مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي

مالك بن نبي

مالك بن نبي مشكلات الحضارة *************** مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي دار الفكر المعاصر- بيروت لبنان دار الفكر-دمشق سورية

مالك بن نبي مشكلات الحضارة مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي ترجمة: الدكتور بسام بركة الدكتور أحمد شعبو إشراف وتقديم المحامي عمر مسقاوي دار الفكر المعاصر- بيروت لبنان دار الفكر-دمشق سورية

إعادة 1423هـ = 2002م ط1: 1988م

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في عام 1971، ترك أستاذنا مالك بن نبي، رحمه الله، في المحكمة الشرعية في طرابلس لبنان، وصية سجلت تحت رقم 275/ 67 في 16 ربيع الثاني 1391 الموفق 10 حزيران 1971، وقد حملني فيها مسؤولية كتبه المعنوية والمادية. وتحملاً مني لهذه الرسالة، ووفاء لندوات سقتنا على ظمأ صافي الرؤية، رأيت تسمية ما يصدر تنفيذاً لوصية المؤلف بـ (ندوة مالك بن نبي). وهي مشروع نطرحه كنواة لعلاقات فكرية، كان رحمه الله يرغب في توثيقها. وإنني لأرجو من أصدقاء مالك وقارئيه، مساعدتنا على حفظ حقوق المؤلف في كل ما ينشر بالعربية أو الفرنسية مترجماً من قبل المترجمين أو غير مترجم. فقد حمّلني، رحمه الله، مسؤولية حفظ هذه الحقوق، والإذن بنشر كتبه. فإن وجدت طبعات لم تذكر فيها إشارة إلى إذن صادر من قبلنا، فهذه طبعات غير مشروعة، ونرجو إبلاغنا عنها. طرابلس لبنان 18 ربيع الأول 1399 15 شباط (فبراير) 1979 عمر مسقاوي

تقديم

تقديم هذا الكتاب نقدمه في ترجمته الجديدة وثوبه الجديد. قد اعتمدنا أصله الفرذسي الذي استلمته مكتوباً على الآلة الكاتبة من المؤلف رحمه الله، مصححاً بخطه مراجعاً منه. لقد طلبت إلى كل من الدكتور بسام بركة والدكتور أحمد شعبو، أستاذَي الأدب الفرنسي في الجامعة اللبنانية، العناية بترجمته من جديد. ثم إني راجعت الترجمة، فقابلت بينها وبين أصلها باللغة الفرنسية، فتخيرت لنسقها أسلوباً موحداً هو أقرب إلى نهج الأستاذ مالك في الكتابة، مستعيناً بخبرة اكتسبتها من مصاحبتي له في القاهرة، حين توفر على إخراج كتبه بالعربية، وهو يشرف ويدقق في أعمال الترجمة في نهاية الخمسينات، بل حين اختار أخيراً الكتابة باللغة العربية مباشرة. ولقد رغبنا في مزيد من توضيح أفكار الكتاب، فأضفنا إلى كل فصل حواشيَ تُعَرِّف بالأعلام والمواقع، وتضيف إلى تحليلات بن نبي خلفية تسبر مراميها، وتكشف أحداثها. فعسى أن يكون عملنا مع الزميلين المترجمين قد أوفى بالمهمة، وأوسع للهدف الذي من أجله وضع الكتاب. ولسائل أن يسأل عن الفائدة من إعادة الترجمة، بعدما قام بترجمته في مصر

الأستاذ محمد عبد العظيم علي، وتولت طبعه دارالفكر في بيروت عام 1971م. وجوابي على ذلك أنني منذ توليت الاضطلاع بمسؤولية إنتاج بن نبي بناء لوصيته، واتفقت مع دار الفكر في دمشق على إخراج مؤلفات بن نبي في ثوب جديد، كنت أطمع في ترجمة جديدة لهذا الكتاب تلتزم أصوله ونصوصه، ولا تجحد جهود الترجمة السابقة وأمانتها. وقد زكى هذا الاتجاه ما انتشر من طبعات متناثرة لتلك الترجمة عبر دور نشر غير مأذون لها. فأردنا أن نمنح هذا الكتاب حلة جديدة وجهداً جديداً يرفد وضوح الأفكار التي اشتمل عليها. ولأن المؤلف- رحمه الله- كان متأثراً في شرح أفكار هـ ببعض معطيات أحاطت به زمن التأليف، وأدلت بها أحداث نهاية الستينات، فقد بدت الإشارة إلى بعض الأشخاص من الأحياء حكماً يجلو للقارئ نسق تحليله لمشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، التي هي المحور الذي يجمع أطراف الكتاب. ولأنه لم يكن لتلك الأحكام معنىً أبعد من ضرب الأمثال، لم نجد فائدة من العودة إلى ذكر الأسماء ذاتها، إلا ما كان لابد منه لاستقامة السياق ووضوح التحليل. نقول هذا ونحن في فسحة مما تركه المؤلف لنا من خيار؛ خيار لا يجاوز بحالٍ وفاءنا لأفكار هـ والتزامنا بتبليغها كما تركها نَقِيَّةً من كل تحريف غَنيَّةً بكل توضيح. فالقارئ هدف المؤلف أينما كان وفي أي موقع كان. وهو لذلك هدفنا نبلغه فكر بن نبي من أقرب السبل وأوثقها أتصالاً وأبعدها مرمىً في ضميره. فكل ما يشوب سبلنا إليه مما يعلق بالفكرة ولا يمازجها فنحن في سعة من أمرنا فيه.

ثم إن هذا الكتاب قد جمع زبدة ما أنتج بن نبي، إذ طالما كانت الإرادة الحضارية طوع الفكرة كما يقول في تضاعيف مؤلفاته، فإننا إزاء عصر التلقين المستبد بتصوراتنا ومفاهيهنا نواجه انهيار هذه الإرادة حتى لا تقوى على احتضان المصير. والصراع الفكري يجد إطاره الأوسع في البلاد المحكومة بشبكة من الإيحاءات، تُدْلي بها مراصد الاستعمار، لتصنع مُتَقلَّبَ الأحداث وسوء مُنْقَلبها حيال كل نهضة فاعلة في عالمنا الإسلامي. فالمشكلة مشكلة أفكار في النهاية، بها ننظم خطانا في ثبات الأديم، وندفع طاقتنا في مضاء العزيمة، ونحشد وسائلنا في وثيق الإنجاز. والحضارة إذا كانت في عناصرها الأساسية: الإنسان، التراب، الزمن. كما يشرح بن نبي في مؤلفاته. والثقافة إذا كانت في مهمتها أسلوب حضارة تحرك الإنسان ووسائله عبر القنوات الأربع: المبدأ الأخلاقي، الذوق الجمالي، المنطق العملي، التقنية، فإن مسيرة الحضارة هذه تسير بالمجتمع قُوّةً وضعفاً، دَفْعاً وهَوْناً، صُعوداً وهبوطاً، تبعاً لدرجة تمحوره حول الأفكار أو حول الأشياء المحيطة به. إن لكل حضارة نمطها وأسلوبها وخيارها. وخيار العالم الغربي ذي الأصول الرومانية الوثنية قدى جَنَح بصرُهُ إلى ما حوله مما يحيط به: نحو الأشياء. بينما الحضارة الإسلامية عقيدة التوحيد المتصل بالرسل قبلَها، سَبَح خيارُها نحو التطلع الغيبي وما وراء الطبيعة: نحو الأفكار. وتستوي الحضارة على ظَهْرِ التاريخ كلما كانت في تَوازنٍ فَعَّال يدلي بنتائجه في أفكار موضوعة تستلهم أصوله ونماذجه. أي أفكار هـ المطبوعة الأصيلة. فإذا ما فقدت الأفكار المطبوعة في نَماذِجها الأساسية إلهامَها، وافتقدت الأفكار ُ الموضوعة

استلهامها لتلك النماذج، أصاب الخلل المسيرة وجَمَح بها ظهْرُ التاريخ فأصبحت شروداً تغالي في الانحراف. ((فالفكر الغربي يجنح على ما يبدو أساساً إلى الدوران حول مفهوم الوزن والكم، وهو عندما ينحرف نحو المغالاة يصل حتماً إلى الماديَّة في شكليها: الشكل البورجوازي للمجتمع الاستهلاكي، والشكل الجدلي للمجتمع السوفياتي. وحينما يكون الفكر الإسلامي في أفوله كما هو شأنه اليوم، فإن المغالاة تدفعه إلى التصوف والمبهم والغامض وعدم الدقة والتقليد الأعمى والافتتان بأشياء الغرب)). غير أن هذه النتيجة ليست هي المدار الأصلي في اندفاع الحضارة الإسلامية، كما وضعها القرآن الكريم. فالإسلام دفع الرؤية الغيبيّة في إطار الحياةِ لِتوثيق الروابط الاجتماعية وتمحورها حول فكرة الخيْر، التي يجب أن تُقارِنَ كُلَّ قواها وكل فعل. وهذا ما يعطي للرابط الاجتماعي النابع من الفكر الإسلامي طابعاً خاصاً يجعل وجود ما يسمى ((التناقضات في وسط الجماهير ظاهرة غير قابلة للتفسير في المجتمع الإسلامي ". فلكي ندرك واقع المجتمع الإسلامي المعاصر علينا أن نحدد مرحلته التاريخية وموقعه من دورة الحضارة. وهذا ما فات الكتّاب الغربيين الذين يجهلون لحظات انبثاق الحضارة وَسكَرات أفولها. فهناك مرحلة يكون المجتمع فيها بدائياً فقير الوسائل، فإذا ما أدركته فكرة جوهرية تستقطب روحه، اندمج في دورة التاريخ واندفع جهده اليومي نحو مثل أعلى يجعل لأفكار هـ دوراً وظيفياً ((لأن الحضارة هي القدرة على القيام بوظيفة أو مهمة معيّنة)) وهناك مرحلة يخرج فيها المجتمع من دورة الحضارة، ويصبح ما بعد الحضارة مُثْقَلاً بديون خَلَّفتها عصور حضارته السابقة، وهي

تتصرف برصيدها الروحي. هنا تصبح المشكلة أشد تعقيداً لأن علينا أن نتخلص من تلك الديون التي أفلس بها مخزون المجتمع الروحي ومخزونه التِقَنِيُّ حيال وسائله، وهذه هي مرحلة مجتمعنا الإسلامي. فإرادة الفرد تنبع دائماً من الإطار العام للمجتمع الذي هو جزء منه، وكلما كان المجتمع متماسكاً وللأفكار فيه دور وظيفي انتظمت إرادة الفرد في اطِّرادها وتنافست الجهود في مسيرتها المتناغمة. وهكذا فإن المجتمع وقدرته ((تُضيفان صفة الموضوعية على وظيفة الحضارة)). فالطاقة الحيوية في غرائز الفرد شَرودٌ لا تندمج بطبيعتها في مسيرة الجماعة. وهي من ناحية أخرى لابد لها من اندماج اجتماعي تجد فيه خِصْبَ إشباعها. فالعمل الجماعي والغريزة المطلقة متناقضان، لكننا لا نستطيع أن نلغي الطاقة الحيوية من ناحية ولا المجتمع من ناحية أخرى ((فعندما نلغي الطاقة الحيوية فإننا نهدم المجتمع، وعندما نحررها تحريراً كاملاً فإنها تهدم المجتمع. لذلك يتوجب على الطاقة الحيوية أن تعمل بالضرورة ضمن هذين الحدين)). فوظيفة الحضارة هي العمل ضمن هذين الحدين اللذيْن فيهما تَتَكَيَّفُ الطاقة الحيوية لتتأهب للانطلاق في دورة التاريخ. هنا إذن ندخل في عالم الأفكار الذي يَرْبِطُ على الغريزة، لِتُرابِطَ الطاقة الحيوية في خدمة المجتمع والتاريخ. فهناك أفكار رائدة تحتضن نشاط المجتمع، وهي في مرحلة انبثاق مخزونه الأخلاقي الذي توظفه الفكرة الدينيّة الملهمة. وهناك أفكار عملية توجه النشاط، وهي في ساعة الاندفاع وسائله التقنية المتاحة له في وسطه ((فعلى عتبة حضارة ما، ليس هو عالم الأشياء الذي يتبدل، بل بصورة أساسية عالم الأشخاص)) وشبكة العلاقات الجديدة هي التي تضع للطاقة الحيوية الغرِيزية حدود نشاطها.

والإنسان حينما ينَظِّم شبكة علاقاته الاجتماعية بوحي الفكرة في انبثاقها، فإنه يتحرك في مسيرته عبر الأشخاص والأشياء المحيطة به فيتخذ العالم الثقافي إطاره في إنجاز هذه المسيرة، ويأخذ طابعه تبعاً للعلاقة بين العناصر الثلاثة المتحركة: الأشياء، الأشخاص، الأفكار. فهناك توازن لابد منه بين هذه العناصر الثلاثة يسكب مزيجها في قوالب الإنجاز الحضاري، فإذا ما استبدَّ واحد من هذه العناصر وطغى على حساب العنصرين الآخرين فثمة أزمة حقيقيَّة في مسيرة الحضارة تلقي بها خارج التاريخ فريسة طغيان الشيء أو طغيان الشخص. ((ففي بلد متخلف يفرض الشيء طغيانه بسبب ندرته، تنشأ فيه عقد الكبت والميل نحو التكديس الذي يصبح في الإطار الاقتصادي إسرافاً محضاً. أما في البلد المتقدم وطبقاً لدرجة تقدمه، فإن الشيء يسيطر بسبب وفرته ويُنْتِج نوعاً من الإشباع. إنه يفرض شعوراً لا يُحتمل من الشؤم البادي من رتابة ما يرى حوله، فيولد ميلاً نحو الهروب إلى الأمام الذي يدفع الإنسان المتحضر دائماً إلى تغيير إطار الحياة و (الموضة))). لكن طغيان الشخص يؤدي إلى نتائج في الإطار السياسي والاجتماعي تهدم في بنيان الفكرة حينما تتجسد فيه. وكثيراً ما تعمد مراصدُ الرقابة في حركة العالم الثالث إلى دفع هذا الاتجاه المرضي إلى نهايته في عقول الجماهير لتُحَطِّم الفكرة البَنَّاءة من وراء سقوط الأشخاص الذين يمثلونها في النهاية، وتدفع الجماهير للبحث عن بديل للفكرة الأصيلة من الشرق والغرب عبر بطل جديد. فعدم التوازن بين العناصر الثلاثة يفضي إلى انهيار المجتمع ((والمجتمع الإسلامي يعاني في الوقت الحاضر بصورة خاصة من هذه الاتجاهات، لأن نهضته لم يُخَطَّط لها، ولم يفكر بها بطريقة تأخذ باعتبارها عوامل التبديد والتعويق، فمثقفو

المجتمع الإسلامي لم ينشئوا في ثقافتهم جهازا للتحليل والنقد إلا ما كان ذا اتجاه تمجيديّ يهدف إلى إعلاء قيمة الإسلام)). والمجتمع الإسلامي لا يدرك بالتالي حركته وأصالة مصادره. فهو لذلك يعيش في حالة نفسية تخلط بين الأصالة والفعالية. ذلك أن العالم الصناعي الغربي اليوم فَعَّال وتمتد فعاليَّته لتحتويَ العالم بأسره، لكنه ليس أصيلاً؛ أي أنه لا يرتكز إلى مبادئ صحيحة موضوعياً. وهذا سر أزمته في العالم المعاصر. ((فالأصالة ذاتية وعينيَّة وهي مستقلة عن التاريخ))، وبالتالي فليس بالضرورة أن تُدْلِيَ صِحَّتُها إلى فعَّالِيَّة مستمرة في مسيرة التاريخ. ((فحين تبصر النور الأفكار ُ التي صنعت تاريخ العالم، فإنها دائماً فعالة طالما أنها أثارت العواصف وشيَّدت شيئاً أو هدمته، أو أنها اكتفت بقلب صفحة من تاريخ الإنسانية. وليست هذه الأفكار بالضرورة صحيحة بأكملها فالفكرة تكون صحيحة أو باطلة في المجال العقيدي والمنطق العلمي والاجتماعي)). ولأن النخبة المسلمة لا تملك جهازاً يُميِّز بين فعالية الفكرة وأصالتها سواء في الإطار العلمي والتقني، حيث تكتسب العلم من جامعات الغرب، عبر الكتاب لا عبر الحياة وأصالة المعرفة، أو في الإطار الاجتماعي السياسي حيث تُقَلِّدُ تجارب الآخرين واطراد مسيرتهم الخاصة بهم، فإن في تكوينها ((خلطاً يُرثى له بين مظهرين متميزين لفكرة واحدة: أصالتها وفعاليتها)) ((والأساتذة الكبار الذين يمسكون بأسرار ووسائل هذا الصراع يعرفون تماماً كيف يستفيدون من هذا اللَّبْس حين يُقابلون أمام أنظار شبابنا الجامعي بين أصالة الفكرة الإسلامية وفعَّاليَّتها)).

لذا فإن على المجتمع الإسلامي في مواجهة العصر أن يعطي لأصالة فكرته فعَّالِيَّةً تضمن لها النجاح. إنه مدعو لأن يستعيد تقاليده العليا ومعها حِسُّ الفعالية. وبدلاً من أن يغرق في تمجيد أصالة فكرته، لابد له أن يبحث عن وسائل فعاليتها في عصرنا الحديث. والمسألة مسألة مناهج وأفكار، وإن لنا في نهضة الدول؛ كاليابان في منتصف القرن التاسع عشر، والصين في منتصف القرن العشرين، مثالاً على كيفية الاقتباس من العلوم الغربية وتوظيف حركة المجتمع في فعالية تَستَمِدُّ أصالتها من نماذجها الخاصة بها. وإذا كان لابد لنهضتنا من ثورة تحرّك الطاقة، فالثورة ليست كل شيء، إذ يمكن أن يكون مصيرها عابراً غير محقق، إذا لم تمتلك جهاز رقابة وتصحيح يَسْتَمدُّ من أصالة الفكرة وموضوعية فعاليتها سُبُلَ تصحيحها. فحينما يصبح الهدف في حركة الثورة: الحقيقة وأصالةَ الاتحاه: ((فإنَّ العلم الذي ينشد الحقيقة يصبح نظامًا أخلاقياً، لا يطيق الصبر على الخطأ من غير أن يجري التصحيح المطلوب. ويبدو أن البلاد الإسلامية لا يَروقُها أن تلقي نظرة خلفها)). فالمشكلة مشكلة أفكار. والعالم الإسلامي منذ انحطاطه ما بعد عصر الموحدين يواجه مشكلة أفكار لا مشكلة وسائل. فتراثه الذي ورثه من عصور الحضارة الإسلامية غدا أفكار اً ميتة. أما نماذجه الروحية التي تعود إلى العهد الأول فقد خانتها أفكار هـ الموضوعة التي خالفت عن نسق النموذج المطبوع الذي أرساه العصر الأول. وحينما افتقد الإحاطة بمشاكل وولّى وجهه شطر العالم الغربي؛ فإن أفكار هـ

المقتولة بفعل الانحطاط قد استقدمت من الحضارة الغربية أفكار اً انبتّتْ عن جذورها وامتصتها مع سمومها القاتلة. فلا هي أدركت نمط الحضارة الغربية في اندفاعه التطوري الفَعَّال المستمد من أصالته المقيمة في حدودها الجغرافية، ولا هي أحيَت نماذجها الأصلية في انبثاقها الروحي. وهكذا تضافرت أفكار ها الموروثة الميتة، والأفكار القاتلة المجتثة من جذورها الغربية، لتنتقم من هذا العالم كما ينتقم جسر سيِّءُ البناء بالانهيار على من بناه. هذه الفكرة المحورية تجد تأصيلها في هذا الكتاب وهو يجمع زبدة التجربة التي خاضها، بن نبي عبر كتاباته وقد تمحورت حول مشكلة الحضارة في العالم الإسلامي والعالم الثالث على سواء. فمالك بن نبي وقف فكره على مشكلة النهضة؛ النهضة التي تُقيل عثرة عالم أضرحى رهين إنتاج الآلة، قد طغت وفرة الإنتاج على طفرة الروح، فاستعبدت الإنسان وأحْكمت القيد. وأخيرًا: فإنني أشكر الزميلين الدكتور بسام البركة وأحمد شعبو، كما أشكر كل من عاونني على إخراج هذا الكتاب في حلته الجديدة وبالخصوص الصديق الدكتور محمد نديم الجسر. طرابلس 25/ 12/ 1986 عمر مسقاوي

مقدمة

مقدمة هذا كتابٌ شرعت في تأليفه منذ عشرة أعوام، وكنت أُقيم في القاهرة، وما أن استجمعت له في نفسي ومن حولي العناصر الضروريَّة لإتمامه، حتى أوقفني ظرف مفاجئ، لا مجال لروايته هنا خاصة في مقدمة كتاب. إنما يكفي أنْ أقول: إنّه ظرفٌ يتّصل بالصراع الفكريّ، وإنه اضطرني إلى تغيير برنامج عملي حين ألزمني بتأليف كتابٍ آخر لأواجه بالذات ذلك الظرف. منذ ذلك الزمن توالت الأعوام، وكان استئناف العمل يُؤَجَّلُ عاماً بعد عام. حتى إذا زارني منذ عهد قريب صديقي الدكتور (عمّار طالبي) الذي عاد من مصر بعد أن أتمَّ دراسته فيها، وكان يعْلم حين كان طالباً في القاهرة الحال التي تركت عليها هذه الدراسة، فأقنعني إلحاحُه بأهمية إتمام ما بدأت به من عمل. كنت أُدرك حينما قررت العودة إلى هذا العمل مقدار ما ضاع إلى الأبد من المسَوَّدة القديمة التي جَبَّرتُها على عَجَلٍ في القاهرة. بيد أني حينما تناولت مدوّناتي وجدت كلماتي بعينها رغم أني لم أجد فيها الموضوع الذي أردت أن أُضَمِّنَه إيَّاها. كانت هذه مدوناتٍ ضَمَّنتها نقاطَ إرشادٍ، أو علاماتٍ تعينني على الاهتداء إلى العناصر الكامنة في نفسي؛ والتي كانت تتكامل بمن يحيط بي أو بما أستشفُّه على رفِّ مكتبة، أو أستقيه من مكان آخر. لذا كانت مدوناتي ميِّتةً في مجملها؛ كعظامٍ نعثر عليها عند نبش قبرٍ قديم، وكان مضمونها يبدو لي بعيداً، وغامضاً غير أكيد، وأفضِّل أن أتركها للذكرى ...

وربما استطاع يومًا قارئها الصبور أن يكتشف في ثنايا صفحاتها الْمُصْفَرَّةِ خَيْطها المقطوع حين يتأمل صفحات هذا الكتاب وما وراءها، إذ سيكون له بمثابة خيط (أريان) (¬1) الذي يقوده بثقةٍ في مشكلة الأفكار في المجتمع الإسلامي. فنحن هنا أبعد من أن نُقدِّم دراسة شاملة لهذه المشكلة، ولكن بسبرنا لغورها ولِبُناها الخاصَّة نعتقد أنَّ هذا الكتاب سيعطينا عن أهميتها فكرة أوضح، ليس فقط في المجتمع الإسلامي بل في كل مجتمع. وبقَدْر ما نوفَّق في إبراز هذه الفكرة فإن الغاية المنشودة من هذا الكتاب تكون قد تحققت. الجزائر 22 نوفبر 1970م مالك بن نبي ¬

_ (¬1) (أريان Ariane) : ابنة ملك جزيرة كريت (في العصر القديم). أحبّت (تزيوس Thesea) الذي جاء إلى الجزيرة لقتل (المينوتور: الوحش Minotaure) الذي رأسه رأس ثور، وجده جد إنسان، وأعطته لفيفة خيط يبسطها وراءه في دهاليز القصر؛ كي يستطيع الاهتداء إلى طريق العودة والخروج منه بعد قتل الوحش. وتستعمل عادة عبارة (خيط أريان) للدلالة على الصراط الذي يهدي المرء ويقود خطاه في الأمور الصعبة والمعقَّدة.

الفصل الأول الإجابتان عن الفراغ الكوني

الفصل الأول الإجابتان عن الفراغ الكوني - موقف الإنسان في عزلته: ماديّ (الثقافة الغربية) أو فكريّ (الثقافة الإسلاميّة). - المسلم مكلَّف بحمل فكرة واحدة: حبِّ الخير، وكُرْهِ الشرّ. ــــــــــــــــــــــــــ إذْ يعتزل الإنسان وحيداً، ينتابه شعورٌ بالفراغ الكوني، لكنَّ طريقته في مَلْء هذا الفراغ؛ هي التي تحدِّد طُرُزَ ثقافته وحضارته؛ أي سائر الخصائص الداخلية منها والخارجية لوظيفته التاريخية. هناك أساساً طريقتان لملء الفراغ. فإما أنْ ينظر المرء حول قدميه، أي نحو الأرض. وإما أنْ يرفع بصرَه نحو السماء. فالطريقةُ الأولى تملأ وحدَته بالأشياء حيث يَجْمَح بَصَرُه المتسلِّط لامتلاكها. والطريقة الثانية تملأ وحدته بالأفكار ويبحث عن الحقيقة بنظره المتسائل. هكذا ينشأ عبر الطريقتين نموذجان من الثقافة: ثقافةُ سيطرةٍ ذات جذور تقنية. وثقافة حضارةٍ ذات جذور أخلاقية وغَيْبيَّة.

فالظاهرة الدينية تبدو حين يُوَجِّه الإنسان بصرَه نحوَ السماء. هنا يظهرُ الرسول: صاحب الدعوة والرسالة، أيْ ذلك الإنسان الذي يملك أفكار اً يريد تبليغها إلى الناس مثل أرمية، وعيسى، ومحمد - صلى الله عليه وسلم -. فأوروبة، مهدُ عديد من الرجال العظماء، تبدو مع ذلك خارج الظاهرة الدينية في مستوى تلك الرسالات، كما لو أن طبيعة الأوربي الممتلئة بآدميّته لا تدع مجالاً للألوهيَّة. بالمقابل فإنّ الرجل الساميَّ يبدو مُهَيَّئاً للفكرة الغيبية؛ بحيث لم تدع الألوهيَّةُ في ذاته غير قليل من المشاغل الأرضيَّة. ويأْتي في منتصف الطريق بين الساميَّة والآريَّة الشماليَّة، اليونان الذي يشغل عالَمه بالأشكال ويملأ وحدته بمشاعر الجمال حتى إنه ليسميه (الخير) كما لاحظ تولستوي في تأملاته العميقة حول الفن (¬1). بالإجمال فإن أوربة رَكَّبت في مضمون ثقافتها مزيجاً من الأشياء والأشكال من التقنيّة والجماليَّة. بينما الشرقُ الإسلاميُّ رَكَّب في ثقافته مزيجاً من فكرتين: الحقيقةِ والخيرِ. هذه الخطَّة لا تتوافق مع مرحلة معينة من التاريخ فحسب، بل مع سائر مراحله التي فيها يتداول كرقاص الساعة في دقاته المزدوجة، صعودُ الحضارة العالميَّة إلى القمة وهبوطها إلى الحضيض. ¬

_ (¬1) (ليون نيقولايفيتش تولستوي) روائيّ وكاتب مسرحي روسيّ. وُلد في روسيا سنة 1828 وتوفي فيها سنة 1910. قدَّم العديد من المؤلفات؛ أهمها الروايتان: (الحرب والسلم)، و (آنا كارنين). وله (ما الفن؟) الذي نشره سنة (1897)، وهو عبارة عن مجموعة من التأملات حول الفن، يعارض الكاتب فيها فكرة (الفن للفن)؛ التي تقول بأنه لا هدف للفن ولا تعليل لوجوده سوى الفن ذاته. ويبدو أن مالك بن نبي يشير هنا إلى هذا الكتاب.

فحيناً تكون القمة لثقافة من تلك الثقافتين والحضيض للأخرى، وحيناً يكون العكس، وبينهما في المراحل الوسيطة نسجِّل فتراتِ إخصابٍ متبادل يَكتنفها لحظات اختلاط في البابليَّات التاريخية كما هو عصر بابل القرن العشرين (¬1). تلكم هي الحضارة في أحيانها وتقلباتها: تكون في الأوج حضارةً تتركز فيها الأشياء حول فكرة حيناً، وحيناً تبلغ الأوج حضارةً أخرى تتركز فيها الأفكار حول الشيء. وتبدو هذه الظاهرة بجلاء عندما يعبر الفكر عن نفسه بحرية كاملة، وتِلْقائيَّة تامة، دون مواربة أو سراديب بلاغية، وبتواصلٍ مباشر مع جذور الثقافة. والأدب الشعبي كاشف في هذا المجال. بل الأدب في عمومه حتى المتَكلَّفُ منه يحمل مع ذلك تلك الخاصيَّة الشعبيَّة في طبيعة موضوعه. وليس كالقصة تُجَلِّي عُمْقَ تلك الجذور. ويمكن لتوضيح ما أسلفنا أن نأخذ نموذجاً: قصتين: الأولى (روبنسون كروزو) والأخرى (حي بن يقظان). فبطلا القصتين المنعزلان؛ هما في الحقيقة المثلان اللذان يُعبِّران بوضوح عن نَمَطَي الثقافة. ¬

_ (¬1) بابل مدينة قديمة جداً (القرن الثالث والعشرون قبل الميلاد) قامت في بلاد ما بين النهرين (على بعد 160 من موقع بغداد الحالي). يحكى أن أهلها بنوا فيها برجاً عظيماً أرادوا بواسطته أن يبلغوا السماء. فغضب الله عليهم وبذر الشقاق بينهم بإدخال تعدُّديَّة الألسن. فتخاصموا وتفرّقوا في البلاد وفشلوا في بناء البرج. وتستعمل عبارة (برج بابل) للدلالة على الفوضى والغموض والضياع التي تصيب قيماً من الأقوام.

فالأولى ينطلق بها دانيال دي فوي من محوٍ كاملٍ للوسائل (أي الأشياء) حينما يبدأ بطلُ قصته المغامرة (¬1). والثانية ينطلق بها ابن طفيل من محوٍ كاملٍ للأفكار، حينما يتدرج في مراحل أحداثها. ففي كلا القصتين تكمن العبقرية في الطريقة التي ملأ بها مؤلفاهما وقت عزلة بطليهما. وهاكم طريقة استخدام الزمن ليومٍ واحدٍ، في حياة (روبنسون كروزو) على الجزيرة التي نجا بنفسه إليها بعد غرق سفينته: ((بدأت أُنظِّم وقت عملي وخروجي، وقت راحتي ونُزهاتي، وانطلاقاً من هذه القاعدة التي واظبت على مراعاتها، كنت أخرج في الصباح إذا لم يكن الطقس ممطراً، ومعي بندقيتي لمدة ساعتين أو ثلاث، ثم أعمل بعد ذلك إلى ما يقارب الساعة الحادية عشرة، ثم آكل ما كنت أستطيع الحصول عليه، وكنت أنام من الظهر حتى الساعة الثانية بسبب الحرّ المضني. وفي المساء كنت أستأنف العمل. لقد أنفقت وقتي كلَّه في ذلك اليوم، وفي اليوم التالي في صنع طاولةٍ لنفسي، ذلك أنني لم أكن آنذاك سوى عاملٍ بائسٍ، ولكن الزمن والحاجة جعلاني فيما بعد صانعاً ممتازاً)). تلك شريحة من زمن (روبنسون كروزو) في عزلته في الجزيرة. فالوقت يجري منذ البداية في وقائع محسوسة. أكْل- نوْم- عَمَل. وهي وقائع تكمن في ¬

_ (¬1) (دانيال ديفر Daniel de Foe) روائي وشاعر وصحفي بريطاني. وُلد في لندن سنة (1660). وتوفي سنة (1731). له عديد من الروايات أهمها (ربنسون كروزو) حيث يخطّ البطل ذكرياته في وحدته على جزيرة نائية نجا إليها بعد غرق سفينته. وهو يُعَدُّ رمزاً للنجاة بالعمل، ومثالاً لصراع الإنسان ضدّ الوحدة، والعزلة.

طبيعة خاصة، تضع ثواني الزمن في خدمة اقتصادٍ شخصيٍّ نفعيٍّ بحْت. فروبنسون كروزو يتغلّب على كآبة الوحدة بالعمل. وخلال هذا الوقت من ذلك اليوم فإنّ عالمَ أفكار هـ كلَّه يتركز حول (شيء): إنّها الطاولة التي كان يريد صنعها لنفسه. أما بالنسبة لحي بن يقظان فإنّ مغامرة الوحدة تتخذ لها اتجاهاً مختلفاً تماماً. فهي لا تبدأ في الواقع إلا بعد أن نَفَقَتِ الغزالةُ التي تَبَنَّت الطفلَ المنعزل كأمّ ترعاه: ((فكان يرتاد بها المراعي الخصبة، ويجتني لها الثمرات الحلوة، ويطعمها. وما زال الهزال والضعف يستولي عليها ويتوالى، إلى أن أدركها الموت، فسكنت حركاتها بالجملة، وتعطلت جميع أفعالها، فلما رآها الصبيُّ على تلك الحالة، جزع جزعاً شديداً، وكادت نفسه تفيض أسفاً عليها. [ ... ] فكان ينظر إلى أذنيها وإلى عينيها فلا يرى بها آفة ظاهرة، وكذلك كان ينظر إلى جميع أعضائها فلا يرى بشيءٍ منها آفة. فكان يطمع أن يعثر على موضع الآفة فيزيلها عنها، فترجع إلى ما كانت عليه فلم يتأتَّ له شيء من ذلك ولا استطاعة)) (¬1). لم يعثر حي بن يقظان على موطن الداء: لكن ابن طفيل يجعلنا نتتبع صعود ذهنه كيما يكتشف شيئاً فشيئاً (الروح) ثم (خلود الروح) وأخيراً (فكرة خالق). منذ تلك اللحظة تتتابع المغامرة تأملاً يسمح لابن يقظان أن يَدْلُفَ بعد عدة محاولات فاشلة إلى إدراك النظام الإلهي؛ إلى رؤيةٍ داخليةٍ للإله، وإلى مفهومِ صفاته. ¬

_ (¬1) ابن طفيل: حيّ بن يقظان، 132 - 133، دار الآفاق الجديدة، بيروت ط 3/ 1980

إنَّ الزمن يجري هنا في مراحل من ذلك الصعود بالفكر إلى لحظة شبيهة بلحظة (زرادشت) عند (نيتشة) حينما نزل من جبله حاملاً رسالته. فحي بن يقظان سيذهب مع رفيق الصدفة ((آسال))؛ حاملاً إلى مواطني ورعايا الحكيم (سلمان) ثمرة تفكيره. إن العالم هنا؛ عالم تتركز فيه الأشياء حول الفكرة. فحي بن يقظان لا يتغلّب على كآبة الشعور بالوحدة بصنع طاولة؛ بل ببناء الأفكار واكتشافها. إنَّه عالمٌ لا يتحدَّد فيه الزمنُ لصالح شيءٍ ما. في مؤتمر علم الاجتماع الذي عُقد مؤخراً في (فارنا) لم يكن الأستاذ (سيكار) على خطأ تام، رغم أنه لم يكن على صواب تام، في تفسيره حينما لاحظ ((أن الزمن الصناعي المتواصل؛ لا يدع على الإطلاق للإنسان المنعزل أن يواجه نفسه وذلك في مقابل الزمن غير المتواصل في بلاد العالم الثالث)). فكلُّ من وجد نفسه منخرطاً في اطِّراد الإنتاج الصناعي يدرك في الواقع أن الآلةَ التي تنتج والشيء المنْتَجَ لا يدعان للإنسان (لحظةً للذات) ولا أيِّ إحساسٍ بالزهو، أو سُكونٍ إلى النفس. لقد امتلأ يوم (روبنسون كروزو) بصنع (طاولة). بيد أن الأستاذ (سيكار) إذا كان على حق في ملاحظته، فإنّه على خطأ في تفسيره. إذْ لا جدال في أنه في مقابل وتيرة الزمن المحيطة بالإنتاج في البلاد الصناعية؛ هناك الزمن متقطع الوتيرة في البلاد المتخلِّفة. ويبدو هذا التقطع في الوتيرة عند سيكار في شكل ((فراغات لا حصر لها تربط- إذا صح التعبير- بين لحظات الحياة)).

وهنا نقول عن طيب خاطر- إذا سمح لنا الأستاذ سيكار-: إن تحليله صحيح في موضوعيته، وقد أشرنا نحن أيضاً في دراسة سابقة إلى ظاهرة تَقَطُّع الزمن في العالم الإسلامي المعاصر (¬1). لذا فهو يكشف لنا بدقة عن الجذور التي سبق أن ألمحنا إليها. فالزمن في نظر الأستاذ (سيكار) لا اعتبار له إلا في عالم الأشياء. والحياة نفسها لا معنى لها إلا حينما تنساب لحظاتها في طاولة (روبنسون كروزو) على سبيل المثال. لكن هذا في الحقيقة غُلوٌّ في تقدير الأمور عبر الزمن، والمجتمع الغربي يستطيع اليوم حساب نتائجه المدمّرة. وإذا كان ينبغي على البلاد الإسلاميّة أن تعرف كيف تقدّر في (ثقافتها) الحاضرة- إذا جاز التعبير- الآثار السلبية للتفريط بقيمة الزمن في نشاطها، فإنَّ عليها بالمقابل أن لا تغلو في الإفراط في تقديره حيث نستطيع أن نرى بسهولة نتائجه السلبيَّة في البلاد الصناعية. والإشارة إلى المغالاة في جانبَي الإفراط والتفريط لا تحجب عنا حقيقةً أساسيَّةً؛ هي أننا نتناول ثقافتين في لحظة أُفولها. وهذا ما فات الأستاذ (سيكار) في مؤتمر علم الاجتماع بفارنا. فالفكر الأوربي يجهل قانون التداول بين الأوج والحضيض في مسيرة الحضارة. ذلك أنَّ أوربة كانت قبل (لوكراس) (¬2) وبعده. وقبل (بلانك) (¬3) وبعده ¬

_ (¬1) لقد لفتنا الانتباه إلى هذا المظهر على الخصوص في كتابنا (فكرة الإفريقية- الآسيويَّة) طبعة القاهرة. (¬2) (لوكراس Lucrece) شاعر وفيلسوف لاتيني، وُلد في روما سنة (98) ق. م. وتوفي فيها سنة (55) ق. م. له مؤلف ضخم بعنوان (في الطبيعة De natura rerum) ، يحاول فيه أن يلغي من النفوس خشية لله؛ وذلك بإعطاء تفسيرات مادية للوجود. (¬3) (بلانك Max Planck) عالمُ فيزياء ألمانيّ (1758 - 1931م). له عدة نظريات في الفيزياء أهمها (نظريّة الكمّات Théorie des quantum) . نال جائزة نوبل للفيزياء سنة 1918.

الأرض المختارة للفكر الكمِّي ولوضعيَّة (أوجست كونت) (¬1) وماديَّة (ماركس) (¬2). فالفكر الغريي يجنَح على ما يبدو أساساً إلى الدوران حول مفهوم الوزن والكمِّ. وهو عندما ينحرف نحو المغالاة فهو يصل حتماً إلى المادية في شكلَيْها: الشكلِ البورجوازيِّ للمجتمع الاستهلاكي. والشكلِ الجدلِّي للمجتمع السوفياتي. وحينما يكون الفكر الإسلاميُّ في أُفوله كما هو شأنه اليوم فإن المغالاة تدفعه إلى التصوُّفِ، والمبهم، والغامض، وعدم الدقة، والتقليد الأعمى، والافتتان بأشياء الغرب. لكن هذا ليس مداره الأصليّ. ففي الأصل حينما أعطاه القرآن اندفاعه الأَوَّليَّ اتَّخذ الفكرُ الإسلاميّ مداره أساساً حول فكرةٍ واحدة تكون حيناً ((حبَّ الخير))، وحيناً آخرَ ((كره الشر)). تلك هي رسالة الفكر الإسلامي عَبَّر عنها القرآن الكريم بقوله {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ .. } [آل عمران: 3/ 110]. ¬

_ (¬1) (أوجست كونت Auguste Comte) فيلسوف فرنسيّ، وُلد في مونبلييه سنة (1798). وتوفي في باريس سنة (1857). يقول بأن البشريّة مرّت في مرحلة الدين والحرب، ثم في مرحلة الميتافزيقيا والتشريع، ثمّ أخيراً في مرحلة الوضعيّة والتصنيع، وأن المعرفة الحقّة في النهاية تقوم على التجربة والاحتكاك بالأمور الوضعيّة (أي التي وُضعت بقانون طبيعيّ لا بتفكير تجريديّ). (¬2) (كارل ماركس Karl Marx) فيلسوف، واقتصادي، ورجل سياسة ألماني (1818 - 1883م). صاحب نظريات عديدة في السياسة والمجتمع؛ منها نظريته في الماديّة التاريخيّة التي تجعل من قوى الإنتاج وتوزيع العمل (أي توزيع المجتمع إلى طبقات متناحرة) أساسَ النظام الاجتماعي.

فالمسلم مكلّف بحملِ تلك الرسالة؛ في الجليل من الأُمور والصغير منها. فتقسيم التَّرِكة عند وفاة صاحبها هي بلا ريب ظرف اجتماعيٌّ عاديٌّ. لكن انظر ما يقول القرآن فيه {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ ... } [النساء: 4/ 8]. قد يقال لنا: إنَّ هذا حكمٌ يمكن أنْ يرِدَ في كلِّ قانونٍ مدنيٍّ تقدميٍّ. هذا صحيح؛ لكنّ القرآن يُرَغِّب بأكثرَ من هذا. فهو لا يريد أنْ يقومَ المجتمع بتقسيم المال كآلةِ توزيع القِطَعِ المعدنية، فهذا شيءٌ يستطيع المجتمع الاستهلاكي أن يفعله. لكن ينبغي على المجتمع الإسلاميّ أن يفعل أكثر من توزيع أموال تركة، وذلك بأنْ يوزِّع في الوقت نفسه الخير. فالآية التي استشهدنا بها قد تَعمّدْنا ذكرها ناقصةً لنبيِّن ما يمكن أن تشترك فيه مع تشريع مدني لكنّ الآية تنتهي بتوصيةٍ أخرى، بحكمٍ آخر: { .. وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 4/ 8]. الآن اكتملت الآية: وزِّعوا أموالاً طبعاً، لكن أضيفوا إليها فكرةً، أو كلمةً، أو لفتة تعبِّر عن شعوركم، عن مفهومكم، عن فكرة (الخير) عندكم. إنَّ هذه التكملة ذات الصبغة الروحية الخالصة؛ لا يمكن تصوُّرها في أيِّ تشريع مدنيٍّ. إنَّها تُعطي للرابط الاجتماعي النابع من الفكر الإسلاميّ طابعاً خاصّاً يجعل وجودَ ما يُسَمَّى (التناقضات في وسط الجماهير) ظاهرةً غير قابلة للتفسير في المجتمع الإسلامي.

الفصل الثاني الطفل والأفكار

الفصل الثاني الطفل والأفكار 1 - الطفل يتدرج في عوالم ثلاثة: الأشياء- الأشخاص- الأفكار. 2 - الأفكار وسيلة اندماج الفرد في المجتمع وتتقايس فيه العوالم الثلاثة جنباً إلى جنب وتتفوق إحداها على الأخرى وفق نمط الثقافة. 3 - الشيخوخة انحدار من عالم الأفكار إلى الأشخاص إلى الأشياء {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا}. 4 - الفرد يدفع ضريبة اندماجه الاجتماعي وكلما كان المجتمع مختلاً في نموه ارتفعت قيمة الضريبة. ــــــــــــــــــــــــــ لا يستطيع الإنسان المنعزل أن يعيش طويلاً في وحدته؛ دون أن يصنع لنفسه وفي فترةٍ من الزمن محدودة بالضرورة، التجربة الأزليّة التي بها يتكيّف المجتمع مع بيئته (¬1). فإمّا أنْ تبدأ مغامرتُه انطلاقاً من صفحة بيضاء خاليةٍ من الأفكار مثل (حي بن يقظان)، وإما انطلاقاً من صفحة بيضاء خالية من الوسائل والأشياء ¬

_ (¬1) إذا عزل الطفل، منذ ولادته، تصبح إعادة تكييفه مع الحياة الاجتماعية أمراً بعيد الاحتمال، بل ومستحيلاً. وهذه حالة (الطفل المتوحش) التي قام بدراستها بعض علماء الاجتماع مثل (واطسون Wason) وهنا يعني أنّ موضوع حي بن يقظان مجرّد رؤية فِكريّة.

إذا كان قد حمل معه (عالم أفكار هـ) كما فعل (روبنسون كروزو) قبل غرق سفينته. ولكن مهما تكن درجةُ تجريده ونموذج الثقافة التي يمثّل، فإنّ نشاطه يخضع دائماً في ضمانِ بقائه لتطوراتٍ نفسيَّةٍ- بدنيَّةٍ، نرى مثلها في سائر أشكال النشاط البشريِّ. والشكل الأبسط لهذا النشاط يتجلَّى في عملِ الحرفيِّ المنكبِّ على عمله والمقصُّ في يده، بالحارث المنحني على محراثه، بالجنديِّ المسلَّح ببندقيته. في سائر هذه الحالات، فالعمل: الحرفي، الزراعي، أو الحربيُّ يتمّ انطلاقاً من عنصريْن ظاهرين: الإنسانِ والآلةِ. لكن هذين العنصرين يحجبان حقيقةً أخرى أكثر تعقيداً، ذلك أنَّ العمل لا يتم فعليّاً إلا في ظروفٍ تتوافق بالضرورة مع سؤالِ (كيف) و (لماذا). فنحن لا نعمل كيفما اتَّفق حتى لا يصبح العمل مستحيلاً. ولا نعمل بغير سببٍ حتى لا نمارس عملاً عابثاً. فالعمل لا يمكن إذن أن يتحدَّد خارج خطة تحتوي إضافة إلى عناصره الظاهرة، عنصراً فكرياً مُمَثلاً لمُسَوِّغاته، ولأنماطه التنفيذية التي تلَخِّص كل تقدم اجتماعي وتقني، لمجتمع ما، بما يُميِّزه عن غيره من المجتمعات. وباعتباره عامل تمييزٍ في المستوى البشريِّ؛ فإنّ عنصر الفكرة ألْهم (ماركس) هذا التأمل الرائع: ((إن ما يميز من الوهلة الأولى أسوأ مهندس معمار عن أمهر نحلة هو أنَّ

المهندس يبني الخليَّة في رأسه قبل أن يبنيها في القفير، وأن العمل ينتهي إلى نتيجة موجودة مسبقاً فكرياً في خيال العامل)). هكذا إذن تتضمن عناصر العمل في نهاية التحليل ثلاث فئاتٍ: فئة الأشياء، وفئة الأشخاص، وفئة الأفكار. وجميع الخصائص الاجتماعيّة والاقتصادية والسياسيّة لعملٍ ما تطْبع بالضرورة في مجموعته الخاصة؛ التي حيكت هن خيوط تلك الفئات الثلاث على الشبكة العامة لكل عمل. هذه المجموعة تكون بسيطة التركيب في حالة الفرد المنعزل. وهي بالضرورة بسيطة؛ إمّا لنقصٍ في الوسائل (في الأشياء) في حال (روبنسون كروزو)، وإمّا لنقصٍ في الأفكار في حال (حي بن يقظان). ولكن بمقدار ما يندمج الفرد في المجتمع الذي باشر في تقسيم العمل، فإن العنصر الفكريّ يأخذ شيئاً فشيئاً أهميته. وتبدو هذه الأهمية في عملٍ لابدَّ أن يكون متخصصاً، يحترم القواعد، ويراعي الأصول؛ من أجل اندماجه في العمل الجماعي. أما الشروط الأخلاقيَّة والتقنيّة لهذا الاندماج فتندرج في سياقاتٍ نفسيَّةٍ جسديَّةٍ لا يتم تمثلها بسهولةٍ، كما لاحظ (روبنسون) عند قيامه بصناعة الطاولة. والطفلُ إنسان منعزل في طريقه إلى الاندماج، ولابد له أن يمرَّ بهذه السياقات؛ كيما يحقق اندماجه المناسب. وغنيٌّ عن البيان أن العائلة والمدرسة تساعدانه في ذلك. هذه المساعدة الاجتماعية تستطيع، بل ويجب أن تعمل بطريقةٍ تختصر وتكمِّل عملية اندماج الطفل، فهي لا تستطيع أن تلغيه.

فلْنتابع ببساطة خطواته كي ندرك مراحل ذلك الاطراد: عندما يرى الطفل النور؛ تكون الأشياء والأشخاص والأفكار منتظمةً حوله؛ في ثلاثة عوالم غريبةٍ عنه. فيده بالنسبة إليه شيءٌ. تُسَلِّيهِ كما يسليه المصباح المتدلِّي فوق سريره. إنّها تدعه يخدش خده، وذلك شيء آخر لم يندمج بعد في ذاته. غير أنه يبدأ على الأقل يشعر حوله بعالم من الأشياء ممثلاً بيده، بأصابعه، بمصاصته، وبالصباح المتدلي فوق سريره. في هذه المرحلة، ليس لديه بعدُ أيُّ إدراك لعالم الأشخاص، حيث لا يتعرف على وجه أمِّه التي ليست بالنسبة إليه سوى الثدي الذي يغذّيه، شيء يمكن للرضّاعة أن تَحُلَّ مَحَلَّه بسهولة؛ إذا ما افتقد الأم لحادث سوء. إنه لا يتعرَّف على نفسه ككيان مكتملٍ؛ لأنه ليس لديه بَعْدُ أيُّ إحساس محدَّد عن (أناه). وشيئاً فشيئاً يكتسب خبرة في عالم الأشياء، فبصره يبدأ يتعرف الوجوه. إنَّه يعرف وجه أمه أولاً بالطبع، ووجه أبيه، ووجه إخوته وأخواته، وهذه الوجوه جميعها تبدأ في أن تشكل من حوله عالم الأشخاص الغريب. بيد أنَّ اطمئنَانه إلى هذا العالم لم يأخذ مداه بعد، حتى حين يكون له من العمر ثلاث أو أربع سنوات. ويكفي أن ندعه وحيداً على الرصيف بالقرب من عتبة منزل العائلة؛ لنرى كيف ترتسم في الحال على وجهه علاماتُ كآبة الوحدة التي يشعر بها أمام المارَّة الذين لا يعرفهم. وحتّى في السنة السادسة؛ يُعَدُّ يومُ دخولِ المدرسة بالنسبة إليه تجربةً قاسية جداً في عالم كل من الأشخاص غريبٍ عنه. وهو لا يندمج إلا تدريجياً، وشيئاً فشيئاً، وتبعاً لنقطة تحددها درجة ألفته الاجتماعية، إذ هذه الدرجة تتفاوت بين

الأطفال لأسباب لا يمكن حصرها بأجمعها. ولكن يمكن أن نصنفها ربما وفقاً لنظرية (يونغ) في علم النفس بالنسبة لنموذجيها (¬1). فالمنفتح يكْتشف عالم الأشخاص بسرعة أكثر من النموذج المنغلق، وهذا الأخير يكتشف ربما بسرعة أكبر عالم الأفكار، ولكن دون أن يختصر المراحل. غير أنَّ اكتشاف عالم الأفكار يأتي دائماً بالنسبة لكلا النموذجين بعد اكتشاف عالم الأشخاص. واطراد اندماج الطفل في المجتمع هو بيولوجي ومنطقي في آن. إنه يشكل على أعمارٍ ثلاثة: 1 - العمر الذي يكتشف فيه تلقائياً عالم الأشياء، وهو يلعب بأصابعه وبمصاصته. 2 - العمر الذي يكتشف فيه تدريجياً عالم الأشخاص، وهو يتعرف فيه على وجه أمه بادئ الأمر. 3 - العمر الذي يكتشف فيه أخيراً عالم الأفكار. وهذا الكشف الأخير هو الذي يهمُّنا أن نتناوله هنا بالتحليل. إنَّنا نعلم أنّ اكتشاف الأشياء عند الطفل إنما يتم بامتلاكها. والرابطة التي ¬

_ (¬1) (كارل جوستاف يونغ Carl gustav yung) عالم نفسي سويسريّ (1875 - 1961 م). كان من أتباع (سيجموند فرويد Frtvp) ، ثم انفصل عنه سنة (1913) بعد أن نشر كتاب (تحوّلات النفس ورموزها)، رفض فيه إسناد الطاقة الحيويَّة التي هي في جوهر الحياة البشرية (الليبيدو libido) إلى النزعات الجنسيّة فقط، ورأى فيها طاقة أوَّليَّة وعالمية تأخذ أحد اتجاهين: الاتجاه نحو الحياة الداخلية ( iutrovert) ، والاتجاه نحو العالم الخارجيّ ( extrave) . وهو صاحب نظرية (النماذج المثالية archetypes) ، التي تكوّن (اللاوعي الجماعي) والتي تأتي نتيجة التجربة البشرية عبر العصور.

تقوم بينه وبينها رابطة غذائية: فهو يحمل الشيء تلقائياً إلى فمه. غير أن اكتشافه لعالمِ الأشخاص يتمُّ بمقدار ما يرتبط بها بعلاقات عاطفية ثم اجتماعيَّة. والأمر نفسه في دخوله عالم الأفكار؛ إذ يبدأ من اللحظة التي يتمكن فيها من تكوين روابط شخصية مع مفاهيم تجريديّة. إنّ علينا أنْ نرى طفلاً يفشل في مسألة صغيرة لنقدِّر المجهود المصحوب باليأس أحياناً في اقتحام باب هذا العالم. هذه المأساويات الصغيرة تمرُّ على العموم دون أن تفطن لها الأُسر والمدارس. غير أنّ الطفل يتذكر أحياناً أنه بعد أن اصطدم بصعوبة عدة مرات دون أن يقهرها يكشف له يوماً تفكيرُه وعقله سبيلاً لقهرها فيجد الحلَّ وحده. فهذه اللحظة بالنسبة إليه هي لحظة (أرخميدس)، ويستطيع أن يصرخ مثله (أوريكا)، وتكون هذه اللحظة ما بين السابعة والثامنة من العمر؛ حيث يضع قدمه في عالم الأفكار دون أن يعتمد على أحد. هذه الخطوة هي حاسمة في اطراد اندماجه الاجتماعي، لأنها تُؤَصله في محيط ثقافيٍّ أصيل يجعل منه (حي بن يقظان) أو (روبنسون كروزو). فعندما يَعْبُر الطفل عالم الأفكار يضع قدمه في محيطٍ ثقافيٍّ، وأحياناً في أنظمةٍ إيديولوجية، لها من خصائصها ما يفصل بينها وبين المجتمعات المحايدة أو الخامدة. هذا التغيير في المستوى النفسي يكشف له عن آفاقٍ جديدةٍ، وأبعادٍ لا تخطر له ببال. وإذ يحوّل هذا الاكتشاف كيانه النفسي؛ فإنّ كيانه الجسديَّ يتحول هو الآخر.

إن للأفكار أثراً حيويّاً يميز- حتى من حيث المظهر- الشخص الأمِّي من ذلك الذي استعمل الحروف الأبجدية لقراءة فكرةٍ، أو للتعبير عن فكرته. ينبغي أن نلاحظ هذه الحقيقة بادئ الأمر في عملية اندماج الطفل من أجل أن نستطيع عقد المقارنات الضرورية، مع علامات الطفولية في سن النضج. إن السمة البارزة لدى طفلٍ في سنيه الأولى هي فمه المفتوح قليلاً، المستعدُّ لتلقف ومصِّ أيِّ شيء. لكن كلما تقدم في السن فإنَّ فمه ينغلق بتأثير دوافع داخليَّةٍ. ويتوافق هذا التفصيل الجسديُّ مع مرحلةٍ معينة من تطوُّره النفسيِّ، فهذا التفصيل لحظةٌ من لحظات عملية الاندماج، ويمكن أن تتجلى دلالتُه إما بأن نطابقه على لحظةٍ موازيةٍ من عملية اندماج شخص ناضج إذا استطعنا أن نجري مثل هذه التجربة، أو أن نلاحظه بمقارنة بين شخصين بالغَين من أسرةٍ واحدةٍ أحدهما متعلِّمٌ والآخر أميٌّ. لقد سنحت لي الفرصة لأقوم بتجربة مع فريق من العمال الجزائريين الأميّين، حين اضطلعت بمهمة تعليمهم القراءة والكتابة في فرنسا عام (1938). وكلما تقدمت التجربة شيئاً فشيئاً والتي تابعتها تسعة أشهر كنت أرى وجوه تلاميذي تتغير. كانت الوجوه ذات وميضٍ وحشيٍّ، وقد تأنّست تدريجيّاً. لقد اختفى بريقها الحيوانيُّ ليحل محلَّها شيءٌ ما، ينمُّ عن فكرةٍ داخليةٍ، عن حضور فكرةٍ. من ناحية أخرى، فالشفاه أطبقت أو ازداد تقاربها. الرأس الذي تلقى فكرةً قد شغل عضلات الصدغ؛ التي تعمل كنابض يشدّ نحو الأعلى الفك الأسفل الذي يغلق الفم.

حينئذ تتغيَّر ملامح الوجه بطريقة ظاهرة، يمكن على ما أعتقد قياسها بالنسبة للَّذين يهتمُّون بالعلاقات الجسديَّة النفسيَّة. وبالإمكان أن نتوصّل إلى الملاحظة نفسها بمقارنة مباشرة بين ملامح وجه أخوين يختلف المستوى الفكريُّ عندهما. وهذه الحالة مألوفةٌ خاصةً في المناطق الريفية الجزائرية؛ حيث تكون فرص التعليم موزعةً بطريقةٍ غير متساويةٍ، حتى داخل الأسرة الواحدة. فنحن في نجد فيها مثلاً أخوين أحدهما متعلّم والآخر أمِّيٌّ. صحيح أنه يوجد بينهما التشابه الذي يشير إلى أصلهما الوراثي المشترك، ولكن توجد خارج ذلك فوارق بارزةٌ في النظرات، وملامحِ الوجه، التي تنبئ عن اختلاف في اطراد الاندماج الاجتماعي. وبوجه عام ففي سكان بلد ما هنالك النموذج الريفي، والنموذج المديني يميز بينهما علماء الاجتماع ببعض تفاصيل الملبس. وحتى لو كان رجل المدينة في ملابس ريفيَّة فإنَّه يسهل التعرف عليه إذ يبدو كريفيّ مزيَّفٍ. ورجل الريف في ملابس الأعياد يبدو مدنياً مزيفاً. والشقيقان من أصل وراثيٍّ واحد وبيئة ريفية واحدة يتمايزان كذلك بعلاماتٍ واضحةٍ جليةٍ إذا كان أحدهما قد تردَّد إلى المدرسة دون أن يفعل الآخر ذلك، فدرجة اندماج الفرد الذي يضع قدمه في عالم الأفكار تتحدد بهذه العلامات. على أنه بعد هذه الخطوة الأولى فالاندماج يأخذ مداه باطراد في سائر مراحل الحياة: النضج، والشيخوخة، وما بعد الشيخوخة، لتتحول شيئاً فشيئاً إلى اطرادٍ نحو عدم الاندماج.

ففي الشيخوخة، يبدو الفرد يعكس خط سيره، ويعود القهقرى في مراحل حياته النفسية ويترك على التوالي: 1 - عالم الأفكار بفقده كل قدرةٍ خلاقةٍ. 2 - عالم الأشخاص نتيجة اللامبالاة أو النفور. 3 - عالم الأشياء نتيجة الضعف وعدم الإقبال. وهكذا يرحل أخيراً عن الحياة في نهاية عملية كاملة، ألمح إليها القرآن الكريم: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم: 30/ 54]. لكن العوالم الثلاثة هذه تتعايش طوال حياة الإنسان جنباً إلى جنب مع تفوق أحدها تبعاً للفرد ولنموذج المجتمع الذي يندمج فيه. وفي المجتمع الذي يدور فيه عالم الأفكار حول محور الأشياء تأخذ الميول الفردية الوجهة ذاتها. ولقد حدث أن سألت طفلاً في إحدى البلاد العربية عما كانوا (يعطونه) في المدرسة ولم ركن استعمالي فعل (أعطى) متعمَّداً، لكن جوابه العفويَّ كان ذا دلالة ظاهرة فقد أجابني: إنهم يعطوننا بسكويت. ومن الواضح أن معنى (أعطى) عنده يتمفصل بادئ الأمر بعالم الأشياء، حتى حينما يستعمل الفعل في الإطار المدرسيِّ في صيغة سؤالٍ. وهكذا فالفرد يدفع ضريبة عن اندماجه الاجتماعيِّ إلى الطبيعة وإلى المجتمع. وكما كان المجتمع مختلاً في نموه ارتفعت قيمة الضريبة.

الفصل الثالث المجتمع والأفكار

الفصل الثالث المجتمع والأفكار 1 - المجتمع عبر العوالم الثلاثة: الشيء - الشخص- الفكرة رجحان أحد هذه العوالم هو الذي يميز كل مجتمع عن سواه. 2 - المجتمع التاريخي يسجل مراحل ثلاثاً: مرحلة ما قبل التحضّر، ومرحلة التحضّر والدورة الحضارية، ومرحلة ما بعد التحضر. 3 - مجتمع ما قبل التحضّر وما بعد التحضر لا يفتقر للوسائل وإنما للأفكار. 4 - المجتمع الإسلامي مرَّ بهذه المراحل الثلاث منذ العصر الأول وحتى سقوط دولة الموحِّدين. وهو يعيش عصرَ ما بعد الحضارة. ــــــــــــــــــــــــــ يعتبر علماء الأحياء (البيولوجيون) أنَّ علم الأجنّة يصوِّر المراحل التكوينية للجنس البشريّ. وليس ثمة سببٌ فقهيٌّ من وجهة النظر الإسلامية لتأكيد هذه القضية أو الشك فيها. فالفكر القرآني قد بقي مجازياً في هذه القضية كما في سواها شأن كلّ فكرٍ ديني

أما على الصعيد التاريخي فالأمر مختلف، إذ يمكن الإشارة إلى أوجه التشابه بين بعض مظاهر النمو العقليِّ عند الفرد، والتطوُّر النفسيِّ- الاجتماعيِّ للمجتمع، وهذا الأخير يمر هو أيضا بالأعمار الثلاثة: 1 - مرحلة الشيء. 2 - مرحلة الشخص. 3 - مرحلة الفكر. بيد أن الانتقال هنا من مرحلةٍ إلى أخرى ليس بالوضوح الذي نراه عند الفرد. فكل مجتمع مهما كان مستواه من التطور له عالمه الثقافي المعقد. ففي نشاطه المتناغم هنالك تشابك بين العوالم الثلاثة: الأشياء، والأشخاص، والأفكار. وغيٌّ عن البيان أنَّ خطة هذا النشاط- مهما كان بدائياً- تنطوي بالضرورة على مسوِّغات وأنماط تنفيذية: بواعث في المستوى الأخلاقي، وأفكار تقنية. ولكن يظلُّ هنالك دائماً رجحان لأحد هذه العوالم الثلاثة. وبهذا الرجحان الذي يظهر في سلوك المجتمع وفكره يتميز كلّ مجتع عن سواه من المجتمعات. فالمجتمع المتخلّف ليس موسوماً حتماً بنقيصٍ في الوسائل المادية (الأشياء)، وإنما بافتقارٍ للأفكار، يتجلى بصفةٍ خاصةٍ في طريقة استخدامه للوسائل المتوفرة لديه؛ بقدر متفاوت من الفاعلية، في عجزه عن إيجاد غيرها، وعلى الأخصِّ في أسلوبه في طرح مشاكله أو عدم طرحها على الإطلاق؛ عندما يتخلى عن أيِّ رغبة ولو مترددة بالتصدّي لها. ووفقاً لتعبير الاقتصاديين الدارسين لمشاكل العالم الثالث؛ فالأرض هي الوسيلة الأصلح لتأمين (إقلاع) مجتمع ما يمرُّ في مرحلته البدائية، ويتأهب للانتقال إلى مرحلة ثانوية كالصين الشعبية منذ عام 1951.

لكننا نلاحظ أن أكثر الأراضي خصوبةً في العالم- وتوجد في العراق وأندونيسيا- لم تُمَكِّن هذين البلدين من (الإقلاع). فهناك فاقةٌ حقيقية في الأفكار تظهر في المجال السياسي والاقتصادي؛ على شكل موانع كابحة، تتوافق من وجهة نظر علم الاجتماع مع الخصائص النفسية- الاجتماعية التي يتميز بها العالم الإسلاميُّ في الوقت الحاضر. هذه الصورة يمكن أن تجد تفسيرها لدى المؤرخين والاقتصاديين وعماء الاجتماع، كلٌّ حسب طريقته في التحليل. لكننا نعتقد أننا نقدم لها هنا تفسيراً نفسيّاً اجتماعياً بالرجوع إلى نظرية الأزمنة الثلاثة؛ والتي سنجد مسوغاتها بسوابق المجتمعات المعاصرة. وبصفة عامةٍ فعلى محور يمثل سائر مراحل التطور يحتل المجتمع التاريخي معاصراً كان أو تالداً مرحلةً محددةً. والتاريخ يسجل منها ثلاثاً: 1 - مرحلة المجتمع قبل التحضر. 2 - مرحلة المجتمع المتحضر. 3 - مرحلة المجتمع بعد التحضر. والمؤرخون يميزون جيداً في العادة بين الوضع الأول والثاني، ولكنهم لم يهتموا بالتمييز بين هذين الوضعين والوضع الثالث. فهم يرون أن مجتمع ما بعد التحضُّر هو بكل بساطة مجتمع يواصل سيره على طريق حضارته، وهذا الخلط المؤسف يولد أنواعاً أخرى من الخلط والالتباس تزيف وتفسد المقدمات المنطقية التي يرتكز عليها الاستدلال على الصعيد الفلسفيّ والأخلاقيّ، وعلى صعيد علم الاجتماع، وحتى على الصعيدين الاقتصادي

والسياسي؛ عندما يزعم البعض أنه استناداً إلى مثل هذه المقدمات يمكن طرح مشكلات البلاد المتخلفة وإيجاد الحلول لها. وقد يَستغلُّ هذا اللَّبْسَ أحياناً المتخصصون في الصراع الفكري؛ عندما يتولون هم أنفسهم أو يكلفون أحد تلاميذهم محاولة إقناعنا في قياسٍ منطقيٍ خاطئٍ بفشل الإسلام في بناء مجتمع متقدم (¬1). ولكي نزيل هذا اللبس نقول: بأن مجتمع ما بعد التحضر ليس مجتمعاً يقف مكانه، بل هو يتقهقر إلى الوراء بعد أن هجر درب حضارته وقطع صلته بها. ولم تفت ملاحظة هذه الظاهرة أحد المؤرخين فوصفها في أسىً بقوله: ((وكأني بالمشرق (الإسلامي) قد نزل به ما قد نزل بالمغرب، ولكن على مقدار ونسبة عمرانه وكأنما لسان الكون ينادي في العالم بالنوم والخمول، فأجاب)). إنّه ابن خلدون الذي دوّن بعد قرن من سقوط بغداد وقبل قرن من سقوط غرناطة هذه النقطة الخاصة بانفصام دورة الحضارة الإسلامية؛ النقطة التي ابتدأ منها عصر ما بعد الموحِّدين، أي عصر التخلُّف الحضاريِّ في العالم الإسلاميّ. وبتتبعنا لسيرة هذا المجتمع منذ نشأته التاريخيَّة المحددة بالتقويم الهجريّ يمكن تكوين فكرة عن المراحل التي اجتازتها ودلالتها النفسية- الاجتماعية. في الأصل كان مجتمعاً قبلياً صغيراً، يعيش في شبه الجزيرة العربية، وفي عالم ثقافي محدود، حيث كانت المعتقدات نفسها تتمحور حول أشياء لا حياة فيها، إنها أوثان الجاهلية. فالبيئة الجاهلية تمثل أصدق تمثيل مجتمعاً هو في عمر (الشيء)، ويجب أن ¬

_ (¬1) يعتقد المؤلف أن لا ضرورة للتركيز على هذه النقطة التي قام بتحليلها في دراسته تحت عنوان (انتاج المستشرقين وأثره على الفكر الإسلاميِّ الحديث).

نلاحظ إضافة إلى ذلك أنه في هذا المستوى من مرحلة ما قبل التحضر؛ فإنّ عالم الأشياء يكون هو نفسه شديد الفقر وتكون الأشياء فيه بدائيَّة: كالسيف، والرمح، أو الوتد، والكنانة، والقوس، والسهام، والجمل، والحصان، والسرج، دون ركاب، أو مزود بسندٍ خشبي بسيط (هذا الركاب الحديدي سوف يخترعه المهلَّب بن أبي صُفرة فيما بعد) والخيمة، والأدوات المنزلية الهزيلة المقرونة بحياة البداوة. وعلى كل فإن (الشيء) يسترد سيطرته على الإنسان في مجتمع ما بعد التحضر، حتى يتمتع هذه المرة (شأنه شأن كل مجتمعٍ استهلاكيٍّ) بعالم مثقل بأشياء، بيد أنها أشياء خامدة وخالية من الفعاليّة الاجتماعيّة. ومهما يكن من أمر فإنَّ عالم الأشخاص في المجتمع الجاهليِّ قد انحصر في حجم القبيلة، فيما عالم أفكار هـ قد تمثل بوضوحٍ في تلك القصائد المتألقة الشهيرة بالمعلقات، وهو بالإجمال - شأن عالم أشخاصه- عالمٌ محدود يستقي منه الشاعر الجاهلي أبياته البراقة ليشيد بمجد قبيلته وانتصارها في أحد الفصول الملحميَّة التي حفظتها ذاكرة التاريخ تحت اسم (أيّام العرب)، ويتغنى بذكرى حبيبته، أو يبكي كالحسناء، بطلاً هوى، أو يسعى لتخليد اسمٍ كاسم حاتم الطائي لجوده وحسن ضيافته. هكذا كان وجه ذلك المجتمع الجاهلي المنغلق على نفسه والذي كانت تتلاشى على أرباضه حركات المد والجزر التاريخية للأمم العظيمة التي جاورته: الامبراطورية البيزنطية، والامبراطورية الفارسية، ومملكة الحبشة في الجنوب. وفجأةً أضاءت فكرةٌ في غار، غار حراء، حيث مُنْعَنرلٌ يقوم فيه متأملاً. وحمل وميضها رسالةٌ بدأت بكلمةِ (اقرأ). مزقت هذه الكلمة ظلمات الجاهلية، وقضت على عزلة المجتمع الجاهليِّ.

ورأى النورَ مجتمعٌ جديدٌ متفاعل مع العالم ومع التاريخ، فشرع بهدم ما بداخله من حدودٍ قبلية ليؤسس عالمه الجديد من الأشخاص؛ حيث كلٌّ أضحى حاملَ رسالته، وليبني عالماً ثقافياً جديداً تتمحور فيه الأشياء حول الأفكار. في مبدأ الأمر، وعندما بدأت عملية اندماج المجتمع الإسلامي في التاريخ، تأسس عالم الأشخاص فيه على نموذج أصليٍّ، يتمثل بطائفة الأنصار والمهاجرين المتآخين في المدينة. ولقد جسد هذا النموذخُ الفكرة الإسلامية. إذ أضحى النموذج المحتذى والمستلهم، والذي منه تُجْتَنى الذكريات التي ألهمت الكتابات الأولى في العالم الإسلامي؛ كطبقات ابن سعد. وجميع خطوات المجتمع الجديد نحو عالم الأفكار - أي نحو عمر الفكرة- مرت عبر عالم الأشخاص هذا- أي عبر- عمر الشخص. هكذا يتواصل الاطراد في المجتمع كما في الفرد حتى نقطة الارتداد والانكفاء. هنا تجمد الفكرة، وتتجه المسيرة نحو الوراء، إذ ينقلب المجتمع الإسلاميُّ على أعقابه ليعود على إثر مراحل عوالمه الثلاثة. هنا لا يعود عالم أشخاصه على هيئة النموذج الأصليِّ الأوّل، بل يصبح عالم المتصوفين، ثم عالم المخادعين والدجالين من كل نوع، ولا سيما من نوع (الزعيم). وعالم أشيائه لا يعود بسيطاً مستجيباً لضروراته كما كان حاله في الجاهلية. فالأشياء هنا تستعيد سلطتها على العقول والوعي، إذ غالباً ما تكون تافهةً براقةً، وتهبط الجيوب حين يتعين شراؤها من الخارج. هكذا فالسيرورة منغلقة. والمجتمع الإسلامي العائد أدراجه يجد نفسه في النهاية ومنذ عدة قرون في عصر ما بعد الحضارة.

الفصل الرابع الحضارة والأفكار

الفصل الرّابع الحضارة والأفكار - الحضارة نتاج فكرةٍ جوهريَّةٍ تدفع بها في التاريخ. - أطوار الحضارة: مرحلة الروح؛ مرحدة العقل، مرحلة الغريزة. ــــــــــــــــــــــــــ إن حضارةً ما هي نتاجُ فكرة جوهرية تَطْبع على مجتمع في مرحلة ما قبل التحضر الدفعة التي تدخل به التاريخ. ويبني هذا المجتمع نظامه الفكريَّ طبقاً للنموذج الأصلي لحضارته. إنّه يتجذّر في محيط ثقافي أصليٍّ يحدد سائر خصائصه التي تميزه عن الثقافات والحضارات الأخرى. إنّ الفكرة المسيحية قد أخْرجَت أوربة إلى مسْرح التاريخ. ولقد بنت عالمها الفكري انطلاقاً من ذلك. ومع عصر النهضة استعادت اكتشافها العالم الإغريقي فتعرَّفت على (سقراط) (¬1) باعث الأفكار، و (أفلاطون) (¬2) ¬

_ (¬1) (سقراط) فيلسوفٌ يوناني (704 - 399 ق. م). يُعَدُّ أبا الفلسفة اليونانية. اشتهر بمنهج (التوليد maieutique) الذي يقضي باستخراج وبعث الأفكار من النفس بتوجيه الأسئلة إليها. لم يترك مؤلفاتٍ كتبها في بخطّ يده؛ لأن تعليمه كان ينحصر بالتحدث إلى تلاميذه. (¬2) (أفلاطون) فيلسوفٌ يوناني (428 - 338 ق. م). من أهمّ تلاميذ (سقراط). دوّن في بعض المؤلفات العديدة التي تركها أحاديث (سقراط) ومناقشاته مع فلاسفة عصره.

المؤرخ لتلك الأفكار، و (أرسطو) (¬1) مشترعها. غير أن هذا العالم الذي التقت به ثانية وهي تقتفي أثر الحضارة الإسلامية، قد اكتسى منذ (توماس الأكويني) (¬2) صبغةً مسيحية. إنَّ دور الأفكار في حضارةٍ ما لا يقتصر على مجرد الزينة والزخرفة؛ كزخارف المدفأة في المنزل مثلاً، فهو لا يصبح كذلك إلا حينما يصبح المجتمع في عصور ما بعد التحضُّر. ففي فترة اندماج مجتمعٍ ما في التاريخ يكون للأفكار دورٌ وظيفىّ؛ لأن الحضارة هي القدرة على القيام بوظيفةٍ أو مهمة معينةٍ. ويمكن تعريف الحضارة في الواقع بأنها جملة العوامل المعنويّة والماديَّة التي تتيح لمجتمع ما أن يوفِّر لكلِّ عضوٍ فيه جميع الضمانات الاجتماعية اللازمة لتطوُّره. فالفرد يحقق ذاته بفضل إرادةٍ وقدرةٍ ليستا نابعتين منه، بل ولا تستطيعان ذلك، وإنما تنبعان من المجتمع الذي هو جزء منه. وإذا ما رَكَن لقدرته وحدها وإرادته وحدها فإن هذا الفرد المنعزل والمنقطع عن كل اتصالٍ بجماعته يصبح مجرد قشة ضعيفة؛ رغم كل وسائل التزيين الأدبي التي يستعين بها الكاتب الروائي ليحيط بها حياته. ¬

_ (¬1) (أرسطو) فيلسوفٌ يونانيّ (384 - 322 ق. م). درس على أفلاطون. كان يعتقد أن الفلسفة تنظم المعرفة البشرية بكاملها. كان له أثرٌ كبيرٌ في الفكر العالمي، من الفلسفة العربية حتى الفلسفة المعاصرة. (¬2) القديس (توماس الأكويني Saint Thomas Aquin) فيلسوف ٌ وعالم باللاهوت، إيطاليّ (1227 - 1274م). درس اللاهوت والفلسفة في عدة مدنٍ أوروبية، وخاصةً في نابولي بإيطاليا حيث كانت تناقش أمهات المؤلفات الفلسفية الإسلامية. ترك العديد من الكتب التي يحاول فيها أن يوفّق بين العقل والإيمان، بين عقائد المسيحية ونظريات أرسطو.

فالحقيقة شيء والصورة الأدبيَّة شيء آخر. ومنذ نشر (دانيال دي فوى) قصة (روبنسون كروزو) فإن الأجيال التي قرأتها نسيت المغامرة المحزنة لذلك البحار الإنكليزي المسكين الذي وُجد بعد أربع سنوات من غرق سفينته في جزيرة جرداء في وسط المحيط، وأُعيد إلى إنكلترا وهو يرتدي ملابس مصنوعة من جلد الماعز الوحشي. إنّ هذه المغامرة هي التي ألهمت (دانيال دي فوي) (¬1)، بيد أنها بقيت طي النسيان. فالفرد الذي يُتْرك لإرادته وحدها وقدرته وحدها في ظرفٍ مماثلٍ لما حدث للبحار الإنكليزي الذي وَجد نفسه منفصماً عن بيئته، تصبح هذه حقيقته، وهي أيضاً حقيقة الفرد الذي لم يعد يجد في البيئة التي ينتمي إليها لا الإرادة في تقديم العون ولا القدرة على فعل ذلك. إنه حينئذ يشبه الفرد الذي يبقى حيّاً بعدما يندثر جنسه في كارثة أرضية، ومأساته شبيهة بمأساة آخر ماموث (¬2) من العصر الجليدي يتيه في الفيافي المتجمدة القاسية حيث لا يجد القوت. إن إرادة المجتمع وقدرته تُضفيان صفة الموضوعية على وظيفة الحضارة- وهي جملة العوامل المعنوية والمادية اللازمة لتنمية الفرد- وهي نفسها تتموضع في شكل سياسة، في صورة تشريع يمثلان إسقاطاً مباشراً لعالم الأفكار على الصعيد الاجتماعيّ والأخلاقيّ. ¬

_ (¬1) ألهمت هذه المغامرة (دانيال دي فوي) بعد حدوثها بما يقرب من قرن. (¬2) الماموث ( Mammouth) حيوان (قديم) يشبه الفيل، عاش في العصر الرابع من تاريخ الأرض. وُجدت منه عدة جثثٍ متحجرة في الجليد في بعض مناطق سيبيريا (في روسيا). ويُعتقد أنه انقرض لعدم توفر القوت لأسباب جيولوجية.

وهي تتغير حسب الأطوار التي تمر بها الحضارة، والتي نجدها ممثلة على الرسم البياني التالي الذي استخدمناه في مكان آخر (¬1). .......... ـ[صورة الرسم البياني]ـ .......... هذا الرسم الذي يبين القيم النفسية الزمنية لإحدى الحضارات يعطينا فكرة عن تغيرات هذه القيم خلال المراحل الحضارية المختلفة. وتنشأ إرادة المجتمع التي تموضع العوامل المعنوية عند نقطة الصفر. إنها تكون في أعلى درجاتها في المرحلة الأولى الروحية حيث المجتمع الوليد يواجه مشاكله بضغط حاجاته من جهة وباستخدام وسائله المتواضعة لتغطية أوسع قطاع ممكن فيها من جهة أخرى. ¬

_ (¬1) انطر (شروط النهضة) طبعة الجزائر بالفرنسية، 1948. وطبعة دمشق [ص:74]، دار الفكر، 1987

إنه الطور الحضاري الموسوم بأروع أشكال التقشف التي كان الرسول عليه الصلاة والسلام مثلها الأعلى في حياته الشخصية والعائلية، وهو يتميز كذلك بالمواقف الأشدّ بذلاً من صحابته-كأبي بكر وعثمان- الذين وضعوا ثرواتهم في خدمة الإسلام والمجتمع الإسلاميّ. أما قدرة المجتمع التي تموضع الشروط المادية وتسمح للمجتمع بالقيام بوظيفة العون فهي لا تزال في هذه الفترة في المرحلة الأولى من طور التكوين. وهكذا نرى المجتمع الإسلامي من ناحية أخرى يضطر للدفاع عن (قدرته) بقوة السلاح حينما تهددت هذه القدرة بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتلك الهرطقة (حرب الرِّدَّة) التي زعمت إبْطال حق الفقراء (الزكاة). إذ لم يكن بوسعه أن يواجه هذه الردة لولا أنه احتفظ بإرادته البكر؛ أي بذلك التوتر الداخليِّ الذي منحه إياه الإلهام القرآني وتعاليم الرسول عليه الصلاة والسلام. إنَّ هذا التوتُّر هو الذي يحدِّد خصائص مجتمع في منطلق حضارته؛ ويميّزه عن مجتمع آخر في مرحلة ما قبل التحضر، أو ما بعد التحضر، أو حتى المجتمع الذي لا يزال في مستوى حضاريّ يجتاز مرحلة AB التي أوضحناها في الرسم البياني؛ أي المرحلة التي يبدأ فيها عالم الأشياء وعالم الافكار بالتوازن ثم يأخذ (الشيء) يستحوذ على الفكرة، وخصوصاً في مرحلة BC. هذا التوتر الذي طبع في عصرنا إقلاع الاتحاد السوفياتي مع التجربة (الستاخانوفية) (¬1) وأوضع للصين الشعبية ثبات إقلاعها خصوصاً منذ الثورة ¬

_ (¬1) (الستاخانوفية stakkanovisme) . خطةٌ من العمل نشأت في عام (1935م) في المناجم الروسية في (دونتز) عبر عامل المناجم (ستاخانوف). وهي تهدف إلى زيادة الإنتاج بواسطة استعمال خبرة العامل والنظرة العقلانية إلى وسائل الانتاج. =

الثقافية قد سجّل هو أيضاً المرحلة الأكثر تفجُّراً في سياق تكوين واندماج المجتمعات الوليدة. والتوتر هذا فكرة دافعة، لا يمكن بثُّها عبر نظرية أو بأي إرشاد تعليميٍّ. أما ظرفها المفضَّل للظهور فقد فسره مؤرخ كـ (توينبي) (¬1) بذلك الظرف الذي فيه تضطر جماعة بشرية للردّ على تحدٍ ما بعمل منظم. وهذا التفسير لا يقدم لنا شرحاً لتكوين المجتمعات التاريخية الحاضرة، والتي لا يتجاوز عددها ربع دزينة. فنحن لا نفهم لماذا المجتمع البوذي لم يستجب في بداية العصر المسيحي لتحدِّي نهضة الفكر الفيدي ( pensée védique) (¬2) التي حكمت عليه بالنفي إلى بلاد الصين. ولا نفهم كذلك لماذا لم يقاوم الفكر الفيدي في هذا القرن في موطنه الجديد تحدي الفكر الماركسي المستورد عبر (ماوتسي تونغ) والذي مسحه إلى الأبد من الخريطة الإيديولوجية في العالم. ¬

_ = جاء في تاريخ الحزب الثيوعي في الاتحاد السوفييتي (ص 482، دار الفارابي، بيروت 1954): " وقد كانت الحركة الستاخانوفية هي التي دلّت بمنتهى الوضوح على تطور هذا الكادر، وعلى استيعاب رجالنا للتكنيك الجديد، وعلى نهوض إنتاجية العمل نهوضاً مستمراً لا انقطاع له. وقد ولدت هذه الحركة وترعرعت في حوض الدون في الصناعة الفحمية. وامتدّت إلى صناعات أخرى وإلى وسائل النقل ثم شملت الزراعة. وقد دُعيت بالحركة (الستاخانوفيّة) نسبة إلى صاحب المبادرة الأولى فيها، العامل في قلع الفحم أليكى ستاخانوف (حوض الدونتز). (¬1) (أرنولد توينبي Arnold Toynbee) مؤرخ إنكليزي (1889 - 1975)، له عدة مؤلفات أهمها: (دراسة التاريخ) في اثني عشر جزءاً. يقول بأن الحضارات تتقهقر بضعفٍ يطرأ على قوة الإبداع، ويؤمن بأن زوال حضارة ما أمرٌ لا مفرّ منه. (¬2) الفكر (الفيدي)، نسبة إلى (فيدا) عنوان الكتب الأربعة المقدسة. التي تتضمّن الحكمة الإلاهية في المذهب الهندوسي.

أما ما هو جدير بالملاحظة في تجربة المجتمع الإسلامي المعاصر؛ فهو أنه لم يستطع أن يستمد دفعة الإقلاع الحضاري من العالم الثقافي للصفوة من أبنائه الذين نالوا تعليمهم في الجامعات الغربية، كما لم يستلهم روح الحضارة من الإيديولوجيات العملية التي طُوبت ثورية في البلاد العربية بإعطائها تلك الشعلة التي ألهبت روح الجماهير حتى مكّنتهم من سد الطريق أمام (موشي دايان) في حرب الأيام الستة!!، كما لم يستفد في أسلوبه من صرامة التفكير الموروثة من عصر (ديكارت). بينما الفكرة الدافعة للإسلام نقلت شعلات الجمر المضيئة منذ أربعة عشر قرناً من الجزيرة العربية إلى الأقطار البعيدة؛ موحِّدةً جميع الشعوب الإسلاميّة في ذلك العمل المنسق الرائع؛ ألا وهو الحضارة الإسلاميَّة التي استمرَّت حتى سقوط بغداد وسقوط غرناطة. وحتى حينما رجع المجتمع الإسلاميّ القهقرى ووصل إلى النقطة c من الرسم البياني، أي مرحلة ما بعد الموحدين (¬1) فإنَّ هذه الفكرة الدافعة سمحت له أيضاً بمقاومة العدوان الاستعماري ثم استعادة استقلاله. ¬

_ (¬1) عصر ما بعد الموحدين: يبدأ عصر ما بعد الموحدين بسقوط الدولة الموحديّة بعد هزيمة الناصر لدين الله الموحدي في موقعة حصن العقاب في الأندلس في 15 صفر (609 هجرية). وقد اعتبرت هذه الموقعة نذيراً بنهاية قوة المسلمين بالمغرب والأندلس على السواء كما يقول مؤلف تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي؛ إذ سقطت الدولة الموحدية التي أنشأها عبد المؤمن بن علي سنة (524 هجرية، 1130 ميلادية) بعد أن بايعه المهدي بن تومرت، إثر سقوط الدولة المرابطية ثم أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن (1163 - 1184) الذي أخضع القبائل ثم غزا طليطلة واشبيلية بجيش جرار يضم قبائل عرب زناته ومصمودة وغمادة وصنهاجة واستولى على مدينة لشبونة. ثم أعقبه يعقوب المنصو ر (580 - 595 هجرية/ 1184 - 1199 ميلادية) الذي انتصر في معركة الأرك على نصارى الأندلس بعد تمردهم وطمعهم في أملاك المسلمين في الأندلس، فقاتل ألفونس حتى طلب الهدنة فهادنه خمس سنوات لكنه نقض العهد وقال لرسل ألفونس: ((الجواب ما ترى لا ما تسمع)) فحلت الهزيمة بألفونس ثانيةً. =

إنَّ المعجزات الكبرى في التاريخ مرتبطة دائماً بالأفكار الدافعة، والإيديولوجية السوفييتية هي التي سمحت للمجتمع السوفياتي أن يوقف في ستالينجراد زحف الجيش الهتلري خلال الحرب العالمية الأخيرة. وإذا كان هذا التفسير الخارجي لا يكفي لتوضيح منشأ هذه القوّة في جميع الحالات، فينبغي أنْ نلاحظ مع ذلك أن هذه القوى هي التي جعلت تلك المجتمعات تنبثق من العدم، ونثرتها على مسرح التاريخ حيث بقيت قائمة بقدر ما بقيت هذه القوى تدعمها. ¬

_ = وكان يعقوب المنصور معاصراً لصلاح الدين الأيوبي الذي طلب مؤازرته حينما تأهب الصليبيون لحرب صلاح الدين وتتابعت أساطيلهم على الإسكندرية لكن يعقوب المنصور كان مشغولاً هو الآخر بقتال النصارى في الأندلس. وفي عهد يعقوب المنصور اكتمل بناء مدينة الرباط وبنى مسجداً عظيماً له مئذنة شامخة على هيئة منار الإسكندرية يصعد إليها بغير درج وتسمى الآن منارة حسان. وقد ازدهرت الفلسفة والعلوم في عهد الدولة الموحدية فكان فيها ابن طفيل وابن رشد وابن باجة والوزير الطبيب ابن زهر. إلا أنه بزوال دولة الموحدين في المغرب وانطواء الدولة الأيوبية المعاصرة لها في القرن الثاني عشر انتهت دورة الحضارة الإسلامية في رأي مالك بن نبي، وبدأ عصر الانحطاط رغم ما لمع من بوارق انتصارات المماليك والدولة العثمانية في الشرق والغرب، فقد بدأت دورة جديده للحضارة المسيحية الغربية تنبعث على أشلاء الأندلس وتأخذ اطرادها إلى حيث نرى نتائجها في عالمنا الحاضر. (راجع حسن إبراهيم حسن تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي 4/ 219، وما يليها، الطبعة الأولى 1967 مكتبة النهضة المصرية).

الفصل الخامس الطاقة الحيوية والأفكار

الفصل الخامس الطاقة الحيوية والأفكار • اطراد اندماج الفرد في المجتمع • الطاقة الحيوية وتطور المجتمع • المعادلة الصعبة 1 - تحرير الطاقة يدمر المجتمع 2 - تحييد الطاقة يعيق سيرورة المجتمع 3 - التوسط في الطاقة يساعد على عمارة المجتمع ــــــــــــــــــــــــــ يتوجب على الفرد تلبية حاجاته الحيوية مهما كان نوع الحياة التي يحياها، سواء أكان منعزلاً مثل (حي بن يقظان) أو ساكناً في مدينة كبيرة. لذا يتعين عليه أن ينفق من طاقته الحيوية التي خُصَّت بها طبيعته، غير أن الطاقة هذه- وهي في طبيعتها البهيميَّة- لا تندمج مع الحياة في المجتمع؛ بحيث إن اندماج الفرد الاجتماعي يجب أن يراعي احتياجاته من ناحية، واحتياجات المجتمع الذي يندمج فيه من ناحية أخرى. والمجتمع في الواقع يفرض قواعد وضوابط وقوانين وتقاليد، وحتى بعض الأذواق والأحكام المسبقة هي بالنسبة إليه ليست بأقل حيوية. وإذن فإن اطراد اندماج الفرد يتدرج مستجيباً لطبيعته من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى مستجيباً لنسق من أصول وقواعد في الحياة يمكن تعريفه وهو في مرحلة متقدمة بمثابة عقد اجتماعي.

من هنا يأخذ الاطراد معنى يحدد تكيفاً للطاقة الحيوية للفرد. ومدرسة (بافلوف (¬1) pavlov) أعطت الإيضاحات الأولى حول التكيف عامة. وواحد من أتباع هذه المدرسة، سيرج تاكوتين، قدم لنا في كتابٍ هام بعنوان (اغتصاب الجماهير) تحليلاً وتصنيفاً للطاقة الحيوية في صورة مايسميه (الدوافع الغريزية). فهل الدوافع الغريزية الأربعة التي أشار إليها تكفي لتصنيف هذه الطاقة بمجملها أم لا؟ سنترك هذا النقاش جانباً. لكن الذي يهمنا التحقق منه هو الحدود التي تعمل أو ينبغي أن تعمل في إطارها الطاقة الحيوية؛ كي يتمكن النشاط المنظم لمجتمع ما، في جميع أشكاله من تمثلها واستيعابها. ومن الجليِّ أننا لو ألغينا، على سبيل الافتراض، واحداً من أشكال الطاقة الحيوية كالذي يسميه (سرج ناكوتين) مثلاً بالدافع الغذائي، أو دافع التملك، أو الدافع التناسلي- فإن جميع الإمكانات البيولوجية لحياة اجتماعية ما سوف تلغى دفعة واحدة، وإذا افترضنا أن فعلنا العكس فحرّرنا الطاقة الحيوية من كل قيد فإن النظام الاجتماعي سيجد نفسه وقد أخلى موقعه لنظامٍ طبيعي خالص. ¬

_ (¬1) (بافلوف pavlov) عالم فيزيولوجي وطبيب روسي (1849 - 1936) م. حاصل على جائزة نوبل مكافأة على أعماله في هذا الحقل (1904) م. توصل من خلال أبحاثه حول الجهاز الهضمي وبوجه خاص حول الارتكاس الرضابي إلى: تحديد مفهوم الارتكاس الشرطي أو المكتسب؛ الذي يُبْعَث في غياب المسبِّب الطبيعي بواسطة مسَبِّب ( excitant) قد ارتبط به مسبقاً. وأعلن (بافلوف) أنَّ الحياة النفسية الإنسانية محكومةٌ بذات القوانين التي تسود الحياة النفسية لدى الحيوان؛ بفارق تراكم جهاز إشارات ومفاهيم ألسنية مع الجهاز الأساسي الوحيد لدى الحيوان، بهذا كان (بافلوف) ينادي بوحدة الحَيِّز الفيزيولوجي والنفساني.

والفرد سيعيش تبعاً لذلك في ظل قانون الانتخاب البيولوجي (شريعة الغاب) التي تقصر الحياة على الأكثر قوة لا على الأفضل. إذن عندما نلغي الطاقة الحيوية فإننا نهدم المجتمع. وعندما نحررها تحريراً كاملاً فإنها تهدم المجتمع. لذلك يجب على الطاقة الحيوية أن تعمل بالضرورة ضمن هذين الحدين. ومن هنا يحق لنا أن نتساءل: ما هي السلطة التي تخضع الطاقة الحيوية لتحتويها هذه الحدود. هذا السؤال حينما يطرح في منشأ اطراد اندماج مجموعةٍ إنسانيةٍ خرجت من مرحلة ما قبل التحضر، وتتأهب للانطلاق نحو مرحلة تاليةٍ فإنه يكشف لنا طبيعة التكيُّف الذي يجب على الطاقة الحيوية تحمُّله لتضطلع بمهمات هذا الاجتياز، وتستجيب لضروراته. وبمعنًى آخر، فإن السلطة التي تضمن هذا التكيُّف مرتبطة ارتباطاً جوهرياً بالعوامل التي لها دور في وجود حضارة، وبوجه خاص مرتبطة بذلك الذي يلعب دورًا رئيسيّاً في تحول مجتمع إنساني بدائي (قبل التحضر) إلى مجتمع متحضر، والمجتمع الجاهلي في هذه الحالة يقدم لنا صورة مثلى لهذا التطور. في المبدأ نرى أنفسنا أمام طرازٍ من المجتمعات، الطاقة الحيوية فيه غير متكيفة بشيءٍ ما تقريباً، فالعالم الثقافي الجاهلي كان في الحقيقة شبه خالٍ من مبادئ الإلزام الاجتماعي. فمبادئه اقتصرت على بعض قواعد الشرف وشيءٍ من الواجبات نحو المجموعة (التضامن القبلي الذي أثبت ابن خلدون أهميته السياسية في نشوء ممالك شمالي إفريقية، تحت اسم العصبية) وبعض المعتقدات التي جعلت منها مكة القرشية تجارة.

لم تكن الطاقة الحيوية قد تكيفت بشيءٍ بعد، فقد كانت في طبيعتها الأولية التي لا تأتلف مع شروط الحياة الخاصة بحضارة. وحينما حدث لهذا المجتمع تحول من المجتمع البدائي إلى المجتمع الحضاري لم يكن باستطاعة المؤرخ وعالم الاجتماع أن يلاحظ في هذه الحقبة من الزمن ظهور أي حادث جديد يفسر هنا التغيير. فالعالم الثقافي الذي ظهر مع الفكرة القرآنية قد كان الحدث الوحيد. والعلاقة السببية بين الحدثين: القرآن والحضارة باديةٌ بشكل صارم عبر تلازمهما؛ فالفكرة الإسلامية هي التي طوّعت الطاقة الحيوية للمجتمع الجاهلي لضرورات مجتمع متحضر. ويستحيل علينا أن نجد تفسيراً آخر يكشف لنا هذا التكيف الذي نظّم القوى البيولوجية للحياة كيما يضعها في خدمة التاريخ. والواقع أنه في أصل جميع الحضارات فالاطراد واحد في تكامل وانسجام الطاقة الحيوية، وفي الظروف التي تؤهلها لوظيفتها التاريخية. لكنَّ القدرة علي التكامل والانسجام ليست بالضرورة متشابهة بالنسبة لدورات مختلفة وبالأحرى بالنسبة لمُختَلِف المراحل في الدورة الواحدة. ومن جهة أخرى فإن ظروف هذا الانسجام لا تراعى بالطريقة نفسها في جميع الحضارات. فمثلاً نرى المجتمع المسيحي يسعى إلى إلغاء الدافع الجنسي بدلاً من أن يحتويه في الحدود العملية. إنه يواجه نزعة الشهوة ( libido) (¬1) بفكرة الرهبانية. ¬

_ (¬1) (نزعة الشهوة libido) وهي لفظة لاتينية وتعني الرغبة يعرفها (فرويد) بأنها: ((عبارة مستقاة من نظرية المشاعر، نُسَمِّي بها الطاقة التي تشكّل قياساً كَمِّيّاً؛ وإن لم تكن حالياً ممكنة القياس، للدوافع التي تتصل بكل ما نعرفه تحت اسم الحب)) كما أنها: ((التجلي الديناميكي للغريزة الجنسية في الحياة النفسية)).

هذا المثل الأعلى الذي يتسم بلا شك بالسمو والرفعة، رغم أنه لا يأتلف مع مختلِف الغايات التاريخية يولِّد نماذج جميلة من الجنس البشري (القديسين) ويترك ما عداهم فريسة هلوسات الجنس. ونحن نرى اليوم عبر تلك المعارض الإباحية (¬1) القائمة هنا وهناك في الغرب إلى أين تؤدي هذه الهلوسات. فقد تبين لنا خلال ذلك أن القدرة على تطويع الطاقة الحيوية لا تكمن في اختيار مُتَعَمَّد لحلّ متطرف. فالحل بصفة عامة لا يوجد في اختيار صارم ولا في انطلاق متحرر جداً وليس بالأحرى في معايرةٍ ضابطة، تُوازن بين هذين الحلَّين المتطرفين، بل إنه قبل كل شيء يكن في القوة التي تدعم هذا الحل أو ذاك، أي طبيعة الفكرة الدافعة التي تقف وراءه ومقدار قوتها في تلك اللحظة. ومن أجل أن تكون هذه الاعتبارات محدّدة، يمكننا تفحص حالة من تكيُّفِ الطاقة الحيوية في مجتمعين مختلفين من جهة ثم في مجتمع واحد ولكن في عصرين مختلفين من جهة أخرى ونجد هذه الحالة في تاريخ التشريع الخاص بتحريم شرب الخمر. لقد طرح المجتمع الإسلامي مشكلة الخمر، وتضمن هيكَلُ تشريعه ثلاثة نصوص: 1 - نص يختص بإدخال المشكلة في ضمير المجتمع الإسلامي، وهو يمثل إلى حد ما المرحلة النفسية من الحل. ¬

_ (¬1) كان آخرها وأشدها إثارة للفضيحة- لأنه كان علنياً- للعرض الذي استُقبِل زوارُه في (كوبنهاغن) عام 1970م

2 - نص يختص بالحد من تداول الخمر، وهو يوافق مرحلة تخليص الفرد من الإدمان. 3 - وأخيراً نص التحريم الذي يُكرِّس الحلَّ من الناحية الشرعية. وفي مقابل هذه الصورة يمكننا أن نسجل صورة مشابهة لها تقريباً من حيث طريقة العلاج وهي تشريع محاربة الإدمان (قانون التحريم) الأميركي بعد الحرب العالمية الأولى ويشمل تقريباً مراحل الصورة الأولى نفسها. 1 - في عام (1918) أدخلت الصحافة الأميركية المشكلة إلى الرأي العام. 2 - وفي عام (1919) أُدخلت المشكلة في الدستور الأميركي تحت عنوان (التعديل الثامن عشر). 3 - وفي العام نفسه سرى مفعول التحريم تحت عنوان (إجراء فولستد L'Acte volstead). وبهذا يمكننا أن نقارن منذ البداية على ضوء التاريخ الفرق بين قدرة التشريعين على التكيف. فمنذ أربعة عشر قرناً لم يُثر تحريم الخمر أية صدمة في المجتمع الإسلامي الناشئ. بينما كانت هذه الموجة في المجتع الأميركي الذي عاصر إجراء (فولستد) من العنف بحيث حطمت كل الحواجز، وقلبت جميع السدود والعقبات، ونتج عنها ردود فعل مرضية: كالتجارة الممنوعة وتكوين عصابات التهريب، وتسمم الجمهور بخمور مغشوشة، مما أدى إلى إلغاء قانون التحريم بموجب التعديل رقم (21) المصدق عليه في (ديسمبر) عام (1933). لقد استؤصلت فكرة التحريم نهائياً من عالم الثقافة في المجتع الأميركي؛ لأنه لم يكن لها جذور في العالم. وقد نلاحظ بالمقابل في المجتمع الإسلامي بعضاً من التراجع بخصوص مشكلة

الخمر، خصوصاً حينما يأخذ هذا التراجع مظهر التحدي (المقصود أو غير المقصود) لأبسط قواعد اللياقة. فوجود أربع خمارات في شارع صغير، في مدينة صغيرة (كتبسة) في جنوب الجزائر، يسمى علاوة على ذلك (شارع النبي) هو في العصر البطولي للكفاح ضد الاستعمار نوعٌ من التحدي في الحقيقة. ومع ذلك، ومهما كان نوع التشريعات المعتمدة اليوم، فإن المجتمع الإسلامي المعاصر لم يطرد فكرة (التحريم) من عالمه الثقافي. وحتى إذا لم يكن لهذه الفكرة قوة القانون، كما هو الحال مثلاً في البلاد المسماة (تقدمية) فإنها رغم ذلك لا زالت تلعب دوراً ما في الإلزام الاجتماعي. وإني أعرف عدداً لا بأس به من الفتيات المسلمات يعطين لهذه الفكرة أهميةً كبرى عند اختيار الزوج. وهكذا نرى فكرة تفشل فشلاً ذريعاً في دورها الاجتماعي في مجتمع كالمجتمع الأميركي، الذي ابتدع أكثر الأساليب فعالية لنشر أفكار هـ وآلاته، مؤيداً بوجه عام قرارته في الإطار التشريعي بالإحصائيات الأكثر دقة، والتي يخضعها لأدقِّ مراقبة علمية عند التطبيق. بينما احتفظت هذه الفكرة بقدرتها على التكيف، نسبياً في مجتمع إسلامي، لم تعد تتوفر لديه اليوم لمواجهة انحرافات طاقته الحيوية سوى إرادة أفراده، لتكوين الإلزام الاجتماعي المطلوب. يمكننا أن نخلص من ذلك بخاتمتين (¬1): 1 - إن قدرة أي فكرة على التكيف ليست متساويةً في مجتمعين لهما أصولٌ ثقافيةٌ مختلفةٌ. ¬

_ (¬1) انظر تفصيل هاتين الصورتين في كتابنا (الظاهرة القرآنية).

ففي المجتمع الأميركي المتمحور حول القيم التقنية، أي الموجه نحو عالم الأشياء، تكون قدرة التكيف أضعف منها في المجتمع الإسلامي المتمحور حول القيم الأخلاقية. 2 - وفي الاطراد نفسه كما في المجتمع الإسلامي، على سبيل المثال، فإن القدرة على التكيف تتغير من مرحلة إلى أخرى. فهي تصل إلى الذروة في المرحلة الأولى: (انظر الذورة في الفصل السابق) وهي تتناقص تدريجيّاً بمقدار ما توسع الفكرة الأصلية مكاناً لأفكار مكتسبة، ثم هي تتضاءل بمقدار ما تخلي هذه الأفكار الأخيرة مكانها للأشياء. أما في المرحلة الثالثة، فإن الغرائز تتحرر وعندها تتوقف قدرة التكيف الأصلية، ويختزل العالم الثقافي إلى مجرد عالم أشياء. هنا تقوم الطاقة الحيوية بتفتيت المجتمع، بعد أن تكون قد تحررت تماماً، وذلك بإلغاء شبكة روابطه الاجتماعية، محطمة نسقها المنظم إلى جمهرة من النشاطات الفردية المتناقضة، أو تلك التي تقوم بها جماعات صغيرة. وهذه هي الظاهرة التي رآها الماركسيون في صورة صراع الطبقات. ومهما يكن من أمر فإنها نهاية حضارة. ولا يستطيع المجتمع أن يتابع مسيرته بعقول خاوية، أو محشوة بأفكار ميتة، وضمائر حائرة، وشبكة من الروابط المتهدمة ليس تجمعها وحدة. وبالنسبة للمجتمع الإسلامي؛ فإن هذا هو عهد ما بعد الموحِّدين الذي بدأ.

الفصل السادس عالم الأفكار

الفصل السّادس عالم الأفكار • الأفكار الأساسية النموذجية الرائدة. • الأفكار العمليّة التاريخية. • التغيير والتحول يطرأ على عالم الأشخاص لا على عالم الأشياء. • علاقة الأفكار بمقاييس النشاط. • موت الأفكار وانتقامها. ــــــــــــــــــــــــــ إن مجتمعنا في المرحلة السابقة على تحضره يواجه نشاطاته البدائية بحوافز وطرق عملية، تمثل عالمه الثقافي المتواضع. ومع ذلك وحتى في هذه المرحلة فإن هذا العالم يشتمل على أفكار - رائداة، (نماذج) يرثها الجيل عن الجيل السابق ويورثها الذي يليه، وأفكار ٍ عملية يواجه بها كل جيل الظروف الخاصة بتاريخه؛ بعد أن يدخل عليها تعديلاً قل أو كثر يلائم مسيرته. أما الأفكار الرائدة التي تحتضن نشاطه، فهي في هذه المرحلة مخزونه الأخلاقي. وأما الأفكار العملية التي توجِّه نشاطه فهي وسائله التقنية. فإذا ما انتقل المجتمع إلى المرحلة التالية فاستقل سيرورة حضارة ما فإن تحوله هذا يستجيب بالضبط لثورة ثقافية تعدل بقليل أو بكثير وسائله التقنية، وفي

الغالب يكون التعديل محدوداً، لكنها تقلب بصورة جذرية قاعدته الأخلاقية. فعلى عتبة حضارة ما، ليس هو عالم الأشياء الذي يتبدل، بل بصورة أساسية عالم الأشخاص. وحتى الوسائل التقنية في هذه المرحلة بالذات لا تتجه نحو الأشياء، وإنما نحو الإنسان باعتبارها تقنية اجتماعية تحدد العلاقات الجديدة داخل المجتمع؛ على أساس ميثاق جديد، مُنَزَّل كالقرآن الكريم، أو موضوع من الأشخاص كدستور ( iassa) (¬1) جنكيزخان، والدستور الفرنسي (1793) م. لكن الشرط الأول لضمان شبكة علاقاته الجديدة داخل المجتمع كما رأينا؛ هو أن توضع حدود لطاقته الحيوية. وهنالك في عالم الأفكار داخل المجتمع تراتب بين الأفكار التي تغير الإنسان والأفكار التي تغيّر الأشياء. فالأفكار الأولى تضع قدرة تكيف الطاقة الحيوية على عتبة حضارةٍ، أما الأفكار الثانية فإنها تُطوِّع المادة لحاجات الحضارة في المرحلة الثانية من دورتها التي أشرنا إليها آنفاً. ¬

_ (¬1) راجع تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، الدكتور حسن إبراهيم حسن 4/ 134 - 137 حيث جاء فيه: ((ولما أمن جنكيز خان شر أعدائه فكر في ترقية حالة بلاده الاجتماعية والخلقية بوضع قانون يكون أشبه بكتاب ديني يسيرون على هديه في معاملاتهم وأحكامهم، فوضع لهم (اليساق) أو (الياسه) وقد روى المقريزي خلاصة هذا اليساق نقلاً عن أحمد بن البرهان، الذي اطلع على نسخة منه بخزانة المدرسة المستنصريّة ببغداد. وكذلك ذكر القلقشندي أن السياسة كلمة مغولية أصلها (ياسه) فحرفها أهل مصر وزادوا بأولها سيناً فقالوا سياسة، وأدخلوا عليها الألف واللام فظن من لا علم عنده أنها كلمة عربية ... واسمع إذن كيف نشأت هذه الكلمة حتى انتشرت بمصر والشام، ذلك أن جنكيز خان القائم بدولة التتر في بلاد الشرق لما غلب ((أوتيك خان)) وصارت له دولة، قرر قواعد وعقوبات أثبتها في كتاب سماه (ياسه) ومن الناس من يسميه (يسق) والأصل في اسمه (ياسه)، وياسه كلمة تركية قديمة معناها القانون الاجتماعي".

وتعتمد قدرة الأفكار الأولى في درجة التحول ومدته على الصدر المقدس أو الزمني للعالم الثقافي الذي ولد في المجتمع الجديد. والواقع أنه لا يوجد في الأصل عالم زمنيٌ محض. لأن مثل هذا العالم لا يستطيع أن يقدم حوافز تستطيع مساندة مجتمع ناشئ لا يزال في خطواته الأولى. ولقد لاحظ مؤسسو المجتمع المدني بسرعة تلك الظاهرة، مثل روبسبيز (¬1) الذي أضاف بعد فوات الأوان- فكرة ((الكائن الأعلى)) ( L'Etre supreme) (¬2) إلى إيديولوجية الثورة الفرنسية. وحينما أخفقت هذه الفكرة فإن فرنسا عام (1789) استبدلتها بفكرة ¬

_ (¬1) ( Rabespierre روبسبيير) (1758 - 1794) أحد مشاهير رجال الثورة الفرنسية، تأثر منذ حداثته أكثر الشيء بأفكار (جان جاك روسو) فتبنى مفهوم الإرادة الجماعية أو العامة للسلطة، ونظام (العقد الاجتماعي) وأهم ما فيه أن الأمة هي صاحبة السيادة المطلقة. وحينما كان نائباً عن مقاطعة (تيير Tier) (1789) كان (روبسبيير) ملكياً دستورياً في موقفه السياسي، لكنه ما لبث أن أصبح أعنف مدافع عن حقوق الشعب، وكان مع رفاقه (مارا Mara) و (دانتون daneon) أحد قادة كومون باريس المتمردة (1792)، واشتهر بالدكتاتورية الدموية حتى لُقِّب بـ ((روح الدكتاتورية اليعقويية)) وهو مسؤول عن إعدام رفاق دربه مثل: (ديمولين) و (دانتون)؛ بسبب اعتدالهم وتسامحهم. وله نظر يته في ((الديمقراطية الأخلاقية)) وهي: تعبير عن فكرة دكتاتورية الإرادة العامة، وقد أسس حكومةً شعبيةً تقوم على الفضيلة (أو على الذعر والترهيب زمن الأزمات الثورية) هذه السياسة الإرهابية أثارت خصومه ضده إلى حد إقالته وتنفيذ حكم الإعدام فيه صيف (1714). (¬2) عمد (روبسبيير) إلى ربط السياسة بما يشبه المفهوم الديني، وذلك بأن توّج الديمقراطية الأخلاقية- السياسية روحياً بتأسيس طقوس الكائن السامي (آذار 1794). وهو المفهوم الفلسفي الجديد لإله السماء الموحِّد الذي يتخطّى- حسب رأي فلاسفة عصر التنوير- جميع التناقضات والخصومات بين الأديان والمذاهب، وذلك ضمن إطار ما يسمى بالديانة الطبيعية غير أن روبسبيير جعل له طقوساً معينة واختزل الفكرة الفلسفية بدمجها مع مفهوم الدولة.

الرجل المُؤله ( Ledemiurge) المتجسدة في نابليون. هذه المواربة تثبت لنا أن أي مجمتع ناشئ يبحث دائماً عن سند له في القيم المقدسة. من ناحية أخرى، فإن التاريخ يثبت لنا أن عالماً مبنياً في الأصل على القيم المقدَّسة يميل دائماً إلى نزع صفة القداسة عن مبادئه كلما أوغل المجتمع في المرحلة الثانية من دورة الحضارة، مرحلة امتلاك ناصية المشاكل التقنية والتوسع. وربما أمكن تفسير هذه الظاهرة بإحدى طريقتين: فهي في منظور الاقتصاديين تقدم، وهي في منظور المؤرخين الفلاسفة إهدار طاقة في منعطف شيخوخة. هذان التفسيران المتعارضان يتلاقيان في حتمية قانون تحول الطاقة الذي يحكم التاريخ كما يحكم الفيزياء، والذي يقرر بأنه لابد من سقوط طاقة كامنة لإنتاج العمل. وعلماء (الميكانيكا) يسمونها (لحظة) القوة، هي تلك اللحظة التي تكون كافيةً لتمكين يد الرافعة من تحريك مقاومة ما، أي لإتمام عملٍ ما. وللفكرة الدافعة (لحظتها) كذلك، أنها اللحظة التي يكون إسقاطها على نشاطنا، هو بالضبط الصورة الكاملة لنموذجها في عالمها الثقافي الأصلي. فقدرتها على الطاقة الحيوية تكون في أوجها في تلك اللحظة على الأخص. لقد سمحت تلك القدرة لبلال بن رباح الخاضع لتعذيب مُبَرِّحٍ بتحدي الجاهلية ¬

_ الإنسان المؤلّه ( Ledemiurge) وهو إضفاء صفات الإله، أو أنصاف الآلهة، والأبطال الخارقين على فئة نادرة من البشر عبر التاريخ بقصد إحاطتهم بهالةٍ من العظمة والتقديس إلى درجة تجعلها غالباً تدخل في الخيال الأسطوري.

بأكملها، وهو يرفع سبابته ليشهد على وحدة الله ((أحد ... أحد)) كما أتاحت للشهيد المسيحي المعروض للتعذيب في سيرك زمن سراديب الأموات أن يتحدى وثنية الرومان. إن سائر الأفكار (سواء التي تختص بالإطار الأخلاقي أو التي تتحكم بالإطار المادي) لها لحظة إشراق (لحظة أرخميدس) عندما تطلق صرخة الفرح (أوريكا Eureka) (¬1) لدى دخولها العالم الثقافي. وهي صرخة موسى إذ آنس ناراً، وصيحة (باسكال) حين دعي الضمير المسيحي إلى تذكرها، في روائع الأدب الفرنسي في القرن السابع عشر ((نار ... نار ... فرح! ... دموع الفرح)) (¬2) وهي صيحة (نيتشه) لدى اكتشافه (قانون العوْد الأبدي) (¬3). ¬

_ (¬1) (أرخميدس 287 - 212 ق. م) ( Archmade) عالم يوناني كبير له اكتشافات واختراعات مهمة في الرياضيات والفيزياء بوجه خاص. وهو صاحب نظرية الأجسام العائمة. ويروى أن ملك سيراكوز قد عهد إليه بمهمة تحديد ما إذا كان تاجه من الذهب الخالص: فقاده البحث إلى اكتشاف مفهوم الوزن العيني، وبينما كان يفكر بالأمر وهو يغتسل في الحمام. جاءه الإلهام فجأة فنسي نفسه لشدة الفرح. وخرج وهو يصرخ: ((أوريكا! أوريكا! وجدتها! وجدتها)). (¬2) (باسكال 1662 - 1623م) ( B. Pascal) عالم ومفكر- فرنسي من القرن السابع عشر، نبغ في الرياضيات والحساب، وقد تأثر كثيراً بأخته الراهبة جاكلين، وبأحداث أخرى رأى فيها تدخل العناية الإلهية. ومنها حادثة ذاتية جعلته في حالة الانخطاف والوجد (23 نوفمبر 1654) مما قاده إلى الاعتكاف في دير (بور رويال port-royal) عند اتباع مذهب) جينسنيوس jon) المتزمتين والذين ينادون بانسحاق الإرادة البشرية أمام القدر والسلطة الإلهيه المطلقة، وبالحضور الإلهي المرعب والشديد الرقابة .... وقد دافع عنهم في رسائله الشهيرة (16567 - 1657) ( L' provin ciales) التي يهاجم فيها الآباء اليسوعيين وتآويلهم لنعمة العفو الإلهي ولمفهوم الخلاص المسيحي. (¬3) قانون العوْد الأبدي: يسود الاعتقاد في المجتمعات البدائية أن زمن البدايات الكونية هو: الزمن الحقيقي والخلاّق الذي ظهرت فيه أنماط كل شيء في حلتها الأصليّة. وأن هذا الزمن الفردوسي=

وهي صيحة (كريستوف كولومبس) ورجال سفينته لدى اكتشافهم جزر الهند الغربية عام (1492) م. ((الأرض ... الأرض! ... )) فقد كانوا بذلك يعلنون بها للعالم لا اكتشاف القارة الأميركية بل دخول هذه الفكرة في عالم الثقافة دخولاً قطعيا. ((الأرض كروية! ... الأرض فعلاً كروية)) (¬1). وهي صيحة انتصار فكرة ... ((الحرية والمساواة والأخوة)) التي أطلقها شعب باريس فأطاحت بسجن الباستيل في الرابع عشر من تموز عام (1789) ويعود رجع ذلك اليوم في التاريخ إلى الإطاحة بعرش بطرس الأكبر في تشرين الأول أكتوبر عام (1917) (¬2). ¬

_ = يمكن عيشه من جديد عبر طقوس دينية معينة مُهداة إلى الآلهة؛ تُعيد إلى الأذهان أجواء العصر الذهبي للوجود الذي تم خلاله خلق الأسلاف الأسطوريين الأوائل والنظم والمجتمعات. و (نيتشه F. Nietgsche) هو: فيلسوفٌ ألمانيّ عاش في النصف الثاني من القرن التاسع عشر (1844 - 1900) م- له نظريته الشهيرة في المأساة اليونانية التي اعتبرها انتصاراً للإغريق على مبدأ التشاؤم، بفضل اتحاد الفكر الأبوليني في الشكل، والحماس الديونيسي في الموسيقى. وتتصف كتاباته عامة بالثورة على الموروث، وبأسلوبها البلاغي والنقدي اللاذع، ومنها (هرمية الأخلاف)، (1887) و (ما وراء الخير والشر)، (1886) و (المسيح الكذاب)، (1888). وقد اشتهر نيتشة بمذهب ((إرادة القوة)) التي تنشئ نظاماً، أخلاقياً للصفوة- ونراه يبشر في كتابه (هكذا تكلم زرادشت)، (1883 - 1885) بولادة الإنسان المتفوق الذي سيأتي لخلق قيمٍ جديدةٍ تعزّز الحياة والحرية، وتوافق قبولاً فرحاً لمبدأ (العود الأبدي). (¬1) (كريستوف كولومبس)، (1461 - 1506) م. وهو بحار إيطاليّ من مدينة جنوى. أبحر عام (1492، 3 آب) من مرفأ بالوس بعد حصوله على موافقة ملكة إسبانيا، ثم أبحر ثانيةً بحثاً عن العالم الجديد (1493) وبعد فترة طويلةٍ قضاها في عرض البحر بعيداً عن اليابسة كاد البحارة يفقدون خلالها أي أمل في الوصول إلى الهدف المنشود وظنوا أنهم غارقون لا محالة لاحت آثار الحياة في الأفق. ثم ظهرت اليابسة عن بعد، فهتف (كولومبس) هاذياً: ((الأرض! ... ! الأرض)). (¬2) (بطرس الأكلبر)، (672 ا- هـ 173) 1 - كان بطرس الأكبر محور سائر المناقشات التي تتصل بتاريخ روسيا. ففي القرن التاسع عشر انتقده المحافظون بأنه أحدث في المجتمع الروسي شرخاً اجتماعياً بفصله النبلاء (المتأوربين) عن الشعب الذي بقي في تقاليده المسيحية في أصولها. =

إن الأفكار في لحظة (أرخميدس) تعتمد على حالة روابطها مع النماذج، وهذه الأخيرة تمثل في العالم الثقافي القوالب التي بقيت فيها الأفكار التي تعبر عن نفسها مباشرة في نشاطاتنا. لكن الزمن يعمل: في ذاتيتنا، في عقلانيتنا، فَتَعْفو به القسمات البارزة لتلك القوالب كما تنمحي بالزمن أحرف مطبعة أو مَسْبَكٍ. وقد نصل إلى أن نستخرج الأشكال من تلك القوالب ولا نرى فيها غير صورة باهتة للنماذج المثالية فالأفكار الموضوعة قد خانت الأفكار المطبوعة في القوالب الأساسية. ¬

_ = غير أنه حينما تعرضت روسيا للخطر عبر الغزو النابليوني الهتلري (1941) فإن الأبطال استعادوا في ذاكرتهم صوت مواطنهم القيصر الأمين على الاستقلال وعظمة الدولة. 2 - بطرس الأكبر، قصير روسيا قد طبع بشخصيته وأعماله تاريخ روسيا أكثر من أي حاكم آخر. ففي عهده خرجت روسيا من العصر الوسيط، واتخذت موقعاً لها بين الدول الحديثة في أوربة. 3 - امتاز عهده بالحروب إذ أنشأ قوةً عسكرية جديدة فقد كتب مرة في التعليمات الصادرة إلى رجال البحرية (1702) عقب هزيمته أمام السويد ((إن حاكماً لن تكون له يدان ما لم يكن لديه جيش برّي وأسطول بحري)). 4 - واستناداً إلى الحاجات التي اقتضتها القوة العسكرية فقد واجهت روسيا تطورًا صناعياً افتتح مرحلة جديدة من التاريخ الاقتصادي لروسيا؛ إذ كانت من قبل خاضعة للسويد في تزويدها بالسلاح. وهكذا اكتسبت روسيا في هذا الإطار استقلالاً اقتضاها الولوج بالخطة المنهجية للقيصر إلى المركنتيلية الأوروبية التي برزت، خاصة مع كولبير في القرن السادس عشر. مستحدثاً بذلك مفهوم الدولة المتدخلة في القطاع الاقتصادي لمواجهة الضرورات. فمنذ عام (1697) أمر بإنشاء مصنع لصهر المعادن، وآخر لصناعة المدافع في (الأورال) الغنية بالحديد والغابات لكنها البعيدة جداً، والخالية من الحياة حيث تجارب تركيب المصنع أخفقت لكن بالإرادة الصلبة استطاع في النهاية أن يجعل من منطقة الأورال نواة بناء الصناعة. وقد اعتبر قياصرة روسيا فيها بعد امتداداً لعصر بطرس الأكبر إلى أن أطاحت الثورة البلشفية (1917) م بعلم القياصرة: مقتبسٌ من ( Encyclopedia universalis) V13 P52.

وهذه الخيانة تتردد أصداؤها في سائر نشاطاتنا وهي تعرضها للانتقام ( nêmêsis) (¬1) وأحياناً يكون عنيفاً على الصعيد الزمني، فالأفكار التي تتعرض للخيانة تنتقم لنفسها. ومن اليسير أن نفهم ذلك على الصعيد التقني، حيث الانتقام فوري إذا ما انفجرت ماكينة سيئة التصميم أو انهار جسر لسوء البناء. وفي الغالب فالمجتمعات والحضارات تنهار بالطريقة نفسها. وليست كوارث التاريخ في مختلف الأزمان سوى النتيجة التي تكاد تكون فورية لانتقام الأفكار التي خانها أصحابها. فسقوط قرطاجة لخطأ سياسي من مجلس شيوخها هو المثل المأساوي لكنه ليس الوحيد (¬2). لابد إذن من احترام علاقات الأفكار بالمقاييس الثابتة للنشاط وإلاَّ باتَ ذلك النشاط عابثاً أو مستحيلاً. وتقع تلك العلاقات في ثلاث مراتب: 1 - المرتبة الأخلاقية الإيديولوجية، السياسية بالنسبة لعالم الأشخاص وحتى الفزيولوجي؛ إذا أخذنا بعين الاعتبار تحسين النسل. 2 - المرتبة المنطقيَّة الفلسفية، العلمية، بالنسبة لعالم الأفكار. 3 - المرتبة التقنية، الاقتصادية، الاجتماعية، بالنسبة لعالم الأشياء. ¬

_ (¬1) ( nêmêsis) آلهة إغريقية تمثل الغضب والانتقام السماوي من نزعة التطرف والتزمت في السلطة والرأي عند البشر. (¬2) تأسست مدينة (قرطاجة) عام (814 - 813) ق. م، وتقع في إفريقية الشمالية، ازدهرت في عهد الملوك المكدونين؛ وبعد انحطاط مدينة صور فحلت مكانها في السيطرة على القسم الغربي من المتوسط (550 - 450). وكانت المركز التجاري والعسكري والديني في العهدين الروماني والمسيحي. وافتتحها العرب عام (698) م.

وحينما يفسد واحد من هذه المفاصل الثلاثة للفكرة بتأثير أي عاملٍ من العوامل فينبغي أن نتوقع رؤية نتائج هذا الفساد في أحكام ونشاطات المجتمع وسلوك أفراده. هذه النتائج تظهر في أشكال شاذة؛ وغالباً مضحكة. ففي معرض للرسوم الزيتية أقيم في (لوس أنجلوس) سنة (1957) نالت الجائزة الأولى لوحة بعنوان (مقهى لاوس) كانت ببغاء عوراء أنجزتها حين، تركها صاحبها تتخبط بالألوان بالقرب من قماشة الرسم. لم يكن لهذا الخداع في الإطار الفني الناتج عن العصر السوريالي أن يحدث؛ لو لم تُحَرِّف القوانين الجمالية التي شوهتها السوريالية مقاييسَ الجمال لدى الْمُحلَّفين المشرفين على الجائزة. لقد تم هنا على الأقل اكتشاف الخدعة بسهولة؛ لأن صاحب اللوحة الذي نال الجائزة هو نفسه صاحب الببغاء وقد اعترف بذلك بعد حين. وكم من حالاتٍ أخرى لا يكون الاعتراف فيها بالخدعة أو الكشف عنها ممكناً إما بدافع النفاق؛ عندما توجه مصالح دنيئة تخنق الآراء، أو لمجرد افتقاد الإدراك. ومهما يكن من أمر فإن أي فساد في علاقات الأفكار فيما بينها (مرتبة المنطق الفلفسة ... إلخ) أو في علاقاتها مع عالم الأشخاص (مرتبة الأيديولوجية - السياسة .. إلخ) أو في علاقاتها مع عالم الأشياء (مرتبة التقنية والاقتصاد ... إلخ) لابد أن يُوَلِّد اضطراباً، في الحياة الاجتماعية، وشذوذاً في سلوك الأفراد، خصوصاً عندما تصل القطيعة مع النماذج إلى مداها الأقصى، وتصبح قوالب أفكار نا المطبوعة ممسوحةً في ذاتنا، وتصبح أفكار نا الموضوعة والمصبوبة في تلك القوالب لا شكل لها، ولا تماسك فيها، ولا أهمية لها.

هكذا تموت الأفكار تاركة العقول فارغةً وحتى اللغات تستسلم للعجز. ويقع المجتمع في الطفولة. فالطفل دون أفكار يعبر بطريقة بدائية بالحركة أو بالصوت. والمجتمع الذي يقع في مثل تلك الطفولية يكشف عن ظواهر غريبة من التعويض عن افتقاره إلى الأفكار. إنه محكوم بالتعويض عنها وخاصة في نشاطاته الذهنية ببدائل فكرية. وتظهر هنا الحركة التي تكمل الجملة الناقصة؛ لأن صاحبها لا يستطيع أن يكملها. فحين لا توجد الأفكار لا توجد الكلمات. لقد أوضح هذه الحقيقة (بوالو boileau) الناقد الكبير في كتابه (الفن الشعري L'art poetique) (¬1) . .......... ما نفهمه جيداً نعبر عنه بوضوح .......... .......... وتأتي الكلمات لتقوله بسهولة .......... فعدم التماسك تبدو علاماته حينما تنعدم الأفكار. حينئذ يأتي الصوت ليعلو كيما يحلّ محل حجة افتقدت. ويبرز التصنع البلاغي في الأدب: الإفراط في أدوات التفضيل، التشدّق بالأوصاف، مثل عبارة (الشعب البطل) في دستورٍ لإحدى البلاد العربية، وكما وردت في إحدى صحف الدوله ذاتها صورة شخصٍ لا ندري كيف اندسَّ في الثورة الجزائرية، وتحتها العبارة العجيبة التالية: (أحد عمالقة الثورة). ¬

_ (¬1) (نيقولا بوالو N. boileau) ل (1636 - 1711) من الكتاب الكلاسيكيين ناقدٌ فرنسيٌ كبير، عاصر لويس الرابع عشر وكبار الكتاب والفنانين الكلاسيكيين، ويعتبر مُنظِّر الحركة الكلاسيكية في فرنسا بفضل كتابه الشهير (الفن الشعري L'art poetique) ، (1674) ، ومنه يلخص (بوالو) بعباراتٍ بليغةٍ ومجازٍ رائعٍ النظرية الكلاسيكية، وكانت آنذاك في أوجها.

إنها حجة الإثارة أن يقال إنه أمر خطير جداً، بدلاً من أن تعطي مجرد فكرة محددة عن الموقف. إنه المبالغة في التهويل أوالتهوين بأن يقال: ((كل الدنيا تعْلَم بذلك)) لتأييد رأي، أو ((لا أحد يصدق ذلك)) للانتقاص من قيمة رأي. والخلاصة إنه حشو حيث كل كلمة تلقي ظلالاً من الغموض على الموضوع بدلاً من أن تجليه. فعندما يسيطر التشويش وانعدام التماسك على عالم الأفكار تظهر علاماتهما في أبسط الأعمال. فنقرأ مثلاً في إحدى دور السينما في عاصمة عربية عنوان فيلم (حيرة وشباب)، بينما كان الأكثر ملاءمة أن يقال: (شباب وحيرة). إنني على يقين بأن مؤلف قصة الفيلم لم يقف لحظةً واحدةً عند مسألة الترتيب الطبيعي للأفكار، حتى في مجرد عنوان فيلم. وعندما يمس انعدام التماسك في عالم الأفكار العلاقات المنطقية، يجب أن نتوقع سائر أنواع اللبس في العقول التي لا تستطيع- في ميدان السياسة مثلاً- أن تميز بين الأسباب والمسبَّبات. هكذا طرح المجتمع الإسلامي مسألة الاستعمار وأهمل القابلية للاستعمار.

الفصل السابع الأفكار المطبوعة والأفكار الموضوعة

الفصل السّابع الأفكار المطبوعة والأفكار الموضوعة • عالم الأفكار في مجتمع ما أسطوانة ذات طابع خاص. • عالم الأفكار موسيقى فريدة لها أنغام أساسية (الأفكار المطبوعة) وتوافقات خاصة (الأفكار الموضوعة). • العلاقة بين الأفكار المطبوعة والأفكار الموضوعة: مثال المجتمع الإسلامي. ــــــــــــــــــــــــــ إن عالم الأفكار أسطوانة يحملها الفرد في نفسه عند ولادته. وتختلف هذه الأسطوانة من مجتمع إلى آخر ببعض النغمات الأساسية. ومن المثير للدهشة أن الموسيقى الهندوسية لا تشبه أية موسيقى أخرى، وقد أحببتها دائماً دون أن أدري لماذا؟ كل ما أعرفه هو أنها تخاطب أرواحنا بطريقة مختلفة، لأنها طبعت في ذاتية الهند بطريقة مختلفة. إن أسطوانة كلّ مجتمع مطبوعة بطريقة تختلف عن أسطوانة مجتمع آخر، وتتناغم الأجيال والأفراد مع سلّمها الأساسي وهم يضيفون إليها أنغامهم الخاصة بهم. فعالم الأفكار أسطوانة لها أنغامها الأساسية ونماذجها المثالية، وهي الأفكار المطبوعة، ولها أيضاً توافقاتها الخاصة بالأفراد والأجيال: وهي الأفكار الموضوعة.

لقد تقولبت العبقرية اليونانية (في أفكار ها المطبوعة) في قالب النغمات الأساسية (لهوميروس Homers) (¬1) ، و (إقليدس Euclide) (¬2) و (فيثاغورس Pythagore) (¬3) و (سقراط Socrate) (¬4) و (امبدوكلوس Empedoele) (¬5) ، وفي ¬

_ (¬1) (هوهيروس): أشهر كتاب اليونان القدامى، وشاعر ملحمي ملهم وإليه تنسب كل من (الإلياذة) و (الأوذيسة) اللتين تتحدثان عن مآثر الأمة اليونانية وآلهتها وأبطالها الانطو ر يين. (¬2) (إقليدس): عالم ر ياضيات يوناني (القرن الثالث الميلادي)، أسس مدرسة الإسكندر ية الرياضية، وقد أثر بشكل بالغ في الفكر الرياضي حتى القرن التاسع عشر بفضل كتابه (العناصر Elements) وتنص فرضية إقليدس على أنه: ((انطلاقاً من نقطة من المسَطَّح لا يمكن أن نقيم سوى خط واحد مواز لخط مستقيم)). وهي برأي العلماء أول دليل تاريخي على موقف رياضي سليم. (¬3) (فيثاغورس pythagore) : فيلسوف يوناني من القرن السادس الميلادي، وقد أسس مدرسة تعرف باسمه. وهو يعتبر أن جوهر الأشياء العدد. ويقسم أتباعه العدد إلى فئتين: العدد الفردي والعدد الزوجي. الأول هو: المحدود، والثاني: يمثّل اللامحدود. ثم ربطوا هذه الفرضيات بالمذهب الأخلاقي فقالوا: إن المحدود هو الخير، بينما اللامحدود هو الشّر، مما قادهم إلى افتراص طبيعة ثنائية للوجود، وقالوا: بأن النار هي أصل الكون، وأن النفس الإنسانية عبارة عن انسجام عددي، وكانوا يعتقدون بتناسخ الأرواح. (¬4) (سقراط): رائد الفلسفة اليونانية، ويلقب بالمعلم الأول (470 - 399 ق. م) قضى شطراً مهماً من حياته مربياً يثقف الناشئة في الشارع وفي الأندية والولائم، وحكم عليه بأن يشرب السم بتهمة الكفر وإفساد عقول الشباب. ويعود إلى أحد تلاميذه، أفلاطون الفضل في التعريف بأفكار هـ. سقراط: هو إذن أبو الفلاسفة، وسيّد منهجية التفكير الذي سعى بأسلوبه الساخر المقنع لإيقاظ الفكر وتحرير العقل الذي يوصل الإنسان إلى معرفة نفسه وإلى السعادة. ومن حكمه المعروفة: ((اعرف نفسك بنفسك))، ((ليس من خبيث طوعاً)). (¬5) (أمبدوكلس) (490 - 435 ق. م): فيلسوف يوناني، من أعماله المعروفة: ((في طبيعة الكون))، ((تطهيرات)) ولم يصلنا منها سوى 400 بيت من الشعر، تطلعنا على فلسفة انتقائية. تأخد من الأيونية نظرية العناصر الأربعة المادية، ومن المدرسة (الأيلية L'Eliate) فكرة اندماج هذه العناصر في وحدة الكل، ومن (هيراقليطس) فكرة (السيرورة) التي يتعاب فيها الحب الذي يوحِّد والكراهية التي تفرِّق. ويتميز نتاجه بقوته الشاعرية الخلاّقة.

أفكار ها الموضوعة في التوافقات الموسيقية (لأفلاطون Platon) (¬1) ، و (أرسطو Aristote) ، وقد زادت غنًى على يد الأجيال في أثينا، كل ذلك كي تتحف العالم بذلك اللحن الذي نعثر على أثرٍ منه في الحضارة المعاصرة. يقول علم الطبيعة (الفيزياء): إن العلاقة بين التذبذب الأساسي وتوافقه الموسيقي تكمن في أن هذا الأخير يختفي فور توقف الأول عن التذبذب. والأمر نفسه في العلاقة بين الأفكار المطبوعة والأفكار الموضوعة. فعندما تبدأ الأفكار المطبوعة تنمحي عن أسطوانة حضارة يخرج منها في البداية نشاز النغم! صفير، وحشرجة، ثم الصمت أخيراً. لقد تلقى المجتمع الإسلامي رسالته المطبوعة منذ أربعة عشر قرناً على هيئة وحي، فانطبعت في ذاتية الجيل المعاصر لغار حراء الذي أسمع السمفونية البطولية (لدين الرجال) كما يدعو (نيتشه) الإسلام. ¬

_ (¬1) (أفلاطون) (428 - 348 ق م): فيلسوف يوناني عظيم، صاحب (الجهور ية)، وتلميذ كراتيل وسقراط؛ الذي عاشره وتتلمذ على يديه (408 - 399 ق م)، أسَّس الأكاديمية التي ث تعاليمه من خلالها، تم كتب محاوراته ونشرها، وتقع في 28 حواراً أصيلاً، تطرق فيها إلى سائر المشكلات الفلسفية والغيبيّة، وهو يجمع في أسلوبه بين الحديث العقلاني واللغة الشعرية، ويعتبر أفلاطون أحد كبار رواة الأساطير ومبتكريها. وهو في محاوراته الأولى التي يبدو فيها تأثير سقراط أكثر الشيء. يسعى أفلاطون إلى تحديد المفاهيم، لكن المنهج الجدلي سرعان ما يغدو الوسيلة التي تمر بها النفس تدريحياً من المظاهر المتنوعة والمتقلبة إلى الحقائق والأفكار الأصليةَ التي يُعتبر الوجود الحسي مجرد صورة مزيّفة عنها (أيون، بروتاغوراس- كراتيل ... ) فكل معرفة هي تبعاً لذلك: مجرد تذكّر لتلك الحقائق الجوهرية، ولعل المعرفة العليا السامية في نظر أفلاطون هي بمثابة رؤيا أو حدس عقلاني لهذه الأفكار الأصلية وأهمها فكرة الخير وهي مبدؤها الأول (الوليمة، مندرا، الجمهوية ... ). ونجده في محاوراته الأخيرة يعالج مشكلات أكثر واقعية: سياسية وأخلاقية (تيمه، كريتياس. قوانين، ... ).

فالأفكار المطبوعة على تلك الأسطوانة قد أثارت العواصف في التاريخ الإنساني منذ أربعة عشر قرناً. فهي في البداية قلبت رأساً على عقبٍ وسطاً بدائياً فوضعت طاقته الحيوية في حدود حضارة، وجعلتها تستجيب لقواعدها وأصولها، لنظامها الصارم. لقد كنت لحظة (أرخميدس) التي عاشتها الجزيرة العربية عندما تلقت الرسالة لحظة لا مثيل لها في العظمة. ـ[ففي الإطار المادي]ـ: رسمت الرسالة آثاراً جديدة، نتائج اجتماعية جديدة، إنما بالوسائل الحاضرة نفسها، لأن عالم الأشياء لم يكن بعد قد استطاع تغيير وسائله. وهكذا بدت تلك اللحظة فيما فعل المهاجرون والأنصار؛ إذ وضعوا مواردهم على سواء يينهم ليواجهوا المرحلة الجديدة. ـ[وفي الإطار الفكري]ـ: لقد أوجدت تلك اللحظة عديداً من المقاييس، جديداً في أسلوب التفكير ليلائم أوامر تنظيم جديدٍ وتوجيهٍ لنشاطات مجتمع وليد. وأخيراً ففي الإطار النفسي والأخلاقي أنشأت للطاقة الحيوية مراكز استقطابٍ جديد. ولقد رأينا حول هذه المراكز لحظاتٍ من العظمة لا تُضاهى. كما حصل مثلاً عندما قام المسلمون- بناءً على نصيحة سلمان- بحفر الخندق الذي صدّ آخر موجة جاهلية ضد أسوار المدينة، فقد كان النقص في عالم الأشياء لا يسمح إلا باستخدام أدواتٍ بدائيةٍ في مواجهة عملٍ شاقٍ وفي غاية الصعوبة. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إدراكاً منه لمعاناتهم يساندهم وهو يردد أمنية ووعداً موزوناً مقفىً:

«اللهم إن العيش عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة». بينما كان الصحابة يرددون من ورائه نشيداً تناقلته الأجيال من بعدهم: نحن الذين بايعوا محمدا … على الإسلام ما بقينا أبدا [أخرجه البخاري عن أنس] لقد كانت مراكز استقطاب الطاقة الحيوية تتركز حول مفاهيم جديدةٍ، أفكار جديدة، نماذج مثاليةٍ لعالمٍ ثقافيٍ جديد، كانت تتركز حتى درجة الانفجار، وكانت تنفجر في مواقف مأساوية من نوع جديد. رجل يقبل امرأة، تلك لحظة تتجاوز فيها الطاقة الحيوية حدودها الجديدة، وعلى الفور تنطلق قوى التذكير بالعالم الثقافي الجديد، وتنفجر المأساة في ضمير الرجل الذي ما يلبث أن يفضي بمكنونه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛والجواب الذي ينهي المأساة قد جاء في هذه الآية: {أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 11/ 114]. ويسأل الرجل النبي: يا رسول الله إلي هذا (يعني هذه الآية) فيجيب الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «إنها لجميع أمتي». [أخرجه البخاري عن ابن مسعود]. وفي مرةٍ أخرى تأتي امرأة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - لتعترف له بأنها اقترفت خطيئة الزنى. ولم تكن لفظة (الزنى) آنذاك مجرد كلمةٍ بسيطة على الشفاه، كما كانت من قبل. بل كان يتركز فيها كل ما يؤرق الضمير من فظاعة وقباحة. وكانت الشريعة قد وضعت لمن يرتكب الزنى أقسى العقوبات: عقوبة الرجم. كانت تلك المرأة تدرك إذن ما تُعَرِّض نفسها له باعترافها ذاك. لكن فعل العقوبة في جسدها بدا لها اخف وطأةً من فعل الخطيئة في ضميرها، فتتجه إلى

الرسول - صلى الله عليه وسلم - ساعيةً ثلاث مرات، ويؤجّل الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحكم ثلاث مرات كذلك. أجَّله في المرة الأولى ليعطي المرأة فرصة التفكير، وفي المرة الثانية لكي تضع مولودها، وفي المرة الثالثة حتى تنتهي من إرضاع طفلها. وأخيراً طبق العقوبة التي مافتئت تطالب بها منذ أن ارتكبت خطيئتها. إن الأحداث المأساوية التي كانت تدور حول مراكز الاستقطاب الجديدة، وحول النماذج المثالية للعالم الثقافي الجديد لم تكن تعني أصحاب تلك الأحداث فحسب، بل كانت تشمل في توترها جميع أفراد المجتمع. تلك هي حال المتخلفين، أولئك الذين لم يلحقوا بالمسلمين في غزوة تبوك، كانوا ثلاثة: كعب بن مالك، مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي. وكان كعب هو الذي روى تفاصيل المأساة (¬1). ويبرز القرآن مقدار التوتر المتفجر في ضمير أولئك الذين عاشوا هذا الحادث ثم يورد لنا الخاتمة في الآية التالية: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 9/ 118]. لم يكن ذلك اليوم يوم بشرٍ للرجال المتخلفين الثلاثة فحسب، بل كان يوم بشرٍ للأمة بأسرها. وفي هذا الجو المتوتر كانت الأفكار المطبوعة تضع بصماتها المقدسة في جميع الأفكار الموضوعة، وفي جميع المواقف، وفي جميع الأمكنة، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» [أخرجه البخاري وأصحاب ¬

_ (¬1) عن البخاري، مع تحديد معنى (المتخلفين): أولئك الذين تحفَّظ الرسول في الحكم بشأنهم.

السن إلا أبا داود] فلم يعد هناك شيء دنيوي. فالقداسة أضحت في كل شيء. وأضفت القداسة مسحتها على العالم كله. لذا يمكن لنا أن نفهم في هذا العالم المقدس ثقل الذنب مهما صغر. فقد كانت الأخطاء الصغيرة تأكل من أسطوانة عالم الثقافة. وكان كل فرد ينتصب لكل تحريف في اللحن ينبعث من المكان المتآكل، ففي تلك اللحظات المباركة هنالك في كل فرد حساسية الأذن الموسيقية عند موقع النشاز في الأسطوانة. وعندما تخبو تلك الحساسية الأخلاقية والجمالية؛ فإن مقدار فنائها يدل على مقدار عدم تماسك عالم الأفكار وعلى انحطاط اجتماعي بصفة عامة. ويستمر هذا الانحطاط إلى اللحظة التي يقف فيها لحن الأفكار، وتتلف الأسطوانة وتَمَّحي في نفس كل فرد، ويصبح الصمت تاماً، وتزول ردَّات الفعل الحماسية للألحان السامية وردات الفعل الرافضة للأصوات النشاز. وعندما تنمحي النماذج المثالية: حينئذ لا تسمع أبداً لهجة الروح في تناغم اللحن. فالأفكار الموضوعة، حين لا يعود لها جذور في الغلاف الثقافي الأساسي، تصمت هي بدورها: إذ لم تعد لديها ما تعبر عنه، ثم لأنها لم تعد تستطيع أن تعبر عن شيء. والمجتمع الذي يصل إلى هذه الدرجة يتفتت لأنه لم تعد لديه دوافع مشتركة؛ كما هو الشأن في الجرائر بعد الثورة؛ وكما هو الشأن في أوربة الآن حيث الفرد ينتحر أو ينطوي على ذاته. إنها لحظة الأفكار الميتة وبعد أن عاش المجتمع الإسلامي اللحظة المجيدة عند ولادة حضارته؛ لحظة (أرخميدس) لأفكار هـ المطبوعة في عصر الرسول، أو الخلفاء الراشدين، وأفكار هـ الموضوعة في الفترات المضيئة لدمشق وبغداد، فإن المجتمع الإسلامي يعيش فترة الصمت، إنه صمت الأفكار الميتة.

فالحاج الذي ينزل ميناء جدة يُسَرُّ حينما يفاجأ بقراءة إعلان معلق على أحد الأبواب مكتوبٌ عليه: هيئة الأمر بالمعروف، ثم عندما يتقدم خطوة في البلد، يبدأ في اكتشاف حقيقةٍ يبدو إزاءها الإعلان مجرد سخرية: إنه فكرة ميتة. لكن الأمر الأدهى عندما نبدأ إحياء عالم الثقافة المحشو بالأفكار الميتة بأفكار ٍ قاتلةٍ مستوردةٍ من حضارةٍ أخرى. فهذه الأفكار التي أضحت قاتلة في محيطها؛ تصبح أكثر فتكاً حينما نستأصلها من ذلك المحيط؛ لأنها تترك بصفة عامة مع جذورها التي لا يمكن نقلها ترياقاً يتأقلم به ضررها في وسطها الأصلي. وفي شروط كهذه يقتبس المجتمع الإسلامي المعاصر أفكار هـ الحديثة (التقدمية) من الحضارة الغربية. هذه هي النتيجة الطبيعية لاطراد تَحَدَّدَ في لب المجتمع الإسلامي بجدلية الأشياء والأشخاص والأفكار التي صنعت تاريخه. غير أن الذي لم يكن طبيعياً هو جمود المجتمع الإسلامي وخموله في هذه المرحلة من التطور، وكأنه يريد أن يبقى فيها أبد الدهر. في حين أن مجتمعاتٍ أخرى؛ كاليابان، والصين، بدأت من النقطة نفسها، لكنها نزعت عنها ثوب الجمود وهي تفرض على نفسها ظروفاً ديناميكية جديدة، ونظرية جدليةً تاريخيةً جديدة. فالمجتمع الإسلامي يدفع اليوم ضريبة خيانته لنماذجه الأساسية. فالأفكار - حتى تلك التي نستوردها- ترتد على من يخونها وتنتقم منه. إنها اللحظة المؤلمة حيث المسلم منشطرٌ إلى شخصين: المسلم الذي يتمم واجباته الدينية ويصلي في المسجد، ثم المسلم العملي الذي يخرج من المسجد ليغرق في عالمٍ آخر.

الفصل الثامن جدلية العالم الثقافي

الفصل الثامن جدليّة العالم الثقافي • حركية العالم الثقافي. • العلاقات الداخلية في العالم الثقافي بين: الأشياء، والأشخاص، والأفكار. • أسباب ومعوّقات (إقلاع) المجتمع الإسلامي. ــــــــــــــــــــــــــ إنّ عالم الثقافة ليس عالماً ساكناً. إنّ له حياته. وله تاريخه الذي نستطيع أن نفسِّره انطلاقاً من فكر هيجل، الذي يقرر بأن هنالك صيرورة لعالم الفلسفة وصيرورة فلسفيةً للعالم. أو انطلاقاً من المبدأ الماركسي: إنَّ كل تعديل في البنية التحتية يرتب تعديلات في البنية الفوقية. هنا فالمشكلة تطرح من وجهة النظر العملية. وبشكل عامٍ فإن خصائص العمل على الصعيد الفرديّ أو الجماعيِّ تستند على العلاقات الداخلية بين مقاييسه الثابتة في العالم الثقافي: الأشياء- الأشخاص- الأفكار. هذه المقاييس الثابتة تتداخل في نشاط المجتمع عبر جدلية تاريخية تتوافق مع مرحلته التاريخية في كل لحظة من مسيرته. وتتوافق في كل لحظةٍ فيها علاقة معينةٌ؛ بين الأشياء والأشخاص والأفكار في تركيب العمل، وتكون هذه اللحظات من اللحظات العادية في تلك الجدلية. إلا أن هنالك لحظات تحدّد علاقة أكثر خصوصية، يزيد فيها ثقل أحد هذه المقاييس على المقاييس الأخرى؛ عندما يكون النشاط مركزاً على الأشياء أو على الأشخاص أو على الأفكار بصورة أكثر خصوصية.

هنا يكون ثمة إخلال بالتوازن يميز هذه اللحظة الخاصة من التطور التاريخي لمجتمع ما، إنها مرحلة غير طبيعية في جدلية عالمه الثقافي. هذا الإخلال بالتوازن يعكس إفراطاً ما، وكلُّ إفراطٍ هو ضربٌ من طغيان نشاطٍ على حساب نشاطات أخرى. والحدودُ الفاصلة بين هذه المراحل من عدم التوازن ليست واضحة تماماً. وظاهرة هذا التداخل لا تسمح بتحديد حاسم يشير بصورة مؤكدة إلى اللحظة التي فيها يمرُّ مجتمعٌ من منطقة إفراط ما إلى منطقة أخرى. لكن المجتمع الإسلامي المعاصر يُكَوِّن حقل دراسةٍ يقدم ملاحظاتٍ قيمةً لعالم الاجتماع المهتم بهذه القضايا. وقيمة هذه الملاحظات لا تبرز فحسب في مستوى الفحص السريري، فالمسلم الذي يعكف على دراسة الأمراض الاجتماعية في الدول الإسلامية لا يكشف عن أمراضها لمجرد كونه مهتماً بمعرفتتها، أو بالتعريف بها، بل إنه يتمنى على العكس أن تأخذ النتائج القليلة التي يستخرجها سبيلها إلى الذين بأيديهم وسائل المعالجة في تلك البلاد، إلى قادة السياسة وقادة الثقافة. فالمجتع الإسلاميّ قد أدرك منذ قرنٍ نهاية أشواط حضارته. وهو اليوم من جديد في مرحلة ما قبل الحضارة. ومنذ قرن تقريباً يحاول أن يتحرك من جديد لكن إقلاعه يبدو صعباً بالمقارنة مع مجتمعٍ (معاصر) كاليابان، أو مجتمع جاء إقلاعه متأخراً عنه؛ كالصين الشعبية. وهذه الصعوبات قد فُسِّرت بطريقتين مختلفتين: بالنسبة لأنصار الموضوعة الاستعمارية فإنّ عامل التأخر عن الإقلاع هو الإسلام. وبالنسبة لأنصار الموضوعة القوميّة فإن الاستعمار هو المسؤول عن ذلك.

وفي كلا التفسيرين عيبٌ أساسي لغموض في أساسه. فالأولون إذ يضعون كل شيء على ظهر الإسلام؛ يريدون أن ينسوا أن الاستعمار مسؤول عن النصيب الأكبر من الفوضى الحالية للمجتمع الإسلامي. والآخرون الذين يُحمِّلون الاستعمار كل شيءٍ؛ يريدون أن يطمسوا (ديماغوجيَّتهم) التي لا تخفّف شيئاً من حدة المشكلة، بل إنها على العكس تزيدها. الأولون يتناسون الواقع التاريخي بتجاهلهم الدور الذي قام به الإسلام في إحدى أعظم حضارات الإنسانية. والآخرون يجهلون أو يتجاهلون أن الدول الإسلامية الأكثر تخلفاً هي بالتحديد الدول التي لم تواجه تحدي المستعمر (كاليمن مثلاً). ينبغي أن نتناول المشكلة دون مواقف متميّزة لا تجدي فتيلاً، خصوصاً إذا كان الباحث مسلماً يحاول أن يفهم الأسباب الاجتماعية للفوضى التي تعم العالم الإسلامي اليوم. ففي الفصل القادم سنرى أن كل مجتمع مضطرٌ لأن يواجه اتجاهاتٍ من عدم التوازن. فهذا أمرٌ يلازم كل تطورٍ تاريخيٍ. والمجتمع الإسلامي يعاني في الوقت الحاضر بصورة خاصة من هذه الاتجاهات لأنّ (نهضته) لم يخطط لها، ولم يفكر بها بطريقةٍ تأخذ باعتبارها عوامل التبديد والتعويق. فمثقفو المجتمع الإسلامي لم يُنشئوا في ثقافتهم جهازاً للتحليل والنقد إلا ما كان ذا اتجاه تمجيدي يهدف إلى إعلاء قيمة الإسلام.

أ - فعلى الصعيد النفسي والأخلاقي

أما القادة السياسيون فإنهم لم يؤمنوا بضرورة إنشاء مثل هذا الجهاز ليراقبوا مسيرة العمل في بلادهم. هكذا أضحى عمله التاريخي منذ قرن خارج مقاييس الفعالية، وأضحى تنفيذه في ظل فوضى الأفكار. وإذا وجد هذا العمل نفسه مصطدماً بصعوباتٍ، وإهدارٍ للوقت، وتبديد للوسائل وانحرافاتٍ؛ فذلك ناتجٌ عن عدم التماسك في الأفكار، وطغيانِ الأشياء أو طغيانِ الأشخاص. لقد تناولنا الجانب الأول؛ جانبَ عدم تماسك عالم الأفكار سابقاً، وسنعود إليه ثانيةً لأنه مفتاح هذه الدراسة، ونخصص هذا الفصل لدراسة الجانبين الآخرين في مرحلة العالم الإسلامي الحاضر؛ فهذا العالم يواجه طغيان الأشياء على أصعدةٍ مختلفةٍ. أ - فعلى الصعيد النفسي والأخلاقي عندما يتمحور عالم الثقافة حول الأشياء تحتل الأشياء القمة في سلم القيم، وتتحول- خلسة- الأحكام النوعية إلى أحكام كلية دون أن يشعر أصحاب تلك الأحكام بانزلاقهم نحو (الشيئيّة)؛ أي نحو تقويم الأمور بسلم الأشياء. فالموظف يعتمد في تحديد رتبته في الترتيب الإداري بعدد الأجهزة التي يستعملها أو لا يستعملها، ففي مكتبٍ واحدٍ لموظف كبير أحصيت أربعة تلفونات أمامه، وخمسة أجهزة تكييف من حوله. وفي العاصمة العربية نفسها كان يسلم عليَّ شابٌ مثقفٌ؛ وكان ابن شخصيةٍ ذات مقام معنويٍّ رفيعٍ، لكنه توقف عن تحيتي منذ اليوم الذي رآني فيه على رصيف محطةٍ نازلاً من عربة الدرجة الثالثة. إن (الشيئية) تجرُّ إلى هفواتٍ كثيرة ذات مغزى، وخاصةً في مجال الأدب السياسي.

ب - وعلى الصعيد الاجتماعي

ففي كلمة تأييد لإحدى البلاد تقرأ عبارة (الحكومة وشعبها). لقد عُكِست علاقة الملكية: فبدلاً من أن يكون للشعب حكومة أصبح للحكومة شعبٌ، وأضحى المالك مملوكاً. بيد أن هذه الهفوة من أعراض انعكاس سلم القيم. ب - وعلى الصعيد الاجتماعي نتصدى للمشكلات في جانبها الكمي، والحلول التي تهمل الجانب النوعي تصاغ بعباراتٍ كميةٍ. ففي إدارةٍ (ثورية) تم تجهيز مركزها بعددٍ كبير من المكاتب الفخمة التي لم تعرف أبداً أين تضعها، لقد رأيت عدداً منها لا بأس به مكدساً بعضها فوق بعضٍ في أحد الأفنية، ومن حسن حظها أن السماء لا تمطر كثيراً في ذلك البلد، لكن الشمس تستطيع أن تتلف الخشب لأنه كان جبلاً من المكاتب الخشبية. كذلك أراد أحد مراكز الاستشفاء أن يزود باحة مؤسسته بالسيارات؛ فجلب عدداً كبيراً منها رأيتها واقفة على عجلاتها، وهي جديدة لم تستعمل بعد. وبعضهم شرح لي بأنها متوقفة في هذا المكان منذ عامين. فللشيئية نتائج على الصعيد الاجتماعي، إنه التطور القصوري ( entropique) أي استلاب سلطة المجتمع وتبديد وسائله. إن النزعة الكمية والشيئية تولدان مظاهر اجتماعية غير متوقعة؛ فعلى باب إدارةٍ كان موظفٌ يراقب الداخلين ويسجل أسماءهم، وإذا ما عدت في اليوم التالي ترى أن التسجيل والموظف الذي يتولاه غير موجودين وهكذا تدخل. فالوظيفة قد ذهبت مع الموظف.

جـ - على الصعيد الفكري

جـ - على الصعيد الفكري هناك أيضاً أعراض مميزة لطغيان الأشياء. فلا يُسأل الكاتب الذي أنهى كتاباً أي بحث قد عالج وكيف عالجه. إنه يُسأل عن عدد الصفحات، وأحياناً يقع المؤلف نفسُه فريسة الشيئية. فهناك مثقفٌ جزائري أخبرني يوماً أنه أنهى كتاباً يقع في كذا صفحة. د - على الصعيد السياسي تستلب الشيئية وطغيان الأشياء قدرات المجتمع في ميادين أخرى؛ خصوصاً ميدان التخطيط عندما يواجه بلدٌ ما مشكلة التخلّف، إما باستثمار رؤوس أموالٍ أجنبيةٍ، أو بزيادة معدل الضرائب التي تشلّ كل أوجه النشاط الفردي بأن تمهّد لقيام نظامٍ ضريبي تفصيليّ. ولكن في المرحلة الحاليّة للمجتمع الإسلامي تشهد تداخلاً بين طغيان الأشياء وطغيان الأشخاص، ويترتب على طغيان الأشخاص نتائج ضارة على الصعيدين، الأخلاقي والسياسي خاصة. 1 - على الصعيد الأخلاقي: عندما يتجسد المثل الأعلى في شخصٍ ما، هناك خطرٌ مزدوج: فسائر أخطاء الشخص ينعكس ضررُها على المجتمع الذي جسّد في شخصه مثله الأعلى. وسائر انحرافات ذلك الشخص تترصد كذلك في خسائر، وتكون هذه الخسارة إما في رفض للمثال الأعلى الذي سقط، وإما في ردّةٍ حقيقية يعتقد عبرها بإمكانية التعويض عن الإحباط باعتناق مثلٍ أعلى آخر. وفي كلا الحالتين فنحن نستبدل دون أن ندري مشكلة الأشخاص بمشكلة الأفكار. وقد سبب هذا الاستبدال كثيراً من الضرر بالأفكار الإسلامية المتجسدة بأشخاصٍ ليسوا أهلاً لحلها. فمن ذا الذي يستطيع أن يجسد الأفكار دون أن يعرض المجتمع للخطر؟.

على الصعيد السياسي

إن خطر التجسيد قد وضعه القرآن صراحة في الوعي الإسلامي بقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 3/ 144]. هذا التحذير ليس موجهاً هنا لتفادي خطأٍ أو انحرافٍ مستحيل من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه من أجل الإشارة إلى خطر تجسيد الأفكار بحدِّ ذاته. 2 - على الصعيد السياسي: بالإمكان أن تحصي في بلدٍ إسلامي واحدٍ عدداً لا بأس به من الكوراث التي كان ممكناً تجنب وقوعها لو لم تُستلب أفكار - دافعة بفعل تجسيدها. وواحدة من أكثر الأفكار - الدافعة عظمةً والتي ارتعد لها الاستعمار في الجزائر هي فكرة (المؤتمر الإسلامي الجزائري) الذي أقيم سنة (1936). لقد أريد أن تتجسد هذه الفكرة في أحد المثقفين السياسيين؛ فماتت الفكرة بعد مرور شهرٍ واحد؛ لأن ذلك المثقف لم يكن أهلاً بالحد الذي يجعل منه سنداً لها. والجزائر ليست البلد المسلم الوحيد الذي دفع غالياً ثمن تجسيد الأفكار. إن عبادة (الرجل السماوي) كعبادة (الشيء الوحيد) منتشرة في جميع أنحاء العالم الإسلامي المعاصر، وتكون أحياناً سبب ما نشهده من حالات إفلاس سياسيٍّ مذهلة. وإذا نظرنا إلى الأمور من زاوية الصراع الفكري فإننا نشعر من هذا الجانب أن الاستعمار يستطيع استغلال هذا الاتجاه المرضي لتجسيد أفكار نا خصوصاً في الإطار السياسي. ويمنعنا هذا الاتجاه أحياناً من استخراج العبر من الفشل، وذلك بتجسيد

أسباب الفشل فوراً في شخصٍ يكون (رجل نحس)؛ بدلاً من التفكير ملياً وجدياً بالدروس التي نستخرجها منها. فمثلاً عندما وقع الانفصال بين سورية ومصر عام (1961)؛ والذي سجل فشلاً أليماً لفكرة الوحدة العربية استمعت إلى راديو دمشق وراديو القاهرة لمعرفة التفسير الذي سيعطى لذلك الحادث المؤسف، وعلى الأخص استمعت إلى راديو القاهرة الذي كان يعزو الحديث إلى رجل نحسٍ، إلى مدبّر الانقلاب، الضابط السوري (الكزبري)، وذلك بدلاً من البحث عن الأسباب الحقيقية للانفصال في عالنا الثقافي؛ بطريقة أعمق وأكثر فائدةً للأمة العربية. وفي حين كان واضحاً أن الانقلاب سيقع بالكزبري أو بدونه؛ لأنه لم يكن يتوفر في عالمنا الثقافي فكرة مضادةٌ له، بل على العكس من ذلك، كانت هنالك العوامل المشجعة جميعها. (فالرجل السماوي)، أو (الرجل النحس): هما اللذان يُستَغَلاَّن بصفةٍ دائمةٍ، ويُزجَّان حتى دون علمهما من أجل إجهاض بعض الأفكار. إن تناقض الفكرة والوثن قد ضمن بصفةٍ عامةٍ للاستعمار نجاحه الباهر في الإجهاض السياسي في بلادنا؛ مستخدماً غالباً مثقفينا أنفسهم. إن أقلّ الناس اقتناعاً بالقيمة الاجتماعية للأفكار: هو في الغالب المثقف المسلم، وهذا يفسر لماذا فضَّل عددٌ لا بأس به من المثقفين في الجزائر منذ ثلاثين عاماً الدوران في فلك بعض الأوثان، بدلاً من أن يكرسوا أنفسهم لخدمة بعض الأفكار. ولابد، في النهاية أن نذكر في هذا الفصل نوعاً آخر من الطغيان: طغيان الأفكار؛ (إنه مرض نخبة المجتمع).

ففي مجتمع متحضر تبدو اللحظة التي فيها يبدأ المثقف تكيفه مع الحياة الاجتماعية؛ أي عندما يفقد إيمانه بدوافعها؛ عندئذ ينطلق في البحث عن دوافع جديدة في كهوف أقبية (سان جرمان) في سهوب (نيبال) الممتدة على سفح همالايا، أو إنه يُكرس طاقته الحيوية لإقامة المتاريس؛ كما حدث في باريس عام 1968 دون أن يعلم بوضوح هدف انطلاقه هذا. أما في البلاد المتخلفة؛ فإنه ليس العجز عن التكيف وعدم الارتباط بعالم الأفكار المخذولة الذي يأخذ أشكال الطغيان، بل إنه عدم التكيّف نفسه. إنها الأفكار المكتسبة عبر الكتب التي تولّد الطغيان في مواقف تكون أحياناً (كاريكاتورية)، ففي إحدى المحاضرات عن تركيب الأدوية أجهد الأستاذ نفسه في وصف إحدى النباتات. وبدلاً من أن يمد يده ويقطفها من فناء الكلية ليقدمها إلى طلابه، كان يبحث عن شكلها في الكتاب أثناء محاضرته؛ بينما هي تحت نافذة قاعة التدريس.

الفصل التاسع جدلية الفكرة والشيء

الفصل التاسع جدليّة الفكرة والشيء • الصراع بين الفكرة والشيء. • فقدان التوازن في هذا الصراع: - طغيان الشيء في المجتمات المعاصرة. - ندرته في البلاد النامية والكلف به. - وفرته في البلاد المتقدمة ووساوسها نحوه تؤديان إلى مواجهة الشيئية بحالةٍ نفسيّةٍ واحدة. ــــــــــــــــــــــــــ إنّ للعالم الثقافي بنيةً (ديناميكية) تتوافق مظاهرها المتتالية مع علاقات متغيرة بين العناصر الثلاثة الحركيّة: الأشياء- والأشخاص- والأفكار. لقد حاولنا أن نثبت في فصلٍ سابق لحظات الأزمة في مجتمع ما؛ حينما يكون في عالمه الثقافي انقطاعٌ لحبل التوازن لصالح طغيان عنصرٍ من العناصر الثلاثة. أما اللحظات الأخرى: فهي فواصل زمنيةٌ تتحدد بالاتجاهات التي تتوافق مع عمر المجتمع ومرحلة حضارته. والفاصل الزمني: هو صراع بين العناصر الثلاثة في قلب العالم الثقافي. أما الأزمة فهي نهاية هذا الصراع عند انتصار واحدٍ من الأبطال المتصارعين وظهور طاغية يستولي على السلطة في قلب العالم الثقافي.

وهنا فإننا سنحاول عزل الفواصل في صراع الفكرة والشيء وذلك لمعناه الاجتماعي الخاص. هذه العلاقة لا تجد تعبيرها فحسب في المجتمع الإسلامي الذي يواجه في هذه الآونة (الشيئية) وسائر نتائجها النفسية والاجتماعية، بل يمكن اعتبارها أيضاً بالنسبة للمجتمع المتحضر وسيلة تحليل لوضعه الحاضر؛ من وجهة النظر النفسية الاجتماعية. فكل فكرةٍ جاهزةٍ في أوربة وتتمحور بقليلٍ أو كثيرٍ حول موضوعنا تستطيع أن تثيرنا، وهي تثيرنا بالرغم من تناقضاتها أحياناً. فالمشكلة في الواقع ذات وجهٍ مزدوج. ففي بلدٍ متخلفٍ يفرض الشيء طغيانه بسبب ندرته، تنشأ فيه عقد الكبت والميل نحو التكديس الذي يصبح في الإطار الاقتصادي إسرافاً محضاً. أما في البلد المتقدم وطبقاً لدرجة تقدمه: فإن الشيء يسيطر بسبب وفرته وينتج نوعاً من الإشباع. إنه يفرض حينئذ شعوراً لايحبهل من السأم البادي من رتابة ما يرى حوله فيولد ميلاً نحو الهروب، ذلك الهروب إلى الأمام الذي يدفع الإنسان المتحضر دائماً إلما تغيير إطار الحياة والموضة، أو يدفعه إلى الذهاب ليستنشق الهواء في مكانٍ آخر. إن نظام الإجازات المدفوعة ليس سوى ثمن هذا المركز الذي تحتله الأشياء؟ إنه الدواء المسكِّن لداء عدم الاستقرار الذي يقود المجتمع الاستهلاكي. إن المجتمع المعدم يتفاعل مع الكلف بعالم الأشياء الذي لا يملكه، أما المجتمع المليء فإنه يتفاعل مع وساوس هذا العالم.

ولكن مع هذين الانفعالين فإن المجتمعين كليهما يواجهان الداء ذاته، فطغيان الشيء يختلف الشعور به، ولكن النتائج النفسية المنطقية واحدة. فالشيء يطرد الفكرة من موطنها حين يطردها من وعي الشبعان والجائع معاً. هذه النتائج في المجتمع الإسلامي تأخذ أحياناً أشكالاً تدعو للسخرية؛ حينما يحل الشيء محل الفكرة بطريقةٍ ساذجةٍ لينشىء حلولاً مزيفة لمشكلاتٍ حيوية. ونلاحظ ذلك في المراتب العليا للدول المستقلة حديثاً؛ حتى في مستوى التعليم العالي الذي يفترض فيه تحديد الاتجاه العام لمثقفيها. وأسوق هنا هذه المذكرات المقتبسة من وثيقةٍ تتعلق بإدارة معهد طب الأسنان بالجزائر وتعود إلى عام 1965 وأثبت النص بحرفيته: ((إن أحد الدلائل المعبرة عن الوضع الحالي لمعهد طب الأسنان، هو الحال التي يوجد عليها القسم الأكبر من اللوازم التقنية. في الواقع إن 57 وحدةً علاجية من أصل 60 وحدةً معطلةٌ في الوقت الحاضر (1965)، وهذا يعني من منظار الميزانية أن حوالي (300) مليون فرنك فرنسي قديم مجمدةٌ في استثمارٍ عقيم. ولا بد أن نضيف بأن اختيار تلك اللوازم من حيث المبدأ كان سيِّئاً. لأنه لا يجوز أن يسلم إلى الطالب المبتدئ جهازً مخصص لعيادة جراح الأسنان، ففي مدارس طب الأسنان في البلاد المتقدمة يتم التعليم بأدواتٍ زهيدة الثمن وعلى كراسٍ عادية بالأخص. والجدير بالملاحظة علاوةً على ذلك أنه في الوقت الذي تتوفر فيه (في معهد طب الأسنان هذا) كميةٌ كبيرة من اللوازم الثابتة الباهظة الثمن من غير أن تكون ضروريةً هناك نقصٌ في الأدوات الصغيرة التي لا غنى عنها للطبيب وخاصة للمبتدئ)).

هذا لدرجة أن المعهد يبدو في النهاية وكأنه منصةٌ لعرض معدات الأسنان، وليس ورشة عملٍ أو مختبراً للتعليم. والتعليم في الواقع يصبح طبقاً لذلك دون أية صفة علمية؛ إذ سيقتصر على تخريج مجرد قالعي أضراس وليس أطباء جراحين. ومثلاً نرى أستاذاً في طب الأسنان يكلف بإعطاء دروس في الأمراض البولية، وأما أوقات التدريس فهي فوضوية لدرجة أن الأستاذ يختار أي توقيت وأية مجموعة تلاميذ ليعطيها درسه. ونتيجة لذلك في نهاية العام الدراسي: أن الأستاذ الشريف الذي يغوص في هذه الفوضى لا يعرف كيف يقدر علامات الطالب. إن هذه الوثيقة الإدارية البسيطة تدل على افتقاد توازن يؤثر على علاقة (الفكرة بالشيء)؛ حتى على الصعيد الجامعي في بلدٍ من البلدان المتخلفة. وهذا خللٌ صارخٌ تظهر آثاره السلبية على الصعيدين الاقتصادي والتربوي على حدٍ سواء. ومن الممكن مراقبة تلك الآثار وحسابها على يد هيئةٍ إداريةٍ حريصة على حسن إدارتها. إن الحالة التي اخترناها تمثل خللاً في العلاقة على حساب الفكرة تصل إلى درجة (الشيئية) الصرفة: أي إلى درجة المادية الأولية عند الأطفال. أما في مجتع متقدم فإنه يمكن لطغيان الشيء أن يتخفى خلف مظاهر أكثر خداعاً. وهذا الاختلال يبدو في مستوى ثقافيٍّ أعلى. وآثاره الكامنة فيه علاماتٌ لا تكاد تدرك وهي تنبئ عن أزماتٍ مستقبلية إيديولوجية؛ وحتى سياسية حينما نقرؤها في ثنايا بعض الأحداث الجارية. ولا بد لهذه العلامات من أن تلفت انتباه المراقبين في المجتع الرأسمالي وفي المجتمع السوفياتي على حدّ سواء، فمنذ عشر سنوات قام أحد المراقبين بإجراء تحقيق

في فرنسا تحت عنوان (دراسة اجتماعية لفشل) (¬1) موضوعها أسباب إخفاق الاشتراكية في إنكلترة، ومما لاحظه: أن البلد الأوروبي الذي يحصي العدد الأكبر من الأجراء لم يعط أكثر من 50% من الأصوات لحزبه الاشتراكي؛ لأن الأهداف التي كان هذا الحزب يعد الأجراء بتحقيقها قد أمَّنَها لهم المحافظون. وعندما يحيط (أدغار مورين) بالظاهرة في المجال السياسي: لا يقدم تفسيراً للتطور النفسي الذي غرس في وعي العامل الإنكليزي- ومن دون أن يشعر- تنكرًا للفكرة الاشتراكية: التي قادت معركته في العصر البطولي لصالح المكاسب (المادية) التي وعدت بها. هذا هو الأمر الجوهري من وجهة النظر النفسية: إنها (الأشياء) التي تحدد في النتيجة التصويت للمحافظين، أو تقر ميزان الأصوات لصالح الاشتراكيين. إن المرور العابر على هذه النقطة الجوهرية دون التوقف عندها قد قاد (أدغارمورين) إلى علاجٍ خطيرٍ وهو لا يخلو على الأقل من الجرأة وهو: علاج الداء بالداء دون التأكد مما إذا كان المرض سيقضي على المريض أو العكس. والواقع أنه في بادئ الأمر يذكر الفراغ المروع، والوحدة، واليأس التي تستبطنها حضارة الرفاهية ... ، ويدرك بوضوحٍ كبيرٍ نتيجة ذلك؛ فيضيف قائلاً: ومع ذلك سيظهر في المجتمعات المتقدمة؛ إذا ما واصلت سباقها نحو الرخاء لا معقولية الوجود العقلاني، وهزال حياةٍ تفقد كل رابط حقيقي مع الآخرين، وتفتقر للإنجازات الخلاقة، وتحصد الحرمان في عالم الأشياء والظاهر .. وتستحوذ عليها أزمة العنف عند الشباب، وتُبَرِّحُها آلام الوجودية عند المفكرين. ¬

_ (¬1) تحقيق قام به (أدغار مورين)، ونشر في النوفال او بسرفاتور تحت عنوان ((دراسة اجتماعية لفشل)): (أي لفشل الإيديولوجية الاشتراكية في إنكلترا).

يا لها من نبوءة صادقةٍ؛ فهذا الكلام هو وصفٌ دقيق لأحداث مايو/ أيار (1968) ولهيجان الشباب الذي رافقها، قد صدر عن (مورين) قبل عشر سنوات من هذه الأحداث. إنها نظرةٌ تشخيصيةٌ دقيقةٌ. لكن (أدغار مورين) يستخلص منها علاجاً يتسم بالمخاطرة، أو هو على الأقل غير كامل؛ حينما يحدد له نتيجة وحيدة هي قوله: ((يجب أن نعيش حضارة الرفاهية في العمق، وهذه يجب أن تتحقق في حضارة الوفرة لكي تنشئ نقدها الذاتي وأبعادها المستقبلية الخاصة بها)). إن هذه الخاتمة البركانية تنطوي على شيء من التناقض. فحينما يوصي (مورين) بأن يترك الداء حتى يصل إلى منتهاه فينتج بنفسه دواءه؛ فذلك يعني أنه في تشخيصه لم يأخذ باعتباره أي علاجٍ له. وفي هذه الحالة قد يأتي (النقد الذاتي) - كما حدث في باريس (1968) - في شكل معارضةٍ لا تبتغي الإصلاح، بل ترسخ فوضى لا هدف لها سوى الفوضى، معارضة لا تكون تحريراً وعتقاً من عبودية الأشياء وإنما تفجيراً للأفكار في المدينة. وقبل أن يكون الداء اجتماعياً هو داءٌ نفسيٌ، وهو لا يكن في درجة إشباع مجتمع لأنه يستهلك؛ ولكنه يكن في اتجاه علاقة الفكرة بالشيء في وعيه، ذلك الاتجاه الذي يستطيع أن يتحول نحو الفكرة أو نحو الشيء. إن اختلال توازن هذه العلاقة لصالح الشيء: هو الذي ولّد الاضطراب الذي لا يقتصر على نطاق الدول التقدمة؛ وخاصةً منها المشبعة بالأشياء، بل يمتد أيضاً إلى البلاد الأقل (استهلاكاً) كالاتحاد السوفياتي. إننا نعلم شيئاً، من ذلك عبر المناقشة المفتوحة والتي جرت على صفحات

(البرافدا) قبل تحقيقات (أدغار مو ران) بوقتٍ قصير، حول (العالم الروحي لإنسان اليوم)، فقد نشر تنظيم الشباب السوفياتي في عام (1959) رسائل الشباب- وقد لا تكون الرسائل كلها- الذين اشتركوا في المناقشة. ونستطيع أن نشير إلى اثنتين منهما تعطيان صورةً أخاذةً عن الاضطراب في صفوف المثقفين السوفيات. ووفق تعبير مهندس:، (فإن مجتعاً يحتوي عديداً من المهندسين الذين يكرسون أنفسهم كليةً لعملهم، والقليل من الأشخاص الذين ينتشرون بحثاً عن ثقافةٍ عامة، إن مجتمعاً هذا شأنه سيصبح أشد قوةً من ذلك المجتمع الذي يكثر فيه عدد الباحثين في العلوم الإنسانية ويقل فيه عدد التقنيين)). وفي رسالةٍ أخرى ويبدو أنها جوالاً على ما سبق يكتب طالب فلسفة: ((إذا كان الناس يعيشون فقط ليأكلوا وإذن فإن بلاداً توفر الحاجات وهي متقدمة تقنياً، كالسويد، يمكن أن تكون مثلاً يحتذى. أما إذا كان الهدف الأساسي لكل مجتعٍ توفير أكبر عددٍ من الناس الذين ينصرفون كلياً لمهنتهم؛ حينئذ يصبح مثلنا الأعلى أميركا)). هذه هي إذن القضية ( Thèse) ونقيضها ( Antithèse) في بلاد الحزب الواحد، والإيديولجية الآحادية، حيث إن فقدان التوازن في علاقة الفكرة بالشيء بدأ يوحي بشعورٍ مضادٍ لا يصبّ في صالح الإيديولوجية الماركسية؛ ولكن لصالح فكرة لا تكون متورطةً في نظام (الأشياء) الحاضر. ويقع طالب الفلسفة على حدود الإيديولوجية الماركسية في بحثه عن شيءٍ من التوفيق لم يتحدد بعد في عالم ثقافي آخر. هذه لحظةٌ حرجةٌ في الثقافة السوفياتية، لحظة نفسية يبدأ فيها طغيان الشيء يداخل الشعور ويستهوي لصالحه روابط الإنسان بالمقدس.

إن الشيء هو الذي يصبح مقدساً في وجهة النظر التي عبر عنها المهندس. والجدير بالذكر أن هذا المهندس لا يقتبس حجته في طرحه لموضوعته من عالم الأفكار بل من عالم الأشياء التي تصنع ((المجتمع الأكثر قوة)). ومن ناحيةٍ أخرى لابد أن نشير إلى: أن طالب الفلسفة لا يفصل في القضية باسم فكرة ماركسية تؤمِّن شروط الرخاء وقوة المجتمع؛ كما فعل أخوه الأكبر منه ببضع عشرة سنةً. فنحن نراه متردداً، يضع قدميه في السويد مرةً، ومرة في أمريكا؛ من أجل أن يثبت في النهاية ماذا؟ ليس سوى الفراغ الروحي الذي ران على عالم الإنتاج، والذي تشتد وطأته على ضميره. إنه لا يستعمل في الحقيقة تعابير مورطة في بلاد المادية الجدلية. ولكن ينبغي أن نعيد وضع تعابيره في إطار البحث في (العالم الروحي المعاصر) وأن نثق بحس الملاءمة عند الذين قاموا بهذا التحقيق. وفي هذا الإطار، فإن فلسفة المهندس هي فلسفة الرجل الذي تسيطر عليه عبادة القوة. إنه ينتمي إلى عالم ثقافي تتخذ فيه الأشياء التي تحقق القوة طابعاً قدسياً. في حين أن طالب الفلسفة هو الإنسان المختنق بهذا الإطار. وواضح أن رسالته حملت في تضاعيفها رداً على الرسالة الأولى. إنها محاولةٌ للتملص من طغيان الأشياء؛ ليعود إليه التوازن في العلاقة بين الفكرة والشيء لصالح فكرةٍ لم يفصح عنها، أو هو لم يكتشفها بعد. إنها البحث عن فردوس لم يجده بعد، أو ربما عن فردوس فقده. إن المجتمع السوفياتي لم يعد يجد في داخله بعض الألحان المطبوعة: التي كان قد استلهمها من

اللحظات الكبيرة التي حققت بناءه في عصر (لينين) أو (ستالين)، وتلك الاندفاعة التي ساندته في (ستالينغراد). فبعد أن عبر جسر منتصف القرن، دخل المرحلة الثانية من التحصر، ووصل إلى العتبة التي تصبح فيها الألحان الأساسية غير مقروءة من على أسطوانة عالمه الثقافي الأصيل. ولقد رأى على هذه العتبة صراع الفكرة والشيء، حيث فرص النجاح منقسمةٌ بين المتصارعين المتنافسين، فحيناً تميل إلى جانب طالب الفلسفة فيما عبر عنه من أفكار، وأحيانا إلى جانب المهندس فيما جنح إليه في رسالته. وفي مجتمع شيوعي آخر؛ الصين الشعبية كاد الصراع أن يحسم لصالح الشيء، كما هو الحال في وسط طبقة العمال الإنكليز التي أشرنا إليها، ففي خضم الثورة الثقافية فإن (ليوشاوشي) حاول أن يوقف موجة الثورة العامة حين ألقى لطبقة العمال قبضةً إضافيةً من الرز وأجراً أفضل. لكن العامل الصيني لم ينخدع بهذا الكرم الذي يسلمه لسلطة الشيء؛ (فماوتسي تونغ) لم يحتج لأكثر من كلمةٍ يعيد التوازن لصالح الفكرة، فقد أعلن إدانة (الاقتصادانية) وتابع الشعب سيره في طريق الثورة. لقد كان من الخير أن يتكلم في زمنٍ كانت الصين فيه تغني نشيد ميلادها، هذا النشيد الذي أسمعه لأميركا أول قمر صناعي وهو يمر في سمائها. لكن حقبة (اليوشاوش) تترك لنا مقياساً مفاده أن كل الثوريين المزيفين لا يتوانون عن استعمال سلطة الأشياء وإغرائها ضد الأفكار. هذا وتطبق اليوم هذه الأساليب في بعض القطاعات العربية. ففي اللحظة التي ينبثق مع الثورة الفلسطينية فكرةٌ تنذر بجرِّ العالم العربي في ركابها، هنالك

(ليوشاوشي) صغير في أحد المنظمات يستعمل بريق الأشياء (خطف طائرة هنا أو هناك) لكي يحظى ببعضٍ من تألق الثورة، ولكي يكشف في الوقت نفسه عن انحراف يساري كفيل بأن يحذر الضمير العربي من هذه الفكرة. إن صراع الفكرة والشيء يكون تارة من نتاج التاريخ في اطراد الحضارة، وتارةً أخرى حصيلة مناورةٍ سياسيةٍ؛ كما هو في مثال (ليوتشاوشي). لقد اجتاز المجتمع الإسلامي هذه الخطوة المشعرة باقتراب الانفصام في قلب العالم الثقافي؛ يوم أن قال عقيل أخو علي بن أبي طالب: ((إن صلاتي مع عليّ أقوم وطعامي عند معاوية أدسم)). إن هذه الحياة النفسية المنقسمة بين الطعام والصلاة كانت من أعراض بداية الصراع بين الفكرة والشيء. وقد واصل هذا الصراع طريقه منذ ذلك الوقت. وعندما فكر الغزالي بعد مضي أربعة قرون أن يجدد في العلاقة الدينية بين المجتمع المسلم والعالم الثقافي كان الأوان قد فات. فقد كانت المرحلة الثالثة من الحضارة قد بدأت، ولم يكن بمقدور المجتمع الإسلامي إلا أن يواصل انحداره حتى يصل إلى عصر ما بعد الموحدين، ولم يكن بمقدوره وهو يسترسل في المنحدر المشؤوم أن يسترد توازنه الأصلي.

الفصل العاشر صراع الفكرة- الوثن

الفصل العاشر صراع الفكرة- الوثن • العلاقة بين الفكرة والشخص. • الفكرة- الشخص قد تصبح فكرة- وثن: - الجاهلية والوثنية متلازمتان في الوجود والعدم. • جهل الشعب النظيف، وجهل المثقف الأخرق. ــــــــــــــــــــــــــ أثبتنا سابقاً أن عالم الأشخاص ينطوي كلياً في العالم الثقافي للمجتمع بقطع النظر عن مرحلته من التطور وعمره النفسي في تلك المرحلة. هذه حالة عامة؛ لكنها تصبح حالةً خاصةً في مجتمع يمرُّ بعمر معين أو إثر حادثٍ ثقافي، حين يشرع في هيئة أفكار هـ وتحديد أحكامه طبقاً لمعايير تنحو بها العلاقة بين الفكرة- الشخص نحو هذا الأخير إضراراً بالفكرة. في هذه الحالة يصبح لدينا خللٌ في التوازن الثقافي، تولِّد فيه المغالاة نوعاً من الطغيان سبق أن أشرنا إلى نتائجه الاجتماعية في بعض البلاد الإسلامية. وأخيراً يمكن لهذا الاختلال أن يتأصل بدوره حينما لا يكون عالم الأشخاص على وجه عام هو الذي يستقطب النشاطات الثقافية بل بوجه خاص فإن شخصاً معيناً هو الذي يستقطب. في هذه الحالة هنالك قضية اختلال أساسي للتوازن، تكون معه العلاقة بين

الفكرة والشخص مرتهنةً لشخص يستحوذ لصالحه على سائر الروابط القدسية في عالم الثقافة. والواقع أنّ هذه العلاقة تمازجها الأسطورة، وتصبح مخادعةً في شكلها المتطرف إذ تغدو الفكرة- الوثن. إنها حوادث ثقافية تقع دائماً، ولثقافة القرن العشرين واحدة، منها في إيطاليا في شخص (موسوليني) وأخرى في ألمانيا في شخص (هتلر). إلا أننا نفضل هنا أن نبرز حالة لاحظناها في البيئة الإسلامية في الجزائر بسبب ارتباطها المباشر بموضوع هذه الدراسة (¬1). لقد أطلق القرآن الكريم تسمية الجاهلية- أي الجهل- على الوثنية التي سيطرت على الجزيرة العربية قبل الإسلام ومع ذلك لم تكن تلك الجاهلية فقيرة في صناعة الأدب، فقد حفلت هذه الفترة بألمع الأسماء. لكنها ظلت تسمى الجاهلية أي عصر الجهالة لأن علاقاتها المقدسة لم تكن مع أفكار وإنما كانت مع أوثان الكعبة. فالكلام العربي آنذاك لم يكن يتضمن سوى كلماتٍ براقة وخالية من كل بذور خلاقة. وإذا كانت الوثنية جهالة فالجهالة بالمقابل وثنية. وليس من قبيل الصدفة أن الشعوب البدائية تؤمن بالأوثان والتمائم. هذه الجدلية تحدد طبيعة علاقة الفكرة- الشخص؛ التي تنقلب عند التطرف إلى علاقة فكرة- وثن. وبفضل تلك العلاقات المنجرفة نحو التطرف فإن الشعب الجزائري أقام قبب مرابطيه وأوليائه، وحافظ على عكوفه عليهم عبر قرون ما بعد الموحدين. ¬

_ (¬1) لقد عالج المؤلف الحالة في كتابه (شروط النهضة) الذي اقتبس منه هذا الفصل كاملاً فيها بعض الحذف.

وحتى عام (1925) فإن الوثن كان يسيطر في ظل الزوايا حيث أرواحنا المتسكعة تذهب لالتماس البركات واقتناء معجزات الحجاب. ففي كل مرة تختفي فيها الفكرة يهيمن الوثن من جديد. والعكس صحيح. ففي عام (1925) كانت النتيجة المقابلة: الفكرة الإصلاحية التي خرجت إلى الوجود قد هزت قبب أوليائهم القديمة، وتدحرجت أوثانهم مع أسى عماتنا اللواتي رأين نار احتفالاتهن التقليدية الصاخبة المهداة نذوراً لذكرى الأولياء تنطفئ. لقد خمدت حرارة المرابطين كيما يسترد الضمير الجزائري مفهوم الواجب. والجنة التي يضمنها الشيخ لمريديه بغير ثمن قد أخلت مكانها لمفهوم الجنة التي لا تدرك إلا بعرق الجبين. لقد أمسك الإصلاح بكلتا يديه مصير النهضة واضعاً في خدمتها مصادر الروح الإسلامية التي أفلتت من غفلتها. لقد كانت لحظةً مميزةً فيها وضعت علاقة الفكرة- الشخص في مجرى الفكرة الإصلاحية التي عرفت لحظة (أرخميدس)، وبلغت غاية تألقها في المؤتمر الإسلامي الجزائري عام (1936). فهل كان انتصار الفكرة حاسماً ونهائياً؟ كان ينبغي ألا يكون لدى العلماء في عالمهم الثقافي سبباً يخل بعلاقة الفكرة - الشخص كيما يحولها من جديد إلى علاقة فكرة- وثن. غير أن العلماء حملوا في ذاتهم عقدة نقص تجاه المثقفين السياسيين إذ كانوا يعدونهم حماتهم. والواقع أن العلماء لم يكن لديهم حصانة كافية تحول دون الرجوع بقوة إلى الوثن، متنكراً هذه المرة في زي (زعيم) صانع المعجزات السياسية، ومعه

المعوذات تتخفى في شكل ورقة انتخاب، وتزدهر الاحتفالات المرابطية ( kermesses maraboutiques) في صورة زردة (فتة) (¬1) انتخابية كانوا عبرها يدعون الشعب لتقديم القرابين. حقاً لقد أصاب العلماء دُوَارُ القمة المرتفعة التي ارتقوها وهم يحملون الإصلاح بتحقيق المؤتمر الإسلامي الجزائري عام (1936). فالعلاقة بين الفكزة- الشيء قد أفلتت من أيديهم وهم على تلك القمة العالمية، فهوت في سحيق المستنقع السياسي الموحل حيث الوثن يحتل مكان الفكرة. وهكذا غاص الإصلاح الجدول الذي فيه تسيل (شمبانيا) الولائم الانتخابية، ممزوجةً غالباً بدم الشعب الطاهر، المسفوح لغايات غير طاهرة في أكثر الأحيان. لقد كانوا يزعمون أنهم بهذه الطريقة يرغمون الإدارة الاستعمارية على القيام بإصلاحات للشعب. لقد كانت النية سليمةً إذا ما قوّمناها بمعيارٍ علميٍّ. لكن الإدارة عضو يتكيف أو لا يتكيف مع المجتمع، فإذا هي لم تتكيف فإنها تختفي كما يستشهد (بفربريدج) في كتابه العالم واحد بمقطعٍ لبرك ( burke) (¬2) يقول فيه: ((الدوإت التي لا تملك الوسيلة التي تحقق التغييرات لا تكون لديها وسائل استمرارها الذاتي)). ¬

_ (¬1) إن كلمة marabout هي المقابل الفرذسي لكلمة (مرابط) العريية، وتعني: ناسك، أو: ولي. (¬2) ادموند برك Edmund burke رجل سياسة وكاتب بريطاني (1729 - 1797م) كان يدافع عن استعمار بريطانيا لأميركا. وكان عدو (الثورة). له مؤلف بعنوان (تأملات حول الثورة الفرنسية) نشر سنة 1790

والعلماء الذين كانوا يجهلون هذا القانون الأساسي قد استبدلوا ضمناً ودون أن يدركوا بالسياسة التي تفرض على الإدارة الاستعمارية حتمية التصفية طبقاً للمبدأ الذي قرره ( burke)، سياسة المطالبة التي تمنح الإدارة تأجيلاً لهذا الاستحقاق وتترك لها زمام المبادرة. وبهذا العمل ذهب العلماء أبعد من ذلك: لقد حطّموا التوازن المنقذ الذي رسخت دعائمه بفضلهم في العالم الثقافي الجزائري من أجل الإصلاح. لقد نُفيت الفكرة، وأمسك الصنم بالسلطة في الحياة العامة الجزائرية. وانقطع التيار الإصلاحي فانجرفت المعتقدات الشعبية في تيار (الديماغوجية) المرعد المزبد العقيم، وقد منع البلاد من أن تسمع دقات الساعات الحاسمة عام (1939). إن السياسة التي تجهل القوانين الأساسية لعلم الاجتماع- وهو الذي يعتبر علم بيولوجيا البنى والأجهزة الاجتماعية- ليست إلا ثرثرةً عاطفيةً، ولعباً بالألفاظ وطنطنةً غوغائية. لكن الأفكار التي خانها أصحابها تنتقم. وانتقام الإصلاح الذي غدر به عام (1936) كان بلا هوادة. لقد دارت الآلة إلى الوراء، وعادت البلاد أدراج المراحل التي كانت خلفتها وراءها. وعاشت الجزائر مجدداً (الزردات) في اليوم الذي دعتها فيه النخبة كي تحرق آخر ما تبقى لديها من البخور (الجاوي) في الزردة التي نُظمت بعد موت المؤتمر الإسلامي؛ ليس تكريماً لولي هذه المرة بل لوثنٍ سياسي. لقد بدأت في ذلك اليوم مرابطية جديدة، مرابطية لا تبيع الحروز، البركة، الجنة ونعيمها، ولكن تشتري الحقوق، المواطنية ... القمر ... عبر أوراق الانتخاب.

لقد غاب عن الأذهان أن الحق ملازم للواجب، وأن الشعب هو الذي يخلق ميثاقه ونظامه الاجتماعي والسياسي الجديد عندما يغير ما في نفسه. إنه لقانون سامٍ! ... ((غيِّرْ نفسكَ فأنت تغير التاريخ)) لكن في عام (1936)، وحينما خرق العلماء هذا القانون، فإن التحول توقف وتلاشى في السراب السياسي. لم يعد الكلام حول الواجب دائماً بل حول الحقوق فقط. ولا داعي لمواصلة الحديث حول النتيجة النهائية لسياسة المطالبة التي عبر عنها بوضوحٍ صمتُ الأحزاب الوطنية في الساعات الحرجة عام (1939)، وتشرين الثاني " نوفبر " عام (1942) (¬1). وبدلاً من أن تظل البلاد حقلاً لجهودنا المتواضعة والفعَّالة المثمرة كما هو حالها منذ عام (1925)، فقد غدت منذ عام (1936) مؤتمراً ومعرضاً انتخابياً، حيث في كل مقهى قاعة استماع، وكل منضدة منبر خطابة. لقد غدا الشعب مستمعاً، قطيعاً انتخابياً، قافلةً عمياء ضلت طريقها المرسوم عبر الفكرة؛ فتاهت في مسارب الأوثان. ياله من احتيال! .... لا يزال مستمراً (¬2)؛ لأن الوثن إذا كان لابد زائلاً بسبب عدم فاعليته؛ فإنه كاليرقة تتجدد على كل الأشكال في المناخ الملائم حيث تترعرع المرابطية التي تنتج الصنم. ولقد رأينا هذه الظاهرة أثناء الثورة الجزائرية، فالنخبة المثقفة الجزائرية لا تتمحور إيديولوجياً حول الفكرة الثورية، وإنما حول أصنام ألصقت بها بعض الصحافة هذه الفكرة. وهذا يعني أننا لم نُشف بعد من هذا المرض. وينبغي ¬

_ (¬1) المقصود هنا قيام الحرب العالمية الثانية عام 1939 وسقوط مدينة باريس بأيدي الألمان عام 1942. (¬2) اقتبست هذه السطور من كتابنا "شروط النهضة" الذي نشر عام (1947)، أي قبل الثورة.

القول بأنه في مستوى النخبة لم يكن هذا المرض نقياً كما هو عند الشعب. فنخبتنا المثقفة على استعداد لأن تأكل في سائر المعالف. ياللأسف! ليس أقبح من الجهل حينما يتزيا بزي العلم وينبري للكلام. فالجهل المحدود؛ جهل الشعب النظيف: إنه كجرحٍ ظاهرٍ يمكن علاجه. أما جهل العالم: فهو غير قابل للشفاء لأنه أخرق، مراءٍ، أصمُّ، مغرور. وإذن ففي عام (1936) وعندما أسلم العلماء عالنا الثقافي إلى سلطان الأوثان وعادت المسيرة إلى الوراء إلى الظلمة. لقد انقلب الجهاز الذي أخذ يسير وأرجله في الهواء ورأسه إلى أسفل، هذا هو المظهر الجديد للمشكلة حينما أخلت الفكرة مكانها للوثن. لقد كان العز بن عبد السلام ينكر على فقهاء عصره التقليد الذي يشكل بالنسبة للفكرة الإسلامية أول مظاهر استبدال الوثن بالفكرة، يعني المظهر الذي أعلن نهاية الاجتهاد.

الفصل الحادي عشر أصالة الأفكار وفعاليتها

الفصل الحادي عشر أصالة الأفكار وفعاليتها • الفكرة الأصلية تحتفظ بأصالتها أبد الدهر. وهي ذات طابع قدسي. وهي حقيقة ذاتية مستقلة عن التاريخ. • أفكار أوربة: العلم. والتقدم. والحضارة. سمحت لها السيطرة على العالم بفعاليتها لا بفكرتها الأصلية. • أصالة الفكرة الإسلامية دخلت دورة الفعاليّة مع الفتوحات وبسط سلطان الدولة الإسلامية. • أوربة ترجّع الفعالية على الأصالة في أسلوبها الاستعماري. • النخبة الإسلامية تقليد الحضارة الأوروبية ولا تدرك أصالتها. لأن الاحتكاك الضعيف مع الحضارة الأوروبية والضمير الإسلامي قد بدأ في أسوأ شروطه. ــــــــــــــــــــــــــ فكرةٌ أصيلة لا يعني ذلك فعاليتها الدائمة. وفكرةٌ فعَّالة ليست بالضرورة صحيحةً. والخلط بين هذين الوجهين يؤدي إلى أحكام خاطئة، وتلحق أشدَّ الضرر في تاريخ الأمم حينما يصبح هذا الخلط في أيدي المتخصّصين في الصراع الفكري وسيلةً لاغتصاب الضمائر. إن الأصالة ذاتية وعينية وهي مستقلة عن التاريخ. والفكرة إذ تخرج إلى

النور فهي: إما صحيحة أو باطلة. وحينما تكون صحيحة فإنها تحتفظ بأصالتها حتى آخر الزمان. لكنها بالمقابل، يمكن أن تفقد فعاليتها وهي في طريقها؛ حتى ولو كانت صحيحة. فلفعالية الفكرة تاريخها الذي يبدأ مع لحظة (أرخميدس) حينما تأتي دفعتها الأصليَّة لتهزّ العالم، أو يعتقد فيها نقطة ارتكازٍ ضرورية لقلب ذلك العالم. وبصفةٍ عامة حين تبصر النور الأفكار التي صنعت تاريخ العالم؛ فإنها دائماً فعالة طالما أنها أثارت العواصف وشيّدت شيئاً أو هدمته، أو أنها اكتفت بقلب صفحة من صفحات التاريخ الإنساني. وليست هذه الأفكار بالضرورة صحيحةً بأكملها فالفكرة تكون صحيحةً أو باطلة في المجال العقيدي والمنطق العلمي والاجتماعي. لكن تاريخها لا يعتمد على خاصِّيَّتها الذاتية، بل يستند على تفجُّرِها، على قدرتها داخل عالمٍ ثقافيٍ، وأخيراً على قوتها الإطار العام الذي توجد فيه. فمثلاً فكرة الدورة الدموية هي فكرة طبيبٍ عربي في القرن الثاني عشر الميلادي، هو: (ابن النفيس) (¬1). لكنها لم تبدأ طريقها العلمي إلا مع الطبيب الإنكليزي (هارفي) (¬2) بعد أربعة قرون. فالزمن الذي وجدت فيه هو الذي ألجأها إلى الاغتراب لتجد فرصها الفضلى ¬

_ (¬1) هو علي بن أبي الحزم القرشي، علاء الدين الملقب بابن النفيس، توفي في مصر سنة (687هـ - 1288م). له مؤلفات عديدة لا يزال الكثير منها مخطوطاً. كتب شرحاً لكتاب (القانون) لابن سينا. وكان أول من وصف الدورة الدموية الصغرى (أو الدورة الدموية الرئوية)، وأول من أشار إلى الحويصلات الرئويّة والشرايين التاجية. (¬2) (وليم هارفي William Harvey) طبيب إنكليزي (1578 - 1657م). علّم التشريح والجراحة في (الكلية الملكيّة)، ثم أصبح الطبيب الخاص للملك. اكتشف- ولكن بعد ابن النفيس - الدورة الدموية الصغرى، وشرح عملية الدورة الدموية في جسم الإنسان (الدورة الدمو ية الصغرى، والدورة الدمو ية الكبرى).

للتطبيق فيما بعد. لكنها في النهاية قد ظلت أربعة قرون صحيحة وصادقة دون أن تكون فعالة، وهذا شأن كثير من الأفكار العلمية التي لا تصادف حيين مجيئها إلى الدنيا لحظة (أرخميدس) إلا بعد زمنٍ طويل. إن نظرية امتداد العالم التي وضعها (لومتر Lemaitre) (¬1) عالم الرياضيات البلجيكي؛ لم تبدأ مجراها إلا مع (أينشتاين) (¬2) ونظرية الوراثة التي تعود إلى (مندل) (¬3) لم تحظ بلحظة (أرخميدس)، أي ساعة فعاليتها، إلاّ حين انطلاق مدرسة البيولوجيا الفرنسية والأمريكية في بداية القرن العشرين. بالمقابل فالتاريخ يزخر بالأفكار التي ولدت باطلة، ليس فيها أصالة لكنها مع ذلك كان لها فعالية مدويّة في أكثر الميادين تنوعاً. وغالباً ما تكون هذه الأفكار محجبةً مضطرةً لحمل قناع الأصالة لتدخل التاريخ كلصٍ يدخل منزلاً بمفتاح مزيف؛ فـ (ليبنز Leibniz) (¬4) لم يكن فحسب رياضياً فذاًّ، بل إنه قرأ دون شك (مكيافيلي) (¬5)، وفي تأملاته السياسية كان يوصي بإخفاء الدنيوي ¬

_ (¬1) (جورج هفري لومتر George Henri Lemaitre) عالم فيزياء، وفلكي، وعالم رياضيات بلجيكي (1894 - 1966 م). كان رائد نظرية الامتداد الديناميكي للمجرّة. (¬2) (ألبرت أينتشاين Albert Einstin) عالم فيزياء ألماني (1879 - 1955) حصل على الجنسية السويرية سنة (1900)، وعلى الجنسية الأميركية سنة (1940). أحدُ أهمِّ رجالات العلوم الحديثة. نال جائزة نوبل للفيزياء سنة (1921). له عدة نظريات رائدة في الحركة الديناميكية، والأثر الفوتو-كهربائي، ونظرية النسبية. (¬3) (يوهان مندل Johann Mendel) عالم نبات، ورجل دين نمساوي (1822 - 1884م). أسس علم الوراثة، وتوصل إلى تهجين سلالات نقية من نبات الحمّص. (¬4) (فيلهم غوتب لينز Wilklm goltieb leibniz) فيلسوف وعالم ألماني (1646 - 1716م). له نظريات عديدة في الرياضيات، والدين، والتاريخ، والقانون، والمنطق، والفلسفة. (¬5) (نيقولاس ماكيافيل Niccolo Machiavelli) رجل سياسة وفيلسوفٌ إيطالي (1469 - 1527م). صاحب كتاب (الأمير Le prince) ، (1531) الذي يتضمن نظرية سياسية عُرفت فيما بعد بالماكيافيلية. وهي تقوم على الخداع ومحاولة الوصول إلى الغاية بجميع الوسائل، المشررعة منها وغير المشروعة، وشعارها: الغاية تبرّر الوسيلة.

والنافع في ثوب المقدس؛ ذلك أن الفكرة إذا كانت فعالة في بعض الظروف فلأنها استطاعت أن تتمتع بخاصية القداسة عند أهل العصر. لقد أودعت أوربة القرن التاسع عشر قدرها في ثلاث كلمات: العلم، التقدم، الحضارة. فكانت هذه أفكار اً مقدسة سمحت لها أن ترسي داخل حدودها قواعد حضارة القرن العشرين، وأن تبسط خارج حدودها سلطتها على العالم. وحتى قيام الحرب العالمية الأولى، لم تفلح أيّة (هرطقةٍ) ولم تتكن أية معارضةٍ من مواجهة هذه الأفكار. لقد كانت فعالة! لا فرق أصحيحة هي أم باطلة طالما كلٌّ ينحني للقانون الأكثر فعالية والأقوى. واليوم ماذا بعد الحربين العالميتين؟ لا أحد ينكر قوة هذه الأفكار في عالم الأشياء، لكنّ العالم كلّه اليوم وأوربة على الأخص تضع خصائص قدسية هذه الأفكار موضع بحث وتمحيص .. ؛ حتى بعد الدقائق الخفاقة التي عاشتها الإنسانية جمعاء حين حطّ رواد الفضاء أرجلهم على سطح القمر (¬1). لكن حينما يوضع الطابع المقدس لفكرةٍ ما للمناقشة الدقيقة فذلك ليس فيه ما يشين. فها هو الفيزيائي الفرنسي (بواس bouss) لم يقبل حتى وفاته بنظرية (أينشتاين) حول النسبية. لكن ذلك لم يغض من شأنه في نظر الجامعة الفرنسية. إنما يصبح مدعاةً للسخرية حين ينكر فعالية فكرة فعّالة، صائبة كانت أم خاطئة. ففي بداية العصر القرآني وحتى في أوج الحضارة الإسلامية كان يمكن لسوء ¬

_ (¬1) كانت أول رحلة فضائية وطئت فيها قدم إنسان سطع القمر في (21) تموز/ يوليو من سنة (1969). وكان ذلك في رحلة (أبولو 11) التي كان قائدها رائد الفضاء الأمريكي (نيل أرمسترونغ: المولود في ولاية أوهايو الأمريكية سنة 1930).

نية أو لعمًى في البصيرة إنكار أصالة الفكرة الإسلامية. وحتى أتباع الفكرة الإسلامية لم يكونوا بعد الفترة المحمدية متفقين في تنظيمها الفقهي، فكان منهم السنّة والشيعة، والخوارج. لكن طابع الفكرة الإسلامية الآمر تزايد مع انتصارات السلطة السياسية، يعني فعاليتها. التي حددت ذلك المنطق العملي الذي استخدمه رُسُل عمر مع (رستم) قائد جيش الفرس عشية موقعة القادسية. والانتصارات الباهرة التي أرست قواعد السلطة السياسية للامبراطورية الإسلامية قد نمَّت أيضاً منطق الفعالية. وهي في الوقت ذاته زادت من تعميق مفهوم أصالة الحقيقة الإسلامية في نفوس المسلمين، حتى إنه في عصر المأمون؛ وبينما كانت الحضارة تفيض على العالم بأنوارها التي كانت تسطع في بغداد وقرطبة، كان لا يزال في الإمكان قبول أو إنكار أصالة الحقيقة الإسلامية، والتي كانت بالتالي موضوع مناقشة وجدلٍ مع النصارى والصابئين في بلاط الخليفة. وفي حضوره. إنما لم يكن باستطاعة أحدٍ أن ينكر فعاليتها، من غير أن يكون مَحلاًّ للسخرية. ثم امتدت القرون في تلك المرحلة الأفقية من التاريخ حيث لا تملك السموّ أكثر من ذلك، وإنما السير بعيداً إلى منحدر أفولها. وفي هذا العصر حيث كانت الشمس في مغيبها كانت لا تزال العبقرية الإسلامية تخرج أروع الأعمال: الغزالي، وابن رشد. وحينما أفَلَت الشمس في (بغداد) سطع فجر مزيف في (سمرقند) مع ملحمة (تيمورلنك) (¬1). ولقد كان من أصالة الفكرة الإسلامية النافذة أن ¬

_ (¬1) تيمورلنك قائد مغولي، ولد في سمرقند سنة (1336) م. وتوفي سنة (1405) م. في سنة (1363) انقضّ على منغوليا وأعلن نفسه ملكاً. وفي سنة (1388) أعلن هديه للإسلام ونصّب نفسه سلطاناً مسلماً وبدأ غزو آسيا الوسطى، وإيران، والعراق، وسورية، وتركيا. فانتصر على بايزيد الأول في أنقرة سنة 1403م. هذا ويعدّ الغزو المغولي لبغداد الخطوة الأولى في أفول الحضارة الإسلامية وانحدارها.

استمرت في كسب الأتباع، في إيمان شعوبٍ بأكملها بالإسلام بعد سقوط القسطنطينية عام (1453) (¬1). لكن فعاليتها ذهبت تخمد شيئاً فشيئاً طوال عصر ما بعد الموحدين، إلى اللحظة التي فيها دقت ساعة الاستعمار في العالم. لقد بدأ الاحتكاك العنيف مع الحضارة الجديدة والضمير الإسلامي في أسوأ شروطه، فأوربة رجَّحت قيم الفعالية على قيم الأصالة في أسلوبها الاستعماري. ومنذ ذلك الحين أضحى لعالمها الثقافي وجهان: وجهٌ يلتفت إلى ذاتها بأخلاقيته الخاصة به، ووجهٌ يتَلَفَّتُ نحو العالم، وهَمُّه الوحيد الفعاليّة. والنخبة المسلمة التي تكونت عبر الجامعات الأوروبية لم تر غير وجهٍ واحدٍ، أمّا وجهها الآخر فقد حُجب عنها؛ كما يُحجب وجه القمر الآخر عن سكان الأرض. من هنا كان في تكوينها خلطٌ يرثي له بين مظهرين متميزين لفكرةٍ واحدة: أصالتها، وفعاليتها. وهذا الخلط في نفسية النخبة المسلمة الحاضرة: هو النواة التي حولها تتجمع سائر دسائس ومناورات الصراع الفكري. والأساتذة الكبار الذين يمسكون بأسرار ووسائل هذا الصراع: يعرفون تماماً كيف يستفيدون من هذا اللبس؛ حين يقابلون أمام أنظار شبابنا الجامعي بين أصالة الفكرة الإسلامية وفعاليتها. ويصبح متوسط الدخل الفردي الحجة الأقوى في منطق الفعالية، والذي به ¬

_ (¬1) القسطنطينية- أو كما تدعى اليوم (استنبول) في تركيا- مدينة أنشأها الامبراطور الروماني قسطنطين الأول (أو قسطنطين الأكبر) سنة (324 - 330) م. فتحها السلطان العثماني محمد الثافي (1451 - 1481 م)، وذلك في (29) أيار/ مايو من سنة (1435) م. لُقِّب بمحمد الفاتح لنجاحه في دخول هذه المدينة. وقد تابع بعد انتصاره هذا معارك عديدة، وقام بفتوحات كثيرة في أواسط أوربة (مثل النمسا والمجر).

يتوسلون لهدم أصالة الفكرة الإسلامية في عقل المثقف المسلم. هذه الخدعة تستخدم اليوم بعمق؛ حتى في دراسات الشباب المثقف العربي، بتوجيه مباشير أو غير مباشبر من قبل (الأساتذة) في الجامعات الأوروبية (¬1). لكن اليقظة الإسلامية ليست بنت الأمس. ففي القرن الماضي أثبت عبد الله النديم سفسطة منطق الفعالية؛ الذي يتوسل به المستعمرون الأوروبيون لإدخال مركب النقص في النفس الإسلامية عندما قال: ((لو أنكم كنتم مثلنا لتصرفتم كما نتصرف)) (¬2). وإذ يضع عبد الله النديم هذه العبارة البسيطة في فم أوربة؛ فإنه يذهب إلى أبعد من مجرد كشف الحيلة التي تقوم على المقابلة بين الفعالية والأصالة؛ والتي تلجأ إليها أوربة (في كل مرة تشرع في عمل تمليه التسلطية الاستعمارية المدنية أو التوسع الديني). ويبقى الاعتقاد بأن العقول كانت أكثر صفاءً زمن هذا الثوري الرائد؛ الذي واصل نقده فانتهى إلى نتيجة جديرة بتذكير الجيل الحاضر: ((وبهذا التصرف يهدف هؤلاء الغربيون إلى إبقاء الشرقيِّ في قبضة الغربيّ بدافع الحاجة، والإبقاء على الشرق كحقل يجري فيه التنافس بين الأوروبيين)). وبعد قرب من الزمان لا زالت هذه الفكرة راهنةً؛ خصوصاً بعد تفاقم الصراع الإيديولوجي اليوم بإدخال تقنية القرن العشرين العالمية في أسلوبه، ولوهن الذي أورثه التطور غير المراقب عبر هذا القرن في عالمنا الثقافي. ففي زمن عبد الله النديم القلعة هوجمت من الخارج: محتلٌ أراد أن يحتلّ ¬

_ (¬1) انظر دراستنا "إنتاج المستثرقين وتأثيره على الفكر الإسلامي الحديث" طبعة الجزائر (1967). (¬2) Anouar Abdelmalek Anthologie de Ia Iitterature arabe contemporaine Paris Ed, du Seuil p47,49

بأفكار هـ ليثبِّت عبر أسسٍ إيديولوجية سلطته الاستعمارية. أما اليوم فالمعركة من الداخل وبين جدران القلعة، بين أولئك الذين يريدون الدفاع عن القلعة والذين يريدون تسليمها إلى الأفكار الأجنبية. وهنالك الكثير بين المثقفين المسلمين الذين يفتنون بالأشياء الجديدة، وبالتالي يسحرون بمنطق الفعالية، ولا يميزون بين حدود توافقها مع مهام مجتمع يريد أن ينهض دون أن يفقد هويته. فهؤلاء المفكرون يخلطون بين أمرين: الانفتاح الكامل على كل رياح الفكر، وبين تسليم القلعة للمهاجرين كما يفعل الجيش الخائن. هؤلاء الذين مردوا بإدمانٍ على تقليد الآخرين: ليس لديهم أي مفهوم عن ابتكار هذا الغير، ولا عن دوافع هذا الابتكار، عن تكاليفه في جميع المجالات التي يقلدونهم فيها، وكان الأجدر بهم أن يبتكروا هم أنفسهم وفق دوافعهم الخاصة بدل أن يقلدوا. ويجب أن نلاحظ أن هذا التقليد ليس تقليداً لفعالية أي مجتمع دينامي، كما فعلت اليابان مثلاً، ولكنه تقليدٌ لقالب فلسفيٍّ يصبح دفعةً واحدة منطقاً معادياً للإسلام. إنهم يختارون (الماركسية) وعلى الخصوص (التروتسكية) (¬1)، ¬

_ (¬1) تروتسكي والتروتسكية Leon Trotsky (1879 - 1940) : منظرٌ شيوعيٌ، ومناضل سياسي روسي، يتحّدر من البورجوازية الإسرائيلية السوفيتية: شارك في ثورة بترسبورغ عام (1905) وأعلن نظرية (الثورة المستديمة) التي تضع مقاليد السلطة والحكم بأيدي البروليتاريا، وتلحّ على ثورة البروليتاريا الأوربية وأسس جريدة (البرافدا) (- وتعني الحقيقة-) في منفاه في النمسا (عام 1908)، وناضل ضد البلشفية لأجل تحقيق وحدة الديمقراطية الاجتماعية. وحينما عاد إلى روسيا عام (1917) انضم إلى جماعة البلشفييّن، وبعد الثورة الشيوعية أصبح تروتسكي مفوض الشعب للشؤون الخارجية، وحين عيّن مفوضاً للشؤون الحربية قام بتنظيم (الجيش الأحمر) عام (1918 - 1920)، ثم (جيوش العمل) عام =

يضعون عليها سمة الماوية ليدخلوا الإعجاب في عيون المتفرجين. على كل حالي فإن حالتهم تفرض علينا أمثولة. فالعالم الثقافي في البلاد الإسلامية ليس فقط المسرح الذي يدور عليه الصراع بين الفكرة والشيء والفكرة والوثن. إنه أيضاً الحلبة التي ينبغي فيها الانتصار في صراع يفرض منطلق الفعالية، فالفكرة الإسلامية لكي تقارع الأفكار الفعالة للمجتمعات المتحركة في القرن العشرين عليها أن تستعيد فعاليتها الخاصة، أي أن تأخذ مكانها من جديد وسط الأفكار التي تصنع التاريخ. ¬

_ = (1920)، ثم نجده بعد موت لينين يعارض سياسة ستالين في بناء الاشتراكية الروسية منفرداً وبمعزلٍ عن الثورات الخارجية، فنُحِّي عن منصبه وطرد من الحزب (عام 1927). ونفي إلى منطقة كازاخستان، ومن بعدها طرد إلى خارج الاتحاد السوفيتي عام (1929)، فقضى ما تبقى من حياته متنقِّلاً بين القسطنطينية وفرنسا والنروج والمكسيك، حتى اغتياله عميل ستاليني عام (1940). من أهم أعماله: دفاع عن الإرهاب (1920)، حياتي (1929)، والثورة المستديمة (1905).

الفصل الثاني عشر الأفكار وديناميكا المجتمع

الفصل الثاني عشر الأفكار وديناميكا المجتمع (¬1) • في عصر التلقين الحديث الفكرة تكون صحيحةٌ إذا ضمنت النجاح. • المجتع الإسلامي في مواجهة العصر مدعوٌّ لأن يستعيد تقاليده العليا ومعها حس الفعالية. • المسألة مسألة مناهج وأفكار. مثال: فشل أندونيسيا رغم توفر الوسائل والخبرة الغربية، نجاح ألمانيا بعد الحرب، والصين الشعبية رغم فقر الوسائل والظروف. • الْمُفَجِّرُ الذي يطلق قوى العالم الإسلامي لا يأتي من النظريات الغربيَّة. ــــــــــــــــــــــــــ في عصر الإنتاجية: لا يكفي أن نقول الصدق لنكون على حق، وليس من الحكمة اليوم أن نقول: اثنان زائد اثنين يساوي أربعة، ثم نموت جوعاً، وإلى جوارنا شخص آخر يقول: إنها لا تساوي سوى ثلاثة، ومع ذلك يضمن لنفسه لقمة العيش. إن روح التلقين التي تطبع هذا العصر تؤدّي إلى تأكيد خطأ الأول، وصحة الثاني. ففي منطق هذا العصر لا يكون إثبات صحة الأفكار بالمستوى الفلسفي أو الأخلاقي، بل بالمستوى العملي: فالأفكار صحيحة إذا هي ضمنت النجاح. ¬

_ (¬1) الأفكار الأساسية في هذا الفصل مقتبسة من مقال للمؤلف بعنوان، (شروط الديناميكا الاجتماعية).

يقول ماوتسي تونغ: ((إن أفضل دليلٍ على سلامة أفكار نا هو نجاحها في الإطار الاقتصادي)). فليست المسألة في أن يقبل المجتمع الإسلامي أو يرفض الأسلوب العملي (¬1) هذا أو ذاك، بل عليه أن يدافع عن عالمه الثقافي ضدَّ روح التلقين في هذا العصر. ولا يكفي أن نعلن عن قدسية القيم الإسلامية، بل علينا أن نزوِّدها بما يجعلها قادرة على مواجهة روح العصر. وليس المقصود أن نقدم تنازلات إلى الدنيوي على حساب المقدَّس، ولكن أن نحرر هذا الأخير من بعض الغرور الاكتفائي والذي قد يقضي عليه. بكلمةٍ واحدة، ينبغي العودة ببساطةٍ إلى روح الإسلام نفسها، ولم يترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - فرصةً واحدةً تمرّ دون أن يحذرنا من مثل هذا التمسك والاكتفاء الذي نعرف اليوم آثاره المعوّقة للنمو الاقتصادي في المجتمع الإسلامي الحالي. فبعد عودة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من إحدى الغزوات وسط شهر رمضان وكانت مشقة الصوم كبيرةً على الصائمين، نراه يعزو الفضل في الانتصار إلى الذين أفطروا في ذلك اليوم (¬2)، فالشريعة أباحت لهم الإفطار لمواجهة وإعداد ما تحتاج إليه القافلة في السفر. ونحن اليوم أكثر من أي يوم مضى بحاجة للتذكير بهذا الهدي النبوي الذي يعطي في حالة معينة الأولوية لفضيلة الفعالية على فضيلة الأصالة. ومن المناسب أن نشير إلى هذا الجانب من الفعالية الإسلامية في الوقت الذي تقارن التقاليد الإسلامية بخبث بالقيم العملية للبلاد الصناعية لإثبات عدم صلاحية الإسلام في القرن العشرين. ¬

_ (¬1) كلمة: عملي ( pragmatique) نسبةٌ إلى كلمة ( pragmatisme) : التي تعني المذهب الذي يرى أن معيار صدق الأفكار والآراء هو في قيمة عواقبها العملية. (¬2) إثارة إلى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «ذهب المفطرون بالأجر»، في غزوة تبوك.

فالمجتمع الإسلامي مدعو لأن يستعيد تقاليده العليا ومعها حِسُّ الفعالية. ومن أجل أن يثبت العالم الإسلامي بمنطق العصر بأن أفكار هـ صحيحة لا توجد غير طريقة واحدة هي إثبات قدرته على تأمين الخبز اليومي لكل فرد. والقضية هي الشاغل اليومي في البلاد الإسلامية. على الأقل منذ الحرب العالمية الثانية. لذا فثمة مسافة من الزمن كافية لنقوِّم خلالها فعالية الوسائل المستعملة ولكي نضع في الضوء أسباب التأخر أو الركود في هذه المسيرة. إن الرؤية الاقتصادية الحالية للعالم تقدم صورة أكثر دقة عن وضع البلاد الإسلامية حينما نقارن تطورها بتطور بلاد أخرى منذ ربع قرن. ومن المؤكد أن بعضاً منها كأندونيسيا قد انطلقت غداة الحرب العالمية الثانية بأفضل شروط السباق لما توفر لديها من موارد طبيعية هائلة. لكنها اليوم مختلفة جداً إذا قسناها ببلادٍ كاليابان وألمانيا انطلقت في سباقها بالأسوأ من الشروط. وبمعنى آخر- ولن نمل التكرار- فالمسألة ليست مسألة وسائل وإنما مسألة مناهج وأفكار. ومما يزيدنا غبطةً من ناحية أخرى أن هذه الظاهرة غير مجهولة في العالم الإسلامي. فبعض المثقفين قد نوَّه بها بدقة المراقب البارع. فعشية لقاء عقد في الجزائر عام 1967 ضمَّ نُخبةً من المثقفين المهتمين بالوضع الاقتصادي في البلاد العربية من بينهم شاب مغربي مختص بالاقتصاد هو السيد محمد ريفي الذي أعطى لمحة ذكية جداً حول شروط الدينامية الاقتصادية في بلاده فكتب يقول: ((بالنسبة إلى الخطة الخمسية (1960 - 1964) فإن ما يسمى الخطة الثلاثية

التي غطت الفترة ما بين 1965 - 1967 تمثل تراجعاً محضاً سواء في تصورها العام أو في الظروف المتوقعة لتنفيذها)). إننا في صميم المشكلة إذ التخطيط في بلد مسلم يمكن له أن يتخلى عن موقع بدلاً من أن يكتسب موقعاً. علينا أن نعمم هذه النتيجة المؤلمة في العالم الإسلامي. فحينما يتزايد الشذوذ بسبب الموارد المتوفرة وكفاءة المخططين غير العادية فإن هذا الشذوذ يستلفت انتباهنا بصورة أكبر. فأندونيسيا توفر لها هذان الجانبان: موارد أرضها ومساعدة الدكتور Dr. Schacht (¬1) لتحقيق الشروط الفضلى لإقلاعها، إنما لم تصب رياح الإقلاع. حتى فكرة التخطيط التي أثبتت نجاحها بصورة مدوّية في العديد من البلاد الأخرى كالاتحاد السوفيتي والصين الشعبية تفقد كل معناها في أندونيسيا رغم أفكار وخبرة المخطط ووفرة الموارد. وفي عام 1955، كان في استطاعة مؤتمر باندونغ (¬2) ان يعد نظاماً اقتصادياً صالحا لإفريقية وآسيا لو أنه أخذ في اعتباره الفشل والنتائج السلبية لهذه التجارب حيث كان يمكن على الأقل أن يستخرج فائدة من دلالتهما المعبرة. كان ينبغي على المؤتمر أن يدخل شيئاً من ترتيب الأفكار ك كيما يستفيد من تجارب الماضي ومن الأفكار الجديدة في تحديد وجهة جديدة للاقتصاد الإفريقي الآسيوي كانت تنقصه على وجه للتحديد. ¬

_ (¬1) الدكتور (شاخت Horace Schacht) : اقتصاديٌّ، ورجل سياسةٍ ألماني (1877 - 1970م). شغل العديد من المناصب في ألمانيا (رئيس البنك المركزي، وزير الاقتصاد)، ثم عمل مستشاراً اقتصادياً لدى حكومات دولٍ عدة، منها: سورية، وأندونيسيا، وإيران، ومصر. (¬2) عُقد مؤتمر باندونغ في أندونيسيا من (18) إلى (24) نيسان/ إبريل (1955)، وجمع ممثلي (29) دولة من دول العالم الثالث: في آسيا، وإفريقيا. كان يهدف إلى الاتفاق على سياسةٍ مشتركةٍ للتعاون: الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، وإلى تحديد موقفٍ مناهض للاستعمار.

لقد أدرك تبيورماندح Tibor Was de أكثر من أي اختصاصي محدود الفكر بحدود مهنته النقص الجوهري الذي يمنع البلاد الإفريقية الآسيوية من توليد ديناميكا اجتماعية. فعندما قال بأن مشكلة هذه البلاد تكمن في أنها من اختصاص عالم (البيولوجيا الاجماعية) أكثر من (المهندس الاجتماعي) فقد وضع المشكلة في مستواها الحقيقي حين تبدأ الانطلاق من الصفر. ليس هذا بالتأكيد الحل الجاهز، إنما من أجل بلدٍ هو في نقطة الصفر فإن هذه الملاحظة الصادرة عن عالم في الاجتماع أكثر تعبيراً في دلالتها من خطة مختصٍ في الاقتصاد ضاعت من رؤيته حقيقةٌ إنسانية؛ تدخل معادلتها الذاتية بالطبيعة في تنفيذ هذه الخطة. إن مشروع الدكتور (شاخت) من أجل أندونيسيا قد فشل؛ لأنه لم يأخذ باعتباره هذه المعادلة. بعد ذلك يأتي اختيار الأساس المنهجي للخطة. خطة متقنة لا تشقق فيها، ولا تحتوي على خليط من رأسمالية واشتراكية. فالمشروع الذي يعد طبقاً لأفكار البعض ونقوم بتنفيذه طبقاً لوسائل البعض الآخر لا يفضي إلى شيء. إن هدف التخطيط واضحٌ: إنه خلق الشروط الدينامية الاجتماعية، وبعد ذلك نحدد الوسائل التي ستتولى تسيير تلك الدينامية الاجتماعية. فنحن لا نستثمر ما نريد بل ما نستطيع. ولا نستثمر بوسائل الغير، إنما بالوسائل التي تقع بالفعل تحت أيدينا. فما هي الوسائل المتوفرة حقيقةً في بلدٍ عند نقطة الصفر من انطلاقه؟

لقد بدأت ألمانيا في التحرك عام (1948) بخمسة وأربعين ماركاً وهذا مبلغ تافه في الاستثمار. أما الاستثمار الحقيقي، فقد كان في رأسمال الأفكار؛ التي هي في رأس كل ألماني، في تصميم الشعب الألماني، وفي الأرض الألمانية، التي كانت فقيرةً ومحتلةً من الآخرين، لكنها كانت السند اللازم لكل نشاط. وفي الفترة نفسها عام (1948) أقلعت الصين الشعبية في شروط أشد قساوةً، وبدمارٍ أكبر خلفته الحرب. وبغض النظر عن خيار الصين الإيديولوجي فقد أنشأت رأسمالها من الأفكار الأولية. وإن تجربتها في بيئةٍ اجتماعيةٍ اقتصاديةٍ كبيرة الشبه بغالبية البلاد الإسلامية تلقي كثيراً من الضوء على الوسائل البدائية للإقلاع. وبصفةٍ عامةٍ فإن إمكانيات بلدٍ في هذا المستوى هي: أ - زراعته وهي في حالة بدائية إلى حد ما. ب - ما يتوفر لديه من مواد أولية في السوق وفي باطن الأرض. جـ - طاقة العمل (عدد الأيدي العاملة) التي يمكن تحويلها إلى ساعات عملٍ فعلية. هذه الميزانية التحليلية تمثل الطاقة الاقتصادية الكامنة في أي مجتمع نامٍ،! لمجتمع الإسلامي. وهي تمثل هذه الطاقة في مرحلتين من الإقلاع: أ - مرحلة اقتصاد الكفاف. ب - مرحلة اقتصاد التطور؛ أي الإقلاع بمعنى الكلمة.

لكن هذه القدرة في حالتها البدائية. تمثل الشروط المسبقة الضرورية، غير أنها غير كافية لتوليد الدينامية الاجتماعية. ولأجل تحريك جميع القوى الإنتاجية فإن الأمر يتطلب أكثر من ذلك. لا بد أيضاً من مفجِّر يستطيع إطلاق عجلة هذه القوى. هذا هو دور الخطة، وهو دورها الأساسي، وهو الفرصة الوحيدة التي على المخطط أن يمسك بها؛ حتى لا تفشل الخطة كما فشلت خطة الدكتور (شاخت) في (أندونيسيا) حين لم يأخذ بالاعتبار الطبيعية الخاصة لمفجِّر الطاقة الضروري في خطته، فاختلط عليه الأمر، إذ ساوى حالة أندونيسيا وحالة بلاده ألمانيا. ولاشك أنه من المؤسف لرجل العلم أن يضع كالفرس على جانبي عينيه كمامة ثقافته الأصلية. لكن هذا ليس حكراً فقط على اقتصاديّ أوروبي يتناول دراسة مشاكل العالم الثالث. بل إن النخبة الإفريقية الآسيوية هي أيضاً- وخصوصاً في البلاد الإسلامية- تضع بأسفٍ أكبر على جانبي عينيها كمامة معلميهم الغربيين حين يدرسون المشاكل نفسها. فمشكلة الفجر الملائم للبلاد الإسلامية يجب أن تجد حلها بعيداً عن النظريات المشتقة من (آدم سميث) (¬1) و (ماركس) (¬2). ¬

_ (¬1) (آدم سميث Adam Smith) : فيلسوفٌ واقتصاديٌ اسكوتلندي، (1723 - 1790م). أحد أوّل من نظَّر للرأسماليَّة الليبرالية. له العديد من النظريات: في العمل، وتطوير الصناعة، والإنتاج. والسياسة الاقتصادية. (¬2) كارل ماركس Karl Max) : (1818 - 1883 م) فيلسوفٌ، وعالم اقتصاد ألماني. له بالغ الأثر في الفكر الحديث والسياسة المعاصرة. كان على رأس تيار فكري يدعى باسمه " الماركسية " (التي تعود إلى غيره؛ مثل فريدرك إنجلز وغيره)، وهو عقيدة فلسفيةٌ واجتماعية، تقوم على المادية الجدلية والمادية التاريخية.

والمجتمع الإسلامي يستطيع أن يستعيد فعاليّته بأن يضع دفعةً واحدةً في أساس تخطيطه مُسَلَّمَةً مزدوجة. أ - كل الأفواه يجب أن تجد قوتها. ب - جميع الأيدي يجب أن تعمل. عندئذ سوف لا تكون أفكار هـ مثقلة بعدم الفعالية؛ لأن الأيدي سادرة في تحريك عجلة ديناميّتها الاجتماعية. والمدافعون عنه سيأخذون باعتبارهم: أنه ليس المطلوب الدفاع عن أصالة الإسلام، بل مجرد إعادة فعاليَّته إليه بتحريكهم قواه الإنتاجية.

الفصل الثالث عشر الأفكار والاطراد الثوري

الفصل الثالث عشر الأفكار والاطِّراد الثوري • الثورة مفجِّر، لكن تحرك القوى بعد إطلاقها ليس كل شيء. • الثورة في العالم الإسلامي. • الزعيم في العالم الإسلامي. • لا مجال للنقد في الحياة السياسية في العالم الإسلامي. • النزعة الذريّة. ــــــــــــــــــــــــــ حينما يتجاوز مجتمع درجة التحمل؛ فالثورة هي (الْمُفَجِّرُ) الأكثر دلالةً في وضع النار على البارود؛ لتحرك عجلة المجتمع نحو قدره، ولكن هل إن دفع القوى بعد إطلاقها نحو طريقها هو كل شيء؟ إن تاريخ الثورات في العالم يظهر كم أن مصيرها هشٌ؛ وغير مؤكد بعد انطلاقها. إن العالم الإسلامي قد عرف تجارب ثورية قبل وأثناء مرحلة التحرر من الاستعمار، وهو يعيش اليوم الثورة الفلسطينية، ويكفي أن نتذكر بأن لها رؤوساً عديدة حتى ندرك بأننا لا نملك بعد وسائل الرقابة التي تحمينا من أخطاء محاكمتنا للأمور في هذا المجال. فالظاهرة الثورية لم تخضع بعد لعلمٍ معياريٍّ يضع اطرادها تحت رقابة دقيقة.

ويرجع الفضل للفكر الماركسي، خصوصاً مع نضجه في بكين، في طريقة للتحليل تسمح وإلى حد ما برقابة لاحقة مبنية على التجربة، رقابة هي بالإجمال معدة لكشف الأخطاء ومعالجتها بعد وقوعها، لكنها ليست جهاز إنذارٍ يلفت انتباه قوى الدفاع الجاهزة فوراً؛ حينما تلوح في الأفق بادرة خطأ. لقد حلل (ماركس) (¬1) أخطاء (كومون باربس) حتى لا تتكرر في اطرادٍ ثوريٍّ آخر، وإذا ما تكررت في حركات ثورية أخرى فليس هنالك غير العملية الساخنة التي سميت (الثورة الثقافية). ومع ذلك فإن أي بلد إسلامي؛ حتى التي تُدعى ثورية لم تفتح بعدُ باب المناقشة حول هذه الأمور، كأنما الأمور تسير على خير ما يرام في أفضل مكان في العالم. فقد يحدث في أكثر من بلد إسلامي: أن تجد البلادُ نفسها بعد الثورة في الوضع السابق على الثورة، بل ربما أكثر خطورةً، بل إنها قد تجد نفسها من جديد في ظل إيديولوجيا يسقط من أجلها الأبطال، ولا يتعرفون على الأفكار التي من أجلها سقطوا. كما لو كانت عجلة الثورة وأفكار ها تدور أثناء الثورة اعتباراً من لحظة معينةٍ نحو الوراء. والغريب في هذه الأوضاع أنها تنمو وتتقدم حتى نهاية الثورة؛ دون أن يُلحظ في الظاهر أي انقلاب في القيم. ¬

_ (¬1) (كارل ماركس karl marx) : (1818 - 1883) فيلسوفٌ وعالم اقتصاد ألماني. له بالغ الأثر في التيارات الفكرية والسياسية المعاصرة. له العديد من المؤلفات، منها " الحرب الأهلية في فرنسا في عام 1871 "، وهو دراسةٌ يحاول الكاتب فيها أن يحلّل (كومون باريس la commune de paris) ، أي الحكومة الثورية التي حكمت باريس منذ اندلاع الثورة الفرنسية سنة (1789) وحتى سنة (1795).

بل إن ما هو غير طبيعي كذلك أنه عندما يبدأ الناس في إدراك ما يحدث، بعد أن تكون الثورة قد انتهت ينبري حكماء يعتقدون بأن هذه الأوضاع ستصفى وتنطفي تلقائياً قائلين بأنه: يجب أن نتركها للزمن يعيدها لمسارها. وإنني أتساءل كيف لهؤلاء ((البراجماتيين)) في نظرهم أن يتصوروا تلاشي وانطفاء ظاهرة المهندسين تلقائياً في داخل الثورة الفلسطينية؛ بينما يبدو بجلاء منذ الآن أنها لن تتلاشى قبل أن تزهق روح الثورة. هذه الأوضاع الثورية غير الطبيعية تبقي المشكلات مطروحةً، ولا يبدو لي أن التقنية الماركسية التقليدية تستطيع حلها. فماركس إذا كان قد حلل هذه الأوضاع فقد فعل ذلك مستنداً على المنطق الجدلي؛ الذي يحتوي على سائر العناصر التي تشكل جزءاً من العالم الثقافي نفسه، أي عالمه هو. بينما يحدث في البلاد المستعمرة، أو التي كانت مستعمرة قبلاً، أن تكون هذه الأوضاع هي النتاج المركب لجدليةٍ تقع في صلب العالم الثقافي الأصلي من جهة، ومن جهة أخرى بينها وبين عالم ثقافي آخر هو العالم الثقافي الاستعماري؛ كما ينشأ بين مولد يَحُثُّ والطاقة الْمُسْتَحثّة ظاهرة انتقال التيار الكهربائي. فالفكر الماركسي قد نشأ في مناخٍ ثقافي تسير فيه الفكرة من تلقاء نفسها دون أن تستند على عكازين، بينما في المجتمع الإسلامي في مرحلة ما بعد الموحدين تستند الفكرة بصفة عامة على شيء أو على شخص؛ لكي تثبت صلاحيتها. لقد كانت الأوضاع الثورية الشاذة في عصر (كارل ماركس) ومحيطه في بيئةٍ غير معقدة، بمعنى أنه كان على الفكرة الثورية أن تواجه أفكار اً من البيئة نفسها، ومن عالمها الثقافي نفسه. وفي هذه الحالة يمكن للتحليل أن يسيطر

بسهولة على أخطاء برزت مباشرة في هذا العالم الذي هو نفسه مُولِّدُ أفكار هـ. بينما نحن نواجه في المجتمع الإسلامي في عهد ما بعد التحضُّر أخطاء (مولَّدة) أي أنها أتت إليه من عالم ثقافي آخر، قام بدور (المولِّد). ولا يعتبر المهندسون في الثورة الفلسطينية، أو عَبّان رمضان في الثورة الجزائرية خطأين نابعين من اطراد الثورتين؛ وإنما خطآن أُدخلا من الخارج أي خطآن مولَّدان. هذا هو الوجه الخاص (لانحرافاتنا الثورية) مفسرة ذلك الذي سماه ( J. Revel) بالشروط الخمسة إذ كتب يقول: ((لا تقوم الثورة من الارتجال .... ، إن الروح الثورية الحقيقية تسير وفق خطةٍ جاهزٍ مُكْتشفةٍ، أو تنتهج طريقة الاكتشاف الْمُحَضَّر حيث يكون التطبيق دقيقاً على الدوام وعلى درجةٍ عاليةٍ من الكفاءة الفنية، وليس أبدا ً (¬1) تقريبياً)). وفي البلاد الإسلامية قد يولد التطور الثوري منذ يومه الأول على شكل ثورةٍ مضادة مقنعة أطلقت في الوقت المناسب؛ لتسبق إلى احتلال مراكز استراتيجية قبل أن تحتلها ثورة أخرى أصلية (¬2). كما يمكن أن ينشأ أيضاً في ظل ثورة أصيلة تفسح المجال شيئاً فشيئاً لثورة مضادة، تستخدم اسمها، وصفاتها المنظورة، ووسائلها لتقتلها، وتحل محلها محافظةً على المظاهر التي تصبح الستار؛ الذي خلفه يستمر قلب مسار الاطراد في مرحلة ما بعد الثورة. ¬

_ (¬1) ج ف، مثل ((لا ماركس ولا يسوع))، طبعة لافون- باريس 1970 (¬2) إننا لا نذكر في كل مرة أسماء الأشخاص والأماكن، نظراً لأن شخصيات هذه الأحداث التي نتناولها بالتحليل لا تزال على قيد الحياة.

هذه المظاهر تشكل إذن المشكلة الجوهرية للنقد الثوري. وإذا كنا أمام مسرح أحد الحواة المشعوذين، فإننا نعلم مسبقاً بأن خِدَعَهُ ليست إلا مظاهر؛ ما كان لها أن تكون لولا مهارة الحاوي وعلمه الكامل برد فعلنا الا عتيادي. لكننا هنا نحن أمام مسرح سياسي حيث الحاوي يسمى الاستعمار، ومن أجل أن نفهم خِدَعَهُ التي تنطلي على حواسنا ينبغي أن نقول: ماذا نُكَوّن أمام ناظريه - كعيناتٍ نفسية-؟، وماذا يُكَونُ هو في نظرنا على صعيد إثاراتنا الأخلاقية والسياسية؟. وليس صعباً أن نحدد الأشياء على الأقل في النقطة الثانية: فالاستعمار يُعَدُّ في نظر كل مسلمٍ الشيطان. وما ينبغي أن نضيفه فوراً بأن الاستعمار يعلم ذلك جيداً. وهو فوق ذلك يعلم عنا أشياء كثيرة نجهلها نحن أنفسنا، وخصوصاً تلقائية استجاباتنا السلوكية. فمثلاً هو يعلم بأنه حينما يقول الشيطان: اثنان زائد اثنين يساوي أربعة، فإن المسلمين سيقولون: ليس هذا صحيحاً لأن الشيظان قال ذلك. وعلى العكس من ذلك فإذا ما ارتفع صوت له سمة (الصدق) يقول: اثنان زائد اثنين يساوي ثلاثةً؛ فإن المسلمين سيقولون هذا حق لأن هذا الرجل الصادق قد قال ذلك. هذه النزعة في الوسط الإسلامي التي لا تصنع الأحكام طبقاً لعالم الأفكار بل تصنعها طبقاً لعالم الأشخاص: هي معروفة تماماً من الاستعمار. وإن نشاطه على الخريطة السياسية يستخدم باستمرار معطيات خريطة نفسية وعلى ذلك فإن كل تِقَنيِّة الأخطاء المولَّدة تعتمد على هذا الذي فصلناه.

وتكاد لا تخيب نتائجها في عالمٍ تستند الأفكار فيه على الأشياء أو على الأشخاص كي تسير. والحاوي الماهر الواقف على المسرح؛ ليس على المسرح تماماً ولكن في غرفة المُلَقِّن حيث يتخفى عن الأعين: ليس عليه إلا أن يخرج مزيداً من الخدع في قاعة المشاهدين الْمُكَيَّفَة بحالتهم النفسية تجاهه. ثم يبدأ العرض من شرق العالم الإسلامي إلى غربه، حيث تدعو الضرورة إلى إخراج مشروع (ثورة مضادة) إلى المسرح في ثوب ثورة. والعالم الإسلامي الحاضر يشمل على أكثر من انحرافٍ من هذا النوع، فباكستان اقتضى لوجودها انحرافٌ كهذا أي خطأ مولَّد في نفسية الضمير الإسلامي المكيَّف، والمرتهن (بالزعيم). و (الزعيم) لا يستخدم لتحريف الطاقات الثورية الآخذة في الحركة، بل إنه يُستخدم أيضاً قاطعاً لتيار إيديولوجي موحَّد لا يتفق مع سياسة التفتيت المطَبَّقة في العالم الإسلامي. ومع ذلك فليس من الضروري أن يكون (الزعيم) متواطئاً، فقد قام (مصالي الحاج) بدوره بحسن نية بالتأكيد، لكن تصرفه كان ببساطة مطابقاً لمخططات الاستعمار. لقد تكون في مدرسته تلك الحفنة من (صغار الزعماء) الذين قتلوه وخانوا الثورة، ثم تنكر لها هو نفسه تكبراً وغطرسة. لكن (عبان رمضان) كان بالتأكيد متواطئاً؛ فتصرفاته المريبة لا تترك ظلاً من الشك على هذه الحقيقة. فلقد كان حتى آخر لحظةٍ من حياته يرتضي لنفسه لعبة الحاوي؛ ليُجهز على ثورة الإدارة التي أطلقت عجلتها في الأول من نوفبر (1954)، ولكي يغتصب

سلطتها ويحاول استعمالها ضد الثورة نفسها. ويحدث أيضاً ألا يكون رجل السياسة في العالم الإسلامي ذلك الكائن الصغير الطموح: يُباع، ويُشترى، يطوب (زعيماً) على مسرح السياسة. بل ينبغي أن يكون (رئيساً) أصيلاً قادراً على تحقيق فكرة كبيرةٍ؛ تمارس على الجماهير جاذبية هدف عظيم سام لا يقاوم. ومن الطبيعي: أن الفكرة قد قُيِّمت بقيمتها الحقة من أول وهلةٍ عبر اختصاصيِّي الصراع الفكري. والرجل الذي يجسد في عيون الجماهير تلك الفكرة (الرئيس): هو الذي سوف تنصب عليه دراسة الاختصاصيين الدقيقة وذلك لتبين لهم سائر الثغرات. وعلى تلك الثغرات فإن الاستعمار سيضع صماماته ذات التأثير المزدوج: 1 - من جهةٍ؛ لمنع إشعاع الفكرة وشخصية الرئيس أن تصلا إلى ضمائر الجماهير. 2 - وعلى الخصوص لتكون الصورة الحقيقية لعمل الفكرة بمنأى عن الرئيس، بحيث لا يستطيع أن يتابع سيرها الفعلي ليضيف! إلى مسيرتها التعديلات والإصلاحات الضرورية. لدرجة أن الصراع يتابع مسيرته دون جهاز استكشاف ( Radar)؛ يعطي للرئيس في كل لحظةٍ المعلومات الكاملة حول مقتضياته؛ حينما تصبح الفكرة وشخص الرئيس بالذات أمام حقيقة هذا الصراع. إذ في النهاية يمكن أن يصبح سجين نظامه الخاص؛ حين يتحول لمجرد جهاز صمامات تحت رقابة الاستعمار.

والرئيس هكذا يساق إلى تدميره الذاتي عبر آلية يظن أنه يمسك بزمامها، وهي في الواقع تمسك بزمامه. هذا التدمير الذاتي ليس دائماً، ولا غالباً نهاية جسدية، ولكنه سقوطٌ سياسيٌّ للرئيس يتدرج بطريقة تنسحب معها، وتفقد الفكرة قيمتها بخطئه حين جسدها في ذاته بأخطائه. أي في الحقيقة: نتيجة الأخطاء المولَّدة ( erreurs induites) التي أدخلت إلى سياسته بفضل جهاز الصمامات الذي وضعه الاستعمار كما أشرنا. إن نهاية (سوكارنو) (¬1) أو (نكروما) (¬2) ليست إلا تدميراً ذاتياً مؤلماً. وهاتان حالتان من حالاتٍ عديدةٍ. وجملة القول: إن نظام الصمامات يعمل لحساب الاستعمار كجهاز مولِّد للأخطاء المولدة، وعند الحاجة يصبح نظام حمايةٍ لهذه الأخطاء ضد كل طيف نقد. ولا مجال للنقد في الحياة السياسية لبلاد العالم الإسلامي؛ خصوصاً حينما يكون المقصود الحفاظ على ثورةٍ مضادةٍ في طريقها إلى التكوين في الظلام الذي لا غنى عنه لانتشارها أو الحفاظ في الخفاء على أسباب ثورة مضادة تمَّت فعلاً. فخير حليف لأساتذة الصراع الفكري، ولمُجهضي الثورة، الظلام، ¬

_ (¬1) (سوكارنو): سياسيٌّ أندوينسي (1901 - 1970 م). أحد مؤيسسي " الحزب الوطني أندوينسي " (سنة 1927). شغل منصب أول رئيس لجمهورية أندوينسيا الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية. أطاح به قائد الجيش (سوهارتو) سنة (1966 م) بعد فشل محاولة انقلابٍ قام بها الشيوعيون. وبقي في الإقامة الجبرية حتى موته. (¬2) (نيكروما): رجل سياسة غانيّ (1909 - 1972م). شغل مناصب سياسية عليا، كان آخرها رئاسة جمهورية غانا (سنة 1960). كان ميل سياسته إلى الاشتراكية وتركيز جميع السلطات في يده؛ من الأسباب الرئيسة التي أدت إلى الانقلاب الذي أطاح به سنة (1966)؛ عندما كان يقوم برحلةٍ في الصين.

والسكوت، ومن الغريب أنه في وسط الحكومة المؤقته للجمهورية الجزائرية في القاهرة خلال سنوات الثورة الجزائرية كانت كلمة السر المتداولة: ((اسكتوا، لا تتكلموا .. الاستعمار ينصت إلينا)). كان ذلك من روائع أعمال أساتذة الصراع الفكري، إنها لمسة فنان يجيد اللعب على وترنا الحساس. وفي مناسبةٍ أخرى كنت أستمع يوماً بعد انفصال الوحدة بين سورية ومصر إلى نقد، أظن من راديو حلب، وطالما أن النقد منصبّ على فكرة الوحدة مساً بها، وبخساً لقيمها، واحتقاراً لشأنها، كان الأمر على ما يرام. وكان يمكن سماع كل كلمة بوضوح. ومنذ أن بدأ النقد حول مسألة نظام الصمامات التي استعملت لتوليد (الأخطاء المولَّدة) في السياسة العربية التي قضت على الوحدة؛ فإن الكلمات تلاشت في الضباب. طواها التشويش الإذاعي. هل كان ذلك عبر الأسطول السادس، أو تل أبيب مباشرة؟ لا فرق. إلى متى سيدوم هذا الوضع!؟. لامجال للمخاطرة في تنبؤاتٍ تكذبها في الغالب الأحداث. ينبغي ألا نتكهن بأن هذا أو ذاك من الأحداث سيضع حداً لنهاية هذا الوضع. فالمطلوب: أن نُرْجِع ذلك إلى سببه النفسي الاجتماعي، وأن نبيّن بالتالي كيف يزول بزوال ذلك السبب. لقد أشرنا قبل ذلك في معرض دراسة إلى نوعين من الأخطاء تختص باطرادنا الثوري: الأخطاء النابعة من ذاتنا، والأخطاء المولَّدة. لكن أسبابها واحدة، إنها تكن في نفسيتنا: ففكرنا خاضعٌ لطغيان الشيء والشخص، وهذا السبب سيختفي عندما تستعيد الأفكار سلطانها في عالمنا الثقافي. حينئدٍ فإن محاكمتنا للأمور بصفة عامة؛ وفي الإطار السياسي بصفة خاصة تأخذ أو تسترد طابعها المنهجي والمعمم؛ والذي يستطيع أن يصهر بدفعة

واحدة عديداً من التفاصيل في كُلِّ مُوَحِّد، وأن يصبها في تركيب متآلف ( Synthèse). إن روح عصر ما بعد الموحِّدين، المصابة بالذرّية ( Atomisme): لا تسلك سبيل التكامل بانتهاج التركيب المتآلف ( Synthèse). فالنزعة الذرّية هي قفزة البرغوث من تفصيل إلى تفصيل؛ بحيث لا تسمح أن ترى في مجموعة من التفاصيل المعطاة وضعاً يبرز بالتحديد مشكلة مرحلةٍ من الاطراد الثوري. وبهذه الطريقة سيظل التفصيل مستقلاً عن الموقف الموضوعي الذي نعيشه؛ بحيث يضاف إلى وضع شخصي؛ كالحبَّة التي تضاف إلى مسبحة أحلامنا. وكم أضاف أساتذة الصراع الفكري من حبات الكهرمان إلى مسبحة أحلامنا!! كاسم جميلة بوحيرد، وعبان رمضان في الثورة الجزائرية، وسواه في الثورة الفلسطينية. ولم يمض كبير زمن على الجموع التي تظاهرت عام (1919) في شوارع القاهرة وهي تصرخ: ((نظام الحماية مع زغلول خيرٌ من الاستقلال مع عدلي باشا)). وهذه البدع ستستمر ما دام عالمنا الثقافيُّ محكوماً بالأشياء أو الأشخاص. إن أساتذة الصراع الفكري يعرفون بأن التعامل مع وثنٍ: هو أسهل من التعامل مع فكرة. والتابعون لهم من أبناء البلاد ( indigenes) هم من الرأي نفسه: يعرفون أن استغلال النفوذ أسهل مع الأشخاص منه مع الفكرة. والجوهري بالنسبة لهؤلاء وأولئك: هو أن لا يدع الاطراد الثوري يتمحور حول فكرة.

وندرك لحظة الفرج عند هؤلاء وأولئك مع كتاب (فرانز فانون fanon) (¬1) حول الثورة الجزائرية؛ لأنه اختصر صورة الثورة إلى مجرد عملٍ من أعمال العنف. وربما دون أن يدري، قد أراح الزعماء و (صغار الزعماء) من همِّ التفكير، وهو قد أراحهم على وجه الخصوص من عقدة الذنب تجاه الأفكار التي خانوها. لكن الأفكار المخذولة، وانتقامها ظاهر للعيان في العالم الإسلامي. ¬

_ (¬1) (فرانز فانون Frantz Fanon) ؛ (1925 - 1961) ، عالمٌ نفسانيٌ، ورجل ثورة من أصلٍ (أنتيلي Antiliais) . شغل منصب رئيس الأطباء في المستشفى النفسي في بليدة (1953 - 1957). درس عند السكان المحليين ظواهر ضياع الشخصية التي يسببها الاستعمار. فكان أن ناصر الثورة الجزائرية ودععمها، وعندما طُرد من الجزائر ذهب إلى تونس؛ حيث مارس مهنته. له العديد من الأعمال التي يحلَل فيها الاستعمار: اجتماعياً، وسياسيّاً، والتي تدور بمعظما حول مسألة الصراع من أجل التحرير في العالم الثالث: وخاصة في القارة الإفريقية.

الفصل الرابع عشر الأفكار والسياسة

الفصل الرابع عشر الأفكار والسياسة • الحرب والسياسة: قوة الجيش تتمثل بالثقة في القاعدة السياسية. ــــــــــــــــــــــــــ ((الحرب: هي استمرارٌ للسياسة بوسائل أخرى)). إن تعريف (كلوزويتر Clausewiz) (¬1) للحرب والذي كان يلقَّن في الأكاديميات العسكرية منذ قرنٍ مضى جديرٌ بأن يدرس اليوم في معاهد العلوم السياسية. إنه يدخل السياسة عرَضاً في نظامٍ تمثل فيه الأفكار التي تسيِّر الحرب بنية فوقية؛ في مقابل بنية تحتية مؤلفة من الأفكار التي تشكل هيكلية المذهب السياسي بالمعنى الحصري (¬2). ¬

_ (¬1) (كارل فون كلوزويتز) جزالٌ ومنظّر عسكري نمساوي (1780 - 1831 م). كان لكتابه " في الحرب " أثرٌ عظيم في الفكر العسكري المعاصر. ومن أهم أفكاره: أن ((الحرب ليست سوى امتداد للسياسة؛ ولكن بوسائل أخرى))، وأن الأمة التي تدخل حرباً ( sitale) يجب أن تكرس نفسها بكاملها لتلك الحرب وليس جيشها فقط. (¬2) يقصد بالبنية التحتية (في المفاهيم الفلسفية) = البنية المخبأة، أو غير الملحوظة، التي تدعم عمل إيديولوجية ما وتكون في أساسها، وبالبنية الفوقية: النظام المؤسساتي والأفكار التي يعيها المجتمع وتتحكم في سيره (مثل النظام الاقتصادي).

وهذه العلاقة تتضمن تجاوباً بين صلابة البنية الفوقية العسكرية وجدارة البنية التحتية السياسية. وربَّ ناقدٍ يغلب عليه التفكير السطحي عاصر الحملات التي انطلقت بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مباشرةً لما فاته أن يعتبر كخطأ مميت تصرف أبي بكر؛ عندما ألقى بالجيش الإسلامي في معارك ثلاث في وقت واحد (¬1)، إحداها داخل الجزيرة العربية ومعركتان في الخارج على الحدود. إنما فات هؤلاء النقاد أنه بالإضافة إلى الظروف التي لم تدع للخليفة فرصة الاختيار؛ فقد بنى الحساب على أساس المعطيات السياسية للعصر. إذ لا ننسى أنه كان في المدينة أبو بكر وعمر. ¬

_ (¬1) حينما جهز أبو بكر رضي الله عنه جيش أسامة إلى بلاد الشام ارتدت بعض قبائل العرب، ومنعت الزكاة وهاجموا المدينة؛ فخرج أبو بكر بنفسه للقائهم، وقد جاء في كتاب تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي للدكتور حسن إبراهيم حسن 1/ 214: ووجه أبو بكر همه بعد ذلك إلى إخماد الفتن والثورات الداخلية ليشغل العرب بالحروب الخارجية؛ لأنها كانت تفي بما أمر به الدين من نشر الإسلام من جهة، ولأنها كانت من جهة أخرى استغلالاً صالحاً لما جبل عليه العربي من حب القتال. لذلك لم يكد أبو بكر ينتهي من حروب الردة الطاحنة التي شنها على العرب المارقين، حتى أرسل تلك الجيوش وزودها بالأمداد يتلو بعضها بعضاً لفتح البلاد ونشر الإسلام فيها. فأنفذ خالد بن الوليد إلى الحيرة، ودعا المقاتلين من أرجاء الجزيرة العربية للجهاد في سبيل الله، وأنفذهم إلى بلاد الشام. وإن توجيه أبي بكر الجيوش لغزو دولتي الفرس والروم في وقت واحد؛ مع ما كان لهاتين الدولتين من الملك وبسط النفوذ ووفرة الثروة ليدل على حسن سياسته وقوة عزيمته. غير أننا لا نعجب إذا عرفنا ان هاتين الدولتين. وإن كانتا مضرب الأمثال في الأبهة والعظمة إلا أن هذا كله كان أمراً ظاهرياً فقط، فقد أضعفهما استبداد الملوك، والبذخ، والخلافات الدينية، والتنافسي على الملك؛ على حين ألف الإسلام بين قلوب العرب، فوجد أبو بكر في الأمة العربية الفتية المؤلفة بالحرب، المتقشفة في طعامها ولباسها مع ما عليه رجالها من شدة الإيمان، والحرص على الاستشهاد في سبيل نصرة الدين خير معين للقضاء على هاتين الدولتين.

ولقد كانت قوة الجيش الإسلامي تتمثل بالثقة في هذه القاعدة السياسية؛ التي كانت تُؤَمِّن مؤخرة الجيش، وتُؤَمِّن جبهته. لقد أورد المؤرخ (ديورانت Diorante) حواراً موجباً للعبرة حول السياسة، دار بين (كنفوشيوس) وأحد أتباعه ويدعى (تسي كوغ)؛ الذي كان يسأل أستاذه عن السلطة (¬1). أجاب (كنفوشيوس) (¬2) قائلاً: على السياسة أن تؤئن أشياء ثلاثة: 1 - لقمة العيش الكافية لكل فرد. 2 - القدر الكافي من التجهيزات العسكرية. 3 - القدر الكافي من ثقة الناس بحكَّامهم. سأل (تسي كوغ): ((وإذا كان لا بد من الاستغناء عن أحد هذه الأشياء الثلاثة فبأيِّها نضحِّي؟)). وأجاب الفيلسوف: بالتجهيزات العسكرية. سأل (تسي كونغ): ((وإذا كان لا بد أن نستغني عن أحد الشيئين الباقيين فبأيهما نضحي؟)). أجاب الفيلسوف: ((في هذه الحالة نستغني عن القوت؛ لأن الموت كان دائماً هو مصير الناس، ولكنهم إذا فقدوا الثقة لم يبق أيُّ أساس للدولة)). والشريعة الإسلامية جسّدت هذه الفلسفة السياسية في العلاقة المتبادلة بين المحكوم والحاكم. فعلى المواطن؛ السمع، والطاعة. لكنه في الوقت الذي يلحظ ¬

_ (¬1) تاريخ الحضارة؛ ترجمة بدران 4/ 60. (¬2) (كونفوشيوس) فيلسوف صيني (555 - 479 ق. م) كان لتعاليمه وأفكاره الأثر الأكبر في تاريخ الحضارة الصينية حتى العصر الحديث.

فيه تجاوزاً من رجل السلطة لأحكام الشريعة يرفض السمع والطاعة. فالعلاقة المتبادلة بين الحاكم والمحكوم تصبح مقطوعةً لا تلزمهم بشيء. وعمر بن الخطاب أدرك ذلك جيداً. إذ حينما رأى أعرابياً يرفض السمع والطاعة ذات يوم لم يبحث عن اضطهادٍ لهذا المعاند، بل عن تفسير قدم إليه في قطعة من القماش؛ استوجب أخذها من نصيب ولدِه من الغنائم ليكتمل بها جلبابه؛ لأنه طويل القامة. فالحاكم ليس فحسب ذلك الرجل النزيه فهذه صفة يتمتع بها سائر صحابة النبي. فأبو ذر الغفاري وهو من أكثر وجوه عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - سمواً: سأل يوماً أن يعيَّن حاكماً على إمارة. لكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رفض طلبه رغم ما كان يكنّه للصحابيِّ الجليل من تقدير عميق حتى آخر يوم من أيام حياته. فالنزاهة لا تكفي وحدها. يجب أن تضاف إليها الكفاءة وأكثر من ذلك الملاءمة. وهناك أكثر من حاكم عزله عمر وكان الخليفة يقول: ((ليس لطعنٍ في نزاهته ولا لنقصٍ في كفاءته)). فأبو عبيدة بن الجراح (أمين هذه الأمة) كما سماه الرسول - صلى الله عليه وسلم -[متفق عليه]؛ قد عزل رغم كفاءته ونزاهته. لكنه كان هو الذي يفكر فيه عمر وهو على فراش الموت ليولّيه أمر خلافته في الظروف المأساوية التي أحاطت بموته: ((آه .. من لي بأبي عبيدة لأولّيه أمر هذه الأمة)) (¬1) فهل هو التناقض في خلد عمر؟ ¬

_ (¬1) كان هذا الصحابي الجليل قد توفي في سورية أثناء تفشي وباء الطاعون فيها، وذلك قبل وفاة الخليفة عمر بعامين أو ثلاثة.

إن النزاهة والكفاءة صفتان مطلوبتان في رجل السلطة مهما كانت مرتبته. إنما فوق هذه المرتبة لا بد من شيءٍ من الملأءمة في نظر عمر، فأبو عبيدة كان يملك تلك الملاءمة الخاصة بتولي أمر الأمة. والمدينة المسلمة تأسست على هذه المجموعة من الفضائل في رجل السلطة وفي المحكومين. ولأجل العمل على حفظ هذه الفضائل، أنشأ الفقه الإسلامي نظام (الحسبة)، هذا النظام الذي يشبه من بعيد ما يسمّى اليوم (بالنقد الذاتي)، والنقد من أجل مراقبة استمرارها الفعال وفاعليتها في الحياة العامة. فالمدينة المسلمة ليست حشداً مزيجاً من طوائف اجتماعية مختلفة، بل إنها بوتقة جماعة وحدتها الثقةُ المتبادلة بين سائر أفرادها محكومين وحاكمين. غير أنها ليست مع ذلك جمهورية (أفلاطون)؛ التي انتحلها في كثيرٍ أو قليلٍ (الفارابي) في المدينة الفاضلة، فنموذجها الأصلي هو المدينة نفسها في عهد عمر. وإلى هذه القدوة السامية ينبغي أن نقارن تنظيماتنا وأفكارنا السياسية الحالية في العالم الإسلامي المعاصر؛ لنقيس عبرها تخلفنا عن هذا النموذج. وإننا لبعيدون عنه في منهجي السياسة الإسلامية الحالية اللذين يوجدان في البلاد المتخلفة. فالنهج الذي يسمى (محافظ)، أو النهج الذي يسمى (تقدمي) لا يوجد فيهما الاهتمام بكسب ثقة الجماهير التي تحكمها باعتباره اهتماماً رئيسياً. وفيما عدا واحدٍ ضرب لبلاده المثل الأعلى في الديمقراطية والتواضع السياسي الرائع؛ حين تنحى عن طيب خاطرٍ، وتخلى عن مسؤولياته رئيساً للدولة؛ لم يعرف العالم الإسلامي اليوم في حياته السياسية كتصرف (ديغول) عقب الاستفتاء الذي لم يعطه أغلبية الأصوات عام (1968).

فالسياسة لابد لها أن تكون: أخلاقية، جمالية، علمية، لكي يكون لها معنى في مسيرة التاريخ. (شو أن لاي) (¬1) قال منذ زمن: ((سياستنا لا تخطئ لأنها علم)). وكان على حقٍ ضمن الحدود التي لا يخطئ فيها العلم. يتعين على السياسة أن تكون علماً، علماً اجتماعياً تطبيقياً. إنّ مثقفي الصين قد سكبوا في ثورتهم الصينية ثلاثين عاماً من التفكير الاجتماعي والتاريخي، وإن السياسة التي تمتص هذا القدر العظيم من المعارف تصبح بالضرورة علماً مطبقاً على المشكلات الحيوية في الصين. ومن هذا الجانب بالذات؛ أي بصرف النظر عن الطابع الماركسي الذي أورث النقد الذاتي الخصب: كانت الصين قد اكتسبت مع مفكريها منهج العمل العلمي. وإذا كانت هذه المناهج قد أثبتت فاعليتها في ظلّ حكم (ماوتسي تونغ) (¬2)؛ فإن ذلك يرجع إلى ان هذا الحاكم قد عرف كيف يطلب من هذه المناهج ما كان ينبغي اقتباسه من التقاليد الصينية القديمة، وحتى من أساطيرها: كأسطورة (بوكونغ): الذي ينقل الجبال من أماكنها، فبلور هذه العناصر كلها في إيديولوجية واحدة. ¬

_ (¬1) (شو أن لاي) رجل سياسة، وعسكريٌ صيني (1896 - 1976 م). شغل عدة مناصب سياسية منها زئاسة حكومة الصين الشعبية سنة (1949) كان منظِّر الحزب الشيوعي الصيني، وكان دبلوماسياً شارك في العديد من المؤتمرات الدولية ودعم الحراس الحمر أثناء الثورة الثقافية. (¬2) (ماوتسي تونغ) (1893 - 1976 م): قائد الثورة الشيوعية الصينية. قاد العديد من الثورات والإصلاحات في بلاده. وضع عدداً من المؤلفات ضمّنها أفكاره السياسية والإيديولوجية، أهم هذه المؤلفات "الكتاب الأحمر".

ولأنه ينشد الحقيقة فإن العلم يصبح نظاماً أخلاقياً لا يطيق الصبر على الخطأ من غير أن يجري التصحيح المطلوب. لكن يبدو أن البلاد الإسلامية لا يروقها أن تلقي نظرةً خلفها. ومع ذلك فمن الضروري أحياناً العودة بالخطى حينما يكون من الممكن تصحيح الأخطاء عبر مناقشة حول موضوعها ترسخ الحوار بين الحاكم والمحكوم. ولقد كان خير مثل للرجوع إلى المصادر التي تعيد الثقة؛ ذلك المثل الذي قدمته الصين الشعبية بثورتها الثقافية التي قلبت طبقات المجتمع، وعالم الثقافة، رأساً على عقب وجددت البلاد إلى حد كبير (¬1). إن أمام البلاد الإسلامية اليوم هذه الدروس في السياسة العليا التي صنعت المعجزات كما رأينا. وإن خلفها دروس الثقافة الإسلامية الرفيعة التي تتيح لها استعادة بعض المفاهيم التي لا تقدر بثمن (كالحسبة): التي هي جديرةٌ بإدماجها بالنظم السياسية للبلاد الأكثر حداثة؛ وبالخصوص لهذه البلاد بالذات. ¬

_ (¬1) الثورة الثقافية في الصين: ثورة قام بها (ماو تسي تونغ). كان هدفها صنع وعيٍ جماعيٍ جديد يحارب الفردية، ويدعو إلى (خدمة الشعب). كانت هذه الثورة عبارة عن تحوّلٍ جذري جعل السياسة والثقافة تعلو على القوى الاقتصادية.

الفصل الخامس عشر الأفكار وازدواجية اللغة

الفصل الخامس عشر الأفكار وازدواجية اللغة • المؤثرات الغربية في البلاد الإسلامية: مستوى اللغة. • الانشقاق عن الأصل. • ازدواجية اللغة وانقسام المجتمع. ــــــــــــــــــــــــــ لقد غرس العصر الاستعماري فيما غرس من الظواهر المتصلة بالهياكل: الاقتصادية، والاجتماعية، والإدارية، في البلاد المستعمرة ظاهرةً خاصة: هي (ازدواجية اللغة) التي تتعلق ببُناه الثقافية والعقلية، وبأفكاره. وحتى البلاد الإسلامية التي لم تعرف الحضور الفعلي- الإداري والعسكري- للغرب لم تَسْلَمَ بقليلٍ أو كثير من الحدة مؤثرات ثقافته. هذه المؤثرات كانت بارزةً في تلك البلاد حتى في المستوى اللغوي، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة، وبطرائق تختلف من بلدٍ إلى آخر. وإذا كان يمكن القول بأن درجة التأثير هي شبه معدومة في اليمن مثلاً؛ إلا أننا لا نستطيع أن ننكر أن تأثيراً من هذا النوع دلف إليها من بلاد إسلامية أخرى أكثر تعرضاً لتلك المؤثرات. ففي مصر حيث اللغة الأجنبية المنافسة: هي الإنكليزية، تؤثر هذه اللغة على زاوية معينةٍ من العمل الفكري؛ يمكن أن نضعها في جانبٍ؛ نموذجاً لبلدٍ

لديه مشكلة ازدواج لغوي جامعي، وفي الجانب المقابل يمكننا أن نعرض الجزائر نموذجاً آخر، اللغةُ المنافسة فيه الفرنسية، وهي تستوعب ليس فحسب حاجات العمل الفكري، بل الاتجاهات العادية للحياة اليومية، وإذن فلدينا هنا مشكلة ازدواجية لغوية شعبية. إن النتائج الاجتماعية ليست أبداً واحدة. ففي حالةٍ تصبح ازدواجية اللغة مفَجِّراً يعيد الحركة للعالم الثقافي. فمع المفاهيم المرسلة من ثقافةٍ أخرى، والمترجمة بقليلٍ أو كثير من الأمانة، فالأفكار المطبوعة التي لم يعد لها أي صدًى، ولا حوار مع الحياة، ولا تأثير على مجراها: تستعيد كلمتها وتعود لإنتاج أفكار موضوعة يكتنف مقاصدها شيء من الغموض يعود لأصلها المزدوج؛ لكنها تظل تنتسب لأفكارها الأصيلة ولا تفقد اتصالها بها. فعندما كان الشيخ (محمد عبده) يكتب بحثه في العقيدة؛ كان يستلهم دون شك تلك الكلاسيكية المزيفة؛ التي كانت عليها الثقافة الأزهرية في عصره. لكنه بالشكل الجديد والطريقة الجديدة التي عبّر بها؛ قد افتتح (برسالة التوحيد) كلاسيكية جديدة. لقد كان مجدداً في إطار نوع من الكلاسيكية. وأحياناً يهتز هذا الإطار قليلاً. إذ يلاحظ مع (علي عبد الرازق) أن هذا الأزهري القديم الذي أصبح تلميذ أكسفورد؛ لا يصل إلى حد التحرر من الكلاسيكية المزيفة لما بعد الموحدين فحسب بل إن تحرره تجاوز ذلك إلى التخلص من منهج الأصل الإسلامي؛ حين يجعل موضع التساؤل: قِيَمَه وأفكاره الأساسية؛ وذلك عندما ناقش مثلاً فكرة الخلافة (¬1). ¬

_ (¬1) انظر مختارات من الأدب العربي المعاصر. لأنور عبد الملك. سوي، 1965، ص 81 - 86.

وهكذا فإن الانشقاق الذي أدخلته ازدواجية اللغة في العالم الثقافي للبلد الإسلامي؛ ليس فقط ذا طابع جمالي بل هو ذو طابع أخلاقي وفلسفي. ومع ذلك فإن هذا الانشقاق يمكن له أن يتعمق أكثر من ذلك في بلادٍ إسلاميةٍ أخرى؛ حيث ازدواج اللغة لا يُستعمل لمجرد تفجير يطلق حركة العالم الثقافي الذي كان قد توقف فيه نبض الحياة الفكرية. ففي الجزائر- مثلاً- وحتى الجزائر المستقلة؛ فازدواجية اللغة ليست فقط مجرد مفجِّر، بل هي أكثر من ذلك ديناميت قذف في العالم الثقافي، وإذا كان لم ينسف كل شيء فإن انفجاره أحدث أغرب الانشقاقات. بادئ ذي بدء وفي أعلى المراتب ظهرت طائفتان من النخبة: النخبة التي تتكلم العربية وتحاول مع (ابن باديس) أن تسترد الأصول الإسلامية، وهي الفكرة التقليدية التي أفلتت منها نهائياً مع سقوط الإصلاح، وفرار أتباعها إلى الوظائف العامة بعد الثورة. وطائفة تتكلم الفرنسية وتتنكر بكل الأقنعة: كالكمالِيّة، والمصالية، والحركة المضادة للمصاليّة، والبربرية، والتقدمية، والوجوديّة المزيفة، والماركسية المزيّفة؛ كي تخدم تحت كل سمة من تلك السمات آلهة اليوم وتمائم الساعة، وفي الحقيقة لتخدم نفسها تحت أي قناع من هذه الأقنعة. لقد تتابع الفاصل الزمني طوال نصف قرنٍ في عالم ثقافي خليط غير متجانس، حيث لا تستطيع فكرةٌ أن تنبثق مؤمنة بنفسها لتقود الشعب الجزائري إلى مصيره. فالطائفة الأولى لم تنجح في إرساء اتصالٍ بين الروح الجزائرية والتقاليد الأصليّة للسلف الصالح؛ لعدم وجود اتصالٍ حقيقي لديها بنماذجها المثالية.

والطائفة الثانية لم تستطع إرساء اتصالٍ مع حضارةٍ؛ لعدم فهمها لروحها العمليّة. فافتقاد الأفكار الأصلية من ناحية، وافتقاد الأفكار الفعّالة من ناحية أخرى، جعل الشعب الجزائري يراوح ولا يتقدم. لكن النماذج الأصلية المخذولة من هذا الجانب كما في الجانب الآخر قد انتقمت لنفسها بتلك المراوحة التي دامت نصف قرن. والشعب الجزائري هو الذي قطع أخيراً جمود هذا الفاصل الزمني، فتخلى بالفعل عام (1954) عن جميع قادته الروحيّين؛ لكي ينطلق وحده في طريق الثورة. وفي الحال تحوَّل هؤلاء الأخوة الأعداء إلى (أصدقاء) حتى لا يقصيهم الشعب الذي ينوون استعادة سيطرتهم عليه. وهكذا تحالفوا ظاهرياً مع الثورة؛ لكن تحالفهم كان في الواقع مع الزعماء الذين كانوا يوزعون عليهم المنح والمكافآت في تونس والقاهرة. وينبغي أن نلاحظ من أجل التاريخ أنه لمجرد أن انقضت في أوراس الإدارة الأولى للثورة التي سيت (بالنظام) (¬1) فإن الثورة لم يعد لها إدارة، وإنما أصبح لها معتمديَّة، توفر لها حاجاتها إلى البذخ والأبهة، أكثر مما تلبي حاجات المقاتلين. ومهما يكن من أمر، فعندما يرفع الستار من جديد عن المسرح الجزائري؛ يمكن رؤية آثار ازدواجية اللغة من الموقع الأكثر وضوحاً، وهو الموقع الذي سوف يزايله الحضور الاستعماري؛ الذي لا يزال يلقي بظله عليه. حينئذ يتبدّد ¬

_ (¬1) اتخذت السلطة الثورية هذا الاسم في الفترة البطولية للسنتين الأوليين منها.

الغموض الذي أحاطه به ذلك الحضور، وتتبدد معه تلك اللعبة البارعة التي جرت في سني الثورة. حينئذ يمكننا أن نرى الانشقاق الذي أحدثته ازدواجية اللغة أكثر عمقاً، إذ أنه يتناول القمة والقاعدة. فالبلاد لم تعد تحتوي نخبتين؛ وإنما مجتمعين متراكبين: أحدهما يمثل البلاد في وجهها التقليدي والتاريخي، والثاني يريد صنع تاريخها ابتداءً من الصفر. فالأفكار المطبوعة للأولين والأفكار الموضوعة للآخرين؛ لا تستطيع التعايش في عالمٍ ثقافيٍ واحد. فالمجتمعان يتحدثان بلغتين مختلفتين. فما كان يقال عبر الراديو والصحافة وحق في بعض الكتب المدرسية إذا كان في استطاعته أن يعبر عن الأفكار الموضوعة لأحد المجتمعين فإنه ليس لها أي معنى بالنسبة للأفكار المطبوعة عند المجتمع الآخر. إننا لا ندرس أسباب الظاهرة، فأسبابها تتصل من قريبٍ أو بعيد بحقل الصراع الفكري (¬1)، إنما نحن هنا نهتم فقط بنتائجها. ففي جزائر ما قبل الثورة التي لم تكن تجهل هذه الظاهرة (إذ كان صوت الإصلاح يفضحها)؛ فقد كانت هذه النتائج مع ذلك مقنعة بعض الشيء بظل الاستعمار، وبالوحدة المقدسة للبلد الذي كان يبدي ردة فعل جماعية حول هذه النقطة كما حول سواها. لكنه ما إن مرت السنوات الأولى للثورة حتى تجلت الظاهرة في وجه ¬

_ (¬1) أفراد المؤلف دراسة خاصة بعنوان "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة".

جديد. في الواقع ومنذ عام (1956) فقد بدأت نتائجها تظهر في أسلوب الثورة الجديد، واعتباراً من عام (1958) أخذت تتضح في نقاش يتعلق باصطلاحات الثورة نفسها، وأخذ النقاش يدور حول بعض العبارات لاستبدالها بسواها. وهكذا تحدث الناس بالتدرج عن (الجندي) الذي كان فيما مضى (المجاهد) واجتاز النقاش بعد ذلك الألفاظ إلى البُنَى فاختفى (النظام) وحلت محلّه التراكيب الجاهزة؛ والتي عُني بمباركتها في مؤتمر الصمام؛ فظهرت بهذه الطريقة (اللجنة التنفيذية والمجلس الوطني للثورة الجزائرية). كان المجاهد في البداية يطيع أمر المرشد الذي يدعوه (الشيخ) فاستبدل ذلك بأن أصبح للثورة ضبّاطها برتبة (كولونيل) ومنذ ذلك الوقت ظهرت مجموعةٌ من المصطلحات الجديدة أخذت تسوق أفكاراً غريبة عن العالم الثقافي الجزائري؛ ذلك العالم الذي رأت النور في داخله فكرة الثورة ذاتها ودوافعها. ومنذ الاستقلال: فهناك فريقان في القمة متعارضان بكل معنى الكلمة، ومجتمعان متراكبان في القاعدة التي تمثل الحقيقة الجزائرية. وفي هذا المستوى إذن، أي في مستوى القاعدة ينبغي أن نأخذ بالاعتبار نتائج الظاهرة التي تكتسي في الجزائر طابعاً فريداً يبدو ماثلاً في الحياة اليومية بكل وضوح، مما لا نجد له مثيلاً في بلد آخر. ينبغي أن نعتمد تخطيطاً بيانياً مزدوجاً له عودان، نضع في كل جانب الأشياء التي تخص كل مجتمع من هذين المجتمعين، من أجل أن نجعل المقارنة بارزة. فمن جهة نجد أفكار مجتمع ما بعد الموحدين؛ أي المجتمع الذي أصبحت أفكاره المطبوعة في حالة تشويش، كفيلمٍ أو أسطوانةٍ مسحت بالزمن، لا نجد عليها بواعث الحياة.

وفي العمود الآخر نجد الأفكار الموضوعة لا تعبر عن شيء، كأسطوانة لم تحتفظ بأثر سوى أنغامٍ انفصلت عن أفكارها الأساسية التي بقيت على أسطوانة عالم ثقافي آخر. وفي هذا الجانب فإن الأفكار الموضوعة تمثل مادة ثقافية: هي أيضاً أكثر غموضاً، وعاجزة عن توفير طرائق عملية فعالة. فمن ناحية المجتمع الأول يغدو حدْسُنا في سبر الواقع مجرد ومضةٍ؛ لا تلبث أن تختفي قبل أن تجد ترجمتها في مخطط. ومن ناحية المجتمع الثاني نجد فكرةً تخلط بين الحركة الوجودية التي تأتي في أعقاب حضارة، وبين الجهد الفكري الذي يحدّد نقطة انطلاق حضارة. وإذا تابعنا المقارنة نجد في جهة العمود الأول الشكل الشخصي والأدبي، وفي جهة العمود الثاني الشكل الموضوعي المزيف والعلمي المزيف. ثم نجد في العمود الأول مجتمعا مخدراً يفرض عاداته وأفكاره المسبقة وخرافاته كتقاليد أصيلة، وفي المقابل نجد مجتمعاً يريد أن يكون ثورياً، يثور في الواقع ليس على القيم الباطلة بل على القيم الأكثر أصالة. نجد في جهة الفكرة التي فقدت إشعاعها الاجتماعي، وفي الجهة المقابلة الفكرة ذات الإشعاع القاتل. في جهةٍ الركود والسكون، وفي الأخرى الديناميّة المزيّفة والفوضى الصارخة. وهكذا فميزانية ازدواج اللغة؛ حتى منها المبسطة أكثر مما ينبغي لا تقف عند هذا الحد، بل إنها تتعدى إلى إطار الجهود الخلاقة الجادة.

ويبدو أن تعقيداتها لم توفر الأدب العربي. هذا الحقل الخاص الذي تلمع فيه اليوم شهرة أديب (كتوفيق الحكيم) الذي هو في الحقيقة أفضل كاتبٍ روائيٍ عربيٍ معاصر. ومن المؤلم والمدهش معاً أن نرى مؤلفاً موهوباً مثله يتورط في مواقف لها دلالتها؛ مشيراً إلى أن أفكارنا الأكثر أصالة تخون نماذج ثقافتنا؛ لتساير ثقافةً أجنبية سيئة التجانس. ومثلاً، ففي إحدى أشهر المقتبسات المسرحيّة نجح توفيق الحكيم في ربط الدراما بمعضلة الصراع بين الحق والقوة. لكن الشخصية التي طرحت المعضلة ليست عادية. إنها القاضي (العز بن عبد السلام) الذي سيبقى دائماً نموذج القاضي الذي لا يهادن في أداء الواجبات الملقاة على عاتقه. لكن الشريعة من جهة أخرى لها مصطلحاتها الخاصة، وكل مصطلحٍ له أكثر من معناه اللغوي، إن له شحنةً عاطفية وأخلاقية ارتسمت فيه عبر تاريخ الثقافة. لذا فإن مفهوم (القانون) خاصة على لسان قاضٍ في منزلة (العز بن عبد السلام) يجب أن يترجم بمصطلح (الشريعة) لتجد وزنها الكامل في المشكلة الأخلاقية. ومن المدهش أن نرى الشخصية التي مثلت دوره في مسرحية توفيق الحكيم تنطقها (القانون)؛ كما لو كان أي قاضٍ من القضاة، أو أي محامٍ من صغار المحامين بالقاهرة أو الجزائر اليوم. وهذا المظهر لازدواجية اللغة الذي أدلى بتأثيرات غير متوقعة في التعبير العربي عن أفكارنا ليست أقل مظاهر هذه المشكلة دلالة.

أما فيما يختص بالتعبير عن فكرنا باللغة الأخرى- فإنه يكتسي أحياناً مظهر الجهل الكامل بالثقافة الوطنية؛ إذا لم يكن خيانة لها. وها هو على سبيل المثال ما يمكن قراءته في أول جملة من كتاب بعنوان: " فن العمارة بالجزائر ": " في الماضي كان يطلق على المهندس المعماري اسم (معلم البناء)، وكان يدعى لبناء القصور والمعابد والكنائس والأبنية الدفاعية ". ونلاحظ بألمٍ أن قائمة المصطلحات المعمارية التي وردت في هذا الكتاب الذي قامت بنشره وزارة الإعلام قد أغلقت عبارة (المسجد)؛ بينما المسجد مصطلحٌ خاص في فن العمارة الإسلامية لا يمكن إغفاله؛ حتى حينما ندرس في فرنسا أو في إنكلترا أو في ألمانيا. فأقل ما يمكن قوله في هذا المقام: هو أن ازدواج اللغة يمكن أن يتولد عنه نتائج تتعارض كلياً مع الثقافة الوطنية.

الفصل السادس عشر الأفكار الميتة والأفكار المميتة

الفصل السادس عشر الأفكار الميِّتة والأفكار الْمُمِيتة • الأفكار الميتة نتاج إرثنا الاجتماعي تولّد قابلية الاستعمار. • الأفكار المميتة مستعارة من الغرب تولّد الاستعمار. • النخبة المسلمة تختار الأفكار المميتة في الثفافة الغربية. • مقارنة بين المجتمع الإسلامي المعاصر واليابان. ــــــــــــــــــــــــــ مر بباريس يوماً أكبر شعراء العصر الحديث عبقرية: فألهمته مدينة الأنوار قصيدةً تغنت ببهائها. ولم يكن شوقي الخالد يظن أنه حين يترك للأجيال واحدةً من أروع قصائده؛ إنما يعطي ذريعةً سيستغلّها ضدّه بعد وفاته بعضُ هواة الأصولية المتنطّعين. بالنسبة لهؤلاء الناس؛ الذين يبدون الاهتمام بالأصولية في عالمنا الثقافي ينبغي أن نسدّ منافذ هذا العالم لنحمي أنفسنا من العدوى. وعلينا أن نراقب في نظرهم، لا بل أن نحبس تنفسنا الفكري وأن نضع في النهاية على أذهاننا أقنعة واقية كيما نتجنّب أية عدوى محتملة.

لقد فكر (ماك كارثي) (¬1) بتنظيم التنفس الفكري في بلاده فاتهمه الرأي العام العالمي بأنه عجوز خبيث. ولكن حين يتعلق الأمر برجل شريفٍ ولطيفٍ جداً يكرس وقته لتربية أبنائنا بأفضل ما يمكن من النزاهة؛ فلا يمكن أن نبخس قيمة آرائه الشخصية، ولا أن نضعها بلا قيد ولا شرط في عداد (الديماغوجيّة). فقد استمعت مرة إلى (زيتوني) أعلم أن رأيه في شوقي لم يكن رأيه الشخصي ولكنه الرأي الذي تكون في عالم ثقافي تجاورت في داخله أفكار ٌ منسلخة عن جذورها، وهي بالتالي ميتة، مع أفكار أخرى استوردت بصورة سيئة من الخارج من عالم ثقافي آخر تركت جذورها فيه فأضحت لذلك مميتة. ما هو خطأ شوقي الكبير في نظر هذا المستعمَر والقابل للاستعمار الرفيع؟ خطؤه كما يقول خريج (جامعة الزيتونة) هو تمجيده الأثر المفسد لتلك الثقافة الغربية التي ربطت (90%) من النخبة المسلمة بإدراك منهم أو بغير إدراك في خدمة الاستعمار. إن خطر هذا التأكيد يبرز في أن المظاهر تؤيده. إنما الذي يهمنا من ذلك كله الواقع المرضي الذي يكمن وراء هذا التأكيد وتلك المظاهر. إنها الأفكار الميتة التي نتجت عن إرثنا الاجتماعي قد تجاورت مع الأفكار الْمُميتة المستعارة من الغرب. ¬

_ (¬1) (ماك كرثي Joseph Raymoud Mac Carthy) : رجل سياسة أميركي (1908 - 1957 م). كان عضو مجلس الشيوخ (1946). وكان ينتمي إلى حزب الجمهوريين. عُرف بالحرب الشعواء التي شنها ضدّ الشيوعيين، وضدّ عددٍ من الشخصيات السياسية والفكرية؛ التي نعتها بالميل إلى الشيوعية. ولكن (الماكارثية) ما لبثت أن شجبها الحزب الجمهوري، ومالبث مجلس الشيوخ أن وبّخ (ماك كارثي) على سلوكه.

ويمكن لنا أن نرى هنا- على صعيد آخر هو صعيد الأفكار - مظهرَيْ المأساة الاستعمارية وهما: القابلية للاستعمار، والاستعمار، مترجمين في تعبير ثقافي. بيد أنه إذا كان يجب علينا بكل حال التمييز بينهما، فإن (الأفكار الميتة) - التي خلفها لنا مجتمع ما بعد الموحدين- تبدو أشد فتكاً. ومن أجل أن نقتنع بهذه الحقيقة ينبغي أن نلقي بنظرة على الميزانية التاريخية للأفكار التي قتلت مجتمع ما بعد الموحدين، والتي تشكل أيضاً (الديون) التي تخلفت عن عصر نهضة المجتمع الإسلامي، وهو لم يتخلص منها بعد على ما يبدو. ومن الواضح أن تلك الأفكار لم تر النور في باريس، ولندن، وعلى مدرجات السوربون، أو أكسفورد؛ ولكن في فاس، والجزائر، وتونس، والقاهرة. لقد وُلدت في ظل مآذن القيروان والزيتونة والأزهر خلال قرون ما بعد الموحدين، وإذا هي لم يُقْضَ عليها بجهدٍ منظّم فإن جرثومتها الوراثية تلغم البنية الإسلامية من الداخل تخدع حوافزها الدفاعية. ينبغي أن ننقل هنا فكر (باستور) ومناهجه إلى الصعيد التربوي؛ من أجل أن نحيط بهذا المظهر المرضي في الثقافة المعاصرة للعالم الإسلامي، وإلا فإن الأفكار الميتة ستواصل عملها على الصعيد الاجتماعي والسياسي؛ كما حدث في عهد (مصدق الشجاع) الذي قضي على نظامه بهذا العمل الهدام. لقد كان الكاشاني فكرةً ميتة، والجرثومة الداخلية التي أتلفت التجربة التي ارتفعت لفترةٍ في أفق الشعب الإيراني. وإنه لذو مغزى أن (مصدق) لم ينهزم في النهاية على يد الاستعمار الذي

يشار إليه عادةً بهذا الاسم، والذي تجسده أقوى اتحاد احتكاري لشركات البترول، بل على يد قابلية الاستعمار التي كانت تتحرك في شخص الكاشاني وباسم الله. ولكن ما أن نبدأ بمعالجة الأفكار الميتة التي لم يعد لها جذورٌ في بوتقة الثقافة الأصيلة للعالم الإسلامي؛ حتى نصطدم بالأفكار المميتة التي خلفت في عالمها الثقافي الأصلي جذورها ووفدت إلى عالمنا. وأحياناً يجسّد الأشخاص أنفسم ظاهرتي هذه المشكلة، فالفيروس الوراثي فيهم يمتص- إذا صح القول- الميكروب الخارجي الوافد إليه. أي أن الفكرة الميتة التي يحملها تنادي وتستدعي الفكرة المميتة التي تلقاها المجتمع الإسلامي. لقد كان من الصعب إقناع الناقد المحترم لشوقي بالرابط الكامن والمستقر ( ontologique) بين هذين المظهرين المرضيّين. بمعنى أن فكر ما بعد الموحّدين هو الذي ينضحُ الأفكار الميتة من جهةٍ، ويمتص الأفكار المميتة من جهة أخرى. وتطرح ظاهرة الترابط المزدوجة هذه في وجهها الثاني مشكلةً علينا أن نتجنّب طرحها بشكلٍ معكوس. إذ ليس المقصود في الواقع أن نتساءل لماذا توجد عناصر مميتة في الثقافة الغربية، ولكن لماذا تذهب النخبة المسلمة بالضبط للبحث هناك عن هذه العناصر؟. هذه هي المشكلة التي يتوجب طرحها. ذلك أن ما يحدد (خيار) هذه النخبة في الواقع ليس مضمون الثقافة الغربية، بل مضمون الوعي في عالم ما بعد الموحدين الذي حدّد (خياراً) لهذه النخبة بإرادة منها، أو بغير إرادة. فهناك خيار في الواقع لأن العالم الثقافي الغربي ليس كله مميتاً. إذ أنه ما يزال يبعث الحياة في حضارة تنظم حتى الآن مصير العالم.

وليس العنصر المميت الذي نصادفه في ذلك الوسط الثقافي إلا نوعاً من النفايات، الجزء الميّت من تلك الحضارة. وإذا كان وعي عصر ما بعد الموحدين يذهب ليلتقط من العواصم الغربية تلك النفايات بالذات فينبغي ألا يلوم أحداً غيره. ينبغي أن نأخذ باعتبارنا نتيجة هذه النفايات؛ حينما يتم توليفها في العصارة الثقافية للمجتمع الذي يمتصها. والنتيجة إذن بكل تأكيد تعفن، إذا رأته العقول السطحية في بلادنا فإنها تخلط بينه وبين الثقافة الغربية. وينتج الالتباس في هذه النقطة من موقفنا من الثقافة بوجهٍ عام، وبالتالي من موقعنا من ثقافة أوربة بشكل خاص. ومن الواضح أنه إذا كانت الأفكار التي تستورد من الخارج هي أيضاً مميتة في وسطها الأصلي؛ فإنها ستلعب في مجتمعنا الدور نفسه وتعطي النتائج نفسها على الصعيد الاجتماعي، أي مجرد فساد، إذ يجب الإقرار بأن هناك في الوقت نفسه أشياء أخرى في الحضارة، هي أجزاؤها السليمة والقوية التي تمنحها القوة رغم كل شيء. ويزداد هذا التناقض وضوحاً عندما نعقد بعض المقارنات. فعلى الصعيد الفردي يوجد- مثلاً- فكر إقبال الذي يجعل من ثقافته شغفاً، والذي يستحق الاحترام على الأقل؛ لتجرده، كما يوجد من ناحية أخرى قافلة من المثقفين يشكلون بوعيٍ أو بغير وعي في بلادهم الطوابير الخامسة لثقافة بل لسياسة أجنبية. هذا الفارق الفردي يكمن في كون إقبال- بجهدٍ شخصي، أو لصدفةٍ استثنائية استطاع أن يقضي على مخزون الأفكار الميتة التي وجدها في بيئته عند ولادته.

ومن الجدير بالذكر في هذا الخصوص أن نجد في عمله الاهتمام بتجديد أفكار بيئته عبر كتابه الذي ترك ثمرته للأجيال ((إعادة بناء الفكر الإسلامي)). لكن الذي هو أكثر دلالة هو المقارنة بين فئتين متميِّزتين من تلاميذ الثقافة الغربية، فقد كانت الانطلاقة الحديثة للمجتمع الإسلامي معاصرةً لانطلاقة أخرى في اليابان. فالمجتمعان قد تتلمذا سوية حوالي عام (1860) في مدرسة الحضارة الغربية. واليوم ها هي اليابان القوة الاقتصادية الثالثة في العالم، (فالأفكار الْمُميتة) في الغرب لم تصرفها عن طريقها. فقد بقيت وفيةً لثقافتها، لتقاليدها، لماضيها. ففي عام (1945)، وفي المرحلة الأكثر تعاسةً والأكثر مجداً من الحرب العالمية الثانية أثبت الطيار الانتحاري (كاميكازي) (¬1) للعالم أن روح (الساموراي) (¬2) لم تمت. بينما المجتمع الإسلامي وبالرغم من الجهود الحميدة التي خصه بها التاريخ تحت اسم (النهضة)؛ فإنه بعد قرنٍ من الزمان ليس غير مجتمع ذي نموذج متخلف. والواضح في النتيجة أن المشكلة التي تطرح نفسها لا تتعلق بطبيعة الثقافة الغربية، بل بالطبيعة الخاصة بعلاقتنا بها. ¬

_ (¬1) (كاميكازي): الطائرات الانتحارية التي ملئت بالمتفجرات في الحرب العالمية الثانية وانقض بها الطيارون اليابان على الاسطول الأميركي وأصل الكلمة ( Kami) باليابانية وهو اسم خاص يمنح لمن يملكون قوى غير عادية في اليابان القديمة. (¬2) (الساموراي). طبقةٌ من المحاربين اليابانيين. انتشرت ابتداءً من القرن الثاني عشر، وتطورت عبر العصور في نظامٍ صارم لشرف المحارب. أُلغيت رسمياً كطبقة سنة (1878)، ولكن روح الساموراي لا يزال يبعث الحماس في النفوس والفنون والآداب.

فالطالب المسلم الذي يلتحق بمدرستها هو بين نموذجين: الطالب المجد، والطالب السائح. وكالا الطالبين: المجد والسائح؛ لا يذهبان إلى منابع الحضارة، بل إلى حيث تتقطر فيها أو تلقى فيها نفاياتها. يذهبان إلى حيث لا يجدان: حياتها، حرارتها، حقيقتها المتجسّدة في الفلاّح والحرفي والفنان والعالم، هذا الحشد من الرجال والنساء الذين يصنعون كل يومٍ في مدنهم وفي قراهم مجدها اليومي. هذا الوجه الأساسي قد أفلت منا سحابة أجيال لأن (الأفكار الميتة) وعصر ما بعد الموحدين قد وضعا لأعيننا ما يوضع للفَرس من كمامات تمنع من إجالة الرؤية؛ فلم يستبن لنا شيءٌ آخر غير التافه والمجرد، وحتى المميت. والآن نستطيع أن نرى بوضوح أكبر الجدل الذي نشب بين شوقي ومعارضيه، حسبها تكون إشارة الشاعر الكبير قد استلهمت الأفكار المميتة، أو أن رأي خصومه قد استلهم أفكارهم الميتة. وحينئذ سنعلم من هو المخطئ منهم ومن هو المصيب. على كل حالٍ؛ ففي اللقاء الذي أثار هذه المناقشة قبل عشرين عاماً بين العالم الزيتوني وبيني اتفق وجود عاملٍ جزائري بسيط في باريس، قد حمل إلينا بتواضعه الذي يشرِّف الرجل الشعبي الكلمة التي حسمت المشكلة بسرعةٍ حين قال: ((أعتقد أن القصة هي ذاتها قصة التطعيم الزراعي: لا يحمل الطعم (إذا حمل) ثمار الأرومة التي وضع فيها بل ثمار أرومته الأم)). ليس بالإمكان أن نوضح مشكلة الوراثة في ميدان الأفكار بأفضل من ذلك.

الفصل السابع عشر انتقام الأفكار المخذولة

الفصل السابع عشر انتقام الأفكار المخذولة • الأمراض التي تصيب حياة المجتمع: عامل العدوى فيها. • أسباب المرض: المؤسسات التي لا تقوم على الأفكار محكومٌ عليها بالزوال. • التحوّلات في المجتمع الإسلامي بعد وفاة الرّسول - صلى الله عليه وسلم -. ــــــــــــــــــــــــــ فكرةٌ ميتة: هي الفكرة التي بها خذلت الأصول، فكرةٌ انحرفت عن مثلها الأعلى؛ ولذا ليس لها جذورٌ في العصارة الثقافية الأصلية. وفكرة مُميتة: هي الفكرة التي فقدت هويتها وقيمتها الثقافيتين بعد ما فقدت جذورها التي بقيت في مكانها في عالمها الثقافي الأصلي. وفي هذه وفي تلك خيانة أفكار تجعلها سلبيةً أو ضارة. هذا التنكر ليس خاصاً بالمجتمع الإسلامي، فالعوامل النفسية الاجتماعية نفسها أنتجت الآثار المعوّقة في مجتعاتٍ أخرى وعصور سالفة. ويبدو أن الاحتياط من مثل تلك المؤثرات؛ حتى لا تتسلّل خفية إلى مجتمعٍ ما يزال في أوج قوته هو الذي دفع (سقراط) لانتقاد ما يسميه (أكلة الأفكار idéophages).

لكن ما أضافه التاريخ على حكمة (سقراط): هو أن الأفكار المقتولة، الأفكار المخذولة تنتقم انتقاماً مخيفاً. إننا نعلم منذ اكتشافات (باستور Pasteur) في فرنسا، و (كوخ Kokh) في ألمانيا أن الأمراض المسمّاة (معدية) تنتقل من شخصٍ إلى آخر عبر جُسيمات بدائيةٍ هي الجراثيم. بيد أن تاريخ البشرية الموغل في القدم يضعنا أمام نوع آخر من الأمراض يصيب المؤسسات والتنظيمات وحياة المجتمع، وفي هذه المرة فالعدوى تنتقل من جيل إلى آخر. وهذه مشكلةٌ جديدة تلزمنا بطرح السؤال التالي: ما هو العامل الذي ينقل المرض العضوي؟، وإذا أردنا المتابعة عبر هذه المقارنة علينا أن نتبنى منهجية الطب في علم الأمراض؛ عندما يدرس قصور الوظائف الفيزيولوجية. لا بد أن نعقد فصلاً خاصاً للأمراض الاجتماعية يعالج القصور الذي يصيب الأنظمة الاجتماعية والمؤسسات العامة؛ كما تعالج في الطب الأمراض العضوية. بيد أن المقارنة لا يمكن لها أن تذهب بعيداً حتى لا نسترسل، كالفيلسوف القديم في التجسيم وخلع الخصائص البشرية على هيكلية المجتمع. ويمكننا أن نتساءل عما إذا كانت جرثومة المرض التي تهاجم المؤسسات وتقضي عليها في النهاية تنشأ مباشرةً في المؤسسة، أم تنتقل إليها عبر نوع من التناضح يرشح كل منهما على الآخر انطلاقاً من بؤرةٍ للعدوى. إن طريقة حصر أسباب المرض: هي التي تسمح لنا بوضع المشكلة التي نحاول طرحها في موضعها الصحيح. لقد كانت (جمهورية روما) مؤسسةً قديمة ونبيلة. وقد اتخذت (روما)

احتياطات تضع مؤسساتها بنجوةٍ من ضربة ينزلها بها قادتها المنتصرون. فهؤلاء حين عودتهم من ساحة المعركة لا يحق لهم تجاوز نهو (الروبيكون Rubicon) (¬1) دون إذنٍ من مجلس الشيوخ. وعلى الرغم من تلك الإجراءات الوقائية فقد قضي على جمهوريتها في اليوم الذي عبر فيه (يوليوس قيصر) نهر (الروبيكون) ودخل (روما)، دون إذنٍ من (كاتون) (¬2) وأعضاء مجلسه. ويمكن لنا أن نقدّم افتراضاتٍ عدة لتفسير هذا الحدث من وجهة النظر الاجتماعية. فهناك مؤسساتٌ تشيخ وتموت ميتة طبيعية. فلو لم يُلْغَ الرق على يد رجال القرن التاسع عشر لقتلته آلات القرن العشرين. ومن الجدير بالذكر أن نلاحظ بأن تلك النهاية قد حدثت في مجال الأفكار قبل أن تحدث في مجال الأشياء. فهناك إذن قرينة يمكن إجمالها بما يلي: إن المؤسسات التي لا تجد سندها في الأفكار تبدو محكوماً عليها بالفناء. هذا ليس برهاناً بل هو مجرد قرينةٍ تفتح الباب للبحث والتقصي. فهناك مؤسسات كالزواج لا تشيخ أبداً. فإذا أُلغي الزواج في مجتمع من المجتمعات، فهذا ¬

_ (¬1) (الروبيكون Rubicon) نهر يقع شمال إيطاليا. كان يُحظَّر في عهد الرومان على أي قائدٍ أن يجتازه بسلاحه دون أمرٍ من مجلس الشيوخ. وفي سنة (50 ق. م) - خرق (يوليس قيصر) هذا القانون، وعبر (الروبيكون) وسار إلى روما على رأس جيشه، معلناً بذلك الحرب الأهلية ضدّ (بومباي Pompée) تلك الحرب التي دامت أربع سنوات وانتهت بانتصاره وتنصيبه سيّد الإمبراطورية. (¬2) (كاتون Caton) رجل سياسة روماني (93 - 46 ق. م) كان من كبار المدافعين عن (الجمهورية). وقف ضدّ (يوليس قيصر)، وساند (بومباي) في حربه ضدّ هذا الأخير. انتحر سنة (46 ق. م). عندما علم أن النظام الجمهوري في روما انتهى بانتصار (يوليس قيصر).

لا يعني أن المؤسسة شاخت بل أن المجتمع مريض. وأصل الداء في هذه الحالة ينحصر في العالم الثقافي. ففي بعض بلاد أوربة الشمالية تميل الأزمة الثقافية التي أنتجت الهِبِّيَّة إلى استبدال الزواج التقليدي بالاقتران الحر أو باقترانٍ أكثر تعقيداً أو أكثر شذوذاً؛ كالاقتران بين جنس واحد. فهذه تحولاتٌ في الإطار النفسي تقود إلى أديم الحياة الاجتماعية، تحولات اقتصادية وسياسية. ذلك أن العامل النفسي يسبق العامل الاجتماعي ويتحكم به. فكيفما تناولنا الموضوع نقع دائماً على المبدأ الذي يعبر عنه القرآن الكريم {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 13/ 11]. فالآية الكريمة تحوي في طياتها سائر النتائج التي يمكن أن نستخرجها من انتقام الأفكار المخذولة. فليس (يوليوس قيصر) هو الذي قتل (جمهورية روما)، فموتها كان نتيجة التحولات الخفية التي طرأت على الروح الرومانية، وإنه لذو مغزى في هذا الخصوص أن موت (يوليوس قيصر) مطعوناً بيد (بروتس) والمشتركين معه في المؤامرة لم يُعِد جمهورية روما إلى الوجود. والجمهورية لم تمت في (أثينا) بسبب (يوليوس قيصر)، بل في أعقاب التحوّلات النفسيّة ذاتها التي قادت إلى موتها في (روما). فالتحوّلات النفسيّة التي تدخل في الاطراد وتصبح بادية في المستوى الاجتماعي والسياسي تنشأ في مستوى الدوافع التي تتحكم في السلوك. وهذا ما نلاحظه بوضوح تام في السيرة التي قادت المجتمع الإسلامي بعد عام (38) للهجرة نحو أفول الروح الديمقراطية.

ومما يسجل أعراض هذا التحول ذلك الفتور الذي فصم روح التراحم في قلب عقيل؛ أخي علي كرّم الله وجهه، في صراع هذا الأخير مع معاوية. وقد فسّر سلوكه الغريب بطريقة أغرب حينما قال: ((إن صلاتي خلف علي لأفضل، وطعامي عند معاوية أكثر لذة)). ونحن نرى هنا انفصاماً في الدافع الذاتي الذي حرّك الرعيل الأول من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا الانفصام سيكون أكثر وضوحاً بعد مرور عشرين عاماً أي عندما رضخ الحسين لإلحاح أهل الكوفة مناصري والده القدامى؛ فخرج من المدينة. وحاول ابن عباس ابن عمه الذي رافقه شطراً من الطريق أن يثنيه عن عزمه بقوله: ((هؤلاء الناس سيخذلونك كما خذلوا أباك، لا تصدّقهم فإن قلوبم معك وسيوفهم مع يزيد)). هذا التوضيح عبر شاهد من ذلك العصر موضوعي النظرة، وشهادته أثبت التاريخ صدق أحداثها واحدة واحدة، تُعطينا اليوم سرّ ذلك الانفصام في الدافع. إنه يُنبئ عن ثنائية قسمت المسلم قسمين: صلاته من ناحية، وطعامه من ناحية أخرى، قلبه من ناحية، وسيفه من ناحيةٍ أخرى. لم نكن إذ ذاك إلا في منطلق اطراد المنحدر، إنما في الحالتين اللتين أشرنا إليهما نستطيع أن نقيس الابتعاد عن المبدأ الذي أقرّه القرآن الكريم {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 6/ 162]. فالانطلاق من هذه الآية هو إذن انطلاقٌ من مبدأ، فكرة، نموذج لعالم ثقافيّ تأسس بالقرآن، وقد بدأنا نسجل منزلقاته الأولى و (انحرافاته) الأولى - كما يقال اليوم- في سلوك المسلم.

ونحن نعلم إذن أنه إذا كنّا نحاكم انعدام فعالية ما في سلوك المسلم؛ كما في الحالتين التاريخيتين اللتين أشرنا إليهما- فإن علينا أن نحاذر وضع ذلك كلّه في حساب الإسلام. مع أن هذا هو الخطأ الأكثر شيوعاً عند المستشرقين وعلماء الاجتماع الغربيين الذين يدرسون العالم الإسلامي المعاصر (¬1). ومهما يكن من أمر فإذا سلمنا بأن كل عمل يخضع لنظام الأفكار في دوافعه كما في وسائله العلمية، فإنه من الجدير بالملاحظة بأنه لكي يكون للنشاط الاجتماعي أرضيّة فكرية فإن الفكرة هنا لا تكون في حالتها الصافية، بل في حالة تندمج فيها بالسلوك أي في تلك الحالة التي نفسرها بها ونفهمها ونتحمّلها. وعندما نضع حساب ميزان القصور والفعالية في مجتمع؛ فإننا نضع بصورة أساسية حساب ميزان النتائج الإيجابية (لعالم الأفكار) فيه في حالته الراهنة. ونحن نعلم من ناحية أخرى بأن خيانة الأفكار المندمجة في السلوك وابتعاد الأفكار المتداولة عن الأفكار الأساسية: هما الأداتان اللتان نقيس بهما انعدام فعالية مجتمع تسلّلت من جيل إلى جيل؛ عبر سلوك ما وعُقد معينة. فالمحاكاة في السلوك تجد طريقها عبر الأفكار. أما جانبها المرضي؛ فإنها العدوى الاجتماعية التي تنتقل من جيل إلى آخر عبر امتصاص هذه الأفكار حين تنفصل عن نماذجها في عالمها الثقافي الأصلي. إذ تصبح هذه الأفكار حينئذ الجراثيم التي تنقل الأمراض الاجتماعية. ¬

_ (¬1) لقد رددت الصحيفة القاهرية "الأخبار اليوم" في عددها الصادر في: 2/ 1/ 1960 - حكماً غريباً صدر عن علماء اجتاع أميركيين مفاده أن: "الفاعليّة تطوّرت حيث يوجد الفكر المسيحي واليهودي فقط، في حين نمت اللافاعليّة حيث يوجد الفكر الإسلامي "وهذا الحكم بالإضافة إلى ذلك خطأ تاريخي.

وفكرة تحمل هذه الصفة: هي دائماً فكرة خانت نماذجها المثالية. ويرتد المرض على المجتمع الذي يتحمل نتائج كلّ انحراف يمسّ عالمه الثقافي. وأحياناً تُحدث الفكرة المخذولة ردة فعلها في نهاية الأمر عندما يُكتشف زيفُها. ففي اليوم الذي أغرق فيه عمر بن الخطاب بالضحك حينما برّحه الجوع؛ فالتهم صنمه الذي صنعه من السكر، كان ذلك إشارة إلى أن عالمه الثقافي الجاهلي قد أضحى في خطر. والواقع أنه كان يتحتم على نماذجه المثالية أن تسرع إلى نهايتها مع أصنام الكعبة يوم فتح مكة في السنة السادسة للهجرة، ليحلّ محلها عالمٌ ثقافيٌّ جديد ومجتمع جديد. إن التنكر لنموذج مثاليٍّ يمكن له أن يتخذ دلالةً أخرى، وأن تكون له نتائج أكثر خطورة على المجتمع. والخطورة الأشدّ لهذا التنكر في نتائجه يمكن أن تكون في عالمنا الثقافي الأساسي، أو في عالم ثقافي آخر استعيرت منه الفكرة المخذولة. والمجتمع الإسلامي هو بالتحديد، في هذه اللحظة، في مواجهة المشكلة في وجهيها، إنه يعاني من انتقام النماذج المثالية لعالمه الثقافي الخاص به من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى لانتقام رهيب تصبه الأفكار التي استعارها من أوربة؛ دون أن يراعي الشروط التي تحفط قيمتها الاجتماعية، وقد أورث ذلك تدهوراً في قيمة الأفكار الموروثة، وتدهوراً في قيمة الأفكار المكتَسبة، وقد حملا أفدح الضرر في نموّ العالم الإسلامي أخلاقياً ومادياً. وإن هذه هي النتائج الاجتماعية لذلك التدهور والتي نصادفها يومياً في صورة غياب لكل فعالية، وقصور في مختلف أنشطتنا الاجتماعية. فمن ناحية فإنّ الأفكار التي أثبتت فعاليتها في بناء الحضارة الإسلامية منذ ألف عام تبدو اليوم عديمة الفعالية؛ لقد فقدت التصاقها بالواقع.

ومن ناحية أخرى فإن أفكار أوربة التي شيّدت النظام الذي نسميه الحضارة الأوربية فقدت بدورها الفعالية في العالم الإسلامي المعاصر. فسلوكنا اليوم يرتبط بتنكر مزدوج. فالمسلم فقد الاتصال بالنماذج المثالية لعالمه الثقافي الأصلي. وهو لم ينشئ كما فعلت اليابان الاتصال الحقيقي بالعالم الثقافي الخاص بأوربة. ونحن اليوم نقاسي هذا التدهور المزدوج، فالأفكار المخذولة في هذا الجانب أو ذاك لها انتقامٌ رهيب. وإنّ انتقامها المحتوم هو ما نعاني نتائجه اليوم.

الخاتمة

الخاتمة منذ القرن الماضي بدأ عصر ما بعد الموحدين يزايل العالم الإسلامي، لكن هذا العالم لم يستعد بعد إطاره الطبيعي، لقد انطلق كفارس أفلت الركاب من قدميه ولم يوفق بعد لإحكامه؛ لذا فهو يبحث عن توازنه الجديد. فانحلاله عبر القرون الذي قضى عليه: بالجمود، والخمول، والضعف والقابلية للاستعمار قد حفظ له مع ذلك قيمة ولو في شيء من التحجر. لقد أطل في حالته هذه على القرن العشرين وهو في ذروة قوته المادية؛ بينما سائر قواه الأخلاقية قد بدأت تنهار منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. فالعالم الإسلامي اليوم تتقاذفه أفكار ٌ متناقضة: الأفكار التي تضعه وجهاً لوجه مع مشكلات الحضارة التقنية دون أن تؤصله نماذجه السلفيّة، رغم جهود مصلحيه المشكورة. وبدافع الافتنان، أو بسائق منزلقات وضعت تحت قدميه، فهو معرضٌ لخطر الانجراف في الإيديولوجيات الحديثة، في الوقت الذي بدأ يكتمل إفلاسها في الغرب حيث ولدت. وإذا كان يحاول أن يقتفي أثر أوربة في سائر الميادين؛ كما يبدو من أجوائه، أو ربما من رغبة (غير معلنة من نخبته) فإنه معرضٌ لخطر السير متخلفاً عن التاريخ بمرحلة. بمعنى أنه لا بد أن يعيد على حسابه سائر التجارب التي أخفقت. ونخص بالذكر التجربة (الماركسية) التي تبدو مع ذلك قد تجاوزها الزمن على الصعيد العلمي؛ كما على الصعيد الفلسفي.

فحين تبدأ النخبة الغريبة؛ التي بهرتها المادية الجدلية؛ خصوصاً في نهاية الحرب العالمية الثانية تستفيق لتستعيد استقلالها الفكري تجاهها في السنوات الأخيرة؛ نرى هذه النظرية تشغل فكر بعض النخبة المسلمين وتستحوذ عليهم كما لو كانوا وجدوا ضالتهم في لحظة (أرخميدس). فنحن لا نستطيع أن نصنع التاريخ بتقليد خُطا الآخرين في سائر الدروب التي طرقوها، بل بأن نفتح دروباً جديدة. ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بأفكار أصلية تستجيب لسائر المشكلات على الصعيد الأخلاقي، أو على صعيد الأفكار الفعّالة؛ لتجابه مشكلات التطور في مجتمع يعيد بناء نفسه. لقد حاولنا في الصفحات السابقة أن نبين الصعوبات التي يتخبط فيها المجتمع الإسلامي في مواجهة مشاكله الحاضرة في كلا الميدانين: الميدان الأخلاقي، وميدان الأفكار الفعّالة. فتناولنا بالتحليل أصل الصعوبات التي تتداخل فيها الأفكار المتناقضة. وعندما حركنا هنا مشكلة الأفكار أردنا أن نبيِّن مدى وزنها في التاريخ، في مصائر البشرية. وإذا كنا لم نصل إلى تحديد حلٍ واضح لهذه المشكلة؛ فقد أحطنا بها بما فيه الكفاية على ما نعتقد. ولم نكن إضافة لذلك نطمح بأكثر من فتح نقاش أساسي هو أبعد من أن يكون قد انتهى بنهاية هذه الصفحات. مالك بن نبي الحزائر: 21 رمضان 1390 20 تشرين الثاني 1970 م

المسارد

المسارد ¬______ 1 - مسرد الآيات القرآنية ................................ 165 2 - مسرد الأحاديث النبوية .............................. 166 3 - مسرد الأعلام (الأشخاص والدول والأمكنة) ........... 167 4 - مسرد المذاهب والجماعات والشعوب ................. 175 5 - مسرد المعاهدات والمؤتمرات والمنظمات .............. 180 6 - مسرد المراجع والمصادر ............................. 181 7 - مسرد الموضوعات .................................. 183

1 - مسرد الآيات القرآنية ¬

2 - مسرد الأحاديث النبوية ¬

3 - مسرد الأعلام (يشمل الأشخاص والدول والأمكنة) ¬

_ "أ" آدم سميث 117 آسال 22 آسيا 114 آسيا الوسطى 106 آنا كارنين 18 آرنولد توينبي 46 ابن باجه 48 ابن باديس 139 ابن خلدون 38، 51 ابن رشد 48، 106 ابن زهر (الطبيب) 48 ابن سعد 40 ابن سينا 103 ابن طفيل 20، 21، 48 ابن عباس 157 ابن مسعود 72 ابن النفيس (الطبيب) 103 أبو بكر 45، 131 أبو داود 74 أبو ذرالغفاري 133 أبو عبيدة بن الجراح 133، 134 أبوللو (11) 105 الأبوليي 62 الاتحاد السوفياتي 45، 46، 90، 110، 114 أثينا 156،70 أحمد بن البرهان 58 أحمد شعبو (الدكتور) 5، 13 أدغارمورين 89، 90، 91 أدموندبرك 98 أرخميدس 31، 61، 63، 71، 74، 97، أرسطو 42، 70 أرمية 18 أريان 16 أسامة 131 اسبانيا 62 استنبول 107 الأسطول السادس 127 الاسكندرية 48 اشبيلية 47 إفريقية 114 إفريقية الشمالية 64 أفلاطون 41، 42، 69، 70 إقليدس 69 أكسفورد 139، 148

¬

_ البرت أينشتاين 104، 105 ألفونس 47 الله 149 ألمانيا 96، 111، 113، 114، 116، 117، أليكس ستاخانوف 46 أمبدوكلوس 69 الامبراطورية البيزنطية 39 الامبراطورية الفارسية 39 المدينة 157 الأمير 104 أميركا 91، 92، 98 المينوتور 16 أنتيلي 129 الأندلس47، 48 أندونيسيا 37، 111، 114،113، 115، أنس 27 أنقرة 106 انكلترا 43، 89، 145 أنور عبد الملك 138 أوتيك خان 58 أوثان الكعبة 96 أوجست كونت 24 الأورال 63 أوربة 23، 41، 63، 68، 74، 86، 102، 160،159،150،108،107،105، أوربة الشمالية 156 أوريكا31، 61 أوهايو الأميريكية (ولاية) 105 إيران 106، 114 إيطاليا 42، 96، 155 أيون 70 "ب" بابل 19 باريس24، 59، 62، 84، 90، 100، 120، 122، 138، 146، 148، 152 باستور 148، 154 الباستيل 62 باسكال61 بافلوف 50 باكستان 124 بالوس (المرفأ) 62 بايزيد الأول 106 البخاري 72، 73 البراجماتيين 121 برك 98 بروتا غوراس 70 بروتس 156 بريطانيا- وانظر انكلترا 98 بسام بركة (الدكتور) 5، 13 بطرس الأكبر 63،62 بغداد 19، 38، 47، 84، 106 بفر بريدج 98 بكين 120 البلاد الإسلامية 12، 23، 95، 110، 113، 16 1، 117، 122، 137،136 البلاد الإفريقية الآسيوية 115 بلاد الحزب الواحد 91

¬

_ بلاد الشام 131 البلاد الصناعية 22، 23 بلاد العالم الثالث 22 البلاد العربية 34، 113 بلاد ما بين النهرين 19 بلاد المادية الجدلية 92 البلاد المتخلفة 22، 38، 84، 88، 134 البلاد المتقدمة 85، 87 البلاد المستعمرة 121، 137 البلاد النامية 85 بلال بن رباح 60 بلانك 23 البلشفيون 109 بليدة 129 بواس 105 بوالو 66 بور رويال 61 بوكونغ 135 البوشاوس 93 بومباي 155 بيروت 21 تركيا 107،106 تولستوي 18 تروتسكي 109 تزيوس 16 تسي كوغ 132 تل أبيب 127 التمائم 96 توفيق الحكيم 144 توماس الأكويني 42 تونس 129، 140، 148 توينبي 46 تيبورماند 115 تيمة 70 تيمورلنك 106 تيير 59 "ج" جاكلين 61 الجامعات الأوروبية 107، 108 الجامعات الغربية 47 جامعة الزيتونة 147 الجامعة الفرنسية 105 الجامعة اللبنانية 5 جان جاك روسو 59 الجاوي 99 جدة 75 جريدة البرافدا 91، 109 الجزائر 16، 44، 55، 74، 82، 87، 96، 99، 113، 127، 129، 138، 139، جزائر ما قبل الثورة 141 الجزائر المستقلة 139 جزر الهند الغربية 62 الجزيرة العربية 47، 71، 96، 131 جمهورية أفلاطون 70، 134، 155 جمهورية روما 154، 156 جميلة بوحيرد 128 جنكيز خان 58 جورج هنري لومتر 104

¬

_ جينسنيوس 61 "ح" حاتم الطائي 39 حسان 48 حسن إبراهيم حسن (الدكتور) 48، 58، 131 الحسين 157 حلب 127 الحيرة 131 "خ" خالد بن الوليد 131 الخلفاء الراشدون 74 الخنساء 39 دار الفارابي 46 دار الفكر 6، 44 دانيال دي فوي 20، 43 دانتون 59 دمشق 44، 74 دول العالم الثالث 114 الدول المتقدمة 90 الدولة الأيوبية 48 دولة التتر 58 الدولة العثمانية 48 الدولة المرابطية 47 الدولة الموحدية 47، 48 دونتز 45 ديغول 134 ديمولين 59 ديورانت 132 الديونيسي 62 "ر" الرباط (المدينة) 48 رستم 16 الرسول ص= محمد= النبي 18، 45، 71، 72، 73، 74، 82، 112، 131، روبسبير 59 الروبيكون 155 روسيا 18، 43، 62، 63، 109 الروم 131 روما 23، 154، 155، 156 روبنسون كروزو 19، 20، 21، 22، 23، 27، 28، 31، 43 زرادشت 22 الزردات 99 زغلول 128 زيتوني 1،7 "س" سان جرمان 84 ستاخانوف 45 ستالين93، 110 ستالينجراد 48، 93 سرج ناكوتين 50 سقراط 41، 69، 70، 153، 154 سلمان 22، 71 سمرقند 106 السوربون 148 سورية 83، 106، 114، 127، 133 سوكارنو 126

¬

_ سوهارتو 126 سوي 138 السويد 63، 91، 92 سيبيريا 43 سيجموند فرويد 30 سيراكوز 61 سيكار 22، 23 "ش" شاخت (الدكتور) 114، 115، 117 شارع النبي 55 الشام- وانظر بلاد الشام- 58 شبه الجزيرة العربية 38 الشرق الإسلامي 18 شوآن لاي 135 شوقي 146، 147، 149 الشيطان 133 "ص" صلاح الدين الأيوبي 48 الصنم 100 صور 64 الصين 12، 46، 75، 126، 135 الصين الإيديولوجي 116 الصين الشعبية 36، 45، 77، 93، 111، "ط" طرابلس 13 طليطلة 47 "ع" عبان رمضان 124، 128 عبد الله النديم 108 عبد المؤمن بن علي 47 عثمان 45 عدلي باشا 128 العراق 37، 106 العز بن عبد السلام 101، 144 عقيل 94، 157 علماء الاجتماع الغربيون 158 علي بن أبي الحزم القرشي 103 علي بن أبي طالب 94، 157 علي عبد الرزاق 138 عمار طالبي (الدكتور) 15 عمر بن الخطاب 106، 131، 133، 134، عمرمسكاوي 13 عيسى 18 "غ" غار حراء 39، 70 غانا 126 غرناطة 38، 47 الغزالي 94، 106 غزوة تبوك 73، 112 الفارابي 134 فارنا 22، 23 فاس 148 فتة 98 فرانز فانون 129 فرنسا 32، 59، 66، 89، 110، 145، 154 فرويد 52 فريدرك إنجلز 117

¬

_ فيثاغورس 69 فيدا 46 فيلهلم غوتب لينز 104 "ق" القارة الإفريقية 129 القارة الأميركية 62 القاهرة 5، 15، 23، 83، 127، 128، القرآن الكريم 24، 25، 52، 58، 73، 82، قبب 96، 97 قرطاجة 64 قرطبة 106 قسطنطين الأول 107 القسطنطينية 110 القلعة 109 القلقشندي 58 القمر 99، 105 "ك" كاتون 155 كارل جوستاف يونغ 30 كارل فون كلوزويتز 130 كارل ماركس 117، 121،120 كازاخستان (منطقة) 110 الكاشاني 148، 149 كاميكازي 151 الكائن الأعلى 59 كراتيل 70 كريتياس 70 كريستوف كولومبس 72 الكزبري 83 كعب بن مالك 73 الكعبة 159 كلوزويتز 130 الكلية الملكية 103 كنفوشيوس 132 كوبنهاغن 53 كوخ 154 الكوفة 157 كولبير 63 كولونيل 142 كومون باريس 120 "ل" لافون 122 لشبونة 47 لندن 20، 148 لوس أنجلوس 65 لوكراس 23 لومتر (عالم رياضيات) 104 لويس الرابع عشر 66 ليبنز 104 الليبيدو 30 لينين 93، 110 ليوتشاوشي 93، 94 ليون نيقولايفيتش تولستوي 18 "م" مآذن القيروان والزيتونة والأزهر 148 مارا 59 ماركس، 2، 27، 117، 120، 121 ماك كارثي 147

¬

_ مالك بن نبي 5، 6، 7، 13، 16، 48، 162 ماموث 43 ماوتسي تونغ 93،46، 112، 135، 136 المجر 107 مجلس الشيوخ 155 محمد ص- وانظر رسول الله ص محمد ريفي 113 محمد عبد العظيم علي 6 محمد عبده 138 محمد الفاتح 107 مدرسة الإسكندرية الرياضية 69 المدرسة الأيلية 69 مرارة بن الربيع العمري 73 المسرح الجزائري 140 مصالي الحاج 124 مصدق (محمد) 148 مصر 5، 15، 58، 83، 103، 114، 127، معاهد العلوم السياسية 130 معاوية 94، 157 معركة الأرك 47 المغرب 47، 48 المقريزي 58 مقهى لاوس 65 مكة المكرمة 51، 159 المكسيك 110 مكيافيلي 104 ممالك شمالي إفريقية 51 مملكة الحبشة 31 مندرا 70 مندل 104 منغوليا 106 المهدي بن تومرت 47 المهلب بن أبي صفرة 39 مورين 90 موسوليني 96 موسى 61 موشى ديان 47 موقعة حصن العقاب 47 موقعة القادسية 106 مونبلييه 24 "ن" نابليون 60 نابولي 42 الناصر لدين الله الموحدي 47 النيي ص- انظر رسول الله ص نديم الجسر (الدكتور) 13 النروج 110 نكروما 126 نمزيس 64 النمسا 107، 109 النوفال أوبسرفاتور 89 نيبال 84 نيتشة 22، 61، 62، 70 نيقولا بوالو 66 نيقولاس ماكيافيل 104 نيل أرمسترونغ 105 هارفي (الطبيب) 103 هتلر 96

¬

_ هلال بن أمية الواقفي 73 همالايا 84 الهند 68 هوميروس 69 هيجل 76 هيراقليطس 69 "و" واطسون 26 وليم هارفي (الطبيب) 103 "ي" اليابان 12، 75، 77، 109، 113، 146، اليابان القديمة 151 يزيد 157 يعقوب المنصور 28، 47 اليمن 78، 137 يوسف عبد المؤمن 47 يوليوس قيصر 155، 156 اليونان 18، 69 يونغ 30 يوهان ماندل 104

4 - مسرد المذاهب والجماعات والشعوب ¬

_ "أ" الآرية الشمالية 68 الأحزاب الوطنية 100 الأسلوب العملي 112 الاشتراكية الروسية 110 الأفكار الميتة 74، 75، 148، 151 الاقتصادانية 93 الأمة العربية 83، 131 الإنسان المؤله 60 الأنصار والمهاجرون 40 الإيديولوجيا 88، 109، 120، 130، 135 الإيديولوجية الآحادية 91 الإيديولوجية السوفيتية 48 الإيديولوجية الماركسية 91 الإيديولوجيات الحديثة 161 الأيونية 69 "ب" البابليات التاريخية 19 البربرية 139 البرجوازية الإسرائيلية السوفيتية 109 البرغمائية 90 البروليتاريا 109 البروليتاريا الأوروبية 109 البلشفية 109 البنية التحتية 130، 131 البنية الفوقية 130، 131 البيولوجيا الاجتماعية 115 "ت" التروتسكية 109 التشريعيون 54 التسلطية الاستعمارية 108 التقدمية 139 التقنية الماركسية التقليدية 121 تنظيم الشباب السوفياتي 91 الثقافة الأزهرية 138 الثقافة الإسلامية 17، 136 الثقافة الغربية 17 "ج " الجيش الأحمر 109 الجيش الهتلري 48 جيوش العمل 109 "خ " الخوارج 106 "ح" الحراس الحمر 135 الحركة الستاخانوفية 47 الحركة الديناميكية 104 حركة العالم الثالث 10

¬

_ الحركة المصالية 139 الحركة المضادة للمصالية 139 الحزب الجمهوري 147 الحزب الشيوعي 46 الحزب الشيوعي الصيني 135 الحزب الوطني الأندونيسي 126 دكتاتورية الإرادة العامة 59 الدكلتاتورية الدموية 59 الدكتاتورية اليعقوبية 59 الديانة الطبيعية 59 الديماغوجية 78، 99، 147 الديمقراطية 134 الديمقراطية الأخلاقية 59 الديناميكية 85 الدينامية الاجتماعية 117 الدينامية المزيفة 143 "ر" الرأسمالية الليبرالية 117 الرجل السماوي 83 روح التلقين 112 الروح الديمقراطية 156 روح الساموراي 151 الرومان 61 "س" الساموراي 151 السامية 18 الستاخانوفية 45 سلطة الأشياء93 سلطان الأوثان 101 السنة 106 السوريالية 65 السياسة الإرهابية 59 سياسة المطالبة 99 سيرك زمن سراديب الأموات 61 السيرورة 69 الشريعة الإسلامية 132، 144 شريعة الغاب 51 الشعب الألماني 116 الشعب الإيراني 148 الشعب الجزائري 96، 139، 140 الشعوب الإسلامية 47 الشعوب البدائية 96 الشيوعيون 126، 147. الشيعة 106 الشيئية 79، 80، 81 "ص " الصابئون 106 الصراع الإيديولوجي 108 الصراع الفكري 141 الصليبيون 48 "ط " الطابع الماركسي 135 طبقة العمال الإنكليز 93 طقوس الكائن السامي 59 الطوابير الخامسة 150 "ظ " الظاهرة الثورية 189 الظاهرة الدينية 18

¬

_ الظاهرة القرآنية 55 ظاهرة المندسين 121 "ع " العالم الإسلامي 6، 12، 13، 37، 40، 78، العالم الإسلامي الحاضر 79، 124 العالم الإسلامي المعاصر 23، 82، 134، 158، العالم الإغريقي 41 عالم الأفكار 34، 40، 43، 64، 67، 74، 84 العالم الثالث 13، 117، 129 عالم الثقافة - العالم الثقافي 10، 52، 54، 56، 62، 74، 75، 76، 79، 85، 94، العالم الثقافي الجاهلي 51 العالم الثقافي الجزائري 91، 142 العالم الثقافي الغربي 149 العالم الروحي المعاصر 91، 92 العالم الزمني 59 العالم الزيتوني 152 العالم الصناعي الغربي 11 العالم العربي 93 العالم الغربي 7، 12 عالم المتصوفين 40 عالم المخادعين والدجالين 40 العالم المعاصر 11 عبادة أوثان الجاهلية 38 عبادة الرجل السماوي 82 عبادة الشعب البطل 66 عبادة القوة 92 العود الأبدي 62 "غ " الغاية تبرر الوسيلة 104 غير نفسك فأنت تغير التاريخ 100 "ف" الفرس 106، 117، 131 الفكر الإسلامي 24، 25، 38 الفكر الإسلامي الحديث 38 الفكر الأوربي 23 الفكر الحديث 113 الفكر الرياضي 69 الفكر الغربي 24 الفكر القيدي 46 الفكر القرآني 35 الفكر الكمي 24 الفكر الماركسي 46، 120، 121 الفكرة الإسلامية 10، 40، 52 فكرة الرهبانية 52 الفكرة الغيبية 18 الفكرة القرآنية 52 الفكرة المسيحية 41 الفيزيولوجية 154 "ق " القانون الاجتماعي 13، 58، 144 قانون التحريم 54 قانون السياق 58 قانون العود الأبدي 61 القداسة 74 القيم الإسلامية 112

¬

_ القيم النفسية الزمنية 44 "ك " الكاريكاتورية 84 الكلاسيكية 138 الكمالية 139 "ل " لا ماركس ولا يوسع 122 الماركسية 76، 92، 109، 117، 161، 139 الماركسيون 56 الماكارثية 147 الماكيافيلية 104 المتأوربون 62 المجتعات المتقدمة 89 المجتمعات المحايدة 31 المجتعات المعاصرة 85 المجتمع الإسلامي 10، 11، 12، 16، 25، 35، 40، 45، 47، 53، 54، 56، 67، 68، 70، 75، 76، 78، 86، المجتمع الإسلامي المعاصر 77، 146 المجتمع الاستهلاكي 25، 39، 86 المجتمع الأكثر قوة 92 المجتمع الأميركي 54، 55، 56 المجتمع الإنساني البدائي 51، 53 المجتمع البوذي 46 المجتمع التاريخي 35، 37 المجتمع الجاهلي 39، 51 المجتمع الحضاري 52 المجتمع الدينامي 109 المجتمع الرئسمالي 88 المجتمع الروسي 62 المجتمع السوفياتي 48، 88 المجتمع الشرعي 93 المجتمع عبر العوالم الثلاثة 35 المجتمع الغربي 23 المجتمع ما قبل التحضر وبعده 35 المجتمع المتحضر 51 المجتمع المتخلف 36 المجتمع المدني 59 المجتمع المسلم 94 المجتمع المسيحي 52 مدرسة البيولوجيا 104 مدرسة الحضارة الغربية 151 المدينة الفاضلة 134 المدينة المسلمة 134 المذهب الهندوسي 46 المرابطون 97، 100 المركنتيلية 63 المستشرقون 38 المتعمرون الأوربيون 108 المماليك 48 منهج التوليد 41 الموحدون 56، 142، 148، 149 "ن" النخبة الإسلامية 102 النخبة الإفريقية الأسيوية 117 النخبة المثقفة الجزائرية 100 النخبة المسلمة 11، 107

¬

_ نزعة الشهوة 52 النسبية 105 النصارى 48، 106 نظام الإجازات المدفوعة 86 النظام الاجتماعى 50 النظام الاقتصادي 130 النظام الإلهى 21 نظام الحسبة 134 نظام العقد الاجتماعي 59 نظرية أرسطو 43 النظريات الغربية 111 نظرية الأجسام العائمة 61 نظرية الأزمنة الثلاثة 37 نظرية الامتداد الديناميكي للمجرة 104 نظرية امتداد العالم 104 نظرية الثورة المستديمة 109 نظرية العناصر الأربعة المادية 69 النظرية الكلاسيكية 66 نظرية الكماة 23 نظرية المادية التاريخية 24 نظرية النسبية 104 نظرية النماذج المثالية 30 نظرية الوراثة 104 النقد الذاتى 90، 134 النهج التقدمي 134 النهج المحافظ 124 "هـ" هرمية الأخلاق 62 الهرطقة 105 الهندوسية 68 هيئة الأمر بالمعروف 75 "و" الوثنية 16، 97، 98، 100 الوجودية المزيفة 131 وحدة الديمقراطية الاجتماعية 109 "ي" اليسوعيون 61

5 - مسرد المعاهدات والمؤتمرات والمنظمات ¬

_ "أ" إجراء فولستر 54 "ث" ثورة بترسبورغ 109 الثورة البلشفية 63 الثورة الثقافية 93، 120، 135، 136 الثورة الجزائرية 66، 100، 122، 127، الثورة الشرعية 109 الثورة الشيوعية الصينية 135 الثورة الفرنسية 59، 120 الثورة الفلسطيية 93، 119، 121، 122، الثورة المستديمة 110 "ح " الحرب الأهلية في فرنسا 120 حرب الأيام الستة 47 حرب الردة 45 الحرب العالمية الثانية 113، 126، 131، 162 حروب الردة 131 "غ" الغزو المغولي 106 الغزو النابليوني الهتلري 63 "م " المؤتمر الإسلامي 99 المؤتمر الإسلامي الجزائري 82، 97، 98 مؤتمر باندونغ 114 مؤتمر الصمام 142 مؤتمر علم الاجتماع 22، 23

6 - مسرد المراجع والمصادر ¬

_ "أ" آنا كارنين، لتولستوي 18 أخبار اليوم (صحيفة) 158 الإلياذة، هيروس 69 الأمير، ماكيافيل 104 إنتاج المستثرقين وتأثيره على الفكر الإسلامي الحديث، طبعة الجزائر 1967، 108 الأوديسة، هوميروس 69 "ت" تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي (كتاب للدكتور حسن اٍبرهيم حسن) طبعة أولى 1967 مكتبة النهضة بمصر 47، 48، 58، 131 تاريخ الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، دار الفارابي- بيروت 1954، 46 تاريخ الحضارة، ترجمة بدران 132 تحولات النفس ورموزها، كارل جوستاف يونغ 30 "ح " الحرب الأهلية في فرنسا، كارل ماركس 120 الحرب والسلم، ليون نيقولانفيتش تولستوي 18 حي بن يقظان، ابن طفيل، دار الآفاق الجديدة، بيروت، طبعة ثالثة، 1980، 12 "د" دراسة التاريخ، آرنولد توينبي 46 شروط الديناميكا الاجتماعية 111 شروط النهضة، طبعة دمشق، دار الفكر 44، 96، 100، 151 "ظ " الظاهرة القرآنية 55 "ع " العالم واحد 98 العناصر، أوكليدس 69 فكرة الإفر يقية- الآسيوية، طبعة القاهرة 23 الفن الشعري، نيقولا بوالو 66 في الحرب، كارلط فون كلوزوتيز 130 في الطبيعة، لوكراس 23 "ق " القانون، ابن سينا 103 "ك " الكتاب الأحمر، ماوتسي تونغ 135 "ل" لا ماركس ولا يسوع، طبعة لافون، باريس، 1970، 122 "م" ما الفن، ليون نيقولانفيتش تولستوي، 1897، 18 ما وراء الخير والشر، نيتشة 62 مختارات من الأدب العربي المعاصر، أنور عبد الملك، 1965، باريس 138 المسيح الكذاب، نيتشة 62 "هـ" هرمية الأخلاق، نيتشة 63 هكذا تكلم زرداشت، نيتشة 63

¬

§1/1