مشكاة الأنوار

أبو حامد الغزالي

تصدير عام

تصدير عام 1- نحن في أمسّ الحاجة إلى نشر علمى دقيق لأصول تراثنا العربى القديم، فإنه عن طريق هذا النوع من النشر تحيا النصوص وتستبين، ويسهل على المشتغلين بموضاعاتها قراءتها والإفادة منها. وليس أجدى على الباحث من أن تكون بين يديه الوثائق الأولى مضبوطة محققة خالية من شوائب التحريف والتصحيف. وقد ابتليت كتبنا القديمة بأن قام على نشر الكثير منها والإشراف على إخراجها ناشرون من غير العلماء المتخصصين، لا همّ لهم سوى جنى الربح المادى من طبعها. ونحن نعانى من نشراتهم ما نعانى من أخطاء مطبعية ولغوية، ونقص في النصوص هنا وزيادة هناك، وخلو تام من التحقيق والتعليق والتفسير والفهارس العلمية بشتى أنواعها. وكثيراً ما نقف من نص من النصوص حيارى مكتوفي الأيدى لا نفهم له معنى ولا نستطيع له توجيهاً، أو نوجهه توجيهاً خاطئاً لم يخطر للمؤلف ببال، لا لسبب سوى أن في النص تحريفاً أو نقصاً أو إضافة من ناسخ، أو خلطاً بين متن النص وشرح وضع عليه. ويكفى أن يسقط حرف النفى "لا" من جملة من الجمل، أو توضع كلمة "إذ" بدلاً من "إذا" أو العكس، أو تكتب كلمة "العارفين" بدلاً من "العراقيين" أو نحو ذلك من التحريفات، لكى يضطرب النص ويفسد معناه؛ وكثيراً ما يؤدى بالباحث إلى فهم خاطئ قد يفضى إلى رأى باطل أو نظرية لا أساس لها. ولا يختلف حظ رسالة "مشكاة الأنوار" التى ننشرها اليوم كثيراً عن حظ غيرها من الكتب التى نشرت على النحو غير العلمى الذى أشرنا إليه. فقد طبعت في مصر عدة طبعات: سنة 1322 هـ، 1325 هـ، 1929 م،

1352 هـ وضمن مجموعة "الجواهر الغوالى من رسائل حجة الإسلام الغزالى" سنة 1343 هـ. وقد قابلتُ هذه الطبعة - التى هى الآن أكثر الطبعات تداولاً - على المخطوطات التى تيسر لى الاطلاع عليها، فوجدتها حافلة بالأخطاء والتحريفات الخطيرة؛ كما وجدت فيها إضافات كثيرة على النص الأصلى، ونقصاً يبلغ الصفحة في موضع من المواضع: وذلك من قوله "بمنزلة البهائم بل أخس" إلى قوله: "بمحض الظلمة وهى نفوسهم المظلمة". يظهر أن الأصل الذى أخذت عنه هذه النسخة كان مختلطاً ببعض الشروح والتعليقات، فنقل الناسخ كل ذلك ولم يفرق بين المتن وغيره. ويكفى أن أذكر بعض نماذج من التحريفات التى وقعت في هذه النسخة ليظهر ما فيها من خطورة: 1- ورد في ص 129 "سر الكلبية" بالسين: والصحيح "شر الكلبية" بالشين. 2- ورد في ص 130 "وقس عليه الضوء والنهار": والصحيح "وقس عليه الطوُّر والنار" لأن الكلام عن موسى الذى آنس من جانب الطور ناراً. 3- ورد في ص 131: "وهذا الحظ من الوحى"، والصحيح: "وهذا النمط من الوحى". 4- ورد في ص 143: "وهو الذى يكتب ما أوردته الحواس". والصحيح: "وهو الذى يستثبت ما أوردته الحواس". 5- ورد في ص 134: "أجلى وأسنى"، والصحيح: "أجل وأسنى".

6- وفي ص 134: "فلنرجع إلى غرض الأمثلة"، والصحيح: "إلى عرض الأمثلة" بالعين المهملة. 7- وفي ص 135: "كون الأنبياء سراجاً منيراً"، والصحيح: "سُرُجاً منيرة". 8- وفي ص 137: "والحوادث الرديئة"، والصحيح: والأشغال المُردِية". 9- وفي ص 138: "وأصناف هذه الأقسام كثيرة"، والصحيح: "وأقسام هذه الأصناف كثيرة". 10- وفي ص 139: "فأحاله الطبع": والصحيح: "فأحاله إلى الطبع". هذا قليل من كثير من أمثلة الأخطاء التى لاحظتها في هذه الطبعة بالإضافة إلى العيوب الأخرى التى أشرت إليها؛ ولذلك كانت إعادة نشر هذه الرسالة ونشر غيرها من مؤلفات الغزالى واجباً تقتضيه الأمانة العلمية كما يقتضيه إنصاف المؤلف الذى من حقه علينا أن نفهم مؤلفاته على النحو الصحيح الذى قصد إليه. وهذا ما اعتزم المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية القيام به عندما قرر نشر مؤلفات الغزالى ما طبع منها وما لا يزال مخطوطاً. 2- اسم الرسالة ومنزلتها من مؤلفات الغزالى: 1- أطلق عليها اسم "مشكاة الأنوار" كما ورد في "كشف الظنون" لحاجى خليفة وفي النسخ المطبوعة. 2- وأطلق عليها كذلك اسم "مشكاة الأنوار ومصفاة الأسرار" كما ورد في مخطوطة باريس وفي آخر مخطوطة بلدية الإسكندرية. 3- وسميت باسم "كتاب المشكاة والمصباح" كما هو وارد في مخطوطة شهيد على باشا. وينسب للغزالى كتاب آخر بعنوان "مشكاة الأنوار في لطائف الأخبار"

لا صلة له بهذه الرسالة؛ وإنما هو كتاب ضخم توجد منه مخطوطات بدار الكتب المصرية؛ وفي صفحة عنوان المخطوطة رقم 237 تصوف يرد اسم المؤلف الحقيقى وهو علاء الدين على بن محمد الشهير بابن الفقيه الحافظ المصرى المتوفي سنة 877. ولا شك في أن رسالة مشكاة الأنوار من مؤلفات الغزالى المتأخرة التى تمثل عصر النضج الفكرى والروحى؛ ولكنا لا نستطيع أن نضع تاريخاً محدوداً لتأليفها كما فعل الأستاذ ماسنيون في كتابه "مجموع نصوص غير منشورة خاصة بتاريخ التصوف في الإسلام: باريس 1929" حيث يقول إنها ألفت في الفترة ما بين 495 ب 505، وهى الفترة التى قضاها الغزالى في طوس وعكف فيها على التأليف والعبادة. ويذكر ماسنيون من مؤلفات الغزالى في هذه الفترة كتاب "معيار العلم" وكتاب "محك النظر" وكتاب "المقصد الأسنى" ورسالة "مشكاة الأنوار". ولكنا نرى في "مشكاة الأنوار" إحالات على هذه الكتب جميعها مما يدل على أن الغزالى ألفها قبل المشكاة، ولا ندرى إذا كان ألفها كلها في نفس الفترة التى يحددها ماسنيون. ولا نظن أن للأستاذ ماسنيون من السند التاريخى ما يعتمد عليه في تحديد سنوات تأليف كتب الغزالى على النحو الذى رسمه. 3- مخطوطات الرسالة: يوجد للرسالة ما لا يقل عن ست وثلاثين مخطوطة مبعثرة في جميع أنحاء العالم؛ نذكر منها ما يلى: (1) بلدية الإسكندرية وتاريخها 907هـ (2) قوله حـ 1 ص 262. (3) الموصل 176 [8] (4) بتنا 2: 412 [برقم 2580 (8) ] (5) برلين رقم 3207 (6) ليدن رقم 1988. (7) مخطوطات بريل 2: 1053 (8) الأمبروزيانا (RSO III 573) A 64. V (9)

الفاتيكان بورجيرى 65. Vat. Borgh (10) مانشستر i 71 (11) برنستون، مجموعة جارت رقم 1892 وتاريخه 937 هـ (12) المكتب الهندى بلندن رقم 1237 فهرس آربرى بتاريخ 1096؛ ورقم 1238 بتاريخ 1107. (13) طهران: مجلس شوراى ملىّ رقم 9015 بتاريخ 1320. (14) آصفية 1: 388 [14 (5) تصوف عربى] (15) طهران 2: 77. (16) رامفور 1: 697. (17) الظاهرية: عام 7621. وفي استانبول: (18) شهيد على 1712، 1377. (19) بشير أغا 650 (20) السليمانية 734. (21) كوبرلى برقمى 860، 1603: (22) أياصوفيا 2075، 1711 [3] ، 4801. (23) جار الله 1092 [1] ، 2075. (24) ولى الدين 1829. (25) سليم أغا: المجموع رقم 108. (26) أسعد 1717ر18. وفي دار الكتب المصرية، (27) 2673 تصوف: بتاريخ 1065، (28) برقم 184 تصوف (ضمن مجموعة) ، (29) مجاميع طلعت بأرقام 274، 513، 326، 822، 826. وفي باريس (30) برقم 1331. (31) وفي الأسكوريال 2 برقم 631. (32) جوتا (فهرس برتش ق 3 حـ 2 ص 378) برقم 1166 بتاريخ 1188. 4- مخطوطتا شهيد على وبلدية الإسكندرية اللتان اتخذتا أساساً لهذه النشرة: (ا) مخطوطة شهيد على. رقم 1712 بمكتبة شهيد على باستانبول، وتوجد منها صورة شمسية بدار الكتب المصرية تحت رقم 3662 تصوف. تقع في 22 ورقة في 43 صفحة مسطرتها 23 سطراً بخط كبير واضح. وفي صفحة العنوان:

"كتاب المشكاة والمصباح صنفه الشيخ الإمام الزاهد حجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالى قدس الله روحه". وتحت ذلك اسم الناسخ وهو "عبد المجيد بن الفضل الفزارى الطبرى". وأول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم. رب أنعمت فزد بفضلك. الحمد لله فائض الأنوار الخ. وأكبر ميزة لهذه المخطوطة أنها - فيما نعلم - أقدم مخطوطة موجودة للرسالة؛ إذ أنها كتبت سنة 509هـ أى بعد وفاة الغزالى بأربع سنوات. يقول ناسخها في آخرها: "نجز الكتاب وصادف فراغ صاحبه عبد المجيد بن الفضل الفزارى الطبرى ليلة الجمعة وهى الليلة التاسعة من شهر رمضان سنة تسع وخمسمائة. وهو يحمد الله تعالى كثيراً على نعمته، ويصلى على محمد النبى وزمرته". وعلى الرغم من هذه الميزة التى تجعل مخطوطة شهيد على أقرب النسخ من نسخة المؤلف الأصلية، لاحظنا فيها - لسوء الحظ - كثيراً من الأخطاء والتحريفات والأغلاط النحوية حتى في اسم الغزالى، مما يدل على أن الناسخ لم يكن على حظ كبير من الثقافة اللغوية. (ب) مخطوطة بلدية الإسكندرية: رقم 1782- د بقلم فارسى دقيق جميل؛ نسخت سنة 907 هـ وهى تقع في 17 ورقة من 34 صفحة، ومسطرتها 19 سطراً. وهى على الجملة أدق من نسخة شهيد على، وبها كلمات، وأحيانا جمل قصيرة، هامة ساقطة من المخطوطة الأخرى. وفي صفحة العنوان "كتاب مشكاة الأنوار للإمام الغزالى رحمه الله تعالى". والصفحة مملوءة بأدعية وآيات قرآنية وأحاديث مكتوبة بخط ناسخ الرسالة.

وتبدأ المخطوطة بأول الرسالة وهو "الحمد لله فائض الأنوار وفاتح الأبصار وكاشف الأسرار الخ. وتنتهى بقول الناسخ: "تمت كتابة مشكاة الأنوار ومصفاة الأسرار. اللهم اغفر لنا مع الأبرار. يسر العسر يا ميسر الأعسار ويا خارق الأستار بحرمة محمد سيد شفيع الأشرار وقامع الكفار. تاريخه سبع وتسعمائة من هجرة النبوة". وقد اعتمدنا في تحقيق هذه الرسالة على هاتين المخطوطتين، واعتبرنا مخطوطة شهيد على أصلاً، وسجلنا القراءات المخالفة الواردة في مخطوطة بلدية الإسكندرية في الهوامش. ولكن هذا لم يمنعنا في كثير من الأحيان أن نأخذ بقراءات مخطوطة بلدية الإسكندرية ونثبتها في المتن ونذكر ما يخالفها من قراءات مخطوطة شهيد على في الهامش؛ فقد كان رائدنا في تحقيق النص الأخذ بأفضل القراءات. 5- ترجمات المشكاة والدراسات التى وضعت حولها: لم تلق رسالة "مشكاة الأنوار" من عناية الباحثين ما لقيه بعض كتب الغزالى الأخرى على الرغم من أهميتها ومنزلتها العالية بين كتب المؤلف التى كتبها في عصر نضجه. والرسالة جديرة بالدراسة والتحليل العميق لما تلقيه من ضوء على بعض المسائل التى عالجها الغزالى في كتب سابقة عليها، ولأنها تصور الموقف النهائى الذى وقفه من هذه المسائل. وقد جرؤ فيها على ما يجرؤ بالتصريح بمثله في أى مؤلف آخر: فقد أشرف فيها على القول بوحدة الوجود، وخلص بعد مناقشات طويلة إلى القول بأنه ليس في الوجود موجود حقيقى إلا الله؛ لأن كل ما سواه مستمد وجوده منه؛ وما كان وجوده عارية فهو في حكم المعدوم. فالعالم في حقيقته لا وجود له. وأقصى ما صرح به في كتبه الأخرى قوله "إنه ليس في الوجود إلا الله وآثاره والكون كله من آثاره". ولعل السر في عدم إقبال الباحثين على دراسة هذه الرسالة أنها تدور حول موضوع خاص ضيق في مظهره وإن كان واسعاً عميقاً في حقيقته.

فقد يتوهم الناظر فيها نظرة عابرة أنها ليست إلا تفسيراً لآية قرآنية خاصة هي آية النور، ولا يدرك أن الغزالى قد لخص في هذا التفسير فلسفة إشراقية كاملة، ونظرية في حقيقة الوجود كما يتصوره. ويتجلى في الرسالة إلى جانب هذا المنهجُ الذى التزمه الغزالى في تأويله للقرآن وتخريجه للمعانى الباطنية فيه، وهو المنهج الذى لا شك في أن ابن عربى قد حاكاه فيه عندما استخلص مذهبه الفلسفى الصوفى كاملاَ من طائفة محدودة من الآيات القرآنية، وإن كان الغزالى قد قصر منهجه التأويلى في الأغلب على الآيات التى يضرب فيها الله الأمثال للناس في حين أن ابن عربى التزم هذا المنهج في تفسيره للقرآن برمته. ويستوى في عدم العناية بدراسة المشكاة الباحثون العرب والغربيون. أما الباحثون العرب فقد شغلوا أنفسهم بموقف الغزالى من الفلاسفة ورده عليهم؛ أو بالرد عليه في نقده للفلاسفة كما فعل ابن رشد في تهافت التهافت، وكأنه لم يخطر ببالهم أن الغزالى الذى حارب الفلسفة وحاول هدمها فيلسوف من طراز آخر غير طراز الفارابى وابن سينا؛ وأن المصادر الخصبة في فلسفته هى رسائله القصار كالمشكاة والرسالة اللدنية وبعض أجزاء كتبه المطولة كالإحياء ومقدمة المستصفى. وأما علماء الغرب فقد جذبتهم في الغزالى شخصيته العالمية فعنوا بدراسة كتبه من حيث صلتها بعلم الأديان المقارن، وبالغزالى الصوفي لا الغزالى الفيلسوف. ولا تزيد البحوث المطولة التى وضعها الغربيون حول "مشكاة الأنوار" على ثلاثة: الأول: مقال كتبه فنسنك في ليدن سنة 1944 في عشر صفحات. الثاني: بحث نشره جيردنر بمجلة "الإسلام" Der Islam بالإنجليزية بعنوان "مشكاة الأنوار ومشكلة الغزالى" سنة 1914. الثالث: بحث نشره مونتجومرى وات بمجلة الجمعية الملكية الآسيوية J R. A. S سنة 1945.

وقد عرضنا لهذه البحوث وناقشناها في تحليلنا للكتاب. وكذلك لم تحظ المشكاة من الترجمات إلى اللغات الأوروبية إلا بثلاث: الأولى ترجمة إلى اللاتينية قام بها إسحاق بن يوسف الفاسى؛ والثانية إلى اللاتينية أيضاً وقد قام بها مترجم مجهول؛ والثالثة إلى الإنجليزية قام بها جيردنر سنة 1924.

تحليل نقدى للرسالة

تحليل نقدى للرسالة الفصل الأول يبدأ الفصل الأول بمناقشة معنى "النور" فى عرف العامة وعرف الخاصة، ثم فى عرف خاصة الخاصة وذلك تمهيداً لبيان أن الله تعالى هو نور الأنوار أو النور الأعلى الأقصى، وأنه النور الحق والحقيقى الذى تنبعث منه سائر

الأنوار التى لا تسمى أنواراً إلا على طريق المجاز. فكأن الغزالى بدأ بقضية اعتبرها بديهية أو مسلمة، وهى أن للعالم أصلاَ مغايراً له وأن هذا الأصل هو النور الحقيقي أو النور بالذات، ثم اتخذ خطوات تدريجية لا لإثبات وجود ذلك النور بل لتقرير وجوده. والنور بالمعنى العامى هو ما يُبْصَر بنفسه ويبصر به غيره كنور الشمس والقمر والسراج والنار المشتعلة. ولكن لما كان هذا النور لا يُبصَر ولا يُدرَك إلا إذا وجدت عَيْن تبصره، اعتُبِر الروح الباصر ركناً في إدراكه وكان أولى بأن يطلق عليه اسم النور من النور الظاهر. هذه أول خطوة خطاها الغزالى في الترقى في معنى النور وفي تجريده، إذ انتقل من النور الظاهر المحسوس إلى نور آخر غير ظاهر وغير محسوس: وهذا النور الآخر هو النور في عرف الخاصة. ثم نظر الغزالى في "نور العين" فإذا به موسوم بأنواع كثيرة من النقصان: فهو يبصر غيره ولا يبصر نفسه، وهو لا يبصر من الأشياء إلا ظاهرها، ولا يبصر الأشياء المفرطة في القرب والبعد، ولا يبصر إلا المتناهى؛ ويرى الصغير كبيراً والكبير صغيراً، والساكن متحركاً والمتحرك ساكناً وهكذا. ولكن في الإنسان "عيناً" ليس فيها شىء من هذه النقائص وهى "العقل" أو الروح أو النفس الإنسانية: لذلك كانت أولى باسم النور من العين الباصرة. هذه هى الخطوة الثانية التى خطاها الغزالى في تجريد النور حيث وصل إلى نور عقلى به يبصر الإنسان نفسه وغيره، ويدرك المتناهى واللامتناهى، والأشياء المفرطة في البعد والقرب، ويدرك ما وراء الحجب، وينفذ إلى بواطن الأمور وأسرارها وحقائقها، والعالم أعلاه وأسفله؛ بل يدرك الخالق جل شأنه ويدرك نسبته إليه. إلا أن العقل على الرغم من كل هذه الكمالات التى من أجلها استحق اسم النور أكثر مما استحقه نور البصر لا يدرك مدركاته على درجة واحدة؛ فمن الأشياء ما يدركه إدراكاً مباشراً في جلاء ووضوح، وبعضها مالا يدركه إلا إذا نُبّه إليه من مصدر حَكيم. والقرآن أعظم منبه للعقل لأنه أعظم حكمة.

ومن هنا كان القرآن أولى باسم النور من العقل، وورد وصفه بالنور في قوله تعالى: {والنور الذي أَنزَلْنَا} ، وفي قوله: {وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} . هذه هى الخطوة الثالثة في تجريد النور إذ نحن الآن بإزاء نور ليس من أنوار هذا العالم، بل من أنوار عالم الملكوت الذى منه القرآن. وعالم الملكوت هو العالم العلوى الذى تسكنه الملائكة وتعرج إليه نفوس السالكين. وهو عالم الغيب الذى يعتبر عالم الشهادة أثراً من آثاره وظلاً له ومسبّباً عنه. وهو عالم مشحون بالأنوار. ثم إن أنوار عالم الملكوت التى تقتبس منها الأنوار الأرضية مرتَّبة بحسب قربها وبعدها من منبع النور الأول الذى يمثله الغزالى بضوء القمر عندما يدخل في كوة بيت فيقع على مرآة منصوبة على حائط، ثم ينعكس منها على مرآة على حائط آخر، ثم ينعطف إلى الأرض فينيرها. فهو نور واحد ظهر عنه بواسطة الانعكاسات أنوار كثيرة مستعيرة وجودها منه لأنه لا يمكن أن يشتق بعضها من بعض إلى غير نهاية، بل لا بد أن ترتقى إلى منبع النور الأول الذى هو النور بالذات أو النور الحقيقى أو النور المحض (الله) الذى لا يسمى غيره باسم النور إلا مجازاً. هذا النور الحق هو الذى بيده الخلق والأمر، ومنه الإنارة أولاً وإدامة الإنارة ثانياً، ولا شركة لنور غيره في حقيقة اسم النور ولا استحقاقه. ويقابل النور الظلمة. وإذا كان النور هو الوجود المحض، فالظلمة هى العدم المحض، لأن المعدوم ليس موجوداً لنفسه ولا لغيره. ولكن الغزالى لا يستعمل كلمتى النور والظلمة كما يستعملان في مذهب الثنوية الفارسية بمعنى مبدأين متعارضين متصارعين. وإنما النور عنده هو الوجود الإيجابى والعدم هو سلب الوجود. ولما كان الوجود ينقسم إلى ما له هذه الصفة من ذاته وإلى ما هى له من غيره؛ ولما كانت نسبة الوجود إلى هذا الأخير إنما هى من حيث إضافته إلى غيره لا من حيث ذاته، اعتبر في حكم

العدم المحض. وهذا هو شأن العالم أو كل ما يطلق عليه اسم "ما سوى الله". فهو في ذاته عدم محض، والوجود الحق هو الله تعالى كما أنه هو النور الحق. وليس هذا الكلام ضرباً من المجاز في التعبير في نظر الغزالى، بل هو الحق الصريح؛ كما أنه ليس نتيجة لمقدمات نظرية وضعها العقل، بل هو حقيقة يشاهدها العارفون مشاهدة عيانية عندما يرقون في معراجها الروحي "من حضيض المجاز إلى يفاع الحقيقة" فيدركون ذوقاً معنى قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} لا بمعنى أن كل شىء سوى الله يصير هالكاً في وقت من الأوقات، بل بمعنى أن كل شىء سوى الله هالك أزلاً وأبداً ولا يتصور إلا كذلك. أما الموجود فهو وجه الحق وحده؛ والله تعالى هو المتفرد بالملك أزلاً وأبداً، في هذه الدنيا وفي الآخرة. وليس نداء الله في المخلوقات يوم القيامة بقوله {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} قاصراً على يوم القيامة، بل إنه لا يفارق سمع المخلوقات أبداً في هذه الدنيا. وهكذا وصل الغزالى في نهاية تفكيره إلى نظرية أشبه ما تكون بنظرية وحدة الوجود؛ ومن العسير صرفها عن هذا المعنى إلا إذا اعتبرت أقواله من قبيل الشطح الصوفي، ولم يؤثر عن الغزالى أنه كان من أصحاب الشطحات. فهو يقرب قرباً عجيباً من أصحاب وحدة الوجود حينما يقول "إن العالم بأسره مشحون بالأنوار.. ثم ترقي جملتها إلى نور الأنوار ومعدنها ومنبعها الأول؛ وأن ذلك هو الله تعالى وحده لا شريك له، وأن سائر الأنوار مستعارة، وإنما الحقيقى نوره فقط، وأن الكل نوره، بل هو الكل؛ بل لا هوية لغيره إلا بالمجاز.. بل كما أنه لا إله إلا هو، فلا هو إلا هو، لأن "هو" عبارة عما إليه إشارة كيفما كان، ولا إشارة إلا إليه". إنه لا يقول صراحة إن الحق هو الخلق وإنهما وجهان لحقيقة واحدة لا فرق بينهما إلا بالاعتبار كما قال ابن عربى من بعده، ولكنه يقول لا موجود على الحقيقة إلا الله، وإن العالم لا وجود له إلا من حيث انعكاس وجود الحق فيه كانعكاس ضوء القمر على صفحة المرايا المتعددة. وهذه في نظره حقيقة يقرها العقل ويؤيدها الكشف الصوفي. وهو يفرّق في نهاية المطاف بين

توحيد العوام وهو القول بلا إله إلا الله، وتوحيد الخواص وهو لا إله إلا هو، و "هو" - كما قلنا - هو كل ما يشار إليه. وتوحيد الخواص عنده "أتم وأخص وأشمل وأحق وأدق وأدخل بصاحبه في الفردانية المحضة والوحدانية الصرفة. ومنتهى معراج الخلائق مملكة الفردانية". ولم نجد في كتب الغزالى الأخرى - فيما نذكر - مثل هذا التصريح بالوحدة الوجودية؛ وكل ما قاله في الإحياء "ليس في الوجود إلا الله وآثاره والكون كله من آثاره" وفي ذلك اعتراف منه بوجود الكون إلى جانب وجود الله، وفيه إغلاق للباب في وجه وحدة الوجود. فهل نرى في "المشكاة" تحولاً في موقف الغزالى من الحقيقة الوجودية، وميلاً واضحاً نحو نزعة الصوفية القائلين بوحدة الوجود؟ إننا إذا أخذنا بمثال ضوء القمر والمرايا التى ينعكس عليها ضوؤه، قد نسلم له بأن الأنوار المنعكسة على المرايا لا وجود ولا حقيقة لها في ذاتها، مع أنها موجودة ونراها رؤيا العين، وإنما هى في الحقيقة انعكاسات للنور الأول الذى هو نور القمر. ولكن ما قوله في المرايا نفسها، وأي شىء يقابلها في تمثيله؟ هل يفكر الغزالى في شىء أشبه بالهيولى الأولى التى قال بها الفلاسفة لكى تنعكس عليها الأنوار الإلهية؟ ولكن الغزالى ينكر كل الإنكار وجود مادة قديمة للعالم ويقرر أن العالم مخلوق حادث من عدم. والظاهر لى أن الغزالى باستعماله هذا التمثيل (تمثيل ضوء القمر والأنوار المنعكسة منه) يعقّد مشكلة صدور العالم عن الله ولا يحلها على أساس عقلى، فهل أسعفته التجربة الصوفية في حلها؟ إنه يذكر العارفين الذين لا يرون في الوجود إلا الواحد الحق لأنهم يشعرون في حال وجدهم أو فنائهم بوحدة شاملة لا يشهدون فيها إلا الله، ولا يكون في تجربتهم متسع لذكر غير الله ولا لذكر أنفسهم؛ ولذلك يصيح بعضهم بقوله "أنا الحق" كما فعل الحلاج، ويصيح الآخر بقوله "سبحانى ما أعظم شانى! ". ولكن هذه "وحدة شهود" لا وحدة وجود. والشعور بوحدة الشهود حال عارضة سرعان ما تزول عند ما يرد الصوفي إلى سلطان العقل ويعرف "أن

ذلك لم يكن حقيقة الاتحاد بل شبه الاتحاد مثل قول العاشق في حال فرط عشقه: "أنا من أهوى ومن أهوى أنا". ويقول الغزالى إن شعور العارف في حال فنائه عن نفسه وعن الخلق وبقائه بالحق يسمى اتحاداً مجازاً وتوحيداً على الحقيقة: أى توحيداً بمعنى أنه لا يشهد في الوجود إلا الله وحده. ولعل مما يرفع عن الغزالى شبهة القول بوحدة الوجود ما يذكره في نهاية هذا الفصل في معنى قولنا "إن الله مع كل شىء كالنور مع الأشياء" حيث يقرر أنه "مع كل شىء" بمعنى أنه قبل كل شىء، وفوق كل شىء ومظهر لكل شىء. فقوله "قبل كل شىء" إقرار بقدم الله تعالى؛ وقوله "فوق كل شىء" معناه تنزيهه تعالى، والتنزيه بمعناه الدينى الحقيقى لا يتفق مطلقاً مع القول بوحدة الوجود. هذا وقد أثار "فنسنك" موضوع الصلة بين هذا الفصل من المشكاة وتساعات أفلوطين في مقال له نشر سنة 1941 في Semietische Studien uit de nalatenschap ذهب فيه إلى أن الغزالى استمد مادة هذا الفصل من الفصل الخامس من التساع الرابع، وهو الفصل الذى يعالج فيه أفلوطين موضوع الإبصار. وقد نشر الدكتور عبد الرحمن بدوى في كتابه "أفلوطين عند العرب: ص 189 - 192" شذرات من ترجمة عربية قديمة لهذا الفصل منسوبة إلى الشيخ اليونانى (أفلوطين) وقال إن هذا يدل على أن الفصل قد ترجم إلى اللغة العربية وأن في الإمكان اطلاع الغزالى عليه. ولكن فصل أفلوطين يعالج نظريته في الرؤية البصرية وكيفية انتقال الصورة المرئية إلى العين، ويناقش فكرة الوسيط الذى تنتقل الصورة بواسطته، ولا صلة لهذا كله بمسائل الفصل الأول من المشكاة. أما الدكتور عبد الرحمن بدوى فيرى أن المصدر الذى يمكن أن يكون الغزالى قد تأثر به هو الفصل الخامس من التساع الخامس لأفلوطين؛ وأن هذا الفصل قد ورد ملخصاً في "رسالة العلم الإلهى" المنسوبة إلى الفارابى وهى في نظره مقتطفات من هذا التساع. وقد نشر الدكتور بدوى رسالة الفارابى المزعومة في كتابه "أفلوطين عند العرب". وبالرجوع إليها لم أجد ما يدل على انتفاع الغزالى بها في رسالة المشكاة فيما عدا فقرة قصيرة تشير إلى أن فعل الفاعل الأول هو العقل، وأن العقل ضوء سائح من ذلك الجوهر كما يسيح ضوء الشمس على الأشياء من الشمس. على العكس وجدت أن برسالة العلم الإلهى ما يتعارض تعارضاً صريحاً مع آراء الغزالى، لأنها تنزع نزعة واضحة نحو مذهب الفيوضات الذى قال به أفلوطين، والغزالى ينكر نظرية الفيوضات في كتاب "تهافت الفلاسفة" ويصف القائلين بها بالخبل العقلى. وقد بينت كيف يصور الغزالى الصلة بين نور الأنوار (الله) و "المطاع"، ثم بين "المطاع" وسائر الموجودات، وأوضحت أن هذه الأخيرة صلة خلق لا صلة فيض بالمعنى الأفلوطينى. نعم يستعمل الغزالى كلمات النور والانبثاق والفيض ونحوها في تصوير عملية الخلق، ولكن الأنوار التى ترقي في جملتها إلى نور الأنوار ومعدنها ومنبعها الأول أنوار مستعارة من هذا النور الأول ولا حقيقة لها في ذاتها في حين أن الفيوضات الأفلوطينية موجودات حقيقية لكل منها وجوده الخاص. ولا يقول أفلوطين إنها على الحقيقة هى الواحد الأول. وأى مبرر يحملنا على القول بأن الغزالى قد تأثر في لغته الفلسفية في المشكاة برسالة "العلم الإلهى" المنسوبة إلى

الفارابى أكثر من تأثره بكتاب أثولوجيا أرسطاطاليس وقد كان المصدر الأول لعلم الإسلاميين بالفلسفة الأفلاطونية الحديثة؟. إن الغزالى وكثيرين غيره من فلاسفة المسلمين يستعملون مصطلحات الأفلاطونية الحديثة ولكنهم يقرءون فيها معانى جديدة ويوجهونها توجيهاً جديداً يخرجها عن معناها الأصلى. وفي هذا كان ابتكار المسلمين وأصالتهم لا تبعيتهم.

الفصل الثانى

الفصل الثانى يشرح الغزالى في هذا الفصل بعض الألفاظ الواردة في آية النور: {الله نُورُ السماوات والأرض} الخ. وهذه الألفاظ هى "المشكاة"، و"المصباح" و "الزجاجة" و "الشجرة" و "الزيت" و "النار" باعتبارها رموزاً تشير إلى معان مستترة وراءها. ويمهد لهذا الشرح بمبحثين: الأول في طبيعة الرمز أو (التمثيل) ومنهاج استعماله، والثانى فى درجات الأرواح البشرية ومراتب أنوارها، وينتهى إلى أن الألفاظ السبعة المذكورة رموز لهذه الأرواح البشرية. "تقوم نظريته في طبيعة الرمز على افتراض وجود موازاة تامة بين عالم الشهادة وعالم الغيب: العالم الجسمانى والعالم الروحانى؛ وأنه ما من شىء في عالم الشهادة إلا وهو رمز (أو مثال) لشىء في عالم الملكوت؛ وأن عالم الشهادة مرقاة إلى عالم الغيب، وإلا استحالت معرفتنا بالعالم العلوى وتعذر السفر إلى الحضرة الربوبية والقرب من الله. والله وحده هو الذى لا مثال له لأن شرط المماثلة المطابقة بوجه مّا، والله تعالى لا يطابقه شىء فلا يماثله شىء. وإذا كان الأمر كذلك، يجب أن نعتبر ألفاظ التمثيل الواردة في القرآن بمثابة مفاتيح أسرار الغيب فنؤولها كما تؤول رموز الأحلام. فكما أن الشمس في علم تعبير الرؤيا مثال لصاحب السلطان، والقمر مثال للوزير المنفذ لرغبات السلطان، كذلك للموجودات العالية الروحانية أمثلة في العالم المحسوس. وهنا يسرد الغزالى طائفة من الأمثال المقتبسة من القرآن الكريم ليوضح بها نظريته. "فالطور" مثال للموجودات العظيمة الثابتة في عالم الملكوت و"الوادى" مثال للموجودات العلوية التى تتلقى المعارف الغيبية، ومنها تجرى هذه المعارف إلى النفوس البشرية. و"الوادى الأيمن" مثال للمنبع الأول للمعرفة. و"النار" مثال لروح النبى الذى وصفه القرآن بأنه سراج منير. و "الجذوة والقبس والشهاب" أمثلة لمن يتبع النبى على استبصار لا على مجرد تقليد. و "الاصطلاء" مثال للمشاركة بين النبى

وتابعيه. و"الوادى المقدس" مثال لأول منزلة من منازل ترقي النبى: و"خلع النعلين" مثال لهجر الدارين: الدنيا والآخرة. و"القلم" مثال لانتقاش علم الغيب في النفوس القابلة، و"اللوح المحفوظ والرق المنشور" مثال للنفس التى يسجل فيها هذا العلم. و"اليد" مثال للملك المسخر لكتابة العلوم، و"الصورة" مثال لمجموع اليد والقلم واللوح، وهى في الإنسان صورة الرحمن لأن رسول الله يقول "خلق الله آدم على صورة الرحمن". و"الماء" الذى قال الله فيه {أَنْزَلَ مِنَ السماء مَآءً} مثال للمعرفة؛ و"الأودية" الواردة في نفس الآية في قوله {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} مثال للقلوب وهكذا. هنا يشعر الغزالى أن منهجه في التأويل على هذا النحو قد يدخله في عداد الباطنية الذين يصرفون الآيات القرآنية عن معانيها الظاهرة. فيبادر إلى القول بأنه ليس باطنياً يبطل الظاهر ولا حشوياً يبطل أسرار الباطن ولكنه يجمع بين الظاهر والباطن، ويأخذ بالمعنى المحسوس كما يراقب "السر" المختفى وراءه. فموسى عليه السلام رأى "ناراً" في "الوادى المقدس" وناداه ربه بقوله {فاخلع نَعْلَيْكَ} و "خلع بالفعل نعليه"؛ ولكنه أدرك في الوقت نفسه أنه في ابتداء معراجه النبوى وأن الله يطلب منه أن يتجه إليه وحده فيخلع من قلبه حب الدنيا والآخرة أى كل ما سوى الله. فالمثال في نظر الغزالى حق وأداؤه إلى السر الباطن حقيقة. والأمثلة "تنبيهات" تستخدم في إثارة الحس والخيال اللذين هما طبيعيان في الإنسان؛ ولكنها تنبيهات إلى أسرار وراءها، أو إلى أنوار يحجبها الحس والخيال. ولسائل أن يسأل عمن لهم الحق في هذا التأويل الذى لا يخضع لقاعدة لغوية ولا لعرف خاص؟ وهل هو ميدان للتكهنات والتخمينات يقول فيه العقل ما بدا له أن يقول؟ إذا كان الأمر كذلك فالمسألة جد خطيرة، إذ يصبح التأويل بابا يتسرب منه إلى الإسلام كل أنواع البدع والضلالات. وقد كان كذلك في أيدى الباطنية ومن نحا نحوهم. ولكن الذى يفهم من كلام الغزالى أنه يقصر هذا التأويل على أصحاب البصيرة من الأنبياء والأولياء فإن فيهم

وحدهم "القوة" التى يبصرون بها المعانى المستترة وراء الصور المحسوسة، كما وقع للنبى عليه السلام من أنه رأى عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة "حبواً". رأى ذلك ببصره، ولكنه رأى ببصيرته أن عبد الرحمن بن عوف ومن على شاكلته قد وجد عسراً وهو يغالب نفسه ويجاهدها لكى يتغلب إيمانه على شهواته ويدخل العالم الروحى الخالص المعبر عنه بالجنة، ولكنه يدخله "حبوا" بعد طول الجهاد والمقاومة. ويسمى الغزالى هذا النوع من الرؤية وحياً قد يحصل في اليقظة وقد يحصل في النوم: فإذا حصل في اليقظة احتاج إلى التأويل، وإن حصل في النوم احتاج إلى التعبير. والبحث الثانى الذي يضعه الغزالى تمهيداً لتأويل آية النور هو المراتب الروحية البشرية وهى عنده خمس مراتب: أولاً: الروح الحساس الذى يدرك المحسوسات، وهو موجود في الصبى والبالغ. والثانى: الروح الخيالى وهو الذى يتلقى ما تورده الحواس ويخزنه في خزانته، وهذا لا يوجد للصبى الرضيع ويوجد له بعد ذلك، وقد يوجد لبعض الحيوانات. الثالث: الروح العقلى الذى يدرك المعانى المجردة عن الحس والخيال. وهو جوهر الإنسان، ومدركاته المعلومات الضرورية الكلية. الرابع: الروح الفكرى أو النظرى وهو الذى يدرك العلاقات المنطقية بين الأفكار وينتقل من المقدمات إلى النتائج. الخامس: الروح القدسى النبوى، وهو للأنبياء والأولياء خاصة، وفيه تتجلى لوائح الغيب؛ وهو المشار إليه في قوله تعالى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} . هذه الأرواح الخمسة أنوار تظهر بها أصناف الموجودات المحسوسة، والمعقولة، وهى في نظر الغزالى في موازاة الأشياء الخمسة التى ورد ذكرها في الآية: أعنى "المشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت". فالروح

الحساس في موازاة المشكاة لأن أنواره تنفذ من خلال ثقوب الحواس كما ينفذ النور من المشكاة. والروح الخيالى في موازاة الزجاجة لأن كلا منهما من أصل كثيف ولكنه قابل للتصفية والترقيق والتهذيب؛ ولأن الخيال يضبط المعارف العقلية بحيث لا تضطرب ولا تنتشر على غير هدى. كما تضبط الزجاجة نور المصباح وتحفظه من الانطفاء بالرياح وغيرها. والروح العقلى في موازاة المصباح لأنه مركز الإشعاع العقلى كما أن المصباح مركز الإشعاع النورانى الحسى. والروح الفكرى في موازاة الشجرة لأن الحياة الفكرية بمثابة الشجرة متعددة الأغصان كثيرة الثمر، تنمو كلها من أصل واحد هو بمثابة الجذر من الشجرة. وقد ذكرت شجرة الزيتون خاصة لأن زيتها أنقى الزيوت وأصفاها وأكثرها اشتعالاً، فهو بذلك أصلح الزيوت للمصابيح. والروح القدسى النبوى في موازاة الزيت الذى بلغ من الصفاء مبلغاً يجعله يكاد يضىء ولو لم تمسسه نار. وكذلك نفوس بعض الأنبياء والأولياء قد بلغت من الصفاء مبلغاً بحيث تستغنى عن مدد علمى خارجى يأتيها بواسطة الملائكة أو غيرهم. والآن ما صلة كل هذا بالآية التى تصف الله بأنه نور السماوات والأرض وتمثل هذا النور بهذه الصورة الرمزية المعقدة؟ إن هذا التأويل الذى وضعه الغزالى لا يستقيم في نظرى إلا إذا فهم الآية فهماً خاصاً فقرأها على النحو الآتى: "الله نور السماوات والأرض، مثل نوره (المتجلى في الإنسان) كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة" الخ.. وبدون هذه الإضافة تنقطع الصلة بين تأويل الغزالى والآية الكريمة. وعلى أساس هذا الافتراض نستطيع أن نفهم ما يذكره الغزالى من مراتب الأرواح في الإنسان وهى - المراتب الخمس السالفة الذكر - لأنه يعتبرها أنواعاً من الأنوار الإلهية المختلفة الدرجات، مقتبسة من نور الأنوار (الله) ، وأن الله تعالى قد ضرب لها أمثلة من العالم المحسوس بالمشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت. أما لماذا قصر الغزالى التشبيه الوارد في الآية على النور الإلهى الظاهر في الإنسان دون سائر المخلوقات مع أنها تنص على أن الله نور السماوات

الفصل الثالث

والأرض، أى نور كل ما في الوجود من أعلاه إلى أسفله، فذلك لأن الإنسان في نظره هو الموجود الوحيد الذى يتجلى فيه النور الإلهى في جميع مراتبه في حين أنه لا يتجلى في غير الإنسان إلا في بعض المراتب. من أجل هذا اختص الله الإنسان من بين الخلق بأنه الموجود الذي خلقه الله على صورته وأنه وحده الذى استحق الخلافة عن الله. وهكذا يكشف الغزالى عن الجانب الإلهى في الإنسان ويصله بصلة مباشرة بالعالم العلوى ويضع نظرية جديدة في طبيعة النبوة والولاية تستغنى في تفسير وصول الوحى إلى الإنسان عن وساطة ملك الوحى، أو أى مدد خارجى آخر خارج عن النفس الإنسانية ذاتها. ولماذا يحتاج النبى أو الولى إلى مَلَك الوحى وهو يحمل مصباح النور الإلهى في قلبه؟ هكذا يتبين أن هذا الفصل من رسالة مشكاة الأنوار متمم الفصل الأول لأن الله الذى صوره الغزالى في الفصل الأول تصويراً انطولوجياً باعتباره نور الأنوار الذى هو أصل الوجود، قد صوره في هذا الفصل تصويراً إبستمولوجياً باعتبار ذلك النور نفسه أصل المعرفة، وأنه يبلغ غاية الظهور في الإنسان، وفي طبقة الأنبياء والأصفياء بوجه خاص، وهى الطبقة المعنية بالإنسان في حديث "خلق الله الإنسان على صورة الرحمن". الفصل الثالث هذا الفصل تتمة طبيعية للفصلين الأول والثانى وليس مقحماً على الرسالة غير متصل بها كما ذهب إليه بعض الكتاب على نحو ما سنشير إليه فيما بعد. وذلك أن الغزالى بعد أن قرر في الفصلين السابقين أن أولى الأنوار وأحقها باسم النور هو النور الإلهى، وأن هذا النور متجل بجميع مراتبه في الإنسان، أخذ يشرح في هذا الفصل الحجب التى قد تستر هذا النور وتحول دون معرفة الله وحقيقة الوجود، وأدار محور كلامه حول الحديث القائل "إن لله سبعين حجابا من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل من أدركه بصره". وهو يحصر المحجوبين في ثلاثة أنواع:

(ا) المحجوبين بالظلمة المحضة،. (ب) المحجوبين بنور مقرون بظلمة. (ج) المحجوبين بمحض الأنوار. والظاهر أنه يقصد بالحجاب الظلمانى كل ما كان مادياً أو متصلاً بالمادة من طريق مّا؛ وبالحجاب النورانى كل ما كان عقلياً. ولذلك يدخل تحت المحجوبين بالحجب الظلمانية البحتة الملاحدة والدهرية الذين استولى عليهم سلطان الحس فأنكروا الأديان والبعث، وفسروا وجود العالم على أساس مادى بحت؛ كما يدخل معهم المحجوبون بنفوسهم الكثيفة الكدرة وشهواتهم وملاذهم مما جعلهم يتخذون الهوى إلها من دون الله ويعتبرون اللذة البهيمية ونيل الشهوات الغاية القصوى من الحياة، فإذا ارتفعوا عن هذا الحضيض درجة اعتبروا التسلط والغلبة والاستيلاء، أو ذيوع الصيت واتساع الجاه غايتهم. هذه كلها من الحجب الظلمانية البحتة. أما المحجوبون بالنور المشوب بظلمة فيدخل فيهم كل من غلب على تفكيره الدينى نزعة حسية، أو خيالية تحول بينه وبين رؤية الحقيقة خالصة. من هؤلاء عبدة الأوثان الذين يفكرون في صفات الألوهية ولكنهم يخلعونها على المخلوقات المادية المحسوسة. ومنهم من يرتفع بإلهه عن معنى الحصر والتقييد في صورة معينة ويعبد الجمال المطلق في أي صورة من صوره: الجمال المطبوع لا المصنوع. ومنهم عبدة النار الذين يرون فيها معنى القهر والسلطان والقوة والبهاء، وهى كلها من صفات الله وأنواره، ولكنهم يصفون بها مخلوقاً مادياً محسوساً. ومنهم عبدة الكواكب كالشّعَرى، والمشترى والشمس. أو عبدة النور المطلق وهم ثنوية الفرس. هؤلاء جميعاً محجوبون بظلمة ممزوجة بنور؛ أما الظلمة فراجعة إلى ماديتهم في تصورهم للألوهية، وأما النور فراجع إلى الصفات الإلهية التى يخلعونها على معبودهم المادى. ومن هذه الطائفة أيضاً من غلب على تفكيرهم ظلمة الخيال كالمجسمة والكرامية الذين قالوا بوجود إله متجسم جالس على العرش؛ أو الذين

يثبتون لله الجهة - وجهة فوق بوجه خاص. وهنالك صنف ثالث محجوب بالأنوار الإلهية مقرونة بأدلة عقلية فاسدة؛ وهؤلاء هم الصفاتية الذين يثبتون لله صفات كالكلام والسمع والبصر ونحوها، ويقيسونها على الصفات الإنسانية، فيقولون إن لله كلاماً هو صوت، أو هو حديث نفس مثل كلامنا النفسى. أما المحجوبون بالأنوار المحضة فمنهم الفلاسفة الذين تحاشوا إطلاق اسم الكلام والسمع والبصر والإرادة على الله على نحو إطلاقها على البشر، ونزهوه عن هذه الصفات فلم يعرّفوه بها بل عرفوه بالإضافة إلى أثره في الكون بأن قالوا "إنه محرك السماوات". ومنهم من أدركوا أن وصف الله بأنه محرك السماوات يقتضى كثرة في ذاته لتعدد الأفلاك وتنوعها، فنسبوا حركة الأفلاك إلى عقول (ملائكة) كل منها خاص بفلكه، ولكنها كلها تتحرك بحركة الفلك الأقصى الذي يحركه الله تحريكاً مباشراً. ولكن من هذه الطبقة من المحجوبين من ترقوا عن هؤلاء وزعموا أن تحريك الأفلاك بطريق المباشرة ينبغى ألاَّ يكون من فعل الله، بل من فعل عقل أو ملك يقوم بهذا الفعل طاعة لله وعبادة. وعلى زعمهم هذا يصح أن يسمى الله باسم "المطاع" من جهة أنه يحرك الكل بطريق الأمر لا بطريق المباشرة. هذه هى أصناف المحجوبين التى عددها الغزالى، وهى تشمل - على نحو ما ذكرنا - الوثنيين والدهريين والماديين وغيرهم من الملاحدة، كما تشمل المجسمة والمشبهة والصفاتية من المتكلمين وتشمل الفلاسفة الذين أخذوا بمذهب أرسطو أو بمذهب أرسطو ممزوجاً بمذهب أفلوطين. أما الرأى الذى يرتضيه الغزالى نفسه، وهو الرأى الذى يقول به "الواصلون" كما يسميهم، فهو أن "المطاع" على الحقيقة هو "الأمر الإلهى" الذى ورد ذكره في القرآن في قوله تعالى: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} وقوله {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . فهو ليس ملكاً من الملائكة (بالمعنى الدينى) ولا هو العقل الأول الذى قال به فلاسفة الأفلاطونية الحديثة، ولا هو الله نفسه، ولا هو شىء من العالم، بل هو

واسطة بين الله والعالم، تعمل الإرادة الإلهية عن طريقه. "ونسبة هذا المطاع إلى الوجود الحق (الله) نسبة الشمس إلى النور المحض". أما قول الغزالى "إن "المطاع" موصوف بصفة تنافي الوحدانية المحضة" فذلك لأن الأمر الإلهى مبدأ الكثرة والتعدد في الوجود؛ والوحدانية المحضة لا تعدد فيها وهى من صفات الله وحده. وهنا يلتقى الغزالى في وصفه للمطاع مع أفلوطين في وصفه للعقل الأول مع الاختلاف الجوهرى بين نظريتى هذين المفكرين: إذ الأمر الإلهى عند الغزالى قديم قدم الله لأنه من كلام الله القديم، والعقل الأول عند أفلوطين موجود فاض عن الواحد الأول وليس من الواحد الأول في شىء. ونظرية الغزالى في "المطاع" امتداد لنظرية الأشاعرة في الكلام الإلهى وفي القرآن من حيث هو كلام الله، إلا أن الغزالى تجاوز نظرية الأشاعرة البسيطة وعمّقها ووضعها في صورة نظرية جديدة من نظريات الإسلاميين في "الكلمة" Iogos ووجد لها أصولاً مقررة في نصوص القرآن. لم يرض الغزالى عن قول من قال إن الرب المقدس عن معانى الصفات هو "المطاع"، ولا عن قول من قال إن المطاع هو الرب المحرك للفلك الأقصى والمسيطر على العقول المحركة للأفلاك الأخرى؛ ولا عن قول من قال إن الله هو المحرك على الحقيقة، ولكن لا على سبيل المباشرة، بل بوساطة ملك (عقل) محرك للأفلاك. وإنما رضى بقول الواصلين، وهو أن المطاع شىء غير الذات الإلهية، متصف بصفات تنافي الوحدانية المحضة والكمال البالغ الذى لا يتصف به غير الله؛ وأن هذا "المطاع" يحرك الأفلاك ويدبر الكون وعن طريقه يتوجه الواصلون من الذي يحرك السموات ومن الذى أمر بتحريكها إلى الذى فطر السماوات؛ أى أنه عن طريق معرفة الأمر الإلهى يصل الواصلون إلى الله. وهكذا نرى الغزالى في سبيل محافظته على تنزيه الله تنزيهاً مطلقاً ووصفه بالوحدانية المحضة التى لا تتضمن أى معنى من معانى التعدد، يشخص "الأمر الإلهى" كما شخص الأشاعرة الكلام الإلهى، وينسب إليه دور تحريك الأفلاك وتدبير الكون. إن الغزالى بهذا قد بالغ في التنزيه إلى الحد الذى جعل من الله جوهراً مجرداً عن كل نسبة إلى خلقه، أى مجرداً عن صفات الإلهية، وهذا ما لا أظنه يرضاه وإن ساق إليه منطق كلامه. ويستبعد الأستاذ نيكولسون أن يكون "المطاع" في نظرية الغزالى هو قطب الصوفية على أساس أن هذا من أقوال الاسماعيلية الباطنية والغزالى يرفض مذهبهم جملة: ويقول في مقال له عن فكرة الشخصية في الإسلام: "أما أنا فأميل إلى الاعتقاد بأن نظرية الغزالى في "المطاع" تتفق مع نظرية المتأخرين من الصوفية، وأن "المطاع" يمثل الصورة المثالية التى يسمونها "الحقيقة المحمدية" أو "الروح المحمدى" -الإنسان السماوى الذى خلقه الله على صورته - ويعتبرونه قوة كونية يتوقف عليها نظام العالم وحفظه". ولعل الذى أوحى إلى الأستاذ نيكولسون بهذه الفكرة ما ورد في القرآن من آيات عن "المطاع" في مثل قوله تعالى {مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 21] وقوله: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] وقوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} [النساء: 59] . ولكن الذى أراه هو أنه ربما كان لهذه الآيات مغزاها الفلسفى في نظريات الصوفية المتأخرين التى تأثرت بالأفلاطونية الحديثة، ولكن لا أثر لها في نظرية الغزالى. وأغلب الظن أن الغزالى كان يفهم من إطاعة رسول الله المعنى الدينى لا أى معنى فلسفى، وأنه أراد بالمطاع "الأمر الإلهى" الذى به تنفذ الإرادة الإلهية وبه يحدث الخلق. نظرية المطاع ومشكلة الصفات الإلهية: اتخذ الغزالى في الفصل الثالث مسألة الصفات الإلهية محوراً لتفكيره ورفض أقوال عدد كبير من الفرق الإسلامية وأصحاب المذاهب الأخرى غير الإسلامية ممن أطلق عليهم اسم المحجوبين، فظهر له أن منهم من قال بالتشبيه أو بالغ فيه حتى وقع في التجسيم الصريح، ومنهم من جنح إلى التنزيه المطلق كالمعتزلة وبعض فلاسفة الإسلام. والغزالى أشعرى المذهب؛ والأشاعرة يثبتون لله الصفات التى وصف بها نفسه ولكنهم يقولون إنها مغايرة لذاته وقديمة قدم ذاته كما أنها مختلفة الواحدة عن الأخرى. وينتهون من ذلك إلى تقرير أن صفات الله لا هى هو ولا هى غيره. فالله عالم بعلم وقادر بقدرة ومتكلم بكلام، ولكن علمه وقدرته وكلامه غير ذاته، وهى في الوقت نفسه ليست أموراً منقطعة الصلة تماماً بذاته؛ بل هى بوجه من الوجوه متصلة بالذات غير منفكة عنها. والذى يعنينا من مشكلة الصفات هنا هو صفة "الكلام" التى نشأ عن الخوض فيها خلاف عنيد بين المعتزلة وأهل السنة ثم بينهم وبين الأشاعرة: وذلك لأن البحث عن صفة الكلام جرهم إلى البحث في "الأمر الإلهى" الذى فسرنا به "المطاع" في نظرية الغزالى. فالأشاعرة يذهبون إلى القول بقدم كلام الله - ومنه "الأمر الإلهى" ويستندون في ذلك إلى آيات وردت في القرآن مثل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ} وقوله: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} وقوله {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} . وهذه الآيات صريحة في أن أمر الله "المطاع" قديم قدم الله، وأنه سابق على الخلق، وأن به تقوم السماوات والأرض. والأمر الإلهى ليس هو الله، ولا هو غيره على حد قولهم. كل هذا من مذهب الأشاعرة الذى ظل الغزالى أميناً عليه لا يتعداه في رسالة المشكاة أو في غيرها من كتبه. غير أنه أضاف إليه إضافة جوهرية في الفقرة الأخيرة من المشكاة، وهى فقرة صوفية النزعة لا صلة لها بالمشكلة الكلامية سابقة الذكر: وذلك حين يقرر أن "الواصلين" يدركون الله

إدراكاً آخر غير إدراك المحجوبين: إذ يدركونه مقدساً منزهاً عن جميع ما وصفه به المحجوبون، عندما يتجلى لهم الحق بذاته فتحرق سبحات وجهه الأعلى كل ما أدركه بصر الناظرين وبصيرتهم. وهذه منزلة في التصوف شبيهة بما يسميه ابن عربى "منزلة تنزيه التوحيد"، وهى منزلة يتعالى فيها الحق عن أن يوصف بأية صفة حتى صفة التوحيد، لأن الوصف حتى بالتوحيد تقييد، والتقييد مناف للتنزيه المطلق. الظاهر أن الفقرات الأخيرة من مشكاة الأنوار قد أثارت شيئاً من الحيرة في فهم نظرية الغزالى في المطاع، بل أثارت الشك في عقيدته: يدل على ذلك أن ابن طفيل يقول في رسالته حى بن يقظان: "وقد توهم بعض المتأخرين من كلامه (أى كلام الغزالى) الواقع في آخر كتاب المشكاة أمراً عظيماً أوقعه في مهواة لا مخلص له منها: وهو قوله بعد أن ذكر أصناف المحجوبين بالأنوار ثم انتقاله إلى ذكر الواصلين "إنهم وقفوا على أن هذا الموجود العظيم متصف بصفة تنافي الوحدانية المحضة، فأراد أن يلزمه من ذلك بأنه يعتقد أن الأول الحق سبحانه في ذاته كثرة مّا، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً" والظاهر أن ابن طفيل يقصد ببعض المتأخرين ابن رشد، ويتهمه بالوهم وعدم فهم المقصود من عبارة الغزالى؛ إذ أنه فهم من "الموجود العظيم المتصف بصفة تنافي الوحدانية المحضة" الله سبحانه وتعالى، مع أن الغزالى يقصد به "المطاع" لا الذات الإلهية المنزهة عن كل وصف. أما ابن رشد نفسه فيتهم الغزالى بأنه أورد في فصل المحجوبين كلاماً يتناقض مع ما قرره في كتبه الأخرى في مسألة حركة الأفلاك وموقف الله منها. يقول: "ثم جاء في كتابه المعروف بمشكاة الأنوار فذكر فيه مراتب العارفين بالله فقال: إن سائرهم محجوبون إلا الذين اعتقدوا أن الله سبحانه غير محرك

السماء الأولى، وهو الذى صدر عنه هذا المحرك. وهذا تصريح منه باعتقاد مذاهب الحكماء في العلوم الإلهية. وهو قد قال في غير ما موضع إن علومهم الإلهية تخمينات بخلاف الأمر في سائر علومهم. وأما في كتابه "المنقذ من الضلال" فأنحى فيه على الحكماء وأشار إلى أن العلم إنما يحصل بالخلوة والفكرة، وأن هذه المرتبة هى من جنس مراتب الأنبياء. وكذلك صرح بذلك بعينه في كتابه الذى سماه "كيمياء السعادة". وليست هذه الجملة نصاً من نصوص المشكاة، وإنما هى تلخيص لما فهمه ابن رشد وأورده بعبارته، فإن الغزالى لم يذكر صراحة أن المحرك لجرم الفلك الأقصى صدر عن الله وإنما ذكر أن "نسبة هذا المحرك (المطاع) إلى الوجود الحق نسبة الشمس في الأنوار"، فهل فهم ابن رشد من هذا معنى الصدور؟ إن الشمس لا يقال إنها صادرة عن النور المحض، وإنما يقال إنها تعيّن من تعيناته، أو مجلى من مجاليه. وكذلك يقال في المطاع (المحرك للأفلاك الذى فهمناه على أنه الأمر الإلهى) : أنه ليس صادراً عن الواحد الحق، وإنما هو مجلى من مجاليه. وعلى هذا لا يقول الغزالى بنظرية الصدور التى يقول بها الحكماء. ثم إن الغزالى يرفض فكرة المحرك الأول الذى يقول به الفلاسفة استناداً إلى أن الطبيعة لا تعمل بنفسها عملاً، بل هى مسخرة ومستعملة من جهة فاطرها. وإذا قيل إنها تفعل شيئاً، فذلك على سبيل المجاز: لأن "الفاعل" في نظر الغزالى لا يسمى فاعلاً بمجرد كونه سبباً، بل لوقوع الفعل منه على وجه الإرادة والاختيار. وإذن فلا محل للقول بأن الغزالى يأخذ بفكرة المحرك الأول بالمعنى الفلسفى في المشكاة وينكرها في غيرها من كتبه. وإنما المحرك الأول عنده هو "المطاع" (الأمر الإلهى) وهو ليس محركاً طبيعياً ولا هو عين ذات الواحد الأول.

هذا وقد ذهب الأستاذ "مونتجومرى وات" في مقال له نشر في المجلة الآسيوية الملكية سنة 1954 إلى أن الفصل الثالث من مشكاة الأنوار فصل منتحل، وأن مؤلفه كان أحد الكتاب المتأثرين بفلسفة ابن سينا في إثبات وحدة الأول على نحو ما فسرها ابن سينا في كتاب النجاة؛ وذلك على أساس أن الإسلام السنى كان يفهم "التوحيد" دائماً بمعنى نفى الشريك لله لا بمعنى الوحدة الذاتية، وأن هذا المعنى الأخير هو ما ذهب إليه أصحاب الأفلاطونية الحديثة الذين نفوا كل معنى من معانى التعدد في ذات الواحد: وبذلك نفوا الصفات الإلهية. وهذه كلها مقدمات لا أرى فيها ما يبرر استنتاج الأستاذ مونتجومرى وات أن فصل الحجب في جملته منحول ومقحم على رسالة المشكاة، لأن الغزالى لم ينكر صفات الله في هذا الفصل وإنما أنكر كيفية إطلاقها على الله عند مختلف فرق المتكلمين والفلاسفة. فهو لم ينكر أن الله عالم قادر مريد متكلم.. الخ، ولكنه أنكر إطلاق هذه الصفات على الله على النحو الذى يطلقها عليه المشبهة. ولم ينكر أن الله نور، ولكنه أنكر أن يطلق هذا الوصف على معبود آخر كالشمس أو القمر أو الكواكب الأخرى؛ ولم ينكر أن الله قهار ولكنه أنكر أن تطلق هذه الصفة الإلهية على موجود مادى كالنار عند من يعبدونها. ولم يكن هم الغزالى وهو يتكلم عن تنزيه الله أن ينفى الشريك للبارى فقط، بل كان همه أيضاً أن يقرر الوحدة الذاتية لله. ومشكلة الصفات عند متكلمى الإسلام وفلاسفتهم هى مشكلة الوحدة الذاتية الإلهية. ثم إن "وات" لم ينتبه إلى أن الغزالى في هذا الفصل حاول أن يحل مشكلة الصفات على أساس صوفي بعد أن بحثها من الوجهة الكلامية والفلسفية. "فالواصلون" في اصطلاح الغزالى هم الصوفية أصحاب الذوق الذين يدركون الله إدراكاً مباشراً، ويرونه مقدساً ومنزهاً عن جميع ما يخطر ببالنا

وصفه به. أما "وات" فيقول إن الواصلين الذين يتكلم عنهم الغزالى لا يمتازون عن غيرهم من المحجوبين إلا في أنهم يأخذون بنظرية "المطاع". ثم يقول إن فصل الحجب ليس له توطئة تمهد له في الرسالة: وأى توطئة للكلام عن الحجب أقوى من ذكر النور وأنواعه ودرجاته: لأن الحجب التى تكلم عنها الغزالى حواجز تخفى هذا النور وتحول دون ظهوره وجلائه. فإذا ارتفعت الحجب بجميع أنواعها ظهر النور الإلهى القاهر وأحرقت سبحات وجه الله كل ما أدركه بصر الناظرين وبصيرتهم كما يقول الحديث. وفيم الشك في نسبة الفصل الثالث من الرسالة إلى الغزالى وهو يقرر فيها أنها مؤلفة من ثلاثة فصول - لا من فصلين، ويشير صراحة إلى حديث الحجب الذى هو موضوع الفصل الثالث، ويحيل في الفصلين الأول والثانى على الفصل الثالث، وفي الفصل الثالث عليهما؟ ومما يثبت صحة نسبة الفصل الثالث إلى الرسالة أنه ورد برمته في مخطوطة شهيد على التى كتبت سنة 509 أى بعد وفاة المؤلف بأربع سنوات. وأخيراً نرى ابن طفيل يقتبس فقرة طويلة هامة من هذا الفصل في رسالة "حى بن يقظان" من غير أن يثير شكاً أو إشكالاً حول صحة نسبته إلى الغزالى. فالشواهد كلها مجمعة على أن فصل الحجب في رسالة المشكاة جزء أصيل منها متمم للفصلين السابقين عليه، وأنه من حيث المادة والأسلوب متمش مع بقية الرسالة غير مقحم عليها.

خاتمة

خاتمة ظهر مما ذكرنا من تحليل لمضمون رسالة "مشكاة الأنوار" أننا بإزاء عمل فلسفى له قيمته وطابعه المميز، وأنها بمثابة اللّبنة التى يمكن أن يضاف إليها لَبِنات أخرى ليتألف منها مذهب فلسفى كامل ومتناسق. ومعنى هذا أن الغزالى الذى كثيراً ما وصف بأنه هادم الفلسفة، كانت له فلسفة - كما كان لغيره ممن ظهروا بعده فلسفة، ولكنها كانت من نوع جديد. كانت الفلسفة المشائية العربية - أى الفلسفة الأرسطية المنصبغة بصبغة الأفلاطونية الحديثة - قد استنفدت جميع أغراضها قبل الغزالى. وكانت قد بلغت ذروتها في مؤلفات الشيخ أبى على بن سينا ومدرسته بحيث لم يكن مقدراً لها إلا الهبوط والتراجع، والتخلى عن مكانها لغيرها من المذاهب في الميدان الفكرى الإسلامى. ولم تكن الطعنة التى وجهها الغزالى لهذه الفلسفة - ممثلة في كتابات ابن سينا خاصة - إلا عاملاً جديداً زاد من سرعة هذا الهبوط. كان لا بد للفكر الفلسفى الإسلامى أن يشق لنفسه طريقاً آخر غير الطريق المشائى؛ طريقاً يمكن أن ينفذ المفكر من خلاله إلى صميم نفسه ودينه، ويتحول فيه من النظر إلى العالم نظرة موضوعية إلى النظر إلى النفس نظرة ذاتية؛ ويتحول من عالم المادة والأجرام الكثيفة إلى عالم النور والأكوان اللطيفة. وكان هذا الطريق هو طريق الإشراق الذى وضع أفلاطون اليونانى وفلاسفة إيران أصوله الأولى. في هذا الطريق الجديد سارت الفلسفة الإسلامية وأنتجت نتاجاً خصباً رائعاً لا يقل في هاتين الصفتين عن إنتاجها في العصر المشائى. ولا ينكر هذا الجانب من التفكير الإسلامى، ويدعى أن الفلسفة الإسلامية لم تقم لها قائمة بعد ابن سينا، إلا من يقصر الفلسفة الإسلامية -

دون مبرر - على الفلسفة المشائية التى يمثلها الفارابى وابن سينا. وهو إذ يفعل ذلك، لا يعترف بالخصب والعمق والأصالة التى يتميز بها التفكير الفلسفى الصوفى الذى نراه واضحاً في مؤلفات الغزالى وشهاب الدين السهروردى الحلبى ومحيي الدين بن عربي وأمثالهم. ولعل الغزالى كان أسبق فيلسوف إسلامى إلى الأخذ بمذهب الإشراق الذى نرى أثره واضحاً في رسالة "مشكاة الأنوار"؛ فإن تمييزه بين النور والظلمة، وبين عالم الأنوار وعالم الظلمات، هو المحور الذى تدور حوله هذه الرسالة؛ وهو تمييز أساسى في فلسفة إيران القديمة على نحو ما وردت في كتاب الأبستاق Avesta، وكذلك في الفلسفة الأفلاطونية الحديثة. ولكن الغزالى لم يبن على هذه التفرقة مذهباً ثنوياً في طبيعة الوجود كما بنى ثنوية الفرس؛ بل على العكس نقض مذهبهم في المشكاة وغيرها، واعتبرهم في جملة المحجوبين. ولعله ومن سبقه من كبار متصوفة الإسلام كانوا أكثر تأثراً فيما قالوه عن النور والإدراك الذوقي المنبعث من العالم النورانى بالأفلاطونية الحديثة التى وردت إليهم ملخصة في كتاب الربوبية المنسوب خطأ إلى أرسطو. وفي رسالة "مشكاة الأنوار" نواة لمذهب فلسفى إشراقي أهم جوانبه الجانب الأنطولوجى الذى يشرح ماهية الوجود، والأبستمولوجى الذى يشرح ماهية المعرفة. والسيكولوجى الذى يشرح ماهية النفس، وإن كان الجانب الأول هو الغالب عليها. بهذا سبق الغزالى كبار فلاسفة الإشراق المتأخرين من أمثال السهروردى الحلبى وقطب الدين الشيرازى ومهد أمامهم الطريق إلى فلسفة إشراقية كاملة مفصلة؛ وعلى الأخص في النواحى التى تتصل بالمعرفة والنفس كما تدل عليه عبارة قطب الدين الشيرازى في مقدمة شرحه على "حكمة الإشراق" للسهروردى فإنه يقول إن حكمة الإشراق هى "الحكمة المؤسسة على الإشراق الذى هو الكشف، أو حكمة المشارقة الذين هم أهل فارس، وهو أيضاً يرجع إلى

الأوَل: لأن حكمتهم كشفية ذوقية فنسبت إلى الإشراق الذى هو ظهور الأنوار العقلية ولمعانها وفيضانها بالإشراقات على النفوس عند تجردها. وكان اعتماد الفارسيين في الحكمة على الذوق والكشف. وكذا قدماء يونان خلا أرسطو وشيعته فإن اعتمادهم كان على البحث والبرهان لا غير".

مقدمة

مقدمة بسم الله الرحمن الرحيم. رب أنعمت فزدْ بفضلك الحمد لله فائض الأنوار وفاتح الأبصار. وكاشف الأسرار ورافع الأستار. والصلاة على محمد نور الأنوار وسيد الأبرار وحبيب الجبار وبشير الغفّار ونذير القهاّر، وقامع الكفار وفاضح الفجّار؛ وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين الأخيار. أما بعد فقد سألتنى أيها الأخ الكريم قيّضك الله لطلب السعادة الكبرى، ورشحك للعروج إلى الذروة العليا، وكحَّل بنور الحقيقة بصيرتك، ونقّى عمّا سوى الحق سريرتك، أن أبث إليك أسرار الأنوار الإلهية مقرونة بتأويل ما يشير إليه ظواهر الآيات المتلوة والأخبار المروية مثل قوله تعالى {الله نُورُ السماوات والأرض} ومعنى تمثيله ذلك بالمشكاة والزجاجة والمصباح والزيت والشجرة، مع قوله عليه السلام "إن لله سبعين حجاباً من نور وظلمة وأنه لو كشفها لأحرقت سبحاتُ وجهه كل من أدركه بصره". ولقد ارتقيت بسؤالك مرتقىً صعباً تنخفض دون أعاليه أعين الناظرين؛ وقرعْت باباً مغلقاً لا يُفتَح إلا للعلماء الراسخين. ثم ليس كل سر يُكشَف ويُفشى، ولا كل حقيقة تعرض وتُجلَى؛ بل صدور الأحرار قبور الأسرار. ولقد قال بعض العارفين "إفشاء سر الربوبية كفر". بل قال سيد

الأولين والأخرين صلى الله عليه [وسلم] "إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله. فإذا نطقوا به لم ينكره إلا أهل الغِرّة بالله، ومهما كثر أهل الاغترار وجب حفظ الأسرار على وجه الإسرار". لكنى أراك مشروح الصدر بالله بالنور، منزه السر عن ظلمات الغرور (و 2 - ا) فلا أشح عليك في هذا الفن بالإشارة إلى لوامع ولوائح؛ والرمز إلى حقائق ودقائق. فليس الخوف في كف العلم عن أهله بأقل منه في بثه إلى غير أهله. فمن مَنَحَ الجّهال علماً أضاعه ... ومن مَنَع المستوجبين فقد ظلم فاقنع بإشارات مختصرة وتلويحات موجزة؛ فإن تحقيق القول فيه يستدعى تمهيد أصول وشرح فصول ليس يتسع الآن لها وقتى، وليس ينصرف إليه همى وفكرتى. ومفاتيح القلوب بيد الله يفتحها إذا شاء كما شاء بما يشاء. وإنما الذى ينفتح في الوقت فصول ثلاثة.

الفصل الأول: في بيان أن النور الحق هو الله تعالى وأن اسم النور لغيره مجاز محض لا حقيقه له

الفصل الأول: في بيان أن النور الحق هو الله تعالى وأن اسم النور لغيره مجاز محض لا حقيقه له وبيانه بأن يعرف معنى النور بالوضع الأول عند العوام، ثم بالوضع الثانى عند الخواص، ثم بالوضع الثالث عند خواص الخواص. ثم تعرف درجات الأنوار المذكورة المنسوبة إلى خواص الخواص وحقائقها لينكشف لك عند ظهور درجاتها أن الله تعالى هو النور الأعلى الأقصى، وعند انكشاف حقائقها أنه النور الحق الحقيقى وحده لا شريك له فيه. أما الوضع الأول عند العامى فالنور يشير إلى الظهور، والظهور أمر إضافي: إذ يظهر الشىء لا محالة لإنسان ويبطن عن غيره: فيكون ظاهراً بالإضافة وباطناً بالإضافة. وإضافة ظهوره إلى الإدراكات لا محالة. وأقوى الإدراكات وأجلاها عند العوام الحواسُّ، ومنها حاسة البصر. والأشياء بالإضافة إلى الحس البصرى ثلاثة أقسام: منها ما لا يبصر بنفسه كالأجسام المظلمة. (و 2ـ ب) ومنها ما يبصَر بنفسه ولا يبصَر به غيره كالأجسام المضيئة كالكواكب وجمرة النار إذا لم تكن مشتعلة.

ومنها ما يبصَر بنفسه ويبصَر به أيضاً غيره كالشمس والقمر والسراج والنيران المشتعلة. والنور اسم لهذا القسم الثالث. تم تارة يطلق على ما يفيض من الأجسام على ظواهر الأجسام الكثيفة، فيقال استنارت الأرض ووقع نور الشمس على الأرض ونور السراج على الحائط والثوب. وتارة يطلق على نفس هذه الأجسام المشرقة لأنها أيضاً في نفسها مستنيرة. وعلى الجملة فالنور عبارة عما يبصَر بنفسه ويبصَر به غير كالشمس. هذا حده وحقيقته بالوضع الأول. دقيقة لما كان سر النور وروحه هو الظهور للإدراك، وكان الإدراك موقوفاً على وجود النور وعلى وجود العين الباصرة أيضاً: إذ النور هو الظاهر المظهِر؛ وليس شىء من الأنوار ظاهراً في حق العميان ولا مظهراً. فقد تساوى الروح الباصرة والنور الظاهر في كونه ركناً لا بد منه للإدراك ثم ترجّح عليه في أن الروح الباصرة هى المدركة وبها الإدراك. وأما النور فليس بمدرك ولا به الإدراك، بل عنده الإدراك. فكان اسم النور بالنور الباصر أحق منه بالنور المبصَر. وأطلقوا اسم النور على نور العين المبصرة فقالوا في الخفّاش إن نور عينه ضعيف، وفي الأعمش إنه ضعيف نور بصره، وفي الأعمى إنه فقد نور البصر، وفي السواد إنه يجمع نور البصر ويقويه، وإن الأجفان إنما خصتها الحكمة الإلهية بلون السواد وجعل العين محفوفة بها لتجمع ضوء

العين. وأما البياض فيفرق ضوء العين ويضعف نوره، حتى إن إدامة النظر إلى البياض المشرق، بل إلى نور الشمس يبهر نور العين ويمحقه كما ينمحق الضعيف في جنب القوى. فقد عرفت بهذا أن (و 3ـ ا) الروح الباصر سمى نوراً، وأنه لم سمّى نوراً، وأنه لِمَ كان بهذا الاسم أولى. وهذا هو الوضع الثانى وهو وضع الخواص. دقيقة إعلم أن نور بصر العين موسوم بأنواع النقصان: فإنه يبصر غيره ولا يبصر نفسه، ولا يبصر ما بَعُد منه، ولا يبصر ما هو وراء حجاب. ويبصر من الأشياء ظاهرها دون باطنها؛ ويبصر من الموجودات بعضها دون كلها. ويبصر أشياء متناهية ولا يبصر ما لا نهاية له. ويغلط كثيراً في إبصاره: فيرى الكبير صغيراً والبعيد قريباً والساكن متحركاً والمتحرك ساكناً. فهذه سبع نقائص لا تفارق العين الظاهرة. فإن كان في الأعين عين منزهة عن هذه النقائص كلها فليت شعرى هل هو أولى باسم النور أم لا؟ واعلم أن في قلب الإنسان عيناً هذه صفة كمالها وهى التى يعبّر عنها تارة بالعقل وتارة بالروح وتارة بالنفس الإنسانى. ودعْ عنك العبارات فإنها إذا كثرت أوهَمَت عند ضعيف البصيرة كثرة المعانى. فنعنى به المعنى الذى يتميز به العاقل عن الطفل الرضيع وعن البهيمة وعن المجنون. ولنسمه "عقلاً" متابعة للجمهور في الاصطلاح فنقول:

العقل أولى بأن يسمى نوراً من العين الظاهرة لرفعة قدره عن النقائص السبع وهو أن العين لا تبصر نفسها، والعقل يدرك غيره ويدرك صفات نفسه: إذ يدرك نفسه عالماً وقادراً: ويدرك علم نفسه ويدرك علمه بعلم نفسه وعلمه بعلمه بعلم نفسه إلى غير نهاية. وهذه خاصية لا تتصور لما يدرك بآلة الأجسام. ووراءه سر يطول شرحه. والثانى أن العين لا تبصر ما بَعُد منها ولا ما قرب منها قرباً مفرطاً: والعقل يستوى عنده القريب والبعيد: يعرج في تطريفة إلى أعلى السماوات رقياً، وينزل في لحظة إلى تخوم الأرضين هوِياً. بل إذا حقت الحقائق (و 3ـ ب) يكشف أنه منزه عن أن تحوم بجنبات قدسه معانى القرب والبعد الذى يفرض بين الأجسام، فإنه أنموذج من نور الله تعالى، ولا يخلو الأنموذج عن محاكاة، وإن كان لا يرقي إلى ذروة المساواة. وهذا ربما هزك للتفطن لسر قوله عليه السلام "إن الله خلق آدم على صورته" فلست أرى الخوض فيه الآن. الثالث أن العين لا تدرك ما وراء الحجب، والعقل يتصرف في العرش والكرسى وما وراء حجب السماوات، وفي الملأ الأعلى والملكوت الأسمى كتصرفه في عالمه الخاص ومملكته القريبة أعنى بدنه الخاص. بل الحقائق كلها لا تحتجب عن العقل. وأما حجاب العقل حيث يحجب فمن نفسه لنفسه

بسبب صفات هى مقارنة له تضاهى حجاب العين من نفسه عند تغميض الأجفان. وستعرف هذا في الفصل الثالث من الكتاب. الرابع أن العين تدرك من الأشياء ظاهرها وسطحها الأعلى دون باطنها؛ بل قوالبها وصورها دون حَقائقها. والعقل يتغلغل إلى بواطن الأشياء وأسرارها ويدرك حقائقها وأرواحها، ويستنبط سببها وعلتها وغايتها وحكمتها، وأنها ممّ خلق، وكيف خلق، ولِم خلق، ومِن كم معنى جمع وركّب، وعلى أى مرتبة في الوجود نزل، وما نسبته إلى خالقها وما نسبتها إلى سائر مخلوقاته، إلى مباحث أُخر يطول شرحها نرى الإيجاز فيها أولى. الخامس أن العين تبصر بعض الموجودات إذ تقصر عن جميع المعقولات وعن كثير من المحسوسات: إذ لا تدرك الأصوات والروائح والطعوم والحرارة والبرودة والقوى المدركة: أعنى (و 4ـ ا) قوة السمع والبصر والشم والذوق، بل الصفات الباطنة النفسانية كالفرح والسرور والغم والحزن والألم واللذة والعشق والشهوة والقدرة والإرادة والعلم إلى غير ذلك من موجودات لا تحصى ولا تعد؛ فهو ضيق المجال مختصر المجرى لا تسعه مجاوزة الألوان والأشكال وهما أخس الموجودات: فإن الأجسام في أصلها أخس أقسام الموجودات، والألوان والأشكال من أخس أعراضها. فالموجودات كلها مجال العقل؛ إذ يدرك هذه الموجودات التى عددناها

وما لم نعدّها، وهو الأكثر: فيتصرف في جميعها ويحكم عليها حكماً يقينياً صادقاً. فالأسرار الباطنة عنده ظاهرة، والمعانى الخفية عنده جلية. فمن أين للعين الظاهرة مساماته ومجاراته في استحقاق اسم النور؟ كلا إنها نور بالإضافة إلى غيرها؛ لكنها ظلمة بالإضافة إليه. بل هى جاسوس من جواسيسه؛ وكله بأخس خزائنه وهى خزانة الألوان والأشكال لترفع إلى حضرته أخبارها فيقضى فيها بما يقتضيه رأيه الثاقب وحكمه النافذ. والحواس الخمس جواسيسه. وله في الباطن جواسيس سواها من خيال ووهم وفكر وذكر وحفظ؛ ووراءهم خدم وجنود مسخرة له في عالمه الخاص يستسخرهم ويتصرف فيهم استسخار الملك عبيده بل أشد. وشرح ذلك يطول. وقد ذكرناه في كتاب "عجائب القلب" من كتب الإحياء. السادس أن العين لا تبصر ما لا نهاية له، فإنها تبصر صفات الأجسام والأجسام لا تتصور إلا متناهية. والعقل يدرك المعلومات؛ والمعلومات لا يتصور أن تكون متناهية. نعم إذا لاحظ العلوم المفصلة فلا يكون الحاضر الحاصل عنده إلا متناهياً. لكن في قوته إدراك ما لا نهاية له. وشرح ذلك يطول. (و 4ـ ب) فإن أردت له مثالاً فخذه من الجليات، فإنه يدرك الأعداد ولا نهاية لها؛ بل يدرك تضعيفات الاثنين والثلاثة وسائر الأعداد ولا يتصور لها نهاية. ويدرك أنواعاً من النسب بين الأعداد لا يتصور التناهى عليها: بل يدرك علمه بالشىء وعلمه بعلمه بالشىء،

وعلمه بعلمه بعلمه. فقوته في هذا الواحد لا تقف عند نهاية. السابع أن العين تبصر الكبير صغيراً. فترى الشمس في مقدار مَجنّ والكواكب في صور دنانير منثورة على بساط أزرق. والعقل يدرك أن الكواكب والشمس أكبر من الأرض أضعافاً مضاعفة؛ والعين ترى الكواكب ساكنة، بل ترى الظل بين يديه ساكناً. وترى الصبى ساكناً في مقداره، والعقل يدرك أن الصبى متحرك في النشوء والتزايد على الدوام. والظل متحرك دائماً، والكواكب تتحرك في كل لحظة أميالاً كثيرة كما قال صلى الله عليه لجبريل عليه السلام: "أزالت الشمس"؟ فقال لا: نعم! قال كيف؟ قال "منذ قلت، لا إلى أن قلت، نعم،: قد تحرك مسيرة خمسمائة سنة". وأنواع غلط البصر كثيرة، والعقل منزه عنها. فإن قلت: نرى العقلاء يغلطون في نظرهم فاعلم أن فيهم خيالات وأوهاماً واعتقادات يظنون أحكامها أحكام العقل؛ فالغلط منسوب إليها. وقد شرحنا مجامعها في كتاب "معيار العلم" وكتاب "محك النظر". فأما العقل إذا تجرد عن غشاوة الوهم والخيال لم يتصور أن يغلط؛ بل رأى الأشياء على ما هى عليه، وفي تجريده عسر عظيم. وإنما يكمل تجرده عن هذه النوازع بعد الموت، وعند ذلك ينكشف الغطاء وتنجلى الأسرار

ويصادف كل أحد ما قدم من خير أو شرُ محضّراً؛ ويشاهد كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وعنده يقال (و 5ـ ا) {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} . وإنما الغطاء غطاء الخيال والوهم وغيرهما؛ وعندما يقول المغرور بأوهامه واعتقاداته الفاسدة وخيالاته الباطلة {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً} الآية. فقد عرفت بهذا أن العين أولى باسم النور من النور المعروف، ثم عرفت أن العقل أولى باسم النور من العين. بل بينهما من التفاوت ما يصح معه أن يقال إنه أولى بل الحق أنه المستحق للاسم دونه. دقيقة اعلم أن العقول وإن كانت مبصرة، فليست المبصرات كلها عندها على وتيرة واحدة، بل بعضها يكون عندها كأنه حاضر كالعلوم الضرورية مثل علمه بأن الشىء الواحد لا يكون قديماً حادثاً ولا يكون موجوداً معدوماً، والقول الواحد لا يكون صدقاً وكذباً، وأن الحكم إذا ثبت للشىء جوازه ثبت لمثله، وأن الأخص إذا كان موجوداً كان الأعم واجب الوجود: فإذا وجد السواد فقد وجد اللون، وإذا وجد الإنسان فقد وجد الحيوان. وأما عكسه فلا يلزم في العقل، إذ لا يلزم من وجود اللون وجود السواد ولا من وجود الحيوان وجود الإنسان إلى غير ذلك من

القضايا الضرورية في الواجبات والجائزات والمستحيلات. ومنها ما لا يقارن العقلَ في كل حال إذا عرض عليه بل يحتاج إلى أن يهز أعطافه ويستورى زناده وينبه عليه بالتنبيه كالنظريات. وإنما ينبهه كلام الحكمة. فعند إشراق نور الحكمة يصير العقل مبصراً بالفعل بعد أن كان مبصراً بالقوة. وأعظم الحكمة كلام الله تعالى. ومن جملة كلامه القرآن خاصة، فتكون منزلة آيات القرآن عند عين العقل منزلة نور الشمس عند العين الظاهرة إذ به يتم الإبصار. فبالحرِىّ أن يسمى القرآن نوراً كما يسمى نور الشمس نوراً (و 5ـ ب) فمثال القرآن نور الشمس ومثال العقل نور العين. وبهذا نفهم معنى قوله: {فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والنور الذي أَنزَلْنَا} ، وقوله: {قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} . تكملة هذه الدقيقة فقد فهمت من هذا أن العين عينان: ظاهرة وباطنة: فالظاهرة من عالم الحس والشهادة، والباطنة من عالم آخر وهو عالم الملكوت. ولكل عين من العينين شمس ونور عنده تصير كاملة الإبصار إحداهما ظاهرة والأخرى باطنة؛ والظاهرة من عالم الشهادة وهى الشمس المحسوسة. والباطنة من عالم الملكوت وهو القرآن وكتب الله تعالى المنزلة. ومهما انكشف لك هذا انكشافاً تاماً فقد انفتح لك أول باب من أبواب الملكوت. وفي هذا العالم عجائب يستحقر بالإضافة إليها عالم الشهادة. وإن من لم يسافر إلى هذا العالم، وقعد به القصور في حضيض

عالم الشهادة فهو بهيمة بعدُ، محروم عن خاصية الإنسان؛ بل أضل من البهيمة إذا لم تسعد البهيمة بأجنحة الطيران إلى هذا العالم. ولذلك قال الله تعالى: {أولائك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} . واعلم أن الشهادة بالإضافة إلى عالم الملكوت كالقشر بالإضافة إلى اللب، وكالصورة والقالب بالإضافة إلى الروح، وكالظلمة بالإضافة إلى النور، وكالسّفل بالإضافة إلى العلو. ولذلك يسمى عالم الملكوت العالم العلوى والعالم الروحانى والعالم النورانى. وفي مقابلته السفلى والجسمانى والظلمانى. ولا تظن أنّا نعنى بالعالم العلوى السماوات فإنها علو وفوق في حق عالم الشهادة والحس، ويشارك في إدراكه البهائم. وأما العبد فلا يفتح له باب الملكوت ولا يصير ملكوتياً إلا (و 6ـ ا) ويبدل في حقه الأرض غير الأرض والسماوات فيصير كل داخل تحت الحس والخيال أرضه ومن جملة السماوات، وكل ما ارتفع عن الحس فسماؤه. وهذا هو المعراج الأول لكل سالك ابتدأ سفره إلى قرب الحضرة الربوبية. فالإنسان مردود إلى أسفل السافلين، ومنه يترقي إلى العالم الأعلى. وأما الملائكة فإنهم جملة عالم الملكوت عاكفون في حضرة القدوس، ومنها يشرفون إلى العالم

الأسفل. ولذلك قال عليه السلام "إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم أفاض عليهم من نوره" وقال: "إن لله ملائكة هو أعلم بأعمال الناس منهم". والأنبياء إذا بلغ معراجهم المبلغ الأقصى وأشرفوا منه إلى السفل ونظروا من فوق إلى تحت اطلعوا أيضاً على قلوب العباد وأشرفوا على جملة من علوم الغيب: إذ من كان في عالم الملكوت كان عند الله تعالى - {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب} - أى من عندها تنزل أسباب الموجودات في عالم الشهادة؛ وعالم الشهادة أثر من آثار ذلك العالم، يجرى منه مجرى الظل بالإضافة إلى الشخص، ومجرى الثمرة بالإضافة إلى المثمر، والمسبب بالإضافة إلى السبب. ومفاتيح معرفة المسببات لا توجد إلا من الأسباب؛ ولذلك كان عالم الشهادة مثالاً لعالم الملكوت كما سيأتى في بيان المشكاة والمصباح والشجرة: لأن المسبب لا يخلو عن موازاة السبب ومحاكاته نوعاً من المحاكاة على قرب أو على بعد. وهذا لأن له غوْراً عميقاً. ومن اطلع على كنه حقيقته انكشف له حقائق أمثلة القرآن على يسر. دقيقة ترجع إلى حقيقة النور فنقول إن كان ما يبصر نفسه وغيره أولى باسم النور، فإن كان من جملة ما يبصر (به) غيره أيضاً مع أنه يبصر نفسه وغيره، فهو أولى، باسم النور من (و 6ـ ب) الذى لا يؤثر في غيره أصلاً، بل بالحرِىّ أن يسمى سراجاً منيراً لفيضان أنواره على غيره. وهذه الخاصية توجد

للروح القدسى النبوى إذ تفيض بواسطته أنواع المعارف على الخلائق. وبهذا نفهم معنى تسمية الله محمد عليه السلام سراجاً منيراً. والأنبياء كلهم سُرُج، وكذلك العلماء، ولكن التفاوت بينهم لا يحصى. دقيقة إذا كان اللائق بالذى يستفاد منه نور الإبصار أن يسمى سراجاً منيراً فالذى يقتبس منه السراج في نفسه جدير بأن يكنى عنه بالنار. وهذه السرج الأرضية إنما تقتبس في أصلها من أنوار علوية. فالروح القدسى النبوى يكاد زيته يضىء ولو لم تمسسه نار. ولكن إنما يصير نوراً على نور إذا مسته النار. وبالحرِىّ أن يكون مقتَبَس الأرواح الأرضية هى الروح الإلهية العلوية التى وصفها على وابن عباس رضى الله عنهما فقالا: "إن لله ملَكاً له سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف لسان يسبح الله بجميعها" وهو الذي قوبل بالملائكة كلهم فقيل يوم القيامة {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً} فهى إذا اعتبرت من حيث يقتبس منها السّرُج الأرضية لم يكن لها مثال إلا النار، وذلك لا يؤانس إلا من جانب الطور.

دقيقة الأنوار السماوية التى تقتبس منها الأنوار الأرضية إن كان لها ترتيب بحيث يقتبس بعضها من بعض، فالأقرب من المنبع الأول أولى باسم النور لأنه أعلى رتبة. ومثال ترتيبه في عالم الشهادة لا تدركه إلا بأن يفرض ضوءُ القمر داخلاً في كوة بيت واقعاً على مرآة منصوبة على حائط، ومنعكساً منها إلى حائط آخر في مقابلتها، ثم منعطفاً منه إلى الأرض بحيث تستنير الأرض. فأنت تعلم أن ما على الأرض من النور تابع لما على الحائط (و 7ـ ا) وما على الحائط تابع لما على المرآة، وما على المرآة تابع لما في القمر، وما في القمر تابع لما في الشمس: إذ منها يشرق النور على القمر. وهذه الأنوار الأربعة مرتبة بعضها أعلى وأكمل من بعض، ولكل واحد مقام معلوم ودرجة خاصة لا يتعداها. فاعلم أنه قد انكشف لأرباب البصائر أن الأنوار الملكوتية إنما وجدت على ترتيب كذلك، وأن المقرّب هو الأقرب إلى النور الأقصى. فلا يبعد أن تكون رتبة إسرافيل فوق رتبة جبريل، وأن فيهم الأقرب لقرب درجته من حضرة الربوبية التى هى منبع الأنوار كلها، وأن فيهم الأدنى، وبينهما درجات تستعصى على الإحصاء. وإنما المعلوم كثرتهم وترتيبهم في مقاماتهم وصفوفهم، وأنهم كما وصفوا به أنفسهم إذا قالوا: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون * وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون} .

دقيقة إذا عرفت أن الأنوار لها ترتيب فاعلم أنه لا يتسلسل إلى غير نهاية، بل يرتقى إلى منبع أول هو النور لذاته وبذاته، ليس يأتيه نور من غيره. ومنه تشرق الأنوار كلها على ترتيبها. فانظر الآن اسم النور أحق وأولى بالمستنير المستعير نوره من غيره، أو بالنّير في ذاته المنير لكل ما سواه؟ فما عندى أنه يخفى عليك الحق فيه. وبه يتحقق أن اسم النور أحق بالنور الأقصى الأعلى الذى لا نور فوقه، ومنه ينزل النور إلى غيره. حقيقة بل أقول ولا أبالى إن اسم النور على غير النور الأول مجاز محض: إذ كل ما سواه إذا اعتبر ذاته فهو في ذاته من حيث ذاته لا نور له: بل نورانيته مستعارة من غيره ولا قوام لنورانيته المستعارة بنفسها، بل بغيرها. ونسبة المستعار إلى المستعير مجاز محض. أفَتَرَى أن من استعار ثياباً وفرساً ومركباً وسرجاً، وركبه في الوقت الذى أركبه المُعيِر، وعلى الحد الذى رسمه، غنى بالحقيقة أو بالمجاز؟ وأن المعير هو الغنى أو المستعير؟ كلا، بل المستعير فقير في نفسه (و 7ـ ب) كما كان. وإنما الغنى هو المعير الذى منه الإعارة والإعطاء، وإليه الاسترداد والانتزاع. فإذن النور الحق هو الذى بيده الخلق والأمر، ومنه الإنارة أولاً والإدامة ثانياً. فلا شركة لأحد معه في حقيقة هذا الاسم ولا في استحقاقه إلا من حيث يسميه به ويتفضل عليه بتسميته تفضل المالك على عبده إذا أعطاه مالاً ثم سماه مالكاً. وإذا انكشف للعبد الحقيقة علم أنه وماله لمالكه على التفرد لا شريك له فيه أصلاً وألبتة.

حقيقة مهما عرفت أن النور يرجع إلى الظهور والإظهار ومراتبه، فاعلم أنه لا ظلمة أشد من كتم العدم: لأن المظلم سمى مظلماً لأنه ليس للإبصار إليه وصول، إذ ليس يصير موجوداً للبصير مع أنه موجود في نفسه. فالذى ليس موجوداً لا لغيره ولا لنفسه كيف لا يستحق أن يكون هو الغاية في الظلمة؟ وفي مقابلته الوجود فهو النور: فإن الشىء ما لم يظهر في ذاته لا يظهر لغيره. والوجود ينقسم إلى ما للشىء من ذاته وإلى ماله من غيره. وماله الوجود من غيره فوجوده مستعار لا قوام له بنفسه. بل اعتُبر ذاته من حيث ذاته فهو عدم محض. وإنما هو موجود من حيث نسبته إلى غيره، وذلك ليس بوجود حقيقى كما عرفت في مثال استعارة الثوب والغِنَى. فالموجود الحق هو الله تعالى، كما أن النور الحق هو الله تعالى. حقيقة الحقائق من هنا ترقي العارفون من حضيض المجاز إلى يفاع الحقيقة، واستكملوا معراجهم فرأوا بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إلا الله تعالى، وأن {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} لا أنه يصير هالكاً في وقت من الأوقات؛ بل هو هالك أزلاً وأبداً لا يتصور إلا كذلك؛ فإن كل شىء سواه إذا اعتُبِر ذاته من حيث ذاته فهو عدم محض؛ وإذا اعتبر من الوجه الذى

يسرى إليه الوجود من الأول الحق رؤى موجوداً لا في ذاته لكن من الوجه الذى يلى موجده (و 8ـ ا) ، فيكون الموجود وجه الله تعالى فقط. فلكل شىء وجهان: وجه إلى نفسه ووجه إلى ربه؛ فهو باعتبار وجه نفسه عدم وباعتبار وجه الله تعالى موجود. فإذن لا موجود إلا الله تعالى ووجهه. فإذن كل شىء هالك إلا وجهه أزلاً وأبداً. ولم يفتقر هؤلاء إلى يوم القيامة ليسمعوا نداء البارى تعالى {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} . بل هذا النداء لا يفارق سمعهم أبداً. ولم يفهموا من معنى قوله "الله أكبر" أنه أكبر من غيره، حاش لله، إذ ليس في الوجود معه غيره حتى يكون أكبر منه؛ بل ليس لغيره رتبة المعية، بل رتبة التبعية. بل ليس لغيره وجود إلا من الوجه الذى يليه. فالموجود وجهه فقط. ومحال أن يقال إنه أكبر من وجهه. بل معناها أنه أكبر من أن يقال له أكبر بمعنى الإضافة والمقايسة، وأكبر من أن يدرك غيره كنه كبريائه، نبّياً كان أو مَلَكاً. بل لا يعرف الله كنه معرفته إلا الله. بل كل معروف داخل في سلطة العارف واستيلائه دخولاً مّا؛ وذلك ينافي الجلال والكبرياء. وهذا له تحقيق ذكرناه في كتاب "المقصد الأسنى في معانى أسماء الله الحسنى".

إشارة العارفون - بعد العروج إلى سماء الحقيقة - اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق. لكن منهم من كان له هذه الحال عرفاناً علمياً، ومنهم من صار له ذلك حالاً ذوقياً. وانتفت عنهم الكثرة بالكلية واستغرقوا بالفردانية المحضة واستوفيت فيها عقولهم فصاروا كالمبهوتين فيه ولم يبق فيهم متسع لا لذكر غير الله ولا لذكر أنفسهم أيضاً. فلم يكن عندهم إلا الله، فسكروا سكراً دفع دونه سلطان عقولهم، فقال أحدهم "أنا الحق" وقال الآخر "سبحانى ما أعظم شانى! " وقال آخر "ما في الجبة إلا الله". وكلام العشاق في حال السكر يُطوَى ولا يحكى. فلما خف عنهم سكرهم وردوا إلى سلطان العقل الذى هو ميزان الله في أرضه، عرفوا أن ذلك لم يكن حقيقة الاتحاد بل شبه الاتحاد مثل قول العاشق في حال فرط عشقه "أنا من أهوى ومن أهوى أنا" (و 8ـ ب) ولا يبعد أن يفاجىء الإنسان مرآة فينظر فيها ولم ير المرآة قط، فيظن أن الصورة التى رآها هى صورة المرآة متحدة بها، ويرى الخمر في الزجاج فيظن أن الخمر لون الزجاج. وإذا صار ذلك عنده مألوفاً ورسخ فيه قدمه استغفر وقال: رق الزجاج وراقت الخمر ... فتشابها فتشاكل الأمر فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر وفرق بين أن يقول: الخمر قدح، وبين أن يقول: كأنه قدح. وهذه الحالة إذا غلبت سميت بالإضافة إلى صاحب الحالة "فناء"، بل "فناء

الفناء": لأنه فنى عن نفسه وفنى عن فنائه، فإنه ليس يشعر بنفسه في تلك الحال ولا بعدم شعوره بنفسه. ولو شعر بعدم شعوره بنفسه لكان قد شعر بنفسه. وتسمى هذه الحالة بالإضافة إلى المستغرق به بلسان المجاز اتحاداً أو بلسان الحقيقة توحيداً. ووراء هذه الحقائق أيضاً أسرار يطول الخوض فيها.

خاتمة لعلك تشتهى أن تعرف وجه إضافة نوره إلى السماوات والأرض؛ بل وجه كونه في ذاته نور السماوات والأرض، فلا ينبغى أن يخفى ذلك عليك بعد أن عرفت أنه النور ولا نور سواه وأنه كل الأنوار، وأنه النور الكلى، لأن النور عبارة عما ينكشف به الأشياء، وأعلى منه ما ينكشف به وله، وأعلى منه ما ينكشف به وله ومنه، وأن الحقيقى منه ما ينكشف به وله ومنه وليس فوقه نور منه اقتباسه واستمداده: بل ذلك له في ذاته من ذاته لذاته لا من غيره. ثم عرفت أن هذا لن يتصف به إلا النور الأول. ثم عرفت أن السماوات والأرض مشحونة نوراً من طبقتى النور: أعنى المنسوب إلى البصر والبصيرة: أى إلى الحس والعقل. أما البصرى فما نشاهده في السماوات من الكواكب والشمس والقمر، وما نشاهده في الأرض من الأشعة المنبسطة على (و 9ـ ا) كل ما على الأرض حتى ظهرت به الألوان المختلفة خصوصاً في الربيع، وعلى كل حال في الحيوانات والمعادن وأصناف الموجودات. ولولاها لم يكن للألوان ظهور، بل وجود. ثم سائر ما يظهر للحس من الأشكال والمقادير يدرَك تبعاً للألوان ولا يتصور إدراكها إلا بواسطتها. وأما الأنوار العقلية المعنوية فالعالم الأعلى مشحون بها، وهى جواهر الملائكة، والعالم الأسفل مشحون بها وهى الحياة الحيوانية ثم الإنسانية. وبالنور الإنسانى السفلى ظهر نظام عالم السفل كما بالنور الملكى ظهر نظام عالم العلو. وهو المعنىّ بقوله {أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا} وقال تعالى: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} وقال: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض} ، وقال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} .

فإذا "عرفت هذا عرفت أن العالم بأسره مشحون بالأنوار الظاهرة البصرية والباطنة العقلية، ثم عرفت أن السفلية فائضة بعضها من بعض فيضان النور من السراج وأن السراج هو الروح النبوى القدسى، وأن الأرواح النبوية القدسية مقتبسة من الأرواح العلوية اقتباس السراج من النور؛ وأن العلويات بعضها مقتبسة من البعض، وأن ترتيبها ترتيب مقامات. ثم ترقي جملتها إلى نور الأنوار ومعدنها ومنبعها الأول؛ وأن ذلك هو الله تعالى وحده لا شريك له، وأن سائر الأنوار مستعارة، وإنما الحقيقى نوره فقط؛ وأن الكل نوره، بل هو الكل، بل لا هوية لغيره إلا بالمجاز. فإذن لا نور إلا نوره، وسائر الأنوار أنوار من الذى يليه لا من ذاته. فوجه كل ذى وجه إليه ومولّ شطره: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} . فإذن لا إله إلا هو: فإن الإله عبارة عما الوجه موليه نحوه بالعبادة والتأله: أعنى وجوه القلوب فإنها الأنوار. بل كما لا إله إلا هو، فلا هو إلا هو: لأن "هو" عبارة عما إليه إشارة كيفما كان، ولا إشارة إلا إليه. (و 9ـ ب) بل كل ما أشرت إليه فهو بالحقيقة إشارة إليه وإن كنت لا تعرفه أنت لغفلتك عن حقيقة الحقائق التى ذكرناها. ولا إشارة إلى نور الشمس بل إلى الشمس. فكل ما في الوجود فنسبته إليه في ظاهر المثال كنسبة النور إلى الشمس. فإذن "لا إله إلا الله" توحيد العوام، "ولا إله إلا هو" توحيد الخواص، لأن هذا أتم وأخص وأشمل وأحق وأدق وأدخل بصاحبه في الفردانية المحضة والوحدانية الصرفة. ومنتهى معراج الخلائق مملكة

الفردانية. وليس وراء ذلك مرقي: إذ الترقي لا يتصور إلا بكثرة: فإنه نوع إضافة يستدعى ما منه الارتقاء وما إليه الارتقاء. وإذا ارتفعت الكثرة حقت الوحدة وبطلت الإضافات وطاحت الإشارات ولم يبق علو وسفل ونازل ومرتفع: واستحال الترقي فاستحال العروج. فليس وراء الأعلى علو، ولا مع الوحدة كثرة، ولا مع انتفاء الكثرة عروج. فإن كان من تغير حال. فالنزول إلى سماء الدنيا: أعنى بالإشراف من علو إلى سفل لأن الأعلى له أسفل وليس له أعلى. فهذه هى غاية الغايات ومنتهى الطِّلبْات: يعلمه من يعلمه وينكره من يجهله. وهو من العلم الذى هو كهيئة المكنون الذى لا يعلمه إلا العلماء بالله. فإذا نطقوا به لم ينكره إلا أهل الغِرّة بالله. ولا يبعد أن قال العلماء إن النزول إلى السماء الدنيا هو نزول مَلَك: فقد توهم العلماء ما هو أبعد منه؛ إذ قال هذا المستغرق بالفردانية أيضاً له نزول إلى السماء الدنيا: فإن ذلك هو نزوله إلى استعمال الحواس أو تحريك الأعضاء. وإليه الإشارة بقوله "صرت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ولسانه الذى ينطق به". فإذا كان هو سمعه وبصره ولسانه، فهو السامع والباصر والناطق إذن لا غيره؛ وإليه الإشارة بقوله: "مرضت فلم تعدنى" الحديث. فحركات هذا الموحّد (و 10ـ ا) من السماء الدنيا، وإحساساته كالسمع والبصر من سماء فوقه، وعقله فوق ذلك. وهو يترقي من سماء العقل إلى منتهى معراج الخلائق. ومملكة الفردانية تمام سبع طبقات ثم

بعده يستوى على عرض الوحدانية، ومنه يدبّر الأمر لطبقات سماواته. فربما نظر الناظر إليه فأطلق القول بأن الله خلق آدم على صورة الرحمن، إلى أن يمعن النظر فيعلم أن ذلك له تأويل كقول القائل "أنا الحق" و"سبحانى" بل كقوله لموسى عليه السلام: "مرضت فلم تعدنى" و"كنت سمعه وبصره ولسانه". وأرى الآن قبض البيان فما أراك تطيق من هذا القدْر أكثر من هذا القدْر. (مساعدة) لعلك لا تسمو إلى هذا الكلام بهمتك، بل تقصر دون ذروته همتك، فخذ إليك كلاماً أقرب إلى فهمك وأوفق لضعفك. واعلم أن معنى كونه نور السماوات والأرض تعرفه بالنسبة إلى النور الظاهر البصرى. فإذا رأيت أنوار الربيع وخضرته مثلاً في ضياء النهار فلست تشك في أنك ترى الألوان. وربما ظننت أنك لست ترى مع الألوان غيرها، فإنك تقول لست أرى مع الخضرة غير الخضرة. ولقد أصر على هذا قوم فزعموا أن النور لا معنى له، وأنه ليس مع الألوان غير الألوان، فأنكروا وجود النور مع أنه أظهر الأشياء، وكيف لا وبه تظهر الأشياء، وهو الذى يبصَر في نفسه ويبصَر به غيره كما سبق. لكن عند غروب الشمس وغيبة السراج ووقوع الظل أدركوا تفرقة ضرورية بين محل الظل وبين موقع الضياء فاعترفوا بأن النور معنى وراء الألوان يدرك مع الألوان حتى كأنه لشدة انجلائه لا يدرك، ولشدة ظهوره يخفى. وقد كان الظهور سبب الخفاء. والشىء إذا جاوز حده انعكس على ضده.

فإذا عرفت هذا فاعلم أن أرباب البصائر ما رأوا شيئاً إلا رأوا الله معه. وربما زاد على هذا بعضهم فقال "ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله قبله" لأن منهم من يرى الأشياء به (و 10ـ ب) . ومنهم من يرى الأشياء فيراه بالأشياء. وإلى الأول الإشارة بقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ؛ وإلى الثانى الإشارة بقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق} فالأول صاحب مشاهدة، والثانى صاحب الاستدلال عليه: والأول درجة الصديقين، والثانى درجة العلماء الراسخين، وليس بعدهم إلا درجة الغافلين المحجوبين. وإذ قد عرفت هذا فاعلم أنه كما ظهر كل شىء للبصر بالنور الظاهر، فقد ظهر كل شىء للبصيرة الباطنة بالله. فهو مع كل شىء لا يفارقه ثم يظهر كل شىء، كما أن النور مع كل شىء وبه يظهر. ولكن بقى ها هنا تفاوت: وهو أن النور الظاهر يُتَصور أن يغيب بغروب الشمس ويحجب حتى يظهر الظل، وأما النور الإلهى الذى به يظهر كل شىء، لا يتصور غيبته بل يستحيل تغيره. فيبقى مع الأشياء دائماً، فانقطع طريق الاستدلال بالتفرقة. ولو تصوّر غيبته لانهدت السماوات والأرض. ولأدرك به من التفرقة ما يضطر معه إلى المعرفة بما به ظهرت الأشياء. ولكن ما تساوت الأشياء كلها على نمط واحد في الشهادة على وحدانية خالقها ارتفع

التفريق وخفى الطريق: إذ الطريق الظاهر معرفة الأشياء بالأضداد؛ فما لا ضد له ولا تغير له تتشابه الأحوال في الشهادة له. فلا يبعد أن يخفى ويكون خفاؤه لشدة جلائه والغفلة عنه لإشراق ضيائه. فسبحان من اختفى عن الخلق لشدة ظهوره، واحتجب عنهم لإشراق نوره. وربما لم يفهم أيضاً كنه هذا الكلام بعض القاصرين، فيفهم من قولنا "إن الله مع كل شىء كالنور مع الأشياء" أنه في كل مكان؛ تعالى وتقدس عن النسبة إلى المكان. بل لعل الأبعد عن إثارة هذا الخيال أن نقول إنه قبل كل شىء؛ وإنه فوق كل شىء؛ وإنه مُظهِر كل شىء. والمظهِر لا يفارق المظهَر في معرفة صاحب البصيرة. فهو الذى (و 11ـ ا) نعنى بقولنا إنه مع كل شىء. ثم لا يخفى عليك أيضاً أن المظهِر قبل المظهَر وفوقه مع أنه معه بوجه: لكنه معه بوجه وقبله بوجه. فلا تظنن أنه متناقض، واعتبر بالمحسوسات التى هى درجتك في العرفان؛ وانظر كيف تكون حركة اليد مع حركة ظل اليد وقبلها أيضاً. ومن لم يتسع صدره لمعرفة هذا فليهجر هذا النمط من العلم، فلكل علم رجال؛ وكلّ ميسّر لما خلق له.

الفصل الثاني: في بيان مثال المشكاة والمصباح والزجاجة والشجرة والزيت والنار

الفصل الثاني: في بيان مثال المشكاة والمصباح والزجاجة والشجرة والزيت والنار ومعرفة هذا يستدعى تقديم قطبين يتسع المجال فيهما إلى غير حد محدود. لكنى أشير إليهما بالرمز والاختصار: أحدهما في بيان سر التمثيل ومنهاجه ووجه ضبط أرواح المعانى بقوالب الأمثلة، ووجه كيفية المناسبة بينها، وكيفية الموازنة بين عالم الشهادة التى منها تتخذ طينة الأمثال، وعالم الملكوت الذى منه تستنزل أرواح المعانى. والثانى في طبقات أرواح الطينة البشرية ومراتب أنوارها؛ فإن هذا المثال مسوق لبيان ذلك؛ إذ قرأ ابن مسعود "مثل نوره في قلب المؤمن كمشكاة" وقرأ أُبّى بن كعب: "مثل نور قلب من آمن". الأول في سر التمثيل ومنهاجه. اعلم أن العالم عالمان: روحانى وجسمانى: وإن شئت قلت: حسى وعقلى؛ وإن شئت علوى وسفلى. والكل متقارب، وإنما تختلف باختلاف الاعتبارات: فإذا اعتبرتهما في أنفسهما قلت جسمانى وروحانى، وإن اعتبرتهما بالإضافة إلى العين المدركة لهما قلت حسى وعقلى. وإن اعتبرتهما بإضافة أحداهما إلى الآخر قلت علوى وسفلى. وربما سميت أحدهما عالم الملك والشهادة والآخر عالم الغيب والملكوت. ومن نظر إلى الحقائق من

الألفاظ ربما تحير عند كثرة الألفاظ تخيّل كثرة المعانى. والذى تنكشف له الحقائق (و 11ـ ب) يجعل المعانى أصلاً والألفاظ تابعاً. وأمر الضعيف بالعكس؛ إذ يطلب الحقائق من الألفاظ. وإلى الفريقين الإشارة بقوله تعالى: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ؟. وإذ قد عرفت معنى العالمَين فاعلم أن العالم الملكوتى عالم غيب؛ إذ هو غائب عن الأكثرين. والعالم الحسى عالم شهادة إذ يشهده الكافة. والعالم الحسى مَرْقاة إلى العقل. فلو لم يكن بينهما اتصال ومناسبة لانسدَّ طريق الترقي إليه. ولو تعذر ذلك لتعذر السفر إلى حضرة الربوبية والقرب من الله تعالى. فلم يقرب من الله تعالى أحد ما لم يطأ بحبوحة حظيرة القدس. والعالم المرتفع عن إدراك الحس والخيال هو الذى نعنيه بعالم القدس. فإذا اعتبرنا جملته بحيث لا يخرج منه شىء ولا يدخل فيه ما هو غريب منه سميناه حظيرة القدس. وربما سمينا الروح البشرى الذى هو مجرى لوائح القدس "الوادى المقدس". ثم هذه الحظيرة فيها حظائر بعضها أشد إمعاناً في معانى القدس. ولكن لفظ الحظيرة يحيط بجميع طبقاتها. فلا تظنن أن هذه الألفاظ طامات غير معقولة عند أرباب البصائر.

واشتغالى الآن بشرح كل لفظ مع ذكره يصدنى عن المقصد. فعليك التشمير لفهم هذه الألفاظ. فأرجع إلى الغرض وأقول: لما كان عالم الشهادة مرقاة إلى عالم الملكوت، وكان سلوك الصراط المستقيم عبارة عن هذا الترقي؛ وقد يعبر عنه بالدين وبمنازل الهدى - فلو لم يكن بينهما مناسبة واتصال لما تصور الترقي من أحدهما إلى الآخر - جعلت الرحمة الإلهية عالم الشهادة على موازنة عالم الملكوت: فما من شىء من هذا العالم إلا وهو مثال لشىء من ذلك العالم. وربما كان الشىء الواحد مثالاً لأشياء من عالم الملكوت. وربما كان للشىء الواحد من الملكوت (و 12ـ ا) أمثلة كثيرة من عالم الشهادة. وإنما يكون مثالاً إذا ماثله نوعاً من المماثلة، وطابقه نوعاً من المطابقة. وإحصاء تلك الأمثلة يستدعى استقصاء جميع موجودات العالِمين بأسرها، ولن تفى به القوة البشرية وما اتسع لفهمه القوة البشرية. فلا تفى بشرحه الأعمار القصيرة. فغايتى أن أعرّفك منها أنموذجاً لتستدل باليسير منها على الكثير، وينفتح لك باب الاستعبار بهذا النمط من الأسرار فأقول: إن كان في عالم الملكوت جواهر نورانية شريفة عالية يعبّر عنها بالملائكة، منها تفيض الأنوار على الأرواح البشرية، ولأجلها قد تسمى أرباباً، ويكون الله تعالى رب الأرباب لذلك، ويكون لها مراتب في نورانيتها متفاوتة، فبالحرِىّ أن يكون مثالها من عالم الشهادة الشمس والقمر والكواكب. والسالك للطريق أولاً ينتهى إلى ما درجته درجة الكواكب فيتضح له إشراق نوره وينكشف له أن العالم الأسفل بأسره تحت سلطانه وتحت إشراق نوره؛ ويتضح له من جماله وعلو درجته ما يبادر فيقول: "هذا ربى"

ثم إذا اتضح له ما فوقه مما رتبته رتبة القمر، رأى دخول الأول في مغرب الهُوِىّ بالإضافة إلى ما فوقه فقال: {لا أُحِبُّ الآفلين} وكذلك يترقي حتى ينتهى إلى ما مثاله الشمس فيراه أكبر وأعلى، فيراه قابلا للمثال بنوع مناسبة له معه. والمناسبة مع ذى النقص نقص وأفُول أيضاً. فمنه يقول: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض حَنِيفاً} . ومعنى "الذى" إشارة مبهمة لا مناسبة لها: إذ لو قال قائل ما مثال مفهوم "الذى" لم يتصور أن يجاب عنه. فالمنتزه عن كل مناسبة هو الأول الحق. ولذلك لما قال بعض الأعراب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما نسب الإله؟ " نزل في جوابه {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ * الله الصمد * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} إلى آخرها (و 12ـ ب) معناه أن التقديس والتنزه عن النسبة نسبته. ولذلك لما قال فرعون لموسى: "وما رب العالمين" كالطالب لماهيته، لم يجب إلا بتعريفه بأفعاله، إذ كانت الأفعال أظهر عند السائل، فقال: {رَبُّ السماوات والأرض} ، فقال فرعون لمن حوله {أَلاَ تَسْتَمِعُونَ} كالمنكر عليه في عدوله في جوابه عن طلب الماهية، فقال موسى: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين} ، فنسبة فرعون إلى الجنون إذ كان مطلبه المثال والماهية؛ وهو يجيب عن الأفعال، فقال: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} .

ولنرجع إلى الأنموذج فنقول. علم "التعبير" يعرفك منهاج ضرب المثال؛ لأن الرؤيا جزء من النبوة. أما ترى أن الشمس في الرؤيا تعبيرها السلطان، لما بينهما من المشاركة والمماثلة في معنى روحانى - وهو الاستعلاء على الكافة مع فيضان الآثار على الجميع. والقمر تعبيره الوزير لإفاضة الشمس نورها بواسطة القمر على العالم عند غيبتها كما يفيض السلطان أنواره بواسطة الوزير على من يغيب عن حضرة السلطان. وأن من يرى أنه في يده خاتم يختم به أفواه الرجال وفروج النساء فتعبيره أنه مؤذن يؤذن قبل الصبح في رمضان. وأن من يرى أنه يصب الزيت في الزيتون فتعبيره أن تحته جارية هى أمه وهو لا يعرف. واستقصاء أبواب التعبير يزيدك أنساً بهذا الجنس، فلا يمكننى الاشتغال بعدّها: بل أقول: كما أن في الموجودات العالية الروحانية ما مثاله الشمس والقمر والكواكب، فكذلك فيها ما له أمثلة أخرى إذا اعتبرت منه أوصاف أخر سوى النورانية. فإن كان في تلك الموجودات ما هو ثابت لا يتغير (و 13ـ 1) وعظيم لا يستصغر، ومنه ينفجر إلى أودية القلوب البشرية مياه المعارف ونفائش المكاشفات فمثاله "الطّور"؛ وإن كان ثمّ موجودات تتلقى تلك النفائس بعضهم أولى من بعض فمثالها الوادى. وإن كانت تلك النفائس بعد اتصالها بالقلوب البشرية تجرى من قلب إلى قلب، فهذه القلوب أيضاً أودية. ومفتتح الوادى قلوب الأنبياء ثم العلماء ثم مَنْ بعدهم. فإن كانت هذه الأودية دون الأول وعنها تغترف، فبالحرِىّ أن يكون الأول هو الوادى الأيمن لكثرة يمْنه وعلو درجته. وإن كان الوادى الأدون يتلقى

من آخر درجات الوادى الأيمن فمغترفه شاطئ الوادى الأيمن دون لجته ومبدئه. وإن كان روح النبى سراجاً منيراً، وكان ذلك الروح مقتبساً بواسطة وحى كما قال: {أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} فما منه الاقتباس مثاله النار، وإن كان المتلقنون من الأنبياء بعضهم على محض التقليد لما سمعه، وبعضهم على حظ من البصيرة، فمثال حظ المقلد الخبر، ومثال حظ المستبصر الجذوة والقبس والشهاب. فإن صاحب الذوق مشارك للنبى في بعض الأحوال. ومثال تلك المشاركة الاصطلاء. وإنما يصطلى بالنار من معه النار، لا من يسمع خبرها. وإن كان أول منزل الأنبياء الترقي إلى العالم المقدس عن كدورة الحس والخيال، فمثال ذلك المنزل الوادى المقدس. وإن كان لا يمكن وطء ذلك الوادى المقدس إلا باطّراح الكونين - أعنى الدنيا والآخرة - والتوجه إلى الواحد الحق، ولأن الدنيا والآخرة متقابلتان متحاذيتان (و 13ـ ب) وهما عارضان للجوهر النورانى البشرى يمكن اطراحهما مرة والتلبس بهما أخرى، فمثال اطّراحهما عند الإحرام للتوجه إلى كعبة القدس خلع النعلين. بل نترقي إلى حضرة الربوبية مرة أخرى ونقول: إن كان في تلك الحضرة شىء بواسطته تنتقش العلوم المفصّلة في الجواهر القابلة لها فمثاله "القلم". وإن كان في تلك الجواهر القابلة ما بعضها سابق إلى التلقى، ومنها تنتقل إلى غيرها، فمثالها "اللوح المحفوظ"

و"الرق المنشور". وإن كان فوق الناقش للعلوم شىء هو مسخر فمثاله "اليد". وإن كان لهذه الحضرة المشتملة على اليد واللوح والقلم والكتاب ترتيب منظوم فمثاله "الصورة". وإن كان يوجد للصورة الإنسية نوع ترتيب على هذه الشاكلة، فهى على صورة الرحمن. وفرق بين أن يقال "على صورة الرحمن" وبين أن يقال "على صورة الله" لأن الرحمة الإلهية هى التى صورت الحضرة الإلهية بهذه الصورة. ثم أنعم على آدم فأعطاه صورة مختصرة جامعة لجميع أصناف ما في العالم حتى كأنه كل ما في العالم أو هو نسخة من العالم مختصرة. وصورة آدم - أعنى هذه الصورة - مكتوبة بخط الله. فهو الخط الإلهى الذى ليس برقم حروف، إذ تنزه خطه عن أن يكون رقماً وحروفاً كما تنزه كلامه (عن) أن يكون صوتاً وحرفاً، وقلمه عن أن يكون خشباً وقصباً، ويده عن أن تكون لحماً وعظماً. ولولا هذه الرحمة لعجز الأدمى عن معرفة ربه: إذ لا يعرف ربه إلا من عرف نفسه. فلما كان هذا من آثار الرحمة صار على صورة الرحمن لا على صورة الله: فإن حضرة الإلهية غير حضرة الرحمة وغير حضرة الملك وغير حضرة الربوبية. ولذلك أمر بالعياذ (و 14ـ ا) بجميع هذه الحضرات فقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس * مَلِكِ الناس * إلاه الناس} ولولا هذا المعنى لكان ينبغي أن يقول "على صورته" واللفظ الوارد في (الحديث) الصحيح (على صورة الرحمن) . ولأن تمييز حضرة الملك عن الإلهية والربوبية يستدعى شرحاً طويلاً،

فلنتجاوزه، ويكفيك من الأنموذج هذا القدر، فإن هذا بحر لا ساحل له. فإن وجدت في نفسك نفوراً عن هذه الأمثال فآنسْ قلبك بقوله تعالى: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} الآية، وأنه كيف ورد في التفسير أن الماء هو المعرفة والقرآن، والأودية القلوب.

خاتمة واعتذار لا تظنن من هذا الأنموذج وطريق ضرب المثال رخصة منى في رفع الظواهر واعتقاداً في إبطالها حتى أقول مثلاً لم يكن مع موسى نعلان، ولم يسمع الخطاب بقوله {فاخلع نَعْلَيْكَ} . حاش لله! فإن إبطال الظواهر رأى الباطنية الذين نظروا بالعين العوراء إلى أحد العالمين ولم يعرفوا الموازنة بين العالمين، ولم يفهموا وجهه. كما أن إبطال الأسرار مذهب الحشوية. فالذى يجرد الظاهر حشوى، والذى يجرد الباطن باطنى. والذى يجمع بينهما كامل. ولذلك قال عليه السلام: "للقرآن ظاهر وباطن وحدٌّ ومطلع" وربما نقل هذا عن علىّ موقوفاً عليه. بل أقول فهم موسى من الأمر بخلع النعلين اطِّراح الكونين فامتثل الأمر ظاهراً بخلع نعليه، وباطناً باطراح العالمين. وهذا هو "الاعتبار" أى العبور من الشىء إلى غيره، ومن الظاهر إلى السر. وفرق بين من يسمع قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يدخل الملائكة بيتاً فيه كلب" فيقتنى الكلب من البيت ويقول ليس الظاهر مراداً، بل المراد تخلية بيت القلب عن كلب الغضب لأنه يمنع المعرفة التى هى من أنوار الملائكة: إذ الغضب غول العقل، (و 14ـ ب) وبين من يمتثل الأمر في الظاهر ثم يقول: الكلب ليس كلباً لصورته بل لمعناه - وهو السبعية والضراوة - وإذا كان حفظ البيت الذى هو مقر الشخص والبدن

واجباً عن صورة الكلب، فبأن يجب حفظ بيت القلب - وهو مقر الجوهر الحقيقى الخاص - عن شر الكلبية أولى. فأنا أجمع بين الظاهر والسر جميعاً، فهذا هو الكامل: وهو المعنىّ بقولهم "الكامل من لا يطفىء نور معرفته نور ورعه". ولذلك ترى الكامل لا تسمح نفسه بترك حد من حدود الشرع مع كمال البصيرة. وهذه مَغْلطة منها وقع بعض السالكين إلى الإباحة وطى بساط الأحكام ظاهراً، حتى أنه ربما ترك أحدهم الصلاة وزعم أنه دائماً في الصلاة بسره. وهذا سوى مغلطة الحمقى من الإباحية الذين مأخذهم ترَّهات كقول بعضهم "إن الله غنى عن عملنا"، وقول بعضهم إن الباطن مشحون بالخبائث ليس يمكن تزكيته، ولا يطمع في استئصال الغضب والشهوة؛ لظنه أنه مأمور باستئصالهما: وهذه حماقات. فأما ما ذكرناه فهو كبوة جواد وهفوة سالك حسده الشيطان فدلاَّه بحبْل الغرور. وأرجع إلى حديث النعلين فأقول: ظاهر خلع النعلين منبه على ترك الكونين. فالمثال في الظاهر حق وأداؤه إلى السر الباطن حقيقة. وأهل هذا التنبيه هم الذين بلغوا درجة الزجاجة كما سيأتى معنى الزجاجة؛ لأن الخيال الذى من طينته يتخذ المثال صلب كثيف يحجب الأسرار ويحول بينك وبين الأنوار؛ ولكن إذا صفا حتى صار كالزجاج الصافى غير حائل عن الأنوار، بل صار مع ذلك مؤدياً للأنوار، بل صار مع ذلك حافظاً للأنوار عن الانطفاء بعواصف الرياح. وستأتيك قصة الزجاجة. فاعلم (و 15ـ ا) أن العالم الكثيف الخيالى السفلى صار في حق الأنبياء زجاجة ومشكاة للأنوار ومصفاة للأسرار، ومرقاة إلى العالم الأعلى. وبهذا

يعرف أن المثال الظاهر حق ووراءه سر. وقس على هذا "الطّور" و"النار" وغيرهما. دقيقة إذا قال الرسول عليه السلام: "رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حَبْواً" فلا تظنن أنه لم يشاهده بالبصر كذلك، بل رآه في يقظته كما يراه النائم في نومه؛ وإن كان عبد الرحمن مثلاً نائماً في بيته بشخصه، فإن النوم إنما أثر في أمثال هذه المشاهدات لقهره سلطان الحواس عن النور الباطن الإلهى، فإن الحواس شاغلة له وجاذبة إياه إلى عالم الحس، وصارفة وجْهَه عن عالم الغيب والملكوت. وبعض الأنوار النبوية قد يستعلى ويستولى بحيث لا تستجره الحواس إلى عالمها ولا تشغله، فيشاهد في اليقظة ما يشاهد غيره في المنام. ولكنه إذا كان في غاية الكمال لم يقتصر إدراكه على محض الصورة المبصرة، بل عَبر منها إلى السر فانكشف له أن الإيمان جاذب إلى العالم الذى يعبر عنه بالجنة؛ والغنى والثروة جاذب إلى الحياة الحاضرة وهى العالم الأسفل. فإن كان الجاذب إلى أشغال الدنيا أقوى أو مقاوماً للجاذب الآخر صُدَّ عن المسير إلى الجنة. وإن كان جاذب الإيمان أقوى أورث عسراً وبطئاً في سيره؛ فيكون مثاله من عالم الشهادة "الحبْو". فكذلك تتجلى له أنوار الأسرار من وراء زجاجات الخيال. ولذلك لا يقتصر في حكمه على عبد الرحمن وإن كان إبصاره مقصوراً عليه، بل يحكم به على كل من قويت

بصيرته واستحكم إيمانه، وكثرته ثروته كثرة تزاحم الإيمان لكن لا تقاومه لرجحان قوة الإيمان. فهذا يعرِّفك كيفية إبصار الأنبياء الصور وكيفية مشاهدتهم المعانى من وراء الصور. والأغلب أن يكون المعنى سابقاً إلى المشاهدة الباطنة (و 15ـ ب) ثم يشرق منها على الروح الخيالى فينطبع الخيال بصورة موازنة للمعنى محاكية له. وهذا النمط من الوحى في اليقظة يفتقر إلى التأويل، كما أنه في النوم يفتقر إلى التعبير. والواقع منه في النوم نسبته إلى الخواص النبوية نسبة الواحد إلى ستة وأربعين. والواقع في اليقظة نسبته أعظم من ذلك. وأظن أن نسبته إليه نسبة الواحد إلى الثلاثة. فإن [الذى] انكشف لنا من الخواص النبوية ينحصر شعبها في ثلاثة أجناس، وهذا واحد من تلك الأجناس الثلاثة. القطب الثانى في بيان مراتب الأرواح البشرية النورانية. إذ بمعرفتها تعرف أمثلة القرآن. فالأول منها الروح الحساس، وهو الذى يتلقى ما تورده الحواس الخمس، وكأنه أصل الروح الحيوانى وأوله، إذ به يصير الحيوان حيواناً. وهو موجود للصبي الرضيع. الثانى الروح الخيالى، وهو الذى يستثبت ما أورده الحواس ويحفظه مخزوناً عنده ليعرضه على الروح العقلى الذى فوقه عند الحاجة إليه. وهذا لا يوجد للصبى الرضيع في بداية نشوئه: ولذلك يولع بالشىء ليأخذه، فإذا غاب عنه ينساه ولا تنازعه نفسه إليه إلى أن يكبر قليلاً فيصير بحيث إذا غُيِّب عنه بكى وطلب [ذلك] لبقاء صورته محفوظة في خياله. وهذا قد يوجد لبعض الحيوانات دون بعض، ولا يوجد للفراش المتهافت على النار لأنه يقصد النار

لشغفه بضياء النهار: فيظن أن السراج كوة مفتوحة إلى موضع الضياء فيلقى نفسه عليه فيتأذى به. ولكنه إذا جاوزه وحصل في الظلمة عاوده مرة بعد مرة. ولو كان له الروح الحافظ المستثبت لما أداه الحس إليه من الألم لما عاوده بعد أن تضرر مرة به. (و 16ـ ا) فالكلب إذا ضرب مرة بخشبة، فإذا رأى الخشبة بعد ذلك من بعد هرب. الثالث الروح العقلى الذى به تدرك المعانى الخارجة عن الحس والخيال، وهو الجوهر الإنسى الخاص، ولا يوجد لا للبهائم ولا للصبيان. ومدركاته المعارف الضرورية الكلية كما ذكرناه عند ترجيح نور العقل على نور العين. الرابع الروح الفكرى، وهو الذى يأخذ العلوم العقلية المحضة فيوقع بينها تأليفات وازدواجات ويستنتج منها معارف شريفة. ثم إذا استفاد نتيجتين مثلاً، ألف بينهما مرة أخرى واستفاد نتيجة أخرى. ولا يزال يتزايد كذلك إلى غير نهاية. الخامس الروح القدسى النبوى الذى يختص به الأنبياء وبعض الأولياء، وفيه تتجلى لوائح الغيب وأحكام الآخرة وجملة من معارف ملكوت السماوات والأرض، بل من المعارف الربانية التى يقصر دونها الروح العقلى والفكرى. وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان ولاكن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ} الآية. فلا يبعد أيها العاكف في عالم العقل أن يكون وراء العقل طور آخر يظهر فيه ما لا يظهر في العقل، كما لا يبعد كون العقل طوراً وراء التمييز

والإحساس تنكشف فيه غرائب وعجائب يقصر عنها الإحساس والتمييز. ولا تجعل أقصى الكمال وقفاً على نفسك. وإن أردت مثالاً مما نشاهده من جملة خواص بعض البشر فانظر إلى ذوق الشعر كيف يختص به قوم من الناس وهو نوع إحساس وإدراك، ويحرم عنه بعضهم حتى لا تتميز عندهم الألحان الموزونة من المنزحفة. وانظر كيف عظمت قوة الذوق في طائفة حتى استخرجوا بها الموسيقى والأغانى والأوتار وصنوف الدستانات (و 16ـ ب) التى منها المحزن ومنها المطرب ومنها المنّوم ومنها المضحك ومنها المجنن ومنها القاتل، ومنها الموجب للغشى. وإنما تقوى هذه الآثار فيمن له أصل الذوق. وأما العاطل عن خاصية الذوق فيشارك في سماع الصوت وتضعف فيه هذه الآثار، وهو يتعجب من صاحب الوجد والشغى. ولو اجتمع العقلاء كلهم من أرباب الذوق على تفهيمه معنى الذوق لم يقدروا عليه. فهذا مثال في أمر خسيس لكنه قريب إلى فهمك. فقسْ به الذوق الخاص النبوى واجتهد أن تصير من أهل الذوق بشىء من ذلك الروح: فإن للأولياء منه حظاً وافراً. فإن لم تقدر فاجتهد أن تصير بالأقيسة التى ذكرناها والتنبيهات التى رمزنا إليها من أهل العلم بها. فإن لم تقدر فلا أقل من أن تكون من أهل الإيمان بها: و {يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ} . والعلم فوق الإيمان، والذوق فوق العلم. فالذوق وجدان والعلم قياس. والإيمان قبول مجرد بالتقليد. وحسّن الظن بأهل الوجدان أو بأهل العرفان. فإذا عرفت هذه الأرواح الخمسة فاعلم أنها بجملتها أنوار لأنها تظهر أصناف الموجودات، والحسى والخيالى منها، وإن كان يشارك البهائم

في جنسها، لكن الذى للإنسان منه نمط آخر أشرف وأعلى؛ وخلق الإنسان لأجل غرض أجلّ وأسمى. أما الحيوانات فلم يخلق ذلك لها إلا ليكون آلتها في طلب غذائها في تسخيرها للآدمى. وإنما خلق للآدمى ليكون شبكة له يقتنص بها من العالم الأسفل مبادئ المعارف الدينية الشريفة. إذ الإنسان إذا أدرك بالحس شخصاً معيناً اقتبس عقله منه معنى عاماً مطلقاً كما ذكرنا في مثال حبْو عبد الرحمن بن عوف. وإذا عرفت هذه الأرواح الخمسة (و 17ـ ا) فلنرجع إلى عرض الأمثلة. بيان أمثلة هذه الآية اعلم أن القول في موازنة هذه الأرواح الخمسة للمشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت يمكن تطويله، لكنى أوجزه وأقتصر على التنبيه على طريقة فأقول: أما الروح الحساس فإذا نظرت إلى خاصيته وجدت أنواره خارجة من ثُقُب عدة كالعينين والأذنين والمنخرين وغيرها. وأوفق مثال له من عالم الشهادة المشكاة. وأما الروح الخيالى فنجد له خواص ثلاثاً: إحداها: أنه من طينة العالم السفلى الكثيف: لأن الشىء المتخيل ذو مقدار وشكل وجهات محصورة مخصوصة. وهو على نسبة من المتخيل من قرب أو بعد. ومن شأن الكثيف الموصوف بأوصاف الأجسام أن يحجب عن الأنوار العقلية المحضة التى تتنزه عن الوصف بالجهات والمقادير والقرب والبعد. الثانية: أن هذا الخيال الكثيف إذا صفىّ ودقق وهذّب وضبط صار موازياً للمعانى العقلية ومؤدياً لأنوارها، غير حائل عن إشراق نورها منها. الثالثة: أن الخيال في بداية الأمر محتاج إليه جداً ليضبط به المعارف العقلية فلا تضطرب ولا تتزلزل ولا تنتشر انتشاراً يخرج عن الضبط. فنعم

المعين المثالات الخيالية للمعارف العقلية. وهذه الخواص الثلاث لا نجدها في عالم الشهادة بالإضافة إلى الأنوار المبصرة إلا للزجاجة: فإنها في الأصل من جوهر كثيف لكن صُفىّ ورقق حتى لا يحجب نور المصباح بل يؤديه على وجهه، ثم يحفظه عن الانطفاء بالرياح العاصفة والحركات العنيفة. فهى أول مثال له. وأما الثالث وهو الروح العقلى الذى به إدراك المعارف الشريفة الإلهية فلا يخفى عليك وجه تمثيله بالمصباح. وقد عرفت هذا فيما سبق من بيان كون الأنبياء سُرُجاً منيرة (و 17ـ ب) . وأما الرابع وهو الروح الفكرى فمن خاصيته أنه يبتدئ من أصل واحد ثم تتشعب منه شعبتان، ثم من كل شعبة شعبتان وهكذا إلى أن تكثر الشعب بالتقسيمات العقلية، ثم يفضى بالآخرة إلى نتائج هى ثمراتها. ثم تلك الثمرات تعود فتصير بذوراً لأمثالها: إذ يمكن أيضاً تلقيح بعضها بالبعض حتى يتمادى إلى ثمرات ورائها كما ذكرناه في كتاب القسطاس المستقيم. فبالحرِىّ أن يكون مثاله من هذا العالم الشجرة. وإذ كانت ثمراته مادة لتضاعف أنوار المعارف وثباتها وبقائها فبالحرِىّ ألا تمثل بشجرة السفرجل والتفاح والرمان وغيرها، بل من جملة سائر الأشجار بالزيتونة خاصة: لأن لب ثمرها هو الزيت الذى هو مادة المصابيح، ويختص من سائر الأدهان بخاصية زيادة الإشراق مع قلة الدخان. وإذا كانت الماشية التى يكثر نسلها والشجرة التى تكثر ثمرتها تسمى

مباركة، فالتى لا يتناهى ثمرتها إلى حد محدود أوْلى أن تسمى شجرة مباركة. وإذا كانت شعب الأفكار العقلية المحضة خارجة عن قبول الإضافة إلى الجهات والقرب والبعد، فبالحرِىّ أن تكون لا شرقية ولا غربية. وأما الخامس: وهو الروح القدسى النبوى المنسوب إلى الأولياء إذا كان في غاية الصفاء والشرف وكانت الروح المفكرة منقسمة إلى ما يحتاج إلى تعليم وتنبيه ومدد من خارج حتى يستمر في أنواع المعارف، وبعضها يكون في شدة الصفاء كأنه يتنبه بنفسه من غير مدد من خارج، فبالحرِىّ أن يعبّر عن الصافى البالغ الاستعداد بأنه يكاد زيته يضيىء، ولو لم تمسسه نار: إذ من الأولياء من يكاد يشرق نوره حتى يكاد يستغنى عن مدد الأنبياء؛ وفي الأنبياء من يكاد يتسغنى عن مدد الملائكة. فهذا المثال موافق لهذا القسم (و 18ـ ا) . وإذا كانت هذه الأنوار مترتبة بعضها على بعض: فالحسى هو الأول، وهو كالتوطئة والتمهيد للخيالى، إذ لا يتصور الخيالى إلا موضوعاً بعده؛ والفكرى والعقلى يكونان بعدهما؛ فبالحرى أن تكون الزجاجة كالمحل للمصباح والمشكاة كالمحل للزجاجة: فيكون المصباح في زجاجة، والزجاجة في مشكاة. وإذا كانت هذه كلها أنواراً بعضها فوق بعض فبالحرِىّ أن تكون نوراً على نور.

خاتمة هذا المثال إنما يتضح لقلوب المؤمنين أو لقلوب الأنبياء والأولياء لا لقلوب الكفار: فإن النور يراد للهداية. فالمصروف عن طريق الهدى باطل وظلمة، بل أشد من الظلمة: لأن الظلمة لا تهدى إلى الباطل كما لا تهدى إلى الحق. وعقول الكفار انتكست، وكذلك سائر إدراكاتهم وتعاونت على الإضلال في حقهم. فمثالهم كرجل في {بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} . والبحر واللّجىِّ هو الدنيا بما فيها من الأخطار المهلكة والأشغال المردية والكدورات المعمية. والموج الأول موج الشهوات الداعية إلى الصفات البهيمية والاشغال بالذات الحسية وقضاء الأوطار الدنيوية، حتى [إنهم] يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام. وبالحرِىّ أن يكون هذا الموج مظلماً لأن حب الشىء يعمى ويُصم. والموج الثانى موج الصفات السَّبُعِية الباعثة على الغضب والعداوة والبغضاء والحقد والحسد والمباهاة والتفاخر والتكاثر. وبالحرى أن يكون مظلماً لأن الغضب غول العقل. وبالحرى أن يكون هو الموج الأعلى: لأن الغضب في الأكثر مستول على الشهوات حتى إذا هاج أذهل عن الشهوات وأغفل عن اللذات المشتهاة. وأما الشهوة فلا تقاوم الغضب الهائج أصلاً. وأما السحاب فهو الاعتقادات الخبيثة، والظنون الكاذبة، والخيالات

الفاسدة (18ـ ب) التى صارت حجباً بين الكافرين وبين الإيمان ومعرفة الحق والاستضاءة بنور شمس القرآن والعقل: فإن خاصية السحاب أن يحجب إشراق نور الشمس. وإذا كانت هذه كلها مظلمة فبالحرى أن تكون ظلمات بعضها فوق بعض. وإذا كانت هذه ظلمات تحجب عن معرفة الأشياء القريبة فضلاً عن البعيدة، ولذلك حجب الكفار عن معرفة عجائب أحوال النبى عليه السلام مع قرب متناوله وظهوره بأدنى تأمل، فبالحرى أن يعبر عنه بأنه لو أخرج يده لم يكد يراها. وإذا كان منبع الأنوار كلها من النور الأول الحق كما سبق بيانه، فبالحرى أن يعتقد كل موحد أن {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} . فيكفيك هذا القدر من أسرار هذه الآية فاقنع به.

الفصل الثالث: في معني قوله عليه السلام: "أن لله سبعين حجابا من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل من أدركه بصره"

الفصل الثالث: في معني قوله عليه السلام: "أن لله سبعين حجاباً من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل من أدركه بصره" [في بعض الروايات سبعمائة، وفي بعضها سبعين ألفا: فأقول: إن الله تعالى متجل في ذاته لذاته، ويكون الحجاب بالإضافة إلى محجوب لا محالة؛ وإن المحجوبين من الخلق ثلاثة أقسام: منهم من حجب بمجرد الظلمة؛ ومنهم من حجب بالنور المحض؛ ومنهم من حجب بنور مقرون بظلمة. وأصناف هذه الأقسام كثيرة أتحقق كثرتها، ويمكنني أن أتكلف حصرها في سبعين، لكن لا أثق بما يلوح لي من تحديد وحصر، إذ لا أدري أنه المراد بالحديث أم لا. أما الحصر إلى سبعمائة وسبعين ألفا فذلك لا يستقل به إلا القوة النبوية، مع أن ظاهر ظني أن هذه الأعداد مذكورة للتكثير لا للتحديد؛ وقد تجري العادة بذكر عدد ولا يراد به الحصر بل التكثير. والله أعلم بتحقيق ذلك، فذلك خارج عن الوسع. وإنما الذي يمكنني الآن أن أعرفك هذه الأقسام وبعض أصناف كل قسم فأقول:]

القسم الأول

القسم الأول وهم المحجوبون بمحض الظلمة، وهم الملحدة الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر. وهم الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة لأنهم لا يؤمنون بالآخرة أصلاً (و 19ـ ا) وهؤلاء صنفان: صنف تشوَّف إلى طلب سبب لهذا العالم فأحاله إلى الطبع: والطبع عبارة عن صفة مركوزة في الأجسام حالّة فيها؛ وهى مظلمة إذ ليس لها معرفة وإدراك ولا خبر لها من نفسها ولا مما يصدر منها؛ وليس لها نور يدرك بالبصر الظاهر أيضاً. والصنف الثانى: هم الذين شغلوا بأنفسهم ولم يفرغوا لطلب السبب أيضاً، بل عاشوا عيش البهائم، فكان حجابهم نفوسهم الكدرة، وشهواتهم المظلمة، ولا ظلمة أشد من الهوى والنفس: ولذلك قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلاهه هَوَاهُ} وقال [رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] "الهوى أبغض إله عبد في الأرض". وهؤلاء انقسموا فرقاً: فرقة زعمت أن غاية الطلب في الدنيا هى قضاء الأوطار ونيل الشهوات وإدراك اللذات البهيمية من منكح ومطعم وملبس. فهؤلاء عبيد اللذة، يعبدونها ويطلبونها ويعتقدون أن نيلها غاية السعادات: رضوا لأنفسهم أن يكونوا بمنزلة البهائم بل أخس منها. وأى ظلمة أشد من ذلك؟ فقد حجب هؤلاء بمحض الظلمة. وفرقة رأت أن غاية السعادات هى الغلبة والاستيلاء والقتل والسبى والأسْر، وهذا مذهب الأعراب والأكراد وكثير من الحمقى، وهم محجوبون

بظلمة الصفات السَّبُعية لغلبتها عليهم وكون إدراكها مقصودَها أعظم اللذات. وهؤلاء قنعوا بأن يكونوا بمنزلة السباع بل أخس. وفرقة ثالثة رأت أن غاية السعادات كثرة المال واتساع اليسار لأن المال هو آلة قضاء الشهوات كلها، وبه يحصل للإنسان الاقتدار على قضاء الأوطار. فهؤلاء همتهم جمع المال واستكثار الضياع والعقار والخيل المسوّمة والأنعام والحرث وكنز الدنانير تحت الأرض. فترى الواحد يجتهد طول عمره يركب الأخطار في البوادى والأسفار والبحار ويجمع الأموال ويشح بها على نفسه فضلاً عن غيره: وهم المرادون بقوله عليه السلام: "تَعِس عبد الدراهم، تعس عبد الدنانير". وأى ظلمة أعظم مما يُلبّس على الإنسان؟. إن الذهب والفضة حجران (و 19ـ ب) لا يرادان لأعيانهما. وهى إذا لم يقض بهما الأوطار ولم تنفق فهى والحصباء بمثابة، والحصباء بمثابتها. وفرقة رابعة ترقت عن جهالة هؤلاء وتعاقلت، وزعمت أن أعظم السعادات في اتساع الجاه والصيت وانتشار الذكر وكثرة الأتباع ونفوذ الأمر المطاع. فتراها لا همّ لها إلا المراءاة وعمارة مطارح أبصار الناظرين: حتى إن الواحد قد يجوع في بيته ويحتمل الضر ويصرف ماله إلى ثياب يتجمل بها عند خروجه كى لا ينظر إليه بعين الحقارة. وأصناف هؤلاء لا يحصون، وكلهم محجوبون عن الله تعالى بمحض الظلمة وهى نفوسهم المظلمة.

القسم الثاني

ولا معنى لذكر آحاد الفِرَق بعد وقوع التنبيه على الأجناس. ويدخل في جملة هؤلاء جماعة يقولون بلسانهم "لا إله إلا الله"، لكن ربما حملهم على ذلك خوف أو استظهار بالمسلمين وتجمل بهم أو استمداد من مالهم؛ أو لأجل التعصب لنصرة مذهب الآباء. فهؤلاء إذا لم تحملهم هذه الكلمة على العمل الصالح فلا تخرجهم الكلمة من الظلمات إلى النور، بل "أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات". أما من أثرت فيه الكلمة بحيث ساءته سيئته وسرته حسنته فهو خارج عن محض الظلمة وإن كان كثير المعصية. القسم الثاني طائفة حجبوا بنور مقرون بظلمة وهم ثلاثة أصناف: صنف منشأ ظلمتهم من الحس، وصنف منشأ ظلمتهم من الخيال، وصنف منشأ ظلمتهم من مقايسات عقلية فاسدة. الصنف الأول المحجوبون بالظلمة الحسية، وهم طوائف لا يخلو واحد منهم عن مجاوزة الالتفات إلى نفسه وعن التأله والتشوف إلى معرفة ربه. وأول درجاتهم عبدة الأوثان وآخرهم الثنوية، وبينهما درجات. فالطائفة الأولى عبدة الأوثان: علموا على الجملة أن لهم رباً يلزمهم إيثاره على نفوسهم المظلمة، واعتقدوا أن ربهم أعز من كل شىء (و 20 ـ ا) ولكن حجبتهم ظلمة الحس على أن يجاوزوا العالم المحسوس فاتخذوا من أنفس الجواهر كالذهب والفضة والياقوت أشخاصاً مصورة بأحسن الصور واتخذوها آلهة. فهؤلاء محجوبون بنور العزة والجمال. والعزة والجمال من صفات الله وأنواره، ولكنهم ألصقوها بالأجسام

المحسوسة وصدهم عن ذلك ظلمة الحس، فإن الحس ظلمة بالإضافة إلى العالم الروحانى العقلى كما سبق. الطائفة الثانية جماعة من أقاصى الترك ليس لهم ملة ولا شريعة يعتقدون أن لهم رباً وأنه أجملُ الأشياء، فإذا رأوا إنساناً في غاية الجمال أو شجراً أو فَرَساً أو غير ذلك سجدوا له وقالوا إنه ربنا. فهؤلاء محجوبون بنور الجمال مع ظلمة الحس، وهم أدخل في ملاحظة النور من عبدة الأوثان لأنهم يعبدون الجمال المطلق دون الشخص الخاص فلا يخصصونه بشىء؛ ثم يعبدون الجمال المطبوع لا المصنوع من جهتهم وبأيديهم. وطائفة ثالثة قالوا ينبغى أن يكون ربنا نورانياً في ذاته بهيّاً في صورته، ذا سلطان في نفسه، مهيباً في حضرته، لا يطاق القرب منه، ولكن ينبغى أن يكون محسوساً؛ إذ لا معنى لغير المحسوس عندهم. ثم وجدوا النار بهذه الصفة فعبدوها واتخذوها رباً. فهؤلاء محجوبون بنور السلطنة والبهاء: وكل ذلك من أنوار الله تعالى. وطائفة رابعة زعموا أن النار نستولى عليها نحن بالإشعال والإطفاء، فهى تحت تصرفنا فلا تصلح للإلهية، بل ما يكون بهذه الصفات ولم يكن تحت تصرفنا ثم نكون نحن تحت تصرفه ويكون مع ذلك موصوفاً بالعلو والارتفاع. ثم كان المشهور فيما بينهم علم النجوم وإضافة التأثيرات إليها. فمنهم من عبد الشّعرَى، ومنهم من عبد المُشْتَرى إلى غير ذلك من الكواكب بحسب ما اعتقدوه في النجوم من كثرة التأثيرات. فهؤلاء محجوبون بنور العلو والإشراق والاستيلاء، وهى من أنوار الله تعالى. وطائفة خامسة ساعدت هؤلاء في المأخذ ولكن قالت لا ينبغى أن يكون ربنا موسوماً بالصغر والكِبَر بالإضافة إلى الجواهر النورانية، بل ينبغى أن يكون أكبرها، فعبدوا الشمس وقالوا هى أكبر. فهؤلاء محجوبون بنور الكبرياء مع بقية الأنوار مقروناً بظلمة الحس.

وطائفة سادسة ترقّوا عن هؤلاء فقالوا: النور كله لا ينفرد به الشمس بل لغيرها أنوار، ولا ينبغى للرب شريك في نورانيته فعبدوا النور المطلق الجامع لجميع أنوار العالم وزعموا أنه رب العالم والخيرات كلها منسوبة إليه. ثم رأوا في العالم شروراً فلم يستحسنوا إضافتها إلى ربهم تنزيهاً له عن الشر، فجعلوا بينه وبين الظلمة منازعة، وأحالوا العالم إلى النور والظلمة، وربما سموهما "يزدان" و"أهرمن"، وهم الثنوية. فيكفيك هذا القدر تنبيهاً على هذا الصنف، فهم أكثر من ذلك. الصنف الثانى المحجوبون ببعض الأنوار مقروناً بظلمة الخيال، وهم الذين جاوزوا الحس، وأثبتوا وراء المحسوسات أمراً، لكن لم يمكنهم مجاوزة الخيال، فعبدوا موجوداً قاعداً على العرش. وأخسهم رتبة المجسّمة ثم أصناف الكرّامية بأجمعهم. ولا يمكننى شرح مقالاتهم ومذاهبهم فلا فائدة في التكثير. لكن أرفعهم درجة مَنْ نَفَى الجسمية وجميع عوارضها إلا الجهة المخصوصة بجهة فوق: لأن الذى لا ينسب إلى الجهات ولا يوصف بأنه خارج العالم ولا داخله لم يكن عندهم موجوداً إذا لم يكن متخيلاً. ولم يدركوا أن أول درجات المعقولات تجاوزُ النسبة إلى الجهات. الصنف الثالث المحجوبون بالأنوار الإلهية مقرونة بمقايسات عقلية فاسدة مظلمة (و 21ـ ا) فعبدوا إلها سميعاً بصيراً متكلماً عالماً قادراً مريداً حياً، منزهاً عن الجهات، لكن فهموا هذه الصفات على حسب

القسم الثالث

مناسبة صفاتهم. وربما صرّح بعضهم فقال: "كلامه صوت وحرف ككلامِنَا". وربما ترقى بعضهم فقال: "لا بل هو كحديث نفسنا ولا هو صوت ولا حرف". وكذلك إذا طولبوا بحقيقة السمع والبصر والحياة رجعوا إلى التشبيه من حيث المعنى وإن أنكروها باللفظ إذ لم يدركوا أصلاً معانى هذه الإطلاقات في حق الله تعالى. ولذلك قالوا في إرادته إنها حادثة مثل إرادتنا. وإنها طلب وقصد مثل قصدنا. وهذه مذاهب مشهورة فلا حاجة إلى تفصيلها. فهؤلاء محجوبون بجملة من الأنوار مع ظلمة المقايسات العقلية. فهؤلاء كلهم أصناف القسم الثانى الذين حجبوا بنور مقرون بظلمة. وبالله التوفيق. القسم الثالث ثم المحجوبون بمحض الأنوار وهم أصناف ولا يمكن إحصاؤهم: فأشير إلى ثلاثة أصناف منهم. الأول - طائفة عرفوا معانى الصفات تحقيقاً وأدركوا أن إطلاق اسم الكلام والإرادة والقدرة والعلم وغيرها على صفاته ليس مثل إطلاقه على البشر؛ فتحاشوا عن تعريفه بهذه الصفات وعرفوه بالإضافة إلى المخلوقات كما عرّف موسى عليه السلام في جواب قول فرعون: {وَمَا رَبُّ العالمين} فقالوا إن الرب المقدّس المنزّه عن معانى هذه الصفات هو محرّك السماوات ومدبرها.

والصنف الثانى ترقوا عن هؤلاء من حيث ظهر لهم أن في السماوات كثرة، وأن محرك كلّ سماء خاصة موجود آخر يسمى مَلكا، وفيهم كثرة، وإنما نسبتهم إلى الأنوار الإلهية نسبة الكواكب. ثم لاح لهم أن هذه السماوات في ضمن فلك آخر يتحرك الجميع بحركته في اليوم والليلة مرة. فالرب هو المحرك للجرِم الأقصى المنطوى على الأفلاك كلها (و 21 ـ ب) إذ الكثرة منفية عنه. والصنف الثالث ترقوا عن هؤلاء وقالوا: إن تحريك الأجسام بطريقة المباشرة ينبغى أن يكون خدمة لرب العالمين وعبادة له وطاعة من عبد من عباده يسمى مَلَكا: نسبته إلى الأنوار الإلهية المحضة نسبة القمر في الأنوار المحسوسة. فزعموا أن الرب هو المطاع من جهة هذا المحرّك؛ ويكون الرب تعالى محركاً للكل بطريق الأمر لا بطريق المباشرة. ثم في تقسيم ذلك الأمر وماهيته غموض يقصر عنه أكثر الأفهام ولا يحتمله هذا الكتاب: فهؤلاء الأصناف كلهم محجوبون بالأنوار المحضة. وإنما الواصلون صنف رابع تجلى لهم أيضاً أن هذا "المطاع" موصوف بصفة تنافى الوحدانية المحضة والكمال البالغ لسر لا يحتمل هذا الكتاب كشفه: وأن نسبة هذا "المطاع" نسبة الشمس في الأنوار. فتوجهوا مِن الذى يحرك السماوات ومن الذى يحرك الجرم الأقصى، ومِن الذى أمر بتحريكها

إلى الذى فطر السماوات وفطر الجرم الأقصي وفطر الآمر بتحريكها، فوصلوا إلى موجود منزه عن كل ما أدركه بصرٌ من قبلهم، فأحرقت سبحات وجهه الأول الأعلى جميع ما أدركه بصر الناظرين وبصيرتهم فإذ وَجَدوه مقدساً منزهاً عن جميع ما وصفناه من قبل. ثم هؤلاء انقسموا: فمنهم من احترق منه جميع ما أدركه بصره وانمحق وتلاشى، لكن بقى هو ملاحظاً للجمال والقدس وملاحظاً ذاته في جماله الذى ناله بالوصول إلى الحضرة الإلهية. فانمحقت فيه المبصرات دون المبصَر. وجاوز هؤلاء طائفة هم خواص الخواص فأحرقتهم سبحات وجهه وغشيهم سلطان الجلال فانمحقوا وتلاشوا في ذاتهم ولم يبق لهم لحظ إلى أنفسهم لفنائهم عن أنفسهم. ولم يبق (و 22ـ ا) إلا الواحد الحق. وصار معنى قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} لهم ذوقاً وحالاً. وقد أشرنا إلى ذلك في الفصل الأول، وذكرنا أنهم كيف أطلقوا الاتحاد وكيف ظنوه. فهذه نهاية الواصلين. ومنهم من لم يتدرج في الترقي والعروج على التفصيل الذى ذكرناه ولم يُطلْ عليهم الطريق فسبقوا في أول وهلة إلى معرفة القدس وتنزيه الربوبية عن كل ما يجب تنزيهه عنه، فغلب عليهم أولاً ما غلب على الآخرين آخراً، وهجم عليهم التجلى دفعة فأحرقت سبحات وجهه جميع ما يمكن

أن يدركه بصر حسى وبصيرة عقلية. ويشبه أن يكون الأول طريق "الخليل" والثانى طريق الحبيب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والله أعلم بأسرار أقدامهما وأنوار مقامهما. فهذه إشارة إلى أصناف المحجوبين، ولا يبعد [أن يبلغ] عددهم إذا فصّلت المقالات وتُتُبّع حجب السالكين سبعين ألفاً. ولكن إذا فتشت لا تجد واحداً منها خارجاً عن الأقسام التى حصرناها: فإنهم إنما يحجبون بصفاتهم البشرية، أو بالحس أو بالخيال أو بمقايسة العقل، أو بالنور المحض كما سبق. فهذا ما حضرنى في جواب هذه الأسئلة، مع أن السؤال صادفنى والفكر متقسم، والخاطر متشعب، والهمُّ إلى غير هذا الفن منصرف. ومقترحى عليه أن يسأل الله تعالى العفو عما طغى به القلم، أو زلّت به القدم؛ فإن خوض غمرة الأسرار الإلهية خطير، واستشفاف الأنوار الإلهية من وراء الحجب البشرية عسير غير يسير.

§1/1