري والشامي. وخمس في عدد الباقين. اختلافها آيتان: (كتابه بيمينه) ، (وراء ظهره) لم يعدهما البصري والشامي، وعدهما الباقون. ولاشيء فيها مما يشبه الفواصل.

مقصودها

ورويها ستة أحرف، وهي: من قهرت مقصودها ومقصودها: الدلالة على آخر المطففين، من أن الأولياء ينعمون. والأعداء يعذبون، لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث والعرض على الملك الذي أوجدهم ورباهم كما يعرض الملوك عبيدهم، ويحكمون بينهم، فينقسمون إلى أهل ثواب، وأهل عقاب. واسمها "الانشقاق" دال على ذلك. فضائلها وأما ما ورد فيها: فروى الشيخان، وأبو داود، والترمذي، عن أبي مليكة، أن عائشة رضي الله عنها كانت لا تسمع شيئاً إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من حوسب - وفي رواية: عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من نوقش الحساب عذب، قالت عائشة رضي الله عنها - وفي رواية: فقلت: أو ليس الله عز وجل يقول: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) ؟. قالت: فقال: إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب يهلك. وفي رواية: وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا يهلك. وفي رواية: وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك.

وللشيخين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سجد في "إذا السماء انشقت" وقال: سجدت فيها خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -، فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه. وفي رواية لمسلم والدارمي: في " إذا السماء انشقت"، و "اقرأ باسم ربك".

وروى عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ: " إذا السماء انشقت " وهو على المنبر، فلما بلغ السجدة التي فيها، نزل فسجد، فسجد الناس معه.

سورة البروج

سورة البروج مكية إجماعاً عدد آياتها وآيها اثنتان وعشرون إجماعاً ولا اختلاف في تفصيلها قال أبو عمرو الداني: وليس فيها، ولا إلى سورة الليل مما يشبه الفواصل شيء، انتهى. ورويها سبعة أحرف، وهي: جد، طب، قرظ.

مقصودها

مقصودها ومقصودها: الدلالة على القدرة على مقصود الانشقاق، الذي هو صريح آخرها من تنعيم الولي، وتعذيب الشقي، بمن عذبه في الدنيا ممن لا يمكن في العادة، أن يكون عذابه ذلك إلا من الله وحده. تسلية لقلوب المؤمنين، وتثبيتاً لهم على أذى الكفار. وعلى ذلك دل اسمها "البروج" بتأمل القسم، والمقسم عليه. فضائلها وأما ما ورد فيها: فروى أبو داود، والترمذي وقال: حسن. والنسائي والدارمي، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر والعصر، بالسماء ذات البروج، والسماء والطارق، ونحوهما من السور. وروى البغوي بسنده عن عبد الله بن رافع قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اليوم الموعود: يوم القيامة، والمشهود: يوم عرفة، والشاهد: يوم الجمعة، ما طلعت شمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة،

فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن، يدعو الله فيها خيراً، إلا استجاب الله له، ولا يستعيذ من شر إلا أعاذه الله منه.

سورة الطارق

سورة الطارق مكية إجماعاً عدد آياتها وآيها ست عشر في المدني الأول، وسبعة عشر في عدد الباقين. اختلافها آية: (إنهم يكيدون كيداً) لم يعدها المدني الأول، وعدها الباقون. ورريها سبعة أحرف، وهي: دع، ظل، برق. مقصودها ومقصودها: بيان مجد القرآن في صدقه في الإخبار بتنعيم أهل الإيمان. وتعذيب أهل الكفران، في يوم القيامة، حين تبلى السرائر، وتكشف الضمائر عن مثقال الذر، وما دون المثقال، وما دونته الحفظة في صحائف الأعمال. بعد استيفاء الآجال، كما قدر في أزل الآزال، من غير استعجال، ولا تأخير عن الوقت المضروب ولا إهمال.

ما ورد فيها

واسمها "الطارق" أدل ما فيها على هذا الموعود الصادق، بتأمل القسم. والمقسم عليه، حسب ما انساق الكلام إِليه. ما ورد فيها وأما ما ورد فيها: فروى أحمد والطبراني، عن عبد الرحمن بن خالد العدواني عن أبيه - يعني: خالد بن أبي جبل رضي الله عنه، وكان سكن الطائف - أنه أبصر النبي - صلى الله عليه وسلم - في مشرق ثقيف، وهو قائم على قوس، أو عصى حين أتاهم يبتغي عندهم النصر، قال: فسمعته يقرأ: والسماء والطارق، حتى ختمها، قال فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك، ثم قرأتها في الإسلام، قال: فدعتني ثقيف، فقالوا: ما سمعت من هذا الرجل؟. فقرأتها عليهم؟ فقال من معهم من قريش: نحن أعلم بصاحبنا، لو كنا نعلم ما يقوله حقاً لاتبعناه. قال الهيثمي: وعبد الرحمن ذكره ابن أبي حاتم، ولم يجرحه أحد وبقية رجاله ثقات.

سورة الأعلى

سورة الأعلى وتسمى: سَبِّحْ. مكية. وقال الضحاك: مدنية. وآيها تسع عشرة إجماعا، ولا اختلاف فيها. ورويها: الألف. مقصودها ومقصودها: إيجاب التنزيه للأعلى سبحانه عن أن يلحق ساحة عظمته

فضائلها

شيء من شوائب النقص، كاستعجال في أمر؛ منْ إهلاك الكافرين، أو غيره، أو العجز عن البعث أو إهمال الخلق سدى يبغي بعضهم على بعض بغير حساب. أو أن يتكلم بما لا يطابق الواقع، أو بما يقدر أحد أن يتكلم بمثله، وعلى ذلك دل كل من اسميها: سبح، والأعلى. فضائلها وأما فضائلها: فروى أبو داود، والنَّسائي، وابن ماجة، بسند صحيح. عن أبي بن كعب رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في ثلاث ركعات الوتر سبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، والإِخلاص. ورواه الترمذي، والنَّسائي، وابن ماجة، والدارمي، عن عباس رضي الله عنهما نحوه. ولأبي داود، والترمذي وقال: حسن غريب، وابن ماجة، وعبد الرزاق والحاكم وقال: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه، واللفظ له، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين اللتين يوتر بعدهما بـ "سبح أسم ربك الأعلى"، و "قل يا أيها الكافرون"، ويقرأ في الوتر: "قل هو الله أحد"

و "قل أعوذ برب الفلق"، و "قل أعوذ برب الناس". وفي رواية: يقرأ في الوتر، في الأولى: بـ "سبح أسم ربك الأعلى"، وفي الثانية "قل يا أيها الكافرون"، وفي الثالثة: "قل هو الله أحد"، والمعوذتين. وروى أحمد عن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب هذه السورة: (سبح أسم ربك الأعلى) . وروى البيهقي في الدعوات واللفظ له، وعبد بن حميد، وعبد الزراق،

سر قراءة سورة الأعلى والكافرون والمعوذتين في الوتر

عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبْزَى، عن أبيه رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يوتر بسبح أسم ربك الأعلى في الركعة الأولى، وفي الأخرى بـ "قل يا أيها الكافرون"، وفي الثالثة: "قل هو الله أحد"، فإذا أراد أن ينصرف قال - وقال عبد الرزاق أن ينصرف من الوتر قال، وفي رواية: فإذا قعد في آخر الصلاة سلم ثم قال -: فسبحان الملك القدوس، ثلاث مرات يرفع بها صوته في الثالثة. وروى أبو بكر الشافعي في الجزء السادس والعاشر من "الغيلانيات" ولفظه: كان يوتر بـ "سبح اسم ربك الأعلى"، و "قل يا أيها الكافرون"، و "قل هو الله أحد الله الصمد"، والمعوذتين. سر قراءة سورة الأعلى والكافرون والمعوذتين في الوتر وسر ذلك - والله أعلم - أن المراد بصلاة الوتر: التذكير بوحدانية المعبود، والتقرير لذلك في آخر عبادة الليل، كما صنع ذلك في أول عباداته، وجعل ذلك كالختم لصلاة النهار. والليل أشبه شيء بالموت. وأقرب إلى العدم، وأنسب شيء لذلك التنزيه والإِخلاص. فشرع في آخر

قراءتها في العيدين وسر ذلك

شفع فيه قراءة أعظم المسبحات، تنزيهاً في أولى الركعتين كما ابتدأت كلمة الإخلاص بالنفي، لأن التخلية قبل التحلية. وقراءة إحدى سورتي الإخلاص في الئانية وفي وتره، أعظم سور التوحيد ونهاية الإفصاح به، والإيضاح له. فلما تم ذلك على أحسن وجه. وكان الذي يعقب ذلك النوم الذي يخلع الحيوان من قواه، ويشغل عن التعوذ بالذكر، وما يثمره من المعارف الإلهية، والأسرار الربانية، شرع لذلك التعوذ بالمعوذتين، اللتين ما تعوذ متعوذ بمثلهما، توكلا على الحي الذي لا يموت، واعتصاماً بذى العزة والجبروت. قراءتها في العيدين وسر ذلك وروى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العيدين: في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب وسبح أسم ربك الأعلى، وفي الئانية بفاتحة الكتاب وهل أتاك حديث الغاشية. وسر ذلك: أن الأعلى فيها التنزيه، لئلا يظن أنه سبحانه محتاج إلى ما فرغ منه أهل العيد من العبادة، والحث على تزكية النفس والمال، والصلاة والذكر، والإعراض عن الدنيا، لأن العيد مظنة التهاون بذلك، والِإنبساط إلى الدنيا. والغاشية فيها الحث على الِإخلاص، لئلا يكون العامل - مع تعبه في

الدنيا - معذباً في الأخرى، والتذكير بما جرت عادة الناس أن يخرجوا إليه من عيدهم من الرياض والجبال ونحوها، ليكون نظرهم إليه اعتبار بالآيات. والحساب، وانقسام الناس إلى صنفين. كما أن أهل العيد ينقلبون إلى منازلهم على وجهين: محسن حائز للثواب، ومسىء قد خاب، واستحق العذاب. ولأحمد والبزار بسند ضعيف، عن علي رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحب (سبح سم ربك الأعلى) . ولأبي عبيد عن أبي تميم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني نسيت أفضل المسبحات، فقال أبي بن كعب رضي الله عنه: فلعلها "سبح اسم ربك الأعلى " قال: نعم. ولمسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر بـ "سبح اسم ربك الأعلى"، وفي الصبح بأطول من ذلك. قال النووي في التبيان: وعن ابن عباس، وابن الزبير، وأبي موسى الأشعري، رضي الله عنهم: أنهم كانوا إذا قرأ أحدهم "سبح اسم ربك الأعلى" قال: سبحان ربي الأعلى. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول فيها: سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات.

سورة الغاشية

سورة الغاشية مكية إجماعا. عدد آياتها. وآيها ست وعشرون في جميع العدد، ولا اختلاف فيها. وفيها مما يشبه الوسط، وهو رأسى آية، موضعان: (ضريع) ، (جوع) . ورويها ثمانية أحرف: ثبت في عمر. مقصودها. ومقصودها: شرح ما في آخر سبح، من تنزيه الله تعالى عن العبث،

فضائلها

بإثبات الدار الآخرة، وذكر ما فيها للأتقى والأشقى، والدلالة على القدرة عليها. وأدل ما فيها على هذا المقصود: الغاشية. نعوذ بالله من القلب الغاشي، والبصيرة الغاشية، لئلاً يكون للغاشية علينا بسوء الأعمال ناشئة. فضائلها. وأما فضائلها: فروى الترمذي وقال: حسن صحيح، والدارمي. وعبد الرزاق، وابن الجارود في المنتقى، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في العيدين والجمعة بـ سبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية، وربما اجتمع فقرأ بهما. وفي رواية: وإذا اجتمع يوم عيد، ويوم جمعة، قرأ بهما فيهما جميعاً

وروى عبد الرزاق عن النعمان بن بشير - أيضاً - رضي الله عنهما أنه سئل: بأي شيء كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في يوم الجمعة مع سورة الجمعة؟ ، فقال (هل أتاك حديث الغاشية) . وروى ابن أبي حاتم عن عمرو بن ميمون قال: مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على امرأة تقرأ: هل أتاك حديث الغاشية، فقام يستمع ويقول: نعم قد جاءني. وذكر ابن رجب عن كتل! الزهد للِإمام أحمد، عن عنبسة الخواص، أن محمد بن واسع كان يجعل (هل أتاك حديث الغاشية) ورداً يرددها ويبكي.

سورة الفجر

سورة الفجر مكية. قال أبو حيان: في قول الجمهور. وقال أبو عمرو الداني: وقال علي بن أبي طلحة: مدنية عدد آياتها. وآيها تسع وعشرون آية في البصري، وثلاثون آية في الكوفي والشامي. واثنتان وثلاثون في المدنيين والمكي. اختلافها أربع آيات:

مقصودها

(فأكرمه ونعمه) ، (فقدر عليه رزقه) ، عدهما المدنيان والمكي، ولم يعدهما الباقون. (يومئذٍ بجهنم) ، لم يعدها الكوفي والبصري، وعدها الباقون. (في عبادي) ، عدها الكوفي، ولم يعدها الباقون. وفيها مشبه الوسط وهو آية، موضع: (عذاب) . ورويها عشرة أحرف: كبر، مدن، فتاي. مقصودها. ومقصودها: الاستدلال على آخر الغاشية: الِإياب، والحساب بالثواب والعقاب. وأدل ما فيها على هذا المقصود: الفجر، بانفجار الصبح عن النهار الماضي بالأمس من غير فرق في شيء من الذات، وانبعاث الناس من الموت الأصغر: النوم بالانتشار في ضياء النهار، للمجازات في الحساب.

ما ورد فيها

ما ورد فيها. فأما ما ورد فيها: فروى أحمد والبزار - قال الهيثمي: ورجالهما رجال الصحيح، غير عياش بن عقبة وهو ثقة - عن جابر رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (وليال عشر) - قال: عشر الأضحى، (والشفع والوتر) قال: الشفع يوم الأضحى. والوتر يوم عرفة. وروينا في جزء ابن عرفة عن سعيد بن جبير قال: مات ابن عباس رضي الله بالطائف، فجاء طائر لم يُرَ على خلقته فدخل نعشه ثم لم ير خارجاً منه، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر، لا يدري من تلاها: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) .

وقال ابن رجب: ويروي عن المنصور أنه قال لبعض أهل البصرة: عظنى، فاستعاذ وسمى، ثم قرأ: والفجر وليال عشر - إلى قوله -: (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) . فبكى المنصور بكاء شديدا كأنه لم يسمع تلك الآية إلا تلك الساعة.

سورة البلد

سورة البلد مكية. قال أبو حيان: في قول الجمهور. وقال النسفي في تيسيره: وقيل: مدنية. عدد آياتها. وآيها عشرون آية في جميع العدد، ولا خلاف فيها. ورويها أربعة أحرف: مندب. مقصودها. ومقصودها: نفي القدرة عن الِإنسان، وإثباتها لخالقه الديان، وذلك هو معنى اسمها، فإن من تأمل أمان أهل الحرم، وما هم فيه من الرزق

ما ورد فيها

والخير، على قلة الرزق ببلدهم، مع ما فيه غيرهيم، ممن هم أكثر منهم وأقوى، من الخوف والجوع، علم ذلك. ما ورد فيها. وأما ما ورد فيها: فروى البغوي في تفسير قوله تعالى: (فك رقبة) الآية، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله علمني عملًا يدخلني الجنة. قال: لئن كنت أقصرت الخطبة، لقد أعرضت المسألة، اعتِقْ النسمة، وفك الرقبة، قال: يا رسول الله أوليسا واحداً؟. قال: لا، عتق النسمة: أن تنفرد

بعتقها، وفك الرقبة: أن تعين في ثمنها. والمنحة: الوكوف، والفيء على ذي الرحم الظالم، فإن لم تطق ذلك، فأطعم الجائع، واسق الظمآن. وأمر بالمعروف، وانْهَ عن المنكر، فإن لم تطق ذلك، فكُفَّ لسانك، إلا من خير.

سورة الشمس

سورة الشمس وضحاها مكية إجماعاً. وآيها ست عشرة في المدني الأول، ويقال في المكي كذلك، وخمس عشرة في عدد الباقين. اختلافها آية: (فعقروها) عدها المدني الأول، والمكي بخلاف عنه، ولم يعدها الباقون. ورويها: الهاء. مقصودها. ومقصودها: إثبات التصرف في النفوس التي هي سرج الأبدان، تقودها إلى سعادة أو كبد ونكد وهوان، كما أن الشمس سراج الفلك، يتصرف سبحانه فيها بالاختيار إضلالاً وهداية، ونعيماً وشقاوة، كتصرفه في الشمس بمثل ذلك، من صحة واعتلال، وانتظام واختلال، وكذا في جميع الأكوان. بما له من عظيم الشأن.

فضائلها

واسمها "الشمس" واضح الدلالة على ذلك، بتأمل القسم والقسم عليه، بما أعلم به، وأشار إليه. فضائلها. وأما فضائلها: فروى الترمذي وقال: حسن، النسائي، عن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العشاء بالشمس وضحاها، ونحوها من السور. وروى الطبراني في الكبير بإسناد - قال الهيثمي: حسن - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تلا هذه الآية: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) . وقف ثم قال: اللهم آت نفسي تقواها، أنت وليُها ومولاها، وخيرُ من زَكَّاها.

سورة الليل

سورة الليل مكية. وقال ابن أبي طلحة: مدنية. وآيها إحدى وعشرون في جميع العدد، ولا خلاف في تفصيلها. وفيها مما يشبه الفواصل موضع: (وأما من أعطى) . مقصودها. ومقصودها: الدلالة على مقصود الشمس، وهو التصرف التام في النفوس بإثبات كمال القدرة بالاختلاف، وباختلاف الناس في السعي مع اتحاد مقاصدهم، وهي الوصل إلى الملاذ من شهوة البطن والفرج، وما بتبع ذلك من الراحة.

فضائلها

واسمها "الليل" أوضح ما فيها على ذلك، بتأمل القسم والجواب. والوقوع من ذلك على الصواب. وأيضاً: الليل نفسه دال على ذلك، بأنه على غير مراد النفوس، بما فيه من الظلام، والنوم الذي أخو الموت، وذلك صادر عن كثرة المرادات. فضائلها. وأما فضائلها: فروى مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر بالليل إذا يغشى، وفي العصر بنحو ذلك، وفي الصبح أطول من ذلك.

وروى الشيخان عن جابر رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ رضي الله عنه حين طَوَّل في صلاة الجماعة بمن تضرر بتطويله: يا معاذ إذا قمت بالناس، فاقرأ بالشمس وضحاها، وسبح اسم ربك الأعلى، واقرأ باسم ربك، والليل إذا يغشى. وروى أحمد في مسنده، وابن حيان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، والبيهقي من طريقه وهذا لفظه، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رشول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من يوم طلعت شمسه إلا وكان بجنبتيها ملكان يناديان نداء يسمعه خلق الله كلهم غير الثقلين: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم، إن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى ولا آبت الشمس إلا وكان بجنبتيها ملكان يناديان نداء يسمعه خلق الله كلهم غير الثلقين: اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً، وأنزل الله في ذلك قرآناً، في قول الملكين: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم، في سورة يونس: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) . وأنزل الله في قولهما: اللهم أعط منفقاً خلفا، وأعط ممسكاً تلفاً: (والليل إذا يغشى - إلى قوله -: للعسرى) . وقال ابن رجب: وذكر محمد بن عبد الله بن عبد الحكم في كتاب "سيرة عمر بن عبد العزيز": أن عمر قرأ ذات ليلة: (والليل إذا يغشى)

فلما بلغ: (فأنذرتكم ناراً تلظى) خنقته العبرة، فلم يستطع أن ينفذها. فرجع، حتى إذا بلغها، خنقته العبرة، فرجع - يعني: الثالثة - حتى إذا بلغها خنقته العبرة، فلم يستطع أن ينفذها، فتركها وقرأ بسورة غيرها.

سورة الضحى

سورة الضحى مكية إجماعاً. وآيها إحدى عشرة عند الكل، ولا اختلاف فيها. ورويها ثلاثة أحرف وهى: رثي، أو: ثار. مقصودها. ومقصودها: الدلالة على آخر الليل، بان أتقي الأتقياء الذي هو الأتقى على الِإطلاق في عين الرضا دائماً، لا ينفك عنه في دنيا ولا في آخرة، لما تحلى به من صفات الكمال، التي هي الِإيصال للمقصود، بما لها من النور المعنوي، كالضحى بما له من النور الحسى، الذي هو أشرف ما في النهار.

ما ورد فيها

وقد علم بهذا: أن اسمها دال على مقصودها. ما ورد فيها. وأما ما ورد فيها: فروى ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ عشر آيات في ليلة، لم يكتب من الغافلين.

وروى الطبراني في الكبير - قال الهيثمي: بإسناد حسن، وفي الأوسط بإسناد فيه معاوية بن أبي العباس، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: عُرض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما هو مفتوح على أمته كنزاً كنزاً، فسر بذلك، فأنزل الله عز وجل: (ولسوف يعطيك ربك فترضى) ، فأعطاه الله في الجنة ألف قصر، في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم. وفي رواية في الأوسط، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عُرض عليَّ ما هو مفتوح لأمتي بعدي فسرني، فأنزل الله عز وجل: (وللآخرة خير لك من الأولى) ، فذ كره. ويسَنُّ في قراءة المكيين: أن يكبر إذا بلغ "والضحى" إلى آخر القرآن. وروى ذلك عن السوسي صالح بن زياد، عن أبي عمرو بن العلاء البصري، وذلك من أول "ألم نشرح". قال شيخنا العلامة شمس الدين بن الجزري رحمه الله: وقد كان أئمة القراء يأخذون به عن جميع القراء.

وكل ذلك في وجه البسملة، وانتهاؤها أول (قل أعوذ برب الناس) ، لا آخرها، بناء على أن التكبير لأول السورة، ولفظه: الله أكبر. وزاد جماعة قبله التهليل. روى الحاكم في مستدركه وقال: صحيح الِإسناد ولم يخرجاه، من طريق البزي عن عكرمة بن سليمان قال: قرأت على إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين، فلما بلغت "والضحى" قال لي: كبِّر حتى تختم، فإني قرأت على عبد الله بن كثير فأمرني بذلك، وأخبرني به عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب رضي الله عنهم، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بذلك. وذكر الِإمام شمس الدين محمود الأصفهاني في تفسيره بغير سند فقال: عن ابن سليمان قرأت على إسماعيل بن عبد الله، فلما بلغت إلى: والضحى، قال لي: كبر حتى تختم مع خاتمة كل سورة، فإني قرأت على شبل بن عبَّاد، وعلى عبد الله بن كثير، فأمراني بذلك، قال: وعن عبد الله بن كثير: أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس

ْرضي الله عنهما فأمره بذلك، وأخبر أن ابن عباس قرأ علىْ أبَي بن كعب رضي الله عنه فأمره بذلك، وأخبره أبي أنه قرأ على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره بذلك. قال شيخنا ابن الجزري: وروينا عن الشافعي أنه قال: إن تركت التكبير، فقد تركت سنة من سنن نبيك - صلى الله عليه وسلم -. وهذا يقتضي تصحيحه لهذا الحديث. وسبب وروده، وكونه من هذا الموضع: ما رواه الحافظ أبو العلاء الهمداني بإسناده عن أحمد بن فرح، عن البَزِّي، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انقطع عنه الوحي، فقال المشركون: قَلَى محمداً ربُّه، فنزلت سورة الضحى، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: الله أكبر، وأمر النبي أن يكبر إذا بلغ الضحى مع خاتمة كل سورة حتى يختم. ونقل شيخنا عن شيخه الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير أنه قال: ولم يرو ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف، انتهى. وقد ذكر البغوي هذا السبب في تفسيره، وجزم به. فالله أعلم.

سورة ألم نشرح

سورة ألم نشرح مكية إجماعاً. كذا قال بعضهم وقال القرطبي: في قول الأكثرين. وقال ابن عباس، وقتادة،: مدنية. وآيها ثماني وفاقاً، ولا اختلاف في تفصيلها. ورويها ثلاثة أحرف، وهي: بكر، أو: ركب. مقصودها ومقصودها: تفصيل ما في آخر الضحى من النعمة، وبيان أن المراد بالتحدث بها: هو شكرها بالنصب في عبادة الله، والرغبة إليه بتذكر إحسانه، وعظيم رحمته بوصف الربوبية، وامتنانه.

ما ورد فيها

وعلى ذلك دل اسمها "الشرح". ما ورد فيها وأما ما ورد فيها: فروى البغوي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه سأل جبريل عليه السلام عن هذه الآية، (ورفعنا لك ذكرك) قال: قال الله عز وجل: إذا ذكرتُ ذكرتَ معي. وذكر ابن رجب عن كتاب الزهد للِإمام أحمد عن حفص بن حميد قال: قال لي زياد ابن حدير: اقرأ في، فإني أجد لقراءتك لذة، فقرأت عليه: (ألم نشرح لك صدرك) فجعل يبكي، كما يبكي، الصبي ويقول: ويل ابن أم زياد، انقض ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟.

سورة التين

سورة التين مكية إجماعاً. وآيها ثمان إجماعاً، ولا اختلاف فيها أيضاً. ورويها حرفان: وهما: نم. مقصودها ومقصودها: سر مقصود (ألم نشرح) . وذلك هو إثبات القدرة الكاملة، وهو المشار إليه باسمها، فإن في خلق التين والزيتون من الغرائب، ما يدل على ذلك، وكذا فيما أشير إليه بذلك من النبوات، وضم القسم إلى المقسم عليه، وهو الِإنسان، الذي هو المحب ما في الأكوان، واضح في ذلك.

فضائلها

فضائلها وأما ما ورد فيها: فروى الشيخان، والترمذي وقال: حسن صحيح. وأبو داود وعبد الرزاق في جامعه، والبغوي في تفسيره وهذا لفظه: عن البراء رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في سفر، فقرأ العشاء الآخرة بالتين والزيتون في إحدى الركعتين. وفي رواية الصحيحين: وما سمعت أحداً أحسن صوتاً منه. وروى أبو داود، والترمذي - قال النووي: بإسناد ضعيف - عن رجل أعرابي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ منكم بالتين والزيتون، فانتهى إلى آخرها (أليس الله بأحكم الحاكمين)

فليقل: وأنا على ذلك من الشاهدين. قال النووي: وروى ابن أبي داود وغيره في هذا الحديث زيادة على ما في رواية أبي داود والترمذي: ومن قرأ: (لا أقسم بيوم القيامة) فانتهى إلى: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) ، فليقل: بلى، ومن قرأ: (والمرسلات عُرْفاً) فبلغ: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) ، فليقل آمنا بالله.

سورة اقرأ

سورة اقرأ وتسمى: العلق. مكية إجماعاً. وآيها ثماني عشرة آية في الشامي، وتسعة عشر في الكوفى والبصرى. وعشرون في المدنيين والمكى. اختلافها آيتان: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) - عدها المدنيان والمكى، ولم يعدها الباقون. (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا) لم يعدها الشامي، وعدها الباقون. وفيها لم يشبه الفواصل، ولم يعده أحد موضعان: (ناصية) ، (كاذبة) .

مقصودها

وعكسه موضع: (ناديه) . ورويها سبعة أحرف: وهي: أهام بقى. مقصودها ومقصودها، الأمر بعبادة من له الخلق والأمر، شكراً لِإحسانه، واجتناباً لكفرانه، طمعاً في جنانه، وخوفاً من نيرانه، لما ثبت من أنه يدين العباد يوم المعاد. وكل من اسميها دال على ذلك، لأن المربي يجب شكره، ويحرم كفره. على أن "اقرأ" يشير إلى الأمر، والعلق يشير إلى الخلق، واقرأ يدل على البداية، وهي العبادة بالمطابقة، وعلى النهاية، وهي النجاة يوم الدين باللازم. والعلق يدل على كل من النهاية والبداية بالالتزام، لأن من عرف أنه مخلوق من دم؛ عرف أن خالقه قادر على إعادته من تراب، فإن التراب أقبل للحياة من الدم، ومن صدَّق بالِإعادة عمل لها. وخص العلق، لأنه مركب الحياة، ولذلك سمى نفساً، فكأنه إشارة إلى تحريم أكل الدم، لأن من أكله تطبع بطابع صاحبه، وصارت نفسه كنفسه. فضائلها وأما ما ورد فيها: فروى الطبراني - قال الهيثمي: برجال الصحيح - عن أبي رجاء العطاردي قال: كان أبو موسى رضي الله عنه يقرئنا فيجلسنا

حلقاً، عليه ثوبان أبيضان، فإذا قرأ هذه السورة (اقرأ باسم ربك الذي خلق) قال: هذه أول سورة أنزلت على محمد - صلى الله عليه وسلم -. وروى البخاري في بدء الوحي ومسلم عن عائشة رضي الله عنهما، أن جبريل عليه السلام أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) . وتقدم في "إذا السماء انشقت" حديث السجود فيها. ولأحمد - قال الهيثمي: أيضاً برجال الصحيح، وبعضه في الصحيح - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند المقام فمر به أبو جهل فقال: ألم أنهك؟. فانتهره النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: لم تنتهرني يا محمد، فوالله لقد علمت ما رجل أكثر ناديا مني؟. قال: فقال له جبريل عليه السلام: (فليدع ناديه) . قال ابن عباس رضي الله عنهما: فوالله لو دعا ناديه، لأخذته الزبانية بالعذاب. وروى مسلم في كتاب التوبة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:

قال أبو جهل: (هل) يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟. فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل ذلك لأطانَّ على رقبته، أو لأعفرنَّ وجهه في التراب، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، زعم ليطأ على رقبته، فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه فقيل له: مالك؟. فقال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار، وهَوْلاً، وأجنحة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لَوْ دَنَا مني لا ختطفته الملائكة عضوا عضوا، وأنزل الله عز وجل - لا ندري في حديث أبي هريرة، أو شيء بلغه -: (كلا إن الإنسان ليطغي - إلى قوله: (أرأيت إن كذب وتولى) - يعني: أبا جهل - (ألم يعلم بان الله يرى) إلى قوله: (فليدع ناديه) ، يعنى قومه. إلى آخر السورة.

سورة القدر

سورة القدر قال ابن عباس ومجاهد، وعلى بن أبي طلحة - قال الأصفهاني: والضحاك ومقاتل -: مدنية. وقال قتادة، وجابر بن زيد، وعكرمة، والحسن: مكية. وقال النسفي في تفسيره: وقال الواقدي: هي أول سورة نزلت بالمدينة. وقال الأصفهاني: والأكثر: أنها مكية. وكذا قال أبو حيان: في قول الأكثر. عدد آياتها وآيها ست في المكي والشامى، وخمس عند الباقين. اختلافها آية:

مقصودها

(ليلة القدر) الثالثة، عدها المكى والشامي، ولم يعدها الباقون. ورويها: الراء. مقصودها ومقصودها: تفضيل الأمر الذي هو إحدى قسمي ما ضمنه مقصود اقرأ. وعلى ذلك دل اسمها، لأن ليلة القدر فضلت به، فهو من إطلاق المسبب على السبب، وهو دليل لمن يقول باعتبار تفضيل الأوقات، لأجل ما كان فيها، كما قال ذلك اليهودي في اليوم الذي نزل فيه: (اليوم أكملت لكم دينكم) وأقره الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ذلك. والله أعلم. ما ورد فيها وأما ما ورد فيها: فروى الطبراني في الأوسط والكبير - قال الهيثمي: وفيه عمران القطان وثقه ابن حبان وغيره، وفيه ضعف، وبقية رجال الكبير ثقات - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزل القرآن في ليلة القدر في شهر رمضان، إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم أنزل نجوماً. قال: ورواه أيضاً في الكبير. والبزار باختصار، ورجاله رجال الصحيح، وفي سند الطبراني عمرو بن عبد الغفار وهو ضعيف.

ولفظ الطبراني: عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: "إنا أنزلناه في ليلة القدر" قال: أنزل القرآن جملة واحدة، حتى وضع في بيت العزة في السماء الدنيا ونَزَّله جبريل عليه السلام على محمد - صلى الله عليه وسلم - بجواب كلام العباد وأعمالهم.

سورة لم يكن

سورة لم يكن وتسمى: القَيِّمَةَ، والبريَّة، والمنفكين. مدنية. قال الأصفهاني: وقيل: مكية. وهو الذي قدمه الزمخشري، واقتصر عليه البغوي، وأبو حيان. عدد آياتها وآيها تسع في البصرى والشامى، ونقص غيرهما واحدة، فهي عندهم ثمان. اختلافها آية:

مقصودها

(مخلصين له الدين) . عدها البصرى، والشامي على خلاف عنه، ولم يعدها الباقون. وفيها مما يشبه الفواصل، ولم يعد بإجماع، موضعان: (والمشركين) في موضعين. ورويها. خمسة أحرف، وهي: مر نبي. مقصودها ومقصودها: الإعلام بأن هذا الكتاب القيم، من علو مقداره، وجليل آثاره، إن كان لقوم نُوراً وهدى، فهو لآخرين وَقْراً وعمى. فيقود إلى الجنة دار الأبرار، ويسوق إلى النار دار الأشقياء الفجار. وفي ذلك دل كل من أسمائها: الذين كفروا، والمنفكين، والبرية. بتأمل الآية في انقسام الناس إلى أهل الشقاوة، وأهل الهداية. والقيمة: بانقسام أهل الدعوة فيها بحسب الإرادة إلى القسمين: أهل الشقاورة وأهل السعاد.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى الترمذي وقال: حسن صحيح، عن أبي بن كعب رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله أمرني أن أقرأ عليك (لم يكن الذين كفروا) . وقرأ فيها: "إن الدين عند الله الحنيفية المسلمة، لا اليهودية، ولا النصرانية، ولا المجوسية، ومن يعمل خيراً فلن يكفره" - وقرأ عليه - "لو أن لابن آدم وادياً من مال لابتغى إليه ثانياً، ولو أن له ثانيا، لابتغى إليه ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب. ْوروى الإمام أحمد، وابنه عبد الله في زوائد المسند - قال الهيثمي: وفيه عاصم بن بهدلة، وثقة قوم، وضعفه آخرون، وبقية رجاله رجال الصحيح - عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله أمرني أن أقرأ عليك، قال: فقرأ عليَّ "لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب)

حتى قال: (من بعد ماجاءتهم البينة) ، إن الدين عند الله الحنيفية. غير المشركة، ولا اليهودية، ولا النصرانية، ومن يفعل خيراً فلن يكفره. قال شعبة: ثم قرأ آيات بعدها، ثم قال: لو أن لابن آدم وادياً من مال لسأل وادياً ثانياً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، قال: ثم ختم ما بقى من السورة. وفي رواية: عن أبي بن كعب رضي الله عنه أيضاً، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله تبارك وتعالى، أمرني أن أقرأ عليك القرآن فذكر نحوه. وقال فيه: ولو أن ابن آدم سأل وادياً من مال فأعطيه، لسأل ثانياً، ولو سأل ثانياً فأعطيه لسأل ثالثاً. والباقي بنحوه. قال الهيثمي: وفي الترمذي بعضه. وفي الصحيح طرف منه. قال شيخنا ابن حجر في شرح البخاري: ورواه الحاكم من وجه آخر عن زر بن حبيش، عن أبي بن كعب رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ عليه: (لم يكن) وقرأ فيها: إن ذات الدين عند الله الحنيفية، لا اليهودية، ولا النصرانية، ولا المجوسية، ومن يفعل خيراً فلن يكفره انتهى. وللبزار بإسناد - قال المنذري: جيد - عن بريدة رضي الله عنه قال:

سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الصلاة: لو أن لابن آدم وادياً من ذهب لابتغى إليه ثانياً، ولو أعطى ثانياً، لابتغى إليه ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا بالتراب، ويتوب الله على من تاب. ولأحمد - قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح - والطبراني، عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: كنا نأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه الوحي فيحدثنا، قال لنا ذات يوم: إن الله عز وجل قال: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو كان لابن آدم واد لأحب أن يكون له ثان، ولو كان له واديان، لأحب أن يكون إليهما، ثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ثم يتوب الله على من تاب. ورواه أبو عبيد في كتاب الفضائل، عن أبي واقد رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أوحى إليه أتيناه فعلمنا ما أوحى إليه. قال فجئته فقال: إن الله تبارك وتعالى يقول: "إنا أنزلنا المال. فذكره.

وقال الهيثمي: وروى أحمد - أيضاً - برجال الصحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى عمر رضي الله عنه، فجعل عمر ينظر إلى رأسه مرة، وإلى رجليه أخرى، هل يرى عليه من البؤس شيئا، ثم قال له عمر رضي الله عنه: كم مالك؟. قال أربعون من الإبل، قال ابن عباس رضي الله عنهما: قلت: صدق الله ورسوله، لو كان لابن آدم واديان من ذهب، لابتغى الثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم التراب، ويتوب الله على من تاب، فقال عمر: ما هذا؟. فقلت: هكذا أقرأنيها أبي، قال: فمر بنا إليه. قال: فجاء إلى أبي فقال: ما يقول هذا؟. قال أبي: هكذا أقرأنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فأثبتها في المصحف؟. قال: نعم. قال: ورواه أحمد أيضاً، ورجاله ثقات - والطبراني في الأوسط - عن ابن عباس أيضاً رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى عمر رضي الله عنه ، فقال: أكلتنا الضبع - قال مسعر: يعني: السنة - قال: فسأله عمر: ممن أنت؟. فما زال ينسبه حتى عرفه، فإذا هو موسر. فقال عمر رضي الله عنه: لو أن لابن آدم وادياً، أو واديين، لابتغى إليهما ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ثم يتوب الله على من تاب. قال الهيثمي: ورواه ابن ماجة غير قول عمر: "ثم يتوب الله على من تاب ".

وروى أبو عبيد عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: نزلت سورة نحو براءة، ثم رفعت، وحفظ منها: إن الله سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم، ولو أن لابن آدم واديين من مال، لتمنى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب. وروى أبو عبيد أيضاً أمر الوادي من المال، عن زيد بن أرقم. وجابر بن عبد الله وابن عباس، رضي الله عنهم. وروى أبو عبيد - أيضاً - عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بن كعب رضي الله عنه: إني أمرت أن أقرأ عليك: أو قال: إن الله تبارك وتعالى أمرني أن أقرأ عليك لم يكن الذين كفروا، فقال: أوسماني؟. قال: نعم، قال: فبكى. وروى حديث أنس البخاري في (المناقب) والتفسير، ومسلم في أواخر الصلاة والفضائل، ولفظه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بن كعب رضي عنه: إن الله أمرني أن أقرأ عليك: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب) . وفي رواية: أن أقرأ عليك القرآن. وفي رواية: أن أقرئك القرآن. قال: وسماني؟. قال: نعم. فبكى. وفي رواية: قال أبي: (آلله) . سماني لك؟. قال: الله سماك لي وفي رواية: قال وقد ذكرت عند رب العالمين؟. قال: نعم، فذرفت عيناه.

وفي رواية عند الطبراني، عن أبي رضي الله عنه قال: نعم باسمك ونسبك في الملأ الأعلى. وفي رواية في الصحيح: فجعل رضي الله عنه يبكي. قال قتادة: فأنبئت أنه قرأ عليه "لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب". ولأبي عبيد في الفضائل، عن عبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي رضي الله عنه: إن الله تبارك وتعالى أمرني أن أعرض القرآن عليك. قال: أسماني لك ربك؟. قال؟ نعم. قال أبي: " بفضل الله وبرحمته فبذلك فلتفرحوا هو خير مما تجمعون. هكذا القراءة بالتاء.

وقد طال السؤال عن الحكمة في قراءته - صلى الله عليه وسلم - بخصوصه هذه السورة بخصوصها على أبي (رضي الله عنه) بخصوصه. فقال شيخنا حافظ عصره أبو الفضل ابن حجر. في شرحه للبخاري - وهو أجميع الشروح - قال القرطبي: خص هذه السورة بالذات، لما احتوت عليه من التوحيد والرسالة والإخلاص، والصحف والكتب المنزلية على الأنبياء. وذكر ألصلاة والزكاة والمعاد، وبيان أهل الجنة والنار، مع وجازتها. انتهى. (ولم يذكر في تخصيص أبي رضي الله عنه بالقراءة عليه شيئاً. والذي يظهر لي في سبب تخصيصها: أنه بين فيها أن الكفار من أهل الكتاب وغيرهم لم يكونوا ليدعوا دينهم حتى تأتيهم البينة، وأن البينة هي الرسول، وأنه من عند الله، وأنه يتلو صحفاً مطهرة، وأن فيها كتبأ قيمة. أي مستقيمة جداً، ثابتة استقامتها، لا يمكن أن يكون لها عوج، وأنهم مع ذلك لم يصدقوا، بل ما تفرقوا إلا من بعد إتيان البينة. وفيها الأمر بالإخلاص، والتحنف وهو: الميل عن العقائد الزائفة. وسهولة الانقياد مع الأدلة، ثم الإخبار بأن الكفار من أهل الكتاب المحرفين لكلام ربهم وغيرهم في النار، وأنهم شر البرية، وأن المؤمنين خير البرية. وأنهم في رضا الله حيث ما خافوه، فيها التحذير من الشك بعد البيان. وتقبيح حال مَنْ فعل ذلك، وأن حاله يكون حينئذ كحال الكفرة من أهل الكتاب وغيرهم، الذين هم شر البرية. وسبب تخصيص أبي رضي الله عنه بهذا الوعظ على هذه الحالة: أنه لما

وجد مَنْ خالفه في القراءة فرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فصوب كُلًا منهم - كما تقدم ذلك مستوفى في سورة النحل وفي الفضائل العامة عند ذكر السبعة الأحرف - وسوس له الشيطان فيه وربما ظنه من وادي التحريف. فكأن الله تعالى يقول له: لا تكن ممن يتبع سنن مَنْ قَبْلُ من أهل الكتاب، في فراق دينهم. والاختلاف على نبيهم، وكن على بصيرة من أمر هذا الرسول الأمين والكتاب القيم المبين. وقد تقدم في فضائل سورة النحل، أنها هي السورة التي وقع فيها الخلاف بين أبي وصاحبه رضي الله عنهما. وفي سورة النحل التي وقع التنازع فيها: أن الله تعالى يبعث رسوله - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة شهيداً، وأنه نزَّل عليه الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة، وأنه نزله عليه روح القدس بالحق ليثبت الذين آمنوا، وأن اليهود اختلفوا على نبيهم في السبت فألزموا به. فكانت سورة "لم يكن" على وجازتها حاوية لكل ما في النحل من ذلك على طولها بزيادة فأمر - صلى الله عليه وسلم - بقراءتها عليه، تذكيراً بذلك كله، على وجه أبلغ وأخصر، ليكون أسرع لما ذكرت تصوراً، فيكون أرسخ في النفس، وأثبت في القلب، وأعشق للطبع. وفي ذلك من المنقبة لأبي رضي الله عنه، أن الله تبارك وتعالى اختصه بالتثبيت، وأراد له الثبات، فهو من المريدين المرادين، لما وصل إليه قلبه ببركة ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - لصدره، من كشف الحجب، والنظر إلى سبحات القدس، وشهود تلك الحضرة الشماء وصيرورته إلى أن يكون أصفى الصحابة

مراقبة لتلاوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيصير كلما قرأ هذه السورة الجامعة غائبا عن تلاوة نفسه، مصغياً بأذن قلبه إلى روح النبوة، يتلو عليه ذلك، فيدوم له حال الشهود، الذي وصل إليه بسر تلك الضربة. ولثبوته في هذا المقام، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَقْرَؤكم أبي" - رضي الله عنه - رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجة، عن أنس - رضي الله عنه -. وهو صحيح، وأوله: "أرحم أمتى بأمتى أبو بكر رضي الله عنه.

سورة إذا زلزلت

سورة إذا زلزلت قال ابن عباس رضي الله عنهما وعطاء - قال النسفي: ومجاهد والواقدي: مكية. وقال قتادة: مدنية. وكذا حكى كريب عن كتاب ابن عباس رضي الله عنهما. وعزا النسفي: هذا القول للجمهور.

عدد آياتها

عدد آياتها وآيها ثمان في المدني الأول والكوفى، وتسع في عدد الباقين. اختلافها آية: (أشتاتاً) لم يعدها المدني الأول والكوفى، وعدها الباقون. ورويها أربعة. أحرف، وهي: رملت. مقصودها ومقصودها: انكشاف الأمور، وظهور المقدور أتم ظهور، وانقسام الناس في الجزاء في دار البقاء، إلى سعادة وشقاء. وفي ذلك دل اسمها بتأمل الظرف ومظروفه، وما أفاد من بديع القدر وصروفه. فضائلها وأما فضائلها: فروى الترمذي وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث يمان بن المغيرة العنزي، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا زلزلت" تعدل نصف القرآن، وقل هو الله أحد، تعدل ثلث القرآن، وقل يا أيها الكافرون، تعدل ربع القرآن.

ورواه الكلاباذي في "معاني الأخبار" من طريقه.. وذكر النووي في "الأذكار" عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: مَنْ قرأ في ليلة إذا زلزلت، كانت له كعدل نصف القرآن، ومن قرأ: قل يا أيها الكافرون، كانت له كعدل ربع القرآن، ومن قرأ قل هو الله أحد كانت له كعدل ثلث القرآن وروى الترمذي نحوه عن أنس - رضي الله عنه -. ذكره عنه صاحب الفردوس، وقال: وفي الباب عن ابن عباس رضي الله عنه، وأبي هريرة رضي الله عنهم. وروى أبو عبيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه ما يخص الزلزلة. وروى أبو عبيد أيضاً من وجه آخر، عن بكر بن عبد الله المزني قال: كانت إذا زلزلت تعدل بنصف القرآن. ومثله لا يقال من جهة الرأي فحكمه حكم المرسل. وسيأتي في سورة "الكافرون" حديث أنس عند الترمذي في أنها تعدل ربع القرآن. وروينا في "سباعيات" الصيدلاني ولفظه:

"أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل رجلا من أصحابه: معك إذا زلزلت؟. قال: نعم قال: ربع القرآن ". ولا تعارض، بل كل منهما ناظر إليها من جهة. فأما كونها نصفا: فلأن أحكام القرآن تنقسم إلى أحكام الدنيا وأحكام الآخرة. وهذه السورة تشتمل على أحكام الآخرة كلها إجمالا. وزادت على القارعة بإخراج الأثقال وبحديث الأخبار. وأما كونها ربعاً: فلأن الإيمان بالبعث ربع الإيمان في الحديث الذي رواه الترمذي: عن علي رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله، وأن رسول الله، بعثنى بالحق، ويؤمن بالموت، ويؤمن بالعبث بعد الموت، ويؤمن بالقدر. فاقتضى هذا الحديث: أن الإيمان بالبعث الذي هو ربع الإيمان الكامل الذي دعا إليه القرآن. ذكره ابن الميلق. وروى أبو داود بإسناد - قال النووي: صحيح - عن معاذ بن عبد الله، وفي نسخة عبد الرحمن - الجهني. أن رجلًا من جهينة أخبره: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الصبح: (إذا زلزلت الأرض) . في الركعتين كلتيهما، فلا أدري أنسى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أم قرأ ذلك عمداً.

وروى أحمد، وأبو داود،. والنسائي، عن عبد للهِ بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أتى رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أقرئني يا رسول الله؟. فقال: اقرأ ثلانا من ذوات "الر"، فقال: كبرت سناً، واشتد قلبي، وغلظ لساني، قال: - فاقرأ ثلاثا من ذوات "حم" فقال مثل مقالته. قال الرجل: يا رسول الله، اقرئني سورة جامعة، فأقرأه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إذا زلزلت) ، حتى فرغ منها، فقال الرجل: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها أبداً، ثم أدبر الرجل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفلح الرويجل مرتين. ورواه أبو عبيد في الفضائل، ولفظه: قال: يا رسول الله أقرئنى شيئاً من القرآن، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أقرئك ثلاثا من ذوات "الر"، فقال: يا رسول الله إني قد كبرت سني، واشتد قلبي، وغلظ لساني،، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأ ثلاثا من المسبحات، فقال الرجل مثل مقالته الأولى، وقال: يا رسول الله أقرئني سُورَةً جَامِعَةً قال: فقرأ إذا زلزلت، حتى فرغ من آخرها، فادبر الرجل وهو يقول: والذي بعثك بالحق لاْ أزيد عليها أبداً. ثلاثا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفلح الرويجل، مرتين أو ثلاثا. وتقدم في يونس: أن ابن عبد الحكم أخرجه في كتاب "الفتوح " أتم من هذا. وفي (جامع الأصول) عن أنس رضي الله عنه أنه قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء أعرابي فقال: يا رسول الله. كبر سني، ورق عظمي،

وغلظ لساني، فأقرئني سورة جامعة، فأقرأه (إذا زلزلت) ، حتى فزغ منها، فقال الرجل: والذي بعثك بالحق، لا أزيد عليها ولا أنقص منها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفلح الرويجل، ثلاثا. وروى الطبراني في الكبير بسند - قال، الهيثمي: فيه الحسين بن الحسن العوفي وهو ضعيف - عن سعد بن جنادة رضي الله عنه قال: كنت أول من أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسلمت وعلمني قل هو الله أحد، وإذا زلزلت الأرض زلزالها) ، وعلمني هؤلاء الكلمات: سبحان الله، ولا إله إلا الله والله أكبر، وقال: هن الباقيات الصالحات. وفي رواية: وقل يا أيها الكافرون. وروى الطبراني من طريق حيي بن عبد الله المعافري - قال الهيثمي: وقد وثقه ابن معين وغيره، وضعفه أحمد وغيره، وبقية رجاله رجال الصحيح - وابن أبي الدنيا عن عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما قال: نزلت إذا زلزلت الأرض زلزالها، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه قاعد فبكى أبو بكر - رضي الله عنه -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو أنكم لا تخطؤون، ولا تذنبون، لخلق الله أمة من بعدكم يخطؤون ويذنبون فيغفر لهم ورواه الطبراني في الأوسط عن شيخه موسى بن سهل - قال الهيثمي: والظاهر أنه الوشاء وهو ضعيف - عن أنس رضي الله عنه قال: بينما أبو بكر الصديق رضي الله عنه يأكل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ نزلت عليه: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) . فرفع أبو بكر رضي الله عنه يده وقال: يا رسول الله إني لراء ما عملت من مثقال ذرة من

شر؟. فقال: يا أبا بكر أرأيت ما ترى في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذرة الشر، ويدخر لك مثاقيل الخير حتى تَوَفَّاهُ يوم القيامة. وروى أحمد - قال الهيثمي: متصلا ومرسلا، ورجال الجميع رجال الصحيح - عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق رضي الله عنه، أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأ عليه: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) . قال: حسبي، لا أبالي أن لا أسمع غيرها.

سورة العاديات

سورة العاديات مكية إجماعا. وقال الزمخشري وأتباعه: مختلف فيها. وآيها إحدى عشرة في جميع العدد، ولا اختلاف فيها. ورويها أربعة أحرف، وهي: رح، عد. مقصودها ومقصودها: الإعلام بأن أكثر الخلق يوم الزلزلة هالك، لِإيثار الفاني من العز والمال على الباقي عند ذي الجلال، المدلول عليه بالقسم، وهو العاديات، والمقسم عليه، وما عطف عليه. وقد علم: أن اسمها أدل شيء على ذلك.

فضائلها

فضائلها وأما فضائلها: فروى أبو عبيد عن الحسن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا زلزلت، تعدل نصف القرآن. والعاديات، تعدل نصف القرآن. وللطبراني بإسنادين - قال الهيثمي: في أحدهما جعفر بن الزبير، وهو ضعيف - عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه ذكر عنده الكنود فقال: الذي يأكل وحده، ويمنع رفده، ويضرب عبده.

سورة القارعة

سورة القارعة مكية إجماعاً. وآيها ثماني آيات في البصري والشامي، وعشر في المدنيين والمكي. وإحدى عشرة في الكوفي. اختلافها ثلاث آيات: (القارعة) الأولى. عدها الكوفي، ولم يعدها الباقون. (ثقلت موازينه) . و (خفت موازينه) ، لم يعدهما البصري والشامي، وعدهما الباقون. وفيها مشبه الوسط، موضعان: (موازينه) كلاهما. ورويها خمسة أحرف، عي، شثن.

مقصودها

مقصودها. ومقصودها: إيضاح: يوم الدين، بتصوير أحواله، وتقسيم الناس فيه. إلى ناج وهالك. واسمها "القارعة" واضح في ذلك. فضائلها. وأما ما ورد فيها: فروى ابن أبي داود عن إبراهيم قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأون السور الصغار في الفجر، في السفر. وروى أبو يعلى الموصلي من طرق، عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام، سأل عنه، فإن كان غائباً، دعا له، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده، ففقد رجلاً من الأنصار في اليوم الثالث، فسأل عنه، فقيل: يا رسول الله، تركناه مثل الفرخ، لا يدخل في رأسه، إلا خرج من دبره، يعني: فعاده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مم ذلك؟. قال: يا رسول الله مررت بك وأنت تصلي المغرب، فصليت معك، وأنت تقرأ هذه السورة: (القارعة ما القارعة) إلى آخرها: (نار حامية) فقلت: اللهم ما كان من ذنب أنت معذبي عليه في الآخرة فعجل لي عقوبته في الدنيا، فتراني كما تراتي. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لبئس ما قلت، ألا سألت الله أن يؤتيك في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة. ويقيك عذاب النار؟. فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا بذلك، ودعا له النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقام كأنما نشط من عقال. فذكره. وقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات، واتهم به عباد بن كثير. قال شيخنا الحافظ شهاب الدين البوصيري: لم ينفرد به عباد، بل له طرق. يعني من غير طريقه.

سورة ألهاكم

سورة ألهاكم وتسمى: التكاثر. مكية إجماعاً. وآيها ثمان إجماعاً. ولا اختلاف فيها. وفيها مما يشبه الفواصل، وليس بها، موضع: (كلا لو تعلمون) . مقصودها. ومقصودها: التصريح بما أشارت إليه العاديات، من أن سبب الهلاك يوم الجمع الذي صورته القارعة، الجمع للمال، والإخلاد إلى دار الزوال. وكل من اسميها واضح الدلالة على ذلك.

فضائلها

فضائلها. وأما فضائلها: فروى الحاكم عن عقبة بن محمد، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ألا يستطيع (أحدكم أن يقرأ ألف آية كل يوم؟ قالوا: ومن يستطيع ذلك يا - رسول الله. قال: أما يستطيع أحدكم أن يقرأ (ألهاكُم) ؟ قال المنذري: ورجال إسناده ثقات، إلا أن عقبة لا أعرفه. وللترمذي وقال: حديث غريب، عن هانئ مولى عثمان بن عفان قال: كان عثمان - رضي الله عنه - إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتذكر القبر - فتبكي؟. قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه، فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه، فما بعده أشد منه قال: وسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

يقول: - ما رأيت منظرا قط، إلا والقبر أفظع منه. قال المنذري: وزاد فيه رزين ما لم أره في شيء من نسخ الترمذي: "قال هانئ وسمعت عثمان - رضي الله عنه - ينشد على قبر: فإن تنج منه تَنْجُ من ذي عظيمة. . . وإلا فَإني لا أخالك ناجياً وروى مسلم في صحيحه - وعبد بن حميد في مسنده - وهذا لفظه: عن مطرف بن عبد الله ابن الشخير، عن أبيه رضي الله عنه قال: انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أنزِلَتْ عليه: (ألهاكم التكاثر) ، وهو يقول - يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت، أو أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت. قال الإمام ناصر الدين بن الميلق ما حاصله: في كونها تعدل ألف آية: أن القرآن ستة آلاف آية، ومائتا آية، وكسر.

فإذا تركنا الكسر، كان الألف سدس القرآن، وهذه السورة تشتمل على سدس مقاصد القرآن، لأن مقاصده - كما مضى في الفاتحة - ستة: ثلاثة مهمة، وثلاثة متمة. فأما الثلاثة المهمة: فمعرفة الله تعالى، ومعرفة الآخرة. ومعرفة الصراط المستقيم. والسدس الذي اشتملت عليه، هو التعريف بالجحيم، والسدس الثاني: دار النعيم، وهما ثلثا المقاصد المهمة. والتعبير عن هذا المعنى بألف آية، أفخم وأجل وأضخم، من التعبير بالسدس، والله أعلم.

سورة العصر

سورة العصر مكية إجماعاً. عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها. وآيها ثلاث، متفقة الإجمال. واختلافها آيتان: (والعصر) ، ولم يعدها المدني الأخير، وعدها الباقون. (وتواصوا بالحق) عدها المدني الأخير، ولم يعدها الباقون.. وفيها مما يشبه الفواصل، مواضع: (الصالحات) .

مقصودها

مقصودها ومقصودها: تفضيل نوع الإنسان، المخلوق من علق، وبيان خلاصته وعصارته وهم الحزب الناجي يوم السؤال، عن زكاة الأعمال. بترك الفاني، والِإقبال على الباقي، لأنه خلاصة الكون، ولباب الوجود. واسمها "العصر" واضح في ذلك، فإن العصر يخلص روح المعصور. ويميز صفاوته. ولذلك كان وقت هذا النبي الخاتم، الذي هو خلاصة الخلق - صلى الله عليه وسلم - وقت العصر وكانت صلاة العصر أفضل الصلوات. ما ورد فيها وأما ما ورد فيها: فروى عبد بن حميد عن الحارث، عن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بتسع سور من المفصل، في الركعة الأولى ألهاكم التكاثر، وإنا أنزلناه وإذا زلزلت الأرض، وفي الركعة الثانية: والعصر، وإذا جاء نصر الله، وإنا أعطيناك الكوثر، وفي الركعة الثالثة: قل يا أيها الكافرون، وتبت، وقل هو الله أحد. قال ابن رجب: وروى أبو نعيم عن الشافعي قال: لو أن الناس كلهم فكروا في سورة العصر نفعتهم. أو كما قال. وروى الطبراني عن أبي مدينة الدارمي وكانت له صحبة قال: كان الرجلان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر: والعصر. قال ابن المديني: اسم أبي مدينة عبد الله بن حصن.

سورة الهمزة

سورة الهمزة مكية إجماعاً. وآيها تسع وفاقا، ولا اختلافاً فيها. وفيها مشبه الفاصلة موضع: (همزة) . ورويها ثلاثة أحرف وهي: زدم. مقصودها ومقصودها: بيان الحزب الأكثر الخاسر، الذي ألهاه التكاثر، فبانت خسارته يوم القيامة، الخافضة، الرافعة. واسمها "الهمزة" ظاهر الدلالة على ذلك. ما ورد فيها وأما ما ورد فيها: فروى أبو داود، عن عمر بن شعيب، عن أبيه، عن

جده رضي الله عنه، أنه قال: ما من المفصل سورة صغيرة ولا كبيرة، إلا وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤم بها الناس في الصلاة المكتوبة.

سورة الفيل

سورة الفيل مكية إجماعاً. وآيها خمس إجماعاً. ولا اختلاف فيها. ورويها: اللام. مقصودها ومقصودها: الدلالة على آخر الهمزة، من إهلاك المكاثرين، في دار التعاضد والتناصر بالأسباب، فعند انقطاعها أوْلَى لاختصاصه سبحانه بتمام القدرة، دون المتمكن بالمال والرجال. واسمها "الفيل" ظاهر الدلالة على ذلك، بتأمل سورته، وما حصل في سيرة جيشه وصورته. فضائلها وأما ما ورد فيها (1)

_ (1) كذا بالأصل. لم يذكر المؤلف فيها شيئاً، سوى العنوان.

سورة قريش

سورة قريش مكية إجماعاً. وآيها أربع في الكوفي والبصري والشامي. وخمس في المدنيين والمكي. واختلافها آية: (من جوع) عدها المدنيان والمكي، ولم يعدها الباقون. ورويها أربعة أحرف، وهي: شفعت. مقصودها ومقصودها: أن إهلاك الجاحدين المعاندين، لإصلاح المقرين العابدين. وهو بشارة عظيمة لقريش خاصة، بإظهار شرفهم في الدارين. واسمها "قريش" ظاهر الدلالة على ذلك. والتعبير بقريش، دون قومك والحُمس مثلاً، دال على أنهم يغلبون

فضائلها

كما يدل عليه الاسم، وبغير قوة كما دل ما فعل لأجلهم من قصة الفيل. فضائلها وأما ما ورد فيها (1)

_ (1) كذا بالأصل. لم يذكر المؤلف فيها شيئاً سوى العنوان.

سورة أرأيت

سورة أرأيت وتسمى: الدين، والتكذيب، والماعون. مكية. قال النسفي في تفسيره: عن ابن: مدنية (1) . عنه الواقدي. وقال مقاتل بن حيان: نصفها الأول مكي، ونصفها الباقي مدني. وقال أبو حيان: هي مكية في قول الجمهور، مدنية في قول ابن عباس. فخالف ما قاله النسفي، ثم قال: وقال هبة الله الضرير: نزل نصفها بمكة في العاص بن وائل ونصفها بالمدينة في عبد الله بن أبي المنافق.

_ (1) هكذا بالأصل، ربما كان: "رواه عنه الواقدي" أو نحو ذلك.

عدد آياتها

عدد آياتها. وآيها سبع في الكوفي والبصري، وست عند الباقين. واختلافها آية: "يراءون" عدها الكوفي والبصري، ولم يعدها الباقون. ورويها حرفان، وهما: نم. مقصودها ومقصودها: التنبيه على أن التكذيب بالبعث لأجل الجزاء، أبو الخبائث، فإنه يحزي المكذب على مساوىء الأخلاق، حتى تكون الِإستهانة بالعظائم خلقاً له، فيصير ممن ليس له خلاق وكل من أسمائها في غاية الوضوح في الدلالة على ذلك، بتأمل السورة، لتعرف هذه الأشياء المذكورة. ما ورد فيها وأما ما ورد فيها: فروى البغوي في تفسيره عن مصعب بن سعد، عن

أبيه رضي الله عنه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن (الذين هم عن صلاتهم ساهون) ؟. قال: إضاعة الوقت.

سورة الكوثر

سورة الكوثر مكية إجماعاً. وهو عجيب. فإن حديث الصحيحين عن أنس - رضي الله عنه - يدل على أنها مدنية، لقوله: "بين أظهرنا في المسجد ". ثم رأيت العلامة جمال الدين ابن النقيب حكى في تفسيره قولين: الأول: أنها مكية وعزاه إلى ابن عباس والجمهور، والثاني: أنها مدنية، وعزاه للحسن وعكرمة وقتادة. عدد آياتها وآيها ثلاث إجماعاً، ولا اختلاف فيها. ورويها: الراء.

مقصودها

مقصودها ومقصودها: المنحة للمنزل عليه - صلى الله عليه وسلم - بكل خير يمكن أن يكون. واسمها "الكوثر" واضح في ذلك. وكذا النحر لأنه معروف في نحر الإبل، وذلك غاية الكرم عند العرب. فضائلها وأما فضائلها: فروى الشيخان، وأبو داود، والترمذي، والنَّسائي، عن أنس رضي الله عنه قال: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم بين أظهرنا في المسجد، إذا أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه مبتسماً، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟. قال: أنزلت عَلَيَّ آنفا سورة، فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) (ثم) قال: أتدرون ما الكوثر؟. قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه نهر وعدنيه ربي في الجنة، عليه حوضي.

وفي رواية: فيه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد نجوم السماء فيختلج العبد منهم، فأقول: رب إنه من أمتي، فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك. وللبخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الكوثر: الخير الكثير، الذي أعطاه الله إياه. وروى الشيخان عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حوض مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منه لم يظما أبداً. وفي رواية: حوض مسيرة شهر، وزواياه سواء، وماؤه أبيض من الورق. ولأحمد - قال المنذري: بإسناد حسن - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حوض كما بين عدن وعمان أبرد من الثلج، وأحلى

من العسل، وأطيب من المسك، أكوابه مثل نجوم السماء، من شرب منه شربه لم يظما بعدها أبداً، أول الناس عليه وروداً: صعاليك المهاجرين،. قال قائل منهم: ومن هم يا رسول الله؟. قال: الشعثة رؤوسهم، الشحبة وجوههم، الدنسة ثيابهم، لا تفتح لهم السدد ولا ينكحون المتنعمات، انجذين يعطون كل الذي عليهم، ويأخذون كل الذي لهم. وقال الحافظ زين الدين رجب في كتاب "الإِستغناء بالقرَآن": ويروى عن أبي أمامة مرفوعاً: أربع آيات نزلن من كنز تحت العرش، ليس نزل شيء غيرهن: أم الكتاب، وآية الكرسي وخاتمة البقرة، والكوثر.

سورة الكافرون

سورة الكافرون مكية، وقيل: مدنية وتسمى: الإِخلاص، والمقشقشة. روى الأصمعي عن أبي العلاء قال: كانت تسمى: المقشقشة، أي أنها تبرىء من الشرك يقال: قشقش البعير، إذا نحرته. عدد آياتها وآيها ست إجماعاً. ولا اختلاف فيها. ورويها ثلاثة أحرف وهي. ندم، أو: مدن.

مقصودها

مقصودها ومقصودها: إثبات مقصود الكوثر، بالدليل الشهودي، على أن منزلها كامل العلم، شامل القدرة، لأنه المنفرد بالوحدانية. فلذلك لا يقاوي من كان معه. ولذلك لما نزلت قرأها - صلى الله عليه وسلم - عليهم في المسجد، أجمع ما كانوا. وهذا المراد بكل من أسمائها. أما الكافرون: فمن وجهين: ناظر إلى إثبات، وناظر إلى نفي. أما المثبت: فمن حيث إنه إشارة إلى تأمل جميع السورة، من إطلاق البعض على الكل. أما النافي: فمن جهة أنهم إنما كفروا بإنكار ما هو مقصودها إما صريحاً كالوحدانية وتمام القدرة. وإما لزوماً، وهو العلم، فإنه يلزم من نقص القدرة نقصه. وأما الإخلاص: فلأن المنفذ لك، كان مؤمناً، مخلصاً، بريئاً من كل شرك، وكل كفر. وأما المقشقشة: فلأنها أبرأت من كل نفاق وكفر، من قولهم: تقشقشت قروحه إذا تقشرت للبراء. وعندي: أنه من الجمع، أخذاً من القش، الذي هو تطلب المأكول من ههنا وههنا. فإنها جمعت جميع أصول الدين، فأثبتها على أتم وجه. فلزم من ذلك: أنها جمعت جميع أنواع الكفر فحذفتها، ونفتها. وتقدم تمام توجيه ذلك في براءة. فأمرها دائر على الِإخلاص. ومن المعلوم: أن من أخلص للهِ، كان من أهل ولايته حقاً فحق له ما يفعل الولي مع وليه. ولذلك - والله أعلم - سنت قراءتها مع قل هو الله أحد، في ركعتي

فضائلها

الفجر، ليحوز فاعل ذلك ثمرة ما ورد من: "أن من صلى الصبح كان في ذمة الله ". ومن كان كذلك، كان جديراً بأن ينال ما أشارت إليه السورتان اللتان بين سورتي الِإخلاص من الفتح له والنصرة، والخيبة لعدوه والخسر والحسرة. فضائلها. وأما فضائلها: فروى الترمذي وقال: حسن، عن سلمة بن وردان. عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل من أصحابه: هل تزوجت يا فلان؟. قال: لا والله يا رسول الله، ولا عندي ما أتزوج به. قال: أليس معك (قل هو الله أحد) ؟ قال: بلى. قال: ثلث القرآن، قال: أليس معك (إذا جاء نصر الله والفتح) ؟. قال: بلى، قال: ربع القرآن. قال: أليس معك (قل يا أيها الكافرون) ؟. قال: بلى قال: ربع القرآن. تزوج، تزوج.

قال المنذري: وقد تكلم في هذا الحديث مسلم في كتاب "التمييز". ورواه أحمد من هذا الوجه - قال الهيثمي: وسلمة ضعيف - قال: أليس معك (قل هو الله أحد) ؟. قال: بلى. قال: ربع القرآن. وقال في آخره -: قال: أليس معك آية الكرسي؟. قال: بلى. قال: ربع القرآن. ورواه الترمذي - أيضاً - عن أنس رضي الله عنه، ولفظه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ (إذا زلزلت) عدلت بنصف القرآن، ومن قرأ: (قل يا أيها الكافرون) عدلت بربع القرآن. ومن قرأ (قل هو الله أحد) عدلت بثلث القرآن. وروى أبو عبيد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قل يا أيها الكافرون، تعدل ربع القرآن. قال الِإمام ناصر الدين بن ميلق - ما حاصله -: إن التفاوت بينهما وبين (قل هو الله أحد) في كونها تعدل ربعاً، وتلك تعدل ثلثاً، مع أن كلا منهما تسمى الِإخلاص: أن (قل هو الله أحد) اشتملت من صفات الله تعالى ما تشتمل عليه "الكافرون". وأيضاً: فالتوحيد إثبات إلهية المعبود وتقدسه، ونفي إلهية ما سواه، وقد صرحت الِإخلاص بالإِثبات والتقديس، ولوَّحت إلى نفي عبادة غيره. والكافرون صرحت بالنفي، ولوَّحت بالنفي، ولوَّحت بالِإثبات والتقديس. فكان بين الرتبتين من التصريحين والتلويحين، ما بين الربع والثلث انتهى. وسرُّ كون آية الكرسي ربعاً: أنها ربع الِإيمان بالله ورسوله وكتبه،

واليوم الآخر، ولم تكن ثلثاً كالإخلاص، لأنها بكونها سورة مستقلة، والله أعلم. وروى أبو داود، والترمذي، والنَّسائي، والدارمي، وأبو عبيد في الفضائل، والبيهقي في الدعوات، عن نوفل بن فروة أبي فروة الأشجعي رضي الله عنه، أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، علمني شيئاً أقوله إذا أويت إلى فراشى. قال: اقرأ (قل يا أيها الكافرون) ، ثم نم على خاتمتها، فإنها براءة من الشرك. وأخرجه الطبراني في الأوسط، في ترجمة أحمد بن يحيى الحلواني، من حديث جبلة ابن حارثة رضي الله عنه.

وأخرجه الِإمام أحمد، ولفظه: اقرأ عند منامك (قل يا أيها الكافرون) ، ثم نم على خاتمتها، فإنها براءة من الشرك. وقال الِإمام أحمد - أيضاً -: حدثنا أبو النضر، ثنا المسعودي، عن مهاجر أبي الحسن، عن شيخ أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فمر برجل يقرأ (قل يا أيها الكافرون) . قال: أما هذا فقد برىء من الشرك، قال: وإذا آخر يقرأ: (قل هو الله أحد) ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - بها وجبت له الجنة. وفي رواية: أما هذا فقد غفر له. قال الهيثمي: رواه أحمد بإسنادين، في أحدهما شريك وفيه خلاف. وبقية رجاله رجال الصحيح. ورواه الدارمي عن أبي الحسن مهاجر قال: قال: جاء رجل من زياد إلى الكوفة، فسمعته يحدث: أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسير له، قال: وركبتي تصيب أو تمس - ركبته، فسمع رجلاً يقرأ (قل هو الله أحد) قال: غفرله. وقال ابن رجب: وروينا من حديث طلحة بن خراش، عن جابر

ابن عبد الله رضي الله عنهما، أن رجلاً قام فركع ركعتي الفجر، فقرأ في الركعة الأولى: (قل يا أيها الكافرون) حتى انقضت السورة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هذا عبد عرف ربه، وقرأ في الأخيرة (قل هو الله أحد) ، حتى انقضت السورة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هذا عبد آمن بربه. وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لما قرأ (قل يا أيها الكافرون) : برىء من الشرك وقال - لما قرأ (قل هو الله أحد) -: قد غفر له. أخرجه الكتاني من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، ورجل من الصحابة رضي الله عنهم - غير مسمى. ولأبي يعلى الموصلي، عن ابن عباس رضى الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ألا أدلكم على كلمة تنجيكم من الإشراك بالله عز وجل؟. تقرأون (قل يا أيها الكافرون) عند منامكم. وروى الطبراني في الصغير - قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم - عن سعد ابن مالك - يعني ابن أبي وقاص رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ (قل هو الله أحد) فكأنما قرأ ثلث القرآن، ومن قرأ: (قل يا أيها الكافرون) فكانما قرأ ربع القرآن. وللطبراني - أيضاً - في الأوسط - قال الهيثمي:

وفيه عبيد الله بن زحر، وثقه جماعة، وفيه ضعف، وعزاه المنذري إلى الطبراني في الكبير أيضاً. وإلى أبي يعلى وقال: وإسناده حسن - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قل هو الله أحد) ، تعدل ثلث القرآن، و (قل يا أيها الكافرون) ، تعدل ربع القرآن. وكان يقرأ بهما في ركعتي الفجر، وقال: هاتان الركعتان فيهما رغب الدهر. قال الهيثمي: وروى الترمذي عنه القراءة بهما في ركعتي الفجر. قال النووي في الرياض: وقال: حديث حسن. ولفظه: رمقت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين قبل الفجر: قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد. وروى أبو عبيد عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: من قرأ (قل يا أيها الكافرون) في ليلة فقد أكثر وأطاب. وروى النسائي عن ابن عمر رضي الله عنه قال: رمقت النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرين مرة يقرأ في الركعتين بعد المغرب، "والركعتين قبل الفجر، قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد. وروى عبد الرزاق منه أمر الفجر. وروى عبد بن حميد عن ابن عمر - أيضاً - رضي الله عنهما قال: صلى

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه في سفر صلاة الفجر فقرأ (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) وقال: قرأت بكم ثلث القرآن وربعه. وروى عبد الرزاق عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عائشة رضي الله عخها قالت: أَسَرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القراءة في ركعتي الفجر، وقرأ فيهما (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) . وله عن معمر، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم لركعتي الفجر، فأقول: هل قرأ فيهما بأم القرآن أم لا؟. لخفته إياهما. ورواه بسند آخر عن يحيى، عمن سمع عمرة. وفي أمالي ابن مزدك تخريج الطبراني عن أبي بن كعب رضي الله عنه. عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من قرأ (قل يا أيها الكافرون) ، عند نومه، أمن من فزع النوم، انتهى.

سورة النصر

سورة النصر مدنية إجماعاً. نزلت أيام التشريق، كما تراه في مسند عبد، وحكاه أبو حيان بصيغة قيل وصدر بقوله: نزلت في منصرفه - صلى الله عليه وسلم - من غزوة حنين، وعاش بعد نزولها سنتين. عدد آياتها وآيها ثلاث في جميع العدد، ولا اختلاف فيها. ورويها ثلاثة أحرف، وهي: حجب، أو: * بجح. مقصودها ومقصودها: الِإعلام بتمام الدين، اللازم عن مدلول اسمها، اللازم

فضائلها

عنه موت النبي - صلى الله عليه وسلم - اللازم عنه العلم، بأنه ما يرد إلى عالم الكون والفساد، إلا لِإعلاء كلمة الله، وإدحاض كلمة الشيطان، اللازم منه: أنه - صلى الله عليه وسلم - خلاصة الوجود، وأعظم عبد للولي الودود. فضائلها وأما فضائلها: فروى الإمام أحمد بإسناد - قال المنذري: حسن - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما افتتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة، رنّ إبليس رنّة اجتمعت إليه جنوده فقال: ايأسوا أن تردوا أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الشرك بعد يومكم هذا، ولكن افتنوهم في دينهم، وأفشوا فيهم النوح. وروى الِإمام عبد الله بن أبي داود في كتاب "المصاحف" عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأقصر سورتين من القرآن ثلاث مرات. وفي رواية: أن تلك الصلاة: الصبح. فلما فرغ، أقبل علينا بوجهه فقال: إنما عجلت لتفرغ أم الصبي إلى صبيها. وله عن عمرو بن ميمون قال: لما طعن عمر رضي الله عنه. كادت الشمس أن تطلع، فقدموا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه،

فأمَّهم بأقصر سورتين في القرآن: إذا جاء نصرالله والفتح، وإنا أعطيناك الكوثر. وروى عبد بن حميد عن أبي سعيد - أيضاً - رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفجر سورتين في القرآن فقلت: يا رسول الله صليت بنا اليوم صلاة ما كنت تصليها؟. فال إني سمعت صوت صبي في صف النساء. وللنسائي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت "إذا جاء نصر الله والفتح" إلى آخر السورة. قال: نعيت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه حين أنزلت، فأخذ في أشد ما كان اجتهاداً في أمر الآخرة. وللبخاري والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يدخلني مع أشياخ بدر، فقال بعضهم: لم تدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ قال: إنه ممن قد علمتم. قال: فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم، قال: وما رأيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني، فقال: ما تقولونا في (إذا جاء نصر الله والفتح) ؟ حتى ختم السورة - فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا جاء نصر الله وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري، ولم يقل بعضهم شيئاً، فقال لي: يا ابن عباس كذلك تقول؟. قلت: لا. قال فما تقول؟. قلت: هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه الله به، (إذا جاء نصر الله والفتح) فتح مكة فذلك علامة أجلك.

(فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً) ، فقال عمر رضي الله عنه: ما أعلم منها إلا ما تعلم. ففهم عدة الِإعلام بعد ذكر ما لزم منه ظهور الدين، من الأمر بالاستغفار، لأن الله تعالى جعل للأمة أمانين من عذابه، أحدهما: وجوده - صلى الله عليه وسلم - فيهم. والثاني: وجود الاستغفار. (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) . فلما كرر الأمر بالاستغفار الذي هو الأمان الثاني في السورة التي نزلت عليه - صلى الله عليه وسلم - في حجته بعد نزول (اليوم أكملت لكم دينكم) . كان مشعراً بأن الأمان الأول انقضى زمانه، وأنه ينبغي للأمة المواظبة على الأمان الثاني، والاجتهاد فيه، وأكد لهم الأمر بذلك، بتوجيه الخطاب فيه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، لأن أمر الرئيس أدعي إلى أمتثال أتباعه والله الموفق. وروى عبد بن حميد عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن هذه السورة أنزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أوسط أيام التشريق بمنى، وهو في حجة الوداع (إذا جاء نصر الله والفتح) حتى ختمها، فعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه الوداع

فأمر براحلته القصوى فرحلت له، فركب فوقف للناس بالعقبة، فاجتمع إليه الناس فذكر خطبته في ذلك الجمع الأعظم. وقد ذكرتها كاملة في كتابي "الاطلاع علي حجة الوداع". وقال البيهقي في "دلائل النبوة" في باب ما جاء في نعي النبي - صلى الله عليه وسلم -: ويذكر عن أبي سعيد رضي الله عنه ما يدل على أنها نزلت عام الفتح. والله أعلم. وروى الدارمي في أوائل المسند، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت "إذا جاء نصرالله والفتح" دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاطمة رضي الله عنها فقال: قد نعيت إليَّ نفسي، فبكت، فقال لا تبكي فإنك أول أهلي لاحق بي، فضحكت، فرآها بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلنا: يا فاطمة رأيناك بكيت ثم ضحكت، قالت: أنه أخبرني أنه قد نعيت إليه نفسه فبكيت، فقال لي: لا تبكي فإنك أول أهلي لا حق بي، فضحكت. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا جاء نصرالله والفتح، وجاء أهل اليمن هم أرق أفئدة، والِإيمان يمان، والحكمة يمانية.

وللبيهقي عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قل يا أيها الكافرون) تعدل ربع القرآن، و (إذا جاء نصر الله والفتح) تعدل ربع القرآن. وروى مسلم في صحيحة عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: أتدري آخر سورة من القرآن نزلت جميعها؟. قلت: نعم، إذا جاء نصرالله والفتح. قال: صدقت. وقال الِإمام ولي الله الملوى: وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر من قول "سبحان الله وبحمده، وأستغفر الله وأتوب إليه" قال: أخبرني ربي أني سأرى علامة في أمتى، فإذا رأيتها أكثرت من قول: سبحان الله وبحمده، وأستغفر الله وأتوب إليه، فقد رأيتها: إذا جاء نصرالله والفتح - فتح مكة - ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً. وتقدم في سورة "الكافرون " حديث أنس في: أنها تعدل ربع القرآن. ولعل السر في ذلك: أنه لما كان مقصود القرآن، بيان هذا الدين. وبيان أحواله للمنزل عليه - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر، ثم في أثنائه، ثم في آخره عند تمامه، وموت المنزل عليه - صلى الله عليه وسلم -، ثم بعد موته، بأخذه في التناقص حتى

يعود غريباً كما بدأ، وكانت هذه السورة مبينة لحاله عند تمامه، كانت ربعاً له بهذا الاعتبار. وما نزل بمكة المشرفة بين مبدأه، وآيات الهجرة منه بئنت أول الوسط. وسورة الفتح المنبئة عن الفتح الأول، الذي هو سبب الفتح الأعظم، بينت أول التمام، وهذه السورة - وهي سورة فتح الفتوح - بينت انتهاءه. و"ألهاكم التكاثر " - ونحوها لبيان حالة تناقص بالإقبال على الأموال. والأولاد والجاه، وغير ذلك من سنن من كان قبلنا، الذي كان سبباً لارتداد أكثر من ارتد بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، المشار إليهم بقوله: "إنه كان تواباً" أي على من يرتد من أمتك عقب وفاتك، حتى يردوا إِلى الدين، ويفتح الله بهم البلاد إكراماً لك بسبب استغفارك لهم. ولهذه الأسرار، وقع الترغيب في قراءة التكاثر، لأنها تعدل ألف آية ليحصل لقارئها ببركتها الكف عما حذرت منه. وموت النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان خيراً لنا - فمن جهة أنا لم نستأصل بعذاب في حياته، وهو وهن لنا من جهة الافتراق، وانتشار الكلمة كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "أنا أمان لأصحابي، فإذا مت، أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا مات أصحابي أتى أمتي ما يوعدون".

وقد حثت هذه السورة على الإقبال على الذكر بالتسبيح، وبالحمد والاستغفار والتوبة، وتفريغ القلب لذلك، والاجتهاد فيه عند تمام الأشياء. تقييداً لنعمه بالشكر: " فإذا فرغت فانصب، وإلى ربك فارغب".

سورة تبت

سورة تبت وتسمى: المسد. مكية إجماعاً. عدد آياتها وآيها خمس إجماعاً، وليس فيها اختلاف. وفيها مشبه الفاصلة موضع: (أبي لهب) ورويها حرفان، هما: دب. مقصودها ومقصودها: البتُّ، والقطع الحتم بخسران الكافر، ولو كان أقرب الخلق إلى أعظم الفائزين، اللازم عنه: أن شارع الدين له من العظمة

فضائلها

ما يقصر عنه الوصف، فهو يفعل ما يشاء، لأنه لا كقوله أصلاً، حثا على التوحيد من سائر العبيد. وكذلك وقعت بين سورتي الإخلاص، المقرن بضمان النصر، وكثرة الأنصار، واسمها "تبت" واضح الدلالة على ذلك، بتأمل السورة على هذه الصورة. فضائلها وأما ما ورد فيها: فروى البغوي عن ابن عمر، والبخاري عن ابن عباس، رضي الله عنهم قال: صعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم الصفا فقال: يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش. فقالوا: مالك؟ ، قال: أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم، أما كنتم تصدقوني؟ قالوا: بلى، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تَباًّ

لك ما دعوتنا إلا لهذا؟. فأنزل الله عز وجل: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) إلى آخرها.

سورة الإخلاص

سورة الإِخلاص وتسمى: قل هو الله أحد. قال ابن عباس رضي الله عنهما: مدنية. وقال مجاهد وعطاء وقتادة: مكية. ويؤيد هذا حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه الآتي في فضلها ويمكن أن تكون لعظمها نزلت في كل من البلدين، كما تقدم مثل ذلك في الفاتحة. وعكس النجم النسفي القولين، فقال مكية عند ابن عباس رضي الله - رضي الله عنهما - ومقاتل، والواقدي، والحسين بن واقد. وقال قتادة: هي مدنية. عدد آياتها وآيها خمس في المكي والشامي، وأربِع في عدد الباقين.

مقصودها

اختلافها آية (لم يلد) . عدها المكي والشامي، ولم يعدها الباقون. ورويها: الدال. مقصودها ومقصودها: بيان حقيقة الذات الأقدس ببيان اختصاصه بالاتصاف بأقصى الكمال للدلالة على صحيح الاعتقاد، للِإخلاص في التوحيد، بإثبات الكمال، ونفي شوائب النقص والاختلال، المثمر لحسن الأقوال والأفعال. وثبات اللحا والاعتقاد في جميع الأحوال. وعلى ذلك دل اسمها "الإِخلاص"، الموجب للخلاص، وكذا "المقشقشة". قال في القاموس: المقشقشتان: الكافرون، والِإخلاص. المبرئتان من النفاق والشرك، كما يقشقش، الهناء الجرب. الهناءة القطران. وقال عبد الحق في كتابه "الواعي" كما يبرأ المريض من علته، إذا برأ منها، انتهى. وهو مأخوذ من القش بمعنى: الجمع. فسميتا بذلك، لأنهما يتبعان الِإنفاق بجميع أنواعه، وكذا الشرك. فجمعتاه ونفتاه عن قارئهما حق القراءة. وقد تقدم الكلام على هذا الاسم في براءة مبسوطا. وهي أعظم مفيد للتوحيد في القرآن. قال الرازي: والتوحيد مقام

فضائلها

يضيق النطق عنه، لأنك إذا أخبرت عن الحق، فهناك مخبر عنه، ومخبر به. ومجموعهما وذلك ثلاثة، فالعقل يعرفه، ولكن النطق لا يصل إليه. سئل الجنيد عن التوحيد فقال: معنى تضمحل فيه الرسوم. وتتشوش فيه العلوم، ويكون الله كما لم يزل. وقال الجنيد - أيضاً -: أشرف كلمة في التوحيد ما قاله الصديق: سبحان من لم يجعل لخلقه سبيلاً إلى معرفته، إلا بالعجز عن معرفة. فضائلها وأما فضائلها: فروى مالك في الموطأ واللفظ له، والترمذي، والنَّسائي. وأبو عبيد وقال: صحيح الإسناد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أقبلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فسمع رجلًا يقرأ: (قل هو الله أحد) ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وجبت، فسألته: ماذا يا رسول الله؟. قال: الجنة. قال أبو هريرة رضي الله عنه: فأردت أن أذهب إلى الرجل فأبشره، ثم فَرِقْت أن يفوتني الغداء مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فآثرت الغداء، ثم ذهبت إلى الرجل، فوجدته قد ذهب.

وهو عند الترمذي بدون قوله: "فأردت" إلى آخره. وقال: حسن صحيح غريب. فرقت - بكسر الراء -: أي خفت. ومن حديثه عند مسلم، والترمذي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: احشدوا فإني ساقرأ عليكم ثلث القرآن، فحشد مَنْ حشد، ثم خرج - صلى الله عليه وسلم - فقرأ: "قل هو الله أحد"، ثم دخل فقال بعضنا لبعض: إنا نرى هذا خبراً جاءه من السماء، فذلك الذي أدخله، ثم خرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني قلت لكم: ساقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا إنها تعدل ثلث القرآن. وعند مسلم والنَّسائي، والدارمي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أيعجز أحدكم أن يقرأ في الليلة ثلث القرآن؟. قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟. قال: "قل هو الله أحد" تعدل ثلث القرآن. وفي رواية: قال: إن الله عز وجل جزأ القرآن بثلاثة أجزاء، فجعل "قل هو الله أحد " جزءاً من أجزاء القرآن. ولفظ الدارمي: أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة بثلث القرآن؟. قالوا: نحن أعجز وأضعف من ذلك، قال: إن الله عز وجل جزأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل (قل هو الله أحد" ثلث القرآن.

والمراد - والله أعلم - بتضعيف الأجر فيها: أنه يزاد على الحسنة بعشر إلى أن يبلغ إلى مقدار عشرين حزباً، من غير تضعيف، لا أن قارئها كمن قرأ عشرين حزبا، فإن هذا تضاعف له الحسنة بعشر أمثالها، فتصير العشرون مائتين. وكذا ما قيل فيه: إنه كربع القرآن، أو كنصفه، أو غير ذلك، والله أعلم. وذلك أنها اشتملت على ثلث ما اشتمل عليه القرآن. قال الإمام حجة الِإسلام الغزالي في جواهره: مقاصد القرآن ستة: ثلاثة مهمة، وثلاثة متمة. فالمهمة: معرفة الله تعالى، ومعرفة الآخرة، ومعرفة الصراط المستقيم. انتهى. والإخلاص مشتملة على معرفة الله تعالى، فكانت ثلثاً. قال الناصر بن ميلق: ولا يلزم مساوات غيرها من آيات التوحيد لها. لعدم المساواة في ترتيب إسنادها، وترتيب إيرادها الكافل بما ترتب عليه الحكم، والله أعلم. وقال الإمام الغزالي في كتاب المحبة من الإحياء: فما في القرآن شيء إلا وهو هدى ونور، وتعرف من الله تعالى إلى خلقه، فتارة يتعرف إليهم بالتقديس وتارة يتعرف إليهم بصفات جلاله، وتارة يتعرف إليهم في أفعاله المخوفة والمرجوة، ولا يعدو القرآن هذه الأقسام الثلاثة، وهي الإرشاد إلي معرفة ذاته، وتقديسه، أو معرفة صفاته وأسمائه، أو معرفة أفعاله وسننه مع عباده. ولما اشتملت سورة الإخلاص على أحد هذه الأقسام الثلاثة، وهو التقديس، وازنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلث القرآن، لأن منتهى التقديس في أن يكون واحداً في ثلاثة أمور: يكون حاصلًا منه من هو من نوعه وسميه، ودل عليه قوله:

"لم يلد". ولا يكون هو حاصلا ممن هو نظيره وشبيهه، ودل عليه قوله: "ولم يولد". ولا يكون أحد في درجته، وإن لم يكن أصلاً له ولا فرعاً ممن هو مثله. ودل عليه قوله: "ولم يكن له كفواً أحد". ويجمع جميع ذلك قوله: " قل هو الله أحد". وجملته تفصيل لا إله إلا الكه. فهذه أسرار القرآن، ولا تتناهى أمثال هذه الأسرار في القرآن، ولا رطب ولا يابس، إلا في كتاب مبين. وعند الترمذي وقال: حسن، والنَّسائي عن أبي أيوب رضي الله عنه نحوه. وكذا عند مالك، والبخاري، وأبي داود، والنَّسائي، عن أبي سعيد رضي الله عنه.. ورواه أحمد من طريق ابن لهيعه، وفيه ضعف، عن عبد الله بن عمرو، عن أبي أيوب الأنصاري، رضي الله عنهم، أنه قال: إنها ثلث القرآن، فصدقه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو عند أبي عبيد والبخاري، وأبي داود، عن أبي سعيد رضي الله عنه، ولفظ أبي عبيد: أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لي جاراً يقوم الليل، فما يقرأ إلا " قل هو الله أحد"، يعني: يرددها، كأنه يتقالُّها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده، إنها لتعدل ثلث القرآن.

وفي رواية البخاري، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: أخبرني أخي قتادة بن النعمان رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أيعجز أحدكم أن يقرأ بثلث القرآن في ليلة؟. فشق ذلك عليهم وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟. فقال: (قل هو الله أحد، الله الصمد) ثلث القرآن. ولأبي عبيد عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: أيعجز أحدكم أن يقرأ القرآن في ليلة، الله الواحد الصمد. وله عن ابن مسعود رضي الله عنه نحوه، وكذا عن ابن عباس رضي. الله عنهما. ورواه البزار والطبراني في الكبير والأوسط عن ابن مسعود رضي الله قال الهيثمي: بأسانيد رجال أحدها رجال الصحيح، غير عبد الله بن أحمد وهو ثقة إمام. وروى أبو عبيد، عن أبي بن كعب رضي الله عنه - أو رجل من الأنصار رضي الله عنهم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ (قل هو الله أحد) فكأنما قرأ ثلث القرآن.

ورواه أحمد عن أبي، أو رجل من الأنصار رضي الله عنهم - أيضاً. قال الهيثمي: ورحاله رجال الصحيح. وروى أبو يعلى: " أنها تعدل ثلث القرآن " عن أنس رضي الله عنه. وروى نحوه البزار، عن سعد، بن أبي وقاص رضي الله عنه. قال الهيثمي: وفيه زكريا بن عطية. وهو ضعيف. ورواه الطبراني عق معاذ بن جبل رضي الله عنه. قال الهيثمي: ورجاله ثقات، وفي بعضهم خلاف. ورواه البزار عن شيخه مفرح بن شجاع، وهو ضعيف، من حديث جابر رضي الله عنه. وروى أبو عبيد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إذا ابتدأت في سورة فأردت أن تحول منها إلى غيرها، فَتَحَوَّلْ إلى "قل هو الله أحد"، فإذا بدأت فيها فلا تحول منها حتى تختمها. وعند الطبراني في الأوسط، عن يزيد بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ " قل هو الله أحد " في مرضه الذي يموت فيه، لم يفتن في قبره، وأمن من ضغطة القبر، وحملته الملائكة يوم القيامة بأكفها حتى تجيزه على الصراط إلى الجنة. قال الهيثمي: وقال الطبراني: لا يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بهذا الإِسناد، وفيه نصر بن حماد الوراق وهو متروك.

وعند أبي داود، والترمذي وقال: حسن غريب، والنَّسائي مسنداً ومرسلاً - قال النووي: بالإسانيد الصحيحة - عن معاذ بن عبد الله بن خبيب عن أبيه رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: قل (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) والمعوذتين - حين تصبح، وحين تمسي، ثلاث مرات، تكفيك من كل شيء. وفي رواية: أنه قال: خرجنا في ليلة مطر وظلمة شديدة نطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -ليصلي بنا - وفي رواية: لنا فأدركناه، فقال لي: قل، فلم أقل شيئاً ثم قال: قل، فلم أقل شيئاً، ثم قال: قل، فلم أقل شيئَاً، ثم قال: فقلت: يا رسول الله فما أقول؟ ، قال: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) والمعوذتين حين تمسي، وحين تصبح ثلاث مرات، تكفيك من كل شيء. وسيأتي في المعوذتين بسياق آخر. ورواه النسائي عن عقبة رضي الله عنه قال: بينما أنا أقود برسول الله - صلى الله عليه وسلم -

راحلته في غزاة فقال: يا عقبة قل، فاستمعت، ثم قال: يا عقبة قل. فاستمعت، فقال الثالثة فقلت، ما أقول؟. فقال: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. فقرأ حتى ختمها، ثم قرأ: قل أعوذ برب الفلق وقرأت معه حتى ختمها، ثم قرأ: قل أعوذ برب الناس فقرأت معه حتى ختمها، ثم قال: ما تعوذ بمثلها أحد. وستأتي بقية طرق هذا الحديث في المعوذتين، إن شاء الله تعالى. ولابن داود بسند - قال النووي، على شرط مسلم - عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يعلمونهم إذا أووا إلى فرشهم أن يقرأوا المعوذتين. وفي رواية كانو يستحبون أن يقرأوا هؤلاء السور في كل ليلة ثلاث مرات: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ والمعوذتين. ولأبي داود والترمذي والنَّسائي وابن عبد الحكم في الفتوح. وغيرهم عن عقبة ابن عامر رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ المعوذتين دبر كل صلاة. وفي رواية أبي داود: بالمعوذات.

فينبغي أن يقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس قاله النووي. وللترمذي وقال: غريب، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" كل يوم مائتي مرة، محيَ عنه ذنوب خمسين سنة، إلا أن يكون عليه دين. قال: ومن أراد أن ينام على فراشه، فنام على يمينه، ثم قرأ "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" مائة مرة، فإذا كان يوم القيامة يقؤل له الرب: يا عبدي أدخل عن يمينك الجنة. وضعفه المنذري. ولأحمد والطبراني - قال الهيثمي: وفيه علي بن يزيد وهو ضعيف عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل يقرأ "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" فقال: أوجب هذا، أو: وجبت له الجنة. ولأحمد والطبراني - أيضاً - وابن عبد الحكم في الفتوح، من طريق

زبَّان، عن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" عشر مرات - قال ابن عبد الحكم: حتى يختمها - بني الله له بيتا في الجنة، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إذن نستكثر يا رسول الله؟. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الله أكثر وأطيب. قال الهيثمي: وقال أحمد في روايته: عن سهل بن معاذ أن أنس الجهني صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل: عن أبيه. والظاهر: أنها سقطت. يعني: فإن سهلا لا صحبة له. قال: وفي إسنادهما رشدين بن سعد وزبان، وكلاهما ضعيف، وفيهما توثيق ليِّن. ورواه الدرامي عن مرسل سعيد بن المسيب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" إحدى عشرة مرة بنى له بها قصر في الجنة، ومن قرأها عشرين مرة بنى له بها قصران في الجنة، ومن قرأها ثلاثين مرة بنى بها ثلاثة قصور، فقال عمر بن الخطاب: إذن نكثر قصورا؟. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الله أوسع من ذلك. وللطبراني من طريق محمد بن قدامة الجوهري - قال الهيثمي: وهو

ضعيف - عن ابن الديلمي وهو ابن أخت النجاشي رضي الله عنه، وقد خدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، من قرأ "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" مائة مرة في الصلاة، أو غيرها، كتب "الله له براءة من النار". وللطبراني في الأوسط من طريق هانئ بن المتوكل - قال الهيثمي: وهو ضعيف - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ: "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" عشر مرات بني له قصر في الجنة، ومن قرأ عشرين مرة بني له قصران، ومن قرأها ثلاثين مرة بني له ثلاث. وللطبراني في الصغير بسند - قال الهيثمي: فيه من لم أعرفهم - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" بعد صلاة الصبح اثنتي عشرة مرة، فكأنما قرأ القرآن أربع مرات، وكان أفضل أهل الأرض يومئذ إذا اتقى. وله في الصغير والأوسط - قال الهيثمي: عن شيخه يعقوب بن إسحاق بن الزبير الحلبي ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) في كل يوم خمسين مرة، نودى يوم القيامة من قبره: قم يا مادح الله فادخل الجنة. وللدارمي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) خمسين مرة غفر الله له ذنوب خمسين سنة.

وللطبراني في الكبير والأوسط، عن جابر رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله انسب لنا ربك، فنزلت "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" إلى آخرها. ورواه أبو يعلى إلا أنه قال: إن أعرابياً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: انسب قال الهيثمي: وفيه مجالد بن سعيد، قال ابن عدى: له عن الشعبي عن جابر رضي الله عنه أحاديث صالحة، قال: قلت: وهذا منها، قال وبقية رجاله رجال الصحيح. وروى الترمذي عن أبي كعب رضي الله عنه، أن المشركين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: انسب لنا ربك. فأنزل الله تعالى: (قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد) لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وأن الله لا يموت ولا يورث، ولم يكن له كفواً أحد. وفي أوائل السابع من "الغيلانيات"، عن سعيد، عن أبيه - رضي الله عنه -

أن إنسانا قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -:، انسب لي ربك، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل جبريل فأخبره، فقال: أين السائل عن نسبة الله عز وجل؟. قال: أنا هوذا. قال: " قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد". وللطبراني في الأوسط، من رواية الوازع بن نافع - قال الهيثمي: وهو متروك - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن لكل شيء نسبة، وإن نسبة الله "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ". وعزا الملوي إلى البيهقي من طرق مرسلة ومتصلة، ومن متصلها: عن أنس رضي الله عنه قال: غزونا مع الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة تبوك، فطلعت الشمس ذات يوم ونحن بتبوك، بنور وشعاع وضياء، لم نرها مثل ذلك فيما مضي، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعجب من ضيائها ونورها، إذ أتاه جبريل عليه السلام بالوحي، فسأل جبريل فقال: يا نبي الله مات اليوم معاوية بن معاوية الليثي، فبعث إليه سبعون ألف ملك يصلون عليه. قال: بم ذلك يا جبريل؟ قال: كان يكثر قراءة "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" قائماً وقاعداً، وماشياً، وآناء الليل والنهار، فهل لك يا نبي الله أن تصلي عليه ثم ترجع؟ ، فأقبض لك الأرض؟. ففعل، ثم صلى عليه فرجع. وفي رواية: قال جبريل بيده: هكذا، ففرج له عن الجبال والآكام. فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي ومعه جبريل عليه السلام، ومع جبريل سبعون ألف ملك، حتى صلى على معاوية بن معاوية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا جبريل بم بلغ معاوية هذا؟ قال: بكثرة قراءة "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ"، كان يقرؤها قائماً وقاعداً، وراقداً وماشياً وراكباً، فبهذا بلغ ما بلغ.

قال النووي في الأذكار: وروينا في كتاب ابن السني، ودلائل النبوة للبيهقي، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه السلام وهو بتبوك فقال: يا محمد اشهد جنازة معاوية بن معاوية المزني رضي الله عنه، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزل جبريل عليه السلام في سبعين ألفا من الملائكة، فوضع جناحه الأيمن على الجبال فتواضعت، ووضع جناحه الأيسر على الأرضين فتواضعت، حتى نظر إلى مكة والمدينة، فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجبريل والملائكة عليهم السلام. فلما فرغ قال: يا جبريل بم بلغ معاوية هذه المنزلة؟. قال: بقراءة "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" قائماً وراكباً وماشيا.

قال وروينا في سنن أبي داود، والترمذي، والنَّسائي، وابن ماجة، عن بريدة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسالك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فقال: سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعى به أجاب. وروى أحمد والطبراني في الأوسط والدارمي - قال الهيثمي: ورجال أحمد رجال الصحيح - عن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، تعدل ثلث القرآن. وللطبراني عن حمزه بن يوسف، بن عبد الله، بن سلام: أن عبد الله

ابن سلام رضي الله عنه قال لأحبار يهود: إني أَحْدَثُ بمسجد أبينا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام عهداً، فانطلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة، فوافاهم وقد انصرفوا من الحج فوجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس حوله، فقمت مع الناس، فلما نظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أنت عبد الله بن سلام؟. قال: قلت: نعم قال: أدن، فدنوت منه، قال: أنشدك بالله يا عبد الله بن سلام أما تجدني في التوراة رسول الله؟ فقلت له، انعت لنا ربنا؟ قال: فجاء جبريل عليه السلام حتى وقف بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد) فقرأها علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال عبد الله بن سلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. قال الهيثمي: ورجاله ثقات، إلا أن حمزة لم يدرك جده عبد الله بن سلام رضي الله عنه، انتهى. وهذا لا ينافي ما في الصحيح من أن إسلامه كان في المدينة الشريفة. لاحتمال أن يكون قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة فأسلم، وكان يخفي إسلامه خوفاً من اليهود، إلى أن هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه شهد له بالرسالة ولم يتابع، كما وقع ذلك لغيره من اليهود، فلما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - شرح الله صدره فأسلم. والله أعلم. قال الشيخ محى الدين النووي في الأذكار: وروينا عن جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من نسى أن يسمى على طعامه فليقرأ "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" إذا فرغ. وروى البخاري في صحيحه تعليقاً، والترمذي في جامعه، والدارمى. عن أنس رضي الله عنه قال، قال رجل لرسول - صلى الله عليه وسلم -: إني أحب هذه السورة "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" قال: حبك إياها يدخلك الجنة.

وفي رواية الدارمي: أدخلك الجنة. وروى عبد بن حميد، عن أنس أيضاً رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله إن ها هنا رجلا لا يصلي صلاة إلا قرأ فيها "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ". منها ما يفردها، ومنها ما يقرؤها مع سورة أخرى، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: وما تريد إلى هذا؟. قال: يا رسول الله إني أحبها، قال حبها أدخلك الجنة. وللشيخين، والنَّسائي، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلاً على سرية، فكان يقرأ لأصحابه - فيختم بـ "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ"، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: سَلْهُ لأي شيء يصنع ذلك؟. فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن، وإني أحب أن أقرأها، فقال: أخبروه أن الله يحبه. وللترمذي وقال: حسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ في ركعتي الفجر بالكافرون و "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ". وأخرجه النسائي وقال: رمقت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرين مرة يقرأ في الركعتين قبل الفجر: قل يا أيها الكافرون، و "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ". وقد تقدم في قل يا أيها الكافرون مثل هذا، من وجه آخر.

سورة الفلق

سورة الفلق قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد: مدنية. وقال قتادة - قال الأصبهاني: والحسن، وعطاء، وعكرمة، وجابر بن زيد -: مكية. قال: والأول أصح، ويدل عليه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سحر وهو مع عائشة رضى الله عنها، فنزلت عليه المعوذتان. وآيها خمس باتفاق العادين، ولا اختلاف فيها. ورويها ثلاثة أحرف. وهي: دبق. مقصودها ومقصودها: الاعتصام من شر كل ما انفلق عنه الخلق الظاهر والباطن. واسمها ظاهر الدلالة على ذلك. فضائلها وأما فضائلها: فروى الترمذي وقال: حسن صحيح غريب،

عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من الجان، وعين الإِنسان، حتى نزلت المعوذتان، فلما نزلتا أخذ بهما وترك ما سواهما. وأخرج الطبراني في الأوسط، عن علي رضي الله عنه قال: لدغت النبي - صلى الله عليه وسلم - عقرب وهو يصلي، فلما فرغ قال: لعن الله العقرب لا تدع مصلياً ولا غيره، ثم دعا بماء وملح. وجعل يمسح عليها ويقرأ: "قل يا أيها الكافرون، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس". وفي المسند للِإمام أحمد، والسنن للنسائي، وأمالي أبي الحسين بن شمعون، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: بينا أنا أقود برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نقب من تلك النقاب، إذ قال: ألا تركب يا عقبة؟. فأجللت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أركب مركبه، ثم قال: ألا تركب يا عقبة؟. فأشفقت أن تكون معصية، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وركبت هنية ونزلت، وركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقدت به ثم قال: يا عقبة ألا أعلمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: فاقْرأَ: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس ثم أقيمت الصلاة، فتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ بهما، ثم مرَّ بى، قال كيف رأيت يا عقبة؟ اقرأ بهما كلما نمت وكلما قمت. وزاد النسائي في رواية: ما سأل سائل بمثلهما، ولا استعاذ مستعيذ بمثلهما. وفي المسند عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: لقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فابتدأته فأخذت بيده

قال: قلت: يا رسول الله ما نجاة المؤمن؟. قال: يا عقبة أخرس - وفي رواية: أملك - لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك، قال: ثم لقينى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فابتدأني، فأخذ بيدي فقال: يا عقبة بن عامر، ألا أعلمك خير ثلاث سور أنزلت في التوراة والِإنجيل والزبور والقرآن العظيم. وفي رواية: ألا أعلمك سوراً ما أنزل في التوراة ولا في الزبور ولا في الِإنجيل ولا في القرآن مثلهن؟. قال: قلت: بلى جعلني الله فداك. قال: فأقرأني: قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس. ثم قال يا عقبة لا تنسهن، ولا تَبِتْ ليلة حتى تقرأهن، فما نسيتهن منذ قال: لا تنسهن وما بت ليلة حتى أقرأهن، ثم لقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فابتدأته فأخذت بيده، فقلت يا رسول الله أخبرني بفواضل الأعمال. فقال: يا عقبة صِلْ من قطعك، وأعط من حرمك، وأعرض - وفي رواية -: واعف عمَّنْ ظلمك. وفيه: وفي رواية - قال الهيثمي: رجالها ثقات - أنه قال: لقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: يا عقبة بن عامر ألا أعلمك سوراً ما أنزل في التوراة ولا في الزبور ولا في الِإنجيل، ولا في القرآن، مثلهن، ولا تأتي ليلةٌ إلا قرأت بهن فيها: قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس.

قال الهيثمي: وهو في الصحيح باختصار. وفي المسند - أيضاً عن ابن عابس الهجهني رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له يا ابن عابس ألا أخبرك بأفضل ما تعوذ به المتعوذون؟. قلت: بلى يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قل أعوذ برب الناس وأعوذ برب الفلق، هاتين السورتين. وفي المسند عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ بالمعوذات في دبر كل صلاة. ورواه أبو داود والنَّسائي، والترمذي وقال: حسن صحيح، وقال بالمعوذتين. وروى مسلم والترمذي والنَّسائي عن عقبة. بن عامر رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ألم تر آيات أنزلت الليلة، لم ير مثلهن قط: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس.

ولأبي داود، والنَّسائي عن عقبة بن عامر رضى الله عنه قال: بينا أنا أسير مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الجحفة والأبواء، غشيتنا ريح وظلمة شديدة، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ بأعوذ برب الفلق، وأعوذ برب الناس، ويقول: يا عقبة تعوذ بهما، فما تعوذ متعوذ بمثلهما. قال: وسمعته يؤمنا بهما في الصلاة. الجحفة: قرية كبيرة على سبع مراحل من المدينة الشريفة، وثلاث من مكة، وتسمى مهيعة والأبواء: جبل بين مكة والمدينة. وروى أبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح، عن عبد الله بن خبَيب رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) والمعوذتين، حين تمسي، وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء. وقد تقدم في الِإخلاص بلفظ آخر. وروى النسائي، وأبو عبيد في الفضائل، عن معاذ بن عبد الله بن خبيب عن أبيه رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طريق مكة ومعه أصحابه، فوقعت علينا ضبابة من الليل، حتى سترت بعض القوم عن بعض، فلما أصبحنا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قل يابن خبيب. فقلت: ما أقول يا رسول الله؟ : قال: قل أعوذ برب الفلق، فقرأها، وقرأتها، حتى فرغ منها، ثم قال: ما استعاذ - أو استعان - أحد بمثل هاتين السورتين قط.

هكذا هو في نسختي، وكأنه سقط ذكر سورة الناس. وفي رواية النسائي قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق مكة، فأصبتُ خلوة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدنوتُ منه، فقال: قل. قلت: ما أقول؟ قال: أعوذ برب الفلق، حتى ختمها، وقل أعوذ برب الناس، حتى ختمها. ثم قال: ما تعوذ الناس بأفضل منهما. وللبزار - قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح - عن عبد الله الأسلمي رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمرة، حتى إذا كنا ببطن واقم، استقبلتنا ضبابة فأضلتنا الطريق، فلم نشعر حتى طلعنا على ثنية، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك عدل إلى كثيب فأناخ عليه، ثم قام، وقام عليه من شاء الله، فما زال يصلي حتى طلع الفجر، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأس ناقته، ثم مشى، وعبد الله بن الأسلمي إلى جنبه، ما أحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيره، فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على صدره ثم قال: قل. قلت: ما أقول؟ قال: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، (قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق) ، حتى فرغت منها، ثم قال: (قل أعوذ برب الناس) ، حتى فرغت منها. فقال رسول الله: هكذا فتعوذ، فما تعوذ العباد بمثلهن قط. وللبيهقي في الدعوات، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:

كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من عين الجان وعين الِإنسان، فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما، وترك ما سوى ذلك. وللنسائي، وابن حبان في صحيحه، عن جابر رضي الله عنه، أن النِبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: أقرأ يا جابر، قلت: وماذا أقرأ بأبى أنت وأمى؟ ، قال: اقرأ قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس) ، فقرأتهما، فقال: اقرأ بهما، ولن تقرأ بمثلهما. وللطبراني في الأوسط - قال الهيثمي: ورجاله ثقات - عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لقد أنزل عليَّ لم ينزل عليَّ مثلهن، المعوذتين. وللدرامي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: مشيت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: قل يا عقبة، فقلت: أي شيء أقول؟ قال: فسكت عني، ثم قال: يا عقبة قل. فقلت: قل. فقال: أعوذ برب الفلق، فقرأتها حتى جئت على آخرها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: ما سأل سائل ولا استعاذ مستعيذ بمثلها. ورواه عبد الرازق بنحوه. ورويا أيضاً عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد أنزل عليَّ آيات لم أر - أو لم ير - مثلهن. وقال عبد الرازق: لم أسمع مثلهن - أو لم أر مثلهن -: المعوذتين.

ورواه أبو عبيد، ولفظه: أنزلت علي آيات، لم ينزل عليَّ مثلهن قط: المعوذتان. ولأبي عبيد، وابن عبد الحكيم في الفتوح، عن عقبة بن عامر الجهني - أيضاً - رضي الله عنه قال: اتبعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو راكب، فوضعت يدي على قدمه، فقلت: أقرئني من سورة هود، أو سورة يوسف، عليهما السلام فقال: "لن تقرأ شيئاً أبلغ عند الله من " قل أعوذ برب الفلق ". ورواه النسائي وقال: لي تقرأ شيئاً عند الله أبلغ من آيات أنزلت عليَّ أعوذ برب الفلق، وأعوذ برب الناس. وروى البغوي عن عقبة أيضاً رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: ألا أخبرك بأفضل ما تعوذ به المتعوذون؟. قلت: بلى. قال: قل أعوذ برب الناس. ولأبي داود والنَّسائي عن عقبة - أيضاً - رضي الله عنه. أنه قال: كنت أقود بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ناقته في سفر، فقال لي: يا عقبة ألا أعلمك خير سورتين قرئتا؟ ، فعلمني (قل أعوذ برب الفلق) ، (وقل أعوذ برب الناس) فلم يرني سررت بهما جداً، فلما نزل لصلاة الصبح صلى بهما صلاة الصبح للناس، فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التفت إليَّ فقال: يا عقبة كيف رأيت. ولأبي عبيد عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قال: من صلى

الجمعة ثم قرأ بعدها "قل هو الله أحد" والمعوذتين، حفظ - أو كفى - من مجلسه ذلك إلى مثله. ومثله لا يقال بالرأي، فحكمه الرفع. ورواه ابن السنى عن عائشة رضي الله عنها بصريح الرفع، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ بعد صلاة الجمعة: قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، سبع مرات، أعاذه الله من السوء إلى الجمعة الأخرى. ولمالك والشيخين، وأبي داود والترمذي، عن عائشة أيضاً رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أخذ مضجعه، نفث في يده وقرأ المعوذات، وقل هو الله أحد، ومسح بها وجهه وجسده، فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل به ذلك.

وفي رواية: كان ينفث على نفسه في المرض الذي توفى فيه بالمعوذات. فلما ثقل، كنت أنفث عليه بهن. وأمسح بيد نفسه لبركتها. ورواه البخاري في الوفاة، والبيهقي في الدعوات، بلفظ: كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات، ومسح بيديه، قالت: فلما اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعه الذىِ توفى فيه، طَفِقْتُ أنفُثُ عليه بالمعوذات التي كان ينفث بها على نفسه، وأمسح بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه. ولفظ الموطأ وأبي داود: في رواية: كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه " كنت أقرأ عليه، وأمسح عنه بيده رجاء بركتها". ورواه أبو عبيد في أواخر كتاب الفضائل، عن عائشة أيضاً رضي الله عنها بلفظ: كان إذا مرض يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث. وقال الشيخ محى الدين في أواخر باب الغسل من شرح المهذب: ويقرأ عند المريض الفاتحة، وقل هو الله أحد، والمعوذتين، مع النفخ في اليدين، ويمسحه بهما، ثبت ذلك في الصحيحين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى عبد بن حميد عنها أيضاً رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد النوم يجمع يديه فينفث فيهما، ويقرأ بـ قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، يمسح بهما على وجهه ورأسه، وسائر جسده. قال عقيل: ورأيت ابن شهاب يفعل ذلك. قال النووي: قال أهل اللغة: النفث: نفخ لطيف بلا ريق.

ولأحمد - قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح عن أبي العلاء، يعني يزيد بن عبد الله، بن الشخير، قال:: قال رجل كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سفر، والناس يعتقبون وفي الظهر قلة، فحانت نزلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزلت، فلحقني من بعدي، فضرب منكبي فقال: قل أعوذ برب الفلق، فقلت أعوذ برب الفلق، فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقرأتها معه. ثم قال: قل أعوذ برب الناس، فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقرأتها معه، قال: إذا أنت صليت، فاقرأ بهما.

سورة الناس

سورة الناس قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد: مدنية وقال قتادة: مكية. عدد آياتها وآيها سبع في المكى والشامي، وست في عدد الباقين. اختلافها آية: (الوسواس) ، عدها المكي والشامي، ولم يعدها الباقون. ورويها: السين. مقصودها ومقصودها: الاعتصام بالِإله الحق، من شر الخلق الباطن، واسمها دال على ذلك، لأن الِإنسان مطبوع على الشر، وأكثر شره بالمكر والخداع. وأحسن من هذا: أنها للاستعاذة من الشر الباطن، المأنوس به، المشروح إليه، فإن الوسوسة لا تكون إلا بما يشتهي.

فضائلها

والناس: مشتق من الِإنس، فإن أصله، أناس، وهو أيضاً: اضطراب الباطن، المشير إليه الاشتقاق من النَّوس، فطابق حينئذ - الاسم المسمى. ومقصود هذه السورة معادل لمقصود الفاتحة، الذي هو المراقبة. فقد اتصل الآخر بالأول اتصال العلة بالمعلول، والدليل بالمدلول، والمثل بالممثول، والله المسؤول، في تيسير السُّؤْل، وتحقيق المأمول. فضائلها وأما فضائلها: فروى مالك والشيخان، والأربعة، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما، فقرأ فيهما: قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات. وقد تقدمت في الفلق بقية ألفاظه. وروى أبو داود في السنن، والبيهقي في الدعوات، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأوا بالمعوذات في دبر كل صلاة. وفي رواية أبي داود: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ بالمعوذات في دبر كل صلاة. وللبيهقي في "شعب الِإيمان" عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "لا ينام أحدكم حتى يقرأ ثلث القرآن، قالوا: يا رسول الله

وكيف يستطيع أحدنا أن يقرأ ثلث القرآن؟. قال: ألا يستطيع أن يقرأ: "قل هو الله أحد "، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس". وروى البيهقي - أيضاً - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: مشيت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: يا عقبة قل، فقلت: إيش أقول؟. قال: فسكت عني، فقلت: اللهم اردده فيَّ فقال: يا عقبة قل، فقلت: قل، فقال: أعوذ برب الناس، فقرأتها، حتى جئت على آخرها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: ما سأل بمثلها ولا استعاذ مستعيذ بمثلها. وروى أحمد عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن زِر قال: قلت لأبي رضي الله عنه: إن عبد الله رضي الله عنه يقول في المعوذتين؟. فقال: سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: قيل لي فقلت: فأنا أقول كما قال. وروى أيضاً عن وكيع، عن سفيان، عن عاصم، عن زر قال: سألت أبي بن كعب رضي الله عنه عن المعوذتين، فقال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال قيل لي، فقلت لكم، فقولوا: قال أبي رضي الله عنه، فقال لنا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنحن نقول. وأورده من طرق كثيرة، منها: ما قال الهيثمي في مجمع الزوائد: إن رجاله الصحيح، ووافقه عليه الطبراني عن زر قال: قلت لأبيٍّ رضي الله عنه: إن أخاك يحكهما من المصحف، قيل لسفيان: ابن مسعود رضي الله عنه، فلم ينكر، فقال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: قيل لي، فقلت، فنحن نقول كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

قال الهيثمي: وهو في الصحيح. غير حكهما من المصحف، انتهى. ولفظ البخاري في الصحيح: أن زرا سأل أُبَي بن كعب رضي الله عنه عن المعوذتين، فقال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: قيل لي فقلت. فنحن نقول كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال شيخنا حافظ عصره ابن حجر في شرحه البخاري: القائل، فنحن نقول - إلي آخره -، هو أبي بن كعب رضي الله عنه، ووقع عند الطبراني في الأوسط: أن ابن مسعود رضي الله قال مثل ذلك، لكن المشهور: أنه من قول أبي ابن كعب، فلعله انقلب على رواية. انتهى. وقال الشيخ بدر الدين الزركشي: وروى ابن حبان في صحيحه عن زر قال: قلت لأبي ذر رضي الله عنه: إن ابن مسعود رضي الله، لا يثبت في مصحه المعوذتين فقال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال لي جبريل عليه السلام: قل: أعوذ برب الفلق، فقلتها، وقال لي قل أعوذ برب الناس، فقلتها، فنحن نقول ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى عبد الله بن الِإمام أحمد - قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح، والطبراني ورجاله ثقات - عن عبد الرحمن بن يزيد - يعني: النخعي - قال: كان عبد الله يحك المعوذتين من مصاحفه ويقول: إنهما ليستا من كتاب الله تبارك وتعالى. وروى البزار والطبراني - قال الهيثمي: ورجالهما ثقات -

عن عبد الرحمن بن يزيد أيضاً عن عبد الله أنه كان يحك المعوذتين من المصحف،ويقول: إنما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتعوذ بهما، وكان عبد الله لا يقرأ بهما. قال البزار: لم يتابع عبد الله أحد من الصحابة، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ بهما في الصلاة، وأُثبتنا في المصحف، انتهى. وعندي: أن ظاهر هذه الأخبار غير مراد، وأن ابن مسعود رضي الله عنه إنما كان ينكر كلمة "قل" فقط في أولهما، ويحكهما من الصحف من المعوذتين، وأن قرءته كانت كذلك، وكان يستدل على صحة قراءته لهما التي أخذها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسهو غيره في نقل قل، بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يتعوذ بهما، والمتعوذ لا يناسب أن يأمر من يتعوذ به بالقول. وعلى ذلك ينطبق قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل: "قيل لي فقلت " أي كما قال لي الملك، لا أسقط شيئاً مما نطق به، لأنه كلام الله، ولو كان عبد الله رضي الله عنه ينكر جميع المعوذتين، لم يطابق قول أبي رضي الله عنه: " سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: قيل لي فقلت " قول من سأله، وكذا قول أبي ذر رضي الله عنه من سأله، والله الموفق. والحاصل: أنه يلزم على نسبته رضي الله عنه، إلى أنه ينكر جميع السورتين فسادان عظيمان. أحدهما في حق أُبَيٍّ وأبي ذر رضي الله عنهما. والثاني: في حق ابن مسعود رضي الله عنه، ولا يلزم على القول بأن المنكر إنما هو كلمة "قل" شيء. أما الأول، وهو ما في حق أبى وأبي ذر، رضي الله عنهما: فلأنه يلزم أن يكون استدلا لهما غير مفيد لمطلوبهما، لأنه لا يلزم في كل ما قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -

أن يكون قرآناً، ولا يفيد الدليل أنهما قرآن إلا بدعوى ذلك. وإن قيل: إن ذلك هو مرادهما، لأنهما في مقام الاستدلال، كان خروجاً عن الظاهر. لا لحاجة بل لإثبات فساد، وهو الفساد الثاني الذي يلزم في حق ابن مسعود رضي الله عنه. لأنه لا يخلو حينئذ، أما أن يقال: إنه أقدم على حك السورتين كاملتين بعلم، أو بغير علم. والمراد بالعلم: القطع، وهو الصفة التي توجب تمييزاً لا يحتمل النقيض. فإن قيل بغير علم، لزم عنيه نسبة هذا الصحاب الجليل الذي مناقبه - لا سيما في العلم بشهادة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أكثر من أن تحصى إلى هذا الأمر الفظيع، الذي يتحاشى عنه أحاد المسلمين. وإن قيل: إن إقدامه على ذلك بعلم، لزم منه نفى كونهما قرآناً، ولا يخفى ما فيه من الشناعة والطعن على سائر الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين. وأما إنه لا يلزم شيء على القول بأن المراد إنكار "قل" فلأنه يكون من إطلاق المعوذتين على كلمتين منهما مجازاً، بدلالة التضمن. وقوله: إنما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتعوذ بهما - أي السورتين - دليل على حذف "قل"، لأن المتعوذ لا يقول لمن يستعيذ به: في أعوذ، فيكون آمِراً بالتعوذ، لا متعوذاً. والضمير في قوله: وكان عبد الله لا يقرأ بهما: للكلمتين، وليسا بأول ضميرين اتسقا، وعاد كل منهما على ما هو له، بقرينة، وإقدامه على حكهما، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرأه السورتين بدونهما، كما هو ظاهر في إقرائه - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله الأسلمي رضي الله عنه حين قال له: قل أعوذ برب الناس، فقال: أعوذ برب الناس، فلم يلقنه "قل" وكذا إقراؤه لعبد الله بن الشخير، ولعقبة رضي النّه عنهما وبعض الروايات كما مضى، فليستا في قراءة عبد الله رضي الله عنه.

والدليل عنده قائم على ما فهمه على أنه لا معنى لِإثباتهما، بل يكون إثباتهما - على ما فَهِمَ - مُخرِجاً عن التعوذ المقصود منهما، إلى الأمر به. وليستا بأول كلمتين سقطتا في قراءة، وثبتتا في أخرى مع ما يؤيد ذلك عنده في قصد التعوذ، لا الأمر به، فهذا هو الحامل له على الِإقدام على حكَهِما. هذا في حق ابن مسعود رضي الله عنه. وأما في جانب أبَي، وأبي ذر، رضي الله عنهما: فلأن استدلا لهما على إثبات الكلمتين قرآناً بقول كل منهما: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له، إلى آخره، تام مطابق لما ورد عليه من إنكارهما، وهو أنهما إنما قيلتا، مع أن المراد التعوذ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالهما كما قالهما جبريل عليه السلام مطابقة لما قال الله تعالى، فيصير إثباتهما في غاية الدلالة على أنهما قرآن لا مطلق تعوذ. ويفيض - أيضاً - التذكير بمن قيل له ذلك، وهو المنزل عليه - صلى الله عليه وسلم -، ويفيد الِإذعان لذلك، بركة التعوذ، ويحصل المقصود به، كما يفيد الِإذعان لـ قل هو الله أحد، وقل يا آيها الكافرون البراءة. وقوله: "قيل لي فقلت" ظاهر في أن المسؤول عنه، والتنازع فيه إنما هو كلمة القول، والله أعلم. وقد تبين بهذا براءة هذا السيد الجليل مما نسب إليه من إنكار السورتين، وأنه لا خلاف في شيء من كتاب الله. وقد سبقنى إلى تأويل كلامه القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني كما نقل عنه الِإمام بدر الدين الزركشي، رحمهما الله تعالى، وإن كانت سبيلى في ذلك غير سبيله، وتأويلي مُبايناً لتأويله. ثم رأيت في شرح المهذب للِإمام الرباني محى الدين النووي في صفة الصلاة في آخر الكلام على القراءة في الصلاة ما نصه:

وما نقل عن ابن مسعود رضي الله عنه في الفاتحة، والمعوذتين باطل، ليس بصحيح. قال ابن حزم في أول كتابه "المحلي". هذا كذب على ابن مسعود رضي الله عنه موضوع، وإنما صح عنه قراءة عاصم عن زر بن حبيش، عن ابن مسعود رضي الله عنه، وفيها الفاتحة والمعوذتان. انتهى. ولما قرب التقاء نهايتي الدائرة السورية، آخرها بأولها، اشتد تشاكل الرأسين، فكانت هذه السور الثلاث الأخيرة، مشاكلة للثلاث الأولى في المقاصد وكثرة الفضائل: الِإخلاص لسورة التوحيد: آل عمران، وهو واضح. والفلق للبقرة، طباقاً ووفاقاً، فإن الكتاب الذي هو مقصود سورة البقرة خير الأمر، والفلق للعوذ من شر الخلق، المحصل لكل خير، وفي البقرة (أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) ، (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) . الآيات، (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) الآية. والناس للفاتحة، فإنه إذا فرغ الصبر الذي هو مسكن القلب، الذي

هو مركب الروح الذي هو معدن العقل، كانت المراقبة، فصار ذلك بمنزلة تقديس النفس بالتوحيد والإِخلاص، ثم استعاذة من كل شر ظاهر، وكل سوء باطن، للتأهل لتلاوة سورة المراقبة وما بعدها من الكتاب على غاية من السداد والصواب، فاتصل الآخر بالأول أي اتصال بلا ارتياب، واتحد به كل الاتحاد، إن في ذلك لذكرى لأولى الألباب. فإنه اكتفى - أولاً - بالاستعاذة المعروفة، كما يكتفي في أوائل الأمور بأيسر مأمور، فلما ختم الخاتمة، جوزي بتعوذ من القرآن، ترقية له إلى مقام الإِحسان. هذا ما أردت إيداعه في هذا الكتاب، قد انتهى الإِثبات له مع التحرير والانتخاب، على قدر الجهد والطاقة، والله الموفق للصواب. (وكان ابتدائي فيه في نصف شوال سنة 70، وكان فراغي من مسودته ليلة الجمعة، رابع عشر جمادي الأولى، من سنة إحدى وسبعين وثمان مائة. وكان فراغي من هذه النسخة ليلة الثلاثاء، رابع عشر من شعبان من السنة كل ذلك بمنزلي ومسجدي من رحبة العيد، من القاهرة المعزية، جبرها الله تعالى. قال ذلك أحوج الخلائق إلى عفو الخالق، إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط ابن علي بن أبي بكر، البقاعي الشافعي، "لطف الله بهم أجمعين. آمين، آمين، آمين، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد. وعلى آله وصحبه وسلم) ، حسبنا الله، ونعم الوكيل.

§1/1