مشارق الأنوار الوهاجة ومطالع الأسرار البهاجة في شرح سنن الإمام ابن ماجه

محمد آدم الإتيوبي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مَشَارِقُ الْأَنْوَارِ الوهَّاجَة وَمَطَالع الْأَسْرَار البهَّاجَة فِي شَرح سُنَن الإِمَام ابْن مَاجَه

حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة الطَّبعة الأولى 1427 هـ - 2006 م (ح) دَار الْمُغنِي للنشر والتوزيع، 1426 هـ فهرسة مكتبة الْملك فَهد الوطنية أثْنَاء النشر الأثيوبي، مُحَمَّد عَليّ آدم مَشَارِق الْأَنْوَار الوهاجة ومطالع الْأَسْرَار البهاجة فِي شرح سنَن الإِمَام ابْن مَاجَه ... / مُحَمَّد عَليّ آدم الأثيوبي. - الرياض، 1426 هـ 4 مج. 555 ص، 17.5 × 25 سم ردمك: 8 - 54 - 762 - 9960 (مَجْمُوعَة) 6 - 55 - 762 - 9660 (جـ 1) 1 - الحَدِيث - سنَن أ. العنوان ديوي 235.6 - 7404/ 1426 رقم الْإِيدَاع: 7404/ 1426 ردمك: 8 - 54 - 762 - 9960 (مَجْمُوعَة) 6 - 55 - 762 - 9660 (جـ 1) دَار الْمُغنِي للنشر والتوزيع 238 شَارِع الْمَدِينَة المنورة - ظهرة البديعة ص. ب: 154041 الرياض: 11748 هَاتِف ناسوخ: 0096614257019

مقدمة الشارح

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الشارح الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، ولم يجعل له عِوجًا، وأسند بيانه إليه -صلى الله عليه وسلم-، فقال عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فكانت سنته بيانًا لمجمله، وقيدًا لمطلقه، فأعظم بها منهجًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي لم يجعل في دينه حرجًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله رحمة للعالمين، وواضعًا عنهم كلّ إصر كان أثقل ظهر الأولين مُحْرِجًا، صلّى الله عليه وعلى آله، وصحبه، وسلّم تسليمًا أبلجًا. [أما بعد]: فإن سنن الإمام الحافظ الحجة الثبت أبي عبد الله محمد بن يزيد المعروف بابن ماجه من أهمّ الكتب التي تتداولها أيدي طلبة العلم في جميع أقطار الأرض من قديم الزمان، غير أنه لم يقم أحد بشرحها شرحًا وافيًا بمقاصدها، ومستوعبًا لمباحثها، ومزيلًا لملتبساتها، وفاتحًا لمقفلاتها، ومبيّنًا ما تضمّنته من أنواع العلوم، وأسرار الفهوم، وموضّحًا ما وقع فيها من الأحاديث الواهية، وغيرها من المطالب التي هي من أهمّ المهمّات لطلّاب العلم، ولا سيّما طلّاب الحديث، وقد كتب كثيرون من فضلاء المتقدّمين، والمتأخرين عليها تعليقات لا بأس بها، لكنها قطرات، لا تُروي الغليل، ولا تشفي العليل، فأحببت أن أتشرّف بخدمتها حسب الطاقة بشرح متّصف بالأوصاف السابقة، تتجلّى فيه معاني الأحاديث باسقة، متحلّية بحلل جواهر أهل الحديث، ممن أسهموا في خدمة هذا الفنّ في القديم والحديث، وأخصّ منهم الإمام الحافظ الحجة، حذام المحدثين في المتأخرين، شيخ الإسلام أحمد بن محمد بن عليّ المعروف بابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى، فإن كتبه هي مادّة هذا الشرح، ولا سيّما كتابه العديم النظير في بابه "فتح الباري شرح صحيح البخاري"، فقد قلت، وأقول، وأكرر: لولا فتح الباري، ثم "فتح الباري" ما قضيت أوطاري، وكذا كتب الأئمة: ابن

المنذر، والبيهقيّ، والبغويّ، والخطابيّ، والقاضي عياض، والقرطبيّ، والنوويّ، والمنذريّ، والذهبيّ، وابن حزم، وابن تيميّة، وابن القيّم، والعينيّ، وابن قُدامة، والصنعانيّ، والشوكانيّ، وابن الأثير، والفيّوميّ، وابن منظور، والمجد الفيروزأباديّ، وغيرهم ممن يمرّ عليك حين أعزو الكلام إليه، رحمعهم الله تعالى أجمعين، وحشرنا في زمرتهم، وأدخلنا مدخلهم الكريم آمين. فسيكون الشرح -إن شاء الله تعالى- بحوله وقوته قرّة أعين محبي السنة، يزيل عنهم كلّ غبَش وسنة، فيا طلّاب علم الحديث أهلا بكم في رحاب كتاب نفيس، رائق الحديث لكل جليس، ولكل من استوحش ببعده عن فنّ الحديث أنيس. يَا ابْنَ الْكِرَام أَلاَ تَدْنُو فتُبْصِرَ مَا ... قَدْ حَدَّثُوكَ فَمَا رَاءٍ كمَنْ سَمِعَا وسمّيته: [مشارق الأنوار الوهّاجة، ومطالع الأسرار البهّاجة، في شرح سنن الإمام ابن ماجه]، والله تعالى الكريم، أسأل أن ينفعني به، وكلّ من تلّقاه بقلب سليم، إنه بعباده رؤوف رحيم. (اعلم): أنه ينبغي لي أن أُقدّم بين يدي الشرح ترجمة لصاحب الكتاب، وبيان مكانَة "سننه"، فأقول: هو الإمام الحافظ الكبير الحجة المفسر أبو عبد الله محمد بن يزيد ابن ماجه الرَّبَعي (¬1) بالولاء الْقَزْوِيني (¬2)، مصنف "السنن"، و"التاريخ"، و"التفسير"، وحافظ قزوين في عصره، ولد سنة تسع ومائتين، وسمع من علي بن محمد الطنافسي الحافظ، ¬

_ (¬1) "الرَبَعيّ" -بفتح الراء والباء الموحّدة، وبعدها عين مهملة-: نسبة إلى ربيعة، وهي اسم لعدّة قبائل، راجع "لبّ اللباب" مع هامشه 1/ 364. ولا يُعرف إلى أيها ينتسب المصنّف رحمه الله تعالى. (¬2) "الْقَزويني" -بفتح القاف، وسكون الزاي، وكسر الواو-: نسبة إلى قَزْوين، وهي من أشهر مُدُن عراق العجم، خرج منها جماعة من العلماء.

وأكثر عنه، ومن جُبَارة بن المُغَلِّس، وهو من قدماء شيوخه، ومن مصعب بن عبد الله الزبيري، وسويد بن سعيد، وعبد الله بن معاوية الجمَحيّ، ومحمد بن رُمْح، وإبراهيم ابن المنذر الحِزَامي، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وأبي بكر بن أبي شيبة، وهشام بن عمار، ويزيد بن عبد الله اليمامي، وأبي مصعب الزهري، وبشر بن معاذ العقدي، وحميد بن مسعدة، وأبي حذافة السهمي، وداود بن رُشيد، وأبي خيثمة، وعبد الله بن ذكوان المقرئ، وعبد الله بن عامر بن بَرّاد، وأبي سعيد الأشج، وعبد الرحمن بن إبراهيم دُحَيم، وعبد السلام بن عاصم الْهِسِنجاني، وعثمان بن أبي شيبة، وخلق كثير مذكورين في "سننه" وتآليفه. وروى عنه جماعة، منهم: إبراهيم بن دينار الحوْشيّ الهمَذَانيّ، وأحمد بن إبراهيم الْقَزْوينيّ، جدّ الحافظ أبي يعلى الخليليّ، وأبو الطيّب أحمد بن رَوح البغداديّ الشَّعْرانيّ، ومحمد بن عيسى الأبهري، وأبو عَمْرو أحمد بن محمد بن حكيم المديني الأصبهانيّ، وإسحاق بن محمد القزوينيّ، وجعفر بن إدريس، والحسين بن عليّ بن يزدانيار، وأبو الحسن علي بن إبراهيم بن سلمة القزوينيّ القطان، وسليمان بن يزيد القزوينيّ، وعليّ ابن سعيد بن عبد الله العسكريّ، وآخرون. قال القاضي أبو يعلى الخليليّ: كان أبوه يزيد يعرف بماجه، وولاؤه لربيعة. وعن ابن ماجه قال: عرضت هذه "السنن" على أبي زرعة الرازي، فنظر فيه، وقال: أظنّ إن وقع هذا في أيدي الناس، تعطلت هذه الجوامع، أو أكثرها، ثم قال: لعل لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثا، مما في إسناده ضعف، أو نحو ذا. قال الذهبيّ: قد كان ابن ماجه حافظا ناقدا صادقا، واسع العلم، وإنما غَضّ من رتبة "سننه" ما في الكتاب من المناكير، وقليل من الموضوعات، وقول أبي زرعة -إن صح- فإنما عَنَى بثلاثين حديثا الأحاديث المطّرحة الساقطة، وأما الأحاديث التي لا تقوم بها حجة، فكثيرة، لعلها نحو الألف (¬1). قال أبو يعلى الخليلي: هو ثقة كبير متفق ¬

_ (¬1) هذا فيه مبالغة لا تخفى على بصير.

عليه، محتجّ به له معرفة بالحديث وحفظ، ارتحل إلى العراقين، ومكة، والشام، ومصر، والرّيّ لكَتْبِ الحديث. وقال الحافظ محمد بن طاهر المقدسيّ: رأيت لابن ماجه بمدينة قزوين تاريخا على الرجال والأمصار من عهد الصحابة إلى عصره، وفي آخره بخط صاحبه جعفر بن إدريس: مات أبو عبد الله يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء، لثمان بقين من شهر رمضان، من سنة ثلاث وسبعين ومائتين، وسمعته يقول: وُلدت في سنة تسع ومائتين، ومات وله أربع وستون سنة، وصلى عليه أخوه أبو بكر، وتولى دفنه أخواه أبو بكر وأبو عبد الله، وابنه عبد الله. وقال الذهبيّ: مات في رمضان سنة ثلاث وسبعين ومائتين، وقيل: سنة خمس، والأول أصحّ، وعاش أربعا وستين سنة. وقع لنا رواية "سننه" بإسناد متصل عال، وفي غضون كتابه أحاديث يَعْلُو بِهَا صاحبه الحافظ أبو الحسن القطان. وقد حَدَّث ببغداد أخوه أبو محمد الحسن بن يزيد بن ماجه القزويني، في حدود سنة ثمانين ومائتين، إذ حَجّ عن إسماعيل بن توبة القزويني الحافظ، سمع منه الحافظ أبو طالب أحمد بن نصر. وقال الحافظ في "تهذيب التهذيب": كتابه في السنن جامع جيد كثير الأبواب والغرائب، وفيه أحاديث ضعيفة جدًّا، حتى بلغني أن السري كان يقول: مهما انفرد بخبر فيه هو ضعيف غالبا. وليس الأمر في ذلك على إطلاقه باستقرائي، وفي الجملة ففيه أحاديث منكرة، والله تعالى المستعان، ثم وجدت بخط الحافظ شمس الدين محمد ابن علي الحسيني ما لفظه: سمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول: كل ما انفرد به ابن ماجه فهو ضعيف -يعني بذلك ما انفرد به من الحديث عن الأئمة الخمسة-. انتهى ما وجدته بخطه. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الكلام ليس بصحيح على إطلاقه، فإن فيه أحاديث انفرد بها، وهي إما صحيحة وإما حسان، وكذا حمل الحافظ هذا الكلام في "التهذيب" على الرجال غير صحيح، لأنه انفرد برجال ثقات وسوف تراهم حين أنبه عليهم في هذا الشرح -إن شاء الله تعالى-.

قال: وذكر ابن طاهر في "المنثور" أن أبا زرعة وقف عليه، فقال: ليس فيه إلا نحو سبعة أحاديث. وذكر الرافعي في "تاريخ قزوين" في ترجمته أنه محمد بن يزيد، وأن "ماجه" لقب يزيد، وأنه بالتخفيف اسم فارسي، قال: وقد يقال: محمد بن يزيد بن ماجه، والأول أثبت. قال: رثاه محمد بن الأسود القزويني بأبيات، أولها [من الوافر]: لَقَدْ أَوْهَى دَعَائِمَ عَرْشِ عِلْمِ ... وَضَعْضَعَ رُكْنَهُ فَقْدُ ابْنِ مَاجَهْ ورثاه يحيى بن زكريا الطرائفي بقوله [من الوافر أيضًا]: أيَا قَبْرَ ابْنِ مَاجَهْ غِثْتَ قَطْرًا ... مَسَاءً بِالْغَدَاةِ وَبِالْعَشِيِّ قال: والمشهورون برواية "السنن": أبو الحسن القطان، وسليمان بن يزيد، وأبو جعفر محمد بن عيسى، وأبو بكر حامد الأبهري، وسعدون، وإبراهيم بن دينار. والله تعالى أعلم. [تنبيه]: "ماجه" بسكون الهاء وصلًا ووقفًا. قال ابن خلّكان: "وماجه" -بفتح الميم والجيم، وبينهما ألف، وفي الآخر هاء ساكنة. انتهى. وقال في "القاموس، وشرحه تاج العروس". "ماجه" بسكون الهاء، كما جزم به الشمس بن خلّكان لقب والد الإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد الرَّبَعيّ القزوينيّ، صاحب "التفسير"، و"التاريخ"، و"السنن"، لا لقب جدّه، كما زعمه بعضٌ، قال شيخنا: وما ذهب إليه المصنّف، فقد جزم به أبو الحسن بن القطّان، ووافقه على ذلك هبة الله بن زاذان، وغيره، قالوا: وعليه فيُكتب "ابن ماجه" بالألف لا غير. وهناك قول آخر ذكره جماعة، وصحّحوه، وهو أن "ماجه" اسم لأمّه. والله تعالى أعلم. انتهى (¬1). وقال في "الرسالة المستطرفة": "ماجه" لقب أبيه، لا جدّه، ولا أنه اسم أمّه، خلافًا لمن زَعَم ذلك، وهاؤه ساكنة وصلًا ووقفًا؛ لأنه اسم أعجميّ. انتهى (¬2). ¬

_ (¬1) "القاموس"، مع شرحه "تاج العروس من جواهر القاموس" 2/ 102. (¬2) راجع "الرسالة المستطرفة" (ص 17).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قدْ تبيَّنَ بما ذُكر أن الصواب أن "ماجه" يقرأ بالهاء الساكنة وصلًا ووقفًا، وأما ما اشتهر في الآونة الأخيرة من قراءته وكتابته بالتاء المربوطة، فغلطٌ؛ لأنه لم يثبت ممن يُعتمد قوله، ومن العجيب الغريب أن محقّق "سنن ابن ماجه" الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي قال فيما كتبه في آخر الكتاب بعد أن أورد الكتب التي كتبته بالهاء، وما قاله ابن خلّكان من ضبطه بالهاء الساكنة: ما نصه: وهل بعد ضبط ابن خلّكان مقالٌ لإنسان؟. فأصاب، ولكن الغريب العجيب أنه أورد بعد ذلك الكتب التي كتبته بالتاء المربوطة، ثم قال: وإنما أتعبت معي القرّاء لكيلا يُخطّىء بعضهم بعضًا، ممن قال: "ابن ماجه" -أي بالهاء- فهو على صواب، وأمامه ما يأتسي به، ومن قال: "ابن ماجة" -أي بالتاء- فهو على بيّنة أيضًا، وليس بضارّه شيئًا أن يخالفه سواه. انتهى. وهذا هو العجب العجاب، فأين البيّنة على هذا، فهل توارد المطابع في الغلط يكون بيّنة على تصويب الغلط، كلّا ثم كلّا، فهلا يأتينا ببيّنة واحدةٍ من كلام المحققين، كابن خلّكان، وصاحب القاموس، كما فعل في الهاء الساكنة، فهيهات، هيهات. والحاصل أن قراءة "ابن ماجه" وكتابته بالهاء الساكنة وصلًا ووقفًا هو الصواب الذي لا يجوز سواه، فإنه اسم عجميّ، يُنطق به كما سُمع، فكما لا يقال في "سيبويه، ونفطويه، وواهويه، ونحوها": سيبوية، ونفطوية، وراهوية بالتاء المربوطة، لا يقال هنا أيضًا: "ابن ماجة" بالتاء، فافهم، وتبصّر بالإنصاف، ولا تتهَوَّر بتقليد ذوي الاعتساف، والله تعالى يتولّى هداك، اللهم اهدنا فيمن هديت آمين. وإنما أطلت في هذا البحث؛ لأني رأيت من يدّعي صحّة "ابن ماجة" بالتاء، ويخاصم في ذلك مستندًا إلى ما كتبه الأستاذ المذكور، فأحببت أن يتبيّن الحقّ، ولا يُغترّ بمثله. والله تعالى أعلم. [تنبيه آخر]: عدد كتب "سنن ابن ماجه" اثنان وثلاثون كتابا. وقال أبو الحسن القطان: في "السنن" ألف وخمسمائة باب، وجملة ما فيه أربعة آلاف حديث. ذكره الذهبي في "سيره". (¬1). وذكر الأستاذ محمد فؤاد أن عدد كتبه (37) عدا المقدّمة، وعدد ¬

_ (¬1) راجع "سير أعلام النبلاء" 13/ 277 - 281. و"تهذيب الكمال" 27/ 40 - 42. =

أبوابه (1515) بابًا، وعدد أحاديثه (4341) انتهى. وعدد الأحاديث الصحيحة منه على ما حققه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى (3503) وعدد الأحاديث الضعيفة منه (948). لكن المجموع يخالف ما قاله محمد فؤاد، ويحتاج إلى تدقيق، وإمعان، وسأحقّقه عند متابعة العمل في الشرح، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [خاتمة]: عملي في الشرح كما يلي: 1 - كتابة نصّ الكتاب، أو الباب، ثم شرح ذلك، إن احتاج إليه. 2 - كتابة نصّ الحديث سندًا ومتنًا، مع معارضة النسخ الموجودة لديّ. 3 - ذكر تراجم رجال السند، مسلسلًا بالأرقام، وأذكر له عنوانًا بقولي: رجال هذا الإسناد: خمسة، أو ستة، أو نحو ذلك. 4 - إن كان المترجم لم يسبق له ذكر، ذكرت له ترجمة متوسّطة، إذا كان من المشاهير الأعلام (¬1)، وإن كان ممن تُكُلِّم فيه توسّعت في ترجمته بذكر ما قاله العلماء الجرح والتعديل، حتى يعرف حقَّ المعرفة بما له، وما عليه، وإن تقدَّمت ترجمته ذكرت ما يُعرف به من نسبه، وطبقته، ومرتبته في العدالة، والضعف، مع الإحالة إلى موضع ذكره. 5 - أعتمد أولًا عبارة "تقريب التهذيب" حتى تكون كالفَذْلَكَة (¬2)، ثم أذكر ¬

_ = و"تهذيب التهذيب" 3/ 737 - 738. (¬1) وإنما توسّعت في ترجمة أبي هريرة -رضي الله عنه-، وإن كان من المشاهير؛ لأجل مناسبتها لما ذكره المؤلّف في مقدّمة كتابه من أبواب العلم، وغيرها؛ لأن أبا هريرة -رضي الله عنه- هو من أوائل طلاب العلم النبويّ ومؤسسيه، فكانت معرفة ترجمته الوافية معينة لطلاب العلم كيف يسلكون في طلبه، وكيف يصلون إلى غرضهم منه، فهذا هو السرّ في إطالة ترجمته -رضي الله عنه-، فليُفهم، والله تعالى وليّ التوفيق. (¬2) قال في "القاموس": فَذْلَك حسابَهُ: أنهاه، وفَرَغ منه، مُخترعةٌ من قوله: إذا أجمل حسابه، فذلك كذا وكذا انتهى.

بعدها ما يكون كالتفصيل لها مما في "تهذيب التهذيب" غالبًا، و"لسان الميزان"، و"تعجيل المنفعة"، و"هدي الساري مقدّمة فتح الباري"، وكلها للحافظ أبي الفضل ابن حجر المتوفّى سنة (852 هـ) رحمه الله تعالى، وهو المراد عند إطلاقي لفظ "الحافظ" في هذا الشرح، وفي غيره من مؤلّفاتيّ. ومن "تهذيب الكمال" للحافظ أبي الحجّاج المزّيّ المتوفّى سنة (742) رحمه الله تعالى، و"الخلاصة" للحافظ الخزرجيّ المتوفّى سنة (923) رحمه الله تعالى، و"سير أعلام النبلاء"، و"تذكرة الحفّاظ"، و"ميزان الاعتدال"، وكلها للحافظ الذهبيّ المتوفّى سنة (748) رحمه الله تعالى. وقد أزيد في بعض المواضع من "التاريخ الكبير" للإمام البخاريّ المتوفّى سنة (256) رحمه الله تعالى، و"الجرح والتعديل" للإمام ابن أبي حاتم المتوفّى سنة (327) رحمه الله تعالى، و"الثقات" للإمام ابن حبّان البستيّ المتوفّى سنة (354) رحمه الله تعالى، وغيرها من كتب المحقّقين الأعلام رحمهم الله تعالى. 6 - ذكر لطائف الإسناد. 7 - ترقيم الكتب والأبواب، والأحاديث الموجودة في الكتاب، وبيان ما تفرّد به المصنّف عن بقيّة أصحاب الأصول الستّة. 8 - أكتب رقم الطبقات بين قوسين هكذا [1] ورقم الباب والحديث هكذا 1/ 1 فأقول مثلًا: محمد بن عبد الله بن نمير الهمدانيّ الكوفيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 4 فالرقم الذي قبل الخط المائل للباب، والذي بعده للحديث. 9 - ثم أدخل في شرح الحديث مبتدءًا بذكر الصحابيّ، أو من دونه حسب ارتباط الكلام، وأكتب عنوانًا "شرح الحديث" "عن أبي هريرة -رضي الله عنه- ... "، فأذكر ما يتطلّبه ذلك الحديث من شرح غريبه، وإعرابه وإيضاح ما يُستشكل من جمله، ببيان أقوال اللغويين، والنحويين، والفقهاء المعتبرين. 10 - ثم أذكر المسائل التي تتعلّق بذلك الحديث، فأكتب عنوانًا "مسائل تتعلّق

بهذا الحديث" "المسألة الأولى" في درجته، "المسألة الثانية" في تخريجه، "المسألة الثالثة" في فوائده، مقدّمًا فيها ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، ومنه يُعلم مطابقة الحديث للباب، "المسألة الرابعة" في اختلاف أهل العلم في حكم كذا، وهلُمّ جرّا بحسب كثرة متعلّقات الحديث وقلّتها، وهكذا كلّ حديث إلى أن ينتهي الباب، أو الكتاب. 11 - إذا كان الحديث ضعيفًا لا أتوسّع في البحث فيه إلا في شرح غريبه، وبيان درجته، وأسباب ضعفه، إلا إذا كان ضعفه بسند المصنّف خاصّة، مع صحته عند غيره، ولا سيما إذا كان في "الصحيح"، فإني أستوفي شرحه، وبيان ما يتعلّق به، إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (خاتمة) أختم بها المقدّمة -وأسأل الله تعالى حسنها-: (اعلم): أنه جرت عادة أهل العلم، ولا سيّما المحدّثون رحمهم الله تعالى أن يسوقوا أسانيدهم إلى أصحاب الكتب في أول شروعهم، قراءةً، أو تدريسًا، أو شرحًا، أو غير ذلك؛ لأنها كما قال بعض الفضلاء، أنسابُ الكتب، فأقول تأسيًا بهم، واقتفاء لآثارهم: إنه اتّصل سندي بالإمام ابن ماجه رحمه الله تعالى في "سننه" خاصّة، وجميع مؤلفاته عامّة بطرق مختلفة، أقتصر منها على ما يخصّ "سننه"، فأقول: أروي سنن الإمام الحافظ الحجة أبي عبد الله بن يزيد المعروف بابن ماجه القزوينيّ 202 - 273 هـ رحمه الله تعالى عن مشايخ كثيرين قراءةً وسماعًا لبعضها، وإجازةً لكلّها، أخصّ منهم: والدي العلامة الجليل، والدرّاكة النبيل الشيخ علي بن آدم بن موسى المتوفّى يوم الخميس (12/ 9/ 1412 هـ) وله نيَفٌ وثمانون سنة رحمه الله تعالى، والشيخ عبد الباسط بن محمد بن حسن النحويّ البورنيّ المناسيّ، والشيخ المقرىء المحدث حياة بن علي، والشيخ محمد زين بن محمد ياسين الداني إجازةً منهم رحمهم الله تعالى أربعتهم عن العلامة المقرىء المحدث الشيخ كبير أحمد بن عبد الرحمن الْعدّيّ الحسنيّ أبًا العَقِيليّ أُمًّا الدوّويّ بلدًا المتوفّى سنة (1390 هـ) عن العلامة عبد الجليل بن يحيى الدُّلّتّيّ، عن والده يحيى بن بشير الدُّلّتّيّ، عن والده بشير الدّلّتّيّ، عن المفتي داود بن أبي بكر الدّوّويّ، عن السيد سليمان بن يحيى

مقبول الأهدل، عن أحمد بن محمد مقبول الأهدل، عن أحمد بن محمد النخليّ المكيّ، عن محمد بن علاء الدين البابليّ، عن عيسى بن محمد الثعالبيّ، عن عليّ بن إبراهيم الحلبي، عن محمد بن أحمد الرمليّ، عن زكريا الأنصاريّ، عن الحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلانيّ، عن أبي العباس أحمد بن عمر البغداديّ اللؤلؤيّ، عن الحافظ أبي الحجاج يوسف ابن عبد الرحمن المزّيّ، عن عبد الرحمن بن أبي عمر بن قُدَامة الحنبليّ المقدسيّ، عن موفّق الدين عبد الله بن أحمد بن قُدامة الحنبليّ المقدسيّ، عن أبي زُرْعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسيّ، عن الفقيه أبي منصور محمد بن الحسين بن الهيثم المقوميّ القزوينيّ، عن أبي طلحة القاسم بن أبي المنذر الخطيب، عن أبي الحسن عليّ بن إبراهيم بن سلمة بن بحر القطّان، عن مؤلفه الحافظ الحجة الهمام أبي عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزوينيّ رحمه الله تعالى. و"ماجه" لقب يزيد والد محمد يقرأ بالهاء الساكنة وصلًا ووقفًا كما أسلفت تحقيقه، فتنبَّهْ. قال رحمه الله تعالى في ثلاثيّاته: حدّثنا جُبَارة، قال: حدّثنا كثير، قال: سمعت أنس بن مالك -رضي الله عنه- يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من أحبّ أن يكثر خير بيته، فليتوضّأ إذا حضر غداؤه، وإذا رُفع". انتهى. وهو سند ضعيف؛ لضعف جُبارة بن المُغَلِّس، وكثير بن سُليم. (ح) وأرويه أيضًا عن شيخي العلامة محمد زين ابن الشيخ محمد ياسين الدانيّ المتوفّى سنة (1395 هـ) عن شيخه محمد سراج بن محمد سعيد الأنيّ، عن الشيخ يوسف بن إسماعيل البيروتيّ، عن الشيخ إبراهيم السقّا الشافعيّ، عن العلامة ثُعيلب، عن الشهابين: أحمد الملّوي، وأحمد الجوهري، كلاهما عن عبد الله بن سالم البصريّ، صاحب الثبت المشهور عن الشمس البابليّ، عن البرهان إبراهيم بن حسن اللقاني، وعلي بن إبراهيم الحلبيّ، عن الشمس محمد بن أحمد الرمليّ، عن القاضي زكريا الأنصاريّ، عن الحافظ أبي الفضل أحمد بن علي ابن حجر العسقلانيّ بالسند السابق. (ح) وأرويه أيضًا عن الشيخ المحدث المتقن محمد بن عبد الله الصوماليّ رحمه الله

تعالى إجازة عن الشيخ سليمان بن عبد الرحمن الحمدان المدرس بالحرم المكيّ، عن أبي عبد الله محمد بن يوسف السورتيّ، عن محمد بن الطيب المكيّ، عن الشيخ حسين بن محسن الأنصاريّ اليمنيّ، عن الشيخ ناصر الحازميّ، عن العلامة محمد بن عليّ الشوكانيّ، عن عبد القادر الكوكبانيّ، عن محمد حياة السنديّ، عن سالم بن عبد الله البصريّ، عن أبيه الشيخ عبد الله بن سالم البصريّ بالسند المتقدّم. (ح) وأرويه أيضًا عن الشيخ محمد بن عبد الله الصومالي، عن شيخه عبد الحقّ بن عبد الواحد، عن أحمد بن عبد الله البغداديّ، عن عبد الرحمن بن عباس بن عبد الرحمن، عن الشوكانيّ، عن عبد القادر بن أحمد الكوكبانيّ، عن عبد الخالق بن أبي بكر المزجاجيّ، عن إبراهيم بن حسن الكرديّ، عن البابليّ، عن سالم بن محمد السنهوريّ، عن محمد بن أحمد الغيطيّ، عن الزين الأنصاريّ، عن الحافظ ابن حجر العسقلانيّ، عن أبي الحسن عليّ بن أبي المجد، عن أبي العباس الحجار، عن الأنجب بن أبي السعادات، عن أبي زرعة المقدسيّ بالسند المذكور. (ح) وأرويه أيضًا عن شيخي العلامة المحدث الشهير محمد بن رافع بن بصيري سماعًا لبعضه بقراءة غيري عليه، وإجازةً لباقيه، عن شيخه محمد بن محمد أمين خير الباكستاني ثم المكي، عن محمد يحيى الكاندهلوي، عن الشيخ رشيد أحمد الجنجوهي، عن عبد الغني المجدديّ، عن محمد إسحاق، عن جده عبد العزيز، عن أبيه ولي الله أحمد ابن عبد الرحيم الدهلوي، عن أبي طاهر محمد بن إبراهيم الكوراني المدنيّ، عن والده البرهان إبراهيم بن حسن الكردي المدني، عن الشيخ أحمد القشاشيّ، عن الشيخ أحمد بن عبد القدوس الشناوي، عن شمس الدين أحمد بن محمد الرملي، عن زين الدين زكريا الأنصاريّ، عن الحافظ ابن حجر العسقلانيّ بالسند المذكور. (ح) وأرويه أيضًا قراءة لأول حديث منه، وإجازة لباقيه عن المسند الكبير الشيخ محمد ياسين بن محمد عيسى رحمه الله تعالى، عن الشيخ محمد بن علي المالكيّ، عن العلامة أبي بكر بن محمد شطا المكيّ، عن أحمد بن زيني دحلان المكيّ، عن عثمان بن حسن الدمياطيّ،

عن عبد الله بن حجازي الشرقاويّ، عن الشمس محمد بن سالم الحفنيّ. (ح) وعن الشيخ الفادانيّ، عن الشيخ عمر بن حمدان المحرسيّ، عن شيخه فالح ابن محمد الظاهريّ، عن محمد بن علي الخطابي السنوسيّ، عن السيد محمد مرتضى الزبيديّ، عن الشمس محمد بن سالم الحفنيّ المذكور، عن عبد العزيز الزياديّ، عن محمد ابن العلاء البابليّ، عن سالم بن محمد السنهوريّ، عن النجم محمد بن أحمد الغيطيّ، عن القاضي زكريا الأنصاريّ، عن الحافظ ابن حجر العسقلانيّ بسنده الماضي. (ح) وأرويه أيضًا عن الشيخ إسماعيل عثمان زين اليمنيّ، عن شيخه محمد بن يحيى دوم الأهدل، عن محمد بن عبد الرحمن الأهدل، عن محمد بن أحمد بن عبد الباري الأهدل، عن عمه شرف الإسلام الحسن بن عبد الباري الأهدل، عن عبد الرحمن بن سليمان الأهدل، عن والده العلامة سليمان بن يحيى مقبول الأهدل، عن صفي الدين أحمد بن محمد شريف مقبول الأهدل عن عماد الدين السيد يحيى بن عمر مقبول الأهدل، عن أبي بكر بن علي البطاح الأهدل، عن يوسف بن محمد البطاح، عن الطاهر ابن حسين بن عبد الرحمن الأهدل، عن أبي الضياء وجيه الدين عبد الرحمن بن علي الديبع الشيباني، عن زين الدين أحمد بن عبد اللطيف الشرجي، عن سليمان بن إبراهيم العلويّ، عن برهان الدين إبراهيم بن عمر العلويّ، عن محدث الشام أبي الحجاج يوسف بن الزكيّ عبد الرحمن الشهير بالحافظ المزيّ، عن عبد الرحمن بن أبي عمر المقدسيّ الحنبليّ بالسند المذكور. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لي أسانيد متعدّدة إلى الإمام ابن ماجه غير هذه، ويكفي ما ذكرته اختصارًا. وبالسند الذي ذكرته آنفًا قال الإمام الحافظ الحجة، أبو عبد الله، محمد بن يزيد المعروف بابن ماجَهْ الْقَزْوينيّ المتوفّى سنة (273 هـ):

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بدأ المصنّف رحمه الله تعالى كتابه بالبسملة اتباعًا للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- حيث كان يُصَدِّر بها كتبه إلى الملوك، وغيرهم، كما ثبت ذلك في قصّة هِرَقْل، وقصّة صلح الحديبية، وغير ذلك، مما أخرجه الشيخان، وغيرهما. وموافقةً للكتاب العزيز، حيث إن الصحابة -رضي الله عنهم- افتتحوا كتابة الإمام الكبير بها، وتبعهم على ذلك جميع من كتب المصحف بعدهم في جميع الأمصار، مَن يقول بأن البسملة آية من أوّل الفاتحة، ومن لا يقول به. وقال إمام المفسّرين، أبو جعفر محمد بن جرير الطبريّ رحمه الله تعالى في تفسيره النافع ما نصّه: إن الله تعالى ذكرُهُ، وتقدّست أسماؤه، أدّب نبيّه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بتعليمه تقديم ذكر أسمائه الحسنى، أمامَ أفعاله، وتقدّم إليه في وصفه بها قبل جميع مهماته، وجعل ما أدّبه به من ذلك، وعلّمه إياه منه لجميع خلقه سنّةً، يستنّون بها، وسبيلًا يتّبعونه عليها في افتتاح أوائل منطقهم، وصدور رسائلهم، وكتبهم، وحاجاتهم انتهى كلام ابن جرير (¬1). [تنبيه]: إنما عَدَلتُ عن الاستدلال بما اشتهر الاحتجاج به -ولا سيّما عند المتأخرين من المصنّفين- على استحباب البسملة، وهو حديث: "كلّ أمر ذى بال، لا يُبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم، فهو أبتر"، وفي رواية: "لا يُبدأ بالحمد لله"، وفي رواية: "بالحمد، فهو أقطع"، وفي رواية: "أجذم"، وفي رواية: "لا يبدأ فيه بذكر الله". رواه الحافظ عبد القادر الرُّهَاويّ رحمه الله تعالى في "أربعينه" من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-كما ذكره النوويّ رحمه الله تعالى في شرحه- إلى ما ذكرته لضعفه جدًّا، بل ادّعى بعضهم وضعه، وإن لم يُوافق عليه، وقد ذكرت في "شرح مقدمة مسلم" خمس عشرة مسألة، مما يتعلق بالبسملة، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق. ¬

_ (¬1) تفسير ابن جرير الطبريّ جـ 1 ص 50.

(وَصَلَّى اللهُ) جملة خبريّة لفظًا، إنشائيّة معنًى، والأصحّ في معنى الصلاة ما ذكره الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى في "صحيحه" عن أبي العالية أنه قال: صلاه الله ثناؤه عليه عند ملائكته، وصلاة الملائكة الدعاء. انتهى. وقال ابن عباس معنى: يصلّون يُبرّكون. انتهى، قال في "الفتح": تحت قول أبي العالية: أخرجه ابن أبي حاتم. وقال تحت قول ابن عبّاس: وصله الطبريّ من طريق عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاس في قوله تعالى: {يُصَلُّونَ عَلىَ النَّبِيِّ} [الأحزاب:56] قال: يبَرِّكون على النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، أي يدعون له بالبركة، فيوافق قول أبي العالية، لكنه أخصّ منه انتهى (¬1). وقال الإمام الترمذيّ رحمه الله في "جامعه": ورُوِيَ عن سفيان الثوريّ، وغيرِ واحد من أهل العلم قالوا: صلاة الربّ الرحمةُ، وصلاة الملائكة الاستغفار انتهى كلام الترمذيّ (¬2). وقال الحافظ ابن كثير: والصلاة من الله تعالى ثناؤه على العبد عند الملائكة. حكاه البخاريّ عن أبي العالية. ورواه أبو جعفر الرازيّ، عن الربيع بن أنس، عنه. وقال غيره: الصلاة من الله عزّ وجلّ الرحمة. وقد يقال: لا منافاة بين القولين. والله أعلم. وأما الصلاة من الملائكة، فبمعنى الدعاء للناس، والاستغفار انتهى كلام ابن كثير (¬3). وقد رجّح العلّامة ابن القيّم رحمه الله تعالى تفسير من فسّر صلاة الله تعالى بالثناء عند الملائكة، وردّ على من فسّرها بالرحمة، وبالغ في ذلك في كتابه "جلاء الأفهام". ونقلته في "شرح النسائيّ" فراجعه فإنه مفيد جدًّا. وقال الحافظ في "الفتح" بعد ما ذكر الاختلاف: ما حاصله: وأولى الأقوال ما ¬

_ (¬1) فتح جـ 9 ص 49. (¬2) "جامع الترمذيّ بشرح تحفة الأحوذيّ" جـ 2 ص 61. (¬3) تفسير ابن كثير جـ 3 ص 503.

تقدّم عن أبي العالية أن معنى صلاة الله عَلى نبيّه -صلى الله عليه وسلم- ثناؤه عليه، وتعظيمه، وصلاة الملائكة، وغيرهم عليه، طلب ذلك من الله تعالى، والمراد طلب أصل الصلاة. قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الحافظ -من ترجيح تفسير أبي العالية- هو الراجح عندي، وقد أشبعت الكلام على هذا البحث في "شرح مقدّمة مسلم"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق. [تنبيه]: يحتمل أن تكون جملتا البسملة والصلاة إنشائيتين، فلا إشكال في عطف إحداهما على الأخرى، ويحتمل أن تكونا مختلفتين إنشاء، وإخبارًا، وفي عطف إحداهما على الأخرى خلاف بين النحاة، وقد نظم بعضهم ذلك، فقال: وَعَطْفُكَ الإِنْشَا عَلَى الإِخْبار ... وَعَكسُهُ فِيهِ خِلاَفٌ جَارِي أَهْلُ الْبَيانِ وَابْنُ مَالِكٍ أبوا ... مِثْلَ ابْنِ عُصْفُورٍ وَبِالجُلِّ اقتَدوْا وَجَوَّزَتْهُ فِرْقَةٌ قَلِيلَهْ ... وَسِيبوَيْه وَارْتَضى دَلِيلَهْ (وسَلَّمَ) اختُلف في معنى السلام، فقيل: السلام الذي هو اسم من أسماء الله تعالى عليك، وتأويله: لا خلوت من الخيرات، والبركات، وسَلِمتَ من المكاره والآفات، إذ كان اسم الله إنما يُذكر توقّعًا لاجتماع معاني الخير والبركة فيها، وانتفاء عوارض الخلل والفساد عنها. ويحتمل أن يكون بمعنى السلام: أي ليكن قضاء الله تعالى عليك السلام، وهو السلامة، كالمقام والمقامة: أي يسلّمك الله تعالى من النقائص، فمعنى اللهم سلّم على محمد: اللهم اكتب له السلامة من كلّ نقص في دعوته، وأمته، وذكره، فتزداد دعوته على مرّ الأيام علوًّا. أمته تكاثرًا، وذكره ارتفاعًا. أفاده البيهقي رحمه الله تعالى (¬1). (عَلَى سَيِّدِنَا) متعلِّقٌ بـ "صلى". قال الفيّوميّ رحمه الله تعالى: وسيّد القوم رئيسهم، وأكرمهم، والسيّد: المالك، وأصله سَوِيد، وزانُ كريم، فاستُثقلت الكسرة ¬

_ (¬1) راجع "القول البديع" للسخاويّ ص 75.

على الواو، فحُذفت، فاجتمعت الواو، وهي ساكنة، والياء، فقُلبت الواو ياءً، وأدغمت في الياء. وقيل: أصله فَيْعِلٌ -بسكون الياء، وكسر العين- وهو مذهب البصريين، والأصل سَيْوِد. وقيل: بفتح العين، وهو مذهب الكوفيين، لأنه لا يوجد فَيْعِلٌ بكسر العين في الصحيح، إلا صَيْقِل، اسم امرأة، والعليل محمول على الصحيح، فتعيّن الفتح؛ قياسًا على عَيْطَل، وكذلك ما أشبهه. انتهى (¬1). وقال النوويّ رحمه الله تعالى: اعلم أن السيّد يطلق على الذي يفوق قومه، ويرتفع قدره عليهم، ويُطلق على الزعيم والفاضل، ويُطلق على الحليم الذي لا يستفزّه غضبه، ويُطلق على الكريم، وعلى المالك، وعلى الزوج، وقد جاءت أحاديث كثيرة بإطلاق السيّد على أهل الفضل. فمن ذلك ما رواه البخاريّ في "صحيحه" عن أبي بكرة -رضي الله عنه- أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- صَعِد بالحسن بن عليّ رضي الله تعالى عنهما المنبر، فقال: "إن ابني هذا سيّد ... " الحديث. وفي "الصحيحين" عن أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال للأنصار لمّا أقبل سعد ابن معاذ -رضي الله عنه-: "قوموا إلى سيِّدكم". وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أن سعد ابن عبادة قال: يا رسول الله أرأيت الرجل يجد مع امرأته رجلًا أيقتله؟ ... " الحديث، وفيه: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "انظروا إلى ما يقول سيّدكم". وأما ما أخرجه أبو داود في "سننه" بإسناد صحيح عن بُريدة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقولوا للمنافق: سيّد، فإنه إن يك سيّدًا، فقد أسخطتم ربكم عز وجل"، فيُجمع بينه وبين هذه الأحاديث بأنه لا بأس بإطلاق: فلانٌ سيّدٌ، ويا سيّدي، وشبه ذلك إذا كان المُسَوَّد فاضلًا خَيِّرًا، إما بعلم، وإما بصلاح، وإما بغير ذلك، وإن كان فاسقًا، أو متّهما في دينه، أو نحو ذلك، كُرِه أن يقال له: سيّد. انتهى كلام النوويّ بتصرف (¬2). ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" في مادة "جود" و"سود". (¬2) "الأذكار" للنووي ص 321 - 323.

وقال الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى في "بدائع الفوائد": اختلف الناس في جواز إطلاق السيّد على البشر، فمنعه قوم، ونُقل عن مالك، واحتجّوا بقول النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لمّا قيل له: يا سيّدنا، قال: "السيّد الله تبارك وتعالى". وجوّزه قوم، واحتجّوا بقول النبيّ -صلى الله عليه وسلم- للأنصار: "قوموا إلى سيّدكم"، وهذا أصحّ من الحديث الأول، قال هؤلاء: السيّد أحد ما يُضاف إليه، فلا يقال: للتميميّ: سيّد كِنْدَةَ، ولا يقال: الملك سيّد البشر. قال: وعلى هذا فلا يجوز أن يُطلق على الله هذا الاسم. وهذا فيه نظر، فإن السيّد إذا أُطلق عليه تعالى، فهو في منزلة المالك، والمولى، والربّ، لا بمعنى الذي يُطلق على المخلوق. انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ أن لفظ "السيّد" يجوز إطلاقه على الله تعالى؛ لحديث أبي داود المذكور، وهو حديث صحيح، ويجوز إطلاقه على المخلوق إذا لم يكن فاسقًا؛ للأحاديث المتقدّمة في كلام النوويّ رحمه الله تعالى. وأما نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن قولهم: "يا سيّدنا" فهو من باب التحذير عن الْغُلُوّ في المدح، فالحديث صريح في ذلك، فقد أخرج أبو داود بسند جيّد، وصحّحه غير واحد -كما قال في "الفتح" (¬2) - عن عبد الله بن الشّخّير -رضي الله عنه- قال: "انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلنا: أنت سيّدنا، فقال: "السيّد الله تبارك وتعالى"، قلنا: وأفضلنا فضلًا، وأعظمنا طَوْلًا، فقال: "قولوا: بقولكم -أو بعض قولكم- ولا يَسْتَجْرِيَنَّكم الشيطان" (¬3). والله تعالى أعلم بالصواب. وقوله: (مُحَمَّدٍ) بالجرّ صفة لسيّد، أو عطف بيان له، أو بدلٌ، ويجوز قطعه إلى ¬

_ (¬1) راجع "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" للشيخ عبد الرحمن بن حسن، آل الشيخ ص 738 - 739. (¬2) راجع "الفتح" 5/ 179. (¬3) أي لا يستتبعنّكم، فيتّخذكم جَرِيّه، أي وكيله، وسُمّي الوكيل جَرِيّا؛ لأنه يَجري مَجرَى موكّله. أفاده في "لسان العرب".

الرفع بتقدير مبتدأ محذوف وجوبًا؛ لكونه نعت مدح: أي هو محمدٌ، أو إلى النصب بتقدير فعل محذوف كذلك: أي أمدح محمدًا. ولا يعترض على هذا كونه بصورة المجرور والمرفوع؛ لأن ذلك جائز في لغة بعض العرب، حيث يقفون على المنصوب المنوّن بالسكون، ورسمه يكون بصورة المرفوع والمجرور. و (محمّد): علم لنبيّنا -صلى الله عليه وسلم-، وهو أشرف أسمائه منقول من اسم مفعول حُمّد المضعّف، وهو يتضمّن الثناء على المحمود، وإجلاله، وتعظيمه، ومحبّته، وهو علم وصفة، اجتمع فيه الأمران في حقه -صلى الله عليه وسلم-، وإذ كان علمًا محضًا في حقّ غيره، وقد أشبعت الكلام في هذا البحث في "شرح مقدّمة مسلم"، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق. (وَآلِهِ) بالجرّ عطفًا على "سيدنا"، واختُلف في أصله، فقيل: أهل، قُلبت الهاء همزةً، ثم سُهّلت، ولهذا إذا صُغّر رُدّ إلى أصله، فقيل: أُهيلٌ. وقيل: أصله أَوَلٌ بالتحريك، من آل يئول: إذا رجع، سمّي بذلك من يؤول إلا الشخص، ويضاف إليه، ولا يضاف إلا إلى معظّم، فلا يقال: آل الحجّام، ولا آل الإسكاف، بخلاف أهل، فإنه يستعمل في الأشراف وغيرهم، وإنّما قيل: آل فرعون؛ لتصوّره بصورة الأشراف، ولا يضاف أيضًا إلى غير العاقل، ولا إلى الضمير عند الأكثرين، وجوّزه بعضهم بقلّة، كما هنا، وكما في قول الشاعر: وَانصُرْ عَلَى آلِ الصَّليـ ... ـبِ وَعَابِدِيهِ الْيَوْمَ آلَكْ واختُلف في المراد بالآل هنا، فقيل: من تحرم عليهم الصدقة، وهو نصّ الشّافعي، واختاره الجمهور، ورجحه السخاوي، وقيل: أزواجه وذرّيته. وقيل: ذريّة فاطمة رضي الله تعالى عنها وقيل: جميع قريش. وعن أحمد رحمه الله تعالى: المراد في حديث التشهّد أهل بيته. وقيل: جميع أمّة الإجابة، وهو قول مالك، واختاره الأزهري، ورجحه النوويّ في "شرح مسلم". وقيّده بعضهم، وهو الحقّ بالأتقياء منهم، وعليه يُحمل كلام من أطلقه، ويؤيّده قوله عز وجل: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34].

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول الأول هو الأرجح؛ لأنه صحّ قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنا آل محمد لا تحلّ لنا الصدقة"، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحلّ لمحمد، ولا لآل محمد". ووجه الاستدلال بهما أن الآل الذي طُلِبَ منا أن نصلّي عليهم إذا صلينا على النبيّ -صلى الله عليه وسلم- هم الذين بينهم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في هذين الحديثين، ونحوهما، فليُتنبّه. والله تعالى أعلم. (وَصَحبِهِ) بالجرّ كسابقه، وهو اسم جمع لصاحب بمعنى الصحابيّ، كراكب ورَكْب. وقيل: جمع له، وهو من لقي النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مؤمنا به، ولو لم يرو عنه، ولم تطل مجالسته، كما قال في "ألفية الحديث": حدّ الصَّحَابي مُسْلِمًا لاَقِي الرَّسُولْ ... وَإِنْ بِلاَ رِوَايةٍ عَنْهُ وَطُول (وَمُحِبِّيهِ) أي محبي النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وهم المتمسّكون بسنته، المقتفون لآثاره، وهم الذين يحبّون الله تعالى حقّ المحبّة، الذين فهموا الخطاب الموجّه إليهم بقول الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31] حقّ الفهم، فنالوا بذلك ما وعدهم الله عز وجل: {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، فتحقّق لهم قوله تعالى في الحديث القدسيّ الذي أخرجه البخاريّ في "صحيحه" "من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله، ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت، وأنا أكره مساءته". وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل: إن الله يحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في أهل الأرض". {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].

[تنبيه]: عطف "محبيه" على ما قبله من عطف العامّ على الخاصّ؛ ليشمل من أتى بعدهم متمسّكًا بسنته -صلى الله عليه وسلم- إلى يوم القيامة، وقدّم الآل؛ لأن النصّ ورد بالصلاة عليهم، حيث قال -صلى الله عليه وسلم- في تعليمه الصلاة لمّا سئل عن كيفيّة الصلاة المأمور بها في الآية: "قولوا: اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد الخ". وأما الصلاة على الصحب، وتاليه، فمن استحسانات العلماء، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [تنبيه]: إنما قَرَن المصنّف رحمه الله تعالى الصلاة بذكر السلام، امتثالًا للأمر الوارد في الآية الكريمة: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، وخروجًا من الخلاف في كراهة إفراد أحدهما عن الآخر، وإن كان المختار عدم الكراهة. قال الحافظ السخاويّ رحمه الله تعالى: استُدلّ بحديث كعب بن عُجرة -رضي الله عنه-، وغيره -يعني حديث تعليمه -صلى الله عليه وسلم- الصلاة الإبراهيميّة لمّا سألوه عن كيفيّة الصلاة عليه- على أن إفراد الصلاة عن التسليم لا يكره، وكذا العكس؛ لأن تعليم السلام تقدّم قبل تعليم الصلاة، فأُفرِدَ التسليمُ مدّةً في التشهّد قبل الصلاة عليه. وقد صرّح النوويّ رحمه الله تعالى في "الأذكار" وغيره بالكراهة، واستدلّ بورود الأمر بهما معًا في الآية. قال شيخنا -يعني الحافظ ابن حجر-: وفيه نظر، نعم يكره أن يُفرد الصلاة، ولا يُسلّم أصلًا، أما لو صلّى في وقتٍ، وسلّم في وقتٍ آخر، فإنه يكون ممتثلًا انتهى كلام السخاويّ (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لي فيما ذُكر وقفتان: (الأولى): قول النوويّ بكراهة الإفراد مما لا دليل عليه، فإنّ مجرّد الاقتران في الآية لا يدلّ عليه، كما أنّ قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] لا يدلّ على ذلك، فلا قائل بأن من وجبت عليه الزكاة لا بدّ أن يؤدّيها مؤونة بالصلاة، بحيث إنه لو فرّق بينهما كُره عليه. ¬

_ (¬1) "القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع" ص 35.

(الثانية): قول الحافظ رحمه الله تعالى: نعم يكره أن يفرد الصلاة، ولا يُسلّم أصلًا الخ محلّ نظر أيضًا؛ لأنه لا يمكن حصول ذلك أصلًا؛ لأنه لا بدّ أن يصلّي الصلوات الخمس، فإذا صلّى لا بدّ أن يتشهّد، وفيه السلام، فلا يمكن عدم السلام أصلًا، فتنبّه. والحاصل أن القول بكراهة الإفراد غير صحيح، بل الجمع بينهما مستحبّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [تنبيه آخر]: عطف المصنّف رحمه الله تعالى الآل والصحب، وأشركهم مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة والسلام عليهم، أما الصحب، فمن عمل العلماء، وأما الآل فقد وردت النصوص بهم؛ فإن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ذكرهم في تعليماته لكيفيّة الصلاة المأمور بها في الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]: فقد أخرج الشيخان، وغيرهما عن كعب بن عجرة -رضي الله عنه-، قيل: يا رسول الله، أما السلام عليك، فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا: "اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، إنك حميد مجيد". متفق عليه. وعن أبي حميد الساعديّ، -رضي الله عنه-، أنهم قالوا: يا رسول الله، كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قولوا: "اللهم صل على محمد، وأزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد، وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد". متفق عليه. وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: لقيني كعب بن عجرة، فقال: ألا أُهدي لك هدية، سمعتها من النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: بلى، فأهدها لي، فقال: سألنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلنا: يا رسول الله، كيف الصلاة عليكم، أهلَ البيت؟، فإن الله قد عَلَّمَنا كيف نسلم عليكم، قال: قولوا: "اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على

إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد". متفق عليه. وأخرج مسلم عن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه-، قال: أتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونحن في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله تعالى أن نصلي عليك، يا رسول الله، فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قولوا: "اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم". وغير ذلك من الصيغ المختلفة الواردة في التعليم النبويّ، فكان الأولى أن يصلّي عليهم أيضًا. وقد ذكرت في "شرح مقدّمة مسلم" أحاديث صحيحة في فصل الصلاة والسلام على النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فراجعها تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

1 - باب اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

1 - (باب اتباع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما أحسن صنيع المصنّف رحمه الله تعالى، وأنصع تبويبه، حيثما بدأ كتابه بـ "باب اتّباع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إشارة إلى تصنيفه في جمع سننه -صلى الله عليه وسلم-، وتنبيهًا للطالب على أن الأخذ بهذه السنن هو الدين القويم، والصراط المستقيم، ثم عقّب هذا الباب بأبواب الإيمان؛ لأنه الأساس لبناء المكلّف بيت العزّ والشرف، ثم أتبعه بفضائل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنهم مبلغوا هذه السنن إلى الأمة، فينبغي أن يعرف فضلهم، ويُشهر قدرهم، ثم عقد بابًا لذكر الخوارج الذين خرجوا على أهل الحقّ من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وغيرهم؛ ليجتنب الناس بدعهم، وانحرافاتهم، ثم أتبعه بـ "باب من سنّ سنة حسنةً، أو سيّئة"، و"باب من أحيا سنّة قد أميتت" حثًّا على نشر السنة القائمة، وإماتة السنة التي أُميتت، ثم ختمه بأبواب العلم، إشارةً إلى أن هذه السنن إنما تحقّق، وتُنشر بتعلّمها، وتعليمها، ثم دخل في المقصمود بادئًا بـ "كتاب الطهارة وسننها"، ومسلسلًا لأبواب السنن حسب تناسبها، والتئامها، فلله درّه من مصنف مهذِّب، ومحدّث مرتّب، فجزاه الله تعالى أحسن الجزاء على ما أسداه إلى الأمة الإسلامية من سُنَن، وزفّه إليها من عطايا ومنن، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله -المذكور أول الكتاب- قال: 1 - (حَدَّثَنَا أبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنا شَرِيكٌ، عَنِ الأعَمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَمَرتُكُمْ بِهِ فَخُذوه، وَمَا نَهَيْتكُمْ عَنهُ فَانْتَهُوا"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (أبو بكر بن أبي شيبة) هو عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، واسمه إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي مولاهم، الحافظ الكوفي الواسطيّ الأصل، ثقة حافظ، صاحب تصانيف [10]: رَوَى عن أبي الأحوص، وعبد الله بن إدريس، وابن المبارك، وجماعة.

ورَوى عنه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والمصنّف، وروى له النسائي بواسطة أحمد بن علي القاضي، وزكرياء الساجي، وعثمان بن خرزاذ، وابنه أبو شيبة إبراهيم بن أبي بكر بن أبي شيبة، وأحمد بن حنبل، ومحمد بن سعد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وجماعة. قال يحيى الحماني: أولاد ابن أبي شيبة من أهل العلم، كانوا يزاحمونا عند كل محدث. وقال أحمد: أبو بكر صدوق، وهو أحب إلي من عثمان. قال عبد الله بن أحمد: فقلت لأبي: إن يحيى بن معين يقول: عثمان أحب إلي، فقال: أبو بكر أعجب إلينا. وقال العجلي: ثقة، وكان حافظا للحديث. وقال أبو حاتم، وابن خراش: ثقة، وقال عمرو ابن علي: ما رأيت أحفظ من أبي بكر، قدم علينا مع علي بن المديني، فسرد للشيباني أربعمائة حديث حفظا وقام. وقال أبو عبيد القاسم: انتهى العلم إلى أربعة، فأبو بكر أسردهم له، وأحمد أفقههم فيه، ويحيى أجمعهم له، وعلي أعلمهم به، وقال صالح بن محمد: أعلم من أدركت بالحديث وعلله علي بن المديني، وأعلمهم بتصحيف المشايخ يحيى بن معين، وأحفظهم عند المذاكرة أبو بكر بن أبي شيبة. وقال ابن خراش: سمعت أبا زرعة الرازي يقول: ما رأيت أحفظ من أبي بكر بن أبي شيبة، فقلت له: يا أبا زرعة وأصحابنا البغداديين؟ فقال: دع أصحابك أصحاب مخاريق. وقال ابن حبان في "الثقات": كان متقنًا حافظا دَيِّنا، ممن كتب، وجمع، وصنّف، وذاكر، وكان أحفظ أهل زمانه للمقاطيع. وقال ابن قانع: ثقة ثبت. قال البخاري وغير واحد: مات سنة خمس وثلاثين ومائتين في المحرم. وفي "الزهرة": روى عنه البخاري ثلاثين حديثا، ومسلم ألفا وخمسمائة وأربعين حديثا. أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، والمصنّف. 2 - (شريك) بن عبد الله بن أبي شريك النخعيّ، أبو عبد الله الكوفيّ القاضي بواسط، ثم الكوفة، صدوقٌ يُخطيء كثيرًا، تغيّر حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، وكان عادلًا فاضلًا عابدًا، شديدًا على أهل البدع [8].

رَوَى عن زياد بن علاقة، وأبي إسحاق السبيعي، وعبد الملك بن عمير، والعباس ابن ذَرِيح، وإبراهيم بن جرير العجلي، وإسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، وخلق. وروى عنه ابن مهدي، ووكيع، ويحيى بن آدم، ويونس بن محمد المؤدب، والفضل بن موسى السيناني، وعبد السلام بن حرب، وابنا أبي شيبة، وغيرهم. قال صالح بن أحمد عن أبيه: سمع شريك من أبي إسحاق قديما، وشريك في أبي إسحاق أثبت من زهير، وإسرائيل، وزكريا. وقال يزيد بن الهيثم عن ابن معين: شريك ثقة، وهو أحب إلي من أبي الأحوص، وجرير، وهو يروي عن قوم لم يرو عنهم سفيان الثوري، قال ابن معين: ولم يكن شريك عند يحيى -يعني القطان- بشيء، وهو ثقة ثقة. وقال أبو يعلى: قلت لابن معين: أيما أحب إليك جرير أو شريك؟ قال: جرير، قلت: فشريك أو أبو الأحوص؟ قال: شريك، ثم قال: شريك ثقة، إلا أنه لا يتقن، ويغلط، ويذهب بنفسه على سفيان وشعبة. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: شريك أحب إليك في أبي إسحاق أو إسرائيل؟ قال: شريك أحب إلي، وهو أقدم، قلت: شريك أحب إليك في منصور أو أبو الأحوص؟ فقال: شريك أعلم به، وقال العجلي: كوفي ثقة، وكان حسن الحديث، وكان أروى الناس عنه إسحاق الأزرق. وقال علي بن حكيم عن وكيع: لم يكن أحد أروى عن الكوفيين من شريك، وقال الجوزجاني: شريك سيء الحفظ، مضطرب الحديث مائل. وقال ابن أبي حاتم: قلت لأبي زرعة: شريك يحتج بحديثه؟ قال: كان كثير الخطأ، صاحب حديث، وهو يغلط أحيانا، فقال له فضلك الصائغ: إنه حدث بواسط بأحاديث بواطيل، فقال أبو زرعة: لا تقل بواطيل. قال عبد الرحمن: وسألت أبي عن شريك، وأبي الأحوص، أيهما أحب إليك؟ قال: شريك، وقد كان له أغاليط. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عدي: في بعض ما لم أتكلم عليه من حديثه مما أمليت بعض الإنكار، والغالب على حديثه الصحة والاستواء، والذي يقع في حديثه من النكرة، إنما أُتي به من سوء حفظه، لا أنه يتعمد شيئًا مما يستحق أن ينسب فيه إلى شيء من الضعف. قال أحمد بن حنبل: ولد شريك

سنة (90)، ومات سنة سبع وسبعين ومائة، وكذا أرخه غير واحد، منهم ابن سعد، وقال: كان ثقة مأمونا كثير الحديث، وكان يَغْلَط. وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري: أخطأ في أربعمائة حديث. وقال ابن المثنى: ما رأيت يحيى، ولا عبد الرحمن حَدّثا عنه بشيء. وقال محمد بن يحيى بن سعيد، عن أبيه: رأيت في أصول شريك تخليطا. وقال أبو جعفر الطبري: كان فقيها عالما. وقال أبو داود: ثقة يخطئ على الأعمش، زهير فوقه، وإسرائيل أصح حديثا منه، وأبو بكر بن عياش بعده. وقال ابن حبان في "الثقات": ولي القضاء بواسط سنة (155)، ثم ولي الكوفة بعدُ، ومات بها سنة (7) أو (188)، وكان في آخر أمره يخطيء فيما روى، تغير عليه حفظه، فسماع المتقدمين منه ليس فيه تخليط، وسماع المتأخرين منه بالكوفة فيه أوهام كثيرة. روى له البخاري في التعاليق، ومسلم في المتابعة، والأربعة. 3 - (الأعمش) سليمان بن مِهْران الأسديّ الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، يقال: أصله من طبرستان، وولد بالكوفة، ثقة حافظٌ، عارفٌ بالقراءة، وَرعٌ، لكنه يدلّس [5]. رَوَى عن أنس ولم يثيت له منه سماع وعبد الله بن أبي أوفى، يقال: إنه مرسل، وزيد بن وهب، وأبي وائل، وأبي عمرو الشيباني، وقيس بن أبي حازم، وخلق كثير. وروى عنه الحكم بن عتيبة، وزبيد اليامي، وأبو إسحاق السبيعي، وهو من شيوخه، وسليمان التيمي، وسهيل بن أبي صالح، وهو من أقرانه، ومحمد بن واسع، وشعبة، والسفيانان، وإبراهيم بن طهمان، وخلائق من أواخرهم أبو نعيم، وعبيد الله بن موسى. قال ابن المديني: لم يحمل عن أنس، إنما رآه يخضب، ورآه يصلي. وقال ابن معين: كلُّ ما روى الأعمش عن أنس مرسل. وقال أبو حاتم: لم يسمع من ابن أبي أوفى، ولا من عكرمة: وقال ابن المنادى: قد رأى أنس بن مالك، إلا أنه لم يسمع منه، ورأى أبا بكرة الثقفي، وأخذ له بركابه، فقال له: يا بني إنما أكرمت ربك.

وتعقّب الحافظ قول ابن المنادي هذا، وتعجّب من الحافظ المزّي حيث نقله، ولم يتعقّبه، مع حفظه ونقده، فقال: وقول ابن المنادي: إن الأعمش أخذ بركاب أبي بكرة الثقفي غلط فاحش؛ لأن الأعمش وُلد إما سنة (61) أو سنة (59) على الخلف في ذلك، وأبو بكرة مات سنة إحدى أو اثنتين وخمسين، فكيف يتهيأ أن يأخذ بركاب من مات قبل مولده بعشر سنين أو نحوها؟ وكأنه كان -والله أعلم- أخذ بركاب ابن أبي بكرة، فسقطت "ابن"، وثبت الباقي. انتهى. وقال وكيع، عن الأعمش: رأيت أنس بن مالك، وما منعني أن أسمع منه إلا استغنائي بأصحابي. وقال ابن المديني: حفظ العلم على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- ستة: عمرو بن دينار بمكة، والزهري بالمدينة، وأبو إسحاق السبيعي، والأعمش بالكوفة، وقتادة، ويحيى بن أبي كثير بالبصرة. وقال أبو بكر بن عياش عن مغيرة: لما مات إبراهيم اختلفنا إلى الأعمش في الفرائض. وقال هشيم: ما رأيت بالكوفة أحدًا أقرأ لكتاب الله منه. وقال ابن عيينة: سبق الأعمش أصحابه بأربع: كان أقرأهم للقرآن، وأحفظهم للحديث، وأعلمهم بالفرائض، وذكر خصلة أخرى. وقال يحيى بن معين: كان جرير إذا حدث عن الأعمش، قال: هذا الديباج الخسرواني. وقال شعبة: ما شفاني أحد في الحديث ما شفاني الأعمش. وقال عبد الله بن داود الْخُريبي: كان شعبة إذا ذكر الأعمش قال: المصحف المصحف. وقال عمرو بن علي: كان الأعمش يسمى المصحف؛ لصدقه. وقال ابن عمار: ليس في المحدثين أثبت من الأعمش، ومنصور ثبت أيضا، إلا أن الأعمش أعرف بالمسند منه. وقال العجلي: كان ثقة ثبتا في الحديث، وكان محدث أهل الكوفة في زمانه، ولم يكن له كتاب، وكان رأسا في القرآن، عَسِرًا، سيىء الخلق، عالمًا بالفرائض، وكان لا يلحن حرفا، وكان فيه تشيع، ويقال: إن الأعمش وُلد يوم قتل الحسين، وذلك يوم عاشوراء سنة (61). وقال عيسى بن يونس: لم نر مثل الأعمش، ولا رأيت الأغنياء والسلاطين عند أحد أحقر منهم عند الأعمش، مع فقره وحاجته. وقال يحيى بن سعيد القطان: كان من النساك، وهو علامة الإسلام. وقال

وكيع: اختلفت إليه قريبا من سنتين، ما رأيته يقضي ركعة، وكان قريبا من سبعين سنة، لم تفته التكبيرة الأولى. وقال الخُرَيْبِيّ: مات يوم مات، وما خلف أحدًا من الناس أعبد منه، وكان صاحب سنة. وقال ابن معين: ثقة. وقال النسائي: ثقة ثبت. وقال أبو عوانة وغيره: مات سنة (147)، وقال أبو نعيم: مات سليمان سنة ثمان وأربعين ومائة في ربيع الأول، وهو ابن (88) سنة، وفيها أرخه غير واحد. روى له الجماعة. 4 - (أبو صالح) ذكوان السمّان الزيات المدني، مولى جويرية بنت الأحمس الغطفاني، ثقة ثبتٌ، كان يجلب الزيت إلى الكوفة [3]. شهد الدار زمن عثمان، وسأل سعد بن أبي وقاص مسألة في الزكاة، وروى عنه، وعن أبي هريرة، وأبي الدرداء، وأبي سعيد الخدري، وعَقِيل بن أبي طالب، وجابر، وابن عمر، وابن عباس، ومعاوية، وعائشة، وأم حبيبة، وأم سلمة، وغيرهم. وأرسل عن أبي بكر. ورَوَى عنه أولاده: سهيل، وصالح، وعبد الله، وعطاء بن أبي رباح، وعبد الله بن دينار، ورجاء بن حيوة، وزيد بن أسلم، والأعمش، وأبو حازم، سلمة بن دينار، وآخرون. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة ثقة، من أجل الناس، وأوثقهم. وقال حفص ابن غياث، عن الأعمش: كان أبو صالح مؤذنا، فأبطأ الإمام فأمنا، فكان لا يكاد يجيزها من الرقة والبكاء. وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة صالح الحديث، يحتج بحديثه. وقال أبو زرعة: ثقة مستقيم الحديث. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وكان يَقْدَم الكوفة يجلب الزيت، فينزل في بني أسد. وقال أبو داود: سألت ابن معين من كان الثبت في أبي هريرة؟ فقال: ابن المسيب، وأبو صالح، وابن سيرين، والمقبري، والأعرج، وأبو رافع. وقال الساجي: ثقة صدوق. وقال الحربي: كان من الثقات. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال العجلي: ثقة. وقال أبو زرعة: لم يلق أبا ذر. قال يحيى بن بكير وغير واحد: مات سنة (101). روى له الجماعة.

5 - (أبو هريرة) بن عامر بن عبد ذي الشَّرَى بن طريف بن عتاب بن أبي صعب بن منبه بن سعد بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس بن عدنان بن عبد الله بن زهران بن كعب الدوسي، هكذا سماه، ونسبه ابن الكلبي، ومن تبعه، وقواه أبو أحمد الدمياطي. وقال ابن إسحاق: كان وسيطا في دوس، وأخرج الدولابي من طريق ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، قال: اسم أبي هريرة عبد نهم بن عامر، وهو دوسي، حليف لأبي بكر الصديق، وخالف ابن البرقي في نسبه، فقال: هو ابن عامر بن عبد شمس بن عبد الساطع بن قيس بن مالك بن ذي الأسلم بن الأحمس بن معاوية بن المسلم بن الحارث بن دهمان بن سليم بن فهم بن عامر بن دوس، قال: ويقال: هو ابن عتبة بن عمرو بن عيسى بن حرب بن سعد بن ثعلبة بن عمرو بن فهم بن دوس، وقال أبو علي بن السكن: اختلف في اسمه، فقال أهل النسب: اسمه عمير بن عامر، وقال ابن إسحاق: قال لي بعض أصحابنا عن أبي هريرة: كان اسمي في الجاهلية عبد شمس ابن صخر، فسماني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبد الرحمن، وكُنيت أبا هريرة؛ لأني وجدت هرة، فحملتها في كمي، فقيل لي: أبو هريرة، وهكذا أخرجه أبو أحمد الحاكم في "الكنى" من طريق يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، وأخرجه ابن منده من هذا الوجه مطولا، وأخرج الترمذي بسند حسن، عن عبيد الله بن أبي رافع، قال: قلت لأبي هريرة: لم كنيت بأبي هريرة؟ قال: كنت أرعى غنم أهلي، وكانت لي هرة صغيرة، فكنت أضعها بالليل في شجرة، وإذا كان النهار ذهبت بها معي، فلعبت بها، فكنوني أبا هريرة. انتهى. وفي "صحيح البخاري": أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: يا أبا هِرّ. وأخرج البغوي من طريق إبراهيم بن الفضل المخزومي، وهو ضعيف، قال: كان اسم أبي هريرة في الجاهلية عبد شمس، وكنيته أبو الأسود، فسماه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبد الله، وكناه أبا هريرة. وأخرج ابن خزيمة بسند قوي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عبد شمس، من الأزد، ثم من دوس. وأخرج الدولابي بسند حسن، عن أسامة بن زيد الليثي، عن عبيد الله

ابن أبي رافع، والمقبري، قالا: كان اسم أبي هريرة عبد شمس بن عامر بن عبد الشَّرَى (¬1) - والشَّرَى اسم صنم لدوس- فلما أسلم سُمي بعبد الله بن عامر، وقال عبد الله بن إدريس عن شعبة: كان اسم أبي هريرة عبد شمس، وكذا قال يحيى بن معين، وأحمد بن صالح المصري، وهارون بن حاتم، وكذا قال أبو زرعة، عن أبي مسهر، وقال أبو نعيم الفضل بن دكين مثله، وزاد: ويقال: عبد عمرو، وقال مرة أخرى: أبو هريرة سُكين، ويقال: عامر بن عبد غنم، وكذا قال إسماعيل بن أبي أويس: وجدت في كتاب أبي كان اسم أبي هريرة عبد شمس، واسمه في الإسلام عبد الله، وعن أبي نمير (¬2) مثله، وذكر الترمذي عن البخاري مثله، وقال صالح بن أحمد بن حنبل عن أبيه: أبو هريرة عبد شمس، ويقال: عبد نهم، ويقال: عبد غنم، ويقال: سكين، ويقال: عبد الله بن عامر، أخرجه البغوي عن صالح، وكذا قال الأحوص بن المفضل العلائي عن أبيه، وكذا حكاه يعقوب بن سفيان في "تاريخه"، وذكر ابن أبي شيبة مثله، وزاد: ويقال: عبد الرحمن بن صخر، وذكر البغوي عن عبد الله بن أحمد، قال: سمعت شيخا لنا كبيرا يقول: اسم أبي هريرة سكين بن دُومة، وهذا حكاه الحسن بن سفيان بسنده عن أبي عمر الضرير، وزاد: ويقال: عبد عمرو بن غنم، وقال عمرو بن علي الفلاس، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن المحرر بن أبي هريرة: كان اسم أبي عبد عمرو بن عبد غنم، أخرجه أسلم بن سهل في "تاريخه"، وأخرجه البغوي عن المقدمي، عن عمه سفيان، ولفظه: كان اسم أبي هريرة عبد الرحمن بن غنم، كذا في رواية عيسى بن علي، عن البغوي، وأخرجه ابن أبي الدنيا من طريق المقدمي مثل ما قال عمرو بن علي، وكذا هو في "الذهليات" عن بكر بن بكار، عن عُمَر بن علي المقدمي (¬3)، وقال ابن خزيمة: ¬

_ (¬1) في "القاموس": ذو الشَّرَى -أي مقصورًا-: صنم لدوس. انتهى. (¬2) كذا نسخة "الإصابة"، أبو نمير، وليُحرّر. (¬3) كان في النسخة: "عن عمر بن بكار، عن عمرو بن علي المقدسي"، والإصلاح من =

قال الذهلي: هذا أوضح الروايات (¬1) عندنا على القلب، قال ابن خزيمة: وإسناد محمد ابن عمرو، عن أبي سلمة أحسن من سفيان بن حسين، عن الزهري، عن المحرر، إلا أن يكون كان له اسمان قبل إسلامه، وأما بعد إسلامه، فلا أحسب اسمه استمر. قلت أنكر أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- غير اسمه، فسماه عبد الرحمن، كما نقل أحمد بن حنبل، عن أبي عبيدة الحداد، وأخرج أبو محمد بن زيد، عن الأصمعي أن اسمه عبد عمرو بن عبد غنم، ويقال: عمرو بن عبد غنم، وجزم بالأول النسائي، وقال البغوي: حدثنا الحسن ابن عرفة، حدثنا أبو إسماعيل المؤدب، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، واسمه عبد الرحمن بن صخر، قال الحافظ: وأبو إسماعيل صاحب غرائب، مع أن قوله: واسمه عبد الرحمن بن صخر، يحتمل أن يكون من كلام أبي صالح، أو من كلام من بعده، وأخلق به أن يكون أبو إسماعيل الذي تفرد به، والمحفوظ في هذا قول محمد بن إسحاق، وأخرج أبو نعيم من طريق إسحاق بن راهويه، قال: أبو هريرة مختلف في اسمه، فقيل: سكين بن مل، وقيل: ابن هانئ، وقال بعضهم: عمر بن عبد شمس، وقيل: ابن عبد نهم، وقال عباس الدوري، عن أبي بكر بن أبي الأسود: سكين بن جابر، وأخرج أبو أحمد الحاكم بسند صحيح، عن صالح بن كيسان، قال: اسمه عامر، ومثله حكاه الهيثم بن عدي، عن ابن عباس، وهو المسوق، وزاد أنه ابن عبد شمس بن عبد غنم بن عبد ذي الشَّرَى، وقال أبو مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز: هو عامر بن عبد شمس، وقيل: عبد غنم، وقيل: سكين بن عامر، وقال خليفة: اختلف في اسمه، فقيل: عمير بن عامر، وقيل: سكين بن دومة، ويقال: عبد عمرو بن عبد غنم، وقيل: عبد الله ابن عامر، وقيل: برير، أو يزيد بن عشرقة، وقال الفلاس: اختلفوا في اسمه، والذي ¬

_ = "تاريخ ابن عساكر" جـ 67 ص 304. (¬1) ولفظ "تاريخ ابن عساكر": "وأوقع الروايات على القلب".

صح أنه عبد عمرو بن عبد غنم، ويقال: سكين، وقال البغوي: حدثنا محمد بن حميد، حدثنا أبو نميلة، حدثنا محمد بن عبيد الله، قال: اسمه سعد بن الحارث، قال البغوي: وبلغني أن اسمه عبد ياليل، وقال ابن سعد، عن الواقدي، كان اسمه عبد شمس، فسمي في الإسلام عبد الله، ونقل عن الهيثم مثله، وزاد البغوي عن الواقدي: ويقال: إنه عبد الله ابن عائذ، وقال ابن البرقي: اسمه عبد الرحمن، ويقال: عبد شمس، ويقال: عبد غنم، ويقال: عبد الله، ويقال: بل هو عبد نهم، وقيل: عبد تيم، وحكى ابن منده في أسمائه: عبد، بغير إضافة، وفي اسم أبيه: عبد غنم، وحكى أبو نعيم فيه: عبد العزى، وسَكَن -بفتحتين. قال النووي في مواضع من كتبه: اسم أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر على الأصح من ثلاثين قولا. وقال القطب الحلبي: اجتمع في اسمه واسم أبيه أربعة وأربعون قولا، مذكورة في "الكنى" للحاكم، وفي "الاستيعاب"، وفي "تاريخ ابن عساكر". قال الحافظ: وجه تكثره أنه يجتمع في اسمه خاصة عشرة أقوال مثلا، وفي اسم أبيه نحوها، ثم تركبت، ولكن لا يوجد جميع ذلك منقولا، فمجموع ما قيل في اسمه وحده نحو من عشرين قولا: عبد شمس، وعبد نهم، وعبد تيم، وعبد غنم، وعبد العزى، وعبد ياليل، وهذه لا جائز أن تبقى بعد أن أسلم، كما أشار إليه ابن خزيمة، وقيل فيه أيضا: عبيد بغير إضافة، وعبيد الله بالإضافة، وسُكين بالتصغير، وسكن بفتحتين، وعمرو بفتح العين، وعمير بالتصغير، وعامر، وقيل: برير، وقيل: بر، وقيل: يزيد، وقيل: سعد، وقيل: سعيد، وقيل: عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وجميعها محتمل في الجاهلية والإسلام، إلا الأخير، فإنه إسلامي جزما، والذي اجتمع في اسم أبيه خمسة عشر قولا، فقيل: عائذ، وقيل: عامر، وقيل: عمرو، وقيل: عمير، وقيل: غنم، وقيل: دومة، وقيل: هانئ، وقيل: ملّ، وقيل: عبد نهم، وقيل: عبد غنم، وقيل: عبد شمس، وقيل: عبد عمرو، وقيل: الحارث، وقيل: عشرقة، وقيل: صخر، فهذا معنى قول من قال اختلف في اسمه واسم أبيه على أكثر من ثلاثين قولا.

فأما مع التركيب بطريق التجويز، فيزيد على ذلك نحو مائتين وسبعة وأربعين من ضرب تسعة عشر في ثلاثة عشر، وأما مع التنصيص، فلا يزيد على العشرين، فإن الاسم الواحد من أسمائه يركب مع ثلاثة، أو أربعة من أسماء الأب، إلى أن يأتي العد عليهما، فيخلص للمغايرة مع التركيب عدد أسمائه خاصة، وهي تسعة عشر، مع أن بعضها وقع فيه تصحيف، أو تحريف، مثل بر، وبرير، ويزيد، فإنه لم يرد شيء منها إلا مع عشرقة، والظاهر أنه تغيير من بعض الرواة، وكذا سكن وسكين، والظاهر أنه يرجع إلى واحد، وكذا سعد وسعيد، مع أنهما أيضا لم يردا إلا مع الحارث، وبعضها انقلب اسمه مع اسم أبيه كما تقدم في قول من قال: عبد عمرو بن عبد غنم، وقيل: عبد غنم بن عبد عمرو، فعند التأمل لا تبلغ الأقوال عشرة خالصة، ومرجعها من جهة صحة النقل إلى ثلاثة: عمير، وعبد الله، وعبد الرحمن، الأولان محتملان في الجاهلية والإسلام، وعبد الرحمن في الإسلام خاصة، كما تقدم. قال ابن أبي داود كنت أجمع سند أبي هريرة، فرأيته في النوم، وأنا بأصبهان، فقال لي: أنا أول صاحب حديث في الدنيا. وقد أجمع أهل الحديث على أنه أكثر الصحابة حديثا، وذكر أبو محمد بن حزم أن مسند بقي بن مخلد احتوى من حديث أبي هريرة على خمسة آلاف وثلاثمائة حديث وكسر، وحدث أبو هريرة أيضا عن أبي بكر، وعمر، والفضل بن العباس، وأبي بن كعب، وأسامة بن زيد، وعائشة، وبصرة الغفاري، وكعب الأحبار، وروى عنه ولده المحرر -بمهملات- ومن الصحابة ابن عمر، وابن عباس، وجابر، وأنس، وواثلة بن الأسقع، ومن كبار التابعين مروان بن الحكم، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الله بن ثعلبة، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وسلمان الأغر، والأغر أبو مسلم، وشريح بن هانئ، وخباب صاحب المقصورة، وأبو سعيد المقبري، وسليمان بن يسار، وسنان بن أبي سنان، وعبد الله بن شقيق، وعبد الرحمن بن أبي عمرة، وعراك بن مالك، وأبو رزين الأسدي، وعبد الله بن قارظ، وبسر بن سعيد، وبشير بن نهيك، وبعجة الجهني، وحنظلة الأسلمي، وثابت بن عياض، وحفص بن

عاصم بن عُمَر، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأبو سلمة وحميد ابنا عبد الرحمن بن عوف، وحميد بن عبد الرحمن الحميري، وخلاس بن عمرو، وزُرارة بن أوفى، وسالم أبو الغيث، وسالم مولى شداد، وعامر بن سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن عمرو بن سعيد ابن العاص، وأبو الحباب سعيد بن يسار، وعبد الله بن الحارث البصري، ومحمد بن سيرين، وسعيد بن مرجانة، والأعرج، وهو عبد الرحمن بن هرمز، والمقعد، وهو عبد الرحمن بن سعيد، ويقال له: الأعرج أيضا، وعبد الرحمن بن أبي نُعْم، وعبد الرحمن بن يعقوب، والد العلاء، وأبو صالح السمان، وعبيدة بن سفيان، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعطاء بن ميناء، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء بن يزيد الليثي، وعطاء ابن يسار، وعبيد بن حنين، وعجلان والد محمد، وعبيد الله بن أبي رافع، وعنبسة بن سعيد بن العاص، وعمرو بن الحكم، أبو السائب، مولى ابن زُهرة، وموسى بن يسار، ونافع بن جبير بن مطعم، وعبد الله بن رَباح، وعبد الرحمن بن مهران، وعمرو بن أبي سفيان، ومحمد بن زياد الجمحي، وعيسى بن طلحة، ومحمد بن قيس بن مَخْرَمة، ومحمد ابن عباد بن جعفر، ومحمد بن أبي عائشة، والهيثم بن أبي سنان، وأبو حازم الأشجعي، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو الشعثاء المحاربي، ويزيد بن الأصم، ونعيم المجمر، ومحمد بن المنكدر، وهمام بن منبه، وأبو عثمان الطنبذي، وأبو قيس مولى أبي هريرة، وآخرون كثيرون. قال البخاري: روى عنه نحو الثمانمائة من أهل العلم، وكان أحفظ من روى الحديث في عصره، قال وكيع في نسخته: حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، قال: كان أبو هريرة أحفظ أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأخرجه البغوي من رواية أبي بكر بن عياش، عن الأعمش بلفظ: ما كان أفضلهم، ولكنه كان أحفظ، وأخرج ابن أبي خيثمة، من طريق سعيد بن أبي الحسن، قال: لم يكن أحد من الصحابة أكثر حديثا من أبي هريرة، وقال الربيع: قال الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره، وقال أبو الزُّعَيزِعَة، كاتب مروان: أرسل مروان إلى أبي هريرة، فجعل يحدثه، وكان أجلسني خلف السرير،

أكتب ما يحدث به حتى إذا كان في رأس الحول، أرسل إليه فسأله، وأمرني أن أنظر، فما غَيّر حرفا عن حرف. وفي "صحيح البخاري" من طريق وهب بن منبه، عن أخيه همام، عن أبي هريرة، قال: لم يكن من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر حديثا مني، إلا عبد الله ابن عمرو، فإنه كان يكتب، ولا أكتب. وقال الحاكم، أبو أحمد -بعد أن حكى الاختلاف في اسمه ببعض تقدم- كان من أحفظ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وألزمهم له صحبة، على شبع بطنه، فكانت يده مع يده، يدور معه حيث دار، إلى أن مات، ولذلك كثر حديثه. وقد أخرج البخاري في "الصحيح" من طريق سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قلت: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: "لقد ظننت ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أوّل منك لما رأيت من حرصك على الحديث". وأخرج أحمد من حديث أبي بن كعب: أن أبا هريرة كان جريئا على أن يسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أشياء، لا يسأله عنها غيره. وقال أبو نعيم: كان أحفظ الصحابة لأخبار رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ودعا له بأن يحببه إلى المؤمنين، وكان إسلامه بين الحديبية وخيبر، قدم المدينة مهاجرًا وسكن الصُّفّة، وقال أبو معشر المدائني، عن محمد بن قيس قال: كان أبو هريرة يقول: لا تكنوني أبا هريرة، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كناني أبا هر، والذكر خير من الأنثى. وأخرجه البغوي بسند حسن عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، وقال عبد الرحمن بن أبي لبيبة: أتيت أبا هريرة، وهو آدم، بَعيدُ ما بين المنكبين، ذو ضفيرتين، أفرق الثنيتين. وأخرج ابن سعد من طريق قرة بن خالد، قلت لمحمد بن سيرين: أكان أبو هريرة مُخشوشنا؟ قال: لا، كان لينا، قلت: فما كان لونه؟ قال: أبيض، وكان يخضب، وكان يلبس ثوبين ممشقين، وتمخط يوما، فقال: بخ بخ، أبو هريرة يتمخط في الكتان. وقال أبو هلال عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: لقد رأيتني أُصرَع بين منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحجرة عائشة، فيقال: مجنون، وما بي جنون، زاد يزيد بن إبراهيم، عن محمد عنه: وما بي إلا الجوع، ولهذا الحديث طرقا في "الصحيح" وغيره، وفيها سؤال أبي بكر، ثم عمر عن آية، وقال: لعل أن يسبقني، فيفتح علي الآية، ولا يفعل. وقال داود بن

عبد الله، عن حميد الحميري: صحبت رجلا صحب النبي -صلى الله عليه وسلم- أربع سنين، كما صحبه أبو هريرة. وقال ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم: نزل علينا أبو هريرة بالكوفة، واجتمعت أحمس، فجاءوا ليسلموا عليه، فقال: مرحبا، صحبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث سنين، لم أكن أحرص على أن أعي الحديث مني فيهن. وقال البخاري: حدثنا أبو نعيم، حدثنا عمر بن ذر، حدثنا مجاهد، عن أبي هريرة قال: والله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد على الأرض بكبدي من الجوع، وأشد الحجر على بطني، فذكر قصة القدح واللبن. وقال أحمد: حدثنا عبد الرحمن هو ابن مهدي، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثني أبو كثير، حدثني أبو هريرة، قال: أما والله ما خلق الله مؤمنا يسمع بي، ولا يراني إلا أحبني، قال: وما علمك بذلك يا أبا هريرة؟ قال: إن أمي كانت مشركة، وإني كنت أدعوها إلى الإسلام، وكانت تأبى عليّ، فدعوتها يوما، فأسمعتني في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أكره، فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنا أبكي، فذكرت له، فقال: "اللهم اهد أم أبي هريرة"، فخرجت عدوا، فإذا بالباب مجاف، وسمعت خَضْخَضْةَ الماء، ثم فتحت الباب، فقالت: أشهد إن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فرجعت وأنا أبكي من الفرح، فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يحببني وأمي إلى المؤمنين، فدعا. وقال الجريري عن أبي بصرة، عن رجل من الطفاوة، قال: نزلت على أبي هريرة، قال: ولم أدرك من الصحابة رجلا أشد تشميرا، ولا أقوم على ضيف منه. وقال عمرو بن علي الفلاس: كان مقدمه عام خيبر، وكانت في المحرم سنة سبع، وفي "الصحيح" عن الأعرج قال: قال أبو هريرة: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والله الموعد، إني كنت امرأ مسكينا، أصحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فحضرت من النبي -صلى الله عليه وسلم- مجلسا، فقال: "من يبسط رداءه حتى أقضِي مقالتي، ثم يقبضه إليه، فلن ينسى شيئا سمعه مني"، فبسطت بردة علي حتى قَضَى حديثه، ثم قبضتها إلي، فوالذي نفسي بيده ما نسيت شيئا سمعته منه بعد. وأخرجه أحمد،

والبخاري، ومسلم، والنسائي من طريق الزهري، عن الأعرج، ومن طريق الزهري أيضا عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة، عن أبي هريرة، يزيد بعضهم على بعض. وأخرجه البخاري وغيره، من طريق سعيد المقبري عنه مختصرا: قلت: يا رسول الله إني لأسمع منك حديثا كثيرا أنساه، فقال: "ابسط رداءك"، فبسطته، ثم قال: "ضمه إلى صدرك"، فضممته، فما أنسيت حديثا بعد. وأخرج أبو يعلى من طريق الوليد بن جميع، عن أبي الطفيل، عن أبي هريرة قال: شكوت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سوء الحفظ، فقال: "افتح كساءك"، فذكر نحوه. وأخرج أبو نعيم من طريق عبد الله بن أبي يحيى، عن سعيد بن أبي هند، عن أبي هريرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: "ألا تسألني عن هذه الغنائم؟ " قلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله، قال: فنزع نمرة على ظهري، ووسطها بيني وبينه، فحدثني حتى إذا استوعبت حديثه، قال: "اجمعها، فصُرها إليك"، فأصبحت لا أسقط حرفا مما حدثني، وقد تقدمت طرق هذا الحديث الصحيحة، وله طرق أخرى، منها عند أبي يعلى من طريق يونس بن عبيد، عن الحسن، عن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من يأخذ مني كلمة، أو كلمتين، أو ثلاثا، فيصرهن في ثوبه، فيتعلمهن، ويعلمهن؟ " قال: فنشرت ثوبي، وهو يحدث، ثم ضممته، فأرجو ألا أكون نسيت حديثا مما قال. وأخرجه أحمد من طريق المبارك بن فضالة، عن الحسن نحوه، وفيه: فقلت: أنا، فقال: "ابسط ثوبك"، وفي آخره: فأرجو ألا أكون نسيت حديثا سمعته منه بعد ذلك. وأخرج ابن عساكر من طريق شعبة، عن سماك بن حرب، عن أبي الربيع، عن أبي هريرة: كنت عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، فبسطت ثوبي، ثم جمعته، فما نسيت شيئا بعد هذا، مختصر مما قبله. قال الحافظ: ووقع لي بيان ما كان حدث به النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه القصة، إن ثبت الخبر، فأخرج أبو يعلى من طريق أبي سلمة: جاء أبو هريرة، فسلم على النبي -صلى الله عليه وسلم-، في شكواه يعوده، فأذن له، فدخل، فسلم وهو قائم، والنبي -صلى الله عليه وسلم-، متساند إلى صدر علي، ويده على صدره ضامّه إليه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- باسط رجليه، فقال: "ادن يا أبا هريرة"، فدنا،

ثم قال: "ادن يا أبا هريرة"، ثم قال: "ادن يا أبا هريرة"، فدنا حتى مست أطراف أصابع أبي هريرة أصابع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال له: "اجلس"، فجلس، فقال له: "أدن مني طرف ثوبك"، فمد أبو هريرة ثوبه، فأمسك بيده، ففتحه، وأدناه من النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أوصيك يا أبا هريرة بخصال، لا تدعهن ما بقيت"، قال: أوصني ما شئت، فقال له: "عليك بالغسل يوم الجمعة، والبكور إليها، ولا تلغ، ولا تله، وأوصيك بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، فإنه صيام الدهر، وأوصيك بركعتي الفجر، لا تدعهما، وإن صليت الليل كله، فإن فيها الرغائب"، قالها ثلاثا، ثم قال: "ضم إليك ثوبك"، فضم ثوبه إلى صدره، فقال: يا رسول الله بأبي وأمي أسر هذا، أو أعلنه؟ قال: "أعلنه يا أبا هريرة"، قالها ثلاثا، والحديث المذكور من علامات النبوة، فإن أبا هريرة كان أحفظ الناس للأحاديث النبوية في عصره. وقال طلحة بن عبيد الله: لا أشك أن أبا هريرة سمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لم نسمع. وقال ابن عمر: أبو هريرة خير مني، وأعلم بما يحدث. وأخرج النسائي بسند جيد في "العلم" من "كتاب السنن الكبرى" [3/ 440]: أن رجلا جاء زيد بن ثابت، فسأله عن شيء، فقال له زيد: عليك بأبي هريرة، فإني بينما أنا وأبو هريرة وفلان في المسجد ذات يوم، ندعو الله، ونذكر ربنا، خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى جلس إلينا، فسكتنا، فقال: "عودوا للذي كنتم فيه"، قال زيد: فدعوت أنا وصاحبي، قبل أبي هريرة، وجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يؤمن على دعائنا، ثم دعا أبو هريرة، فقال: اللهم إني أسألك مثل ما سألك صاحباي هذان، وأسألك علما لا ينسى، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "آمين"، فقلنا: يا رسول الله ونحن نسأل الله علما لا ينسى، فقال: "سبقكم بها الغلام الدوسي". وأخرج الترمذي من طريق سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قلت: يا رسول الله إني أسمع منك أشياء لا أحفظها، قال: "ابسط رداءك"، فبسطته، فحدث حديثا كثيرا، فما نسيت شيئا حدثني به، وسنده صحيح، وأصله عند البخاري بلفظ: "فما نسيت شيئا سمعته بعدُ". وأخرج الترمذي أيضا عن عمر أنه قال لأبي هريرة: أنت

كنت ألزمنا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأحفظنا لحديثه. وعن الدراوردي، عن سعيد بن عبد العزيز، عن مكحول، قال: تواعد الناس ليلة إلى قبّة من قباب معاوية، فاجتمعوا فيها، فقام أبو هريرة يحدّثهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أصبح. وأخرج ابن سعد من طريق سالم مولى بني نصر، سمعت أبا هريرة، يقول: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع العلاء الحضرمي، فأوصاه بي خيرًا، فقال لي: "ما تحب؟ " قلت: أؤذن لك، ولا تسبقني بـ "آمين"، وأخرجه البخاري من طريق سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: حفظت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم. قال الحافظ الذهبيّ رحمه الله تعالى معلّقا على هذا الأثر: هذا دالّ على جواز كتمان بعض الأحاديث التي تحرّك فتنة في الأصول، أو الفروع، أو المدح والذمّ، أما حديث يتعلّق بحل، أو حرام، فلا يحلّ كتمانه بوجه، فإنه من البينات والهدى، وفي "صحيح البخاريّ" قول الإمام عليّ -رضي الله عنه-: "حدّثوا الناس بما يَعرفون، ودعوا ما يُنكرون، أتحبّون أن يكذّب الله ورسوله"، وكذا لو بثّ أبو هريرة -رضي الله عنه- ذلك الوعاء لأوذي، بل لقُتل، ولكن العالم قد يؤدّيه اجتهاده إلى أن ينشر الحديث الفلانيّ؛ إحياء للسنّة، فله ما نوى، وله أجر، وإن غلط في اجتهاده. انتهى (¬1). وعند أحمد من طريق يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، وقيل له: أكثرت، فقال: لو حدثنّكم بما سمعت لرميتموني بالقَشَع، أي الجلود. وفي "الصحيح" عن نافع قال: قيل لابن عمر حديث أبي هريرة، أن من اتبع جنازة، فصلى عليها فله قيراط ... الحديث، فقال: أكثر علينا أبو هريرة، فسأل عائشة، فصدقته، فقال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة. وأخرج البغوي بسند جيد، عن الوليد بن عبد الرحمن، عن ابن عمر أنه قال لأبي هريرة: أنت كنت ألزمنا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأعلمنا ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" 2/ 597 - 598.

بحديثه. وأخرج ابن سعد بسند جيد، عن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، قال: قالت عائشة لأبي هريرة: إنك لتحدث بشيء ما سمعته، قال: يا أمه طلبتها، وشغلك عنها المكحلة والمرآة، وما كان يشغلني عنها شيء، والأخبار في ذلك كثيرة. وأخرج البيهقي في "المدخل" من طريق بكر بن عبد الله، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، أنه لقي كعبا، فجعل يحدثه ويسأله، فقال كعب: ما رأيت رجلا لم يقرأ التوراة أعلم بما في التوراة من أبي هريرة. وأخرج أحمد من طريق عاصم بن كليب، عن أبيه، سمعت أبا هريرة يبتدىء حديثه بأن يقول: قال رسول الله الصادق المصدوق، أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم-: "من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". وأخرج مسدد في "مسنده" من رواية معاذ بن المثنى، عن خالد، عن يحيى بن عبيد الله، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: بلغ عمر حديثي، فقال لي: كنت معنا يوم كنا في بيت فلان؟ قلت: نعم، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال يومئذ: "من كذب علي ... " الحديث، قال: اذهب الآن فحدث. قال الذهبيّ: يحيى ضعيف. وعن سعيد بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عُبيد الله، عن السائب بن يزيد، سمع عمر يقول لأبي هريرة: لتتركنّ الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو لأُلحقنك بأرض دوس، وقال لكعب: لتتركن الحديث، أو لألحقنك بأرض الْقِرَدة. وعن يحيى بن أيوب، عن ابن عجلان أن أبا هريرة كان يقول: إني لأحدث أحاديث، لو تكلمت بها في زمن عمر لشُجّ رأسي. قال الحافظ الذهبي: هكذا كان عمر -رضي الله عنه- يقول: أقلوا الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وزجر غير واحد من الصحابة عن بثّ الحديث، وهذا مذهب لعمر ولغيره، فبالله عليك إذا كان الإكثار من الحديث في دولة عمر، بل هو غضّ لم يُشَب، فما ظنك بالإكثار من رواية الغرائب، والمناكير في زماننا مع طول الأسانيد، وكثرة الوهم والغلط، فبالحريّ أن نزجُر القوم عنه، فيا ليتهم يقتصرون على رواية الغريب والضعيف، بل يروون والله -الموضوعات والأباطيل، والمستحيل في الأصول

والفروع، والملاحم والزهد، نسأل الله العافية، فمن روى ذلك مع علمه ببطلانه، وغرّ المؤمنين، فهذا ظالم لنفسه، جان على السنن والآثار، يستتاب من ذلك، فإن أناب وأقصر، وإلا فهو فاسق كفى به إثمًا أن يحدّث بكل ما سمع، وإن هو لم يعلم، فليتورّع، وليستعن بمن يُعينه على تنقية مروياته، نسأل الله العافية، فلقد عمّ البلاء، وشملت الغفلة، ودخل الداخل على المحدثين الذين يركن إليهم المسلمون، فلا عُتبى على الفقهاء وأهل الكلام. انتهى كلام الذهبيّ (¬1). وأخرج مسدد من طريق عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، كان ابن عمر إذا سمع أبا هريرة يتكلم قال: إنا نعرف ما يقول، ولكنا نجبُن ويجترىء. وفي "فوائد المزكى"، تخريج الدارقطني من طريق عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رفعه: "إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه"، فقال له مروان: أما يكفي أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى يضطجع؟ قال: لا، فبلغ ذلك ابن عمر، فقال: أكثر أبو هريرة، فقيل لابن عمر: هل تنكر شيئا مما يقول؟ قال: لا، ولكنه اجترأ وجبنا، فبلغ ذلك أبا هريرة، فقال: ما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا. وقد أخرج أبو داود الحديث المرفوع. وأخرج ابن سعد من طريق الوليد بن رباح، سمعت أبا هريرة يقول لمروان حين أرادوا أن يدفنوا الحسن عند جده: تدخل فيما لا يعنيك؟ وكان الأمير يومئذ غيره، ولكنك تريد رضا الغائب، فغضب مروان، وقال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة الحديث، وإنما قدم قبل وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيسير، فقال أبو هريرة: قدمت ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخيبر، وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين، فأقمت معه حتى مات، أدور معه في بيوت نسائه، وأخدمه، وأغزو معه، وأحج، فكنت أعلم الناس بحديثه، وقد والله سبقني قوم بصحبته، فكانوا يعرفون لزومي له، فيسألونني عن حديثه، منهم عمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، ولا والله لا يخفى ¬

_ (¬1) راجع "سير أعلام النبلاء" 2/ 601 - 602.

علي كل حديث كان بالمدينة، وكل من كانت له من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منزلة، ومن أخرجه من المدينة أن يساكنه، قال: فوالله ما زال مروان بعد ذلك كافا عنه. وأخرج ابن أبي خيثمة من طريق ابن إسحاق، عن عمر، أو عثمان بن عروة عن أبيه، قال: قال: أبي أدنني من هذا اليماني -رضي الله عنه -يعني أبا هريرة -رضي الله عنه- فإنه يكثر، فأدنيته، فجعل يحدث، والزبير يقول: صدق، كذب، فقلت: ما هذا؟ قال: صدق أنه سمع هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن منها ما وضعه في غير موضعه. وتقدم قول طلحة: قد سمعنا كما سمع، ولكنه حفظ ونسينا. وفي "فوائد تمام" من طريق أشعث بن سليم، عن أبيه، سمعت أبي يحدث عن أبي هريرة، فسألته، فقال: إن أبا هريرة سمع. وأخرج أحمد في "الزهد" بسند صحيح، عن أبي عثمان النهدي، قال: تضيفت أبا هريرة سبعا، فكان هو وامرأته وخادمه، يقسمون الليل أثلاثا، يصلي هذا ثم يوقظ هذا. وأخرج ابن سعد بسند صحيح عن عكرمة، أن أبا هريرة كان يسبح كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة، يقول: أسبح بقدر ديتي (¬1). وفي "الحلية" من تاريخ أبي العباس السراج بسند صحيح، عن مضارب بن حزن، كنت أسير من الليل، فإذا رجل يكبر، فلحقته، فقلت: ما هذا؟ قال: أكثر شكر الله علي أن كنت أجيرا لبسرة بنت غزوان لنفقة رحلي، وطعام بطني، فإذا ركبوا سبقت بهم، وإذا نزلوا خدمتهم، فزوجنيها الله، فأنا أركب، وإذا نزلت خُدِمت. وأخرجه ابن خزيمة من هذا الوجه، وزاد: وكانت إذا أتت على مكان سهل نزلت، فقالت: لا أَرِيم حتى تجعل لي عصيدة، فها أنا إذا أتيت على نحو من مكانها، قلت: لا أريم حتى تجعلي لي عصيدة. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين: أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين، فقدم بعشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال، فمن أين لك؟ قال: خيل نُتجت، وأعطية تتابعت، وخراج ¬

_ (¬1) هكذا في "سير أعلام النبلاء" "ديتي"، ووقع في "الإصابة" وغيرها بلفظ "ذنبي"، والظاهر أنه مصحّف.

رقيق لي، فنظر فوجدها كما قال، ثم دعاه ليستعمله، فأبى، فقال: لقد طلب العمل من كان خيرا منك، قال: ومن؟ قال: يوسف عليه السلام، قال: إن يوسف نبي الله ابن نبي الله، وأنا أبو هريرة ابن أميمة، وأخشى ثلاثا أن أقول بغير علم، أو أقضي بغير حكم، ويضرب ظهري، ويشتم عرضي، وينزع مالي. وأخرج ابن أبي الدنيا في "كتاب المزاح"، والزبير بن بكار فيه، من طريق ابن عجلان، عن سعيد، عن أبي هريرة: أن رجلا قال له: إني أصبحت صائما، فجئت أبي، فوجدت عنده خبزا ولحما، فأكلت حتى شبعت، ونسيت أني صائم، فقال أبو هريرة: الله أطعمك، قال: فخرجت حتى أتيت فلانا، فوجدت عنده لقحة تحلب، فشربت من لبنها حتى رويت، قال: الله سقاك، قال: ثم رجعت إلى أهلي فقِلتُ، فلما استيقظت دعوت بماء فشربته، فقال. يا ابن أخي أنت لم تعود الصيام. وأخرج ابن أبي الدنيا في "المحتضرين" بسند صحيح، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: دخلت على أبي هريرة، وهو شديد الوجع، فاحتضنته، فقلت: اللهم اشف أبا هريرة، فقال: اللهم لا ترجعها، قالها مرتين، ثم قال: إن استطعت أن تموت فمت، والله الذي نفس أبي هريرة بيده، ليأتين على الناس زمان، يمر الرجل على قبر أخيه، فيتمنى أنه صاحبه. وقد جاء هذا الحديث مرفوعا، عن أبي هريرة. وعن عمير بن هانئ، قال: كان أبو هريرة يقول: تشبثوا بصدغي معاوية، اللهم لا تدركني سنة ستين. وأخرج أحمد، والنسائي بسند صحيح، عن عبد الرحمن بن مهران، عن أبي هريرة، أنه قال حين حضره الموت: لا تضربوا عليّ فسطاطا، ولا تتبعوني بمجمرة، وأسرعوا بي. وأخرج أبو القاسم بن الجراح في "أماليه" من طريق عثمان الغطفاني، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: إذا مت فلا تنوحوا علي، ولا تتبعوني بمجمرة، وأسرعوا بي. وأخرج البغوي من وجه آخر عن أبي هريرة، أنه لما حضرته الوفاة بكى، فسئل، فقال: من قلة الزاد، وشدة المفازة. وأخرج ابن أبي الدنيا من طريق مالك، عن سعيد المقبري، قال: دخل مروان على أبي هريرة، في شكواه الذي مات فيه -

فقال: شفاك الله، فقال أبو هريرة: اللهم إني أحب لقاءك، فأحبب لقائي، فما بلغ مروان -يعني وسط السوق- حتى مات. وقال ابن سعد عن الواقدي: حدثني ثابت بن قيس، عن ثابت ابن مِسحل قال: صلى الوليد بن عقبة بن أبي سفيان، على أبي هريرة بعد أن صلى بالناس العصر، وفي القوم ابن عمر، وأبو سعيد الخدري، قال: وكتب الوليد إلى معاوية يخبره بموته، فكتب إليه انظر من ترك، فادفع إلى ورثته عشرة آلاف درهم، وأحسن جوارهم، فإنه كان ممن نصر عثمان يوم الدار. قال أبو سليمان ابن زَبْر في "تاريخه": عاش أبو هريرة ثمانيا وسبعين سنة. قال الحافظ: وكأنه مأخوذ من الأثر المتقدم عنه، أنه كان في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ابن ثلاثين سنة، وأزيد من ذلك، وكانت وفاته بقصره بالعقيق، فحمل إلى المدينة، قال هشام بن عروة، وخليفة، وجماعة: توفي أبو هريرة سنة سبع وخمسين، وقال الهيثم بن عدي، وأبو معشر، وضمرة بن ربيعة: مات سنة ثمان وخمسين، وقال الواقدي، وأبو عبيد، وغيرهما: مات سنة تسع وخمسين، وزاد الواقدي: وصلى على عائشة في رمضان سنة ثمان، وعلى أم سلمة في شوال سنة تسع، ثم توفي بعد ذلك. قال الحافظ: وهذا الذي قاله في أم سلمة وَهَلٌ منه، وإن تابعه عليه جماعة، فقد ثبت في "الصحيح" ما يدل على أن أم سلمة عاشت إلى خلافة يزيد بن معاوية، والمعتمد في وفاة أبي هريرة قول هشام بن عروة (¬1). أخرج له الجماعة. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: إنما أطلت في ترجمة أبي هريرة -رضي الله عنه- لما في سيرته العطرة مما يتناسب مع ما يحتاج إليه طالب العلم، فإنه قد تبيّن مما ذُكر أنه -رضي الله عنه- كان حريصًا على طلب العلم، ومقبلا عليه، متفرّغًا له، لا يشغله بيع ولا زراعة، ولا أهل، ولا مال، فبذل كل ما في وسعه لطلبه، ولم يقتصر على بذل الجهد فقط، بل شكى إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ما يواجهه من مشكلة النسيان، فعالج -صلى الله عليه وسلم- ذلك بدعوته المباركة، فأزال الله عز وجل ¬

_ (¬1) راجع "الإصابة" 12/ 63 - 79 و"تهذيب الكمال" 34/ 366 - 379، و"سير أعلام النبلاء" 2/ 578 - 632 و"تهذيب التهذيب" 4/ 601 - 603.

عنه تلك المشكلة، وفتح الله عز وجل عليه في وقت قصير ما لم يفتح على غيره في زمن طويل، فكان أحفظ الصحابة، فأبقى للأمة ذخرًا كثيرًا من الأحاديث التي تعلقت بها السعادة الدنيوية، والأخروية، وهكذا ينبغي لطالب العلم أن يتفرغ له، وأن يبذل كل ما عنده من جهد، ومال، وصحة لطلبه، وأن يكثر من الدعاء حتى يفتح الله عز وجل عليه في أقرب وقت ما يكون له وللأمة سببا لسعادة الدارين، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علمًا، آمين. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن أبا هريرة -رضي الله عنه- أكثر من روى الحديث في دهره، وهو رئيس المكثرين السبعة من الصحابة -رضي الله عنهم-، والمكثر من روى فوق الألف، وهم الذين جمعتهم مرتّبًا بقولي: المُكْثِرُونَ في رِوَايةِ الخُبَر ... مِنَ الصَّحَابَةِ الأكارِم الْغُرَرْ أبو هُرَيْرَةَ يَليه ابْنُ عُمَرْ ... فَأنَسٌ فَزَوْجَةُ الهادي الأَبَرْ ثُمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ يَلِيهِ جَابِرُ ... وَبَعْدَهُ الخُدْرِيُّ فَهْوَ الآخِرُ فأما أبو هريرة -رضي الله عنه- فروى (5374) حديثًا، اتفق الشيخان على (326) وانفرد البخاريّ (93) ومسلم (98) (¬1). وأما ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فروى (2630) اتفقا على (170) وانفرد البخاريّ (81) ومسلم (31). وأما أنس بن مالك -رضي الله عنه-، فروى (2286)، اتفقا على (168) وللبخاريّ (83) ولمسلم (71). وأما عائشة رضي الله تعالى عنها، وهي المرادة بقولي: "فزوجة الهادي الأبرّ"، فروت (2210) اتفقا على (174) وللبخاريّ (54) ولمسلم (68). وأما ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، فروى ¬

_ (¬1) هكذا في "سير أعلام النبلاء" 2/ 632 والذي في "خلاصة الخزرجي" أن المتفق عليه (325) وما للبخاريّ (79) وما لمسلم (93) فليحرر.

(1696)، اتفقا على (75) وللبخاري (28) ولمسلم (49). وأما جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، فروى (1540) اتفقا على (58) وللبخاريّ (26) ولمسلم (126). وأما أبو سعيد الخدريّ، وهو المراد بقولي "الخدريّ"، فروى (1170) اتفقا على (43) وللبخاريّ (26) ولمسلم (52). والله تعالى أعلم. 3 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: الأعمش، عن أبي صالح. (ومنها): أن الأعمش من المكثرين في الرواية عن أبي صالح، يقال: سمع منه ألف حديث، قاله الخزرجيّ في "الخلاصة" ص 112. 4 - (ومنها): أن فيه التحديث، والعنعنة، وكلاهما من صيغ الاتصال على الأصحّ في "عن" من غير المدلّس، بشرطه، وهو السماع عند البخاريّ وغيره، وهو الراجح، والمعاصرة مع إمكان اللقيّ عند مسلم، وقد حقّقت هذا البحث، واستوفيته في "شرح مقدّمة مسلم"، فراجعه، تستفد علمًا جمًّا؟، ومثلها "أنَّ"، وقد أشار إلى ذلك السيوطيّ رحمه الله تعالى في "ألفيّة الحديث" حيث قال: وَمَنْ رَوَى بِـ "عَنْ "وَ"أَن" فَاحْكُمِ ... بِوَصْلِهِ إِنِ اللِّقَاءُ يُعْلَم وَلَمْ يَكُنْ مُدَلِّسًا وَقِيلَ لاَ ... وَقِيلَ "أَنَّ" اقْطَعْ وَأَمَّا "عَنْ" صِلاَ وَمُسْلِمٌ يَشرِطْ تَعَاصُرًا فَقَطْ ... وَبَعْضُهُمْ طُولَ صَحَابَةٍ شَرَطْ وقوله: "إن اللقاء يعلم" أي مع السماع، فليس اللقاء كافيًا في ذلك، وأما ما اشتهر من أن اللقاء المجرد عن السماع هو الشرط عند البخاريّ، ومن قال بقوله، وهم الجمهور، فليس بصحيح، بل هم يشترطون السماع مع اللقاء، وقد حَقَّقْتُ ذلك في الشرح المذكور، وبالله تعالى التوفيق. 5 - (ومنها): أن ثلاثة من رجاله ممن اشتهر بكنيته، أبو بكر، وأبو صالح، وأبو هريرة. 6 - (ومنها): أن كنية أبي هريرة ليست كنية حقيقيَّة، وإنما هي لقب بصورة

الكنية، وإنما لقّب به لأجل هرّة كانت معه، فقد أخرج الترمذيّ، وحسّنه عن عبد الله ابن رافع، قال: قلت لأبي هريرة: لم كنّوك أبا هريرة؟ قال: أما تفرَق منّي؟ قلت: بلى إني لأهابك، قال: كنت أرعى غنما لأهلي، فكانت لي هُريرة صغيرة، فكنت أضعها بالليل في شجرة، فإذا كان النهار ذهبت بها معي، فلعبت بها، فكنوني أبا هريرة. وعن أبي معشر نجيح، عن محمد بن قيس، قال: كان أبو هريرة يقول: لا تكنوني أبا هريرة، كناني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا هِرّ، قال: "ثكلتك أمك أبا هرّ"، والذكر خير من الأنثى. وعن كثير ابن زيد، عن الوليد بن رباح أن أبا هريرة كان يقول: كان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يدعوني أبا هرّ (¬1). 7 - (ومنها): أن الأعمش ممن اشتهر بلقبه، وأصل العمش في اللغة سيلان دمع العين، مع ضعف البصر، يقال: عمِشت العين، من باب تعِب: إذا سال دمعها في أكثر الأوقات، مع ضعف البصر، فالرجل أعمش، والأنثى عَمشاء، والجمع عُمْش بضم، فسكون، كحُمر، جمع أحمر وحمراء، كما قال في "الخلاصة": فُعْلٌ لِنَحْوِ أحْمَر وَحَمْرَا ... وَفُعْلَةٌ جَمعًا بِنَقْلٍ يُدْرَى [تنبيهات]: (الأول): اختلف في أبي هريرة، هل هو منصرف، أم لا؟، قال القاري في "المرقاة": جرّ أبي هريرة بالكسر هو الأصل، وصوّبه جماعة؛ لأنه جزء علم، واختار آخرون منع صرفه، كما هو الشائع على ألسنة العلماء، من المحدّثين، وغيرهم؛ لأن الكلّ صار كالكلمة الواحدة. انتهى. قال المباركفوريّ: الراجح منعه من الصرف، ويؤيّده منع صرف "ابن داية" علمًا للغراب، قال قيس بن الملوّح، مجنون ليلى [من الطويل]: أَقُولُ وَقَدْ صَاحَ ابْنُ دَايَةَ غَدْوَةً ... بِبُعْدِ النَّوَى لاَ أَخْطَأتكَ الشَّبَائِكُ قال القاضي البيضاويّ في "تفسيره" في قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]: ما نصّه: "رمضان" مصدر رَمض: إذا احترق، فأضيف ¬

_ (¬1) انظر "سير أعلام النبلاء" 2/ 587.

إليه "شهر"، وجُعل علمًا، ومنع من الصرف للعلميّة والألف والنون، كما مُنع "داية" في "ابن داية" علما للغراب؛ للعلمية والتأنيث. انتهى "تحفة الأحوذيّ" 1/ 32. (التنبيه الثاني): قال العلامة المباركفوريّ رحمه الله تعالى: قد تفوّه بعض الفقهاء الحنفيّة بأن أبا هريرة لم يكن فقيها، وقوله هذا باطل، مردود عليهم، وقد صرّح أجلّة العلماء الحنفية بأنه -رضي الله عنه- كان فقيهًا، قال صاحب "السعاية شرح الوقاية": وهو من العلماء الحنفيّة ردّا على من قال منهم: إن أبا هريرة غير فقيه ما لفظه: كون أبي هريرة غير فقيه، غير صحيح، بل الصحيح أنه من الفقهاء الذين كانوا يُفتون في زمان النبيّ -صلى الله عليه وسلم-كما صرّح به ابن الهمام في "تحرير الأصول"، وابن حجر في "الإصابة". انتهى. وفي بعض حواشي "نور الأنوار" أن أبا هريرة كان فقيها، صرّح به ابن الهمام في "التحرير"، كيف وهو لا يعمل بفتوى غيره؟ وكان يفتي في زمن الصحابة -رضي الله عنه-، وكان يعارض أجلة الصحابة، كابن عباس، فإنه قال: إن عدة الحامل المتوفّى عنها زوجها أبعد الأجلين، فرده أبو هريرة، وأفتى بأن عدتها وضع الحمل، كذا قيل. انتهى. وقال الحافظ الذهبيّ رحمه الله تعالى في "التذكرة": أبو هريرة الدوسي اليمانيّ الفقيه، صاحب رسول الله -رضي الله عنه-، كان من أوعية العلم، ومن كبار أئمة الفتوى، مع الجلالة، والعبادة، والتواضع. انتهى. وقال الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى في "إعلام الموقّعين": ثم قام بالفتوى بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بَرْكُ الإسلام (¬1)، وعصابة الإيمان، وعسكر القرآن، وجند الرحمن، أولئك أصحابه -صلى الله عليه وسلم-، وكانوا بين مكثر منها، ومقلّ، ومتوسّط، وكان المكثرون منهم سبعة: عمر بن الخطاب، وعليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهم-. ¬

_ (¬1) برك الجمل: بفتح، فسكون: صدره، والمراد به هنا صدر الإسلام، أي متقدّموا الإسلام، ورؤساؤه.

والمتوسطون منهم فيما رُوي عنهم من الفُتْيَا: أبو بكر الصديق، وأم سلمة، وأنس ابن مالك، وأبو سعيد الخدريّ، وأبو هريرة ... -رضي الله عنه- الخ، فلا شك في أن أبا هريرة -رضي الله عنه- كان فقيها من فقهاء الصحابة -رضي الله عنهم-، ومن كبار أئمة الفتوى. [فإن قيل]: قال إبراهيم النخعي أيضًا: إن أبا هريرة لم يكن فقيها، والنخعي من فقهاء التابعين. [قلت]: قد نُقم على إبراهيم النخعي لقوله: إن أبا هريرة لم يكن فقيها، قال الحافظ الذهبيّ في "الميزان" في ترجمته: وكان لا يُحكم العربية، ربما لحن، ونقموا عليه قوله: لم يكن أبو هريرة فقيهًا. انتهى. وقال القاضي أبو بكر بن العربي في "عارضة الأحوذيّ" في حديث المصرّاة المرويّ عن أبي هريرة، وابن عمر -رضي الله عنهم-: قال بعضهم: هذا الحديث لا يُقبل؛ لأنه يرويه أبو هريرة، وابن عمر، ولم يكونا فقيهين، وإنما كانا صالحين، فروايتهما إنما تقبل في المواعظ، لا في الأحكام. وهذه جرأة على الله، واستهزاء في الدين عند ذهاب حملته، وفقد نَصَرَته، ومن أفقه من أبي هريرة، وابن عمر -رضي الله عنهم-؟، ومن أحفظ منهما؟ خصوصًا من أبي هريرة، وقد بسط رداءه، وجمعه النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وضمه إلى صدره، فما نسي شيئًا أبدًا، ونسأل الله المعافاة من مذهب لا يثبت إلا بالطعن علي الصحابة -رضي الله عنهم-، ولقد كنت في جامع المنصور من مدينة السلام في مجلس عليّ بن محمد الدامغانيّ، قاضي القضاة، فأخبرني به بعض أصحابنا، وقد جرى ذكر هذه المسألة أنه تكلم فيها بعضهم يومًا، وذكر هذا الطعن في أبي هريرة، فسقطت من السقف حية عظيمة في وسط المسجد، فأخذت في سمت المتكلم بالطعن، ونفر الناس، وارتفعوا، وأخذت الحية تحت السواري، فلم يُدر أين ذهبت، فارعوَى من بعد ذلك من الترسّل في هذا القدح. اهـ. انتهى "تحفة الأحوذي" 1/ 32 - 33.

وقال الحافظ الذهبيّ رحمه الله تعالى في "سير أعلام النبلاء" (¬1): قال الحافظ أبو سعد السمعانيّ: سمعت أبا المعمر المبارك بن أحمد، سمعت أبا القاسم يوسف بن عليّ الزنجانيّ الفقيه، سمعت الفقيه أبا إسحاق الفيروزابادي، سمعت القاضي أبا الطيب يقول: كنا في مجلس النظر بجامع المنصور، فجاء شابّ خُراساني، فسأل عن مسألة المصرّاة، فطالب بالدليل، حتى استدلّ بحديث أبي هريرة الوارد فيها، فقال -وكان حنفيًّا-: أبو هريرة غير مقبول الحديث، فما استتمّ كلامه، حتى سقط عليه حيّة عظيمة من سقف الجامع، فوثب الناس من أجلها، وهرب الشابّ منها، وهي تتبعه، فقيل له: تُبْ، تُبْ، فقال: فغابت الحية، فلم يُر لها أثر. إسنادها أئمة. انتهى "سير أعلام النبلاء" 2/ 618 - 619. والله تعالى أعلم. (التنبيه الثالث): يجوز التلقيب بالأعمش، ونحوه من الألقاب التي فيها نقص، إذا اشتهر بها الشخص، وإن كان يكره ذلك بقصد تعريفه، لا تعييره؛ للضرورة، وأما النهي الوارد في آية: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات: 11] فمحمول على ما إذا كان للتعيير، كما هو المتعارف عند عوامّ الناس أنهم يلقّبون الشخص بما فيه من العيوب، كالعور، والعمَش، والعرَج، فنهي عن ذلك، وأما بعد أن اشتهر، ولا يُعرف إلا به، فيجوز؛ لما ذكرناه، وإليه أشار الحافظ السيوطيّ في "ألفية الحديث"، حيث قال: وَذِكْرُهُ بِالْوَصْفِ أَوْ بِاللَّقَبِ ... أَوْ حِرْفَةٍ لاَ بَأْسَ إِنْ لَمْ يَعِب (التنبيه الرابع): عدد ما رواه المصنّف رحمه الله تعالى من الأحاديث في هذا الكتاب لأبي هريرة (631) ولأبي صالح (136) وللأعمش (260) ولشريك النخعيّ (76) ولشيخه أبي بكر بن أبي شيبة (1098). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فخذوه) أي ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" 2/ 618 - 619.

تمسّكوا به. و"ما" في الموضعين شرطيّة، أو موصولة مبتدأ، وجوابها، أو خبرها قوله: "فخذوه"، ودخلت الفاء في الخبر؛ لمشابهة "ما" الموصولة للشرطية في العموم، والوجه الأول أولى. قال السنديّ رحمه الله تعالى: وما في الموضعين شرطية، كما ذكر السيوطيّ هذا الاحتمال؛ لأن الشرطية أظهر معنى، وفي الموصولة يلزم وقوع الجملة الإنشائية خبرًا، وهو مما اختلفوا فيه، وكثير منهم على أنه لا يصحّ إلا بتأويل، بخلاف الشرطية، فإن المحققين على أن خبرها جملة الشرط، لا الجزاء. انتهى. فقوله: "ما أمرتكم به" يعم أمر الإيجاب، والندب، وقوله: "فَخُذُوهُ" لمطلق الطلب الشامل للوجوب والندب، فينطبق على القسمين، وقيل: هذا مخصوص بأمر الوجوب. وسيأتي مزيد بسط لذلك في شرح الحديث التالي، إن شاء الله تعالى. [تنبيه]: المراد بالأمر هنا هو الأمر الذي يتعلّق بالدين، وأما ما يتعلق بأمر الدنيا، فليس كذلك؛ لأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إنما جاء لبيان الأمور الدينيّة، لا الأمور الدنيويّة؛ لما أخرجه أحمد، في "مسنده رقم 24399"، ومسلم في "صحيحه"، والمصنّف في "كتاب الأحكام" 2471، كما سيأتي، من حديث عائشة، وأنس رضي الله تعالى عنهما: أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مرّ بقوم يُلقّحون، فقال: "لو لم تفعلوا لصلح"، قال: فخرج شِيصًا، فمرّ بهم، فقال: "ما لنخلكم؟ "، قالوا: قلت: كذا وكذا، قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم". ولفظ أحمد في "مسنده"، والمصنّف في "كتاب الأحكام": أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- سمع أصواتًا، فقال: "ما هذا الصوت؟ "، قالوا: النخل يُؤبِّرونها، فقال: "لو لم يفعلوا لصلح"، فلم يؤبّروا عامئذ، فصار شِيصًا، وذكروا للنبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "إن كان شيئًا من أمر دنياكم، فشأنكم به، وإن كان من أمور دينكم فإليّ". فدل هذا النصّ على أن أمر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- الذي يجب امتثاله، والذي جاء التحذير الشديد في قوله عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وقوله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ

وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]، هو ما كان أمرًا دينيًّا، لا الأمور الدنيوية، فإن الإنسان يُخَيَّر فيها، كما أرشد إليه بقوله: "فشأنكم به"، والله تعالى أعلم. (وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ) يعم نهي التحريم، والتَّنْزِيه، وكذا الطلب في قوله: (فَانْتَهُوا) أي اتركوه، يعم القسمين. ثم الخطاب، وإن كان للحاضرين، فيعم الغائبين أيضًا؛ لأن رسالته -صلى الله عليه وسلم- للجميع، كما بيّنه الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]. قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث -كما قال الحافظ ابن عساكر في "الأطراف"-: مختصر من الحديث الذي بعده، وسيأتي تمام شرحه، وبيان مسائله هناك، إن شاء الله تعالى. وهو حديث صحيح. [فإن قيل]: كيف يصحّ، وفي إسناده شريك القاضي، وهو متكلم فيه، كما سبق في ترجمته؟. [أجيب]: بأنه لم ينفرد به، بل تابعه عليه جرير بن عبد الحميد، كما سيأتي في الحديث الذي بعده، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله -المذكور أول الكتاب- قال: 2 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، قَالَ: أنبأنا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "ذَرُونِي مَا تركْتكُمْ، فَإِنَّما هَلَكَ مَنْ كانَ قَبْلَكمْ بسُؤَالهِمْ، وَاختِلَافِهِمْ عَلَى أنبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أمرتكمْ بِشيءٍ فَخُذُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نهَيْتكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَانْتَهُوا"). رجال هذا الإسناد: خمسة، وقد تقدّموا غير: 1 - (محمد بن الصبّاح) بن سفيان بن أبي سفيان الجْرْجَرَائيّ، أبي جعفر التاجر مولى عمر بن عبد العزيز، صدوقٌ [10].

رَوَى عن حفص بن غياث، وعائذ بن حبيب، وجرير، وحاتم بن إسماعيل، وإسحاق الأزرق، وابن عيينة، وحماد بن خالد، وزكرياء بن منظور، وعباد بن العوام، وعبد الرحمن بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن رجاء المكي، وسعيد بن مسلمة الأموي، وعبد العزيز بن أبي حازم، وعبد العزيز بن الخطاب، والدراوردي، وعلي بن ثابت الجزري، وعمار بن محمد، ومحمد بن سلمة، ومحمد بن سليمان بن الأصبهاني، ومروان بن معاوية، وهشيم، والوليد بن مسلم، والقطان، ويحيى بن سليمان، وأبي بكر ابن عياش، ومعمر بن سليمان الرقي، ويزيد بن هارون، ويعقوب بن الوليد المدني، وخلق. وروى عنه أبو داود، وابن ماجه، وابنه جعفر بن محمد بن الصباح، وأبو زرعة الرازي، وموسى بن هارون، وجعفر الفريابي، والحسين بن إسحاق التستري، وإسحاق بن إبراهيم المنجنيقي، والقاسم بن زكريا المطرز، ومحمد بن صالح بن ذُرَيح، ومحمد بن إسحاق الثقفي السراج، وغيرهم. قال أحمد بن محمد بن القاسم بن محرز: سألت ابن معين عنه؟ فقال: ليس به بأس، قلت: وعنده عن الوليد بن مسلم كتاب صالح، وعن ابن عيينة حديث كثير، فقال: ليس به بأس. وقال يعقوب بن شيبة: ذُكر ليحيى بن معين ابن الصباح يعني الجرجرائي -فقال يحيى: حدث بحديث منكر، عن علي بن ثابت، عن إسرائيل، عن ابن أبي ليلى، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا: "صنفان ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة، والقدرية"، قال يعقوب: وهذا حديث منكر جدا من هذا الوجه، كالموضوع، وإنما يرويه علي بن نزار، شيخ ضعيف، واهي الحديث، عن ابن عباس رضي الله عنهما يعني بواسطة عكرمة- قال: ولم يذكر يحيى محمد بن الصباح هذا بسوء. وقال أبو زرعة، ومحمد بن عبد الله الحضرمي: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، والدولابي أحب إلي منه. قال البخاري، وابن حبان في "الثقات"، والبغوي: مات سنة أربعين ومائتين. تفرد به أبو داود، والمصنّف. [تنبيهات]. (الأول): الجَرْجَرَائيّ -بجيمين مفتوحتين، بينهما راء ساكنة، ثم راء خفيفة: نسبة

إلى جرجرايا بلدة قريبة من دجلة بين بغداد وواسط. قاله في "اللباب" 1270. (الثاني): جملة ما رواه المصنّف لشيخه محمد بن الصباح هذا في هذا الكتاب (146) حديثًا. (الثالث): محمد بن الصباح في الكتب الستة اثنان: [أحدهما]: هذا، وهو من أفراد أبي داود، والمصنف، كما سبق آنفًا. [والثاني]: محمد بن الصباح أبو جعفر الدولابيّ البغداديّ الثقة الحافظ [10] من رجال الجماعة. والفرق بينهما أن الأول يروي عنه المصنف بلا واسطة، وقد أكثر عنه، والثاني روى عنه بواسطة محمد بن يحيى الذهليّ في موضع واحد برقم (193) وليس له عنده غيره، وكذا لا يروي عنه الترمذيّ، والنسائيّ إلا بواسطة، وإنما يروي عنه مباشرة البخاريّ، ومسلم، وأبو داود. والله تعالى أعلم. 2 - (جرير) بن عبد الحميد بن قُرْط -بضم القاف، وسكون الراء، بعدها طاء مهملة- الضبي، أبو عبد الله الرازي القاضي، وُلد بقرية من قرى أصبهان، ونشأ بالكوفة، ونزل الرَّيّ. رَوَى عن عبد الملك بن عمير، وأبي إسحاق الشيباني، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وسليمان التيمي، والأعمش، وعاصم الأحول، وسهيل بن أبي صالح، وخلق كثير. وروى عنه إسحاق بن راهويه، وابنا أبي شيبة، وقتيبة، وعبدان المروزي، وأبو خيثمة، ومحمد بن قدامة بن أعين المصيصي، ومحمد بن قدامة الطوسي، ومحمد بن قدامة ابن إسماعيل السلمي النجاري، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، ويحيى بن يحيى، ويوسف بن موسى القطان، وأبو الربيع الزهراني، وعلي بن حجر، وجماعة. وقال محمد بن سعد: كان ثقة يُرحل إليه وقال ابن عمار الموصلي: حجة، كانت كتبه صحاحا. وقال محمد بن عموو زُنيج: سمعت جريرا قال: رأيت ابن أبي نَجيح، وجابرا الجعفي، وابن جريج، فلم أكتب عن واحد منهم، فقيل له: ضيعت يا أبا عبد

الله، فقال: لا، أما جابر فكان يؤمن بالرجعة، وأما ابن أبي نجيح فكان يرى القدر، وأما ابن جريج فكان يرى المتعة. وقيل لسليمان بن حرب: أين كتبت عن جرير؟ فقال بمكة، أنا وعبد الرحمن يعني ابن مهدي- وشاذان. وقال علي بن المديني: كان جرير صاحب ليل. وقال أبو خيثمة: لم يكن يدلس. وقال يعقوب بن شيبة، عن عبد الرحمن ابن محمد، عن سليمان الشاذكوني: حدثنا عن مغيرة، عن إبراهيم في طلاق الأخرس، ثم حدثنا به عن سفيان، عن مغيرة، ثم وجدته على ظهر كتاب لابن أخيه، عن ابن المبارك، عن سفيان، عن مغيرة، قال سليمان: فوقفته عليه، فقال لي: حدثنيه رجل عن ابن المبارك، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم. قال الحافظ: إن صحت هذه الحكاية، فجرير كان يدلس. وقد قيل ليحيى بن معين، عقب هذه الحكاية: كيف تروي عن جرير؟ فقال: ألا تراه قد بين لهم أمرها. وقال العجلي: كوفي ثقة، نزل الري، وقال النسائي: ثقة. وقال ابن خراش: صدوق. وقال أبو القاسم اللالكائي: مجمع على ثقته. وقال أحمد بن حنبل: لم يكن بالذكي، اختلط عليه حديث أشعث، وعاصم الأحول، حتى قدم عليه بهز، فعرفه، نقله العقيلي. وقال البيهقي في "السنن": نُسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ. وذكر صاحب "الحافل" عن أبي حاتم أنه تغير قبل موته بسنة، فحجبه أولاده، وهذا ليس بمستقيم، فإن هذا إنما وقع لجرير بن حازم، فكأنه اشتبه على صاحب "الحافل". وقال ابن حبان في "الثقات": كان من العباد الخُشُن. وقال أبو أحمد الحاكم: هو عندهم ثقة. وقال الخليلي في "الإرشاد": ثقة متفق عليه. وقال حنبل بن إسحاق: وُلد جرير بن عبد الحميد في سنة (107)، وقال حنبل أيضا عن أحمد: ثنا محمد بن حميد، عن جرير: وُلدت سنة (10) قال: ومات جرير سنة (188). وكذا قال مطين في تاريخ وفاته، وزاد في شهر ربيع الآخر. روى له الجماعة، وله عند المصنف في هذا الكتاب (29) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهَّ -صلى الله عليه وسلم-: "ذَرُونِي) أي اتركوني من السؤال عن القيود في المطلقات، ونحو ذلك، قال الفيَّوميّ: وذِرْته أَذَره وَذْرًا: تركته، قالوا: وأماتت العرب ماضيه، ومصدره، فإذا أريد الماضي قيل: ترك، وربّما استُعْمِلا على قلّة، ولا يُستعمل منه اسم فاعل. انتهى. وقال المجد في "القاموس": وذَرْهُ: أي دعه، يَذَرُهُ تَرْكًا، ولا تقل: وَذَرْهُ، وأصله وَذِرَهُ يَذَرُهُ، كوَسِعَهُ يَسَعُهُ، لكن ما نطقوا بماضيه، ولا بمصدره، ولا باسم الفاعل، أو قيل: وَذِرْتُهُ شاذّا. انتهى. وقال ابن منظور في "اللسان": قال ابن السّكّيت: يقال: ذَرْ ذَا، ودع ذَا، ولا يقال: وَذَرْتهُ، ولا وَدَعْتُهُ، وأما في الغابر، فيقال: يَذَرُهُ، ويَدَعُهُ، وأصله وَذِره يَذَره، مثالُ وَسِعَه يَسَعهُ، ولا يقال: واذِر، ولا وادعٌ، ولكن تركته، فأنا تارك. انتهى. ولبعضهم شعرًا: وَقَدْ أَمَاتُوا الماضِ (¬1) مِنْ يَذَرْ يَدَع ... لكنَّ في الضُّحَى قُرِي بِـ "مَا وَدع" ولفظ البخاريّ: "دعوني"، وهو بمعنى "ذرُوني". وقد ذكر مسلم سبب هذا الحديث من رواية محمد بن زياد، فقال عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله، فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء، فاتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه". وأخرجه الدارقطني مختصرا، وزاد فيه: "فنزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا ¬

_ (¬1) أصله الماضي بالياء، فحذف للوزن.

تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]. وقد رُوي من غير وجه أن هذه الآية نزلت لما سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الحج، وقالوا: أفي كل عام؟ (¬1). وفي "الصحيحين" عن أنس -رضي الله عنه-، قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال رجل: من أبي؟ فقال: "فلان"، فنزلت هذه الآية: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101]، وفيهما أيضا عن قتادة، عن أنس، قال: سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أحفوه في المسألة، فغضب، فصعِد المنبر، فقال: "لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته"، فقام رجل، كان إذا لاحى الرجال دُعي إلى غير أبيه، فقال: يا رسول الله من أبي؟ قال: "أبوك حذافة"، ثم أنشأ عمر، فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، نعوذ بالله من الفتن. وكان قتادة يذكر عند هذا الحديث هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101]. وفي "صحيح البخاري"، عن ابن عباس قال: كان قوم يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ استهزاء، فيقول الرجل: من أبي؟، ويقول الرجل، تضل نِاقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} (¬2). وله شاهد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، عند الطبري في "التفسير"، وفيه: "لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، فاتركوني ما تركتكم ... " الحديث، وفيه: "فأنزل الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة: 101]. وأخرج ابن جرير الطبري في "تفسيره": من حديث أبي هريرة قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو غضبان محمار وجهه، حتى جلس على المنبر، فقام إليه رجل، فقال: أين أنا؟ فقال: "في النار"، فقام إليه آخر: فقال: من أبي؟ قال: أبوك حذافة، فقام عمر -رضي الله عنه-، ¬

_ (¬1) "فتح" 15/ 188. (¬2) "جامع العلوم والحكم" 1/ 166 - 167.

فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وبالقرآن إماما، إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك، والله أعلم بآبائنا، قال: فسكن غضبه، ونزلت هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}. وروي أيضا من طريق العوفي عن ابن عباس، في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}، قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " أَذَّن في الناس، فقال: "يا قوم كتب عليكم الحج"، فقام رجل، فقال: يا رسول الله أفي كل عام؟ فأغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غضبا شديدا، فقال: "والذي نفسي بيده لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، وإذن لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإذا أمرتكم بشيء فافعلوا، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه"، فأنزل الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}، نهاهم أن يسألوا مثل الذي سألت النصارى في المائدة، فأصبحوا بها كافرين، فنهى الله تعالى عن ذلك، ولكن انظروا، فإذا نزل القرآن، فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه (¬1). (مَا ترَكْتكُمْ) "ما" مصدريّة ظرفية: أي مدة تركي إياكم بغير أمر بشيء، ولا نهي عن شيء. قال في "الفتح" 15/ 188: وإنما غاير بين اللفظين، لأنهم أماتوا الفعل الماضي، واسم الفاعل منهما، واسم مفعولهما، وأثبتوا الفعل المضارع، وهو "يذر"، وفعل الأمر، وهو "ذر"، ومثله "دع"، و"يدع"، ولكن سُمِع "ودع"، كما قرئ به في الشاذ في قوله تعالى: "ما ودعك ربك وما قلى"، قرأ بذلك إبراهيم بن أبي عبلة، وطائفة، وقال الشاعر [من الطويل]: وَنَحْنُ وَدَعْنَا آلَ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ... فَرَائِسَ أَطْرَافِ المثقَّفَةِ السُّمْرِ ويحتمل أن يكون ذكر ذلك على سبيل التفنن في العبارة، وإلا لقال: اتركوني. والمراد بهذا الأمر ترك السؤال عن شيء لم يقع، خشية أن ينزل به وجوبه، أو ¬

_ (¬1) وفي إسناده عطية العوفي، قال في "التقريب": صدوق يخطىء كثيرًا، وكان شيعيًّا، مدلّسًا.

تحريمه، وعن كثرة السؤال لما فيه غالبا من التعنت، وخشية أن تقع الإجابة بأمر يُستَثقَل، فقد يؤدي لترك الامتثال، فتقع المخالفة. قال ابن فرج: معنى قوله: "ذروني ما تركتكم": لا تكثروا من الاستفصال عن المواضع التي تكون مفيدة لوجه ما ظهر، ولو كانت صالحة لغيره، كما أن قوله: "حجوا" وإن كان صالحا للتكرار، فينبغي أن يكتفى بما يصدق عليه اللفظ، وهو المرة، فإن الأصل عدم الزيادة، ولا تكثروا التنقيب عن ذلك؛ لأنه قد يفضي إلى مثل ما وقع لبني إسرائيل، إذ أُمروا أن يذبحوا البقرة، فلو ذبحوا أي بقرة كانت لامتثلوا، ولكنهم شددوا، فَشُدّد عليهم، وبهذا تظهر مناسبة قوله: "فإنما هلك من كان قبلكم ... " إلى آخره، بقوله: "ذروني ما تركتكم". وقد أخرج البزار، وابن أبي حاتم في "تفسيره" من طريق أبي رافع، عن أبي هريرة مرفوعًا: "لو اعترض بنو إسرائيل أدنى بقرة، فذبحوها لكفتهم، ولكن شددوا فشدد الله عليهم"، وفي السند عباد بن منصور، وحديثه من قبيل الحسن. وأورده الطبري عن ابن عباس موقوفًا، وعن أبي العالية مقطوعا. واستُدل به على أن لا حكم قبل ورود الشرع، وأن الأصل في الأشياء عدم الوجوب. انتهى (¬1). (فَإِنَّما هَلَكَ) بفتح اللام ثلاثيّا، وقوله (مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) فاعله (بِسُؤَالهِم) أي بسبب سؤالهم (وَاختِلَافِهِمْ عَلَى أنبِيَائِهِمْ) وفي رواية البخاريّ: "فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم"، قال في "الفتح": قوله: "فإنما أهلك" بفتحات، وقال بعد ذلك: "سؤالهم" بالرفع على أنه فاعل "أهلك"، وفي رواية غير الكشميهني "أُهلك" بضم أوله، وكسر اللام، وقال بعد ذلك "بسؤالهم": أي بسبب سؤالهم. وقوله: "واختلافُهم" بالرفع، وبالجر على الوجهين، ووقع في رواية همام عند أحمد بلفظ: "فإنما هلك" -يعني كرواية المصنّف- وفيه "بسؤالهم"، ويتعين الجر في "واختلافهم"، وفي رواية الزهري: "فإنما أهلك"، وفيه "سؤالهم"، ويتعين الرفع في "واختلافهم". وأما قول النووي في "أربعينه": "واختلافهم" برفع الفاء، لا بكسرها، ¬

_ (¬1) "فتح" 15/ 188.

فإنه باعتبار الرواية التي ذكرها، وهي التي من طريق الزهري. انتهى. (فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشيءٍ) وفي رواية مسلم "بأمر" (فَخُذُوا مِنْهُ) ولفظ البخاريّ: "فأتوا منه" (مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي افعلوا قدر استطاعتكم، ووقع في رواية الزهري عند مسلم: "وما أمرتكم به"، وفي رواية همام عنده: "وإذا أمرتكم بالأمر، فأتمروا ما استطعتم"، وفي رواية محمد بن زياد عند الترمذيّ: "فافعلوا". (وَإِذَا نَهَيْتكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَانْتَهُوا"). وفي رواية البخاريّ: "فاجتنبوه"، هكذا رواية المصنّف بتقديم جملة الأمر على جملة النهي، وهو رواية مسلم من طريق الزهريّ، عن ابن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن كلاهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، ووقع في رواية للبخاريّ من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة بتقديم جملة النهي على الأمر، قال الحافظ: ما مختصره: واقتصر النووي في "الأربعين" على رواية الزهريّ المذكورة، وعزا الحديث للبخاري ومسلم فتشاغل بعض شراح "الأربعين" بمناسبة تقديم النهي على ما عداه ولم يعلم أن ذلك من تصرف الرواة، وأن اللفظ الذي أورده البخاري هنا أرجح من حيث الصناعة الحديثية؛ لأنهما اتفقا على إخراج طريق أبي الزناد، دون طريق الزهري، وإن كان سند الزهري مما عُدّ في أصح الأسانيد، فإن سند أبي الزناد أيضا مما عد فيها فاستويا، وزادت رواية أبي الزناد اتفاقَ الشيخين. وظن القاضي تاج الدين في شرح "المختصر" أن الشيخين اتفقا على هذا اللفظ، فقال بعد قول ابن الحاجب: "الندب": أي احتج من قال إن الأمر للندب بقوله: "إذا أمرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم"، فقال الشارح: رواه البخاري ومسلم، ولفظهما: وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، وهذا إنما هو لفظ مسلم وحده، ولكنه اغتر بما ساقه النووي في "الأربعين". ثم إن هذا النهي عام في جميع المناهي، ويُستثنى ما يُكرَه المكلف على فعله، كشرب الخمر، وهذا على رأي الجمهور، وخالف قوم، فتمسكوا بالعموم، فقالوا: الإكراه على ارتكاب المعصية لا يبيحها، والصحيح عدم المؤاخذة إذا وُجدت صورة

الإكراه المعتبرة. واستثنى بعض الشافعية من ذلك الزنا، فقال: لا يتصور الإكراه عليه، وكأنه أراد التمادي فيه، وإلا فلا مانع أن ينعظ (¬1) الرجل بغير سبب، فيكره على الإيلاج حينئذ، فيولج في الأجنبية، فإن مثل ذلك ليس بمحال، ولو فعله مختارا لكان زانيا، فتُصُوِّر الإكراهُ على الزنا. واستَدَلَّ به من قال: لا يجوز التداوي بشيء محرم كالخمر، ولا دفع العطش به، ولا إساغة لقمة من غُصَّ به، والصحيح عند الشافعية جواز الثالث؛ حفظا للنفس، فصار كأكل الميتة لمن اضطر، بخلاف التداوي، فإنه ثبت النهي عنه نصا، ففي مسلم عن وائل رفعه: "إنه ليس بدواء، ولكنه داء"، ولأبي داود عن أبي الدرداء رفعه: "ولا تداووا بحرام"، وله عن أم سلمة مرفوعا: "إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها". وأما العطش فإنه لا ينقطع بشربها، ولأنه في معنى التداوي، والله أعلم. والتحقيق أن الأمر باجتناب المنهي على عمومه، ما لم يعارضه إذن في ارتكاب منهي، كأكل الميتة للمضطر. وقال الفاكهاني: لا يتصور امتثال اجتناب المنهي حتى يترك جميعه، فلو اجتنب بعضه لم يعد ممتثلا، بخلاف الأمر -يعني المطلق- فإن من أتى بأقل ما يصدق عليه الاسم كان ممتثلا. انتهى ملخصا. وقد أجاب هنا ابن فرج بأن النهي يقتضي الأمر، فلا يكون ممتثلا لمقتضى النهي حتى لا يفعل واحدا من آحاد ما يتناوله النهي، بخلاف الأمر، فإنه على عكسه، ومن ثَمَّ نشأ الخلاف هل الأمر بالشيء نهي عن ضده، والنهي عن الشيء أمر بضده. قاله في "الفتح" 15/ 189. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. ¬

_ (¬1) يقال: نعظ ذكره ينعظ نَعْظًا، ويحرّك، ونعوظًا: بالنون أي قام ذكره. انتهى "القاموس".

مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى). في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه: أخرجه هنا - 1/ 1 و 2 - وأخرجه (خ) في "الاعتصام" 7288 (م) في "الحج" 1337 (ت) في "العلم" 2679 و (النسائيّ) في "الحج" (2573) (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 7320 و 7449 و 8450 و 9239 و 9488 و 9577 و 27258 و9890 و 27312 و 10229، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان وجوب اتّباع سنته -صلى الله عليه وسلم-. 2 - (ومنها): ما قاله النووي رحمه الله تعالى: هذا من جوامع الكلم، وقواعد الإسلام، ويدخل فيه كثير من الأحكام، كالصلاة لمن عجز عن ركن منها، أو شرط، فيأتي بالمقدور، وكذا الوضوء، وستر العورة، وحفظ بعض الفاتحة، وإخراج بعض زكاة الفطر لمن لم يقدر على الكل، والإمساك في رمضان لمن أفطر بالعذر، ثم قدر في أثناء النهار إلى غير ذلك من المسائل التي يطول شرحها. وقال غيره: فيه أن من عجز عن بعض الأمور لا يسقط عنه المقدور، وعبر عنه بعض الفقهاء بأن الميسور لا يسقط بالمعسور، كما لا يسقط ما قدر عليه من أركان الصلاة بالعجز عن غيره، وتصح توبة الأعمى عن النظر المحرم، والمجبوب عن الزنا؛ لأن الأعمى والمجبوب قادران على الندم، فلا يسقط عنهما بعجزهما عن العزم على عدم العود؛ إذ لا يتصور منهما العود عادة، فلا معنى للعزم على عدمه. 3 - (ومنها): أنه استدل به على أن من أُمر بشيء، فعجز عن بعضه، ففعل المقدور أنه يسقط عنه ما عجز عنه، وبذلك استدل المزني على أن ما وجب أداؤه لا يجب قضاؤه، ومن ثم كان الصحيح أن القضاء بأمر جديد.

4 - (ومنها): أنه استدل به على أن اعتناء الشرع بالمنهيات فوق اعتنائه بالمأمورات؛ لأنه أطلق الاجتناب في المنهيات، ولو مع المشقة في الترك، وقيد في المأمورات بقدر الطاقة، وهذا منقول عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى. [فإن قيل]: إن الاستطاعة معتبرة في النهي أيضا، إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. [فجوابه]: أن الاستطاعة تطلق باعتبارين. قال في "الفتح": كذا قيل، والذي يظهر أن التقييد في الأمر بالاستطاعة، لا يدل على المدعَى من الاعتناء به، بل هو من جهة الكف؛ إذ كل أحد قادر على الكف لولا داعية الشهوة مثلا، فلا يتصور عدم الاستطاعة عن الكف، بل كل مكلف قادر على الترك، بخلاف الفعل، فإن العجز عن تعاطيه محسوس، فمن ثَمَّ قيد في الأمر بحسب الاستطاعة دون النهي. وعَبّر الطوفي في هذا الموضع بأن ترك المنهي عنه عبارة عن استصحاب حال عدمه، أو الاستمرار على عدمه، وفعل المأمور به عبارة عن إخراجه من العدم إلى الوجود. وقد نوزع بأن القدرة على استصحاب عدم المنهي عنه قد تتخلف، واستُدِل له بجواز أكل المضطر الميتة. وأجيب بأن النهي في هذا عارضه الإذن بالتناول في تلك الحالة. وقال ابن فرج في "شرح الأربعين": قوله: "فاجتنبوه" هو على إطلاقه حتى يوجد ما يبيحه، كأكل الميتة عند الضرورة، وشرب الخمر عند الإكراه، والأصل في ذلك جواز التلفظ بكلمة الكفر، إذا كان القلب مطمئنا بالإيمان، كما نطق به القرآن. انتهى. والتحقيق أن المكلف في ذلك كله ليس منهيا في تلك الحال. وأجاب الماوردي بأن الكف عن المعاصي ترك، وهو سهل، وعمل الطاعة فعل وهو يشق، فلذلك لم يبح ارتكاب المعصية ولو مع العذر؛ لأنه ترك، والترك لا يعجز المعذور عنه، وأباح ترك العمل بالعذر؛ لأن العمل قد يعجز المعذور عنه. وادعى بعضهم أن قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، يتناول امتثال المأمور، واجتناب المنهي، وقد قيد بالاستطاعة واستويا، فحينئذ يكون الحكمة في تقييد الحديث بالاستطاعة، في جانب الأمر دون النهي أن العجز يكثر

تصوره في الأمر، بخلاف النهي، فإن تصور العجز فيه محصور في الاضطرار، وزعم بعضهم أن قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} نسخ بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]، والصحيح أن لا نسخ، بل المراد بحق تقاته امتثال أمره، واجتناب نهيه مع القدرة، لا مع العجز. 5 - (ومنها): أنه استدل به على أن المكروه يجب اجتنابه؛ لعموم الأمر باجتناب المنهي عنه، فشمل الواجب والمندوب. وأجيب بأن قوله: "فاجتنبوه" يُعمل به في الإيجاب والندب بالاعتبارين، ويجيء مثل هذا السؤال وجوابه في الجانب الآخر، وهو الأمر. وقال الفاكهاني: النهي يكون تارة مع المانع من النقيض وهو المحرم، وتارة لا يكون معه وهو المكروه، وظاهر الحديث يتناولهما. 6 - (ومنها): أنه استُدل به على أن المباح ليس مأمورا به؛ لأن التأكيد في الفعل، إنما يناسب الواجب والمندوب وكذا عكسه. وأجيب بأن من قال: المباح مأمور به لم يرد الأمر بمعنى الطلب، وإنما أراد بالمعنى الأعم، وهو الإذن. 7 - (ومنها): أنه استُدلّ به على أن الأمر لا يقتضي التكرار ولا عدمه. وقيل: يقتضيه. وقيل: يتوقف فيما زاد على مرة، وحديث الباب قد يُتمسك به لذلك؛ لما في سببه أن السائل قال في الحج: أكل عام؟ فلو كان مطلقه يقتضي التكرار أو عدمه، لم يحسن السؤال، ولا العناية بالجواب، وقد يقال: إنما سأل استظهارا واحتياطا. وقال المازري: يحتمل أن يقال: إن التكرار إنما احتمل من جهة أن الحج في اللغة قصد فيه تكرار، فاحتمل عند السائل التكرار من جهة اللغة، لا من صيغة الأمر. 8 - (ومنها): أنه قد تمسك به من قال بإيجاب العمرة؛ لأن الأمر بالحج إذا كان معناه تكرار قصد البيت بحكم اللغة والاشتقاق، وقد ثبت في الإجماع أن الحج لا يجب إلا مرة، فيكون العود إليه مرة أخرى دالا على وجوب العمرة. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الاستدلال غير واضح، وسيأتي في "كتاب المناسك" أدلة وجوب العمرة، إن شاء الله تعالى.

9 - (ومنها): أنه استُدل به على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يجتهد في الأحكام؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ولو قلت: نعم لوجبت". وأجاب من منع باحتمال أن يكون أوحي إليه ذلك في الحال. 10 - (ومنها): أنه استُدل به على أن جميع الأشياء على الإباحة، حتى يثبت المنع من قبل الشارع. 11 - (ومنها): أنه استُدل به على النهي عن كثرة المسائل، والتعمق في ذلك، قال البغوي في "شرح السنة": المسائل على وجهين: [أحدهما]: ما كان على وجه المّعلم لما يحتاج إليه من أمر الدين فهو جائز، بل مأمور به؛ لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [الأنبياء: 7]، وعلى ذلك تتنزل أسئلة الصحابة عن الأنفال، والكلالة، وغيرهما. [ثانيهما]: ما كان على وجه التعنت والتكلف، وهو المراد في هذا الحديث، والله أعلم. ويؤيده ورود الزجر في الحديث عن ذلك، وذم السلف، فعند أحمد من حديث معاوية -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، نهى عن الأغلوطات، قال الأوزاعي: هي شداد المسائل. وقال الأوزاعي أيضا: إن الله إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه المغاليط، فلقد رأيتهم أقل الناس علما. وقال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: المراء في العلم يذهب بنور العلم من قلب الرجل. وقال ابن العربي: كان النهي عن السؤال في العهد النبوي؛ خشية أن ينزل ما يشق عليهم، فأما بعدُ فقد أمن ذلك، لكن أكثر النقل عن السلف بكراهة الكلام في المسائل التي لم تقع، قال: وإنه لمكروه إن لم يكن حراما إلا للعلماء، فإنهم فرعوا، ومهدوا، فنفع الله من بعدهم بذلك، ولا سيما مع ذهاب العلماء، ودروس العلم. انتهى ملخصا. وينبغي أن يكون محل الكراهة للعالم إذا شغله ذلك عما هو أَهَمُّ منه، وكان ينبغي تلخيص ما يكثر وقوعه مجردا عما يندر، ولا سيما في المختصرات؛ ليسهل تناوله. والله المستعان. قاله في "الفتح" 15/ 190 - 192. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الرابعة): في ذكر ما كتبه الحافظ ابن رجب رحمه الله في كتابه "جامع

العلوم والحكم" في هذا الحديث، فقد أجاد رحمه الله تعالى البحث فيه، وأتى بالعجب العجاب من الفوائد الكثيرة، والعوائد الغزيرة، أحببت إيراده هنا؛ تكميلًا للفوائد، وتتميمًا للعوائد، قال رحمه الله تعالى- بعد أن أورد أحاديث في معنى الحديث الذي ذكره المصنّف: ما حاصله: دلت هذه الأحاديث على النهي عن السؤال عما لا يحتاج إليه، مما يسوء السائل جوابه، مثل سؤال السائل هل هو في النار أو في الجنة؟ وهل أبوه من يُنسب إليه أو غيره؟ وعلى النهي عن السؤال على وجه التعنت والعبث والاستهزاء، كما كان يفعله كثير من المنافقين وغيرهم، وقريب من ذلك سؤال الآيات، واقتراحها على وجه التعنت كما كان يسأله المشركون وأهل الكتاب. وقال عكرمة وغيره. إن الآية نزلت في ذلك، ويقرب من ذلك السؤال عما أخفاه الله عن عباده، ولم يطلعهم عليه كالسؤال عن وقت الساعة، وعن الروح. ودلت أيضا على نهي المسلمين عن السؤال عن كثير من الحلال والحرام، مما يُخشى أن يكون السؤال سببا لنزول التشديد فيه، كالسؤال عن الحج، هل يجب كل عام أم لا؟ وفي الصحيح عن سعد بن أبي وقّاص -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جُرما من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته". ولما سئل النبي -صلى الله عليه وسلم-صلى الله عليه وسلم- عن اللعان كره المسائل وأعابها، حتى ابتلي السائل عنه قبل وقوعه بذلك في أهله. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، متّفق عليه. ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يرخص في المسائل، إلا للأعراب ونحوهم، من الوفود القادمين عليه، يتألفهم بذلك، فأما المهاجرون والأنصار المقيمون بالمدينة الذين رسخ الإيمان في قلوبهم فَنُهُوا عن المسألة، كما في "صحيح مسلم " عن النواس بن سمعان قال: أقمت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة سنة، ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم-. وفيه أيضا عن أنس -رضي الله عنه- قال: نهينا أن نسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل، فيسأله، ونحن نسمع. وفي "المسند" عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: كان الله قد أنزل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا

عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، قال: فكنا قد كرهنا كثيرا من مسألته، واتقينا ذلك حين أنزل الله على نبيه -صلى الله عليه وسلم-، قال: فأتينا أعرابيا فرشوناه بُرْدًا، ثم قلنا له: سل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وذكر حديثا. وفي "مسند أبي يعلى" عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما قال: إن كان لتأتي عليّ السنة أريد أن أسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء فأتهيب منه وإن كنا لنتمنى الأعراب وفي مسند البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، ما سألوه إلا عن اثنتي عشرة مسألة، كلها في القرآن {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219]، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217] {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة: 189]، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة: 220]، وذكر الحديث. وقد كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أحيانا يسألونه عن حكم حوادث، قبل وقوعها، لكن للعمل بها عند وقوعها، كما قالوا له: إنا لاقوا العدو غدا، وليس معنا مدى، أفنذبح بالقصب، وسألوه عن الأمراء الذين أخبر عنهم بعده، وعن طاعتهم وقتالهم، وسأله حذيفة عن الفتن، وما يصنع فيها. فهذا الحديث، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" يدل على كراهة المسائل وذمها، ولكن بعض الناس يزعم أن ذلك كان مختصا بزمن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما يُخشى حينئذ من تحريم ما لم يحرم، أو إيجاب ما يشق القيام به، وهذا قد أمن بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم-. ولكن ليس هذا وحده هو سبب كراهة المسائل، بل له سبب آخر، وهو الذي أشار إليه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في كلامه الذي ذكرنا بقوله: "ولكن انتظروا فإذا نزل القرآن، فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه". ومعنى هذل أن جميع ما يحتاج إليه المسلمون في دينهم، لا بد أن يبينه الله في كتابه العزيز، ويبلغ ذلك رسوله -صلى الله عليه وسلم- عنه، فلا حاجة بعد هذا لأحد في السؤال، فإن الله تعالى أعلم بمصالح عباده منهم، فما كان فيه هدايتهم ونفعهم، فإن الله تعالى لا بد أن يبينه لهم ابتداء من غير سؤال، كما قال تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} الآية

[النساء: 176]، وحينئذ فلا حاجة إلى السؤال عن شيء، ولا سيما قبل وقوعه، والحاجة إليه، وإنما الحاجة المهمة إلى فهم ما أخبر الله تعالى به ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ثم اتباع ذلك، والعمل به. وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأل عن المسائل، فيحيل على القرآن، كما سأله عمر عن الكلالة، فقال: "يكفيك آية الصيف". وأشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث إلى أن في الاشتغال بامتثال أمره، واجتناب نهيه، شغلا عن المسائل، فقال: "إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"، فالذي يتعين على المسلم الاعتناء به والاهتمام أن يبحث عما جاء عن الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ثم يجتهد في فهم ذلك، والوقوف على معانيه، ثم يشتغل بالتصديق بذلك، إن كان من الأمور العلمية، وإن كان من الأمور العملية بذل وسعه في الاجتهاد، في فعل ما يستطيعه من الأوامر، واجتناب ما ينهى عنه، فتكون همته مصروفة بالكلية إلى ذلك، لا إلى غيره، وهكذا كان حال أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، والتابعين لهم بإحسان في طلب العلم النافع، من الكتاب والسنة، فأما إن كانت همة السامع مصروفة عند سماع الأمر والنهي، إلى فرض أمور قد تقع، وقد لا تقع، فإن هذا مما يدخل في النهي، ويثبط عن الجد في متابعة الأمر. وقد سأل رجل ابن عمر عن استلام الحجر، فقال له: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يستلمه ويقبله، فقال له الرجل: أرأيت إن غُلبت عنه، أرأيت إن زُوحمت؟ فقال له ابن عمر: اجعل أرأيت باليمن، رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستلمه ويقبله. أخرجه الترمذي. ومراد ابن عمر أن لا يكون لك هَمٌّ إلا في الاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا حاجة إلى فرض العجز عن ذلك، أو تعسره قبل وقوعه، فإنه يفتر العزم على التصميم عن المتابعة، فإن التفقه في الدين، والسؤال عن العلم، إنما يحمد إذا كان للعمل، لا للمراء والجدال. وقد رُوي عن علي -رضي الله عنه- أنه ذكر فتنا تكون في آخر الزمان، فقال له عمر: متى ذلك

يا علي؟، قال: إذا تُفُقه لغير الدين، وتعلم لغير العمل، والتمست الدنيا بعمل الآخرة. وعن ابن مسعود -رضي الله عنه-، أنه قال: كيف بكم إذا لبستم فتنة يربو فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، وتتخذ سنة، فإن غيرت يوما، قيل: هذا منكر، قالوا: ومتى ذلك؟ قال: إذا قلت أمناؤكم، وكثرت أمراؤكم، وقلت فقهاؤكم، وكثرت قراؤكم، وتُفُقه لغير الدين، والتمست الدنيا بعمل الآخرة. أخرجه عبد الرازق في كتابه. ولهذا المعنى كان كثير من الصحابة والتابعين، يكرهون السؤال عن الحوادث قبل وقوعها، ولا يجيبون عن ذلك، قال عمرو بن مرة: خرج عمر على الناس، فقال: أحرّج عليكم أن تسألوا عما لم يكن، فإن لنا فيما كان شغلا. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لا تسألوا عما لم يكن، فإني سمعت عمر -رضي الله عنه-، لعن السائل عما لم يكن. وكان زيد بن ثابت إذا سئل عن شيء يقول: كان هذا، فإن قالوا: لا، قال دَعُوه حتى يكون. وقال مسروق: سألت أبي بن كعب عن شيء؟ فقال: أكان بعدُ؟ فقلت: لا، فقال: أَجِمَّنَا يعني أرحنا حتى يكون، فإذا كان اجتهدنا لك رأينا. وقال الشعبي: سئل عمار عن مسألة، فقال: هل كان هذا بعدُ؟ قالوا: لا، قال: فدعونا حتى يكون، فإذا كان تجشمناه لكم. وعن الصلت بن راشد قال: سألت طاوسا عن شيء، فانتهرني، فقال: أكان هذا؟ قلت: نعم، قال: آلله، قلت: آلله، قال: إن أصحابنا أخبرونا عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه-، أنه قال: يأيها الناس لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله، فيذهبكم ههنا وههنا، فإنكم إن لم تعجلوا بالبلاء قبل نزوله، لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سُدّد، أو قال: وُفّق، وقد خرجه أبو داود في كتاب "المراسيل" مرفوعا من طريق ابن عجلان، عن طاوس، عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها، فإنكم إن لم تفعلوا، لم ينفك المسلمون أن يكون منهم من إذا قال سُدِّد ووفق، وإنكم إن عجلتم تشتت بكم السبل ههنا وههنا. ومعنى إرساله أن طاوسا لم يسمع من معاذ. وأخرجه أيضا من رواية يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلا. ورَوَى الحجاج بن منهال، حدثنا جرير

ابن حازم، سمعت الزبير بن سعيد رجلا من بني هاشم، قال: سمعت أشياخنا يحدثون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يزال في أمتي من إذا سئل سُدد وأُرشد، حتى يسألوا عما لا ينزل تبيينه، فإذا فعلوا ذلك ذهب بهم ههنا وههنا. وقد رَوَى الصنابحي عن معاوية، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أنه نهى عن الأغلوطات. أخرجه الإمام أحمد رحمه الله، وفسره الأوزاعي، وقال: هي شداد المسائل. وقال عيسى بن يونس: هي ما لا يُحتاج إليه من كيف وكيف. ويُروَى من حديث ثوبان، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سيكون قوم من أمتي يُغَلِّطون فقهاءهم بعضل المسائل، أولئك شرار أمتي". وقال الحسن: شرار عباد الله الذين يتبعون شرار المسائل، يعمون بها عباد الله. وقال الأوزاعي: إن الله إذا أراد أن يحرِم عبده بركة العلم، ألقَى على لسانه المغاليط، فلقد رأيتهم أقل الناس علما. وقال ابن وهب عن مالك: أدركت هذه البلدة، وإنهم ليكرهون الإكثار الذي فيه الناس اليوم، يريد المسائل. وقال أيضا: سمعت مالكا، وهو يعيب كثرة الكلام، وكثرة الفتيا، ثم قال: يتكلم كأنه جمل مغتلم، يقول: هو كذا، هو كذا، يهدر في كلامه. وقال: سمعت مالكا يكره الجواب في كثرة المسائل، وقال: قال الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]، فلم يأته في ذلك جواب، فكان مالك يكره المجادلة عن السنن. وقال أيضا الهيثم بن جميل: قلت لمالك: يا أبا عبد الله الوجل يكون عالما بالسنن، يجادل عنها؟ قال: لا، ولكن يخبر بالسنة، فإن قبلت منه، وإلا سكت. قال إسحاق بن عيسى: كان مالك يقول: المراء والجدال في العلم يذهب بنور العلم من قلب الرجل. وقال وهب: سمعت مالكا يقول: المراء في العلم يقسي القلب، ويورث الضغن. وكان أبو شريح الإسكندراني يوما في مجلسه، فكثرت المسائل، فقال: قد درنت قلوبكم منذ اليوم، فقوموا إلى أبي حميد خالد بن حميد، صَقِّلوا قلوبكم، وتعلموا هذه الرغائب، فإنها تجدد العبادة، وتورث الزهادة، وتجر الصداقة، وأقلوا المسائل، إلا ما نزل، فإنها تقسي القلب، وتورث العداوة. وقال الميموني: سمعت أبا عبد الله -رضي الله عنه -يعني أحمد- يسأل عن مسألة، فقال: وقعت هذه

المسألة، بُليتم بها بعدُ. وقد انقسم الناس في هذا الباب قسمين: فمن أتباع أهل الحديث من سَدّ باب المسائل حتى قل فهمه، وعلمه لحدود ما أنزل الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وصار حامل فقه، غير فقيه. ومن فقهاء أهل الرأي من توسع في توليد المسائل، قبل وقوعها ما يقع في العادة منها وما لا يقع، واشتغلوا بتكلف الجواب عن ذلك، وكثرة الخصومات فيه، والجدال عليه، حتى يتولد من ذلك افتراق القلوب، ويستقر فيها بسببه الأهواء والشحناء، والعداوة والبغضاء، ويقتون ذلك كثيرا بنية المغالبة، وطلب العلو والمباهاة، وصرف وجوه الناس، وهذا مما ذمه العلماء الربانيون، ودلت السنة على قبحه وتحريمه، وأما فقهاء أهل الحديث العاملون به، فإن معظم همهم البحث عن معاني كتاب الله، وما يفسره من السنن الصحيحة، وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وعن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومعرفة صحيحها وسقيمها، ثم التفقه فيها وفهمها، والوقوف على معانيها، ثم معرفة كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، في أنواع العلوم، من التفسير والحديث، ومسائل الحلال والحرام، وأصول السنة والزهد والرقائق وغير ذلك، وهذا هو طريق الإمام أحمد، ومن وافقه من علماء الحديث الربانيين، وفي معرفة هذا شغل شاغل عن التشاغل بما أحدث من الرأي مما لا ينتفع به ولا يقع، وإنما يورث التجادل فيه كثرة الخصومات والجدال، وكثرة القيل والقال، وكان الإمام أحمد كثيرا إذا سئل عن شيء من المسائل المحدثة المتولدات التي لا تقع، يقول: دعونا من هذه المسائل المحدثة، وما أحسن ما قاله يونس بن سليمان السقطي: نظرت في الأمر فإذا هو الحديث والرأى، فوجدت في الحديث ذكر الرب عز وجل وربوبيته، وإجلاله وعظمته، وذكر العرش، وصفة الجنة والنار، وذكر النبيين والمرسلين، والحلال والحرام، والحث على صلة الأرحام، وجماع الخير فيه، ونظرت في الرأي فإذا فيه المكر والغدر والحيل، وقطيعة الأرحام، وجماع الشر فيه. وقال أحمد بن شبويه: من أراد علم القبر فعليه بالآثار، ومن

أراد علم الخير (¬1) فعليه بالرأي، ومن سلك طريقه لطلب العلم على ما ذكرناه، تمكن من فهم جواب الحوادث الواقعة غالبا؛ لأن أصولها توجد في تلك الأصول المشار إليها، ولابد أن يكون سلوك هذا الطريق خلف أئمة أهل الدين المجمع على هدايتهم ودرايتهم، كالشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، ومن سلك مسلكهم، فإن من ادعى سلوك هذا الطريق على غير طريقهم، وقع في مفاوز ومهالك، وأخذ بما لا يجوز الأخذ به، وترك ما يجب العمل به، وملاك الأمر كله أن يقصد بذلك وجه الله عز وجل، والتقرب إليه بمعرفة ما أنزل على رسوله، وسلوك طريقه، والعمل بذلك، ودعاء الخلق إليه، ومن كان كذلك وفقه الله، وسدده، وألهمه رشده، وعلمه ما لم يكن يعلم، وكان من العلماء الممدوحين في الكتاب، في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} الآية [فاطر: 28]، ومن الراسخين في العلم. وقد أخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، سئل عن الراسخين في العلم؟ فقال: "من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، ومن عف بطنه وفرجه، فذلك من الراسخين في العلم". وقال نافع بن زيد: يقال: الراسخون في العلم المتواضعون لله، والمتذللون لله في مرضاته، لا يتعاظمون على من فوقهم، ولا يحقرون من دونهم. ويشهد لهذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: أتاكم أهل اليمن، هم أبو قلوبا، وأرق أفئدة، الإيمان يمانٍ، والفقه يمانٍ، والحكمة يمانية"، متّفقٌ عليه. وهذا إشارة منه إلى أبي موسى الأشعري، ومن كان على طريقه من علماء أهل اليمن، ثم إلى مثل أبي مسلم الخولاني، وأويس القرني، وطاوس، ووهب بن منبه، وغيرهم من علماء أهل اليمن، وكل هؤلاء من العلماء الربانيين الخائفين لله، فكلهم علماء بالله، يخشونه ويخافونه، وبعضهم أوسع علما بأحكام الله وشرائع دينه من بعض، ولم يكن تمييزهم ¬

_ (¬1) هكذا النسخة وأورده الخطيب البغدادي في "شرف أصحاب الحديث" بلفظ "الخبز" بالخاء، والموحدة، والزاي، ولعله هو المناسب، والله أعلم.

عن الناس بكثرة قيل وقال، ولا بحث ولا جدال، وكذلك معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أعلم الناس بالحلال والحرام، وهو الذي يحشر يوم القيامة أمام العلماء بِرَتْوة، ولم يكن علمه بتوسعة المسائل وتكثيرها، بل قد سبق عنه كراهة الكلام فيما لا يقع، وإنما كان عالما بالله، وعالما بأصول دينه رضي الله عنه. وقد قيل للإمام أحمد: من نسأل بعدك؟ قال: عبد الوهاب الوراق، قيل له: إنه ليس له اتساع في العلم؟ قال: إنه رجل صالح، مثله يوفق لإصابة الحق. وسئل عن معروف الكرخي؟ فقال: كان معه أصل العلم خشية الله، وهذا يرجع إلى قول بعض السلف: كفى بخشية الله علما، وكفى بالاغترار بالله جهلا. وهذا باب واسع، يطول استقصاؤه. ولنرجع إلى شرح حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، فنقول: من لم يشتغل بكثرة المسائل، التي لا يوجد مثلها في كتاب الله، ولا سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، بل اشتغل بفهم كلام الله تعالى، ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقصده بذلك امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، فهو ممن امتثل أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث، وعمل بمقتضاه، ومن لم يكن اهتمامه بفهم ما أنزل الله على رسله، واشتغل بكثرة توليد المسائل، قد تقع وقد لا تقع، وتكلف أجوبتها بمجرد الرأي، خُشي عليه أن يكون مخالفا لهذا الحديث، مرتكبا لنهيه تاركا لأمره. (واعلم): أن كثرة وقوع الحوادث التي لا أصل لها في الكتاب والسنة، إنما هو من ترك الاشتغال بامتثال أوامر الله ورسوله، واجتناب نواهي الله ورسوله، فلو أن من أراد أن يعمل عملا، سأل عما شرع الله في ذلك العمل فامتثله، وعما نهى عنه فيه فاجتنبه، وقعت الحوادث مقيدة بالكتاب والسنة، وإنما يعمل العامل بمقتضى رأيه وهواه، فتقع الحوادث عامتها مخالفة لما شرعه الله، وربما عسر ردها إلى الأحكام المذكورة في الكتاب والسنة؛ لبعدها عنها. وبالجملة فمن امتثل ما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث، وانتهى عما نَهَى عنه، وكان مشتغلا بذلك عن غيره، حصل له النجاة في الدنيا والآخرة، ومن خالف ذلك، واشتغل بخواطره، وما يستحسنه وقع فيما حذر منه النبي -صلى الله عليه وسلم- من حال أهل الكتاب،

الذين هلكوا بكثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم، وعدم انقيادهم وطاعتهم لرسلهم. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الخامسة): في البحث عن قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم": قال بعض العلماء: هذا يؤخذ منه أن النهي أشد من الأمر؛ لأن النهي لم يرخص في ارتكاب شيء منه، والأمر قُيّد بحسب الاستطاعة، ورُوي هذا عن الإمام أحمد رحمه الله، ويشبه هذا قول بعضهم: أعمال البر يعملها البر والفاجر، وأما المعاصي فلا يتركها إلا صديق. ورُوي عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: "اتق المحارم تكن أعبد الناس". رواه الترمذيّ (¬1). وقالت عائشة رضي الله عنها: "من سره أن يسبق الدائب المجتهد، فليكف عن الذنوب"، وروي مرفوعا. وقال الحسن: ما عبد العابدون بشيء أفضل من ترك ما نهاهم الله عنه. والظاهر أن ما ورد من تفضيل ترك المحرمات على فعل الطاعات، إنما أريد به على نوافل الطاعات، وإلا فجنس الأعمال الواجبات أفضل من جنس ترك المحرمات؛ ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذيّ من طريق الحسن، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من يأخذ عني هؤلاء الكلمات، فيعمل بهن، أو يعلم من يعمل بهن؟ "فقال أبو هريرة: فقلت: أنا يا رسول الله، فأخذ بيدي، فعد خمسا، وقال: "اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك، تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك، تكن مؤمنا، وأحب للناس ما تحب لنفسك، تكن مسلما، ولا تكثر الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب"، قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث جعفر بن سليمان، والحسن لم يسمع من أبي هريرة شيئا، هكذا رُوي عن أيوب ويونس بن عبيد، وعلي بن زيد قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة. وروى أبو عبيدة الناجي، عن الحسن هذا الحديث قوله، ولم يذكر فيه: عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. انتهى. وحسّنه الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى، انظر "صحيح الجامع الصغير" 1/ 82 رقم 100 و"السلسلة الصحيحة" رقم 930.

لأن الأعمال مقصودة لذاتها، والمحارم مطلوب عدمها، ولذلك لا تحتاج إلى نية، بخلاف الأعمال، ولذلك كان جنس ترك الأعمال، قد تكون كفرا، كترك التوحيد، وكترك أركان الإسلام، أو بعضها على ما حُقّق في محله، بخلاف ارتكاب المنهيات، فإنه لا يقتضي الكفر بنفسه، ويشهد لذلك قول ابن عمر رضي الله عنهما: لردُّ دانق من حرام أفضل من مائة ألف تنفق في سبيل الله. وعن بعض السلف قال: ترك دانق مما يكرهه الله أحب إلى الله من خمسمائة حجة. وقال ميمون بن مهران: ذكر الله باللسان حسن، وأفضل منه أن يذكر الله العبد عند المعصية، فيمسك عنها. وقال ابن المبارك: لأن أرد درهما من شبهة أحب إليّ من أن أتصدق بمائة ألف، ومائة ألف، حتى بلغ ستمائة ألف. وقال عمر بن عبد العزيز: ليست التقوى قيام الليل، وصيام النهار، والتخليط فيما بين ذلك، ولكن التقوى أداء ما افترض الله، وترك ما حرم الله، فإن كان مع ذلك عمل، فهو خير إلى خير، أو كما قال. وقال أيضا: وددت أني لا أصلي غير الصلوات الخمس سوى الوتر، وأن أؤدي الزكاة، ولا أتصدق بعدها بدرهم، وأن أصوم رمضان، ولا أصوم بعده يوما أبدا، وأن أحج حجة الإسلام، ثم لا أحج بعدها أبدا، ثم أعمد إلى فضل قوتي، فأجعله فيما حرم الله عليّ، فأمسك عنه. وحاصل كلامهم يدل على أن اجتناب المحرمات، وإن قلت، أفضل من الإكثار من نوافل الطاعات، فإن ذلك فرض، وهذا نفل. وقال طائفة من المتأخرين: إنما قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"؛ لأن امتثال الأمر لا يحصل إلا بعمل، والعمل يتوقف وجوده على شروط وأسباب، وبعضها قد لا يستطاع، فلذلك قيده بالاستطاعة، كما قيد الله الأمر بالتقوى بالاستطاعة، قال الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقال في الحج: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، وأما النهي فالمطلوب عدمه، وذلك هو الأصل، فالمقصود استمرار العدم الأصلي، وذلك ممكن، وليس فيه ما لا يستطاع.

وهذا فيه أيضا نظر، فإن الداعي إلى فعل المعاصي، قد يكون قويا لا صبر معه للعبد على الامتناع عن فعل المعصية، مع القدرة عليها، فيحتاج للكف عنها حينئذ، إلى مجاهدة شديدة، وربما كانت أشق على النفوس من مجرد مجاهدة النفوس على فعل الطاعات، ولهذا يوجد كثيرا من يجتهد في فعل الطاعات، ولا يَقْوَى على ترك المحرمات. وقد سئل عمر عن قوم يشتهون المعصية، ولا يعملون بها، فقال: أولئك قوم امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم. وقال يزيد بن ميسرة: يقول الله في بعض الكتب: أيها الشاب التارك لشهوته، المتبذل في شبابه من أجلي، أنت عندي كبعض ملائكتي، وقال: ما أشد الشهوة في الجسد، إنها مثل حريق النار، وكيف ينجو منها الحصوريون؟ (¬1). والتحقيق في هذا أن الله لا يكلف العباد من الأعمال ما لا طاقة لهم به، وقد أسقط عنهم كثيرا من الأعمال بمجرد المشقة؛ رخصة عليهم، ورحمة لهم، وأما المناهي فلم يُعذر أحد بارتكابها بقوة الداعي والشهوات، بل كلفهم تركها على كل حال، وإنما أباح أن يتناولوا من المطاعم المحرمة عند الضرورة، ما تبقى معه الحياة، لا لأجل التلذذ والشهوة، ومن هنا يعلم صحة ما قال الإمام أحمد رحمه الله: إن النهي أشد من الأمر. وقد رُوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث ثوبان وغيره، أنه قال: "استقيموا، ولن تحصوا" (¬2)، يعني لن تقدروا على الاستقامة كلها. وروى الحكم بن حزن الْكُلَفيّ قال: وفدت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فشهدت معه الجمعة، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، متوكئا على عصا، أو قوس، فحمد الله، وأثنى عليه بكلمات، خفيفات طيبات مباركات، ثم قال: "يا أيها الناس إنكم لن تطيقوا، ولن تفعلوا كل ما أمرتكم به، ولكن سددوا، وأبشروا"، أخرجه ¬

_ (¬1) هكذا النسخة "الحصوريون" بياء النسبة، ولعل الصواب "الحصورون"، والحصور: هو الذي لا يأتي النساء، سمي به لأنه حُبس عن الجماع، ومنع، فهو فعول بمعنى مفعول. انتهى. (¬2) حديث صحيح، سيأتي للمصنف رحمه الله تعالى في "كتاب الطهارة" برقم 277.

الإمام أحمد، وأبو داود (¬1). وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم": دليل على أن من عجز عن فعل المأمور به كله، وقدر على بعضه، فإنه يأتي بما أمكن منه، وهذا مطرد في مسائل: (منها): الطهارة، فإذا قدر على بعضها، وعجز عن الباقي، إما لعدم الماء، أو لمرض في بعض أعضائه دون بعض، فإنه يأتي من ذلك بما قدر عليه، ويتيمم للباقي، وسواء في ذلك الوضوء والغسل على المشهور. (ومنها): الصلاة، فمن عجز عن فعل الفريضة قائما صلى قاعدا، فإن عجز صلاها مضطجعا، وفي "صحيح البخاري" عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب"، فإن عجز عن ذلك كله أومأ بطَرْفه، وصلى بنيته، ولم تسقط عنه الصلاة على المشهور. (ومنها): زكاة الفطر، فإذا قدر على إخراج بعض صاع لزمه ذلك، على الصحيح فأما من قدر على صيام بعض النهار دون تكملته، فلا يلزمه ذلك بغير خلاف؛ لأن صيام بعض اليوم ليس بقربة في نفسه، وكذلك لو قدر على عتق بعض رقبة في الكفارة لم يلزمه؛ لأن تبعيض العتق غير محبوب للشارع، بل أمر بتكملته بكل طريق. وأما من فاته الوقوف بعرفة في الحج، فهل يأتي بما بقي منه من المبيت بمزدلفة، ورمي الجمار أم لا، بل يقتصر على الطواف والسعي، ويتحلل بعمرة على روايتين عن أحمد، أشهرهما أنه يقتصر على الطواف والسعي؛ لأن المبيت والرمي من لواحق الوقوف بعرفة وتوابعه، وإنما أمر الله تعالى بذكره عند المشعر الحرام، وبذكره في الأيام المعدودات، لمن أفاض من عرفات، فلا يؤمر به من لا يقف بعرفة، كما لا يؤمر به المعتمر. والله أعلم. انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى (¬2). ¬

_ (¬1) حديث حسن أخرجه أحمد 4/ 212 وأبو داود رقم 1096. (¬2) راجع "جامع العلوم والحكم" 1/ 165 - 183.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: إنما أطلت بنقل كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله، وإن كان بعضه تقدّم؛ لما اشتمل عليه من الفوائد الغزيرة، فأحببت أن أنقله دون تصرّف بالاختصار؛ استيفاءً لما حواه، وهذا شأن الشرح، حيث إن فيه ذكرَ المسائل مفصّلة، مُستوعَبَةً، ولا يُنظر لطولها، وتكرارها. ولقد أجاد الإمام النووي رحمه الله تعالى في أوائل "شرح صحيح مسلم" حيث يقول -بعد أن ذكر دقائق بعض الأسانيد-: ما نصّه: "ولا ينبغي للناظر في هذا الشرح أن يسأم من شيء من ذلك بما يجده مبسوطًا واضحًا، فإني إنما أقصد بذلك إن شاء الله الكريم - الإيضاح والتيسير، والنصيحة لمطالعه، وإعانته، وإغناءه من مراجعة غيره في بيانه، وهذا مقصود الشروح، فمن استطال شيئًا من هذا، وشبهه فهو بعيد من الإتقان، مباعد للفلاح في هذا الشأن، فليُعَزّ نفسه؛ لسوء حاله، وليرجع عما ارتكبه من قبيح فعاله، ولا ينبغي لطالب التحقيق، والتنقيح، والإتقان، والتدقيق أن يلتفت إلى كراهة، أو سآمة ذوي البطالة، وأصحاب الغباوة والمهانة والملالة، بل يفرح بما يجده من العلم مبسوطًا، وما يصادفه من القواعد والمشكلات واضحًا مضبوطًا، ويحمد الله الكريم على تيسيره، ويدعو لجامعه الساعي في تنقيحه وإيضاحه، وتقريره -وفقنا الله الكريم- لمعالي الأمور، وجنبنا بفضله جميع أنواع الشرور، وجمع بيننا وبين أحبابنا في دار الحبور والسرور، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه" (¬1). فعليك أيها الأخ العزيز أن تجعل نصيحة هذا الإمام المحقق نُصب عينيك كلما استشعرت بشيء من التكرار والتطويل في هذا الشرح؛ لتظفر بكَنْز عظيم -إن شاء الله تعالى- زادني الله وإياك الحرص على التحقيق، والغوص في علم الحديث، فإنه البحر الخِضَمّ العميق، بمنه وكرمه آمين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. ¬

_ (¬1) راجع "شرح صحيح مسلم" 1/ 152.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله المذكور أول الكتاب قال: 3 - (حَدَّثَنا أبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيبةَ، حَدثَنَا، أبو مُعَاوِيَةَ، وَوَكيعٌ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِح، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَطَاعَنى فَقَدْ أَطَاعَ الله، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصى الله"). رجال هذا الإسناد: ستة: وكلهم تقدّموا في الإسنادين الماضيين، غير اثنين: 1 - (أبو معاوية): وهو محمد بن خازم -بعجمتين- التميمي السعدي مولاهم، الضرير الكوفيّ، يقال: عمي وهو ابن ثمان سنين، أو أربع، ثقة، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، من كبار [9]. رَوَى عن عاصم الأحول، وأبي مالك الأشجعي، وسعد ويحيى ابني سعيد الأنصاري، والأعمش، وداود بن أبي هند، وعبيد الله بن عمر العمري، وخلق كثير. وروى عنه ابن جريج وهو أكبر منه، ويحيى القطان، وهو من أقرانه، ويحيى بن حسان التنيسي، وأسد بن موسى، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو الوليد الطيالسي، وأبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة، وجمّ غفير. قال أيوب بن إسحاق بن سافري: سألت أحمد ويحيى عن أبي معاوية وجرير؟ قالا: أبو معاوية أحب إلينا يعنيان في الأعمش، وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: أبو معاوية الضرير في غير حديث الأعمش مضطرب، لا يحفظها حفظا جيدا. وقال الدُّوري عن ابن معين: أبو معاوية أثبت في الأعصش من جرير. ورَوى أبو معاوية عن عبيد الله بن عمر مناكير، وقال ابن المديني: كتبنا عن أبي معاوية ألفا وخمسمائة حديث، وكان عند الأعمش ما لم يكن عند أبي معاوية أربع مائة ونيف وخمسون حديثا. وقال شبابة بن سوار: كنا عند شعبة، فجاء أبو معاوية، فقال شعبة: هذا صاحب الأعمش فاعرفوه، وقال العجلي: كوفي ثقة، وكان يرى الإرجاء، وكان لين القول فيه. وقال يعقوب بن شيبة: كان من الثقات، وربما دلس، وكان يرى الإرجاء. وقال الآجري عن أبي داود: كان مرجئا، وقال مرة: كان رئيس المرجئة بالكوفة. وقال

النسائي: ثقة. وقال ابن خراش: صدوق، وهو في الأعمش ثقة، وفي غيره فيه اضطراب. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان حافظا متقنا، ولكنه كان مرجئا خبيثا. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث يدلس، وكان مرجئا. قال أحمد بن حنبل وغير واحد: وُلد سنة (113)، وقال ابن نُمير: مات سنة (194). وقال ابن المديني، وآخرون: مات سنة خمس وتسعين ومائة. روى له الجماعة، له عند المصنّف (156) حديثًا. 2 - (وكيع) بن الجَرّاح بن مَلِيح الرُّؤَاسيّ -بضمّ الراء، وهمزة، ثم مهملة- أبو سفيان الكوفيّ، ثقة حافظ عابدٌ، من كبار [9]. رَوَى عن أبيه، وإسماعيل بن أبي خالد، وأيمن بن نابل، وعكرمة بن عمار، وهشام بن عروة، والأعمش، وجرير بن حازم، وخلق كثير. ورَوَى عنه أبناؤه: سفيان، ومَلِيح، وعُبيد، ومستمليه محمد بن أبان البلخي، وشيخه سفيان الثوري، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد، وعلي، ويحيى، وإسحاق، وابنا أبي شيبة، وأبو خيثمة، والحميدي، والقعنبي، والأشج، وخلق كثير. قال القعنبيّ: كنا عند حماد بن زيد، فجاءه وكيع، فقالوا: هذا راوية سفيان، فقال حماد: لو شئت قلت: هذا أرجح من سفيان. وقال المرُّوذيّ: قلت لأحمد: مَن أصحاب سفيان؟ قال: وكيع، ويحيى، وعبد الرحمن، وأبو نعيم، قلت: قدّمتَ وكيعًا؟ قال: وكيع شيخ. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ما رأيت أوعى للعلم من وكيع، ولا أحفظ منه، وقال الدُّوري: ذاكرت أحمد بحديث، فقال: من حدثك؟ قلت: شبابة، قال: لكن حدثني مَن لم تر عيناك مثله وكيع. وقال علي بن عثمان النفيلي: قلت لأحمد: إن أبا قتادة يتكلم في وكيع، قال: مَن كَذّب أهل الصدق فهو الكذاب. وقال محمد بن عامر المصيصي: سألت أحمد وكيع أحب إليك أو يحيى بن سعيد؟ قال: وكيع، قلت: لم؟ قال: كان وكيع صَدِيقًا لحفص بن غياث، فلما ولي القضاء هجره، وكان يحيى بن سعيد صَديقا لمعاذ بن معاذ، فلما ولي القضاء لم يهجره. وحكى محمد بن علي الوراق عن أحمد

مثل ذلك سواءً في وكيع وابن مهدي، وزاد: قد عُرض على وكيع القضاء فامتنع منه، وقال ابن سعد: كان ثقةً، مأمونًا، عاليًا، رفيع القدر، كثير الحديث، حجة. وقال العجلي: كوفي ثقة، عابد، صالح، أديب، من حفاظ الحديث، وكان يفتي. وقال الآجري: قلت لأبي داود: أيما أثبت وكيع أو ابن أبي زائدة؟ قال: وكيع. وقال يعقوب ابن شيبة: كان خيرًا فاضلًا حافظًا. وقال ابن حبان في "الثقات": كان حافظا متقنًا. قال هارون بن حاتم: سمعت وكيعًا يقول: وُلدت سنة ثمان وعشرين ومائة. وقيل: وُلد سنة سبع. وقيل: سنة تسع وقال خليفة وغيره: مات سنة ست وتسعين. وقال أحمد: حج وكيع سنة ست، ومات في الطريق. وقال محمد بن سعد، وأبو هشام: مات بفيد منصرفا من الحج، سنة سبع، زاد أبو هشام: يوم عاشوراء. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (454) حديثًا. (لطائف الإسناد): 1 - (منها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم من رجال الصحيح، بل من رجال الجماعة. 3 - (ومنها): أن فيه أبا معاوية أثبت الناس في الأعمش. 4 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ. وبقية اللطائف تقدّمت في الحديث الماضي. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَطَاعَني) شرطيّة مبتدأ، جوابها قوله: (فَقَدْ أَطَاعَ الله) وهو الجواب على الأصح من أقول أربعة للنحاة في خبر أسماء الشرط (¬1). وهذه الجملة منتزعة من قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} الآية [النساء: 80]: أي لأني لا آمر إلا بما أمر الله به، فمن فعل ما آمرُهُ به، فإنما ¬

_ (¬1) الأول: أنه الشرط،، الثاني: أنه الجواب، وهو الصحيح، الثالث أنه الشرط والجواب معًا. الرابع أنه لا خبر لها؛ استغناء بفعل الشرط والجواب.

أطاع من أمرني به أن آمره، ويحتمل أن يكون المعنى: لأن الله أمر بطاعتي، فمن أطاعني، فقد أطاع أمر الله له بطاعتي، وفي المعصية كذلك، والطاعة هي الإتيان بالمأمور به، والانتهاء عن المنهيّ عنه، والعصيان بخلافه. وقال السنديّ في "شرحه": يريد أنه مبلّغٌ عن الله، فمن أطاعه فيما بلّغ، فقد أطاع الآمر الحقيقيّ، ومثله المعصية، وهذا مضمون قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80]، لكن سوق الآية في نسق المعصية؛ لإفادة أنه ليس على الرسول وبال المعصية؛ إذ ليس عليه إلا البلاغ، لا الحفظ، فوبال المعصية على ذلك العاصي. انتهى كلام السندي. (وَمَنْ عَصَانِي) أي خالف أمري (فَقَدْ عَصى الله) والحديث مختصر، وقد أورده المصنّف رحمه الله تعالى في "كتاب الجهاد" تاما، ولفظه: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الإمام، فقد أطاعني، ومن عصى الإمام فقد عصاني"، وسيأتي تمام شرحه هناك، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعدم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه. [تنبيه]: كتب في النسخة التي حققها محمد فؤاد عبد الباقي: ما نصّه: هذا الحديث مما انفرد به المصنّف. انتهى. وهذا غلطٌ؛ كما يتبيّن من المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. (المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه: أخرجه هنا - 1/ 3 وفي "الجهاد" 39/ 2859 - وأخرجه (خ) في "الجهاد والسير" 2957 و"الأحكام" 7137 (م) في "الإمارة" 1835 (ن) في "البيعة" 4193 و"الاستعاذة" 5510 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين"7386 و7600 و27350

و 8200 و 8788 و 9121 و 10259. والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان وجوب اتباعه -صلى الله عليه وسلم-، وهو معنى الطاعة المذكورة في هذا الحديث. 2 - (ومنها): أن طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- هي طاعة الله سبحانه وتعالى؛ لأنه مأمور من الله عز وجل بتبليغ شرائعه، فلا يأمر، ولا ينهى إلا آخذًا عن الله تعالى، كما قال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} الآية [النجم: 3، 4]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله المذكور أول الكتاب قال: 4 - (حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثنا زَكَرِيَّا بْنُ عَدِي، عَنِ ابْنِ المبَارَكِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنْ أَبي جَعْفَرٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ، إِذَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- حَدِيثًا، لَمْ يَعْدُه، وَلَمْ يُقَصِّرْ دُونَهُ). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (محمد بن عبد الله بن نمير) الهمْداني -بسكون الميم- الخارفي، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقة، حافظٌ، فاضلٌ [10]. رَوَى عن أبيه، وسفيان بن عيينة، ومروان بن معاوية، وإسماعيل ابن علية، وأبي معاوية، وعبد الله بن إدريس، وزكرياء بن عدي، وخلق كثير. وروى عنه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه، وروى الترمذي، والنسائي عنه بواسطة البخاري، والحسن بن أحمد بن حبيب الكرماني، وأبو زرعة، وعلي بن الحسين بن الجنيد الرازيون، والذهلي، وغيرهم. قال أبو إسماعيل الترمذي: كان أحمد بن حنبل يعظم محمد بن عبد الله بن نمير تعظيما عجبا، ويقول: أي فتى هو؟ وعن أحمد أيضا قال: هو دُرّة العراق. وقال علي بن الجنيد: كان أحمد، وابن معين يقولان في شيوخ الكوفيين: ما يقول ابن نمير فيهم. قال

ابن الجنيد: وما رأيت بالكوفة مثل ابن نمير، وكان رجلا نبيلا، قد جمع العلم والفهم والسنة والزهد، وكان فقيرا. وقال أحمد بن سنان: ما رأيت من الكوفيين من أحداثهم أفضل منه. وقال العجلي: كوفي ثقة، ويُعَدُّ من أصحاب الحديث. وقال أبو حاتم: ثقة يحتج بحديثه. وقال الآجري عن أبي داود: ابن نمير أثبت من أبيه. وقال النسائي: ثقة مأمون. وقال ابن عدي: سمعت الحسن بن سفيان يقول: ابن نمير ريحانة العراق، وأحد الأعلام. قال: وسمعت أبا يعلى يقول: حديث محمد بن نمير يملأ الصدر والنحر، قال: وكان محمد بن عمر الصوفي إذا حدثنا عنه يقول: حدثنا أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الله بن نمير العبد الصالح. وقال ابن وضاح: ثقة، كثير الحديث، عالم به، حافظ له. وقال ابن قانع: ثقة ثبت. وقال ابن شاهين في "الثقات" عن ابن رشدين: سألت أحمد بن صالح عنه؟ فقال: تسألني عن رجل لم أر بالعراق مثله، ومثل أحمد، ما رأيت بالعراق مثلهما، ولا أجمع منهما للعقل والدين، ولكل شيء. وفي "الزهرة" روى عنه البخاري (22) حديثًا، ومسلم (573) حديثا. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في شعبان سنة أربع وثلاثين ومائتين، وكان من الحفاظ المتقنين، وأهل الورع في الدين. وقال البخاري: مات في شعبان، أو رمضان. روى له الجماعة، وله عند المصنّف مائة وثمانية أحاديث. 2 - (زكريا بن عديّ) بن زُريق بن إسماعيل، ويقال: ابن عدي بن الصلت بن بسطام التيميّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، نزيل بغداد، وهو أخو يوسف، ثقة جليلٌ، حافظ، من كبار [10]. روى عن أبي إسحاق الفزاري، وابن مبارك، وعبيد الله بن عمرو الرقي، وحماد ابن زيد، وهشيم، وغيرهم. وروى عنه إسحاق بن راهويه، والبخاري في غير "الجامع" وعبد الله بن أبي شيبة، وعبد الله الدارمي، وابن نمير، ومحمد بن عبد الرحيم البزاز، وحجاج بن الشاعر، وغيرهم. قال عبد الخالق بن منصور عن ابن معين: لا بأس به. وقال ابن الجنيد: قيل لابن

معين: ذُكر لأبي نعيم حديث عن زكريا بن عدي، فقال: ما له للحديث؟ ذاك بالتوراة أعلم، فقال ابن معين: كان زكريا بن عدي لا بأس به، وكان أبوه يهوديا فأسلم. وقال العجلي: كوفي ثقة رجل صالح، وأخوه يوسف ثقة، وزكريا أرفع منه، وكان متقشفا، حسن الهيئة، له نفس. وقال المنذر بن شاذان: ما رأيت أحفظ منه، جاءه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، فقالا له: أخرج إلينا كتاب عبيد الله بن عَمْرو، فقال: ما تصنعون بالكتاب؟ خذوا حتى أملي عليكم كله، وكان يحدث عن عدة من أصحاب الأعمش، فيميز ألفاظهم. وقال عباس الدوري: حدثنا زكريا بن عدي، وكان من خيار خلق الله. وقال ابن خراش: ثقة جليل ورع. وقال ابن سعد: توفي ببغداد في جمادى الأولى سنة (211)، وكان رجلا صالحا ثقة صدوقا، كثير الحديث. وقال مطين، وإسماعيل بن أبي الحارث: مات سنة (212)، زاد إسماعيل، وابن حبان: يوم الخميس ليومين مضيا من جمادى الآخرة. روى له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، وأبو داود في "المراسيل"، والترمذي والمصنف، له عنده ثلاثة أحاديث فقط: هذا، وفي "كتاب الصلاة" 195/ 1406 حديث جابر -رضي الله عنه-، مرفوعًا: "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه ... " الحديث. وفي "كتاب الزهد" 21/ 4230 حديث جابر -رضي الله عنه- أيضًا، مرفوعًا: يُحشر الناس على نياتهم". 3 - (ابن المبارك) هو عبد الله بن المبارك بن واضح المروزيّ الحنظليّ التميميّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المروزيّ، أحد الأعلام، ثقة، ثبتٌ، فقيه، عالم، جواد، مجاهدٌ، اجتمعت فيه خصال الخير [8]. روى عن سليمان التيمي، وحميد الطويل، وإسماعيل بن أبي خالد، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وسعد بن سعيد الأنصاري، وإبراهيم بن أبي عبلة، وأبي خلدة خالد ابن دينار، وعاصم الأحول، وابن عون، والأعمش، وهشام بن عروة، والثوري، وشعبة، والأوزاعي، وابن جريج، ومالك، والليث، وابن أبي ذئب، وخلق كثير. وروى عنه الثوري، ومعمر بن راشد، وأبو إسحاق الفزاري، وجعفر بن سليمان

الضبعي، وبقية بن الوليد، وداود بن عبد الرحمن العطار، وابن عيينة، وأبو الأحوص، وفضيل بن عياض، ومعتمر بن سليمان، والوليد بن مسلم، وأبو بكر بن عياش، وغيرهم من شيوخه، وأقرانه، ومسلم بن إبراهيم، وأبو أسامة، وأبو سلمة التبوذكي، وخلق كثير، آخرهم الحسين بن داود البلخي. قال أبو أسامة: ما رأيت أطلب للعلم من عبد الله بن المبارك. وقال عبدان: أول ما خرج سنة إحدى وأربعين. قال ابن مهدي: لما سئل عن ابن المبارك وسفيان: لو جهد سفيان جهده على أن يكون يوما مثل عبد الله لم يقدر. وقال شعيب بن حرب. إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سنة واحدة مثل ابن المبارك، فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام. وقال شعيب: ما لقي ابن المبارك رجلا إلا وابن المبارك أفضل منه. وقال أحمد: لم يكن في زمانه أطلب للعلم منه، جمع أمرا عظيما، ما كالن أحد أقل سقطا منه، كان رجلا صاحب حديث حافظًا، وكان يحدث من كتاب. وقال شعبة: ما قدم علينا مثله. وقال ابن عيينة: نظرت في أمر الصحابة، فما رأيت لهم فضلا على ابن المبارك، إلا بصحبتهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وغزوهم معه. وقال أبو حاتم عن إسحاق بن محمد بن إبراهيم المروزي: نُعي ابن المبارك إلى سفيان بن عيينة، فقال: لقد كان فقيها عالما عابدا زاهدا سخيًّا شجاعا شاعرا. وقال فضيل بن عياض: أما إنه لم يخلف بعده مثله. وقال أبو إسحاق الفزاري: ابن المبارك إمام المسلمين. وقال سلام بن أبي مطيع: ما خلّف بالمشرق مثله. وقال القواريري: لم يكن ابن مهدي يقدم عليه، وعلى مالك في الحديث أحدا. وقال ابن المثنى: سمعت ابن مهدي يقول: ما رأت عيناي مثل أربعة: ما رأيت أحفظ للحديث من الثوري، ولا أشد تقشفا من شعبة، ولا أعقل من مالك، ولا أنصح للأمة من ابن المبارك. وقال الحسن بن عيسى: اجتمع جماعة من أصحاب ابن المبارك، مثل الفضل بن موسى، ومخلد بن حسين، وغرهما، فقالوا: تعالوا حتى نَعُدّ خصال ابن المبارك من أبواب الخير، فقالوا: جمع العلم، والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والشعر، والفصاحة، والزهد، والورع، والإنصاف، وقيام الليل، والعبادة، والحج،

والغزو، والفروسية، والشجاعة، والشدة في بدنه، وترك الكلام فيما لا يعنيه، وقلة الخلاف على أصحابه. وقال العباس بن مصعب: جمع الحديث، والفقه، والعربية، والشجاعة، والتجارة، والسخاء، والمحبة عند الفِرَق، وقال إسماعيل بن عياش: ما على وجه الأرض مثل ابن المبارك، ولا أعلم أن الله خلق خصلة من خصال الخير إلا وقد جعلها فيه. وقال علي بن الحسين بن شقيق: بلغنا أنه قال للفضيل بن عياض: لولا أنت وأصحابك ما اتجرت، قال: وكان ينفق على الفقراء في كل سنة مائة ألف درهم. وقال الحاكم: هو إمام عصره في الآفاق، وأولاهم بذلك علما، وزهدا، وشجاعة، وسخاء. وقال أبو وهب: مَرَّ عبد الله برجل أعمى، فقال: أسألك أن تدعو لي، فدعا، فرد الله عليه بصره وأنا أنظر. وقال الحسن بن عيسى: كان مجاب الدعوة. وقال العجلي: ثقة ثبت في الحديث، رجل صالح، وكان جامعا للعلم. وقال ابن حبان في "الثقات": كان فيه خصال لم تجتمع في أحد من أهل العلم في زمانه في الأرض كلها. وقال يحيى بن يحيى الأندلسي: كنا في مجلس مالك، فاستؤذن لابن المبارك، فأذن، فرأينا مالكا تزحزح له في مجلسه، ثم أقعده بلصقه، ولم أره تزحزح لأحد في مجلسه غيره، فكان القارئ يقرأ على مالك، فربما مر بشيء، فيسأله مالك: ما عندكم في هذا؟ فكان عبد الله يجيبه بالخفاء، ثم قال: قام فخرج، فأُعجب مالك بأدبه، ثم قال لنا: هذا ابن المبارك، فقيه خراسان. وقال الخليلي في "الإرشاد": ابن المبارك الإمام المتفق عليه، له من الكرامات ما لا يحصى، يقال: إنه من الأبدال، وقال: كتبت عن ألف شيخ. وحكى الحسن بن عرفة محنه من دقيق الورع أنه استعار قلما من رجل بالشام، وحمله إلى خراسان ناسيا، فلما وجده معه بها، رجع إلى الشام حتى أعطاه لصاحبه. وقال الأسود بن سالم: إذا رأيت الرجل يغمز ابن المبارك، فاتهمه على الإسلام. وقال النسائي: لا نعلم في عصر ابن المبارك أجل من ابن المبارك، ولا أعلى منه، ولا أجمع لكل خصلة محمودة منه. ومناقبه، وفضائله كثيرة جدا.

وقال أحمد بن حنبل، وغير واحد: وُلد سنة ثمان عشرة ومائة. وقال ابن سعد: مات بِهيت منصرفا من الغزو، سنة إحدى وثمانين ومائة، وله ثلاث وستون سنة، طلب العلم، وروى رواية كثيرة، وصنف كتبا كثيرة، في أبواب العلم، وكان ثقة مأمونا، حجة، كثير الحديث. (¬1). روى له الجماعة، وله عند المصنّف ثلاثون حديثًا. 4 - (محمد بن سوقة) -بضم المهملة- الغَنَويّ -بفتح الغين المعجمة والنون الخفيفة- أبو بكر الكوفيّ العابد، ثقة، مرضيّ، عابدٌ [5]. روى عن أنس، وسعيد بن جبير، وعبد الله بن دينار، وأبي صالح السمان، ونافع ابن جبير بن مطعم، وإبراهيم النخعي، ونافع مولى ابن عمر، ومنذر الثوري، ومحمد بن المنكدر، وجماعة. وروى عنه مالك بن مغول، والثوري، وابن المبارك، وأبو معاوية، وعبد الرحمن ابن محمد المحاربي، غيرهم. قال محمد بن عبيد: سمعت الثوري يقول: حدثني الرضي محمد بن سوقة، قال: ولم أسمعه يقول ذلك لعربي، ولا لمولى. وقال الحسين بن حفص، قال الثوري: أُخرج إليكم كتاب خير رجل بالكوفة، فأخرج كتاب محمد بن سوقة. وقال طلحة بن مصرف: ما بالكوفة رجلان يزيدان على محمد بن سوقة، وعبد الجبار بن وائل بن حجر. وقال الحميدي عن ابن عيينة: كان بالكوفة ثلاثة، لو قيل لأحدهم: إنك تموت غدًا، ما كان يقدر أن يزيد في عمله: محمد بن سوقة، وعمرو بن قيس الملائي، وأبو حيان التيمي. قال سفيان: وكان محمد بن سوقة لا يحسن أن يعصي الله. وقال العجلي: كوفي ثبت، وكان خزازا، جمع من الخز مائة ألف، ثم أتى مكة، فقال: ما اجتمعت هذه لِخَيْر، فتصدق بها، وكان صاحب سنة وعبادة وخير كثير، في عداد الشيوخ، وليس بكثير الحديث. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال النسائي: ثقة مرضي. وذكره ابن ¬

_ (¬1) راجع "تهذيب التهذيب" 2/ 415 - 417.

حبان في "الثقات"، في الطبقة الثالثة في أتباع التابعين، وقال: كان من أهل العبادة والفضل والدين والسخاء. وقال أيضًا: قد قيل: إنه رأى أنسا، وأبا الطفيل. قال الحافظ: ومقتضاه أن تكون روايته عنده عن أنس مرسلة. وقال يعقوب بن سفيان: محمد بن سوقة من خيار أهل الكوفة وثقاتهم. وقال الدارقطني: كوفي فاضل ثقة. روى له الجماعة، له عند المصنف خمسة أحاديث برقم 4 و 1602 و 2910 و 3814 و4065. والله تعالى أعلم. 5 - (أبو جعفر) هو محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب المدنيّ المعروف بالباقر الهاشمي، أمه بنت الحسن بن علي بن أبي طالب، ثقة فاضل [4]. روى عن أبيه، وجديه الحسن والحسين، وجد أبيه علي بن أبي طالب مرسل، وعم أبيه محمد بن الحنفية، وابن عم جده عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وسمرة بن جندب، وابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة، وعائشة، وأم سلمة، وأبي سعيد الخدري، وجابر، وأنس، وإبراهيم بن سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن المسيب، وغيرهم. ورَوَى عنه ابنه جعفر، وأبو إسحاق السبيعي، والأعرج، والزهري، وعمرو بن دينار، وأبو جهضم موسى بن سالم، والقاسم بن الفضل، والأوزاعي، وابن جريج، والأعمش، وغيرهم. قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وليس يروي عنه من يُحتَج به. وقال العجلي: مدني تابعي ثقة. وقال ابن البرقي: كان فقيها فاضلا. وذكره النسائي في فقهاء أهل المدينة من التابعين. وقال محمد بن فضيل، عن سالم بن أبي حفصة: سألت أبا جعفر، وابنه جعفر بن محمد. عن أبي بكر وعمر، فقالا لي: يا سالم تَوَلَّهما، وابرأ من عدوهما، فإنهما كانا إمامي هدى. وعنه قال: ما أدركت أحدا من أهل بيتي إلا وهو يتولاهما. قال ابن البرقي: كان مولده سنة ست وخمسين. وقيل: إنه مات سنة أربع عشرة، وقيل: خمس عشرة، وقيل: ست عشرة، وقيل: سبع عشرة. وقال ابن سعد: مات سنة ثماني عشرة ومائة، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة.

قال الحافظ: فإن ثبت ذلك فيكون مولده سنة خمس وأربعين، ولكن ابن سعد لم ينقل ذلك إلا عن الواقدي، كذا صرح به في "الطبقات الكبرى"، ثم قال ابن سعد: أنا عبد الرحمن بن يونس، عن ابن عيينة، عن جعفر بن محمد، سمعت محمد بن علي، وهو يذاكر فاطمة بنت الحسين، صدقة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: وهذه تُوفي لي ثمانيا وخمسين سنة، ومات بها. انتهى. وهذا السند في غاية الصحة، ومقتضاه أن يكون ولد سنة ستين، وهذا هو الذي يتجه؛ لأن أباه علي بن الحسين شهد مع أبيه، يوم كربلاء، وهو ابن عشرين سنة، وكان يوم كربلاء في المحرم سنة إحدى وستين، ومقتضاه أن مولد علي كان سنة إحدى وأربعين، فمن يولد سنة أربعين، أو سنة إحدى وأربعين كيف يولد له سنة خمس وأربعين، والأصح أنه مات سنة أربع عشرة؛ لأن البخاري قال: ثنا عبد الله بن محمد، عن ابن عيينة، عن جعفر بن محمد، قال: مات أبي سنة أربع عشرة، فيكون مولده على هذا سنة ست وخمسين، وهو يتجه أيضا، وقد قيل: إن رواية محمد عن جميع من سُمّي هنا من الصحابة، ما عدا ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب مرسلة. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ينبغي أن يزاد ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بلا شكّ؛ لأنه تأخر بعد ابن عباس، فإنه مات سنة (68) ومات ابن عمر آخر سنة (73) أو أول التي تليها، فليتأمل. والله تعالى أعلم. روى له الجماعة، وله عند المصنف أربعة وعشرون حديثًا. 6 - (ابن عمر) (¬1) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزّى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عديّ بن كعب بن لؤيّ بن غالب الإمام القدوة ¬

_ (¬1) راجع ترجمته في "الإصابة" 6/ 167 - 173 و"سير أعلام النبلاء" 3/ 203 - 239 و"تهذيب التهذيب" 2/ 389 - 391.

شيخ الإسلام، أبو عبد الرحمن القرشي العدويّ المكي، ثم المدني، أمه زينب بنت مظعون الجمحية. وُلد سنة ثلاث من المبعث النبوي فيما جزم به الزبير بن بكار، قال: هاجر وهو ابن عشر سنين، وكذا قال الواقدي حيث قال: مات سنة أربع وثمانين. وقال ابن منده: كان ابن إحدى عشرة ونصف. ونقل الهيثم بن عدي، عن مالك، أنه مات وله سبع وثمانون سنة، فعلى هذا كان له في الهجرة ثلاث عشرة، وقد ثبت عنه أنه كان له يوم بدر ثلاث عشرة، وبدرٌ كانت في السنة الثانية، وأسلم مع أبيه، وهاجر، وعُرض على النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ببدر فاستصغره، ثم بأحد فكذلك، ثم بالخندق فأجازه، وهو يومئذ ابن خمس عشرة سنة، كما ثبت في "الصحيح". وأخرج البغوي في ترجمته من طريق علي بن زيد، عن أنس، وسعيد بن المسيب قالا: شهد ابن عمر بدرا. قال الحافظ الذهبيّ: هذا خطأ وغلط؛ لما ثبت عنه أنه قال: عُرضت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد، وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يُجزني (¬1). وأخرج البغويّ أيضًا من طريق مطرف، عن أبي إسحاق، عن البراء، عرضت أنا وابن عمر يوم بدر، فرُدِدنا. وحفظ وقت إسلام أبيه، كما أخرج البخاري من طريق عبد الله. وقال البغوي: أسلم مع أبيه، ولم يكن بلغ يومئذ. وأخرج من طريق أبي إسحاق: رأيت ابن عمر في السعي بين الصفا والمروة، فإذا رجل ضخم آدم. وهو من المكثرين عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وروى أيضا عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وأبي ذر، ومعاذ، وعائشة، وغيرهم. وروى عنه من الصحابة جابر، وابن عباس، وغيرهما، وبنوه: سالم، وعبد الله، وحمزة، وبلال، وزيد، وعُبيد الله، وابن أخيه حفص بن عامر، ومن كبار التابعين سعيد ابن المسيب، وأسلم مولى عمر، وعلقمة بن وقاص، وأبو عبد الرحمن النهدي، ومسروق، وجبير بن نفير، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، في آخرين. ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" 3/ 209.

وممن بعدهم مواليهم: عبد الله بن دينار، ونافع، وزيد، وخالد بن أسلم، ومن غيرهم: مصعب بن سعد، وموسى بن طلحة، وعروة بن الزبير، وبشر بن سعيد، وعطاء، وطاوس (¬1)، ومجاهد، وابن سيرين، والحسن، وصفوان بن محرز، وآخرون. وفي "الصحيح" عن سالم، عن ابن عمر، كان من رأى رؤيا في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- قصها عليه، فتمنيت أن أرى رؤيا، وكنت غلاما شابا عزبا، أنام في المسجد، فرأيت في المنام، كأن ملكين أتياني، فذهبا بي ... " الحديث، وفي آخره فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "نعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي من الليل"، فكان بعدُ لا ينام من الليل إلا القليل. وفي "الصحيح" أيضا عن نافع، عن ابن عمر: فرأيت في يدي سَرَقَةً من حرير، فما أهوي بها إلى مكان من الجنة إلا طارت بي إليه، فقصصتها على حفصة، فقصتها على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: إن أخاك" أو "إن عبد الله رجل صالح". قال البخاري في "التاريخ": حدثني الأويسي، حدثني مالك، أن ابن عمر بلغ سبعا وثمانين سنة. وقال غير مالك: عاش أربعا وثمانين، والأول أثبت. وقال ضمرة بن ربيعة في "تاريخه": مات سنة اثنتين، أو ثلاث وسبعين، وجزم مرة بثلاث، وكذا أبو نعيم، ويحيى بن بكير، والجمهور، وزاد بعضهم: في ذي الحجة. وقال الفلاس مرة سنة أربع، وبه جزم خليفة، وسعيد بن جبير، وابن زبر. روى له الجماعة، له في "مسند بقي بن مخلد" ألفان وستمائة وثلاثون حديثا بالمكرر، واتفق الشيخان له على (168) وانفرد البخاريّ (81) ومسلم (31) قاله الذهبيّ (¬2) وله عند المصنف (364) حديثًا. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سُداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. ¬

_ (¬1) الذي في "الإصابة": وطارق، وما هنا من "سير أعلام النبلاء" 3/ 205. (¬2) "سير أعلام النبلاء" 3/ 238.

2 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: محمد بن سوقة، عن أبي جعفر. 3 - (ومنها): أنه فيه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أحد المكثرين السبعة، وقد تقدّموا قريبًا، وأحد العبادلة الأربعة المجموعين في قول السيوطيّ في "ألفية الحديث": وَالْبَحْرُ وَابْنَا عُمَرٍ وَعَمْرِو ... وَابْنُ الزُّبَيْرِ في اشْتِهَارٍ يَجرِي دُونَ ابْنِ مَسْعُودٍ لهُمْ عَبَادِلَهْ ... وَغَلَّطُوا مَنْ غَيْرَ هَذَا مَالَ لَهْ 4 - (ومنها): أن فيه التحديث، والعنعنة، والقول من صيغ الأداء، وكلها من صيغ الاتصال، على تفصيل تقدّم بيانه. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ) محمد بن عليّ الباقر، أنه (قَالَ: كَانَ) عبد الله (بْنُ عُمَرَ) ابن الخطّاب رضي الله عنهما (إِذَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- حَدِيثًا، لَمْ يَعْدُهُ) بفتح أوله، وسكون ثانيه مضارع عدا، من باب نصر، يقال: عدَوته أعدوه: إذا تجاوزته إلى غيره، وعدّيته، وتعدّيته كذلك. قاله الفيّوميّ. والمعنى أن ابن عمر إذا سمع حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لم يتجاوزه بالزيادة على قدر ما سمعه منه -صلى الله عليه وسلم-، والإفراط فيه. وفي رواية الدارميّ من طريق ابن عيينة، عن محمد بن سوقة: وكان ابن عمر إذا سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يزد فيه، ولم ينقص منه، ولم يجاوزه، ولم يقصر عنه. (وَلَمْ يُقَصِّرْ) بضم أوله، وتشديد ثالثه، من التقصير في الأمر، وهو التواني فيه، يقال: قصّر فلان في حاجتي: إذا ونِي فيها. قاله ابن منظور (دُونَهُ) أي دون ذلك الحديث، بمعنى أنه لا ينقص منه شيئًا، بل يرويه تامّا كما سمعه. قال المجد: "دون" بالضم تكون نقيض فوقُ، وتكون ظرفًا، وبمعنى أمام، ووراء، وفوق، ضدّ، وبمعنى غير. انتهى "قاموس". وذكر ابن منظور رحمه الله تعالى في "اللسان": عن بعض النحويين: لـ "دون" معاني كثيرة، فقال: "دون" تكون بمعنى قبلُ، وبمعنى أمام، وبمعنى وراء، وبمعنى تحت، وبمعنى فوق، وبمعنى الساقط من الناس وغيرهم، وبمعنى الشريف، وبمعنى

الأمر، وبمعنى الوعيد، وبمعنى الإغراء. فأما "دون" بمعنى قبل، فكقولك: دون النهر قتال، ودون قتل الأسد أهوال: أي قبل أن تصل إلى ذلك. و"دون" بمعنى وراء، كقولك: هذا أمير على ما دون جيحون: أي على ما وراءه. والوعيد كقولك: دونك صراعي، ودونك فتمَرَّسْ بي. وفي الأمر كقولك: دونك الدرهم: أي خذه. وفي الإغراء دونك زيدًا: أي الزم زيدًا حافظه. وبمعنى تحت كقولك: دون قدمك خدّ عدوك: أي تحت قدمك. وبمعنى فوق كقولك: إن فلانا لشريف، فيُجيب آخر، فيقول: ودون ذلك: أي فوق ذلك. وقال الفرّاء: "دون" تكون بمعنى "على"، وتكون بمعنى "علّ"، وتكون بمعنى بعد، وتكون بمعنى عند، وتكون إغراء، وتكون بمعنى أقلّ من ذا، وأنقص من ذا. انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: المناسب هنا من هذه المعاني، كونها بمعنى "غير"، وبمعنى أقل، وأنقص، أي فكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، لا يأتي به أقلّ وأنقص مما سمعه من النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، بل يؤديه كما هو. وهذا الحديث فيه قصّة، وقد ساقه الإمام أحمد رحمه الله تعالى في "مسنده" بقصّته، فقال: 5521 - حدثنا مصعب بن سلام، حدثنا محمد بن سوقة، سمعت أبا جعفر، يقول: كان عبد الله بن عمر، إذا سمع من نبي الله -صلى الله عليه وسلم- شيئا، أو شهد معه مشهدا، لم يقصر دونه، أو يعدُوه، قال: فبينما هو جالس، وعبيد بن عمير يقص على أهل مكة، إذ قال عبيد بن عمير: "مثل المنافق كمثل الشاة بين الغنمين، إن أقبلت إلى هذه الغنم نطحتها، وإن أقبلت إلى هذه نطحتها". فقال عبد الله بن عمر: ليس هكذا، فغضب عبيد بن عمير، وفي المجلس عبد الله بن صفوان، فقال: يا أبا عبد الرحمن كيف قال - ¬

_ (¬1) "لسان العرب" 13/ 165 - 166.

رحمك الله-؟ فقال: قال: "مثل المنافق مثل الشاة بين الربيضين (¬1)، إن أقبلت إلى ذا الربيض نطحتها، وإن أقبلت إلى ذا الربيض نطحتها"، فقال له: رحمك الله هما واحد، قال: كذا سمعت. وأخرج أحمد من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما مثل المنافق مثل الشاة العائرة (¬2) بين الغنمين، تَعِير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة، لا تدري أيهما تتبع". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هذا صحيح. (المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه: أخرجه هنا - 1/ 4 - ولم يخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (أحمد) في "مسند المكثرين" 5521 (الدارميّ) في "المقدّمة" 220. والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان اتباع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ووجه الاستدلال أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يجتهد في أداء الحديث النبوي على لفظه، وإن كان المعنى لا يختلف؛ اتباعًا للفظ المنقول، وهكذا ينبغي للمسلم أن يحرص على اتباعه -صلى الله عليه وسلم- قولًا، وفعلًا، وحالًا؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- هو المثل الأعلى في الأخلاق المرضية، فلا ينبغي أن يُتجاوز إلى غير هديه، وقد أمر الله تعالى باتباعه في غير ما آية، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الآية [الحشر: 7]. وقال {وَإِن ¬

_ (¬1) "الربيض" بفتح، فكسر: الغنم برُعاتها المجتمعةُ في مرابضها، وهي مباركها. أفاده في "القاموس". (¬2) أي المترددة. ومعنى تعير: أي تتردد، وتذهب.

تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} الآية [النور: 54]. وقال: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]. والله تعالى أعلم. 2 - (ومنها): ما كان عليه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما من شدة الاتباع للنبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فكان معروفًا بذلك، فروى ابن وهب، عن مالك، عمن حدثه أن ابن عمر كان يتبع أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وآثاره، وحاله، ويهتمّ به، حتى كان قد خيف على عقله من اهتمامه بذلك. وعن خارجة بن مصعب، عن موسى بن عقبة، عن نافع، قال: لو نظرت إلى ابن عمر إذا اتبع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لقلت: هذا مجنون. وعن عبد الله بن عمر، عن نافع، أن ابن عمر كان يتّبع آثار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلّ مكان صلّى فيه، حتى إن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- نزل تحت شجرة، فكان ابن عمر يتعاهد تلك الشجرة، فيصبّ في أصلها الماء؛ لكيلا تيبس. وقال نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو تركنا هذا الباب للنساء"، قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات (¬1). ذكر هذا كله الذهبيّ في "السير" (¬2). وأخرج الترمذيّ من طريق صالح بن كيسان، عن ابن شهاب أن سالم بن عبد الله حدثه، أنه سمع رجلا من أهل الشام، وهو يسأل عبد الله بن عمر عن التمتع بالعمرة إلى الحج؟ فقال عبد الله بن عمر: هي حلال، فقال الشامي: إن أباك قد نهى عنها، فقال عبد الله بن عمر: أرأيت إن كان أبي نهى عنها، وصنعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أأمر أبي نتبع أم أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال الرجل: بل أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: لقد صنعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال السنديّ رحمه الله تعالى معلقًا على هذا الحديث: ما نصّه: فانظر إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كيف خالف أباه مع علمه بأن أباه قد بلغه الحديث، وأنه لا يخالفه إلا بدليل هو أقوى منه عنده، ومع ذلك فقد أفتى بخلاف قول أبيه، وقال: إن قول أبيه ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سعد 4/ 162 من طريق أبي الوليد الطيالسيّ، عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك. ورجاله ثقات. (¬2) "سير أعلام النبلاء" 3/ 213.

لا يليق أن يؤخذ به. وقد عَمِل بمثل هذا سالم بن عبد الله حين بلغه حديث عائشة في الطيب قبيل الإحرام، وقبل الإفاضة، ترك قول أبيه وجده، وقال: سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحقّ أن تتّبع. وغالب أهل الزمان على خلافاتهم (¬1) إذا جاءهم حديث يُخالف قول إمامهم يقولون: لعل هذا الحديث قد بلغ الإمام، وخالفه بما هو أقوى عنده منه. وروى ابن عمر حديث: 11 لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"، فقال له بعض أولاده: نحن نمنع، فسبّه سبا ما سُمع سب مثله قط، وقطع الكلام معه إلى الموت. وله -رضي الله عنه- في مراعاة دقائق السنن أحوال مدوّنة في كتب الحديث، مشهورة بين أهله. انتهى كلام السنديّ (¬2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ولْعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله- المذكور أول الكتاب قال: 5 - (حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمارٍ الدِّمَشْقِى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سُمَيْعٍ، حَدَّثنا إِبْرَاهِيمُ ابْنُ سُلَممانَ الْأَفْطَسُ، عَنِ الْوَليدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الجرَشِيِّ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْفَقْرَ، وَنَتَخَوَّفُهُ، فَقَالَ: "آالْفَقْرَ تخَافُونَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَده لَتُصَبَّنَّ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا صَبًّا، حَتَّى لَا يُزِيغَ قَلْبَ أَحَدِكُمْ إِزَاغَةً إِلَّا هِيهْ، وَايْمُ الله لَقَدْ ترَكتكُمْ عَلَى مِثْلِ الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا وَنهَارُهَا سَوَاءٌ". قَالَ أبو الدَّرْدَاءِ: صَدَقَ وَاللهِّ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، تَرَكنَا وَاللهَّ عَلَى مِثْلِ الْبيضَاءِ لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا سَوَاءٌ). رجال هذا الإسناد: ستة أيضًا: 1 - (هشام بن عمار) بن نُصير -بنون، مصغّرا- ابن ميسرة بن أبان السلمي، ويقال: الظفري، أبو الوليد الدمشقيّ، خطيب المسجد الجامع بها، صدوقٌ، مقرىء، كبر، فصار يتلقن، فحديثه القديم أصحّ، من كبار [10]. ¬

_ (¬1) هكذا النسخ، و/ لعله "على خلاف ذلك" فليحرّر. (¬2) "شرح السنديّ" 1/ 11.

وقد سمع من معروف الخيّاط، لكن معروفٌ ليس بثقة. روى عن معروف الخياط أبي الخطاب الدمشقي، صاحب واثلة، وصدقة بن خالد، وعبد الحميد بن حبيب، أبي العشرين، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وخلق كثير. وروى عنه البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وروى الترمذي عن البخاري عنه، وابنه أحمد بن هشام، وشيخاه الوليد بن مسلم، ومحمد بن شعيب، وابن سعد، وجمّ غفير. قال إبراهيم بن الجنيد عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم عن يحيى بن معين: كيس كيس. وقال العجلي: ثقة. وقال مرة: صدوق. وقال أحمد بن خالد الخلال، عن يحيى بن معين: حدثنا هشام بن عمار، وليس بالكذوب. وقال النسائي: لا بأس به. وقال الدارقطني: صدوق كبير المحل. وقال عبدان: ما كان في الدنيا مثله. وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه، لما كبر هشام تغير، فكلما دفع إليه قرأه، وكلما لُقّن تلقن، وكان قديما أصح، كان يقرأ من كتابه، قال: وسئل أبي عنه؟ فقال: صدوق، وقال ابن عدي: سمعت قُسطنطين بن عبد الله الروميّ مولى المعتمد على الله أمير المؤمنين يقول: حضرت مجلس هشام، فقال له المستملي: من ذكرت؟ فقال: حدثنا بعض مشايخنا، ثم نعس، فقال المستملي: لا تنتفعون به، فجمعوا له شيئا، فأعطوه، فكان بعد ذلك يملي عليهم. وقال ابن وارة: عزمت زمانا أن أمسك عن حديث هشام؛ لأنه كان يبيع الحديث. وقال صالح بن محمد: كان يأخذ على الحديث، ولا يحدث ما لم يأخذ. وقال الإسماعيلي، عن عبد الله بن محمد بن سيار: كان هشام يلقن، وكان يلقن كل شيء، ما كان من حديثه، وكان يقول: أنا قد خرجت هذه الأحاديث صحاحا. وقال الله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} الآية [البقرة: 181]، وكان يأخذ على كل ورقتين درهمين، ويشارط، ولمّا لُمتُهُ على التلقين، قال: أنا أعرف حديثي، ثم قال لي بعد ساعة: إن كنت تشتهي أن تعلم، فأدخل إسنادا في شيء، فتفقدت الأسانيد التي فيها قليل اضطراب، فسألته عنها، فكان يمر فيها، قال المروذي

عن أحمد بن حنبل: هشام طياش خفيف. وقال أبو بكر الباغندي، عن هشام بن عمار: وُلدت سنة ثلاث وخمسين ومائة. وقال البخاري: مات بدمشق آخر المحرم سنة خمس وأربعين ومائتين، وفيها أرخه غير واحد، وقيل: مات سنة أربع، وقيل: سنة ست. وقال في "الزهرة": روى عنه البخاري أربعة أحاديث. روى عنه الجماعة، سوى مسلم، وله عند المصنّف ثلاثمائة، وثمانية وعشرون حديثًا. 2 - (محمد بن عيسى بن القاسم بن سُميع) -بالتصغير- أبو سفيان الدمشقيّ الأمويّ مولاهم، صدوقٌ يُخطىء، ويُدلّس،، ورُمي بالقدر [9]. روى عن حميد الطويل، وعبيد الله بن عمر، وهشام بن عروة، وزيد بن واقد، وإبراهيم بن سليمان الأفطس، والأوزاعي، وابن أبي ذئب، وغيرهم. وروى عنه العباس بن الوليد الخلال، وعبد الرحمن بن يحيى بن إسماعيل بن المهاجر، وعبد الرزاق بن عمر العابدي، وهارون بن محمد بن بكار، والهيثم بن مروان، وهشام بن عمار، وآخرون. قال عثمان الدارمي عن دحيم: ليس من أهل الحديث، وهو قدري. وقال أبو حاتم: شيخ دمشقي، يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال البخاري: يقال: إنه لم يسمع من ابن أبي ذئب هذا الحديث -يعني حديثه عن الزهري في مقتل عثمان-. وقال صالح بن محمد: ثنا هشام بن عمار، ثنا محمد بن عيسى بن القاسم، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، حديث مقتل عثمان، قال: فجهدت به كل الجهد أن يقول: حدثنا ابن أبي ذئب، فأبى، قال صالح: قال لي محمود ابن بنت محمد بن عيسى، هو في كتاب جدي، عن إسماعيل بن يحيى بن عبيد الله، عن ابن أبي ذئب، قال صالح: وإسماعيل بن يحيى هذا يضع الحديث. قال صالح: فحدثت بهذه القصة محمد بن يحيى الذهلي، فقال: الله المستعان. وقال ابن شاهين: محمد بن عيسى بن سميع شيخ من أهل الشام ثقة، وإسماعيل الذي أسقطه ضعيف. وقال ابن حبان: هو مستقيم الحديث إذا بين السماع في

خبره، فأما خبره الذي روى عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب في مقتل عثمان، فلم يسمع من ابن أبي ذئب، سمعه من إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي ذئب، فدلس عنه، وإسماعيل واهٍ. وقال الآجري عن أبي داود: قال لي عيسى بن شاذان: قلت لهشام بن عمار: محمد بن عيسى قال لكم: حدثنا ابن أبي ذئب، قال: أيشٍ سؤالك عن هذا؟ قال أبو داود: محمد بن عيسى ليس به بأس، إلا أنه كان يتهم بالقدر. وقال أبو داود: سمعت هشام بن عمار يقول: حدثنا محمد بن عيسى الثقة المأمون، قال أبو داود: بلغني أن أبا مسهر قال لهشام بن عمار وأصحابه: ذهبتم، فأكلتم طعام الدجال -يعني محمد بن عيسى. وقال ابن عساكر: بلغني عن يزيد بن محمد بن عبد الصمد أنه قال: محمد بن عيسى شيخ ثبت. وقال ابن عدي: لا بأس به، وله أحاديث حسان، عن عُبيد الله -يعني ابن عمر، وروح يعني ابن القاسم وجماعة من الثقات، وهو حسن الحديث، والذي أنكر عليه حديث مقتل عثمان، أنه لم يسمعه من ابن أبي ذئب. وقال الحاكم أبو أحمد: مستقيم الحديث، إلا أنه روى عن ابن أبي ذئب حديثا منكرا، وهو حديث مقتل عثمان، ويقال: كان في كتابه: عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي ذئب، فأسقطه، وإسماعيل ذاهب الحديث. وقال الدارقطني: ليس به بأس، وجزم ابن حبان بأنه دلس حديث ابن أبي ذئب، قال الحافظ رحمه الله تعالى: وفيه نظر، والظاهر أنه دلس عليه تدليس التسوية كما تقدم في خبر صالح جزرة، وقد وهم فيه محمد بن إسماعيل، فجعله ترجمتين، ورد ذلك عليه أبو حاتم، وأبو زرعة. وقال الخطيب في "الموضح": قال البخاري مرة: محمد بن عيسى ابن سميع، ومرة: محمد بن عيسى القرشي، سمع زيد بن واقد، وهو رجل واحد. وقال أبو سليمان ابن زبر عن شيوخه: مات سنة أربع ومائتين. وقال الحسن بن محمد بن بكار ابن بلال: مات سنة ست ومائتين. وكان مولده سنة أربع عشرة ومائة. روى له أبو داود، والنسائيّ، والمصنّف، له عنده هذا الحديث فقط. 3 - (إبراهيم بن سليمان الأفطس) الدمشقيّ، ثقة ثبتٌ، إلا أنه يُرسل [8].

رَوَى عن مكحول، والوليد بن عبد الرحمن الْجُرَشِي، ويزيد بن يزيد بن جابر. وعنه محمد بن شعيب بن شابور، وإسماعيل بن عياش، ومحمد بن عيسى بن سُميع، وغيرهم. قال دحيم: ثقة ثقة. وقال مرة: ثقة ثبت. وقال يعقوب بن سفيان: سألت دحيما عنه؟ فقال: بخ بخ ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس به. وقال البخاري: إبراهيم الأفطس عن يزيد بن يزيد جابر مرسل. وذكره ابن حبان في "الثقات". روى له الترمذي والمصنّف، له عنده هذا الحديث فقط. 4 - (الوليد بن عبد الرحمن الجرشيّ) بضم الجيم، وفتح الراء، وبالشين المعجمة - الحمصيّ الزّجّاج، كان على خراج الْغُوطة أيام هشام، ثقة [4]. روى عن ابن عمر، وأبي هريرة، وأبي أُمامة، وجبير بن نفير، والحارث بن أوس الثقفي، وعياض بن غطيف، وغيرهم. ورَوى عنه يعلى بن عطاء، وإبراهيم بن أبي عبلة، وداود بن أبي هند، وغيرهم. قال الغلابي عن ابن معين: روى داود بن أبي هند، عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي، وهو ثقة. وقال ابن خراش: ثقة، وكان ممن قَدِم على الحجاج. وقال أبو زرعة الدمشقي في الطبقة الثالثة: قديم، جيد الحديث. وقال أبو حاتم، ومحمد بن عون: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال البخاري: الوليد بن عبد الرحمن الجرشي، مولى لأبي سفيان الأنصاري، قاله أبو شعيب، وأراه الوليد بن أبي مالك، قال ابن عساكر: هذا وهم، وكذا قوله: مولى لأبي سفيان، فإنه عربي. وتعقّبه الحافظ بأنه يجوز أن يكون مولى بالحلف، وإن كان عربي الأصل، فقد تابع البخاري على ما قال أبو حاتم، ويعقوب بن سفيان، وابن حبان. ووقع عند الطحاوي في روايته لحديثه: عن الحارث بن عبد الله بن أوس، عن الوليد بن عبد الرحمن بن الزجاج. روى له البخاري في "خلق أفعال العباد"، ومسلم، والأربعة. له عند المصنف حديثان فقط: هذا، وفي "كتاب الصلاة"- "باب ما جاء في قيام شهر رمضان" (1327) حديث أبي ذرّ -رضي الله عنه-: "صمنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رمضان ... " الحديث.

5 - (جبير بن نفير) بنون، وفاء مصغّرًا - ابن مالك بن عامر الحضرميّ، أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو عبد الله الحمصيّ، ثقة، جليل، مخضرم [2]. أدرك زمان النبي -صلى الله عليه وسلم-، وروى عنه، وعن أبي بكر الصديق مرسلا، وعن عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه-، وفي سماعه منه نظر، وعن أبيه، وأبي ذر، وأبي الدرداء، والمقداد بن الأسود، وخالد بن الوليد، وعبادة بن الصامت، وابن عمر، ومعاوية، والنواس بن سمعان، وثوبان، وعقبة بن عامر الجهني، وخلق. وروى عنه ابنه عبد الرحمن، ومكحول، وخالد بن معدان، وأبو الزاهرية، وأبو عثمان، وليس بالنهدي، وحبيب بن عبيد، وصفوان بن عمرو، وغيرهم. قال أبو حاتم: ثقة، من كبار تابعي أهل الشام. وقال أبو زرعة: ثقة. وقال أبو زرعة الدمشقي: رفع دُحيم من شأن جبير بن نفير، وقَدّم أبا إدريس عليه. وقال النسائي: ليس أحدٌ من كبار التابعين أحسن روايةً عن الصحابة من ثلاثة: قيس بن أبي حازم، وأبي عثمان النهدي، وجُبير بن نُفير. وقال ابن حبان في ثقات التابعين: أدرك الجاهلية، ولا صحبة له. وقال سليم بن عامر عن جبير: استقبلت الإسلام من أوله. وقال أبو زرعة: هو أسن من إدريس (¬1) لأنه قد ثبت له إدراك عمر، وسمع كتابه يقرأ بحمص. وقال ابن سعد: كان ثقة فيما يروي من الحديث. وقال ابن خراش: هو من أجل تابعي الشام. وكذا قال الآجري عن أبي داود. وقال العجلي: شامي تابعي ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: مشهور بالعلم. وذكره الطبري في طبقات الفقهاء. وقال معاوية ابن صالح: أدرك إمارة الوليد بن عبد الملك. انتهى. قال الحافظ: فإن صح ذلك، فيكون عاش إلى سنة بضعٍ؛ لأن الوليد ولي سنة (86) والله أعلم. قال أبو حسان الزيادي: مات سنة (75) وكان جاهليًّا أسلم في خلافة أبي بكر، ¬

_ (¬1) هكذا في "تهذيب التهذيب" 1/ 292 ولعله "من أبي إدريس" يعني الخولانيّ. والله أعلم.

ويقال: مات سنة (8). روى له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، والأربعة، وله عند المصنف سبعة أحاديث، برقم -5 و 1327 و 2707 و 4075 و 4076 و 4089 و 4253. والله تعالى أعلم. 6 - (أبو الدرداء) عويمر بن مالك، وقيل: ابن عامر، وقيل: ابن ثعلبة، وقيل: ابن عبد الله، وقيل: ابن زيد بن قيس بن أمية بن عامر بن عدي بن كعب بن الخزرج الأنصاري، أبو الدرداء الخزرجي. وقال الْكُدَيمي عن الأصمعي: اسمه عامر، وكانوا يقولون له: عويمر، وكذا قال عمرو بن علي عن بعض ولده. رَوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن عائشة، وزيد بن ثابت. وروى عنه ابنه بلال، وزوجته أم الدرداء، وفضالة بن عبيد، وأبو أمامة، ومعدان بن أبي طلحة، وأبو إدريس الخولاني، وأبو مرة، مولى أم هانئ، وأبو حبيبة الطائي، وأبو السفر الهمداني مرسل، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وجبير بن نفير، وسويد بن غَفَلَة، وزيد بن وهب، وصفوان بن عبد الله بن صفوان، وعلقمة بن قيس، وكثير بن قيس، وسعيد بن المسيِّب، وأبو بحرية عبد الله بن قيس، وكثير بن مرة، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن كعب القرظي، وهلال بن يساف، وآخرون. قال أبو مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز: أسلم يوم بدر، وشهد أحدا، وأبلى فيها، وقال الأعمش، عن خيثمة عنه قال: كنت تاجرا قبل البعثة، فزاولت بعد ذلك التجارة والعبادة، فلم يجتمعا، فأخذت العبادة، وتركت التجارة. وقد علّق على هذا الحافظ الذهبيّ رحمه الله تعالى، فقال: الأفضل جمع الأمرين مع الجهاد، وهذا الذي قاله هو طريق جماعة من السلف، والصوفيّة، ولا ريب أن أمزجة الناس تختلف في ذلك، فبعضهم يَقوَى على الجمع، كالصدّيق، وعبد الرحمن بن عوف، وكما كان ابن المبارك، وبعضهم يعجِز، ويقتصر على العبادة، وبعضهم يقوى في بدايته، ثم يعجز، وبالعكس، وكلّ سائغ، ولكن لا بدّ من النهضة بحقوق الزوجة

والعيال. انتهى كلام الذهبيّ (¬1). وقال صفوان بن عمرو، عن شريح بن عبيد: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد: "نعم الفارس عويمر"، وقال: "حكيم أمتي"، ومناقبه وفضائله كثيرة جدا. قال أبو مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز: مات أبو الدرداء، وكعب الأحبار، في خلافة عثمان لسنتين بقيتا من خلافته. وقال الواقدي، وغير واحد: مات سنة اثنتين وثلاثين. وقال ابن حبان: ولاه معاوية قضاء دمشق بأمر عمر بن الخطاب. وقال ابن سعد: آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين عوف بن مالك. وقال ابن عبد البر: قال طائفة من أهل الأخبار: مات بعد صفين، قال: والأصح عند أهل الحديث أنه توفي في خلافة عثمان. وصحح ابن الحذاء قول البخاري: إنه عويمر بن زيد. وقال عمرو بن علي عن بعض ولده: مات قبل عثمان بسنة. أخرج له الجماعة، روى (179) حديثًا، اتفق الشيخان على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم، بثمانية. وأخرج له المصنف ستة وعشرين حديثا. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه مسلسلٌ بالشاميّين، فالوليد، وجُبير حمصيان، والباقون دمشقيون. 2 - (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعيّ. 3 - (ومنها): أن فيه التحديث، والعنعنة من صيغ الأداء، وكلاهما للاتصال على الوجه الذي تقدّم بيانه. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي الدرْدَاءِ) عويمر بن مالك -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-) أي من حجرته، أو من الموضع الذي كان فيه (وَنَحْنُ نَذْكرُ الْفَقْرَ) جملة في محل نصب على الحال، أي والحال أننا نذكر آثار الفقر، وبؤسه (وَنَتَخَوَّفُهُ) بتشديد الواو: أي نظهر ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" 2/ 338.

الخوف من لحوقه بنا (فَقَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (آالْفَقْرَ تخَافُونَ) بهمزة الاستفهام، ونصب "الفقرَ" على أنه مفعول مقدّم لـ "تخافون" (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَد) قسم منه -صلى الله عليه وسلم- بالله الذي نفسه -صلى الله عليه وسلم- بيده يتصرّف فيها كيف شاء، وفيه إثبات اليد لله تعالى على ما يليق بجلاله. وقوله (لتصَبَنَّ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا صَبًّا) جواب القسم (حَتَّى لَا يُزِيغَ) بضم أوله من الإزاغة: بمعنى الإمالة عن الحقّ. قال الفيّوميّ: زاغت الشمس تَزيغ زَيْغًا: مالت، وزاغ الشيءُ كذلك، ويزوغ زَوغًا لغةٌ، وأزاغه إزاغة في التعدّيّ. انتهى. وقال ابن منظور: الزَّيْغُ: الميل، زاغ يَزيغ زَيغًا، وزَيَغَانًا، وزُيوغًا، وزَيْغُوغةً، وأزغتُهُ أنا إزاغةً، وهو زائغ، وقوم زاغةٌ عن الشيء: أي زائغون، وقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8]: أي لا تُملنا عن الهدى والقصد، ولا تُضلّنا. وقيل: لا تُزغ قلوبنا: لا تتعبّدنا بما يكون سببًا لزيغ قلوبنا، والواو لغة -يعني زاغ يزوغ بالواو لغة لبعض العرب- انتهى. (قَلْبَ أَحَدِكُمْ) بنصب "قلب" على أنه مفعول به لـ "يزيغ" (إِزَاغَةً) مفعول مطلق لـ "يزيغ" (إِلَّا هِيهْ) استناء مفرّغ، و"هي" ضمير الدنيا في محل رفع فاعل "يزيغ"، والهاء للسكت. وقال بعض من كتب هنا: قوله: "حتى لا يزيغ الخ": أي حتى لا يُميل قلب أحدكم إمالةً إلا طلب الزيادة، و"هيه" بسكون الياء كلمة يُستزاد بها الشيء. ويحتمل أن يكون بفتح الياء، والهاء في آخره للوقف، و"هي" ضمير مؤنث غائب يرجع إلى "الدنيا": أي حتى لا يميل قلبَ أحدكم إلا الدنيا. انتهى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الثاني هو الأقرب، كما قررناه سابقًا. والله تعالى أعلم. (وَايْمُ الله) بهمزة الوصل بمعنى يمين الله، وهو مبتدأ خبره محذوف: أي قسمي، أو بالعكس: أيَ قمسي: ايم الله (لَقَدْ ترَكْتكُمْ) قال السنديّ: أي ما فارقتكم بالموت، فصيغة الماضي بمعنى الاستقبال، أو اجتهدت في إصلاح حالكم حتى صرتم على هذه الحال التي تركتكم عليها، واشتغلت عنها بأمور أُخَر، كالعبادة، فصيغة الماضي على معناها. انتهى. (عَلَى مِثْلِ الْبيضَاءِ) قال السنديّ رحمه الله تعالى: ظاهر السوق أن هذا بيان لحال

القلوب، لا لحال الملّة، والمعنى: على قلوب هي مثل الأرض البيضاء ليلًا ونهارًا، ويحتمل أن يكون لفظ المثل مقحمًا، والمعنى: على قلوب بيضاء نقيّة عن الميل إلى الباطل، لا يُميلها عن الإقبال على الله تعالى السرّاء والضرّاء، فليُفهم. انتهى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لا يبعد أن يكون المراد الملّةَ، فيكون المعنى: لقد تركتكم على ملّة مثل الشمس في الظهور والوضوح، وعدم اللبس على أحد ممن يُبصر، أما الأعمى، فإنه لا ينتفع بظهورها؛ لخلل من جهته، لا من جهتها، لكن لا يضرّها عدم إبصاره لها، وإنما يتضرّر هو، كما قيل [من البسيط]: مَا ضَرَّ شَمْسَ الضُّحَى في الأُفْقِ طَالِعَةً ... أَنْ لاَ يَرَى نُورَهَا مَنْ لَيْسَ ذَا بَصَرِ فكذلك ملة الإسلام إنما ينتفع بها من فتح الله سبحانه وتعالى قلبه، وهداه إليها، ولا ينقص قدرها بإعراض من كتب الله عليه الشقاء الأبديّ، وإنما ينقص هو نفسه. ولمّا كانت الشمس المشبه بها أنقص حالًا من المشبّه، حيث يتغيّر حالها بتغير الأوقات، فإنها تظهر نهارًا، ويتمّم سلطانها فيه، وتختفي ليلًا، فيذهب سلطانها فيه، بخلاف المشبه، وهي الملة، فإن تمام ظهورها، وإشراقها لا يتغيّر بتغير الأحوال والأزمان، بل هو على حدّ سواء دائمًا، بيّن ذلك، وأوضحه، فقال: (لَيْلُهَا وَنهَارُهَا سَوَاءٌ) أي كلّ أزمانها وأحوالها متساوية في الوضوح والظهور، لا يتغيّر، ولا يتحول، وإن تغير الزمان والمكان، بل يبقى على ما هو عليه حتى يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها، ولهذا المعنى أتبعه المصنف رحمه الله تعالى بحديث: "لا تزال طائفة من أمتي منصورين، لا يضرّهم من خذلهم حتى تقوم الساعة"، اللهم اجعلنا من الطائفة المنصورة، آمين. (قَالَ أبو الدَّرْدَاءِ) -رضي الله عنه- (صَدَقَ) فعل ماض، وفاعله "رسول الله"، وقوله: (وَاللهَ) قسم اعتُرض به بين الفعل والفاعل للتأكيد (رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، ترَكَنَا وَالله عَلَى مِثْلِ الْبيضَاءِ) أي على ملّة واضحة الإشراق، كوضوح إشراقَ الشمس (لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا سَوَاءٌ) أي متساوية، لا تختلف بأي حال من الأحوال في الاهتداء بها، والوصول إلى الغرض المطلوب، وهو الظفر بسعادة الدارين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه

المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- هذا من أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا - 1/ 5 - وهو حديث صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ؛ وفيه هشام بن عمّار، ومحمد بن عيسى، وقد تقدم أنه تُكُلّم فيهما، كما سبق في ترجمتهما؟. [قلت]: حديثهما لا ينزل عن درجة الحسن، ولذا حسّنه الشيخ الألبانيّ، في "صحيح ابن ماجه"، وفي "السلسلة الصحيحة" 2/ 308 برقم (688). وللحديث شواهد يصحّ بها منها: حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه-، أخرجه أحمد في "مسنده" برقم (16519)، وسيأتي للمصنّف برقم (43) ولفظه: "وَعَظَنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موعظةَ ذَرَفَت منها العيون وَوَجِلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله إن هذه لموعظة مُوَدِّع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: "قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ... " الحديث. وهو حديث صحيح، كما سيأتي الكلام عليه في موضعه، إن شاء الله تعالى. ومنها: حديث عوف بن مالك -رضي الله عنه- أخرجه أحمد في "مسنده " (22857) فقال: حدثنا حيوة، قال: أنبأنا بقية بن الوليد، قال: حدثني بَحِير بن سَعْد، عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفير، عن عوف بن مالك أنه قال "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام في أصحابه فقال: "الفقر تخافون؟ أو العَوَز، أوتُهِمُّكم الدنيا، فإن الله فاتح لكم أرض فارس والروم، وتُصَبّ عليكم الدنيا صَبًّا، حتى لا يَزِيغكم بعدي إن أزاغكم إلا هي". وهذا حديث صحيح الإسناد رجاله ثقات. ومنها: حديث عمرو بن عوف الأنصاريّ -رضي الله عنه-، أخرجه الشيخان في "صحيحيهما"، وسيأتي لفظه في المسألة التالية، وفيه: "فوالله ما الفقر أخشى عليكم،

ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتلهيكم كما ألهتهم"، وفي لفظ: "وتهلككم كما أهلكتهم". والحاصل أن الحديث صحيح بهذه الشواهد، فتبصّر، والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان وجوب اتباع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهي ملته التي ترك أمته عليها واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار. 2 - (ومنها): أن فيه عَلَمًا من أعلام النبوة، حيث أخبر -صلى الله عليه وسلم- بأن أمته ستفتح لها الدنيا بحذافيرها، وتصبّ عليها صب الماء المنهمر، وينغمسون فيها، فتستولي على قلوبهم؛ إلا من عصمه الله تعالى بالتقوى والورع. 3 - (ومنها): التحذير عن الاغترار بالدنيا، والانخداع لها، والتنافس فيها، وقد أخرج الشيخان في "صحيحيهما" من حديث عمرو بن عوف الأنصاري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين، يأتي بجزيتها، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو صالح أهل البحرين، وأَمّر عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافت صلاة الصبح مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما صلى بهم الفجر انصرف، فتعرضوا له، فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رآهم، وقال: "أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء؟ "، قالوا: أجل يا رسول الله، قال: "فأبشروا، وأمّلوا ما يسركم، فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها، كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم". وأخرجا أيضًا من حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، خرج يوما، فصلى على أهل أُحُد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر، فقال: "إني فرطكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن

تنافسوا فيها". ولفظ مسلم: فقال: "إني فرطكم على الحوض، وإن عرضه كما بين أَيْلة إلى الجحفة، إني لست أخشى عليكم أن تُشركوا بعدي، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها، وتقتتلوا، فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم"، قال عقبة: فكانت آخر ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر. 4 - (ومنها): أنه قد يُستدلّ بهذا الحديث على أن الفقر أفضل من الغنى؛ لأن زيغ القلب بالدنيا والغنيّ هو الذي عنده الدنيا، فهو مظنة الوقوع في زيغ قلبه الذي يجرّ إلى الهلاك غالبًا، والفقير آمنٌ من ذلك. 5 - (ومنها): أن فيه بيان وضوح الملة، فلا تلتبس على من أراد سلوكها، والتمسك بها، وأنه لا يزيغ عنها إلا من كتب عليه الشقاء المؤبّد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله المذكور أول الكتاب قال: 6 - (حَدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّار، حدثنا مُحَمدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدثنا شُعْبةُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّة، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمتي مَنْصُورِينَ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلهُمْ، حَتَى تَقُومَ الساعَةُ) * رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (محمد بن بشار) بن عثمان بن داود بن كيسان العبديّ، أبو بكر الحافظ البصريّ، المعروف بـ "بندار"، ثقة [10]. رَوَى عن عبد الوهاب الثقفي، وغندر، وروح بن عبادة، وحرمي بن عمارة، وابن أبي عدي، ومعاذ بن هشام، ويحيى القطان، وابن مهدي، وأبي داود الطيالسي، ويزيد بن زريع، ويزيد بن هارون، وخلق كثير. وروى عنه الجماعة، وروى النسائي عن أبي بكر المروزي، وزكرياء السجزي عنه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وبقي بن مخلد، وعبد الله بن أحمد، وابن ناجية، وإبراهيم

الحربي، وابن أبي الدنيا، وزكرياء الساجي، وأبو خليفة، وابن خزيمة، وآخرون. قال ابن خزيمة: سمعت بندارا يقول: اختلفت إلى يحيى بن سعيد القطان أكثر من عشرين سنة، قال بندار: لو عاش يحيى بعد تلك المدة، لكنت أسمع منه شيئا كثيرا. وقال الآجري عن أبي داود: كتبت عن بندار نحوا من خمسين ألف حديث، وكتبت عن أبي موسى شيئا، ولولا سلامةٌ في بندار تُرك حديثه، وقال إسحاق بن إبراهيم الفزاري: كنا عند بندار، فقال في حديث عن عائشة قال: قالت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال له رجل يسخر منه: أعيذك بالله ما أفصحك؟ فقال: كنا إذا خرجنا من عند روح، دخلنا إلى أبي عبيدة، فقال: قد بان ذلك عليك، وقال العجلي: بصري ثقة، كثير الحديث، وكان حائكًا. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: صالح لا بأس به. وقال عبد الله بن محمد بن يونس السختياني: كان أهل البصرة يقدمون أبا موسى علي بندار، وكان الغرباء يقدمون بندارا، وقال ابن حبان في "الثقات": كان يحفظ حديثه، ويقرؤه من حفظه. وقال ابن خزيمة في "التوحيد": ثنا إمام أهل زمانه محمد بن بشار. وقال البخاري في "صحيحه": كتب إلي بندار، فذكر حديثا مسندا، ولولا شدة وثوقه ما حدث عنه بالمكاتبة، مع أنه في الطبقة الرابعة من شيوخه، إلا أنه كان مكثرا، فيوجد عنده ما ليس عند غيره. وقال مسلمة بن قاسم: أنا عنه ابن المهراني، وكان ثقة مشهورا. وقال الدارقطني: من الحفاظ الأثبات. وقال الذهبي: لم يرحل، ففاته كبار، واقتنع بعلماء البصرة، أرجو أنه لا بأس به. قال السراج: سمعت أبا سيار يقول: سمعت بندارا يقول: وُلدت في السنة التي مات فيها حماد بن سلمة، ومات حماد سنة (67). وقال البخاري وغير واحد: مات في رجب سنة اثنتين وخمسين ومائتين. روى عنه المصنف في هذا الكتاب مائتين واثنين وثلاثين حديثًا (232). 2 - (محمد بن جعفر) الهُذَليّ مولاهم، أبو عبد الله البصريّ المعروف بـ "غُندر"، صاحب الكرابيس، ثقة، صحيح الكتاب، إلا أن فيه غفلة [9].

رَوَى عن شعبة، فأكثر، وجالسه نحوا من عشرين سنة، وكان ربيبه، وعبد الله بن سعيد بن أبي هند، وعوف الأعرابي، ومعمر بن راشد، وسعيد بن أبي عروبة، وحسين المعلم، وابن جريج، وهشام بن حسان، وعثمان بن غياث، والثوري، وابن عيينة. ورَوَى عنه أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة، وقتيبة، ويعقوب الدورقي، وبندار، وخلق كثير. قال الميموني عن أحمد: غندر أسن من يحيى بن سعيد، سمعته يقول: لزمت شعبة عشرين سنة، لم أكتب من أحد غيره شيئا، وكنت إذا كتبت عنه، عرضته عليه. قال أحمد: أحسبه من بلادته كان يفعل هذا. وقال عبد الخالق بن منصور، عن ابن معين: كان من أصح الناس كتابا، وأراد بعضهم أن يخطئه، فلم يقدر، وكان يصوم منذ خمسين سنة يوما ويوما لا. قال ابن المديني: هو أحب إلي من عبد الرحمن في شعبة. وقال ابن مهدي: كنا نستفيد من كتب غندر في شعبة. وكان وكيع يسميه الصحيح الكتاب. وقال أبو حاتم عن محمد بن أبان البلخي: قال ابن مهدي: غندر أثبت في شعبة مني. وقال ابن المبارك: إذا اختلف الناس في حديث شعبة، فكتاب غندر حَكَمٌ بينهم. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن غندر؟ فقال: كان صدوقا، وكان مؤدبا، وفي حديث شعبة ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من خيار عباد الله، ومن أصحهم كتابا، على غفلة فيه. وقال العيشي: إنما سماه غندرا ابن جريج، كان يكثر التشغب عليه، قال: وأهل الحجاز يسمون المشغب غندرا، وقال العجلي: بصري ثقة، وكان من أثبت الناس في حديث شعبة. ورُوي عن ابن معين قال: قدمنا على غندر، فقال: لا أحدثكم حتى تمشوا خلفي، فيراكم أهل السوق، فيكرموني. قال أبو داود، وابن حبان: مات في ذي القعدة سنة ثلاث وتسعين ومائة. وقال ابن سعد: مات سنة (94)، وقال: كان ثقة إن شاء الله. وقال البخاري: حدثني محمد بن المثنى، قال: مات غندر سنة (92). روى له الجماعة، وله عند المصنّف مائة وثلاثة أحاديث (103).

3 - (شعبة) بن الحجاج بن الورد الْعتكيّ الأزديّ مولاهم، أبو بسطام الواسطيّ، ثم البصريّ، ثقة، حافظ، متقنٌ، أمير المؤمنين في الحديث، وأول من فتّش عن الرجال بالعراق، وذبّ عن السنة، وكان عابدًا [7]. رَوَى عن أبان بن تغلب، وإبراهيم بن عامر بن مسعود، وجامع بن شداد، وجبلة بن سحيم، وجعدة بن أم هانئ، وجعفر الصادق، وحسين المعلم، وحصين بن عبد الرحمن، والحكم بن عتيبة، وحماد بن أبي سليمان، ومسعر بن كدام، وخلق كثير. ورَوَى عنه أيوب، والأعمش، وسعد بن إبراهيم، ومحمد بن إسحاق، وهم من شيوخه، وجرير بن حازم، والثوري، والحسن بن صالح، وغيرهم من أقرانه، ويحيى القطان، وابن مهدي، ووكيع، وابن إدريس، وابن المبارك، ويزيد بن زريع، وأبو داود، وأبو الوليد الطيالسيان، ومحمد بن جعفر غندر، وخلق كثير. قال أبو طالب عن أحمد: شعبة أثبت في الحكم من الأعمش، وأعلم بحديث الحكم، ولولا شعبة ذهب حديث الحكم، وشعبة أحسن حديثا من الثوري، لم يكن في زمن شعبة مثله في الحديث، ولا أحسن حديثا منه، قُسم له من هذا حظ، وروى عن ثلاثين رجلا من أهل الكوفة، لم يرو عنهم سفيان. وقال محمد بن العباس النسائي: سألت أبا عبد الله من أثبت، شعبة أو سفيان؟ فقال: كان سفيان رجلا حافظا، وكان رجلا صالحا، وكان شعبة أثبت منه، وأنقى رجلا، وسمع من الحكم قبل سفيان بعشر سنين. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: كان شعبة أمة وحده في هذا الشأن -يعني في الرجال- وبصره بالحديث، وتثبته، وتنقيته للرجال. وقال معمر: كان قتادة يسأل شعبة عن حديثه. وقال حماد بن زيد: قال لنا أيوب: الآن يقدَم عليكم رجل من أهل واسط، هو فارس في الحديث، فخذوا عنه. وقال أبو الوليد الطيالسي: قال لي حماد بن سلمة: إذا أردت الحديث فالزم شعبة. وقال حماد بن زيد: ما أبالي من خالفني إذا وافقني شعبة، فإذا خالفني شعبة في شيء تركته. وقال ابن مهدي: كان الثوري يقول: شعبة أمير المؤمنين في الحديث. وقال الثوري لسَلْم بن قتيبة: ما فعل أُستاذنا شعبة. وقال أبو

قطن عن أبي حنيفة: نعم حشو المصر هو. وقال الشافعي: لولا شعبة ما عُرف الحديث بالعراق. وقال أبو زيد الهروي: قال شعبة: لأن أتقطع أحبّ إلي من أن أقول لما لم أسمع: سمعتُ. وقال يزيد بن زريع: كان شعبة من أصدق الناس في الحديث. وقال أبو بحر البكراوي: ما رأيت أعبد لله من شعبة، لقد عبد الله حتى جف جلده على ظهره. وقال مسلم بن إبراهيم: ما دخلت على شعبة في وقت صلاة قط، إلا رأيته قائما يصلي. وقال النضر بن شميل: ما رأيت أرحم بمسكين منه. وقال قراد أبو نوح: رأى علي شعبة قميصا، فقال بكم أخذت هذا؟ قلت: بثمانية دراهم، قال لي: ويحك أما تتقي الله، تلبس قميصا بثمانية، ألا اشتريت قميصا بأربعة، وتصدقت بأربعة، قلت: أنا مع قوم نتجمل لهم، قال: أيشٍ نتجمل لهم. وقال وكيع: إني لأرجو أن يرفع الله لشعبة في الجنة درجات؛ لذبه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقال صالح جزرة: أول من تكلم في الرجال شعبة، ثم تبعه القطان، ثم أحمد ويحيى. وقال ابن سعد: توفي أول سنة (160) بالبصرة. وقال ابن حبّان: ولد سنة (83) ومات سنة (160) وله (77) سنة، وكان من سادات أهل زمانه حفظا وإتقانا، وورعا وفضلا، وهو أول من فتش بالعراق عن أمر المحدثين، وجانب الضعفاء والمتروكين، وصار عَلَمًا يُقتدَى به، وتبعه عليه بعده أهل العراق. وذكر ابن أبي خيثمة أنه مات في جمادى الآخرة. روى له الجماعة، له عند المصنّف مائة وثمانون حديثًا (180). [تنبيه]: جملة من اسمه شعبة في الكتب الستة ثلاثة: (الأول): هذا الإمام المشهور، وهو في الستة كلها. (والثاني): شعبة بن دينار الكوفيّ، لا بأس به [6] عند النسائيّ فقط. (والثالث): شعبة بن دينار الهاشمي مولى ابن عباس المدنيّ، صدوقٌ، سيىء الحفظ [4]، عند أبي داود فقط، والله تعالى أعلم. 4 - (معاوية بن قرة) بن إياس بن هلال بن رئاب المزني أبو إياس البصري، ثقة،

عالم [3]. رَوَى عن أبيه، ومعقل بن يسار المزني، وأبي أيوب الأنصاري، وعبد الله بن مغفل، وعدّة. ورَوَى عنه ابنه إياس، وابن ابنه المستنير بن أخضر بن معاوية، وثابت البناني، وحزم بن أبي حزم، وبسطام بن مسلم، وشعبة، وأبو عوانة، وآخرون. قال معاوية بن صالح عن يحيى بن معين: ثقة. وكذا قال العجلي، والنسائي، وأبو حاتم. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال مطر الأعنق عن معاوية بن قرة: لقيت من الصحابة كثيرا، منهم خمسة وعشرون من مزينة. قال خليفة وغيره: مات سنة ثلاث عشرة ومائة. وقال يحيى بن معين: مات وهو ابن ست وسبعين سنة. وقال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: معاوية بن قرة، عن علي مرسل. وقال أبو حاتم: لم يلق ابن عمر. وقال ابن حبان: كان من عقلاء الرجال. وقال الشافعي: روايته عن عثمان منقطعة. روى له الجماعة. وله عند المصنف ثمانية أحاديث، برقم (6) و 419 و 420 و 1002 و 2608 و 2705 و 3578 و 3985. 5 - (قرة) بن إياس بن هلال بن رئاب المزني، أبو معاوية البصري، صحابيّ رَوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعنه ابنه معاوية، قال ابن عبد البر: سكن البصرة، ولم يرو عنه غير ابنه، ويقال له: قرة بن الأغر، قُتل في حرب الأزارقة، مع عبد الرحمن بن عبيس في زمن معاوية. وقع ذكره في البخاري ضمنا في أثر معلق في "كتاب الصلاة". وقد أرخه ابن سعد، وخليفة، وأبو عروبة، وابن حبان، وغيرهم سنة (64) فيكون ذلك في زمن معاوية ابن يزيد بن معاوية، وذكره ابن سعد في طبقة الخندقيين. روى له البخاري في "الأدب المفرد"، والأربعة، له اثنان وعشرون حديثًا، روى له المصنف منها خمسة أحاديث برقم 6 و 102 و 2608 و 2705 و 3578. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، سوى الصحابي، فمن

رجال الأربعة. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين. 5 - (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه. 6 - (ومنها): أن فيه التحديث، والعنعنة، وهي من صيغ الاتصال على الأصحّ في "عن" من غير المدلّس، كما تقدّم البحث فيه مستوفًى قريبًا. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ قُرَّة) المزنيّ رحمه الله (عَنْ أَبِيهِ) قرّة بن إياس المزنيّ -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: لَا تَزَالُ) نافية، و"تزال" مضارع "زَيِلَ" كعلِم، قال الفيّوميّ: وما زال يفعل كذا، ولا أزال أفعله لا يُتكلّم به إلا بحرف النفي، والمراد به ملازمةُ الشيء، والحالُ الدائمة، مثل "ما بَرِحَ" وزنًا ومعنى، وقد تكلّم به بعض العرب على أصله، فقال: ما زَيِلَ زيدٌ يفعل كذا. انتهى. وهي من الأفعال التي ترفع الاسم، وتنصب الخبر، واسمها قوله: (طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي) أي جماعة منهم، قال الفيّومي: الطائفة: الفرقة من الناس، والطائفة: القطعة من الشيء، والطائفة من الناس الجماعة، وأقلّها ثلاثة، وربّما أُطلقت على الواحد والاثنين. انتهى. وقال القرطبيّ في "المفهم" 3/ 761: الطائفة الجماعة، وهم الذين قال الله تعالى في حقهم: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 181]. والطائفة في الأصل: هي القطعة من الشيء، يقال: طائفة من كذا: أي قطعة منه، وهي من الناس الجماعة. قال مجاهد: هم من الواحد إلى الألف، وكذلك قال النخعيّ. وقال عطاء: أقلّه رجلان، فصاعدًا. وقال الزهري: ثلاثة فصاعدًا. والطائفة هي الفرقة التي يُمكن أن تكون حلقة، وكأنها الجماعة الحافّة حول الشيء، أقلّها ثلاثة، أو أربعة. انتهى كلام القرطبيّ. وقوله: (مَنْصُورِينَ) منصوب على أنه خبر "يزال": أي منصورين على عدوّهم،

وغالبين لهم، كما قال في الحديث الآخر: "يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوّهم ... " الحديث (لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلهُمْ) أي ترك نُصرتهم، وإعانتهم، يقال: خذلته، من باب قتل: إذا تركت نصرته، وإعانته، وتأخّرت عنه، والاسم الخذلان، وخذّلته بالتشديد تخذيلًا: حملته على الفشل، وترك القتال. قاله الفيّومي (حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ) أي إلى أن تقرب الساعة بإتيان العلامة، وهي الريح التي تقبض روح كلّ مؤمن ومؤمنة، فقد أخرج مسلم رحمه الله تعالى في "صحيحه" من حديث عبد الرحمن بن شِمَاسة المهْريّ، أنه قال: كنت عند مَسْلَمَةَ بن مُخَلَّد، وعنده عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال عبد الله: لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر من أهل الجاهليّة، لا يَدْعُون الله بشيء، إلا ردّه عليهم، فبينما هم على ذلك أقبل عقبة بن عامر، فقال له مسلمة: يا عقبة اسمع ما يقول عبد الله، فقال عقبة: هو أعلم، وأما أنا فسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا تزال عصابة من أمتي، يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم، حتى تأتيهم الساعة، وهم على ذلك"، فقال عبد الله: أَجَلْ: "ثم يبعث الله ريحا كريح المسك، مَسُّها مَسُّ الحرير، فلا تترك نفسا في قلبه مثقال حبة من الإيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس، عليهم تقوم الساعة". وفي رواية البخاريّ: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله، وهم ظاهرون" قال في "الفتح": قوله: "حتى يأتيهم أمر الله، وهم ظاهرون": أي على من خالفهم، أي غالبون، أو المراد بالظهور أنهم غير مستترين، بل مشهورون، والأول أولى، وقد وقع عند مسلم من حديث جابر بن سمرة: "لن يبرح هذا الدين قائما تقاتل عليه عصابة من المسلمين، حتى تقوم الساعة"، وله في حديث عقبة بن عامر: "لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم، حتى تأتيهم الساعة". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث قرّة بن إياس رضي الله تعالى عنه هذا صحيح. (المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه: أخرجه هنا - 1/ 6 - بهذا الإسناد فقط وأخرجه (الترمذيّ) في "الفتن" 2192 وقال: حسنٌ صحيح. و (أحمد) في "مسند المكيين" 15169 و"مسند البصريين" 19854. و (الطيالسيّ) في "مسنده" 1076. و (ابن حبّان) 61 و 6834 و (الحاكم) في "معرفة علوم الحديث" ص 2 و (الخطيب) في "شرف أصحاب الحديث" 11 و 44. وفي الباب عن ثوبان -رضي الله عنه- كما سيأتي قريبًا برقم (10) والمغيرة بن شُعبة -رضي الله عنه- في "الصحيحين"، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما في "الصحيحين" أيضًا. وجابر -رضي الله عنه- عند مسلم، وعقبة بن عامر عند مسلم أيضًا، وعن غيرهم. والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان فضل اتّباع سنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ووجه ذلك أن هؤلاء الطائفة ما حصل لهم ذلك النصر، والثبات على مقاومة العدوّ، وإبادته إلا بسبب اتّباعهم سنته -صلى الله عليه وسلم-. 2 - (ومنها): أن فيه بيان فضل هذه الأمّة، حيث إن الله عز وجل أجارها عن اتّفاق على الضلال، فلا تزال جماعة مؤمنة بربّها أيّ إيمان، متّبعة لسنة نبيّها -صلى الله عليه وسلم-، لا يغيّرها حوادث الزمان، ولا يبدّل أحوالها تعاقب الملوان، واختلاف الجديدان (¬1)، بل تبقى صابرة صامدة على الحقّ، لا تبالي بتآمر جميع الخلق، فسبحان من اصطفى خيار عباده لنيل صَفْوِ وداده. ¬

_ (¬1) الظاهر أن هذا على لغة من يُلزم المثنى الألف؛ لمراعاة السجع، فتنبّه.

3 - (ومنها): أن فيه دلالة على صحّة الإجماع؛ لأن الأمة إذا أجمعت على شيء، فقد دخلت فيهم هذه الطائفة المختصّة بهذا الفخر العظيم، فكلّ الأمّة محقّ، فإجماعهم حقّ، ويفيد هذا المعنى قوله عز وجل: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 181]. قاله القرطبيّ (¬1). وقال النوويّ رحمه الله تعالى: وهو أصح ما استدل به من الحديث لكون الإجماع حجة، وأما حديث: "لا تجتمع أمتي على ضلالة"، فضعيف (¬2). انتهى (¬3). 4 - (ومنها): أن فيه معجزةً ظاهرةً، فإنّ هذا الوصف ما زال -بحمد الله تعالى- من زمن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إلى الآن، ولا يزال حتى يأتي أمر الله المذكور في الحديث. انتهى (¬4)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في المراد بهذه الطائفة: قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله في "المفهم" 3/ 763: قد اختلف العلماء في من ¬

_ (¬1) "المفهم" 3/ 764 "كتاب الجهاد". (¬2) هذا الحديث ضعيف، رواه ابن ماجه في هذا الكتاب برقم (3950) وابن أبي عاصم في "السنّة" رقم (84) وعبد بن حميد في "المنتخب من المسند" 133 واللالكائيّ في "أصول أهل السنة" 1/ 105 /653 عن معان بن رفاعة السلاميّ، عن أبي خلف الأعمى، عن أنس مرفوعًا، وهو إسناد واه بمرة، إذ أبو خلف الأعمى متروك، ورماه ابن معين بالكذب. وقال الدارقطنيّ في "الأفراد": تفرّد بهذا الحديث. ومعان بن رفاعة ليّن الحديث. وأخرجه أبو نُعيم في "أخبار أصبهان" 2/ 208 وهو ضعيف أيضًا فيه عللٌ، قد أجاد الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى في "السلسلة الضعيفة" 6/ 436 رقم (2896) فراجعه تستفد، وسنعود إليه في محلّه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى حينما يورده المصنّف رحمه الله تعالى برقم (3950) "كتاب الفتن" 2/ 1303. (¬3) "شرح مسلم" 13/ 67. (¬4) "شرح مسلم" 13/ 67.

هذه الطائفة؟، وأين هم؟، فقال عليّ بن المدينيّ: هم العرب، واستدلّ برواية من روى: "وهم أهل الغرب"، وفسّر "الغرب" بالدلو العظيمة. وقيل: أراد بالغرب أهل القوّة، والشدّة، والحدّ، وغرب كلّ شيء حدّه. وقيل: أراد به غرب الأرض، وهو ظاهر حديث سعد بن أبي وقّاص -رضي الله عنه- وقال فيه: "لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحقّ في المغرب حتى تقوم الساعة". ورواه عبد بن حميد، وقال فيه: "لا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحقّ حتى تقوم الساعة، أو يأتي أمر الله". ورواه بقيّ بن مَخْلَد في "مُسنده" كذلك: "لا يزال أهل المغرب كذلك". قال القرطبيّ: وهذه الروايات تدلّ على بطلان التأويلات المتقدّمة، وعلى أن المراد به أهل المغرب في الأرض، لكن أول المغرب بالنسبة إلى الدينة مدينة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إنما هو الشام، وآخره حيث تنقطع الأرض من المغرب الأقصى، وما بينهما، كلّ ذلك يُقال عليه: مغرب، فهل أراد المغرب كلّه، أو أوّله" كل ذلك محتملٌ، لا جَرَم قال معاذٌ -رضي الله عنه- في الحديث الآخر: "هم أهل الشام"، ورواه الطبريّ، وقال: هم ببيت المقدس. وقال أبو بكر الطرطوشيّ في رسالة بعث بها إلى أقصى المغرب بعد أن أورد حديثًا في هذا المعنى قال: -والله تعالى أعلم- هل أرادكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو أراد بذلك جملةَ أهل المغرب لما هم عليه من التمسّك بالسنّة والجماعة، وطهارتهم من البِدَع والإحداث في الدين، والاقتفاء لآثار من مضى من السلف الصالح؟. والله تعالى أعلم. انتهى ما ذكره القرطبيّ (¬1). وقال في "الفتح": قال صاحب "المشارق" في قوله" "لا يزال أهل الغرب" يعني الرواية التي في بعض طرق مسلم، وهي -بفتح الغين المعجمة، وسكون الراء-: ذكر يعقوب بن شيبة عن علي بن المديني قال: المراد بالغرب الدلو: أي الْعَرَب -بفتح المهملتين- لأنهم أصحابها، لا يستقي بها أحد غيرهم، لكن في حديث معاذ: "وهم ¬

_ (¬1) "المفهم" 3/ 763 - 764.

أهل الشام"، فالظاهر أن المراد بالغرب البلد؛ لأن الشام غربي الحجاز، كذا قال، وليس بواضح. ووقع في بعض طرق الحديث "المغرب" -بفتح الميم، وسكون المعجمة- وهذا يَرُدّ تأويل الغرب بالعرب، لكن يحتمل أن يكون بعض رواته نقله بالمعنى الذي فهمه، أن المراد الإقليم، لا صفة بعض أهله. وقيل: المراد بالغرب أهل القوة والاجتهاد في الجهاد، يقال: في لسانه غَرْب -بفتح، ثم سكون- أي حِدّة. ووقع في حديث أبي أمامة عند أحمد: "أنهم ببيت المقدس"، وأضاف "بيت" إلى "المقدس". وللطبراني من حديث النهدي نحوه، وفي حديث أبي هريرة في "الأوسط" للطبراني: "يقاتلون على أبواب دمشق، وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس، وما حوله، لا يضرهم من خذلهم، ظاهرين إلى يوم القيامة". ويمكن الجمع بين الأخبار بأن المراد قوم يكونون ببيت المقدس، وهي شامية، ويسقون بالدلو، وتكون لهم قوة في جهاد العدو، وحِدَّة وجِدٌّ. انتهى (¬1). وقال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرح مسلم": وأما هذه الطائفة فقال البخاريّ: هم أهل العلم، وقال أحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟. قال القاضي عياض: إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة، ومن يعتقد مذهب أهل الحديث (¬2). وقال في "الفتح": قال النووي: يجوز أن تكون هذه الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين، ما بين شجاع، وبصير بالحرب، وفقيه، ومحدث، ومفسر، وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن النكر، وزاهد، وعابد، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد، وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد، وأن يكونوا في بعض منه دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أَوّلًا فأوّلًا إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد، فإذا انقرضوا جاء أمر ¬

_ (¬1) "الفتح" 15/ 229. "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة". (¬2) "شرح مسلم" 13/ 66 - 67 "كتاب الجهاد".

الله. انتهى ملخصا مع زيادة فيه. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما سبق أن الصواب في المراد بالطائفة المذكورة هم الجماعة الذين يقومون بنصرة الدين، والذبّ عن حريمه، واتّباع السنّة، وقمع البدعة، فيشمل كلّ من كان متّصفًا بما ذُكر من علماء الحديث، والمفسّرين، والفقهاء، والأمراء، والسلاطين، والشجعان، القائمين بما ذكر. والله تعالى أعلم. قال: ونظير ما نَبّهَ عليه -يعني النووي في كلامه السابق- ما حَمَل عليه بعضُ الأئمة حديث: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"، أنه لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحد فقط، بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة، وهو مُتَّجِهٌ، فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يُدَّعَى ذلك في عمر بن عبد العزيز، فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى، باتصافه بجميع صفات الخير، وتقدمه فيها، ومن ثم أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه، وأما من جاء بعده فالشافعيّ، وإن كان متصفا بالصفات الجميلة، إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد، والحكم بالعدل، فعلى هذا كُلُّ من كان متصفا بشيء من ذلك عند رأس المائة هو المراد، سواء تعدد أم لا. انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وهو بحثٌ نفيسٌ جِدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الخامسة): في أقوال أهل العلم في الجمع بين قوله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث: "حتى تقوم الساعة"، وحديث مسلم: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق": قال ابن بطال رحمه الله: هذا الحديث وما أشبهه، ليس المراد به أن الدين ينقطع كله في جميع أقطار الأرض، حتى لا يبقى منه شيء؛ لأنه ثبت أن الإسلام يبقى إلى قيام ¬

_ (¬1) "الفتح" 15/ 229 - 230.

الساعة، إلا أنه يضعف، ويعود غريبا كما بدأ، ثم ذكر حديث: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ... " الحديث، قال: فتبين في هذا الحديث تخصيص الأخبار الأخرى، وأن الطائفة التي تبقى على الحق، تكون ببيت المقدس إلى أن تقوم الساعة، قال: فبهذا تأتلف الأخبار. وتعقّبه الحافظ رحمه الله قائلًا: ليس فيما احتج به تصريح إلى بقاء أولئك إلى قيام الساعة، وإنما فيه حتى يأتي أمر الله، فيحتمل أن يكون المراد بأمر الله، ما ذُكر من قبض مَن بقي من المؤمنين، وظواهر الأخبار تقتضي أن الموصوفين بكونهم ببيت القدس أن آخرهم من كان مع عيسى عليه السلام، ثم إذا بعث الله الريح الطيبة، فقبضت روح كل مؤمن لم يبق إلا شرار الناس. وقد أخرج مسلم من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- رفعه: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس"، وذلك إنما يقع بعد طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، وسائر الآيات العظام، وقد ثبت أن الآيات العظام مثل السلك، إذا انقطع تناثر الخَرَز بسرعة، وهو عند أحمد، وفي مرسل أبي العالية: "الآيات كلها في ستة أشهر". وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "في ثمانية أشهر"، وقد أورد مسلم عقب حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ما يشير إلى بيان الزمان الذي يقع فيه ذلك، ولفظه: "لا يذهب الليل والنهار حتى تُعبَد اللات والعزى"، وفيه: "يبعث الله ريحا طيبة، فتوفَّى كل من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم". وعنده في حديث عبد الله بن عمرو رفعه: "يخرج الدجال في أمتي ... " الحديث، وفيه: "فيبعث الله عيسى ابن مريم، فيطلبه، فيهلكه، ثم يمكث الناس سبع سنين، ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد، في قلبه مثقال حبة من خير"، أو "إيمان، إلا قبضته"، وفيه: "فيبقى شرار الناس في خِفَّة الطير، وأحلام السباع، لا يعرفون معروفا، ولا ينكرون منكرا، فيتمثل لهم الشيطان، فيأمرهم بعبادة الأوثان، ثم ينفخ في الصور". فظهر بذلك أن المراد بأمر الله في حديث: "لا تزال

طائفة" وقوع الآيات العظام التي يعقبها قيام الساعة، ولا يتخلف عنها إلا شيئا يسيرا، ويؤيده حديث عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما، رفعه: "لا تزال طائفة من أمتي، يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم، حتى يقاتل آخرهم الدجال". أخرجه أبو داود، والحاكم، قال: ويؤخذ منه صحة ما تأولته، فإن الذين يقاتلون الدجال، يكونون بعد قتله مع عيسى، ثم يُرسَل عليهم الريح الطيبة، فلا يبقى بعدهم إلا الشرار، كما تقدم. ووُجدت في هذا مناظرة لعقبة بن عامر، ومحمد بن مسلمة، فأخرج الحاكم من رواية عبد الرحمن بن شِمَاسة أن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شرٌّ من أهل الجاهلية، فقال عقبة بن عامر: عبد الله أعلم ما يقول، وأما أنا فسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا تزال عصابة من أمتي، يقاتلون على أمر الله، ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم، حتى تأتيهم الساعة، وهم على ذلك"، فقال عبد الله: أَجَلْ، "ويبعث الله ريحا، ريحها ريح المسك، ومَسُّها مس الحرير، فلا تترك أحدا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس، فعليهم تقوم الساعة". فعلى هذا فالمراد بقوله في حديث عقبة: "حتى تأتيهم الساعة" ساعتهم هم، وهي وقت موتهم بهبوب الريح. انتهى ما في "الفتح" (¬1). وقال في موضع آخر: ما خلاصته: إن المراد بأمر الله هبوب تلك الريح، وبقيام الساعة ساعتهم، والمراد بالذين يكونون ببيت المقدس هم الذين يحصرهم الدجال إذا خرج، فينزل عيسى إليهم، فيقتل الدجال، ويَظهر الدين في زمن عيسى، ثم بعد موت عيسى تهب الريح المذكورة، فهذا هو المعتمد في الجمع -والعلم عند الله تعالى- انتهى (¬2). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الأرجح في المراد بقوله -صلى الله عليه وسلم-: ¬

_ (¬1) "الفتح" 14/ 583 - 585. "كتاب الفتن". (¬2) "الفتح" 15/ 228. "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة".

"حتى تقوم الساعة"، وبقوله: "حتى يأتي أمر الله"، علامة الساعة التي هي هبوب الريح المذكورة، فلا يوجد بعده نفس مؤمنة، بل يبقى شرار الناس، فعليهم تقوم الساعة، وبهذا يحصل الجمع بين حديث الباب، وحديث: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله المذكور أول الكتاب قال: 7 - (حَدَّثَنَا أبو عَبْد الله، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيىَ بْنُ حَمْزة، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو عَلْقَمَةَ، نَصْرُ بْنُ عَلْقَمَةَ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَكَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ الحضْرَمِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَا تَزَالُ طَائِفَة مِنْ أُمَّتِي، قَوَّامَة عَلَى أَمْرِ الله، لَا يَضُرُّهَا مَنْ خَالَفَهَا"). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "حدثنا أبو عبد الله" هو المصنّف رحمه الله، وقائل "حدّثنا" أحد الرواة عنه، والظاهر أنه أبو الحسن بن القطّان؛ لأنه المشهور برواية هذه "السنن" عنه. والله تعالى أعلم. ورجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (هشام بن عَمّار) الدمشقيّ، تقدّم قبل حديث. 2 - (يحيى بن حمزة) بن واقد الحضرميّ، أبو عبد الرحمن الْبَتْلَهِيّ الدمشقيّ القاضي، من أهل بيت لَهْيَا، ثقة رُمي بالقدر [8]. رَوَى عن الأوزاعي، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وثور بن يزيد، ونصر بن علقمة، وزيد بن واقد، وسليمان بن أرقم، وسليمان بن داود الخولاني، وجماعة. ورَوَى عنه ابنه محمد، وابن مهدي، والوليد بن مسلم، وأبو مسهر، ومحمد بن المبارك، ومروان بن محمد، وهشام بن عمار، وعلي بن حجر، وآخرون. قال صالح بن أحمد عن أبيه: ليس به بأس، وكذا قال المرُّوذيّ عن أحمد. وقال الغلابي وغيره عن ابن معين: ثقة، قال الغلابي: كان ثقة، وكان يُرمَى بالقدر. وقال الدُّوريّ عن ابن معين: كان قدريًّا، وكان صدقة بن خالد أحب إليهم منه. وقال

عثمان الدارمي عن دُحيم: ثقة عالم، لا أشك إلا أنه لقي علي بن يزيد. وقال الآجري عن أبي داود: ثقة، قلت: كان قدريا؟ قال: نعم. وقال النسائي: ثقة. وقال يعقوب بن سفيان: ثنا هشام بن عمار، ثنا يحيى بن حمزة، وكان قاضيا على دمشق ثقة. وقال عبد الله ابن محمد بن سيار: لا بأس به. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث صالحه. وقال عمرو ابن دُحيم: أعلم أهل دمشق بحديث مكحول الهيثم بن حميد، ويحيى بن حمزة. وقال العجلي: ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة مشهور. وقال مروان بن محمد: استقضاه المنصور سنة ثلاث وخمسين، فلم يزل قاضيا حتى مات. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: وُلد سنة ثلاث ومائة، ومات سنة ثلاث وثمانين ومائة، وكذا قال أبو مسهر وغيره. قال أبو سليمان بن زَبْر: وُلد سنة اثنتين، وقيل: سنة خمس، وقيل غير ذلك. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب سبعة عشر حديثًا. 3 - (أبو علقمة، نصر بن علقمة) الحضرميّ الحمصيّ، ثقة (¬1) [6]. رَوَى عن أخيه محفوظ بن علقمة، وجُبير بن نُفير، وعمرو بن الأسود، وكثير بن مرة، وعبد الرحمن بن عائذ الأزدي، وأرسل عن أبي الدرداء. ورَوَى عنه ابنُ ابنِ أخيه خزيمة بن عبادة بن محفوظ نسخة كبيرة، وصدقة بن عبد الله السمين، والْوَضِين بن عطاء، ومعاوية بن يحيى الأطرابلسي، والوليد بن كامل البجلي، ويحيى بن حمزة الحضرمي، وبقية بن الوليد، وغيرهم. قال عثمان الدارمي عن دُحيم: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: نصر بن علقمة عن جُبير بن نُفير مرسل. أخرج له النسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 4 - (عمير بن الأسود) -بضم العين، مصغّرًا- وهو عمرو بن الأسود العنسي، ¬

_ (¬1) هذا الصواب عندي، وأما قول الحافظ في "التقريب": مقبول، فليس. بمقبول؛ لأنه روى عنه جماعة، ووثقه دُحيم، وابن حبّان، ولم يجرحه أحد، فهو ثقة بلا شكّ. والله تعالى أعلم.

ويقال: الهمداني، أبو عياض، ويقال: أبو عبد الرحمن الدمشقي، ويقال: الحمصي، سكن داريا، ثقة مخضرم عابدٌ، من كبار التابعين [2]. رَوَى عن عمر، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، والعرباض ابن سارية، ومعاوية، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وجُنادة بن أبي أمية، وأبي هريرة، وعائشة، وأم حرام بنت مِلْحان، وجماعة. ورَوَى عنه ابنه حكيم بن عمير، ومجاهد، وخالد بن معدان، وشريح بن عبيد، وكثير بن أبي كثير، ونصر بن علقمة، وإبراهيم بن مسلم الهجري، وزياد بن فياض، على خلاف في ذلك، وغيرهم. قال ضمرة بن حبيب: مَرّ عمرو بن الأسود على عمر بن الخطاب، فقال: من سره أن ينظر إلى هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، فلينظر إلى هدي هذا. وقال محمد بن عوف: عمرو بن الأسود يكنى أبا عياض، وهو والد حكيم بن عمير، وقيل: إن أبا عياض الذي يروي عنه زياد بن فياض، والعراقيون رجل آخر. كذا حَكَى ابن أبي حاتم عن أبيه، وقال: اسمه مسلم بن نُذير. وقيل: إن أبا عياض اسمه قيس بن ثعلبة، حكاه النسائي في "الكنى"، والحاكم أبو أحمد. وقال ابن حبان في "الثقات": عمير بن الأسود كان من عباد أهل الشام، وزهادهم، وكان يُقْسِمُ على الله فيبره. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وروى الحاكم في "الكنى" من طريق مجاهد، قال: حدثنا أبو عياض في خلافة معاوية. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه كان من العلماء الثقات، مات في خلافة معاوية، وذكره أبو موسى المديني في "ذيل الصحابة"، وحكاه عن ابن أبي عاصم أنه ذكره فيهم، قال أبو موسى: وليس بصحابي، إنما يروي عن الصحابة. وحكى ابن أبي خيثمة عن مجاهد، أنه قال: ما رأيت بعد ابن عباس أعلم من أبي عياض. وروى الحسن ابن علي الحلواني في كتاب "المعرفة" هذا الكلام عن مجاهد أيضا بإسناد صحيح. وروى الطبراني في "مسند الشاميين" من طريق أرطاة بن المنذر، ثني زُريق أبو عبد الله الألهاني، أن عمرو بن الأسود قدم المدينة، فرآه عبد الله بن عمر يصلي، فقال: من سره أن ينظر

إلى أشبه الناس برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلينظر إلى هذا. قال الحافظ: ومما يؤيد أن عمير بن الأسود هو عمرو بن الأسود ما أخرجه البخاري، عن يحيى بن إسحاق بن يزيد، والطبراني عن أحمد بن المعلى، عن هشام بن عمار، كلاهما عن يحيى بن حمزة، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن عمير بن الأسود، عن أم حرام ... الحديث، هذه رواية البخاري، وفي رواية الطبراني عمرو بن الأسود. أخرج له الجماعة إلا الترمذيّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 5 - (كثير بن مرة الحضرميّ) الرُّهَاويُّ، أبو شَجَرَة، ويقال: أبو القاسم الحمصيُّ، ثقة مخضرم [2]. رَوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلًا، وعن معاذ بن جبل، وعمر بن الخطاب، وعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، وأبي فاطمة الأزدي، وتميم الداري، ونعيم بن همار، وعقبة بن عامر، وابن عمر، وأبي هريرة، وابن عمرو، وعوف بن مالك الأشجعي، وقيس الجذامي، وغيرهم. ورَوَى عنه خالد بن معدان، ومكحول، وصالح بن أبي عَرِيب، وأبو الزاهرية حُدَير بن كُرَيب، وعبد الرحمن بن جبير بن نفير، ونصر بن علقمة، وشُريح بن عُبيد، وسليمان بن موسى، وزيد بن واقد، على خلاف فيه، ويزيد بن أبي حبيب، وآخرون. ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية، من تابعي أهل الشام. وقال: كان ثقة. وقال العجلي: شامي تابعي ثقة. وقال النسائي: لا بأس به. وقال ابن خِرَاش: صدوق. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال عبد الله بن صالح، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، أن عبد العزيز بن مروان كتب إِلَى كَثِيرِ بن مرة الحضرمي، وكان قد أدرك سبعين بدريا. وقال أبو الزاهرية، عن كثير بن مُرّة الحضرمي: مررت بعوف بن مالك، فقال: أرجو أن تكون رجلا صالحا. وقال أبو زرعة الدمشقي: قلت له -يعني لدُحَيم-: فمن يكون معهم في طبقتهم -يعني جبير بن نفير، وأبا إدريس- فقال: كثير بن مرة. قال البخاري: قال أبو مسهر: أدرك عبدَ الملك -يعنى خلافته-، وذكره في "الأوسط"

في فصل من مات من السبعين إلى الثمانين. وقال العسكري: أخرجه ابن أبي خيثمة في الصحابة الذين يُعرَفون بكناهم، وهو وَهَم. وقال أبو موسى في "ذيل الصحابة": أورده عَبْدَان، وحديثه مرسل، ولم يذكره في الصحابة غيره. أخرج له البخاريّ في "جزء القراءة"، والأربعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث. 6 - (أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه، تقدم أول الباب. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير كثير بن مرّة، فمن رجال الأربعة. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالشاميين، غير الصحابيّ، فمدني. 4 - (ومنها): أن فيه أبا هريرة -رضي الله عنه- أكثر من روى الحديث في دهره، كما سبق بيانه قريبًا. والله تعالى أعلم. وقوله: "قوّامة" بتشديد الواو جمع قائمة، كصوّامة، جمع صائم، وفي رواية عند البخاريّ: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله"، وفي رواية عنده: "لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خَذَلهم حتى يأتيهم أمر الله، وهم على ذلك"، وزاد: قال عمير -يعني ابن هانىء-: فقال مالك بن يُخامِر: قال معاذ: وهم بالشام. وفي رواية عنده: "ولا تزال عصابة من المسلمين، ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة"، وتمام شرح الحديث، سبق قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي سنده نصر بن يعقوب، قال عنه في "التقريب": مقبول؟. [قلت]: قوله: مقبول، غير مقبول؛ لأنه ثقة، فقد رَوَى عنه جماعة، ووثّقه دُحيم، وابن حبّان، ولم يجرحه أحد، وأيضًا فلروايته شواهد، كما سبق في الحديث الماضي، فتبصّر، والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه المصنّف هنا بالسند المذكور فقط، وأخرجه ابن حبّان برقم (6835) والبزّار (3320) بإسناد حسن، من طريق أبي صالح عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، وفي الباب عن غير واحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كما سبق في تخريج الحديث السابق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله المذكور أول الكتاب قال: 8 - (حَدَّثَنَا أبو عَبْد الله، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّار، حَدَّثنا الجرَّاحُ بْنُ مَلِيحٍ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ زُرْعَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أبا عِنَبَةَ الخُوْلَانِيَّ، وَكَانَ قَدْ صَلَّى الْقِبْلَتَيْنِ، مَعَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ: "لَا يَزَالُ الله يَغْرِسُ في هَذَا الدِّينِ غَرْسًا، يَستَعْمِلُهُمْ في طَاعَتِهِ"). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تقدّم الكلام في قوله: "حدثنا أبو عبد الله" في الحديث الماضي. ورجال هذا الإسناد: أربعة: 1 - (هشام بن عمّار) الدمشقيّ، تقدّم في 1/ 5. 2 - (الجرّاح بن مَلِيح) الْبَهْرَانيّ -بفتح الموحّدة- أبو عبد الرحمن الحمصيّ، صدوقٌ [7].

رَوَى عن إبراهيم بن طهمان، والحجاج بن أرطاة، وشعبة، وحاتم بن حُريث، وأرطاة بن المنذر، وبكر بن زرعة الخولاني، وغيرهم. ورَوَى عنه الحسن بن خُمَير، والهيثم بن خارجة، وسليمان بن عبد الرحمن، وهشام ابن عمارة، وعدة. قال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: لا أعرفه. قال ابن عدي: كان يحيى إذا لم يكن له علم بأخبار الشخص ورواياته يقول: لا أعرفه، والجراح مشهور في أهل الشام، وهو لا بأس به، وبرواياته، وله أحاديث صالحة جياد، ونسخ، وقد رَوَى أحاديث مستقيمة، وهو في نفسه صالح. وفي "تاريخ العباس بن محمد الدوري"، رواية أبي سعيد بن الأعرابي عنه، قال ابن معين: الجراح بن مليح، شامي ليس به بأس. أخرج له النسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 3 - (بكر بن زُرعة) الْخَولانيّ الشاميّ، صدوقٌ (¬1) [5]. رَوَى عن أبي عِنَبَة الخولاني، وله صحبة، ومسلم بن عبد الله الأزدي. ورَوَى عنه إسماعيل بن عياش، والجراح بن مليح البهراني. ورَوَى عنه أيضا أبو المغيرة الخولاني. قال أحمد في "الزهد": حدثنا أبو المغيرة، سمعت بكر بن زرعة الخولاني، وكانت قد أتت عليه مائة سنة وزيادة على مائة، قال: انصرف أبو مسلم الخولاني إلى منزله بحمص، فذكر قصة. ذكره ابن حبان في "الثقات". انفرد به المصنّف بهذا الحديث فقط. 4 - (أبو عِنَبَة الخولاني) -بكسر أوله، وفتح النون والموحّدة- مختلَفٌ في صحبته، والأشبه عندي أنه صحابيّ، قيل: اسمه عبد الله بن عِنبَة -بنون، فموحّدة- وقيل: عمارة. رَوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الحديث، وعن عمر بن الخطاب، ورَوَى عنه بكر بن ¬

_ (¬1) هذا أولى من قول صاحب"التقريب": مقبول؛ لأنه روى عنه جماعة، ووثّقه ابن حبان، ولم يجرحه أحد.

زُرْعَة الخولانيّ، وأبو الزاهرية حُدَير بن كُريب، وشُرَحبيل بن شُفْعة، وطُليق بن سُمَير، وقيل: ابن عُمير، ولقمان بن عامر، ومحمد بن زياد الألهاني، وغيرهم. ذكره خليفة، وابن سعد، وغير واحد في الصحابة، وذكره عبد الصمد بن سعيد الحمصي في تسمية من نزل حمص من الصحابة، وقال: كان ممن أكل الدم في الجاهلية، وصلى القبلتين مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، أخبرني بذلك يزيد بن عبد الصمد. وقال الحاكم أبو أحمد: يقال: كان ممن صلى القبلتين، ويقال: أسلم والنبي -صلى الله عليه وسلم-يعني ولم يره-. وقال أحمد بن محمد بن عيسى، صاحب "تاريخ حمص": أدرك الجاهلية، وعاش إلى خلافة عبد الملك، وكان من أصحاب معاذ، ممن أسلم ورسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقال المفضل الغلابي عن ابن معين، في حديث أبي عِنَبَة: إنه ممن صلى القبلتين، قال أهل الشام: من كبار التابعين، وأنكروا أن له صحبة، وأنه مددي من أهل إليمن، أَمَدُّوا بهم في اليرموك. وقال أبو حاتم الرازي. هو من الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام. وذكره ابن سُمَيع فيهم. وذكره أبو زرعة الدمشقي في الطبقة العليا التي تلي الصحابة، وقال: أسلم ورسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقال أبو زرعة: كان جاهليًّا، ولم تكن له صحبة، وقد صرح بسماع النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال خليفة في الطبقة الثالثة من أهل الشام: مات أبو عِنَبَة سنة ثماني عشرة ومائة، كذا قال، وقد تقدم قول أحمد بن محمد بن عيسى: إنه مات في خلافة عبد الملك، وهو أشبه بالصواب. تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، و (1110) حديث: "يقرأ في الجمعة بسبح اسم ربّك الأعلى ... " الحديث. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم موثّقون. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالشاميين. 4 - (ومنها): أن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له إلا حديثان فقط، كما مرّ بيان ذلك آنفًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث: عن بكر بن زُرعة رحمه الله تعالى، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أبا عِنبةَ) تقدّم ضبطه قريبًا (الخُوْلَانِيَّ) بفتح الخاء المعجمة، وسكون الواو-: نسبة إلى خولان بن عمرو بن مالك بن الحارث بن مرّة بن أُدد بن يَشجب بن عَرِيب بن زيد بن كهلان بن سبأ، وبعض الخولان يقولون: خولان بن عمرو بن إلحاف بن قُضاعة، وهي قبيلة نزلت الشام، يُنسب إليها جماعة من العلماء (¬1). (وَكَانَ قَدْ صَلى القِبْلَتَيْنِ) أي إليهما، ففيه الحذف والإيصال، و"القبلتان": هما بيت المقدس، والكعبة (مَعَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-) فيه دليل على أنه صحابيّ، وهو الأصحّ، كما أشرت إليه في ترجمته السابقة، فقدَ عدّه جماعة من أهل العلم في الصحابة، منهم: البخاريّ، وابن سعد، وخليفة، والبغويّ (قَالَ) أي أبو عِنَبة (سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم-) فيه تصريح بصحبته (يَقُولُ: "لَا يَزَالُ الله يَغْرِسُ) بفتح أوله، أو ضمّه، وكسر ثالثه، من الغَرْس، أو الإغراس، يقال: غَرَسَ الشجرَ، يَغْرِسه، من باب ضرب: أثبته في الأرض، كأغرسه. أفاده في "القاموس". وهو هنا كناية عن تثبيتهم على الحقّ، وتأييدهم بالحجج (في هَذَا الدِّينِ) أي الإسلاميّ، لأنه المراد عند الإطلاق، كما نصّ الله عز وجل عليه في كتابه العزيز، حيث قال سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} الآية [آل عمران: 19]، وقال عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} الآية [آل عمران: 85]. وقوله: (غَرْسًا) -بفتح، فسكون- منصوب على أنه مفعول به لقوله: "يغرس"، وهو بمعنى مفعول، قال في "القاموس"، و"شرحه": الغَرْس -بالفتح-: الشجر المغروس، جمعه أَغْراس، وغِرَاس بالكسر. انتهى. والمراد هنا: القوم الذين يقيمهم الله تعالى لحفظ الدين، ويثبتهم بالإيمان واليقين (يَسْتَعْمِلُهُمْ في طَاعَتِهِ) أي ييسّر لهم أسباب طاعته، ويُنير لهم الطريق إلى نيل عنايته ومرضاته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع ¬

_ (¬1) راجع "الأنساب" 2/ 419 و"اللباب" 1/ 471.

والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي عِنَبة الخولانيّ رضي الله تعالى عنه هذا حسنٌ، من أجل الجرّاح، وبكر، فإنهما من رجال الحسن، كما يظهر مما تقدّم في ترجمتيهما، والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه المصنف هنا بهذا الإسناد فقط. وأخرجه أحمد 4/ 200، والبخاريّ في "التاريخ الكبير" 9/ 61، وابن حبّان في "صحيحه" رقم (326)، وابن عديّ في "الكامل" 58/ 2. وابن شاهين في "السنة" 18/ 47/ 1، وابن منده في "المعرفة" 2/ 1/1. وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة": وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات، لكن الذي يظهر لي أن الإسناد حسن؛ لما عرفت من أن الجراح، وبكر بن زرعة صدوقان، فهما من رجال الحسن، فافهم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو اتّباع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ووجه ذلك أن هؤلاء الذين يغرسهم الله تعالى إنما حصل لهم فضل الغرس بسبب اتّباعهم سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. 2 - (ومنها): بيان مزيّة دين الإسلام، حيث تولى الله عز وجل حفظه بغرس أناس يقومون به حقّ القيام. 3 - (ومنها): بيان فضل هذه الأمة، حيث إن الله عز وجل يستعمل طائفة منها في حفظ هذا الدين إلى قيام الساعة، وقد وقاها الله عز وجل أن تجتمع على ضلالة. 4 - (ومنها): بيان عناية الله سبحانه وتعالى بعباده، حيث ييسّر لهم أسباب الهداية، فهو الهادي إلى سواء السبيل، كما قال عز وجل: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ

وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25]، وقال سبحانه: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} الآية [الأنعام: 125]، وقال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} الآية [الزمر: 22]، وقال تعالى: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13]. اللهمّ اهدنا فيمن هديت، اللهمّ آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله المذكور أول الكتاب قال: 9 - (حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ كَاسِبٍ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا الحجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَامَ مُعَاوِيَةُ خَطِيبًا، فَقَالَ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ، أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا وَطَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ، لَا يُبَالُونَ مَنْ خَذَلهُمْ، وَلَا مَنْ نَصَرَهُمْ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (يعقوب بن حميد بن كاسب) المدنيّ، نزيل مكة، وقد يُنسب لجدّه، صدوقٌ، ربما وَهِم [10]. رَوَى عن زكريا بن منظور، وسعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري، وإبراهيم بن سعد، وابن عيينة، وحاتم بن إسماعيل، ومروان بن معاوية، ومعتمر بن سليمان، ومغيرة بن عبد الرحمن المخزومي، والوليد بن مسلم، وابن أبي فديك، ومَعْن بن عيسى، وأبي ضمرة، وعبد الرزاق، وآخرين. ورَوَى عنه البخاري في "خلق أفعال العباد"، وروى في "الصلح"، وفي "فضل من شهد بدرًا"، من "صحيحه" عن يعقوب غير منسوب، عن إبراهيم بن سعد، فقيل: إنه يعقوب بن حميد هذا، وقيل يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرقي، وقيل: يعقوب بن محمد الزهري، وقيل يعقوب بن إبراهيم بن سعد، والأول أشبه، وباقي الأقوال محتملة، إلا الأخير، فإن البخاري لم يلق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، وابن ماجه، وأبو عبد الملك

البسري، وعباس العنبري، وأبو الوليد الأزرقي، وأبو خالد الرازي، وبَقِيّ بن مَخْلَد، ومحمد بن وضاح، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وأبو بكر بن أبي عاصم، وعباس بن الفضل الأسفاطي، وعلي بن طيفور النسوي، والقاسم بن عبد الله بن مهدي الأخميمي، وغيرهم. قال مضر بن محمد عن ابن معين: ثقة. وقال الدُّوريّ عن ابن معين: ليس بشيء. وقال في موضع آخر عنه: ليس بثقة، قلت: من أين قلت ذاك؟ قال: لأنه محدود، قلت: أليس هو في سماعه ثقة؟ قال: بلى. وقال عباس العنبري: يُوصل الحديث. وقال ابن أبي حاتم: قلت لأبي زرعة: ثقة؟ فحرك رأسه، قلت: كان صدوقا في الحديث؟ قال: لهذا شروط. وقال أيضا: قلبي لا يسكن على ابن كاسب. وقال أبو حاتم. ضعيف الحديث. وقال البخاري: لم يزل خَيّرًا، هو في الأصل صدوق. وقال النسائي: ليس بشيء. وقال في موضع آخر: ليس بثقة. وقال القاسم بن عبد الله بن مهدي: قلت لأبي مصعب: بمن توصيني بمكة، وعمن أكتب بها؟ فقال: عليك بشيخنا أبي يوسف، يعقوب بن حميد بن كاسب. وقال ابن عدي: لا بأس به، وبرواياته، وهو كثير الحديث، كثير الغرائب، وكتبتُ مسنده عن القاسم بن عبد الله بن مهديّ، وفيه من الغرائب، والنسخ والأحاديث العزيزة، وشيوخ من أهل المدينة من لا يروي عنهم غيره، وإذا نظرت إلى "مسنده" علمت أنه جَمّاع للحديث، صاحب حديث. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان يحفظ، ممن جمع، وصنّف، وربما أخطأ في الشيء بعد الشيء. وحَكَى ابنُ أبي خيثمة عن ابن معين قصة الدُّوري معه مرة واحدة، وما به بأس، لولا أنه سفيهٌ، قال ابن أبي خيثمة: وقلت لمصعب الزبيري: إن ابن معين يقول في ابن كاسب: إن حديثه لا يجوز؛ لأنه محدود، فقال بئس ما قال، إنما حدّه الطالبيون في التحامل، وابن كاسب ثقة، مأمون، صاحب حديث، وكان من أمناء القضاة زمانا. وقال مسلمة: ثقة سكن مكة، وتوفي سنة إحدى وأربعين ومائتين. قال العقيلي عن زكريا بن يحيى الحلواني: رأيت أبا داود السجستاني قد جعل حديث يعقوب بن كاسب وقايات على ظهور كتبه، فسألته عنه؟ فقال: رأينا في "مسنده" أحاديث أنكرناها،

فطالبناه بالأصول، فدافعنا، ثم أخرجها بعدُ فوجدنا الأحاديث في الأصول مُغَيَّرةً بخط طَرِيّ، كانت مراسيل، فأسندها، وزاد فيها. وقال صالح جزرة: تكلم فيه بعض الناس. وقال الحاكم أبو عبد الله: لم يتكلم فيه أحد بحجة، وناظرني شيخنا أبو أحمد الحافظ -يعني الحاكم صاحب "الكنى"- وذكر أن البخاري رَوَى عنه في "الصحيح"، فقلت: إنما رَوَى عن يعقوب بن محمد الزهري، وثبت أبو أحمد على ما قال. انتهى. وبذلك جزم أبو إسحاق الحَبّال، وأبو عبد الله بن منده، وغيرهما. قال البخاري: مات سنة أربعين أو إحدى وأربعين ومائتين. روى له البخاريّ في "خلق أفعال العباد"، والمصنّف، روى له في هذا الكتاب (63) حديثًا. 2 - (القاسم بن نافع) المدنيّ السُّوَارقيّ -بضمّ المهملة، وتخفيف الواو، وبالقاف: نسبة إلى السُّوَارِقِيّة، قرية من قُرَى المدينة، مستورٌ [9]. رَوَى عن الحجاج بن أرطاة، وجَسْر بن فَرْقَد القصاب، وهشام بن سعد، ومالك ابن أنس. ورَوَى عنه محمد بن الحسن بن زِبَالة، ويعقوب بن حميد بن كاسب، تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط. 3 - (الحجّاج بن أرطاة) -بفتح الهمزة- ابن ثور بن هُبَيرة بن شَرَاحيل النخعيّ، أبو أرطاة الكوفي القاضي، أحد الفقهاء، صدوقٌ، كثير الخطإ والتدليس [7]. رَوَى عن الشعبي حديثا واحدًا، وعن عطاء بن أبي رَبَاح، وجَبَلَة بن سُحَيم، وزيد بن جبير الطائي، وعمرو بن شعيب، وسماك بن حرب، ونافع مولى ابن عمر، وأبي إسحاق السبيعي، وأبي الزبير، والزهري، ومكحول، وقيل: لم يسمع منهما، ويحيى ابن أبي كثير، ولم يسمع منه، وجماعة. ورَوَى عنه شعبة، وهُشيم، وابن نمير، والحمادان، والثوري، وحفص بن غياث، وغندر، وأبو معاوية، ويزيد بن هارون، وعدة، ورَوَى عنه منصور بن المعتمر، وهو من شيوخه، ومحمد بن إسحاق، وقيس بن سعد المكي، وهما من أقرانه، وغيرهم.

قال ابن عيينة: سمعت ابن أبي نَجِيح يقول: ما جاءنا منكم مثله -يعني الحجاج ابن أرطاة-. وقال الثوري: عليكم به، فإنه ما بقي أحد أعرف بما يخرج من رأسه منه. وقال العجلي: كان فقيها، وكان أحد مفتي الكوفة، وكان فيه تِيهٌ، وكان يقول: أهلكني حب الشرف، وولي قضاء البصرة، وكان جائز الحديث، إلا أنه صاحب إرسال، وكان يرسل عن يحيى بن أبي كثير، ومكحول، ولم يسمع منهما، وإنما يعيب الناس منه التدليس، قال: وكان حجاج راويا عن عطاء، سمع منه. وقال أبو طالب عن أحمد: كان من الحفاظ، قيل: فلم ليس هو عند الناس بذاك؟ قال: لأن في حديثه زيادة على حديث الناس، ليس يكاد له حديث إلا فيه زيادة. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: صدوق ليس بالقوي، يدلس عن محمد بن عُبيد الله الْعَرْزَميّ، عن عمرو بن شعيب. وقال ابن المديني عن يحيى بن سعيد: الحجاج بن أرطاة، ومحمد بن إسحاق عندي سواء، وتركت الحجاج عمدًا، ولم أكتب عنه حديثا قط. وقال أبو زرعة: صدوق يدلس. وقال أبو حاتم: صدوق يدلس عن الضعفاء، يكتب حديثه، وأما إذا قال: حدثنا فهو صالح، لا يرتاب في صدقه وحفظه، إذا بَيَّنَ السماع، ولا يحتج بحديثه، لم يسمع من الزهري، ولا من هشام بن عروة، ولا من عكرمة، وقال هشيم: قال لي الحجاج بن أرطاة: صِفْ لي الزهريّ، فإني لم أره. وقال ابن المبارك: كان الحجاج يُدَلِّس، فكان يحدثنا بالحديث عن عمرو بن شعيب، مما يحدثه العرزمي متروك. وقال حماد بن زيد: قَدِم علينا جرير بن حازم من المدينة، فكان يقول: حدثنا قيس بن سعد، عن الحجاج بن أرطاة، فلبثنا ما شاء الله، ثم قَدِم علينا الحجاج ابن ثلاثين، أو إحدى وثلاثين، فرأيت عليه من الزحام ما لم أر على حماد بن أبي سليمان، رأيت عنده داود بن أبي هند، ويونس بن عبيد، ومطرًا الوراق جُثَاةً على أرجلهم، يقولون: يا أبا أرطاة ما تقول في كذا؟ وقال هشيم: سمعته يقول: استفتيتُ وأنا ابن ست عشرة سنة. وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال ابن عدي: إنما عاب الناس عليه تدليسه عن الزهري وغيره، ربما أخطأ في بعض الروايات، فأما أن يتعمد الكذب فلا، وهو ممن يكتب حديثه. وقال يعقوب بن شيبة: واهي

الحديث، في حديثه اضطراب كثير. وقال: صدوق، وكان أحد الفقهاء. وقال ابن حبان: سمعت محمد بن نصر، سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، عن عيسى بن يونس قال: كان الحجاج بن أرطاة لا يحضر الجماعة، فقيل له في ذلك، فقال: أحضر مسجدكم حتى يزاحمني فيه الحَمّالون والْبَقّالون. وقال الساجي: كان مدلسا صدوقا، سيىء الحفظ، ليس بحجة في الفروع والأحكام. وقال ابن خزيمة: لا أحتج به إلا فيما قال أخبرنا، وسمعت. وقال ابن سعد: كان شريفا، وكان ضعيفا في الحديث. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. وقال البزار: كان حافظا مدلسا، وكان مُعْجَبًا بنفسه، وكان شعبة يُثني عليه، ولا أعلم أحدًا لم يرو عنه -يعني ممن لقيه- إلا عبد الله ابن إدريس. وقال مسعود السِّجْزي عن الحاكم: لا يحتج به. وكذا قال الدارقطني. وقال ابن عيينة: كنا عند منصور بن المعتمر، فذكروا حديثًا، فقال: من حدثكم؟ قالوا: الحجاج بن أرطاة، قال: والحجاج يُكتب عنه؟ قالوا: نعم، قال: لو سكتم لكان خيرا لكم. وقال ابن حبان: تركه ابن المبارك، وابن مهدي، ويحيى القطان، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل. قال الحافظ: قرأت بخط الذهبي: هذا القول فيه مجازفة، وأكثر ما نُقِم عليه التدليس، وكان فيه تِيهٌ لا يَلِيق بأهل العلم. انتهى. وقال إسماعيل القاضي: مضطرب الحديث؛ لكثرة تدليسه. وقال محمد بن نصر: الغالب على حديثه الإرسال، والتدليس، وتغيير الألفاظ. قال الهيثم: مات بخراسان مع المهدي. وقال خليفة: مات بالري. وأرخه ابن حبان في "الثقات" سنة (145). قال الحافظ: وقد رأيت له في البخاري رواية واحدة، متابعة تعليقا في "كتاب العتق". أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم مقرونًا بغيره، والأربعة، وله في هذا الكتاب (43) حديثًا. 4 - (عمرو بن شُعيب) بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل القرشي السهمي الحجازيّ الإمام المحدّث، أبو إبراهيم، ويقال: أبو عبد الله المدني، ويقال: الطائفي، وقال أبو حاتم: سكن مكة، وكان يخرج إلى الطائف، وقال الذهبيّ: فقيه أهل الطائف، ومحدّثهم، وكان يتردّد كثيرًا إلى مكّة، وينشر العلم، وله مال

بالطائف، وأمه حبيبة بنت مُرّة الحجبيّة. انتهى (¬1). صدوقٌ [5]. رَوَى عن أبيه، وجُلُّ روايته عنه، وعمته زينب بنت محمد، وزينب بنت أبي سلمة، ربيبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، والرُّبَيِّع بنت معوذ، وطاووس، وسليمان بن يسار، ومجاهد، وعطاء، والزهري، وسعيد المقبري، وعطاء بن سفيان الثقفي، وجماعة. ورَوَى عنه عطاء، وعمرو بن دينار، وهما أكبر منه، والزهري، ويحيى بن سعيد، وهشام بن عروة، وثابت البناني، وعاصم الأحول، وقتادة، ومكحول، وحميد الطويل، وإبراهيم بن ميسرة، وأيوب السختياني، وحَرِيز بن عثمان، والزبير بن عَدِيّ، وأبو إسحاق الشيباني، وأبو الزبير المكي، ويحيى بن أبي كثير، ويزيد بن أبي حبيب، وغيرهم من التابعين، ومنهم أيضا الأوزاعي، وابن جرير، ومحمد بن إسحاق، وحسين المعلم، والحكم بن عتيبة، وابن عون، وداود بن أبي هند، وعمرو بن الحارث المصري، ومطر الوراق، ويزيد بن الهاد، وعبد الله بن طاوس، وثور بن يزيد الحمصي، وحجاج بن أرطاة، وسليمان بن موسى، وعبد الرحمن بن حرملة، وعمارة بن غزية، والمثنى بن الصباح، وابن لهيعة، وآخرون. قال صدقة بن الفضل: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: إذا رَوَى عنه الثقات، فهو ثقة، يحتج به. وقال علي بن المديني، عن يحيى بن سعيد: حديثه عندنا واهٍ. وقال علي عن ابن عيينة: حديثه عند الناس فيه شيء. وقال أبو عمرو بن العلاء: كان يُعاب على قتادة، وعمرو بن شعيب أنهما كانا لا يسمعان شيئا إلا حدثا به. وقال الميموني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: له أشياء مناكير، وإنما يكتب حديثه يعتبر به، فأما أن يكون حجة فلا. وقال الأثرم عن أحمد: أنا أكتب حديثه، وربما احتججنا به، وربما وَجَسَ في القلب منه شيء، ومالك يروي عن رجل عنه. وقال أبو داود عن أحمد ابن حنبل: أصحاب الحديث إذا شاءوا احتجوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" 5/ 165.

جده، وإذا شاءوا تركوه. وقال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه، وأبا عبيد، وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، ما تركه أحد من المسلمين، قال البخاري: مَنِ الناسُ بعدهم؟. وأنكر الحافظ الذهبيّ هذه الحكاية، فقال: أستبعد صدور هذه الألفاظ من البخاريّ، أخاف أن يكون أبو عيسى وَهِم، وإلا فالبخاريّ لا يُعرّج على عمرو أفتراه يقول: فمن الناس بعدهم، ثم لا يُحتجّ به أصلًا، ولا متابعة؟ (¬1). وقال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: إذا حدث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، فهو كتاب، ومن هنا جاء ضعفه، وإذا حدث عن سعيد بن المسيب، أو سليمان بن يسار، أو عروة فهو ثقة عن هؤلاء. وقال الدُّوري، ومعاوية بن صالح، عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: سألت ابن معين، فقال: ما أقول؟ رَوَى عنه الأئمة. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ليس بذاك. وقال أبو زرعة: رَوَى عنه الثقات، وإنما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبيه عن جده، وقال: إنما سمع أحاديث يسيرة، وأخذ صحيفة كانت عنده، فرواها، وعامة المناكير تُروَى عنه إنما هي عن المثنى بن الصباح، وابن لهيعة، والضعفاء، وهو ثقة في نفسه، إنما تكلّم فيه بسبب كتاب عنده، وما أقل ما نُصيب عنه، مما رَوَى عن غير أبيه عن جده من المنكر. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وبهز بن حكيم عن أبيه عن جده؟ فقال: عمرو أحب إليّ. وقال محمد بن علي الجوزجاني: قلت لأحمد: عمرو سمع من أبيه شيئا؟ قال: يقول: حدثني أبي، قلت: فأبوه سمع من عبد الله بن عمرو؟ قال: نعم، أراه قد سمع منه. وقال الآجري: قلت لأبي داود: عمرو بن شعيب عندك حجة؟ قال: لا، ولا نصف حجة. وقال جرير: كان مغيرة لا يعبأ بصحيفة عبد الله بن عمرو. وقال الحسن ¬

_ (¬1) راجع "سير أعلام النبلاء" 5/ 167.

ابن سفيان عن إسحاق بن راهويه: إذا كان الراوي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، ثقة، فهو كأيوب، عن نافع، عن ابن عمر. قال أيوب بن سويد، عن الأوزاعي: ما رأيت قرشيا أفضل، وفي رواية أكمل من عمرو بن شعيب. وقال العجلي، والنسائي: ثقة. وقال أبو جعفر، أحمد بن سعيد الدارمي: عمرو بن شعيب ثقة، رَوَى عنه الذين نظروا في الرجال، مثل أيوب، والزهري، والحكم، واحتج أصحابنا بحديثه، وسمع أبوه من عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس. وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري: صح سماع عمرو من أبيه، وصح سماع شعيب من جده. وقال الدارقطني: لعمرو بن شعيب ثلاثة أجداد: الأدنى منهم محمد، ومحمد لم يدرك النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسمع من جده عبد الله، فإذا بَيَّنَهُ وكشفه، فهو صحيح حينئذ، ولم يَترُك حديثه أحد من الأئمة. وقال الدارقطني أيضًا: قال النقاش: عمرو بن شعيب ليس من التابعين، وقد روى عنه عشرون من التابعين، قال الدارقطني: فتتبعتهم فوجدتهم أكثر من عشرين. قال المزي: كأن الدارقطني وافق النقاش على أنه ليس من التابعين، وليس كذلك، فقد سمع من زينب بنت أبي سلمة، والرُّبَيّع بنت مُعَوِّذ، ولهما صحبة. وقال ابن عدي: روى عنه أئمة الناس، وثقاتهم، وجماعة من الضعفاء، إلا أن أحاديثه عن أبيه، عن جده، مع احتمالهم إياه لم يُدخلوها في صحاح ما خَرَّجوا، وقالوا: هي صحيفة. قال الحافظ: عمرو بن شعيب ضعفه ناس مطلقا، ووثقه الجمهور، وضعف بعضهم روايته عن أبيه عن جده حسبُ، ومن ضعفه مطلقا، فمحمول على روايته عن أبيه عن جده، فأما روايته عن أبيه، فربما دلس ما في الصحيفة بلفظ عن، فإذا قال: حدثني أبي، فلا ريب في صحتها كما يقتضيه كلام أبي زرعة المتقدم، وأما رواية أبيه عن جده، فإنما يعني بها الجد الأعلى، عبد الله بن عمرو، لا محمد بن عبد الله، وقد صرح شعيب بسماعه من عبد الله في أماكن، وصح سماعه منه كما تقدم، وكما روى حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن شعيب، قال: سمعت عبد الله بن عمرو، فذكر حديثًا،

أخرجه أبو داود من هذا الوجه. وفي رواية عمرو ما يدلّ على أنّ المراد بجدّه هو عبد الله بن عمرو، فمن ذلك رواية حسين المعلم، عن عمرو، عن أبيه، عن جده، قال: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي حافيا ومنتعلًا"، رواه أبو داود، وبهذا السند: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشرب قائما وقاعدًا"، رواه الترمذي، وبه: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينفتل عن يمينه وعن يساره في الصلاة"، رواه ابن ماجه (¬1). ومن ذلك: هشام بن الغاز، عن عمرو، عن أبيه، عن جده قال: أقبلنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ثنية أذاخِر ... " الحديث، رواه ابن ماجه (¬2). ومن ذلك محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمر بكلمات من الفزع ... " الحديث، رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وغيرهم. وهذه قطعة من جملة أحاديث تُصَرّح بأن الجد هو عبد الله بن عمرو، لكن هل سمع منه جميع ما رَوَى عنه أم سمع بعضها، والباقي صحيفة، الثاني أظهر عندي، وهو الجامع لاختلاف الأقوال فيه، وعليه ينحط كلام الدارقطني، وأبي زرعة، وأما اشتراط بعضهم أن يكون الراوي عنه ثقة، فهذا الشرط معتبر في جميع الرواة، لا يختص به عمرو، وأما قول ابن عدي: لم يُدخلوها في صحاح ما خرّجوا، فيرد عليه إخراج ابن خزيمة له في "صحيحه"، والبخاري في "جزء القراءة خلف الإمام" على سبيل الاحتجاج، وكذلك النسائي، وكتابه عند ابن عدي معدود في الصحاح، ولكن ابن عدي عَنَى غير "الصحيحين" (¬3) فيما أظن، فليس فيهما لعمرو شيء. ¬

_ (¬1) سيأتي في "كتاب الصلاة" برقم (931). (¬2) سيأتي في "كتاب اللباس" برقم (3603). (¬3) هكذا نسخة "تهذيب التهذيب"، والظاهر أن الصواب "عنَى "الصحيحين" بحذف لفظة "غير"، فليُتأمّل. والله تعالى أعلم.

وقد أنكر جماعة أن يكون شعيب سمع من عبد الله بن عمرو، وذلك مردود بما تقدم، ومن ذلك قال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: سألت علي بن المديني عن عمرو بن شعيب؟ فقال: ما روى عنه أيوب، وابن جريج، فذا كله صحيح، وما رَوَى عن أبيه عن جده، فهو كتاب وَجَدَهُ، فهو ضعيف. وقال ابن عدي: عمرو بن شعيب في نفسه ثقة، إلا أنه إذا روى عن أبيه عن جده يكون مرسلًا؛ لأن جده محمدًا لا صحبة له. وقال ابن حبان في "الضعفاء": إذا روى عمرو عن طاوس، وسعيد بن المسيب، وغيرهما من الثقات، فهو ثقة، يجوز الاحتجاج به، وإذا رَوَى عن أبيه، عن جده، فإن شعيبا لم يلق عبد الله، فيكون منقطعا، وإن أراد بجده محمدا، فهو لا صحبة له، فيكون مرسلًا، والصواب أن يُحَوَّل عمرو إلى "كتاب الثقات"، فأما المناكير في روايته فتُترك. وقال الدارقطني: لمّا حكى كلام ابن حبان: هذا خطأ، قد رَوَى عبيد الله بن عمر العمري، وهو من الأئمة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، قال: كنت عند عبد الله بن عمرو، فجاء رجل، فاستفتاه في مسألة، فقال لي: يا شعيب امْضِ معه إلى ابن عباس ... ، فذكر الحديث. قلت وقد أسند ذلك الدارقطني في "السنن"، قال: ثنا أبو بكر بن زياد النيسابوري، ثنا محمد بن يحيى الذهلي وغيره، قالوا: ثنا محمد بن عبيد، ثنا عبيد الله بن عمر. ورواه الحاكم أيضا من هذا الوجه. وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: سمعت هارون ابن معروف يقول: لم يسمع عمرو من أبيه شيئًا، إنما وجده في كتاب أبيه، قال ابن أبي خيثمة: قلت ليحيى بن معين: أليس قد سمع من أبيه؟، قال: بلى، قلت: إنهم ينكرون ذلك، فقال: قال أيوب: حدثني عمرو، فذكر أبا عن أب إلى جده، قد سمع من أبيه، ولكنهم قالوا حين مات عمرو بن شعيب: عن أبيه عن جده إنما هذا كتاب، قال الحافظ: يشير ابن معين بذلك إلى حديث إسماعيل ابن علية، عن أيوب، حدثني عمرو ابن شعيب، حدثني أبي، عن أبيه، عن أبيه، حتى ذكر عبد الله بن عمرو، فذكر حديث:

"لا يَحِلُّ سَلَفٌ وبيع"، أخرجه أبو داود، والترمذي، من رواية ابن علية، عن أيوب. ورَوَى النسائي من حديث ابن طاوس، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن أبيه محمد بن عبد الله بن عمرو، وقال مرة: عن أبيه، وقال مرة: عن جده، في النهي عن لحوم الحمر الأهلية، ولم يأت التصريح بذكر محمد بن عبد الله بن عمرو في حديث، إلا في هذين الحديثين فيما وقفت عليه، وذلك نادر لا تعويل عليه، ولكن استدلّ ابن معين بذلك على صحة سماع عمرو من أبيه في الجملة. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن صالح -يعني المصري-: عمرو سمع من أبيه، عن جدّه، وكُلُّه سماعٌ، عمرٌو يُثْبَتُ أحاديثه مقام التثبت. وقال الساجي: قال ابن معين: هو ثقة في نفسه، وما رَوَى عن أبيه، عن جده، لا حجة فيه، وليس بمتصل، وهو ضعيف، من قبيل أنه مرسل، وَجَدَ شعيب كتب عبد الله بن عمرو، فكان يرويها عن جده إرسالًا، وهي صحاح عن عبد الله بن عمرو، غير أنه لم يسمعها. قال الحافظ: فإذا شَهِدَ له ابن معين أن أحاديثه صحاح، غير أنه لم يسمعها، وصح سماعه لبعضها، فغاية الباقي أن يكون وجادة صحيحة، وهو أحد وجوه التحمل. والله أعلم. وقال يعقوب بن شيبة: ما رأيت أحدا من أصحابنا، ممن ينظر في الحديث، وينتقي الرجال يقول في عمرو بن شعيب شيئًا، وحديثه عندهم صحيح، وهو ثقة ثبت، والأحاديث التي أنكروا من حديثه، إنما هي لقوم ضعفاء، رَوَوها عنه، وما رَوَى عنه الثقات فصحيح، قال: وسمعت علي بن المديني يقول: قد سمع أبوه شعيب من جده عبد الله بن عمرو. وقال علي ابن المديني: وعمرو بن شعيب وعندنا ثقة، وكتابه صحيح. وقال الشافعي -فيما أسنده البيهقي في "المعرفة" عنه، يخاطب الحنفية، حيث احتجوا عليه بحديث لعمرو بن شعيب-: عمرو بن شعيب قد رَوَى أحكامًا توافق أقاويلنا، وتخالف أقاويلكم عن الثقات، فرددتموها، ونسبتموه إلى الغلط، فأنتم محجوجون إن كان ممن ثبت حديثه، فأحاديثه التي وافقناها، وخالفتموها، أو أكثرها، وهي نحو ثلاثين حكما، حجة عليكم، وإلا فلا تحتجوا به، ولا سيما إن كانت الرواية

عنه لم تثبت. وقال الذهبي: كان أحد علماء زمانه، وقال: قيل: إن محمدا والد شعيب مات في حياة أبيه، فرباه جَدّه. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: إنما نقلت ترجمة عمرو بن شعيب بطولها؛ لكثرة الكلام فيه، والحقّ أنه ثقة، فإذا صرح بالتحديث، فأحاديثه صحاح، وأن المراد بجدّه جدّه الأعلى، وهو عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وقد أوجز الحافظ رحمه الله خلاصة القول فيه، حيث قال فيما سبق من كلامه: فإذا شَهِدَ له ابن معين بأن أحاديثه صحاح، غير أنه لم يسمعها، وصح سماعه لبعضها، فغاية الباقي أن يكون وجادةً صحيحةً، وهو أحد وجوه التحمل. وأجاد الحافظ الذهبيّ رحمه الله تعالى في "الميزان" حيث قال: قد أجبنا عن روايته عن أبيه، عن جدّه بأنها ليست بمرسلة، ولا منقطعة، أما كونها وجادة، أو بعضها سماع، وبعضها وجادة، فهذا محلّ نظر، ولسنا نقول: إن حديثه من أعلى أقسام الصحيح، بل هو من قبيل الحسن. انتهى (¬1). قال خليفة وغيره: مات سنة ثماني عشرة ومائة. أخرج له البخاريّ في "جزء القراءة"، والأربعة، وله في هذا الكتاب (70) حديثًا. 5 - (أبوه) شُعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص الحجازي السهميّ، وقد ينسب إلى جده الطائفيّ، صدوق [3]. رَوَى عن جده، وابن عباس، وابن عمر، ومعاوية، وعبادة بن الصامت، وأبيه محمد بن عبد الله إن كان محفوظا. ورَوَى عنه ابناه: عمرو، وعمر، وثابت البناني، ونسبه إلى جده، وأبو سَحَابَة زياد ابن عمرو، وسلمة بن أبي الحسام، وعثمان بن حكيم بن عطاء الخراساني. ذكره خليفة في الطبقة الأولى من أهل الطائف. وذكره ابن حبان في "الثقات"، ¬

_ (¬1) "ميزان الاعتدال" 5/ 323. طبعة دار الكتب العلميّة.

وذكر البخاري، وأبو داود، وغيرهما أنه سمع من جده، ولم يذكر أحد منهم أنه يروي عن أبيه محمد، ولم يذكر أحد لمحمد هذا ترجمة إلا القليل. أخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب (65) حديثًا. 6 - (معاوية) بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، أبو عبد الرحمن الأموي، أسلم يوم الفتح، وقيل قبل ذلك، رَوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن أبي بكر، وعمر، وأخته أم حبيبة. ورَوَى عنه جرير بن عبد الله البجلي، والسائب بن يزيد الكندي، وابن عباس، ومعاوية بن حُدَيج، ويزيد بن جارية، وأبو أمامة بن سهل بن حُنيف، وأبو إدريس الخولاني، وسعيد بن المسيب، وقيس بن أبي حازم، وعيسى بن طلحة، وأبو مِجْلَز، وحميد بن عبد الرحمن بن عوف، ومحمد بن جبير بن مطعم، وآخرون. ولاه عمر بن الخطاب الشام بعد أخيه يزيد، فأقره عثمان مدة ولايته، ثم ولي الخلافة، قال ابن إسحاق: كان معاوية أميرا عشرين سنة، وخليفة عشرين سنة. وقال يحيى بن بكير عن الليث: تُوفّي في رجب لأربع ليال بقين منه سنة ستين. وقال الوليد بن مسلم: مات في رجب سنة ستين، وكانت خلافته تسع عشرة سنة ونصفا. وقيل: مات سنة تسع وخمسين. وقيل: مات وهو ابن ثمان وسبعين. وقيل: ابن ست وثمانين. أخرج له الجماعة، وله من الأحاديث (130) حديثًا، اتفق الشيخان منها على أربعة، انفرد البخاريّ بأربعة، ومسلم بخمسة، وله في هذا الكتاب ستة عشر حديثًا، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ) شعيب بن محمد، أنه (قَالَ: قَامَ مُعَاوِيَةُ) بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما (خَطِيبًا، فَقَالَ) رضي الله تعالى عنه (أَيْنَ عُلماؤُكُمْ) أي ليُصدّقوني فيما أقول (أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ) كرّره تأكيدًا (سَمِعْتُ رَسُولَ الله، يَقُولُ: "لا) نافية، ولهذا رُفع الفعل بعدها (تَقُومُ السَّاعَةُ) أي القيامة. وقوله: (إِلَّا وَطَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ) في محلّ نصب على الحال، أي إلا والحال أن طائفة منهم ظاهرون.

ومعنى ظهورهم غلبتهم، وقهرهم، والمراد بالناس أعدائهم الكفّار. قال صاحب "إنجاح الحاجة": لعلّ غرض معاوية بن أبي سفيان من رواية هذا الحديث بهذا الاهتمام الاستدلال على حقّيّته، وحقّيّة أشياعه وأتباعه؛ لأن الطائفة الظاهرة الغالبة المنصورة في زمانه لم يكن إلا هو وأتباعه، فلو لم تكن تلك الطائفة على الحقّ قوّامة على أمر الله لما صدق هذا الحديث. انتهى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في هذا الاستدلال نظرٌ لا يخفى. والله تعالى أعلم. [تنبيه]: قوله: "ظاهرون" هكذا نسخ "ابن ماجه" بالرفع، وهو الظاهر؛ لأنه خبر لطائفةٌ، فما كتبه الدكتور بشار فيما كتبه على هذا الكتاب من تصويبه "ظاهرين" بالنصب فمما لا وجه له، إلا بتكلّف، لا داعي له، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتهوّر بالاعتساف. والله تعالى أعلم. [تنبيه آخر]: قال في "الفتح": اتفق الشراح على أن معنى قوله: "ظاهرون على من خالفهم" أن المراد عُلُوّهم عليهم بالغلبة، وأبعد من أبدع، فرد على من جعل ذلك منقبة لأهل الغرب أنه مذمة؛ لأن المراد بقوله: "ظاهرين على الحق" أنهم غالبون له، وأن الحق بين أيديهم كالميت، وأن المراد بالحديث ذم الغرب، وأهله لا مدحهم. انتهى. (لَا يُبَالُونَ مَنْ خَذَلهُمْ) أي ترك معاونتهم، ونصرهم (وَلَا) يبالون أيضًا (مَنْ نَصَرَهُمْ) أي إنهم لقوّة إيمانهم، وكمال توكّلهم على ربّهم لا يلتفتون إلى غيره سبحانه وتعالى، فلا يعتمدون على إقبال من أقبل عليهم، ولا يتأثّرون على إدبار من أدبر منهم، بل هم دائمًا مستمرّون على نشر الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث معاوية رضي الله تعالى عنه هذا إسناده ضعيف؛ لأن فيه القاسمَ بنَ نافع، مجهول الحال، لم يرو عنه سوى اثنين، ولم يوثّقه أحد، وقال الذهبيّ في "الميزان": لا

يُعرف؟، لكن الحديث صحيح، فقد أخرجه الشيخان من طريق عُمير بن هانىء، عن معاوية -رضي الله عنه-، والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا بهذا السند فقط، وأخرجه (البخاريّ) في "العلم" 25، و"الاعتصام بالكتاب والسنة"7312 و (مسلم) في الإمارة" 1037، و"أحمد" 4/ 101، وأما فوائده فقد تقدّمت قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله المذكور أول الكتاب قال: 10 - (حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي أَسماءَ الرَّحَبِيِّ، عَنْ ثَوْبَانَ، أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الحقِّ، مَنْصُورِينَ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ الله عَزَّ وَجَلَّ"). رجال هذا الإسناد: سبعة: 1 - (هشام بن عمّار) السلميّ الدمشقيّ المذكور في 1/ 5. 2 - (محمد بن شعيب) بن شابور -بالمعجمة، والموحّدة- الأمويّ مولاهم، أبو عبد الله الدمشقيّ، نزيل بيروت، صدوقٌ، صحيح الكتاب، من كبار [9]. رَوَى عن الأوزاعي، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وعبد الله بن العلاء بن زَبْر، وسعيد بن بشير، وخالد بن دِهْقان، وسعيد بن عبد العزيز التَّنُوخي، وعبد الرحمن بن حسان الكناني، وإبراهيم بن سليمان الأفطس، وغيرهم. ورَوَى عنه ابن المبارك، ومات قبله، والوليد بن مسلم، وهو من أقرانه، وإسحاق بن إبراهيم الفراديسي، ومروان بن محمد الطاطري، وسليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، وصفوان بن صالح المؤذن، ومحمد بن مصفى، ومحمد بن هاشم البعلبكي، ومؤمل بن الفضل الحراني، ونصر بن عاصم الأنطاكي، وهشام بن عمار، وبقية، وعمران بن يزيد، وآخرون. قال صالح بن أحمد عن أبيه: ما أرى به بأسًا، وما علمت إلا خيرًا. وقال عبد الله ابن أحمد عن أبيه نحوه، وزاد: كان رجلا عاقلا. وقال هشام بن مرثد: سمعت ابن معين يقول: كان مرجئا، وليس به في الحديث بأس. وقال إسحاق بن راهويه: روى ابن المبارك عن محمد بن شعيب بن شابور، فقال: أنا الثقة من أهل العلم، محمد بن شعيب، وكان يسكن بيروت. وقال ابن عمار ودحيم: ثقة، زاد دحيم: والوليد كان أحفظ منه، وكان محمد إذا حدث بالشيء من كتبه، كان حديثا صحيحًا. وقال أبو حاتم: هو أثبت

من محمد بن حرب، ومحمد بن حمير، وبقية. وقال الآجري عن أبي داود: محمد بن شعيب في الأوزاعي ثبت. وقال ابن عدي: الثقات من أهل الشام، فعده فيهم. وقال العجلي: شامي ثقة. وقال الذهبي في "الميزان": ما علمت به بأسًا. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: وُلد سنة ست عشرة ومئة، ومات سنة مائتين، وكذا قال ابن أبي عاصم عن دحيم في سنة وفاته. وقال الحسن بن محمد بن بكار: مات سنة ست أو (97). وقال هشام بن عمار: مات سنة (98). وقال محمد بن مصفى: مات سنة تسع وتسعين ومائة. أخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب عشرة أحاديث. 3 - (سعيد بن بشير) الأزديّ مولاهم، أبو عبد الرحمن، أو أبو سلمة الشاميّ، أصله من البصرة، أو واسط، لا بأس به (¬1) [8]. رَوَى عن قتادة، والزهري، وعمرو بن دينار، وعبيد الله بن عمر، وعبد العزيز ابن صهيب، والأعمش، وأبي الزبير، ومطر الوراق، وجماعة. ورَوَى عنه بقية، وأسد ابن موسى، ورواد بن الجراح، ومحمد بن شعيب بن شابور، وأبو مسهر، وغيرهم. قال ابن سعد: كان قدريا. وقال البخاري ومسلم: نراه أبا عبد الرحمن الذي رَوَى هشيم عنه عن قتادة. وقال بقية عن شعبة: ذاك صدوق اللسان. وفي رواية صدوق اللسان في الحديث. قال بقية: فحدثت به سعيد بن عبد العزيز، فقال لي: بُثَّ هذا يرحمك الله في جندنا، فإن الناس عندنا كأنهم ينتقصونه. وقال أبو حاتم: قلت لأحمد بن صالح: سعيد بن بشير دمشقي، كيف هذه الكثرة عن قتادة؟ قال: كان أبوه ¬

_ (¬1) قال عنه في "التقريب": ضعيف، وعندي أن إطلاق الضعف عليه محلّ نظر، وإن تكلم فيه كثيرون، فقد وثقه شعبة، ودُحيم، وقال البزّار: صالح، ليس به بأس، حسن الحديث. وقال أبو حاتم، وأبو زرعة: محلّه الصدق عندنا، وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي ينكر على من أدخله في كتاب الضعفاء، وقال: يُحوّل منه. وقال البخارىّ: يتكلّمون في حفظه، وهو مُحتَملٌ. انتهى. فمثل هذا لا ينبغي إطلاق الضعف عليه، فأقلّ أحواله أن يكون حسن الحديث، فليتأمل. والله تعالى أعلم.

شريكا لأبي عروبة، فأقدم بشير ابنه سعيدًا البصرة، فبقي يطلب مع سعيد بن أبي عروبة. وقال مروان بن محمد: سمعت ابن عيينة يقول: حدثنا سعيد بن بشير، وكان حافظا. وقال يعقوب بن سفيان: سألت أبا مسهَر عنه؟ فقال: لم يكن في جندنا أحفظ منه، وهو ضعيف، منكر الحديث. وقال أبو زرعة الدمشقي: قلت لأبي مسهر: كان سعيد بن بشير قدريا، قال: معاذ الله. قال: وسألت عبد الرحمن بن إبراهيم، عن قول من أدرك فيه، فقال: يوثقونه، وسألته عن محمد بن راشد، فقدم سعيدا عليه. وقال عثمان الدارمي: سمعت دُحيما يوثقه، وسألته عن محمد بن راشد، فقدم سعيدا عليه. وقال سعيد بن عبد العزيز: كان حاطب ليل. وقال عمرو بن علي، ومحمد بن المثنى: حدث عنه ابن مهدي، ثم تركه، وكذا قال أبو داود عن أحمد. وقال الميموني: رأيت أبا عبد الله يضعف أمره. وقال الدُّوري وغيره عن ابن معين: ليس بشيء. وقال عثمان الدارمي وغيره عن ابن معين. ضعيف. وقال علي بن المديني: كان ضعيفا. وقال محمد ابن عبد الله بن نمير: منكر الحديث، ليس بشيء، ليس بقوي الحديث، يروي عن قتادة المنكرات. وقال البخاري: يتكلمون في حفظه، وهو محُتَمَل. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي وأبا زرعة يقولان: محله الصدق عندنا، قلت لهما: يحتج بحديثه؟ قالا: يحتج بحديث أبي عروبة، والدستوائي، هذا شيخ يُكتب حديثه. وقال النسائي: ضعيف. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالقوي عندهم. وقال الساجي: حَدّث عن قتادة بمناكير. وقال الآجري عن أبي داود: ضعيف. وقال ابن حبان: كان رديء الحفظ، فاحش الخطإ، يروي عن قتادة ما لا يُتابَع عليه، وعن عمرو بن دينار ما ليس يُعرف من حديثه، ومات وله (89) سنة. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: لم يُدرِك الحكم بن عتيبة. وقال أبو بكر البزار: هو عندنا صالح، ليس به بأس. وقال ابن عديّ. له عند أهل دمشق تصانيف، ولا أرى بما يرويه بأسًا، ولعله يَهِم في الشيء بعد الشيء، ويَغلَط، والغالب على حديثه الاستقامة، والغالب عليه الصدق. قال "أبو الجماهر وغيره: مات سنة (168). وقال الوليد وغيره: مات سنة (69). وقال ابن سعد: مات سنة (70). أخرج

له الأربعة، وله في هذا الكتاب ستّة أحاديث. 4 - (قتادة) بن دعامة بن عزيز بن عمرو بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن سَدُوس، أبو الخطاب السدوسي البصري، وُلد أكمه، ثقة ثبتٌ، رأس الطبقة [4]. رَوَى عن أنس بن مالك، وعبد الله بن سَرْجِسَ، وأبي الطفيل، وصفية بنت شيبة، وسعيد بن المسيب، وعكرمة، وأبي الشعثاء جابر بن زيد، وحميد بن عبد الرحمن ابن عوف، والشعبي، وعبد الله بن شقيق، وغيرهم. ورَوَى عنه أيوب السختياني، وسليمان التيمي، وجرير بن حازم، وشعبة، ومسعر، ويزيد بن إبراهيم التستري، ويونس الإسكاف، وأبو هلال الراسبي، وهشام الدستوائي، ومطر الوراق، وهمام بن يحيى، وعمرو بن الحارث المصري، وغيرهم. قال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: إنه أقام عند سعيد بن المسيب ثمانية أيام، فقال له في اليوم الثالث: ارتَحِلْ يا أعمى، فقد أَنْزَفْتَنِي. وقال سلام بن مسكين: حدثني عمرو بن عبد الله، قال: لمّا قدم قتادة على سعيد بن المسيب، فجعل يسأله أيامًا وأكثر، فقال له سعيد: أكلَّ ما سألتني عنه تحفظه؟ قال: نعم، سألتك عن كذا فقلت فيه كذا، وسألتك عن كذا فقلت فيه كذا، وقال فيه الحسن كذا، حتى رَدَّ عليه حديثا كثيرا، قال: فقال سعيد: ما كنت أظن أن الله خلق مثلك. وعن سعيد بن المسيب قال: ما أتاني عراقي أحسن من قتادة. وقال بكر بن عبد الله المزني: ما رأيت الذي هو أحفظ منه، ولا أجدر أن يؤدي الحديث كما سمعه. وقال ابن سيرين: قتادة هو أحفظ الناس. وقال مطر الوراق: كان قتادة إذا سمع الحديث أخذه الْعَوِيل والزَّوِيل حتى يحفظه. وقال معمر: قال قتادة لسعيد بن أبي عروبة: خذ المصحف، قال: فعرض عليه سورة البقرة، فلم يخطئ فيها حرفا واحدا، قال: يا أبا النضر: أحكمت؟ قال: نعم، قال: لأنا بصحيفة جابر أحفظ مني لسورة البقرة، قال: وكانت قرئت عليه، وقال الأثرم: سمعت أحمد يقول: كان قتادة أحفظ أهل البصرة، لم يسمع شيئا إلا حفظه، وقُرئ عليه صحيفة جابر مرة واحدة، فحفظها، وكان سليمان التيمي، وأيوب يحتاجون إلى حفظه، ويسألونه،

وكان له خمس وخمسون سنة يوم مات. وقال ابن حبان في "الثقات": كان من علماء الناس بالقرآن والفقه، ومن حفاظ أهل زمانه، مات بواسط سنة (117)، وكان مدلسا على قَدَر فيه. وقال عمرو بن علي: وُلد سنة (61)، ومات سنة سبع عشرة ومائة. وقال أبو حاتم: تُوفي بواسط في الطاعون، وهو ابن ست، أو سبع وخمسين سنة، بعد الحسن بسبع سنين. وقال أحمد بن حنبل عن يحيى ابن سعيد: مات سنة (117) أو (18). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (154) حديثًا. 5 - (أبو قلابة) عبد الله بن زيد بن عمرو، ويقال: عامر بن ناتل بن مالك بن عبيد بن علقمة بن سعد، أبو قلابة الجرمي البصري، أحد الأعلام، ثقة فاضلٌ، كثير الإرسال [3]. رَوَى عن ثابت بن الضحاك الأنصاري، وسمرة بن جندب، وأبي زيد عمرو بن أخطب، وعمرو بن سلمة الجرمي، ومالك بن الحويرث، وزينب بنت أم سلمة، وأنس ابن مالك الأنصاري، وغيرهم. ورَوَى عنه أيوب، وخالد الحذاء، وأبو رجاء سلمان مولى أبي قلابة، ويحيى بن أبي كثير، وأشعث بن عبد الرحمن الجرمي، وعاصم الأحول، وغيلان بن جرير، وطائفة. ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل البصرة، وقال: كان ثقة كثير الحديث، وكان ديوانه بالشام. وقال علي بن أبي حملة: قلنا لمسلم بن يسار: لو كان بالعراق أفضل منك لجاءنا الله به، فقال: كيف لو رأيتم أبا قلابة؟. وقال مسلم أيضا: لو كان أبو قلابة من العجم، لكان مُوْبذ مُوْبذان -يعني قاضي القضاة-. وقال ابن سيرين ذاك أخي حقّا. وقال ابن عون: ذَكَرَ أيوب لمحمد حديثا عن أبي قلابة، فقال: أبو قلابة -إن شاء الله- ثقة، رجل صالح، ولكن عمن ذكره أبو قلابة؟. وقال أيوب: كان والله من الفقهاء، ذوي الألباب، ما أدركت بهذا المصر رجلا كان أعلم بالقضاء من أبي قلابة، ما

أدري ما محمد. وقال العجلي: بصري تابعي ثقة، وكان يحمل على علي، ولم يرو عنه شيئا، ولم يسمع من ثوبان. وقال أبو حاتم: لا يعرف له تدليس (¬1). وقال ابن خراش: ثقة. وقال عمر بن عبد العزيز: لن تزالوا بخير يا أهل الشام ما دام فيكم هذا. قال ابن المديني: مات أبو قلابة بالشام. وقال ابن يونس: مات بالشام سنة أربع ومائة، وكذا أرخه غيره. وقال الواقدي: تُوفي سنة (4) أو خمس. وقال ابن المديني: مات سنة (4) أو سبع. وقال ابن معين: أرادوه على القضاء، فهرب إلى الشام، فمات بها سنة (6) أو (7). وقال الهيثم بن عدي: مات سنة (107). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (27) حديثًا. 6 - (أبو أسماء الرحبيّ) عمرو بن مرثد الدمشقي، وقال ابن سميع: اسم أبيه أسماء. رَوَى عن ثوبان، وأبي ذر، وشداد بن أوس، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبي هريرة، وأبي ثعلبة الخشني. ورَوَى عنه أبو الأشعث الصنعاني، وأبو قلابة الجرمي، وشداد أبو عَمّار، ومكحول الشامي، وراشد بن داود الصنعاني، ويحيى بن الحارث الذماري، وربيعة بن يزيد القصير، وصالح بن جبير. قال العجلي: شامي تابعي ثقة. ذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن زبر: "الرَّحَبيّ-: نسبة إلى رحبة دمشق، قرية من قراها، بينها وبين دمشق ميل، رأيتها عامرة. وذكر أبو سعد بن السمعاني أنه من رَحَبَة حمير، وقال: مات في خلافة عبد الملك بن مروان. ويُروَى عن أبي داود أن اسم أبي أسماء الرحبي عبد الله. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث. 7 - (ثوبان) بن بُجْدُد، ويقال: ابن جَحْدَر، أبو عبد الله، ويقال: أبو عبد الرحمن الهاشمي، مولى النبي -صلى الله عليه وسلم-، قيل: أصله من اليمن، أصابه سِبَاء، فاشتراه النبي -صلى الله عليه وسلم-، ¬

_ (¬1) هذا يردّ قول الذهبي في "الميزان" جـ 2 ص 425 - 426: ثقة في نفسه إلا أنه يدلّس عمن لَحِقه، وعمن لم يلحقه، وكان له صُحُفٌ يُحدّث فيها ويدلّس انتهى.

فأعتقه، وقال: "إن شئت أن تَلْحَق بمن أنت منهم فعلت، وإن شئت أن تثبت، فأنت منا أهل الييت"، فثبت، ولم يزل معه في سفره وحضره، ثم خرج إلى الشام، فنزل الرملة، ثم حمص، وابتنى بها دارا، ومات بها في إمارة عبد الله بن قُرْط، رَوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعنه أبو أسماء الرحبي، ومعدان بن أبي طلحة اليعمري، وأبو حي المؤذن، وراشد ابن سعد، وجُبير بن نُفير، وعبد الرحمن بن غَنْم، وأبو عامر الألهاني، وأبو إدريس الخولاني، وجماعة. قال صاحب "تاريخ حمص": بلغنا أن وفاته كانت سنة (54)، وكذا قال ابن سعد، وغير واحد، أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، وله في هذا الكتاب (22) حديثًا، وشرح الحديث، وفوائده تقدّمت في الأحاديث الماضية، فلا حاجة إلى إعادتها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث ثوبان رضي الله تعالى عنه هذا إسناده حسن، من أجل الكلام في سعيد ابن بشير، كما تقدّم في ترجمته، وأما متنه فقد أخرجه مسلم، كما سيأتي في المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنف) هنا (1/ 10) بهذا السند فقط، وأخرجه (مسلم) في "الجهاد" 6/ 52 عن سعيد بن منصور، وأبي الربيع الزهرانيّ، وقتيبة، ثلاثتهم عن حماد ابن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عنه. و (أبو داود) (4252) عن سليمان بن حرب، ومحمد بن عيسى، كلاهما عن حماد بن زيد به، و (الترمذيّ) (2229) في "الفتن" عن قُتيبة به، وزاد في أوله: "إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلّين"، وقال: حسنٌ صحيح. و (أحمد) 5/ 278 عن سليمان بن حرب به. و 5/ 279 عن يونس، عن حماد به، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله المذكور أول الكتاب قال: 11 - (حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَالِدًا يَذْكُرُ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَخَطَّ خَطًّا، وَخَطَّ خَطَّيْنِ عَنْ يَمِينِهِ، وَخَطَّ خَطَّيْنِ عَنْ يَسَارهِ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ في الخطِّ الْأَوْسَطِ، فَقَالَ: "هَذَا سَبِيلُ الله، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (أبو سعيد، عبد الله بن سعيد) بن حصين الكنديّ، أبو سعيد الأشج الكوفي، ثقة، من صغار [10]. رَوَى عن إسماعيل ابن علية، وحفص بن غياث، وأبي أسامة، وعبد السلام بن حرب، وهشيم، وزياد بن الحسن بن فرات القزاز، وأبي بدر شجاع بن الوليد. وروى عنه الجماعة، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وابن خزيمة، وجماعة. قال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ليس به بأس، ولكنه يروي عن قوم ضعفاء. وقال أبو حاتم: ثقة صدوق، وقال مرة: الأشج إمام زمانه. وقال النسائي: صدوق، وقال مرة: ليس به بأس. وقال محمد بن أحمد بن بلال الشطوي: ما رأيت أحفظ منه. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الخليلي، ومسلمة بن قاسم: ثقة. وقال اللالكائي وغيره: مات سنة سبع وخمسين ومائتين. وأرخه ابن قانع سنة (6). وفي "الزهرة": روى عنه البخاريّ ثمانية، ومسلم سبعين حديثًا، وله في هذا الكتاب (44) حديثًا. 2 - (أبو خالد الأحمر) سليمان بن حيان الأزدي الكوفي الجعفري، نزل فيهم، ووُلد بجرجان، صدوقٌ يُخطىء [8]. رَوَى عن سليمان التيمي، وحميد الطويل، وداود بن أبي هند، وابن عون. ورَوَى عنه أحمد، وإسحاق، وابنا أبي شيبة، وآدم بن أبي إياس، وأسد بن موسى، والفريابي، وأبو كريب، وأبو سعيد الأشج، وجماعة، وحَدّث عنه محمد بن إسحاق،

وهو من شيوخه، وآخر من روى عنه حميد بن الربيع. قال إسحاق بن راهويه: سألت وكيعا عن أبي خالد، فقال: وأبو خالد ممن يسأل عنه؟. وقال ابن أبي مريم، عن ابن معين: ثقة. وكذا قال ابن المديني. وقال عثمان الدارمي، عن ابن معين: ليس به بأس. وكذا قال النسائي. وقال عباس الدوري، عن ابن معين: صدوق، وليس بحجة. وقال أبو هشام الرفاعي: ثنا أبو خالد الأحمر الثقة الأمين. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال الخطيب: كان سفيان يعيب أبا خالد؛ لخروجه مع إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وأما أمر الحديث، فلم يكن يطعن عليه فيه. وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة، وإنما أُتِي من سوء حفظه، فيَغْلَط، ويخطىء، وهو في الأصل -كما قال ابن معين- صدوق، وليس بحجة. وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال العجلي: ثقة ثبت صاحب سنة، وكان متحرفًا، يواجر نفسه من التجار، وكان أصله شاميا، إلا أنه نشأ بالكوفة. وقال أبو بكر البزار في كتاب "السنن" ليس ممن يلزم زيادته حجة؛ لاتفاق أهل العلم بالنقل أنه لم يكن حافظا، وأنه قد رَوَى أحاديث عن الأعمش وغيره لم يتابع عليها. قال هارون بن حاتم: سألت أبا خالد: متى وُلدت؟ قال سنة (114). قال هارون: ومات سنة (190). وقال ابن سعد، وخليفة: مات سنة تسع وثمانين ومائة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (47) حديثًا. 3 - (مجالد) -بضمّ أوله، وتخفيف الجيم- ابن سعيد بن عمير بن بِسطام بن ذي مُرّان بن شُرَحبيل بن ربيعة بن مَرْثَد بن جُشَم الهمداني -بسكون الميم- أبو عمرو، ويقال: أبو سعيد الكوفي، ليس بالقويّ، وقد تغيّر في آخر عمره، من صغار [6]. رَوَى عن الشعبي، وقيس بن أبي حازم، وأبي الوَدّاك جبر بن نوف، وغيرهم. وروى عنه ابنه إسماعيل، وإسماعيل بن أبي خالد، وهو من أقرانه، وجرير بن حازم، وشعبة والسفيانان، وابن المبارك، وغيرهم. قال البخاري: كان يحيى بن سعيد يضعفه، وكان ابن مهدي لا يروي عنه، وكان

أحمد بن حنبل لا يراه شيئا. وقال ابن المديني: قلت ليحيى بن سعيد: مجالد، قال: في نفسي منه شيء. وقال أحمد بن سنان القطان: سمعت ابن مهدي يقول: حديث مجالد عند الأحداث، أبي أسامة وغيره، ليس بشيء، ولكن حديث شعبة، وحماد بن زيد، وهشيم، وهؤلاء -يعني أنه تغير حفظه في آخر عمره-. وقال عمرو بن علي: سمعت يحيى بن سعيد يقول لبعض أصحابه: أين تذهب؟ قال: إلى وهب بن جرير، أكتُب السيرة عن أبيه، عن مجالد، قال: تكتب كذبا كثيرا، لو شئتُ أن يجعلها إلي مجالد كلها عن الشعبي، عن مسروق، عن عبد الله فعل. وقال أبو طالب عن أحمد: ليس بشيء، يرفع حديثا كثيرا، لا يرفعه الناس، وقد احتمله الناس. وقال الدوري عن ابن معين: لا يحتج بحديثه. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ضعيف، واهي الحديث، كان يحيى بن سعيد يقول: لو أردت أن يرفع لي مجالد حديثه كله رفعه، قلت: ولِمَ يرفعه؟ قال: للضعف. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي يحتج بمجالد؟ قال: لا، وهو أحب إلي من بشر ابن حرب، وأبي هارون العبدي، وشهر بن حوشب، وعيسى الخياط، وداود الأوديّ، وليس مجالد بقوي في الحديث. وقال النسائي: ليس بالقوي، ووثقه مرة. وقال ابن عدي: له عن الشعبي عن جابر أحاديث صالحة، وعن غير جابر، وعامة ما يرويه غير محفوظة. وقال عمرو بن علي وغيره: مات سنة أربع وأربعين ومائة في ذي الحجة. وقال يعقوب بن سفيان: تكلم الناس فيه، وهو صدوق. وقال الدارقطني: يزيد بن أبي زياد أرجح منه، ومجالد لا يعتبر به. وقال الساجي: قال محمد بن المثنى: يحتمل حديثه؛ لصدقه. وقال ابن سعد: كان ضعيفا في الحديث. وقال العجلي: جائز الحديث، إلا أن ابن مهدي كان يقول: أشعث بن سوار كان أقرأ منه. قال العجلي: بل مجالد أرفع من أشعث، وكان يحيى بن سعيد يقول: كان مجالد يُلَقِّن في الحديث إذا لُقِّن. وقال البخاري: صدوق. وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. أخرج له الجماعة، إلا البخاريّ، وحديثه عند مسلم مقرون، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا. 4 - (الشعبيّ) -بفتح الشين المعجمة- عامر بن شراحيل بن عبد، وقيل: عامر بن

عبد الله بن شَرَاحيل الشعبي الحميري، أبو عمرو الكوفي، من شعب هَمْدَان، ثقة مشهورٌ فقيه فاضل [3]. رَوَى عن علي، وسعد بن أبي وقاص، وعبادة بن الصامت، وأبي موسى الأشعري، وأبي مسعود الأنصاري، وأبي هريرة، والمغيرة بن شعبة، وأبي جحيفة السوائي، والنعمان بن بشير، وأبي ثعلبة الخشني، وجرير بن عبد الله البجلي، وغيرهم من الصحابة، والتابعين. ورَوَى عنه أبو إسحاق السبيعي، وسعيد بن عمرو بن أشوع، وإسماعيل بن أبي خالد، وبيان بن بشر، وأشعث بن سوار، وتوبة العنبري، وحصين بن عبد الرحمن، وداود بن أبي هند، وقتادة، ومجالد بن سعيد، وأبو حيان التيمي، وجماعات. قال منصور الْغُدَاني عن الشعبي: أدركت خمسمائة من الصحابة. وقال أشعث بن سَوّار: نَعَى لنا الحسنُ الشعبيَّ، فقال: كان والله كثير العلم، عظيم الحلم، قديم السلم، من الإسلام بمكان. وقال عبد الملك بن عمير: مَرّ ابن عمر على الشعبي، وهو يحدث بالمغازي، فقال: لقد شهدت القوم، فلهو أحفظ لها، وأعلم بها. وقال مكحول: ما رأيت أفقه منه. وقال أبو مجلز: ما رأيت فيهم أفقه منه. وقال ابن عيينة: كانت الناس تقول بعد الصحابة ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والثوري في زمانه، وقال ابن معين، وأبو زرعة، وغير واحد: الشعبي ثقة. وقال العجلي: سمع من ثمانية وأربعين من الصحابة، وهو أكبر من أبي إسحاق بسنتين، وأبو إسحاق أكبر من عبد الملك بسنتين، ولا يكاد الشعبي يرسل إلا صحيحا. وقال أبو جعفر الطبري في "طبقات الفقهاء": كان ذا أدب وفقه وعلم، وكان يقول: ما حللت حبوتي إلى شيء مما ينظر الناس إليه، ولا ضربت مملوكا لي قط، وما مات ذو قرابة لي، وعليه دين إلا قضيته عنه. وحكى ابن أبي خيثمة في "تاريخه" عن أبي حصين قال: ما رأيت أعلم من الشعبي، فقال له أبو بكر بن عياش: ولا شُريح؟ فقال: تريدني أن أكذب، ما رأيت أعلم من الشعبي. وقال أبو إسحاق الحبال: كان واحد زمانه في فنون العلم، قال ابن معين: قضى

الشعبي لعمر بن عبد العزيز. قيل: مات سنة (3)، وقيل: (4)، وقيل: (5)، وقيل: (6)، وقيل: (7)، وقيل: عشرة ومائة. وقال أحمد بن حنبل عن يحيى بن سعيد القطان: مات قبل الحسن بيسير، ومات الحسن بلا خلاف سنة (110)، واختلف في سنّه، فقيل: (77)، وقيل: (79)، وقيل: (82)، والمشهور أن مولده كان لست سنين خلت من خلافة عمر. فعلى القول الأخير في وفاته وعلى المشهور من مولده يكون بلغ تسعين سنة. وقد قال أبو سعد بن السمعاني: وُلد سنة عشرين، وقيل: سنة (31)، ومات سنة (109). وحكى ابن سعد عن الشعبي قال: وُلدت سنة جَلُولاء يعني سنة (19). وقال ابن حبان في ثقات التابعين: كان فقيها شاعرا، مولده سنة (20)، ومات سنة (109) على دُعابة فيه. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (60) حديثًا. 5 - (جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام بن ثعلبة الخزرجي السَّلَمِيّ، أبو عبد الله، ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو محمد، أحد المكثرين عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وروى عنه جماعة من الصحابة. رَوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن أبي بكر، وعمر، وعلي، وأبي عبيدة، وطلحة، ومعاذ بن جبل، وعمار بن ياسر، وخالد بن الوليد، وأبي بردة بن نيار، وأبي قتادة، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وعبد الله بن أنيس، وأبي حميد الساعدي، وأم شريك، وأم مالك، وأم مبشر من الصحابة، وأم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، وهي من التابعين. ورَوَى عنه أولاده: عبد الرحمن، وعقيل، ومحمد، وسعيد بن المسيب، ومحمود بن لبيد، وأبو الزبير، وعمرو بن دينار، وأبو جعفر الباقر، وابن عمه محمد بن عمرو بن الحسن، ومحمد بن المنكدر، وأبو نضرة العبدي، ووهب بن كيسان، وسعيد بن ميناء، والحسن بن محمد ابن الحنفية، وسعيد بن الحارث، وسالم بن أبي الجعد، وأيمن الحبشي، والحسن البصري، وأبو صالح السمان، وسعيد بن أبي هلال، وسليمان بن عتيق، وعاصم بن عمر بن قتادة، والشعبي، وعبد الله، وعبد الرحمن: ابنا كعب بن مالك،

وأبو عبد الرحمن الحبلي، وعبد الله بن مقسم، وعطاء بن أبي رباح، وعروة بن الزبير، ومجاهد، والقعقاع بن حكيم، ويزيد الفقير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وخلق كثير. وفي "الصحيح" عنه أنه كان مع من شَهِدَ العقبة. وروى البخاري في "تاريخه" بإسناد صحيح، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: كنتُ أميح أصحابي الماء يوم بدر. ومن طريق حجاج الصواف، حدثني أبو الزبير، أن جابرا حدثهم قال: غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إحدى وعشرين غزوة بنفسه، شهدت منها تسع عشرة غزوة. وأنكر الواقدي رواية أبي سفيان عن جابر المذكور (¬1). وروى مسلم من طريق زكريا بن إسحاق، حدثنا أبو الزبير، أنه سمع جابرا يقول: غزوت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسع عشرة غزوة، قال جابر: لم أشهد بدرًا، ولا أحدًا، منعني أبي، فلما قُتل لم أتخلف. وعن جابر قال: استغفر لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة الجمل خمسا وعشرين مرة. أخرجه أحمد وغيره، من طريق حماد بن سلمة، عن أبي الزبير عنه. وفي مصنف وكيع، عن هشام بن عروة: رأيت لجابر بن عبد الله حلقة في المسجد، يؤخذ عنه العلم. وروى البغوي من طريق عاصم بن عمر بن قتادة، قال: جاءنا جابر بن عبد الله، وقد أصيب بصره، وقد مَسّ رأسه ولحيته بشيء من صفرة. ومن طريق أبي هلال، عن قتادة قال: كان آخر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موتا بالمدينة جابرٌ. قال البغوي: هو وَهَمٌ، وآخرهم سهل بن سعد. قال ابن سعد، والهيثم: مات سنة (73). وقال محمد بن يحيى بن حبان: مات سنة (77)، وكذا قال أبو نعيم، قال: ويقال: مات وهو ابن (94) سنة، وصلى عليه أبان بن عثمان، وهو آخر من مات من الصحابة بالمدينة. وقال عمرو بن علي، ويحيى بن بكير، وغيرهما: مات سنة (78). وقيل: غير ذلك. وقال البخاري: صلى عليه الحجاج. وقال علي بن المديني: مات جابر بعد أن عُمّر، فأوصى ألا يصلي عليه الحجاج. أخرج له ¬

_ (¬1) لكن الواقديّ ممن لا يُعتمد عليه، فلا التفات لإنكاره.

الجماعة، وله في هذا الكتاب (230) حديثًا (¬1). والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير مجالد، فضعيفٌ. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين. 4 - (ومنها): أن فيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، وهو من المعمّرين، آخر من مات بالمدينة من الصحابة، على قول بعضهم، كما سبق آنفًا في ترجمته. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَخَطَّ خَطًّا) أي خطًّا مستقيمًا (وَخَطَّ خَطَّيْنِ عَنْ يَمِينِهِ، وَخَطَّ خَطِّيْنِ عَنْ يَسَارِهِ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ في الْخطِّ الْأَوْسَطِ) أي وهو الخطّ المستقيم (فَقَالَ: "هَذَا سَبِيلُ الله) أي وقال للخطوط: "هذه سبُلُ الشيطان". يعني أن هذا الخطّ المستقيم مَثَل سبيلَه الموصل إليه، المقرّبة السالك فيه، والمراد بها الدين القويم، والصراط المستقيم، وهذه الخطوط المعوجّة مثل سبُل الشيطان، المعوّقة عن الوصول إلى الله تعالى، والمطلوب بالتمثيل توضيح حال السالك فيها، وأنه لا ينبغي له أدنى ميل عن الصراط المستقيم، فإنه بأدنى ميل يقع في سُبُل الضلال؛ لقربها، واشتباهها. (ثُمَّ تَلَا) النبيّ -صلى الله عليه وسلم- (هَذِهِ الْآيَةَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي} قال القرطبيّ رحمه الله تعالى (¬2): هذه آية عظيمة، عَطَفَها على ما تقدم، فإنه لمّا نَهَى وأَمَر، حَذَّر هنا عن إتباع غير سبيله، فأمر فيها باتباع طريقه على ما نُبَيِّنه بالأحاديث الصحيحة وأقاويل السلف. ¬

_ (¬1) راجع "الإصابة" 1/ 546 - 547. و"تهذيب التهذيب"1/ 281 - 282. (¬2) راجع "الجامع لأحكام القرآن" 7/ 137.

"وأنّ" في موضع نصب: أي وأَتْلُ أَنَّ هذا صراطي؛ عن الفراء والكسائي. قال الفراء: ويجوز أن يكون خفضا: أي وصاكم به، وبأن هذا صراطي، وتقديرها عند الخليل وسيبويه: ولأن هذا صراطي، كما قال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} الآية [الجن: 18]. وقرأ الأعمش، وحمزة، والكسائي: {وإِنّ هذا} بكسر الهمزة على الاستئناف: أي الذي ذُكر في هذه الآيات صراطي مستقيمًا. وقرأ ابن أبي إسحاق، ويعقوب: "وأَنْ هذا" بالتخفيف، والمخففةُ مثل المشددة، إلا أن فيه ضمير القصة والشأن: أي وأنه هذا فهي في موضع رفع، ويجوز النصب، ويجوز أن تكون زائدة للتوكيد، كما قال عز وجل: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} الآية [يوسف: 96]، والصراط: الطريق الذي هو دين الإسلام. (مُسْتَقِيمًا) نُصِبَ على الحال، ومعناه: مستويًا قويمًا، لا اعوجاج فيه. وقوله: (فَاتَّبِعُوهُ) أَمْرٌ من الله تعالى باتباع طريقه الذي طَرَّقه على لسان نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشَرَعَه، ونهايته الجنة، وتشعبت منه طُرُقٌ، فمن سلك الجادّة نجا، ومن خرج إلى تلك الطرق، أفضت به إلى النار، كما أشار إليه بقوله: (وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ) أي تميلُ بكم (عَنْ سَبِيلِهِ}) أي صراط الله تعالى المستقيم. وإنما وحد "سبيله"؛ لأن الحق واحد، ولهذا جمع السُّبُل؛ لتفرقها وتشعبها، كما قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257] (¬1). وهذه السبل تعم اليهودية، والنصرانية، والمجوسية، وسائر أهل الملل، وأهل البدع والضلالات، من أهل الأهواء، والشذوذ في الفروع، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل، والخوض في الكلام، هذه كلها عُرْضَةٌ للزلل، ومظنة لسوء المعتقد، قاله ابن عطية. قال القرطبيّ: وهو الصحيح (¬2). ¬

_ (¬1) المصدر السابق 2/ 198. (¬2) راجع "الجامع لأحكام القرآن" 7/ 137 - 138.

وقال الإمام ابن جرير الطبري في "تفسيره" جـ: 8 ص: 87: القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]: يقول تعالى ذكره: وهذا الذي وصاكم به ربكم أيها الناس في هاتين الآيتين، من قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151]، وأمركم بالوفاء به، هو صراطه، يعني طريقه، ودينه الذي ارتضاه لعباده {مُستَقِيمًا} يعني قويمًا لا اعوجاج به عن الحق. {فَاتَّبِعُوهُ} يقول: فاعملوا به، واجعلوه لأنفسكم منهاجا تسلكونه. {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} يقول: ولا تسلكوا طريقا سواه، ولا تركبوا منهجا غيره، ولا تبغوا دينا خلافه، من اليهودية، والنصرانية، والمجوسية، وعبادة الأوثان، وغير ذلك من الملل، فإنها بدع وضلالات. {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} يقول: فيشتت بكم إن اتبعتم السبل المحدثة التي ليست لله بسبل، ولا طرق، ولا أديان اتباعكم عن سبيله، يعني عن طريقه ودينه الذي شرعه لكم وارتضاه، وهو الإسلام الذي وصى به الأنبياء، وأمر به الأمم قبلكم. {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} يقول تعالى ذكره: هذا الذي وصاكم به ربكم من قوله لكم: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153]، وصاكم به {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} يقول: لتتقوا الله في أنفسكم، فلا تهلكوها، وتحذروا ربكم فيها فلا تسخطوه عليها، فيحل بكم نقمته وعذابه. انتهى. وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} وفي قوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، ونحو هذا في القرآن قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والتفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء

والخصومات في دين الله، ونحو هذا قال مجاهد، وغير واحد. انتهى (¬1) .. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده مُجالد بن سعيد، وهو ضعيف، كما سبق في ترجمته، [قلت]: إنما صحّ لأمرين: [أحدهما]: أنه وإن كان الأكثرون على تضعيفه، فليس متّهمًا، ولا متروكًا، بل قال فيه ابن عديّ: له عن الشعبيّ، عن جابر أحاديث صالحة، وقال يعقوب بن سفيان: تكلّم فيه الناس، وهو صدوقٌ. وقال محمد بن المثنّى: يُحتَمَل حديثه؛ لصدقه. وقال البخاريّ: صدوقٌ. ووثقه النسائي في رواية عنه. فمن كان هذا حاله، فليس بشديد الضعف. [الثاني]: أن لحديثه هذا شواهد، فقد صحّ من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، ومن حديث النوّاس بن سمعان رضي الله تعالى عنه: فأما حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- فقد أخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى في "مسنده"، فقال: حدثنا الأسود بن عامر شاذان، حدثنا أبو بكر -هو ابن عياش- عن عاصم -هو ابن أبي النجود- عن أبي وائل، عن عبد الله -هو ابن مسعود -رضي الله عنه-، قال: خط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطا بيده، ثم قال: "هذا سبيل الله مستقيمًا"، وخط عن يمينه وشماله، ثم قال: "هذه السُّبُل، ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه"، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]. وكذا رواه الحاكم عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن أبي بكر بن عياش به، ¬

_ (¬1) "تفسير ابن كثير" 2/ 199.

وقال: صحيح، ولم يخرجاه. قال ابن كثير: وهكذا رواه أبو جعفر الوازي، وورقاء، وعمرو بن أبي قيس، عن عاصم، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن ابن مسعود، مرفوعا به نحوه. وكذا رواه يزيد بن هارون، ومسدد، والنسائي عن يحيى بن حبيب بن عربي، وابن حبان من حديث ابن وهب أربعتهم، عن حماد بن يزيد، عن عاصم، عن أبي وائل، عن ابن مسعود به. وكذا رواه ابن جرير، عن المثنى، عن الحماني، عن حماد بن زيد به. ورواه الحاكم عن أبي بكر بن إسحاق، عن إسماعيل بن إسحاق القاضي، عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد به كذلك، وقال: صحيح ولم يخرجاه. وقد روى هذا الحديث النسائي، والحاكم من حديث أحمد بن عبد الله بن يونس، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن زِرّ، عن عبد الله بن مسعود به مرفوعا. وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه، من حديث يحيى الحماني، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن زِرِّ به. فقد صححه الحاكم كما رأيت من الطريقين. قال الحافظ ابن كثير: ولعل هذا الحديث عن عاصم بن أبي النجود عن زِرّ، وعن أبي وائل شقيق بن سلمة كلاهما عن ابن مسعود به. والله أعلم. وقد روي موقوفا على ابن مسعود -رضي الله عنه-، فقد أخرجه ابن جرير في "تفسيره من طريق: معمر، عن أبان، أن رجلا قال لابن مسعود: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد -صلى الله عليه وسلم- في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جَوَادّ، وعن يساره جَوَادّ، وثَمَّ رجال يدعون من مَرّ بهم، فمن أخذ في تلك الجوادّ، انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الآية [الأنعام: 153]. وأما حديث النواس بن سمعان الكلابيّ -رضي الله عنه-، فقد أخرجه الإمام أحمد أيضًا من طريق الليث ابن سعد، عن معاوية بن صالح، أن عبد الرحمن بن جبير بن نفير حدثه، عن أبيه، عن النَّوَّاس بن سمعان -رضي الله عنه-، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ضرب الله مثلا صراطا

مستقيمًا، وعن جنبي الصراط سُوران، فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مُرْخَاة، وعلى باب الصراط داعٍ يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط المستقيم جميعًا، ولا تتفرّقوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن فتحته تَلِجْهُ، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط، واعظ الله في قلب كل مسلم". وهو حديث صحيح (¬1). والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه المصنّف رحمه الله تعالى هنا- (1/ 11) بهذا السند فقط، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" 3/ 379 عن عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، عن أبي خالد الأحمر، به. و (عبد بن حميد) 1141 عن ابن أبي شيبة، به. والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو اتّباع سنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد بيّن -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث مثل ما جاء به من السنّة بالخطّ المستقيم، ومثل خلاف السنة وهي البدع بالخطوط المنحرفة عن الجادّة، ثم بيّن أن هذا هو بيان هذه الآية الكريمة التي أوجبت على الناس اتّباع صراطه المستقيم، وحرّمت اتباع سبل الشيطان؛ لأنه لا يجتمع الحقّ والباطل، والهدى والضلال في آن واحد، فإذا اتّبع الإنسان أحدهما لا بدّ، وأن يكون بعيدًا عن الآخر كلّ البعد. 2 - (ومنها): تحريم اتّباع الهوى، والبدع، والخرافات؛ لأنها هي السبل التي نهى الله تعالى عن اتّباعها، بقوله: {ولا تتبعوا السبل}. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 17685 والترمذيّ 2859 والحاكم في "المستدرك" 1/ 72.

3 - (ومنها): مشروعيّة ضرب المثل إيضاحًا، وتقريبًا للأذهان. 4 - (ومنها): بيان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- معنى الآية الكريمة؛ عملًا بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية [النحل: 44]. 5 - (ومنها): أن دين الإسلام طريق مستقيم، يوصل إلى الجنّة، وخلافه طريق معوجّ، يهوي بصاحبه إلى الهاوية. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

2 - باب تعظيم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتغليظ على من عارضه

2 - (بَابُ تَعظِيمِ حَدِيثِ رَسُولِ اللِه -صلى الله عليه وسلم-، والتَّغلِيظِ على مَن عَارَضَهُ) أي هذا باب ذكر الأحاديث الدّالّة على وجوب تعظيم حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالعمل به، وتغليظ الوعيد على من عارضه بالمخالفة، والعصيان. وقوله: والمعارضة: المقابلة، يقال: عارضت الشيء بالشيء: قابلته به، وعارضت فلانًا: فعلت مثل فعله. أفاده في "المصباح"، والمراد به هنا أن يفعل خلاف السنة، مع علمه بثبوتها. والله تعالى أعلم بالصواب. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله المذكور أول الكتاب قال: 12 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الحُبَابِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي الحسَنُ بْنُ جَابِرٍ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ الْكِنْدِيِّ، أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنكُمْ كِتَابُ الله عَزَّ وَجَلَّ، مَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مِثْلُ مَا حَرَّمَ الله). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو عبد الله بن محمد بن أبي شيبة المتقدّم في 1/ 1. 2 - (زيد بن الحُبَاب) -بضمّ المهملة، وموحّدتين- ابن الرَّيَّان، ويقال: رُومان التميمي، أبو الحسين الْعُكْلِيُّ -بضم المهملة، وسكون الكاف- أصله من خُرَاسان، وسكن الكوفة، ورحل في طلب الحديث، فأكثر منه، صدوقٌ، يُخطىء في الثوريّ [9]. رَوَى عن أيمن بن نابل، وعكرمة بن عمار اليمامي، وإبراهيم بن نافع المكي، ومالك بن أنس، والثوري، وابن أبي ذئب، ومعاوية بن صالح، ويحيى بن أيوب، وخلق كثير. ورَوَى عنه أحمد، وابنا أبي شيبة، وأبو خيثمة، وأبو كريب، وأحمد بن منيع، والحسن بن علي الخلال، وعلي بن المديني، ومحمد بن رافع النيسابوري، وهو من آخرهم، وقد حدث عنه عبد الله بن وهب، ويزيد بن هارون، وهما أكبر منه.

قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: كان صاحب حديث، كَيِّسًا، قد رحل إلى مصر، وخراسان في الحديث، وما كان أصبره على الفقر، وقد ضَرَب في الحديث إلى الأندلس. قال الخطيب: رأى أحمد بن حنبل روايته عن معاوية بن صالح، وكان قاضي الأندلس، وأظنه سمع منه بمكة، فظن أن زيد بن الحباب رحل إلى الأندلس. وقال علي بن المديني، والعجلي: ثقة. وكذا قال عثمان عن ابن معين. وقال أبو حاتم: صدوق صالح. وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: زيد بن حباب كان صدوقا، وكان يضبط الألفاظ عن معاوية بن صالح، لكن كان كثير الخطإ. وقال المفضل بن غسان الغلابي عن ابن معين: كان يقلب حديث الثوري، ولم يكن به بأس. وقال ابن زكريا في "تاريخ الموصل": حدثني الْحِمَّاني، عن عبيد الله القواريري قال: كان أبو الحسين العكلي ذَكِيّا حافظا عالما لما يسمع. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يُخطىء يُعتبر حديثه إذا رَوَى عن المشاهير، وأما روايته عن المجاهيل ففيها المناكير. وقال ابن خلفون: وثقه أبو جعفر السِّبْتيّ، وأحمد بن صالح، وزاد: وكان معروفا بالحديث صدوقا. وقال ابن قانع: كوفي صالح. وقال الدارقطني، وابن ماكولا: ثقة. وقال ابن شاهين: وثقه عثمان بن أبي شيبة. وقال ابن يونس في "تاريخ الغرباء": كان جَوّالا في البلاد في طلب الحديث، وكان حسن الحديث. وقال ابن عدي: له حديث كثير، وهو من أثبات مشايخ الكوفة، ممن لا يُشَكّ في صدقه، والذي قاله ابن معين عن أحاديثه عن الثوري، إنما له أحاديث عن الثوري يُستغرَب بذلك الإسناد، وبعضها ينفرد برفعه، والباقي عن الثوري وغير الثوري مستقيمة كلها. قال أبو هشام الرفاعي وغيره: مات سنة ثلاث ومائتين. أخرج له البخاريّ في "جزء القراءة" والباقون، وله في هذا الكتاب (48) حديثًا. 3 - (معاوية بن صالح) بن حُدير -بالمهملة، مصغّرًا- ابن سعيد بن سَعْد بن فِهْر الحضرميّ، أبو عمرو، وقيل: أبو عبد الرحمن الحمصيّ، أحد الأعلام، وقاضي الأندلس، وقيل في نسبه: غير ذلك، صدوقٌ له أوهام [7]. رَوَى عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعبد الرحمن

ابن جبير بن نفير، ومكحول الشامي، وغيرهم. ورَوَى عنه الثوري، والليث بن سعد، وابن وهب، ومعن بن عيسى، وزيد بن الحباب، وعبد الرحمن بن مهدي، وغيرهم. قال أبو طالب عن أحمد: خرج من حمص قديما، وكان ثقة. وقال جعفر الطيالسي عن ابن معين: ثقة، وقال علي بن المديني عن يحيى بن سعيد: ما كنا نأخذ عنه. قال علي: وكان عبد الرحمن بن مهدي يوثقه. وقال أبو صالح الفراء عن أبي إسحاق الفزاري: ما كان بأهل أن يُروَى عنه. وقال العجلي والنسائي: ثقة. وقال أبو زرعة: ثقة محدث. وقال ابن سعد: كان بالأندلس قاضيا لهم، وكان ثقة، كثير الحديث، حج مرة واحدة، فلقيه من لقيه من أهل العراق. وقال محمد بن عوف، عن يزيد بن عبد ربه: خرج من حمص سنة خمس وعشرين ومائة، فسار إلى الغرب، فَوَلِيَ قضاءهم، قال: وسمعت أبا صالح يقول: مرّ بنا معاوية بن صالح حاجا سنة أربع وخمسين، فكتب عنه أهل مصر، وأهل المدينة -يعني ومن بمكة-. وقال حميد بن زنجويه: قلت لعلي بن المديني: إنك تطلب الغرائب، فَأْتِ عبد الله بن صالح، فاكتب عنه كتاب معاوية بن صالح، تستفيد منه مائتي حديث. وقال يعقوب بن شيبة: قد حمل الناس عنه، ومنهم من يرى أنه وسط، ليس بالثبت، ولا بالضعيف، ومنهم من يضعفه. وقال ابن خِرَاش: صدوق. وقال ابن عمار: زعموا أنه لم يكن يدري أيّ شيء في الحديث. وقال ابن عديّ: له حديث صالح، وما أرى بحديثه بأسًا، وهو عندي صدوق، إلا أنه يقع في حديثه إفرادات. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن يونس: قدم مصر سنة خمس وعشرين، ثم دخل الأندلس، فلمّا مُلِّك عبد الرحمن بن معاوية الأندلس، اتصل به، فأرسله إلى الشام في بعض أمره، فلما رجع إليه ولاه قضاء الجماعة بالأندلس. وتُوفي سنة ثمان وخمسين ومائة، وأَرَّخ أبو مروان بن حبان، صاحب "تاريخ الأندلس" وفاته سنة اثنتين وسبعين ومائة، وحَكَى ذلك عن جماعة، واستغرب قول أحمد بن كامل: إنه توفي بالمشرق سنة نيف وخمسين. أخرج له البخاريّ في "جزء القراءة"، والباقون، وله

في هذا الكتاب (14) حديثًا. 4 - (الحسن بن جابر) اللَّخْميّ، وقيل: الكندي، أبو عليّ، ويقال: أبو عبد الرحمن الحمصيّ، مقبول [3]. رَوَى عن معاوية، والمقدام بن معدي كرب، وأبي أمامة، وعبد الله بن بُسْر. ورَوَى عنه معاوية بن صالح، ومحمد بن الوليد الزُّبَيْدي. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: تُوُفّي سنة (128)، وكذا قال ابن سعد وغيره. تفرّد به الترمذيّ، والمصنّف، أخرجا له هذا الحديث فقط، وسيعيده المصنّف مختصرًا برقم (3193). 5 - (المقدام بن معديكرب) بن عمرو بن يزيد بن معديكرب، أبو كريمة، وقيل: أبو يحيى الكندي، نزل حمص، رَوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن خالد بن الوليد، ومعاذ بن جبل، وأبي أيوب الأنصاري، وجماعة. وروى عنه ابنه يحيى، وابن ابنه صالح بن يحيى، وخالد بن معدان، وحبيب بن عبيد، ويحيى بن جابر الطائي، والشعبي، وشُريح بن عُبيد، وعبد الرحمن بن أبي عوف، وعبد الرحمن بن ميسرة الحضرمي، وراشد بن سعد المقرائي، وأبو عامر الهوزني، ومحمد بن زياد الألهاني، وآخرون. ذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من أهل الشام، وقال: مات سنة سبع وثمانين، وهو ابن إحدى وتسعين سنة، وكذا قال غير واحد في سنة وفاته، وقيل: مات سنة ثلاث، وقيل: مات سنة ست وثمانين. أخرج له البخاريّ، والأربعة، وله في هذا الكتاب (13) حديثًا، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير الحسن بن جابر، وهو مقبول، حيث يُتابع، وقد تابعه عبد الرحمن بن أبي عوف الْجُرَشيّ، وهو ثقة، كما سيأتي. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالحمصيين من الحسن، والباقيان كوفيّان، والباقون حمصيّون. 4 - (ومنها): أن فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبالإفراد في موضع،

والعنعنة في موضعين، وقد تقدّم البحث في ذلك مُسْتَوْفىً. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنِ الْمِقْدَامِ) -بكسر الميم، وسكون القاف، وتخفيف الدال المهملة، آخره ميم- (ابْنِ مَعْدِيكَرِبَ) -بفتح الميم، وسكون العين المهملة، وكسر الدال المهملة، و"كرب" بفتح الكاف، وكسر الراء- وهو اسم مركّبٌ تركيب مزج، ولذا كُتبت الياء مع الاسم الثاني؛ إشارة إلى ذلك. [فائدة]: قال في "القاموس": "مَعْدِيكَرِب" فيه لغات: رفع الباء ممنوعًا، والإضافة، مصروفًا، وممنوعًا. انتهى. وقال في "اللسان": "مَعْدِيْكَرِب": اسمان، فيه ثلاث لغات: معديكربُ برفع الباء، لا يُصرف، ومنهم من يقول: مَعْديكرِبٍ، يُضيف، ويصرف "كَرِبًا"، ومنهم من يقول: "معديكربَ" يُضيف، ولا يَصِرف "كربًا"، يجعله مؤنّثًا معرفةً، والياء من "معديكرب" ساكنة على كلّ حال، وإذا نَسبتَ إليه قلتَ: مَعْدِيّ، وكذلك النسب في كلّ اسمين جُعلاَ واحدًا، مثلُ بَعْلَبَكّ، وخمسة عشر، وتَأَبَّطَ شَرًّا، تنسُبُ إلى الاسم الأول، تقول: بَعْلِيّ، وخَمْسيّ، وتَأَبَّطِيّ، وكذلك إذا صَغَّرتَ، تُصغّر الأول. انتهى (¬1). (الْكِنْدِيِّ) بكسر الكاف، وسكون النون-: نسبة إلى كِنْدة قبيلة باليمن (¬2) (أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: يُوشِكُ) مضارع أوشك: إذا قَرُب: أي يَقْرُب. قال ابن مالك: هو أحد أفعالَ المقاربة، ويقتضي اسمًا مرفوعًا، وخبرًا يكون فعلًا مقرونًا بـ"أن"، ولا أعلم تجرّده من "أن" إلا في هذا الحديث، وفي بعض الأشعار. قال السيوطيّ: قلت: قد رواه ¬

_ (¬1) راجع "القاموس" ص 120، و"لسان العرب" 1/ 715. (¬2) "لبّ اللباب" 2/ 215. وهي قبيلة مشهورة من اليمن، واسم كنْدة الذي تُنسب إليه القبيلة ثور بن مرتع بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ. وقيل: ثور بن عفير بن عديّ بن الحارث بن مرّة بن أُدَد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ. انتهى. "اللباب" 3/ 115 - 116 "الأنساب" 5/ 104 - 105. "معجم البلدان" 4/ 482.

الحاكم بلفظ: "يوشك أن يقعد الرجل على أريكته يُحدَّثُ الخ". قال السنديّ: أراد السيوطيّ أن لفظ الحديث قد غيّره الرواة، وإلا فـ "أن" موجودة فيه في الأصل، كما في رواية الحاكم. انتهى. وفي رواية أبي داود من طريق عبد الرحمن بن أبي عوف، عن المقدام -رضي الله عنه-: "ألا إني أوتيت الكتاب، ومثله معه، ألا يوشك رجلٌ شبعان الخ". وقوله: "ألا إني أوتيت": يحتمل وجهين من التأويل: أحدهما: أنه أوتي من الوحي الباطن، غير المتلوّ مثل ما أعطي من الظاهر المتلوّ. والثاني: أنه أوتي الكتاب وحيًا يُتلَى، وأوتي من البيان مثله: أي أُذن له أن يبيّن ما في الكتاب، فيعمّ، ويَخُصّ، وأن يزيد عليه، وينقص، فيشرع ما ليس له في الكتاب ذكر، فيكون ذلك في وجوب الحكم، ولزوم العمل به كالظاهر المتلوّ من القرآن. وقيل: "ومثله معه": أي أحكامًا، ومواعظ، وأمثالًا تمُاثل القرآن في كونها وحيًا، أو كونها واجبة القبول. وقد نزّه الله نطقَ رسوله -صلى الله عليه وسلم- عن الهوى، وأمر بمتابعته فيما يأمر وينهى، فقال عزّ من قائل: {وَمَا يَنْطِقُ عنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] وقال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. أو المعنى: يماثله في المقدار، وقد ورد في حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه- عند أبي داود ما يؤيّد هذا، ولفظه:"إنها لمثل القرآن، أو أكثر". لكنه حديث ضعيف (¬1). [تنبيه]: ما أوتي الرسول -صلى الله عليه وسلم- غير القرآن على أنواع: أحدها: الأحاديث القدسيّة التي أسندها إلى الله عز وجل. وثانيها: ما أُلْهِم. وثالثها: ما أري في المنام. ورابعها: ما نَفَثَ جبريل عليه السلام في رُوعه: أي في قلبه. قاله الطيبيّ. (¬2). وقوله: ألا يوشك": أي أنبّهكم بأنه قريبٌ أن يقول رجل شبعان، وإنما وصفه ¬

_ (¬1) راجع "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيّ 1/ 629 - 631. (¬2) المصدر السابق 2/ 631.

بالشبعان؛ لأن الحامل له على هذا القول، إما البلادة، وسوء الفهم، ومن أسبابه الشبع، وشَرَهُ الطعام، وكثرة الأكل. وإما الْبَطَرُ والحماقَةُ، ومن موجباته التنعّم والغرور بالمال والجاه، والشبع يُكنى به عن ذلك. (الرَّجُلُ مُتَكِئًا على أريكته) منصوب على الحال، أي حال كونه جالسًا على سريره المزيّن، والظاهر أنه حال من ضمير "يُحدَّث" الراجع إلى الرجل، وهو علي بناء المفعول، وجعله حالًا من الرجل بعيد معنىً. قاله السنديّ. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أنه لا بُعْد في كونه حالًا من الرجل، بل هو الأولى، وأما جعله حالًا من ضمير "يُحدّث"، فهو البعيد، فليُتأمّل. والله تعالى أعلم. والمتّكىء: اسم فاعل من "اتّكأ" بوزن افتعل، ويستعمل بمعنيين: أحدهما: الجلوس مع التمكّن. والثاني: القعود مع تمايلٍ، معتمِدًا على أحد الجانبين. قاله الفيّوميّ، في باب الألف، وقال في باب الواو: واتّكأ: جلس متمكّنا، وفي التنزيل: {وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} [الزخرف: 34]: أي يجلسون. وقال: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} [يوسف: 31]: أي مجلسًا يَجلِسن عليه. قال ابن الأثير: والعامّة لا تَعرِف الاتّكاءَ إلا الميل في القعود، معتمدًا على أحد الشّقّين، وهو يُستعمل في المعنيين جميعًا، يقال: اتّكأ: إذا أسند ظهره، أو جنبه إلى شيء، معتمدًا عليه، وكلُّ من اعتمد على شيء، فقد اتّكأ عليه. وقال السَّرَقُسْطِيُّ أيضًا: اتّكأته: أعطيته ما يتّكىء عليه: أي ما يجلس عليه، والتاء مُبدَلةٌ من واو، والاسم التُّكأَةُ، مثالُ رُطَبَةٍ. انتهى (¬1). (عَلَى أَرِيكَتِهِ) -بفتح الهمزة، وكسر الراء-: أي سريره المزيَّنِ. قال في "القاموس": "الأريكة" كسفينة: سريرٌ في حَجَلَة، أو كلُّ ما يُتّكأُ عليه، من سرير، ومِنَصّةٍ، وفِرَاشٍ، أو سريرٌ مُنَجَّدٌ، مُزيّنٌ في قبّة، أو بيتٍ، فإذا لم يكن فيه سريرٌ، فهو حَجَلَةٌ، جمعُهُ أَرِيكٌ، وأرَائِكُ. انتهى. ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" 1/ 76 و 2/ 671.

وهذا بيان لبلادته، وسوء فهمه، وحماقته، وسوء أدبه، كما هو دأب المتنعّمين المغرورين بالمال والجاه. وقال الخطّابيّ رحمه الله تعالى: وإنما أراد بهذه الصفة أصحاب الترفّه والدَّعَةِ الذين لزموا البيوت، ولم يطلبوا العلم، ولم يغدُوا، ولم يَرُوحوا في طلبه في مظانّه، واقتباسه من أهله. انتهى (¬1). (يُحَدَّثُ) بالبناء للمفعول (بِحَدِيثٍ) متعلّق بما قبله. وقوله: (مِنْ حَدِيثي) متعلّق بصفة لحديث (فَيَقُولُ) أي في ردّ ذلك الحديث، حيث لا يوافق هواه، أو مذهب إمامه الذي قلّده (بَيْنَنَا وَبَيْنكُمْ كِتَابُ الله عَزَ وَجَلَّ) مبتدأ مؤخّرٌ، خبره الظرف قبله أي كتاب الله تعالى حاكم بيننا وبينكم، فلا نَقبل حكم غيره. ثم بيّن المراد بهذه الجملة، بقوله: (مَا وَجَدْنَا فِيهِ) أي في كتاب الله تعالى (مِنْ حَلَالٍ) بيان لما (اسْتَحْلَلْنَاهُ) أي اعتقدناه حلالًا، وفعلناه (وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ) أي اعتقدنا حرمته، فتركناه، أي وهذا الحديث زائد على ما في القرآن، فلا نأخذ به. وفي رواية أبي داود المذكورة: "عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال، فأحِلُّوه، وما وجدتم من حرام، فحرّموه". وقال الخطّابيّ رحمه الله تعالى: يُحذّر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بذلك مخالفة السنن التي سنّها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما ليس له في القرآن ذكرٌ، على ما ذهبت إليه الخوارج والروافض، فإنهم تعلّقوا بظاهر القرآن، وتركوا السنن التي قد ضُمِّنَتْ بيان الكتاب، فتحيّروا، وضلُّوا. انتهى (¬2). (ألا) أداة استفتاح وتنبيه، يلقى بها للمخاطب تنبيهًا له، وإزالةً لغفلته. قال الطيبيّ رحمه الله تعالى: كلمة التنبيه مركّبة من همزة الاستفهام، و"لا" النافية، مُعْطِية معنى يُحقّق ما بعدها، ولكونها بهذه المثابة لا يكاد يقع ما بعدها إلا كانت مصدّرةً بما يُصدّر به جواب القسم، وشقيقتها "أما". ¬

_ (¬1) "معالم السنن" 7/ 8. (¬2) "معالم السنن" 7/ 8.

وقوله: (وَإِنَّ) عطف على مقدّر: أي إن ما في كتاب الله عز وجل حقّ، وإن ما حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل ما حرّم الله. و"إنّ" -بكسر الهمزة -؛ لأنه ابتداء كلام من النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وقيل: يحتمل أن يكون من كلام الراوي، وهو بعيد. وصوّب الطيبيّ كونه من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-، وجعله من باب التجريد، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ} الآية [الأعراف: 158]. وأما جعله من كلام الراوي تخلّل بين كلامي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتعسّفٌ بعيدٌ من الفصاحة. (مَا) موصولة، وصلتها قوله (حَرَّمَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-) حُذف العائد، كما قال في "الخلاصة": ........................ ... وَالحذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي في عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ ... بِفِعْلٍ أوْ وَصْفٍ كَمَنْ نَرْجُو يَهَبْ وقوله: (مِثْلُ مَا حَرَّمَ الله) بالرفع خبر "إن": أي الذي حرمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديثه مثلُ الذي حرّمه الله -صلى الله عليه وسلم- في كتابه. قيل: وفي الاقتصار على التحريم إشارة إلى أن الأصل في الأشياء الإباحة. وقيل: هو من باب الاكتفاء، أي ما حرّم وأحلّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثلُ ما حرّم الله تعالى. زاد في رواية أبي داود المذكورة: "ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السبع، ولا لقطة معاهد، إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يَقْرُوه، فإن لم يَقْرُوه فله أن يُعْقِبَهم بمثل قِرَاه". فقوله: "ألا لا يحلّ لكم الخ" بيان للقسم الذي يثبت بالسنّة، ولم يوجد له ذكرٌ في الكتاب. ومنه "ولا لقطة معاهد الخ"، ومعناه: لا يحلّ التقاط ما ضاع من شخص معاهد، وهو الكافر الذي بينه وبين المسلمين عهد بأمان. وقوله: "إلا أن يستغني عنها صاحبها": أي يتركها لمن يأخذها؛ استغناء عنها. وقوله: "يقروه" بفتح الياء، وضم

الراء: أي يُضيفوه، من قريت الضيف: إذا أحسنت إليه. وقوله: "فله أن يُعقبهم: من الإعقاب: أي يجازيهم بأخذ مالهم عوضًا عما حَرَموه من القرى. قيل: هذا في المضطرّ. أو منسوخ. والذي يظهر لى أنه على ظاهره، ولا دليل على ما ذُكر، وستكون عودة في المحلّ المناسب له، إن شاء الله تعالى. قال الطيبيّ رحمه الله تعالى: أما بيان النظم، فإنه -صلى الله عليه وسلم- قرّر أوّلًا بقوله. "ألا إني أوتيت الكتاب" أنه -صلى الله عليه وسلم- شرّع أيضًا أحكامًا في الدين سوى القرآن، وثنّى بتوبيخ من أنكر ذلك، وجعله متكبّرًا بَطِرًا طاغيًا، وثلّث بما يُشعر بالتعليل، وأن له أن يستقلّ بالأحكام، وربّع ببيان صور متعدّدة تحقيقًا للمطلوب، كما مرّ. وقوله: "ومن نزل بقوم الخ" أخرجه من سياق المبهمات، حيث لم يقل: لا يحلّ للمضيف أن لا يكرم ضيفه، وأبرزه في معرض الشرط والجزاء؛ دلالةً على أن ذلك ليس بمحرّم، ولكنه خارج عن سمة أهل المروءة، وهدي أهل الإيمان، وليتأهّل فاعله أن يخذّل، ويُستَهْجَن فعلُهُ، ويُجازى بكلّ قبيح. انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "ليس بمحرّم" فيه نظر لا يخفى، بل ظاهر في التحريم، ولولا ذلك لما أمر الضيف بالإعقاب، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله تعالى عنه هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي سنده الحسن بن جابر، يحتاج إلى متابعة؟. [قلت]: تابعه عبد الرحمن بن أبي عوف، وهو ثقة، عند أبي داود، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) "الكاشف عن السنن" 2/ 631 - 632.

(المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه المصنّف هنا - 1/ 12 - بهذا الإسناد، وسيعيده في "كتاب الذبائح" (3193) بنفس السند مختصرًا بلفظ: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حرّم أشياء حتى ذكر الحمر الإنسيّة". وأخرجه (أحمد) 4/ 132 و (الدارميّ) (592) و (أبو داود) (3804) و (4604) و (الترمذيّ) (2664)، و (ابن حبان) 12، و (الطبراني) 20/ حديث (649) و (البيهقيّ) في "السنن الكبرى" 7/ 76 و 9/ 331، و"دلائل النبوّة" 6/ 549، و (الحاكم) 1/ 109 وصححه، وأقرّه الذّهَبيّ. والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تعظيم حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والتغليظ على من عارضه. 2 - (ومنها): أن فيه علمًا من أعلام النبوّة، حيث إن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أخبر بما سيقع بعده، وحذّر منه، فوقع كما أخبر به. 3 - (ومنها): ما قاله الخطابيّ رحمه الله تعالى: في الحديث دليل على أنه لا حاجة بالحديث أن يُعرض على الكتاب، وأنه مهما ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان حجة بنفسه. وأما ما رواه بعضهم أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافقه فخذوه، وإن خالفه فدعوه"، فإنه حديث باطلٌ، لا أصل له. وقد حَكَى زكريا بن يحيى الساجيّ عن يحيى بن معين أنه قال: هذا حديث وضعته الزنادقة. قال الخطابيّ: وقد روي هذا من حديث الشاميين، عن يزيد بن ربيعة، عن أبي الأشعث، عن ثوبان. ويزيد بن ربيعة هذا مجهول، ولا يُعرف له سماع من أبي الأشعث، وأبو الأشعث لا يروي عن ثوبان، وإنما يروي عن أبي أسماء الرَّحَبيّ، عن ثوبان. انتهى كلام الخطابيّ (¬1). 4 - (ومنها): ما قاله الطيبيّ رحمه الله تعالى: [فإن قلت]: دلّت هذه الصور على ¬

_ (¬1) "معالم السنن" 7/ 9.

المحرّمات، فأين ذكر ما أحلّه -صلى الله عليه وسلم-. [قلت]: الأصل في الأشياء الإباحة، إلا ما خصّه الدليل؛ لقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا في الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]. فخُصّ منها أشياء بنصّ التنزيل، وبقي ما عداها في معرض التحليل، فخصّ منها بنصّ الحديث بعضٌ، فبقي سائرها على أصل الإباحة، وكأنه -صلى الله عليه وسلم- نصّ على تحليلها، فلا يزيد، ولا ينقص. انتهى كلام الطيبيّ (¬1). 5 - (ومنها): قد تكرّرت كلمة التنبيه في هذا الحديث -يعني في رواية أبي داود- (¬2) ففيه توبيخٌ وتقريعٌ، نشأ من غضب عظيم على من ترك السنّة، والعمل بالحديث؛ استغناءً عنها بالكتاب، هذا مع الكتاب، فكيف بمن رجّح الرأي على الحديث؟ وإذا سمع حديثًا من الأحاديث الصحيحة قال: لا عليّ بأن أعمل بها، فإن لي مذهبًا أتّبعه. قاله الطيبيّ. وقد أشرت إلى هذا المعنى في "ألفيّة العلل" حيث قلت: وَبَعْضُهُم بُلِيَ بِالتَّعَصُّبِ ... لمَذْهَبِ مُعَيَّنٍ وَاعَجَبِي أَعْرَضَ كُلًّا عَنْ حَدِيثِ المُصْطَفَى ... إِلَّا إِذَا مَذْهَبَهُ قَدْ حَالَفَا فَإِنْ تَقُلْ قَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ ... هَذَا الحدِيثَ قَالَ ذَا بُهْتَانِ إِمَامُنَا أَحَقُّ أَنْ نَتَّبِعَهْ ... إِذْ هُوَ أَعْلَمُ فَقُلْ مَا أَشْنَعَهْ ¬

_ (¬1) "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 632. (¬2) أي لأنه ذكرت فيه مرّتين، حيث قال: "ألا يوشك رجل الخ"، وقال: "ألا لا يحلّ لكم الحمار الأهليّ"، ولفظ أبي داود: من طريق حَرِيز بن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي عوف، عن المقدام بن معدي كرب، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أنه قال:"ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السبع، ولا لقطة معاهد، إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه".

وَهَكَذَا ابْتُليَ أَهْلُ الأَثَر ... بِمِثْلِ هَؤُلاَءِ عُمْي النَّظَرِ جَهَلَةٍ مُخَالِفِي الأَئِمَّةِ ... في هَدْيِهِمْ وَنُصْحِهِمْ لِلأُمَّةِ فَإِنَّهُمْ أَوْصَوْا بِتَقْدِيمِ الأَثَرْ ... عَلَى كَلاَمِهِمْ فَنِعْمَ ذَا الأَثَرْ ولقد أجاد الأمير الصنعانيّ رحمه الله تعالى في قصيدته التي مدح فيها أهل الحديث، وذمّ التلقيد والإعراض عن الحديث، متمسّكًا ببعض المذاهب، فقال: سَلاَمٌ عَلَى أَهْلِ الحدِيثِ فَإِنَّنِي ... نَشَأْتُ عَلَى حُبِّ الأَحَادِيثِ مِنْ مَهْدِي هُمُ بَذَلُوا في حِفْظِ سُنَّةِ أَحْمَدِ ... وَتَنْقِيحِهَا مِنْ جُهْدِهِمْ غَايَةَ الجهْدِ وَأَعْنِي بِهِمْ أَسْلاَفَ أُمَّةِ أَحْمَدِ ... أُولَئِكَ في بَيْتِ الْقَصِيدِ هُمُ قَصْدِي أُولَئِكَ أَمْثَالُ الْبُخَارِي وَمُسْلِمِ ... وَأَحْمَدَ أَهْلِ الْجدِّ في الْعِلْمِ وَالجدِّ بُحُورٌ وَحَاشَاهُمْ عَنِ الجزْرِ إِنَّمَا ... لهُمْ مَدَدٌ يَأْتِي مِنَ الله بِالْمدِّ رَوَوْا وَارْتَوَوْا مِنْ بَحْرِ عِلْمِ مُحَمَّدٍ ... وَلَيْسَ لهُمْ تِلْكَ المذَاهِبُ مِنْ وِرْدِ كَفَاهُمْ كتَابُ الله وَالسُّنَّةُ الَّتِي ... كَفَتْ قَبْلَهُمْ صَحْبَ الرَّسُولِ ذَوِي المجْدِ أَأَنْتُمُ أَهْدَى أَمْ صَحَابَةُ أَحْمَدِ ... وَأَهْلُ الْكِسَا هَيْهَاتَ مَا الشَّوْكُ كَالْوَرْدِ أُولَئِكَ أَهْدَى في الطَّرِيقَةِ مِنْكُمُ ... نَعَمْ قُدْوَتِي حَتَّى أُوَسَّدَ في لحدِي وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ المُقَلِّدِ وَالُهدَى ... وَمَنْ يَقْتَدِي وَالضِّدُّ يُعْرَفُ بِالضِّدِّ فَمَنْ قَلَّدَ النُّعمانَ أَصْبَحَ شَارِبًا ... نَبِيذًا وَفِيهِ الْقَول لِلْبَعْضِ بِالحدِّ وَمَنْ يَقْتَدِي أَضْحَى إِمَامَ مَعَارِفٍ ... وَكَانَ أُوَيْسًا في الْعِبَادَةِ وَالزُّهْدِ فَمُقْتَدِيًا في الحقِّ كُنْ لاَ مُقَلِّدًا ... وَخَلِّ أَخَا التَّقْلِيدِ في الأَسْرِ بِالْقِدّ وَأَقْبَحُ مِنْ كُلِّ ابْتِدَاع سَمِعْتُهُ ... وَأَنْكَاهُ لِلْقَلْبِ المُوَفَّقِ لِلرُّشدِ مَذَاهِبُ مَنْ رَامَ الخلاَفَ لِبَعْضِهَا ... يُعَضُّ بِأَنيَابِ الأَسَاوِدِ وَالأُسْدِ يُصَبُّ عَلَيْهِ سَوْطُ ذَمٍّ وَغِيبَة ... وَيَجْفُوهُ مَنْ قَدْ كَانَ يَهْوَاهُ عَنْ عَمْدِ وَيُعْزَى إِلَيْهِ كُلُّ مَا لاَ يَقُولُهُ ... لِتَنْصِيصِهِ عِنْدَ التِّهَامِيِّ وَالنَّجْدِي

فَيَرْمِيهِ أَهْلُ الرَّفْضِ بِالنَّصْبِ فِرْيَةً ... وَيَرْمِيهِ أَهْلُ النَّصْبِ بِالرَّفْضِ وَالجحْدِ وَلَيْسَ لَهُ ذَنْبٌ سِوَى أَنهُ غَدَا ... يُتَابعُ قَوْلَ الله في الحلِّ وَالْعَقْدِ وَيَتْبَعُ أَقْوَالَ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ... وَهَلْ غَيْرُهُ بِاللهِ في الشَّرْع مَنْ يَهْدِي لَئِنْ عَدَّهُ الجهَّالُ ذَنْبًا فَحَبَّذَا ... بِهِ حَبَّذَا يَوْمَ انْفِرَادِيَ في لحدِي عَلاَمَ جَعَلْتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ دِينَنَا ... لأَرْبَعَةٍ لاَ شَكَّ في فَضْلِهِمْ عِنْدِي هُمُ عُلَمَاءُ الدِّينِ شَرْقًا وَمَغْرِبًا ... وَنُورُ عُيُونِ الْفَضْلِ وَالحقِّ وَالزُّهْدِ وَلَكِنَّهُمْ كَالنَّاسِ لَيْسَ كَلاَمُهُمْ ... دَلِيلًا وَلاَ تَقْلِيدُهُمْ في غَدٍ يُجدِي وَلاَ زَعَمُوا حَاشَاهُمُ أَنَّ قَوْلهُمْ ... دَلِيلٌ فَيَسْتَهْدِي بِهِ كُلُّ مُسْتَهْدِي بَلَى صَرَّحُوا أنِّا نُقَابِلُ قَوْلَهَمْ ... إِذَا خَالَفَ المنْصُوصَ بِالْقَدْح وَالرَّدِّ والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله المذكور أول الكتاب قال: 13 - (حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَليٍّ الجهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنةَ في بَيْتِهِ، أَنا سَأَلْتُهُ عَنْ سَالمٍ أَبِي النَّضْرِ، ثُمَّ مَرَّ في الحدِيثِ، قَالَ: أَوْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عُبَيْدِ الله بْنِ أَبِي رَافِع، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِمّا أَمَرْتُ بِهِ، أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، مَا وَجَدْنَا في كِتَابِ الله اتَّبَعْنَاهُ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (نصر بن عليّ) بن نصر بن عليّ بن صُهبان الأزديّ الجْهضميّ، أبو عمرو البصريّ الصغير، ثقة ثبت [10]. رَوَى عن أبيه ويزيد بن زريع، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى، وعيسى بن يونس اليمامي، ووهب بن جرير بن حازم، ووكيع، ومعن بن عيسى، ومسلم بن إبراهيم، وخلق كثير. ورَوَى عنه الجماعة، وروى النسائي أيضا عن زكريا السجزي، وأحمد بن علي

المروزي عنه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والذهلي، وبقي بن مخلد، وعبد الله بن أحمد، وعبدان الأهوازي، وإسماعيل القاضي، وابن أبي الدنيا، وابن خزيمة، وآخرون. قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عنه؟ فقال: ما به بأسٌ، ورَضِيَهُ. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن نصر بن علي، وأبي حفص الصيرفي، فقال: نصر أحب إلي وأوثق وأحفظ من أبي حفص، قلت: فما تقول في نصر؟ قال: ثقة. وقال النسائي، وابن خراش: ثقة. وقال عبيد الله بن محمد الفرهياني: نصر عندي من نبلاء الناس. وقال أبو علي بن الصواف، عن عبد الله بن أحمد: لمّا حدّث نصر بن علي بهذا الحديث -يعني حديث علي بن أبي طالب: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ بيد حسن وحسين، فقال: من أحبني وأحب هذين، وأباهما وأمهما كان في درجتي يوم القيامة" (¬1)، أمر المتوكل بضربه ألف سوط، فكلمه فيه جعفر بن عبد الواحد، وجعل يقول له: هذا من أهل السنة، فلم يزل به حتى تركه. وقال الحسين بن إدريس الأنصاري: سئل محمد بن علي النيسابوري عن نصر بن علي؟ فقال: حجة. وقال أبو بكر بن أبي داود: كان المستعين بعث إلى نصر بن علي لِيُوَلِّيَهُ القضاء، فقال لأمير البصرة: أرجع فأستخير الله تعالى، فرجع إلى بيته، فصلى ركعتين، ثم قال: اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك، فنام فَنَبَّهُوه، فإذا هو ميت. قال البخاري: مات في ربيع الآخر سنة خمسين ومائتين، وفيها أرخه غير واحد. وقيل: مات سنة إحدى وخمسين، وهو قول ابن جرير فيما حكاه مسلمة بن قاسم، وقال: هو ثقة عند جميعهم. وقال قاسم بن أصبغ: سمعت الْخُشَنِيَّ يقول: ما كتبت بالبصرة عن أحد أعقل من نصر بن علي روى عنه الجماعة، وله في هذا الكتاب (77) حديثًا. 2 - (سفيان بن عيينة) بن أبي عمران ميمون الهلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، سكن ¬

_ (¬1) حديث ضعيف أخرجه أحمد، والترمذيّ. من حديث عليّ -رضي الله عنه-. راجع "ضعيف الجامع الصغير" للشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى.

مكة، وقيل: إن أباه عيينة هو المكنيّ أبا عمران، ثقة حافظ فقيه إمام حجة، إلا أنه تغيّر حفظه بآخره، وربما دلّس، لكن عن الثقات، من رءوس الطبقة [8]. رَوَى عن عبد الملك بن عمير، وأبي إسحاق السبيعي، وزياد بن علاقة، والأسود ابن قيس، وأبان بن تغلب، وبيان بن بشر، وجعفر الصادق، وجامع بن أبي راشد، وحميد الطويل، وسليمان التيمي، وسليمان الأحول، وسُمَيّ، وسُهيل، وشبيب بن غرقدة، وصالح بن كيسان، وعمرو بن دينار، والزهري، والعلاء بن عبد الرحمن، وخلق لا يحصون. وروى عنه الأعمش، وابن جريج، وشعبة، والثوري، ومسعر، وهم من شيوخه، وأبو إسحاق الفزاري، وحماد بن زيد، والحسن بن حي، وهمام، وأبو الأحوص، وابن المبارك، وقيس بن الربيع، وأبو معاوية، ووكيع، ومعتمر بن سليمان، ويحيى بن أبي زائدة، وهم من أقرانه، وماتوا قبله، ومحمد بن إدريس الشافعي، وعبد الله ابن وهب، ويحيى القطان، وابن مهدي، وأبو أسامة، وروح بن عبادة، وجمّ غفير. قال ابن المديني: وُلد سنة (107) وكذا قال عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، عن سفيان، وزاد للنصف من شعبان، وكُتِب عنه الحديثُ سنة (42) قبل موت الأعمش. وقال ابن عيينة: أول من أسندني إلى الإسطوانة مسعر، فقلت: إنّي حَدَثٌ، فقال: إن عندك الزهريِّ، وعمرَو بنَ دينار. وقال علي بن المديني: ما في أصحاب الزهري أتقن من ابن عيينة. وقال العجلي: كوفي ثقة ثبت في الحديث، وكان حسن الحديث، يُعَدُّ من حكماء أصحاب الحديث. وقال الشافعي: لولا مالك وسفيان، لذهب علم الحجاز. وقال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: مالك وسفيان القرينان، وقال ابن المديني: قال لي يحيى بن سعيد: ما بقي من معلميَّ أحد غير ابن عيينة، فقلت: يا أبا سعيد سفيان إمام في الحديث، قال: سفيان إمام منذ أربعين سنة. قال ابن سعد: أخبرني الحسن بن عمران بن عيينة، أن سفيان قال له بجمع آخر حجة حجها: قد وافيت هذا الموضع سبعين مرة، أقول في كل سنة: اللهم لا تجعله آخر

العهد من هذا المكان، وإني قد استحييت من الله من كثرة ما أسأله ذلك، فرجع، فتوفي في السنة الداخلة. وقال الواقدي: مات يوم السبت، أول يوم من رجب، سنة ثمان وتسعين ومائة. وقال ابن عمار: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: اشهدوا أن سفيان ابن عيينة اختلط سنة سبع وتسعين ومائة، فمن سمع منه في هذه السنة وبعدها، فسماعه لا شيء. قال الحافظ: قرأت بخط الذهبي: أنا أستبعد هذا القول، وأجده غلطا من ابن عمار، فإن القطان مات أول سنة (98) عند رجوع الحجاج، وتحدثهم بأخبار الحجاز، فمتى يُمَكَّن من سماع هذا، حتى يتهيأ له أن يشهد به، ثم قال: فلعله بلغه ذلك في وسط السنة. انتهى. وهذا الذي لا يتجه غيره؛ لأن ابن عمار من الأثبات المتقنين، وما المانع أن يكون يحيى بن سعيد سمعه من جماعة، ممن حج في تلك السنة، واعتمد قولهم، وكانوا كثيرا، فشهد على استفاضتهم، وقد وجدت عن يحيى بن سعيد شيئا يصلح، أن يكون سببا لما نقله عنه ابن عمار في حق ابن عيينة، وذلك ما أورده أبو سعيد بن السمعاني، في ترجمة إسماعيل بن أبي صالح المؤذن، من "ذيل تاريخ بغداد"، بسند له قويّ إلى عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: قلت لابن عيينة: كنت تكتب الحديث، وتحدث اليوم وتزيد في إسناده، أو تنقص منه؟ فقال: عليك بالسماع الأول، فإني قد سئمت. وقد ذكر أبو معين الرازي، في زيادة "كتاب الإيمان" لأحمد: أن هارون بن معروف قال له: إن ابن عيينة تغير أمره بآخره. وقال ابن حبان في "الثقات" كان من الحفاظ المتقنين، وأهل الورع والدين. وقال اللالكائي: هو مستغن عن التزكية؛ لتثبته وإتقانه، وأجمع الحفاظ أنه أثبت الناس في عمرو بن دينار. وجزم ابن الصلاح في "علوم الحديث" بأنه مات سنة ثمان وتسعين ومائة. انتهى. وكان انتقاله من الكوفة إلى مكة سنة (63) فاستمر بها إلى أن مات. روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب (298) حديثًا. 3 - (سالم أبو النضر) هو سالم بن أبي أميّة، مولى عمر بن عُبيد الله التيميّ المدنيّ،

ثقة ثبت، يرسل [5]. رَوَى عن أنس، والسائب بن يزيد، وعوف بن مالك، وعبد الله بن أبي أوفى كتابةً، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعبيد الله بن أبي رافع، وغيرهم. ورَوَى عنه ابنه إبراهيم المعروف بِبَرَدَان بن أبي النضر، والسفيانان، ومالك، وعمرو بن الحارث، وموسى بن عقبة، وابن جريج، وابن إسحاق، وغيرهم. قال ابن المديني: قلت ليحيى بن سعيد: سالم أبو النضر عندك فوق سُمَيّ؟ قال: نعم. وقال أحمد، وابن معين، والعجلي، والنسائي: ثقة، زاد العجلي: رجل صالح، وكذا قال أبو حاتم، وزاد: حسن الحديث. وقال ابن سعد: ثقة، كثير الحديث، مات في خلافة مروان بن محمد. وقال خليفة: مات سنة تسع وعشرين ومائة. وقال الجَنَديّ: سئل ابن عيينة عن سالم أبي النضر؟ فقال: كان ثقة، وكان يصفه بالفضل والعقل والعبادة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن صالح: له شأن، ما أكاد أُقَدِّم عليه كبير أحد، سمع أنسًا. وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل": سمعت أبي يقول: أبو النضر عن عثمان بن أبي العاص مرسل. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة ثبت. وقال ابن خلفون: وثقه ابن المديني، وابن نمير. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث برقم 13 و 498 و 934 و 935 و 1129 و 2498. 4 - (زيد بن أسلم) العدويّ مولى عمر بن الخطاب، أبو عبد الله، ويقال: أبو أسامة المدنيّ، ثقة فقيه، يرسل [3]. رَوَى عن أبيه، وابن عمر، وأبي هريرة، وعائشة، وجابر، وربيعة بن عباد الدِّيلي، وسلمة ابن الأكوع، وأنس، وأبي صالح السمان، وبسر بن سعيد، والأعرج، وغيرهم. ورَوَى عنه أولاده الثلاثة: أسامة، وعبد الله، وعبد الرحمن، ومالك، وابن عجلان، وابن جريج، وأيوب السختياني،، والسفيانان، والدَّرَاوَرْديّ، وجماعة. قال الدُّوريّ، عن ابن معين: لم يسمع من جابر، ولا من أبي هريرة، وقال مالك

عن ابن عجلان: ما هِبْتُ أحدا قط هيبتي زيد بن أسلم. وقال العطاف بن خالد: حَدّث زيد بن أسلم بحديث، فقال له رجل: يا أبا أسامة عمّن هذا؟ فقال: يا ابن أخي ما كنا نجالس السفهاء. وقال أحمد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ومحمد بن سعد، والنسائي، وابن خراش: ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة من أهل الفقه والعلم، وكان عالما بتفسير القرآن. وقال البخاري في "تاريخه": قال زكريا بن عدي: ثنا هشيم، عن محمد بن عبد الرحمن القرشي، قال: كان علي بن الحسين يجلس إلى زيد بن أسلم، ويتخطى مجالس قومه، فقال له نافع ابن جبير بن مُطعِم: تتخطى مجالس قومك إلى عبد عمر بن الخطاب؟ فقال علي: إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه. وقال حماد بن زيد، عن عبيد الله بن عمر: لا أعلم به بأسا إلا أنه يفسر برأيه القرآن، ويكثر منه، وذكره ابن حبان في "الثقات". قال خليفة وغير واحد: مات سنة ست وثلاثين ومائة، زاد بعضهم في العشر الأول من ذي الحجة. وقيل: غير ذلك. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (38) حديثًا. 5 - (عبيد الله بن أبي رافع) المدنيّ مولى النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، كان كاتب عليّ -رضي الله عنه-، ثقة [3]. رَوَى عن أبيه، وأمه سلمى، وعن علي، وكان كاتبه، وأبي هريرة، وشُقْران مولى النبي -صلى الله عليه وسلم-. وروى عنه أولاده: إبراهيم، وعبد الله، ومحمد، والمعتمر، والحسن بن محمد بن الحنفية، وعلي بن الحسين بن علي، وسالم أبو النضر، وابن المنكدر، وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين، وبُسْر بن سعيد، والحكم بن عتيبة، والأعرج، وعبد الله بن الفضل الهاشمي، وعاصم بن عبيد الله، وآخرون. قال أبو حاتم، والخطيب: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات" أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث. 6 - (أبوه) أبو رافع القبطيّ، مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قيل: اسمه إبراهيم، وقيل:

أسلم، وقيل: ثابت، وقيل: هرمز، وقيل: صالح. يقال: إنه كان للعباس، فوهبه للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وأعتقه لمّا بَشّره بإسلام العباس وكان إسلام أبي رافع قبل بدر، ولم يشهدها، وشهد أحدًا، وما بعدها. رَوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن ابن مسعود، وعنه أولاده: الحسن، ورافع، وعبيد الله، والمعتمر، ويقال: المغيرة، وسلمى، وأحفاده: الحسن، وصالح، وعبيد الله، أولاد علي بن أبي رافع، وعلي بن الحسين بن علي، وأبو سعيد المقبري، وسليمان بن يسار، وعطاء بن يسار، وأبو غَطَفَان بن طريف المُرّيّ، وعمرو بن الشريد بن سُويد الثقفي، وحُصين والد داود، وسعيد بن أبي سعيد، مولى ابن حزم، وشرحبيل بن سعد، وغيرهم. قال الواقدي: مات بالمدينة بعد قتل عثمان، وقيل: مات في خلافة علي. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، بل من رجال الجماعة كلهم. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من سالم، وشيخه بصريّ، وسفيان كوفيّ، ثم مكيّ. 4 - (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعي عن تابعيّ. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عِليٍّ الجهْضَمِيُّ) -بفتح الجيم، وسكون الهاء، بعدها ضاد معجمة-: نسبة إلى الجهاضمة بطن من الأزد، والجهاضم محلّة لهم بالبصرة. (¬1) (حَدَّثنَا سُفْيَانُ ابْنُ عُيَيْنةَ في بَيْتِهِ) متعلّق بـ "حدّثنا" قال نصر: (أَنَا سَألتُهُ) أي سألت سفيان (عَنْ سَالِمٍ) متعلّق بـ "حدّثنا" أيضًا، أو متعلّق بحال مقدّر: أي حال كونه روايًا عن سالم (أَبِي النَّضْرِ) بدل من "سالم" (ثُمَّ مَرَّ) أي استمرّ سفيان (في الحدِيثِ) أي في سوقه يعني أنه استمرّ فيه، ولم ¬

_ (¬1) "لبّ اللباب" 1/ 225.

يقطعه (قَالَ) سفيان (أَوْ) للشكّ (زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) يعني أن سفيان شكّ فيمن حدّثه بهذا الحديث، هل هو سالم أبو النضر، أو زيد بن أسلم، وهذا الشكّ لا يضرّ بصحّة الحديث؛ لأن كلّا منهما ثقة، كما سيأتي تحقيقه في السائل، إن شاء الله تعالى (عَنْ عُبَيْدِ الله بْن أَبِي رَافِع، عَنْ أَبِيهِ) أبي رافع مولى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- و -رضي الله عنه- (أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَا) ناهيةَ (أُلْفِيَنَّ) -بضمّ الهمزة، بصيغة المتكلّم المؤكَّد بالنون الثقيلة، منَ ألفَيتُ الشيءَ: إذا وجدته، والظاهر أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى نفسه عن أن يَجِدهم على هذه الحالة، والمراد به نهيهم عن أن يكونوا على هذه الحالة، فإنهم إذا كانوا عليها يجدهم -صلى الله عليه وسلم- عليها. قاله السنديّ. وقال الطيبيّ: هو كقولك: لا أَرَيَنَّك ههنا، نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسه عن أن يجدهم على هذه الحالة، والمراد نهيهم عن أن يكونوا على تلك الحالة، فإنهم إذا كانوا عليها وجدهم -صلى الله عليه وسلم- كذلك، فهو من باب إطلاق السبّب على السبب، ومن الإيمائية. (¬1). (أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ) أي سريره المزَيَّنِ في قُبّة، أو بيت، فإذا لم يكن فيه سرير، فهو حَجَلَة. وأراد بهذه الصفّة أصحاب الترفّه والدَّعَة الذين لزموا البيوت، وصُدّوا عن طلب العلم والحديث. ويحتمل أن يريد بهذا الوصف التكبّر والسلطنة. (¬2) (يَأْتِيهِ الْأَمْرُ) زاد في رواية: "من أمري". والجملة في محلّ نصب على الحال، و"الأمر" بمعنى الشأن، فيعُمّ الأمر والنهي، فيوافق البيان بقوله (مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ، أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ) و"أمرت"، و"نهيت" بالبناء للفاعل (فَيَقُولُ) ذلك الأحد؛ إعراضًا عن ذلك الأمر (لَا أَدْرِي) هذا الأمر، أو لا أدري غير القرآن، ولا أتبع غيره. وقوله: (مَا وَجَدْنَا في كِتَابِ الله اتَّبَعْنَاهُ) "ما" موصولة مبتدأ، خبره جملة "اتّبعناه": أي وليس هذا منه، فلا نتّبعه. ويَحتمل أن تكون "ما" نافية، والجملة كالتأكيد لقوله: "لا أدري"، وجملة "اتّبعناه" حالٌ: أي وقد اتّبعنا كتاب الله، فلا نتّبع غيره (¬3). ¬

_ (¬1) "الكاشف عن السنن" 2/ 628 - 629. (¬2) المصدر السابق. (¬3) "شرح السنديّ" 1/ 17.

وقال الطيبيّ رحمه الله تعالى: يجوز أن يُراد بقوله: "الأمر من أمري": الأمر الذي هو بمعنى الشأن، ويكون "مما أمرت به، أو نهيت عنه" بيانًا للأمر الذي هو الشأن؛ لأنه أعمّ من الأمر والنهي. وقوله: "فيقول: لا أدري" مرتّبٌ على "يأتيه"، والجملة كما هي حالٌ أخرى من المفعول، ويكون النهي منصبّا على المجموع: أي لا أُلفيَنّ أحدكم حالةَ أنه يتكىء، ويأتيه الأمر، فيقول: لا أدري. (¬1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي رافع رضي الله تعالى عنه هذا صحيح. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا بهذا السند فقط، و (أبو داود) (4605) عن أحمد بن محمد ابن حنبل، وعبد الله بن محمد النُّفيليّ، كلاهما عن سفيان، عن سالم أبي النضر، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه و (الترمذي) (2663) عن قتيبة، عن سفيان، عن محمد بن المنكدر، وسالم أبي النضر، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبي رافع، وغيره رفعه. قال الترمذيّ: ورَوَى بعضُهم عن سفيان، عن ابن المنكدر، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مرسلًا. وسالمٍ أبي النضر، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. وكان ابن عيينة إذا روى هذا الحديث على الانفراد بَيّنَ حديث محمد بن المنكدر من حديث سالم أبي النضر، وإذا جمعهما روى هكذا. انتهى، و (الحميديّ) 551 عن سفيان به. قال الحميديّ: قال سفيان: وحدّثنا ابن المنكدر مرسلًا، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ... الحديث. قال سفيان: وأنا لحديث ابن المنكدر أحفظ لأني سمعته أوّلًا، وقد حفظت هذا أيضًا، و (أحمد) (6/ 8) عن عليّ بن إسحاق، عن عبد الله، عن ابن لَهِيعة، عن سالم أبي النضر به، ¬

_ (¬1) "الكاشف عن السنن" 2/ 629.

و (الشافعيّ) في "المسند" (1/ 17) ومن طريقه (الحاكم) (1/ 108) وصححه، ووافقه الذهبيّ و (البيهقيّ) في "السنن الكبرى" (7/ 76) وفي "دلائل النبوّة" (1/ 24) و (البغويّ) في "شرح السنّة" (101)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (13)، وفوائده تقدّمت قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله المذكور أول الكتاب قال: 14 - (حَدَّثَنَا أَبو مَرْوَانَ، مُحَمَّدُ بْنُ عُثَمانَ الْعُثَمانِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "مَنْ أَحْدَثَ في أَمْرِنَا هَذَا، مَا لَيْسَ مِنْهُ، فَهُوَ رَدٌّ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (أَبُو مَرْوَانَ، مُحَمَّدُ بْنُ عُثَمانَ) بن خالد بن عُمر بن عبد الله بن الوليد بن عثمان ابن عفان القرشيّ الأمويّ الْعُثْمَانيُّ، نزيل مكة، صدوقٌ، يُخطىء [10]. رَوَى عن أبيه، وابن أبي الزناد، وابن أبي حازم، وإبراهيم بن سَعْد، والدَّرَاوَرْديّ، ومحمد بن ميمون، وغيرهم. ورَوَى عنه ابن ماجه، ورَوَى النسائي في "خصائص علي" عن زكريا السِّجْزيّ عنه، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وموسى بن هارون، وغيرهم. قال أبو حاتم: ثقة. وقال صالح بن محمد الأسدي: ثقة صدوق، إلا أنه يروي عن أبيه المناكير، قيل: ما حاله؟ قال: لا نعرفه -يعني أباه- لم أسمع أحدا يحدث عنه غير سلمة بن شبيب. قال الحاكم: وقد حدث عنه أهل المدينة، وغيرهم، وفي حديثه بعض المناكير. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطئ، ويخالف مات بمكة في آخر سنة أربعين أو أول سنة إحدى وأربعين ومائتين. وقال موسى بن هارون: مات سنة إحدى وأربعين. تفرّد به المصنّف، والنسائي في "خصائص عليّ -رضي الله عنه-". وله في هذا الكتاب (39) حديثًا.

2 - (إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة حجة، تُكُلِّم فيه بلا قادحٍ [8]. رَوَى عن أبيه، وصالح بن كيسان، والزهري، وهشام بن عروة، وصفوان بن سُليم، ومحمد بن إسحاق، وشعبة، ويزيد بن الهاد، وخلق كثير. ورَوَى عنه الليث، وقيس بن الربيع، وهما أكبر منه، ويزيد بن الهاد، وشعبة، وهما من شيوخه، والقعنبي، وأبو داود، وأبو الوليد الطيالسيان، ويحيى بن يحيى النيسابوري، وابناه: يعقوب، وسعد، وجماعة. قال أحمد: ثقة. وقال أيضًا: أحاديثه مستقيمة. وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: كان وكيع كَفَّ عن حديث إبراهيم بن سعد، ثم حدث عنه بعدُ، قلت: لم؟ قال: لا أدري، إبراهيم ثقة. وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: ثقة حجة. وقال أيضًا: إبراهيم أحب إلي في الزهري من ابن أبي ذئب، وقال أيضًا: إبراهيم أثبت من الوليد بن كثير، ومن ابن إسحاق. وقال الدُّوريّ: قلت ليحيى: إبراهيم أحب إليك في الزهري أو الليث؟ فقال: كلاهما ثقة. وقال ابن معين أيضًا، والعجلي، وأبو حاتم: ثقة. وقال مرة: ليس به بأس. وقال علي بن الجعد: سألت شعبة عن حديث لسعد بن إبراهيم، فقال لي: فأين أنت عن ابنه؟ قلت: وأين ذا؟ قال: نازل على عمارة بن حمزة، فأتيته، فحدثني. وقال البخاري: قال لي إبراهيم بن حمزة: كان عند إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق نحو من سبعة عشر ألف حديث في الأحكام، سوى المغازي، وإبراهيم بن سعد من أكثر أهل المدينة حديثًا في زمانه. وقال صالح جزرة: حديثه عن الزهري ليس بذاك؛ لأنه كان صغيرا، حين سمع من الزهري. وقال الدُّوري عن ابن معين في حديث جمع القرآن: ليس أحد حدث به أحسن من إبراهيم بن سعد، وقد حدث مالك بطرف منه. وقال أبو داود: ولي بيت المال ببغداد. وقال ابن خِرَاش: صدوق. وذكر الخطيب في "تاريخ بغداد" أنه قدم بغداد سنة (84)، فأكرمه الرشيد، وفيها أرخ ابن أبي عاصم وفاته. قال الخطيب: حدث عنه يزيد بن الهاد، والحسين بن

سيار الحراني، وبين وفاتيهما مائة واثنتا عشرة سنة. وذكر ابن عدي في "الكامل" عن عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: ذُكر عند يحيى بن سعيد عُقَيل، وإبراهيم بن سعد، فجعل كأنه يضعفهما، يقول: عُقيل وإبراهيم، ثم قال أبي: أَيْشٍ ينفع هذا؟ هؤلاء ثقات، لم يَخْبُرْهما يحيى. وعن أبي داود السجستاني: سمعت أحمد سُئل عن حديث إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن أنس، مرفوعا: "الأئمة من قريش"؟، فقال: ليس هذا في كتب إبراهيم بن سعد، لا ينبغي أن يكون له أصل. قال الحافظ: رواه جماعة عن إبراهيم، ونقل الخطيب أن إبراهيم كان يجيز الغناء بالْعُود، وولي قضاء المدينة. وقال ابن عيينة: كنت عند ابن شهاب، فجاء إبراهيم بن سعد، فرفعه، وأكرمه، وقال: إن سعدا أوصاني بابنه، وسعدٌ سعدٌ. وقال ابن عدي: هو من ثقات المسلمين، حدث عنه جماعة من الأئمة، ولم يختلف أحد في الكتابة عنه، وقول من تكلم فيه تحامل، وله أحاديث صالحة، مستقيمة، عن الزهري وغيره. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: خلاصة القول في إبراهيم ما تقدّم عن "التقريب" إنه ثقة حجة، تُكُلّم فيه بلا قادح، فتبصّر. والله تعالى أعلم. قال عبد الله بن أحمد: وُلد سنة (108) أخبرني بذلك بعض ولده. وقال أبو موسى: مات سنة (2) أو (183). وقال ابن سعد، وابن المديني، وخليفة، وابن أبي خيثمة، وغيرهم: مات سنة (83) زاد علي بن المديني: وهو ابن (73) سنة. وقال ابن سعد: وهو ابن (75) سنة. وقال سعيد بن عُفير، وأبو حسان الزيادي: مات سنة (84). وقال أبو مروان العثماني: سمعت من إبراهيم بن سعد سنة (85)، ومات بعد ذلك. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (30) حديثًا. 3 - (أبوه) سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق، ويقال: أبو إبراهيم، أمه أم كلثوم بنت سعد، وكان قاضي المدينة، والقاسم بن محمد حي، ثقة فاضلٌ عابدٌ [5]. رأى ابن عمر، وروى عن أبيه، وعميه: حميد، وأبي سلمة، وابن عم أبيه طلحة

ابن عبد الله بن عوف، وابن عمه عمر بن أبي سلمة، وأخيه المسور، وخاليه: إبراهيم وعامر ابني سعد، وعن أنس، وعبد الله بن جعفر، وأبي أمامة بن سهل بن حُنيف، ونافع، والقاسم بن محمد وابن المنكدر، وجماعة. ورَوَى عنه ابنه إبراهيم، وأخوه صالح، وعبد الله بن جعفر المخزومي، وعياض ابن عبد الله الْفِهْري، وابن عجلان، والزهري، وموسى بن عقبة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وابن عيينة، وغيرهم من أهل الحجاز، وأيوب السختياني، والحمادان، والثوري، وشعبة، ومسعر، وزكرياء بن أبي زائدة، وابن إسحاق، وأبو عوانة، وغيرهم. قال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث. وقال صالح بن أحمد عن أبيه: ثقة ولي قضاء المدينة، وكان فاضلًا. وقال عبد الله بن شعيب، عن ابن معين: ثقة لا يُشَكُّ فيه. وقال الدُّوري، وغير واحد، عن ابن معين: ثقة. وكذا قال العجلي، وأبو حاتم، والنسائي. وقال يعقوب بن شيبة: سمعت ابن المديني، وقيل له: سمع سعد بن إبراهيم من عبد الله بن جعفر؟ قال: ليس فيه سماع، ثم قال علي: لم يَلْقَ سعدُ بنُ إبراهيم أحدًا من الصحابة. وقال أبو حاتم عن ابن المديني: كان سعد لا يحدث بالمدينة، فلذلك لم يكتب عنه أهل المدينة، ومالك لم يكتب عنه، وإنما سمع منه شعبة، وسفيان بواسط، وابن عيينة سمع منه بمكة. وقال حجاج بن محمد: كان شعبة إذا ذكره قال: حدثني حبيبي سعد. وقال الساجي: ثقة أجمع أهل العلم على صدقه، والرواية عنه، إلا مالكًا، وقد رَوَى مالك عن عبد الله بن إدريس، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، وصح باتفاقهم أنه حجة، وقال أحمد بن الْبَرْقِيّ: سألت يحيى عن قول بعض الناس في سعد: إنه كان يرى القدر، وترك مالك الرواية عنه، فقال: لم يكن يرى القدر، وإنما ترك مالك الرواية عنه؛ لأنه تكلم في نسب مالك، فكان مالك لا يروي عنه، وهو ثبت، لا شك فيه. وقال ابن عيينة: قال ابن جريج أتيت الزهري بكتاب أَعْرِضُ عليه، فقلت: أعرض عليك؟ فقال: إني وعدت سعدا في ابنه، وسعدٌ سعدٌ، قال ابن جريج: فقلت: ما أشدَّ ما تَفْرَقُ منه. وذكره ابن المديني في الطبقة الثالثة من الرواة عن نافع.

وقال يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه: سرد سعد الصوم قبل أن يموت بأربعين سنة. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: خلاصة القول في سعد رحمه الله تعالى أنه ثقة ثبت حجة، ولا يلحقه شيء من الجرح، والله تعالى أعلم. قال إبراهيم ابنه: مات سنة خمس وعشرين ومائة. وقال يعقوب بن إبراهيم: مات سنة (26)، وقال مرة: سنة (127)، وهو ابن (72) سنة. وقال خليفة وغير واحد: مات سنة (7)، وقال خليفة مرة: مات سنة (8). وأرخه ابن سعد، وابن حبان في "الثقات" سنة (27)، وحكى بن حبان الخلاف في وفاته أيضا. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا. 4 - (القاسم بن محمد) بن أبي بكر الصدّيق التيميّ، أبو محمد، ويقال: أبو عبد الرحمن المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت فاضلٌ، من كبار [3]. رَوَى عن أبيه، وعمته، عائشة، وعن العبادلة، وعبد الله بن جعفر، وأبي هريرة، وعبد الله بن خباب، ومعاوية، ورافع بن خَدِيج. ورَوَى عنه ابنه عبد الرحمن، والشعبي، وسالم بن عبد الله بن عمر، وهما من أقرانه، ويحيى وسعد ابنا سعيد الأنصاري، وابن أبي مليكة، ونافع مولى ابن عمر، والزهري، وعبيد الله بن عمر، وسعد بن إبراهيم، وآخرون. قال ابن سعد: أمه أم ولد يقال لها: سودة، وذكر عن الواقديّ أنه قال: كان ثقة، رفيعًا عالمًا فقيها إماما ورعا كثير الحديث. وقال البخاري: قُتل أبوه، وبقي القاسم يتيما في حجر عائشة رضي الله عنها. وقال الزبير: ما رأيت أبا بكر وَلَد ولدا أشبه به من هذا الفتى. وقال عبد الله بن شَوْذَب عن يحيى بن سعيد: ما أدركنا بالمدينة أحدا نفضله على القاسم. وقال وهيب، عن أيوب: ما رأيت أفضل منه. وقال البخاري في "الصحيح": حدثنا علي، حدثنا ابن عيينة، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم، وكان أفضل أهل زمانه، أنه سمع أباه، وكان أفضل أهل زمانه. وقال أبو الزناد: ما رأيت أحدا أعلم بالسنة منه،

ولا أَحَدَّ ذهنا. وقال جعفر بن أبي عثمان الطيالسي، عن ابن معين: عبيد الله بن عمر، عن القاسم، عن عائشة، ترجمة مُشَبّكَةٌ بالذهب. وقال ابن عون: كان القاسم، وابن سيرين، ورجاء بن حَيْوَة يحدثون بالحديث على حروفه. وقال خالد بن نزار، عن ابن عيينة: كان أعلم الناس بحدث عائشة ثلاثة: القاسم، وعروة، وعمرة. وقال مالك: كان قليل الحديث والفتيا. وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: رأيت القاسم يصلي، فجاء إليه أعرابي، فقال له: أيما أعلم أنت أو سالم؟ فقال: سبحان الله، فكرر عليه، فقال: ذاك سالم فاسأله، قال ابن إسحاق: كره أن يقول: أنا أعلم من سالم، فيزكيَ نفسه، وكره أن يقول: سالم أعلم مني، فيكذبَ، قال: وكان القاسم أعلمهما. وقال ابن وهب عن مالك: كان القاسم من فقهاء هذه الأمة، قال: وكان ابن سيرين يأمر من يحج أن ينظر إلى هدى القاسم، فيقتدي به. وقال مصعب الزبيري، والعجلي: كان من خيار التابعين. وقال العجلي أيضا: مدني تابعي ثقة، نَزِهٌ، رجل صالح. وقال ابن وهب: حدثني مالك أن عمر بن عبد العزيز كان يقول له: لو كان لي من هذا الأمر شيء ما عَصَّبْتُهُ إلا بالقاسم. وقال يعقوب بن سفيان: كان قليل الحديث والفتيا. وقال ابن حبان في ثقات التابعين: كان من سادات التابعين، من أفضل أهل زمانه علمًا وأدبًا وفقهًا، وكان صَمُوتًا، فلما ولي عمر بن عبد العزيز قال أهل المدينة: اليوم تنطق العذراء أرادوا القاسم. قال ضمرة عن رجاء بن جميل: مات بعد عمر بن عبد العزيز سنة إحدى، أو اثنتين ومائة. وقال عبد الله بن عمر: مات القاسم وسالم أحدهما سنة خمس، والآخر سنة ست. وقال خليفة: مات سنة ست، أو أول سنة سبع. وقال ابن أبي خيثمة، عن يحيى بن معين، وابن المديني: مات سنة ست ومائة. وكذا قال غير واحد، زاد بعضهم: وهو ابن سبعين سنة. وقال ابن سعد: مات سنة اثنتي عشرة ومائة. وقيل: غير ذلك. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (34) حديثًا.

5 - (عائشة) بنت أبي بكر الصديق عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب ابن سعد بن تيم بن مُرّة بن كعب بن لؤيّ القُرَشيِّةُ التَّيْميَّةُ، وأمها أم رومان بنت عامر ابن عُويمر الكنانية، وُلدت بعد المبعث بأربع سنين أو خمس، فقد ثبت في "الصحيح" أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تزوجها، وهي بنت ست، وقيل: سبع، ويجمع بأنها كانت أكملت السادسة، ودخلت في السابعة، ودخل بها وهي بنت تسع، وكان دخوله بها في شوال في السنة الأولى، كما أخرجه ابن سعد عن الواقدي، عن أبي الرجال، عن أبيه، عن أمه عمرة، عنها قالت: أُعرِس بي على رأس ثمانية أشهر. وقيل: في السنة الثانية من الهجرة. وقال الزبير بن بكار: تزوجها بعد موت خديجة، قيل: بثلاث سنين. قال أبو عمر: كانت تُذكَر لجبير بن مُطعم، وتسمى له. أخرجه ابن سعد من حديث ابن عباس بسند فيه الكلبي، وأخرجه أيضا عن عبد الله بن نمير، عن الأجلح، عن ابن أبي مليكة، قال: خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عائشة إلى أبي بكر، فقال: يا رسول الله إني كنت أعطيتها مُطعِمًا لابنه جبير، فدَعْني حتى أَسُلَّها منهم، فاستسلّها منهم، فطلّقها، فتزوّجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وفي "الصحيح" من رواية أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، قالت: تزوجني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنا بنت ست سنين، وبَنَى بي وأنا بنت تسع، وقُبِضَ وأنا بنت ثمان عشرة سنة، وفي "الصحيح" أيضا: لم يَنكِح بكرا غيرها، وهو متفق عليه بين أهل النقل. وكانت تكنى أم عبد الله، بابن أختها عبد الله بن الزبير، قال الشعبي: كان مسروق إذا حدث عن عائشة، قال حدثتني الصادقة ابنة الصديق، حبيبة حبيب الله. وقال أبو الضحى، عن مسروق: رأيت مشيخة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأكابر يسألونها عن الفرائض. وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأيا في العامة، وقال هشام بن عروة عن أبيه: ما رأيت أحدا أعلم بفقه، ولا بطب، ولا بشعر من عائشة. وقال أبو بردة ابن أبي موسى، عن أبيه: ما أشكل علينا أمر، فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها فيه علمًا. وقال الزهري: لو جُمع

علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين، وعلم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل. وأسند الزبير بن بكار، عن أبي الزناد قال: ما رأيت أحدا أروى لشعر من عروة، فقيل له: ما أرواك!، فقال: ما روايتي في رواية عائشة؟ ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرًا. ماتت سنة ثمان وخمسين، في ليلة الثلاثاء، لسبع عشرة خلت من رمضان عند الأكثر. وقيل: سنة سبع، ذكره علي بن المديني عن ابن عيينة، عن هشام بن عروة، ودُفنت بالبقيع (¬1). أخرج لها الجماعة، وروت (2210) أحاديث، اتفق الشيخان منها على (174) وانفرد البخاريّ (54) ومسلم (68) ولها في هذا الكتاب (386) حديثًا. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخه، فقد تفرّد به هو، وأخرج له النسائيّ في "الخصائص". 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه أيضًا، فإنه دمشقيّ. 4 - (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ: سعد، عن القاسم، ورواية الراوي عن عمّته: القاسم، عن عائشة رضي الله تعالى عنها. 5 - (ومنها): أن فيه القاسم بن محمد من الفقهاء السبعة المشهورين في المدينة، وقد تقدّموا. 6 - (ومنها): أن فيه عائشة رضي الله تعالى عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث، ومن المشهورين بالفتوى. والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) راجع "الإصابة" 8/ 231 - 235. و"طبقات ابن سعد" 8/ 46 - 65. و"تهذيب التهذيب" 4/ 680 - 681.

شرح الحديث: (عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها (أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: مَنْ أَحْدَثَ) أي ابتدع، قال الفيّوميّ رحمه الله تعالى: حَدَثَ الشيءُ حدُوثًا، من باب قعد: تجدّد وجوده، فهو حادثٌ، وحَدِيثٌ، ومنه يقال: حدثَ به عيبٌ: إذا تجدّد، وكان معدومًا قبل ذلك، ويتعدّى بالألف، فيقال: أحدثته، ومنه "محدَثَات الأمور"، وهي التي ابتدعها أهل الأهواء. انتهى (¬1). وقال القرطبيّ: أي من اخترع في الشرع ما لا يشهد له أصل من أصوله، فهو مفسوخٌ، لا يعمل به، ولا يُلتفتُ إليه. انتهى (¬2). (في أَمْرِنَا) أي في شأننا، فالأمر واحد الأمور، أو فيما أمرنا به، فالأمر واحد الأوامر، أُطلق على المأمور به، والمراد على الوجهين: الدين القيّم ووصف الأمر بقوله: (هَذَا) إشارةً إلى أن أمر الإسلام كَمُلَ واشتهر، وشاع، وظهر ظهور المحسوس، بحيث لا يخفى على كلّ ذي بصر وبصيرة، كقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} الآية [المائدة: 3]، فمن رام الزيادة عليه فقد حاول أمرًا غير مرضيّ؛ لأنه من قصور فهمه رآه ناقصًا (مَا لَيْسَ مِنْهُ) "ما" موصولة مفعول "أحدث" أي أحدث الشيء الذي ليس منه: أي من أمر الدين، وأشار إلى أن إحداث ما له أصل في الكتاب والسنّة ليس بمردود، كأن يُجدّد سنة أُميتت، وتناساها الناس، أو أحدث شيئًا يشهد له الكتاب والسنّة، مما لا يشمله تعريف البدعة الشرعيّة، كجمع الصدّيق -رضي الله عنه- القرآن، وجمع عمر -رضي الله عنه- الناس على إمام واحد في قيام رمضان (فَهُوَ) أي ذلك المحدث (رَدٌّ) -بفتح، فسكون- أي مرود، من إطلاق المصدر على اسم المفعول، مثل خَلْق ومخلوق، ونَسْخ ومنسوخ، وكأنه قال: فهو باطل، غير معتد به. قاله في "الفتح" (¬3). ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" 1/ 124. (¬2) "المفهم" 5/ 171. (¬3) "الفتح"5/ 642.

والمراد أن ذلك الأمر واجب الردّ، فيجب على الناس ردّه، ولا يجوز لأحد اتّباعه، والتقليد فيه. وقيل: ضمير "فهو" يعود إلى "من": أي فذلك الشخص مرود مطرود عن جملة أهل السنّة والجماعة، فيكون من الفرق الضالّة التي تفترق إليها هذه الأمة، كما أخبر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما أخرجه المصنّف في "كتاب الفتن"، كما سيأتي برقم (3982) بإسناد صحيح، عن عوف بن مالك -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده لتفترقنّ أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار"، قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: "الجماعة". (¬1). وقال الطيبيّ في "الكاشف" قوله: "من أحدث في أمرنا": الأمر حقيقة في القول الطالب للفعل، مجاز في الفعل، والشأنِ، والطريقِ، وأُطلق هنا على الدين من حيث إنه طريقه، أو شأنه الذي يتعلّق به، وهو مهتمّ بشأنه، بحيث لا يخلو عن شيء من أقواله وأفعاله. والمعنى أن من أحدث في الإسلام رأيًا لم يكن له من الكتاب والسنة سند ظاهر، أو خفيّ، ملفوظ، أو مستنبطٌ، فهو مرود عليه. قال: روى محيي السنّة عن يحيى بن سعيد، سمعت أبا عبيد رحمه الله تعالى يقول: جمع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- جميع أمر الآخرة في كلمة: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه، فهو رد"، وجميع أمر الدنيا في كلمة: "إنما الأعمال بالنيّات". انتهى. (¬2). ¬

_ (¬1) رواه المصنف في "كتاب الفتن" برقم 3992 وفي سنده عباد بن يوسف، روى عن جماعة، ووثّقه ابن حبان، وغيره، راجع "تهذيب التهذيب" 2/ 285. وراجع "السلسلة الصحيحة" للشيخ الألباني رحمه الله تعالى 3/ 480 رقم 1492. (¬2) "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 603.

[تنبيه]: هذا الحديث فيه قصّة، أخرجها مسلم في "صحيحه" من طريق أبي عامر الْعَقَدِيّ، عن سعد بن إبراهيم، قال: سألت القاسم بن محمد عن رجل له ثلاثة مساكن، فأوصى بثلث كل مسكن منها، قال: يُجمَع ذلك كله في مسكن واحد، ثم قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من عَمِلَ عَمَلًا، ليس عليه أمرنا، فهو رَدٌّ". قال الحافظ رحمه الله تعالى: وقد رويناه في "كتاب السنّة" لأبي الحسين بن حامد من طريق محمد بن إسحاق، عن عبد الواحد، وفيه قصّة، قال: "عن سعد بن إبراهيم قال: كان الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب أوصى بوصية، فجعل بعضها صدقة، وبعضها ميراثًا، وخلط فيها، وأنا يومئذ على القضاء، فما دَرَيتُ كيف أقضي فيها؟ فصليت بجنب القاسم بن محمد، فسألته، فقال: أَجِزْ من ماله الثلث وصية، ورُدَّ سائر ذلك ميراثًا، فإن عائشة حدثتني"، فذكره بلفظ إبراهيم بن سعد. قال: وفي هذه الرواية دلالة على أن قوله في رواية مسلم: "يُجمَع ذلك كله في مسكن واحد، هو بقية الوصية، وليس هو من كلام القاسم بن محمد، لكن صَرّح أبو عوانة في روايته بأنه كلام القاسم بن محمد، وهو مشكل جِدّا، فالذي أوصى بثلث كل مسكن أوصى بأمر جائز اتفاقًا، وأما إلزام القاسم بأن يُجمَع في مسكن واحد ففيه نظر؛ لاحتمال أن يكون بعض المساكن أغلى قيمةً من بعض، لكن يَحتَمِل أن تكون تلك المساكن متساويةً، فيكون الأولى أن تقع الوصية بمسكن واحد من الثلاثة، ولعله كان في الوصية شيء زائد على ذلك يوجب إنكارها، كما أشارت إليه رواية أبي الحسين بن حامد. قال: وقد استشكل القرطبيّ، شارح مسلم ما استشكلته، وأجاب عنه بالحمل على ما إذا أراد أحد الفريقين من الورثة، أو الموصَى لهم القسمةَ، وتمييز حقّه، وكانت المساكن بحيث يُضمّ بعضها إلى بعض في القسمة، فحينئذ تقوّم المساكن قيمة التعديل، ويُجمع نصيب الموصَى لهم في موضع واحد، ويبقى نصيب الورثة فيما عدا ذلك بحسب

مواريثهم. والله أعلم. انتهى كلام الحافظ (¬1). وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: مراد القاسم أن تغيير وصية الموصي إلى ما هو أحب إلى الله، وأنفع جائز، وقد حُكي هذا عن عطاء، وابن جريج. وربما يستدل بعض من ذهب إلى هذا بقوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182]، ولعله أخذ هذا من جمع العتق، فإنه صحّ أن رجلًا أعتق ستة مماليك عند موته، فدعاهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فجزّأهم ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين وأرق أربعة. أخرجه مسلم. وذهب فقهاء الحديث إلى هذا الحديث؛ لأن تكميل عتق العبد مهما أمكن فهو أولى من تشقيصه، ولهذا شُرعت السراية والسعاية، إذا أعتق أحد الشريكين نصيبه من عبد، وقال -صلى الله عليه وسلم- فيمن أعتق بعض عبده: "هذا هو عتيق كله ليس لله شريك" (¬2). وأكثر العلماء على خلاف قول القاسم، وأن وصية الموصي لا تُجمع، ويُتَّبع لفظه إلا في العتق خاصة؛ لأن المعنى الذي جُمع له فيه العتق موجود في بقية الأموال، فيعمل فيها بمقتضى وصية الموصي. وذهب طائفة من الفقهاء في العتق على أنه يَعْتِق من كل عبد ثلثه، ويُستسعون في الباقي، واتباع قضاء النبي -صلى الله عليه وسلم- أحق وأولي. والقاسم نظر إلى أن في مشاركة الموصَى له للورثة في المساكن كلها ضررا عليهم، فَيُدفع عنهم هذا الضرر، ويجمع الوصية في مسكن واحد، فإن الله شرط في الوصية عدم المضارة؛ لقوله: {غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 12]، فمن ضار في وصيته كان عمله مردودا عليه؛ لمخالفته ما شرط الله تعالى في الوصية. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه القاسم رحمه الله تعالى هو الوجيه؛ لوضوح حجته. والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) "الفتح" 5/ 642. (¬2) حديث صحيح، أخرجه أبو داود في"كتاب العتق" من "سننه" رقم (3933).

وقد ذهب طائفة من الفقهاء إلى أنه لو أوصى بثلث مساكنه كلها، ثم تلف ثلثا المساكن، وبقي منها ثلث أنه يُعطَى كلها للموصَى له. وهذا قول طائفة من أصحاب أبي حنيفة. وحُكي عن أبي يوسف ومحمد، ووافقهم القاضي أبو يعلى من الحنابلة خلافه، وبَنَوا ذلك على أن المساكن المشتركة تُقسم بين المشتركين فيها قسمة إجبار، كما هو قول مالك. وظاهر كلام ابن أبي موسى من الحنابلة، والمشهور عندهم أن المساكن المتعددة لا تقسم قسمة إجبار، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي رحمهما الله. وقد تأول بعض المالكية فتيا القاسم المذكورة في هذا الحديث على أن أحد الفريقين من الورثة، والموصى لهم طلب قسمة المساكن، فكانت متقاربة بحيث يُضم بعضها إلى بعض في القسمة، فإنه يجاب إلى قسمتها على قولهم، وهذا التأويل بعيد، مخالف للظاهر. انتهى كلام ابن رجب ببعض تصرّف (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أراد ابن رجب ببعض المالكية القرطبيّ، وقد سبق تأويله هذا، وعندي أنه لا بُعد في تأويله، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنف) هنا (2/ 14) بهذا الإسناد فقط، و (البخاري) في "صحيحه" (3/ 214) عن يعقوب، عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عنها. وفي "خلق أفعال العباد" (29) عن العلاء بن عبد الجبّار، عن عبد الله بن جعفر المخرمي، عن سعد بن إبراهيم به. و (مسلم) (5/ 132) عن محمد بن الصبّاح، وعبد ¬

_ (¬1) "جامع العلوم والحكم" 1/ 124 - 125.

الله بن عون الهلالي جميعًا عن إبراهيم بن سعد به. وعن إسحاق بن إبراهيم، وعبد بن حميد جميعًا عن أبي عامر العقديّ، عن عبد الله بن جعفر به. و (أبو داود) (4606) عن محمد بن الصبّاح، به. وعن محمد بن عيسى، عن عبد الله بن جعفر المخرميّ، وإبراهيم ابن سعد به. و (أحمد) 6/ 73 عن إسحاق بن عيسى، عن عبد الله بن جعفر به. و (6/ 146) عن محمد بن جعفر غندر، عن عبد الله بن جعفر المخرميّ و (6/ 240) عن يزيد بن هارون، عن إبرهيم بن سعد به. و (6/ 256) عن حماد بن خالد، عن عبد الله بن جعفر به. و (6/ 270) عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه به. و (الطيالسيّ) (1422) و (أبو عوانة) (4/ 18/ 19) و (ابن حبان) في "صحيحه" (26 و 27)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): أن هذا الحديث قاعدة عظيمة، من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه -صلى الله عليه وسلم-، فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات. 2 - (ومنها): أنه وقع في رواية لمسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردّ". ففي هذه الرواية ردّ على من قد يعاند من بعض الفاعلين في بدعة سُبق إليها، فإذا احتُجَّ عليه بالرواية الأولى، يقول: أنا ما أحدثت شيئًا، فيحتج عليه بالثانية التي فيها التصريح برد كل المحدثات، سواء أحدثها الفاعل، أو سُبق بإحداثها. قاله النوويّ رحمه الله تعالى (¬1). وقال في "الفتح": واللفظ الثاني -وهو قوله: "من عَمِلَ"- أعم من اللفظ الأول -وهو قوله: "من أحدث"- فيُحتَجُّ به في إبطال جميع العقود المنهية، وعدم وجود ثمراتها المرتبة عليها، وفيه ردُّ المحدثات، وأن النهي يقتضي الفساد؛ لأن المنهيات كلها ¬

_ (¬1) "شرح مسلم" 12/ 242.

ليست من أمر الدين، فيجب ردّها. انتهى (¬1). 3 - (ومنها): أنه يستفاد منه أن حكم الحاكم لا يغير ما في باطن الأمر؛ لقوله: "ليس عليه أمرنا"، والمراد به أمر الدين. 4 - (ومنها): أن الصلح الفاسد مُنتَقَضٌ، والمأخوذ عليه مُستحق الرد. 5 - (ومنها): أن هذا الحديث دليلٌ لمن يقول من الأصوليين: إن النهي يقتضي الفساد، ومن قال: لا يقتضي الفساد يقول: هذا خبر واحد، ولا يكفي في إثبات هذه القاعدة المهمة. قال النوويّ رحمه الله تعالى: وهذا جواب فاسد. وقال القرطبيّ: فيه حجةً على أن النهي يدلّ على الفساد، وهو قول جمهور الفقهاء. وذهب بعض المالكيّة، وأكثر المتكلّمين إلى أنه لا يدل على الفساد، وإنما مدلوله المنع من إدخال المنهيّ عنه في الوجود فقط، وأما حكمه إذا وقع من فساد أو صحّة، فالنهي لا يدلّ عليه، ويُنظر دليل ذلك من خارج النهي. وقد اختلف حال المنهيّات، فبعضها يصحّ إذا وقع، كالطلاق في الحيض، وبعضها لا يصحّ، كبيع الملاقيح والمضمامين، وبعضها يَختلف فيه الفقهاء، كالبيع عند النداء. قاله القرطبيّ (¬2). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ هو ما عليه جمهور الفقهاء من أن النهي يقتضي الفساد، وهذا فيما إذا لم يدلّ دليل على خلافه، كالنهي عن تلقّي الجلب، فقد أخرج مسلم في "صحيحه" وغيره عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: "لا تَلَقَّوُا الجلب، فمن تلقاه، فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار"، فقد خير -صلى الله عليه وسلم- صاحبه بعد النهي بين أن يجيز البيع، وبين أن يُبطله، فدلّ على أن النهي ليس للفساد، ومثله النهي عن التصرية، فقد أخرج مسلم أيضًا عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: "ولا تُصَرُّوا الإبلَ والغنمَ، فمن ابتاعها بعد ذلك، فهو بخير النظرين، بعد أن يَحْلُبها، فإن رضيها أمسكها، وإن ¬

_ (¬1) "الفتح" 5/ 642. (¬2) "المفهم" 5/ 171.

سخطها رَدّها، وصاعا من تمر". فقد خيّر -صلى الله عليه وسلم- المشتري بين الرضا، وبين الردّ مع صاع من تمر، فدلّ على أن النهي ليس للفساد، وكذا كلّ نهي دلّ النصّ على عدم اقتضائه الفساد، وما عدا ذلك كلّه على الفساد. والله تعالى أعلم. 6 - (ومنها): أن هذا الحديث معدود من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعده، فإن معناه من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله، فلا يلتفت إليه. قال النووي: هذا الحديث مما ينبغي أن يعتنى بحفظه، واستعماله في إبطال المنكرات، وإشاعة الاستدلال به كذلك. وقال الطرقي: هذا الحديث يصلح أن يُسمَّى نصف أدلة الشرع؛ لأن الدليل يتركب من مقدمتين، والمطلوب بالدليل إما إثبات الحكم، أو نفيه، وهذا الحديث مقدمة كبرى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه؛ لأن منطوقه مقدمة كلية في كل دليل ناف لحكم، مثل أن يُقال في الوضوء بماء نجس: هذا ليس من أمر الشرع، وكل ما كان كذلك فهو مردود، فهذا العمل مردود، فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث، وإنما يقع النزاع في الأولى، ومفهومه أن من عمل عملا عليه أمر الشرع فهو صحيح، مثل أن يقال في الوضوء بالنية: هذا عليه أمر الشرع، وكل ما كان عليه أمر الشرع فهو صحيح، فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث، والأولى فيها النزاع، فلو اتفق أن يوجد حديث يكون مقدمة أولى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه، لاستقل الحديثان بجميع أدلة الشرع، لكن هذا الثاني لا يوجد، فإذًا حديث الباب نصف أدلة الشرع. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الرابعة): قد كتب الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه "جامع العلوم والحكم" بحثًا نفيسًا في هذا الحديث، أحببت إيراده هنا تتميمًا للفائدة، وتكميلًا للعائدة، قال رحمه الله: هذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام، كما أن حديث: "الأعمالُ بالنيات" ميزان للأعمال في باطنها، وهو ميزان للأعمال في ظاهرها، فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى، فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله تعالى

ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله فليس من الدين في شيء. قال: فهذا الحديث بمنطوقه يدل على أن كل عمل ليس عليه أمر الشارع، فهو مردود، ويدل بمفهومه على أن كل عمل عليه أمره، فهو غير مردود، والمراد بأمره ههنا دينه وشرعه، كالمراد بقوله في الرواية الأخرى: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد"، فالمعنى إذًا أنّ من كان عمله خارجا عن الشرع، ليس متقيدا بالشرع، فهو مردود. وقوله: "ليس عليه أمرنا" إشارةٌ إلى أن أعمال العاملين كلهم ينبغي أن تكون تحت أحكام الشريعة، فتكون أحكام الشريعة حاكمة عليها، بأمرها ونهيها، فمن كان عمله جاريا تحت أحكام الشريعة، موافقا لها، فهو مقبول، ومن كان خارجا عن ذلك فهو مردود، فأما العبادات فما كان منها خارجا عن حكم الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- بالكلية فهو مردود على عامله، وعاملُه يدخل تحت قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ} [الشورى: 21]، فمن تقرب إلى الله بعمل لم يجعله الله ورسوله قربة إلى الله، فعمله باطل مردود عليه، وهو شبيه بحال الذين كانت صلاتهم عند البيت مكاء وتصدية (¬1). وهذا كمن تقرب إلى الله تعالى بسماع الملاهي، أو بالرقص، أو بكشف الرأس في غير الإحرام، وما أشبه ذلك من المحدثات التي لم يشرع الله ورسوله التقرب بها بالكلية. وليس ما كان قربة في عبادة، يكون قربة في غيرها مطلقًا، فقد رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلا قائما في الشمس، فسأل عنه، فقيل: إنه نذر أن يقوم، ولا يقعد، ولا يستظل، وأن يصوم، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقعد، ويستظل، وأن يتم صومه (¬2). فلم يجعل قيامه، وبروزه في الشمس قربة يوفي بنذرهما. وقد رُوي أن ذلك كان في يوم جمعة عند سماع خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو على المنبر، فنذر أن يقوم، ولا يقعد، ولا ¬

_ (¬1) "المكاء": صفير الطير. و"التصدية": التصويت بالتصفيق وغيره. (¬2) أخرجه البخاريّ في "صحيحه" 13/ 446 "كتاب الأيمان والنذور".

يستظل، ما دام النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب؛ إعظاما لسماع خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬1)، ولم يجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك قربةً يُوفي بنذره، مع أن القيام عبادة في مواضع أُخَر، كالصلاة، والأذان، والدعاء بعرفة، والبروزُ للشمس قربةٌ للمحرم، فدل على أنه ليس كل ما كان قربة في موطن، يكون قربة في كل المواطن، وإنما يُتبع في ذلك كلِّه ما وردت به الشريعة في مواضعها. وكذلك من تقرب بعبادة، نُهي عنها بخصوصها، كمن صام يوم العيد، أو صلى وقت النهي. وأما من عَمِلَ عملا أصله مشروع وقربة، ثم أدخل فيه ما ليس بمشروع، أو أَخَلّ فيه بمشروع، فهذا أيضا مخالف للشريعة، بقدر إخلاله بما أخل به، أو إدخاله ما أدخل فيه، وهل يكون عمله من أصله مردودا عليه أو لا؟ فهذا لا يُطلق القول فيه برد ولا قبول، بل ينظر فيه، فإن كان ما أخل به من أجزاء العمل، أو شروطه موجبا لبطلانه في الشريعة، كمن أخل بالطهارة مع القدرة عليها، أو كمن أخل بالركوع أو بالسجود، أو بالطمأنينة فيهما، فهذا عمل مردود عليه، وعليه إعادته إن كان فرضًا. وإن كان ما أخل به لا يوجب بطلان العمل، كمن أخل بالجماعة للصلاة المكتوبة عند من يوجبها، ولا يجعلها شرطًا، فهذا لا يقال: إن عمله مردود من أصله، بل هو ناقص. وإن كان قد زاد في العمل المشروع ما ليس بمشروع، فزيادته مردودة عليه، بمعنى أنها لا تكون قربة، ولا يثاب عليها، ولكن تارة يبطل بها العمل من أصله، فيكون مردودًا، كمن زاد ركعة عمدا في صلاته مثلًا، وتارة لا يبطله، ولا يرده من أصله، كمن توضأ أربعًا أربعًا، أو صام الليل مع النهار، وواصل في صيامه. وقد يبدل ما يؤمر به في العبادة بما هو منهي عنه، كمن ستر عورته في الصلاة بثوب محرم، أو توضأ للصلاة بماء مغصوب، أو صلى في بقعة غصب، فهذا قد اختلف العلماء فيه، هل عمله مردود من أصله، أو أنه غير مردود، وتبرأ به الذمة من عُهْدة الواجب، وأكثر الفقهاء ¬

_ (¬1) أخرجه الطبرانيّ في "الكبير" 11/ 320 رقم (320).

على أنه ليس بمردود من أصله، وقد حَكَى عبد الرحمن بن مهدي عن قوم من أصحاب الكلام، يقال لهم: الشمرية، أصحاب أبي شمر أنهم يقولون: إنه من صلى في ثوب كان في ثمنه درهم حرام أن عليه إعادة صلاته، وقال: ما سمعت قولا أخبث من قولهم، نسأل الله العافية. وعبد الرحمن بن مهدي من أكابر فقهاء أهل الحديث، المطلعين على مقالات السلف، وقد استنكر هذا القول، وجعله بدعة، فدل على أنه لم يعلم عن أحد من السلف القول بإعادة الصلاة في مثل هذا،، ويُشبه هذا الحجُّ بمال حرام، وقد ورد في حديث أنه مردود على صاحبه، ولكنه حديث لا يثبت (¬1). وقد اختلف العلماء هل يسقط به الفرض أم لا؟. وقريبٌ من ذلك الذبح بآلة محرمة، أو ذبح من لا يجوز له الذبح، كالسارق، فأكثر العلماء قالوا: إنه تباح الذبيحة بذلك. ومنهم من قال: هي محرمة. وكذا الخلاف في ذبح المحرم الصيد، لكن القول بالتحريم فيه أشهر وأظهر؛ لأنه منهي عنه بعينه، فلهذا فرق من فرق من العلماء بين أن يكون النهي لمعنى يختص بالعبادة فيبطلها، وبين أن لا يكون مختصا بها فلا يبطلها، فالصلاة بالنجاسة، أو بغير طهارة، أو بغير ستارة، أو إلى غير القبلة يبطلها؛ لاختصاص النهي بالصلاة، بخلاف الصلاة في الغضب، ويشهد لهذا أن الصيام لا يبطله إلا ارتكاب ما نُهي عنه فيه بخصوصه، وهو جنس الأكل والشرب والجماع، بخلاف ما نُهي عنه الصائم لا بخصوص الصيام، كالكذب والغيبة عند الجمهور. وكذلك الحج لا يبطله إلا ما نُهي عنه في الإحرام، وهو الجماع، ولا يبطله ما لا يختص بالإحرام من المحرمات، كالقتل، والسرقة، وشرب الخمر. وكذلك الاعتكاف إنما يبطل بما نُهي عنه فيه بخصوصه، وهو الجماع، وإنما يبطل بالسُّكْر عند ¬

_ (¬1) أخرجه البزّار 2/ 6 "كشف" رقم (1079) وقال البزّار: فيه الضعف بيّن على أحاديث سليمان، ولا يتابعه أحدٌ، وهو ليس بالقويّ. وذكره الهيثميّ في "مجمع الزوائد" 3/ 212 - 213 وقال: رواه البزّار، وفيه سليمان بن داود اليماميّ، وهو ضعيف. انتهى.

الأكثرين؛ لنهي السكران عن قربان المسجد، ودخوله على أحد التأويلين في قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] أن المراد مواضع الصلاة، فصار كالحائض، ولا يبطل الاعتكاف بغيره من ارتكابه الكبائر عند كثير من العلماء. وقد خالف في ذلك طائفة من السلف منهم: عطاء، والزهري، والثوري، ومالك، وحكي عن غيرهم أيضا المعاملات. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه بعض السلف هو الظاهر. والله تعالى أعلم. وأما المعاملات، كالعقود، والفسوخ، ونحوهما، فما كان منها مغير الأوضاع الشرعية، كجعل حد الزنا عقوبة مالية، وما أشبه ذلك، فإنه مردود من أصله، لا ينتقل به الملك؛ لأن هذا غير معهود في أحكام الإسلام، ويدل على ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للذي سأله: إن ابني كان عسيفا (¬1) على فلان، فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-"المائة الشاة والخادم رد عليك، وعلى ابنك مائة جلدة، وتغريب عام" (¬2). وما كان منها عقدا منهيا عنه في الشرع، إما لكون المعقود عليه ليس محلا للعقد، أو لفوات شرط فيه، أو لظلم يحصل به للمعقود معه، أوعليه، أو لكون العقد يَشغَل عن ذكر الله -عز وجل- الواجبِ عند تضايق وقته، أو غير ذلك، فهذا العقد هل هو مردود بالكلية، لا يَنتقِل به الملك أم لا؟ هذا الموضع قد اضطرب الناس فيه اضطرابا كثيرا، وذلك أنه ورد في بعض الصور أنه مردود لا يفيد الملك، وفي بعضها أنه يفيده، فحصل الاضطراب فيه بسبب ذلك. والأقرب -إن شاء الله تعالى- أنه إن كان النهي عنه لحق الله تعالى، لا يفيد الملك بالكلية، ومعنى أن يكون الحق لله أنه لا يسقط برضا المتعاقدين عليه، وإن كان النهي ¬

_ (¬1) "العسيف" كالأجير وزنًا ومعنىً. (¬2) متّفقٌ عليه.

عنه لحق آدمي معين، بحيث يسقط برضاه به، فإنه يقف على رضاه به، فإن رضي لزم العقد، واستمر الملك، وإن لم يرض به فله الفسخ، فإن كان الذي يلحقه الضرر لا يعتبر رضاه بالكلية، كالزوجة والعبد في الطلاق والعتاق، فلا عبرة برضاه ولا بسخطه، وإن كان النهي رفقا بالمنهي خاصة؛ لما يلحقه من المشقة، فخالف وارتكب المشقة، لم يبطل بذلك عمله. فأما الأول: فله صور كثيرة: (منها): نكاح من يحرم نكاحه، إما لعينه كالمحرمات على التأبيد بسبب أو نسب، أو للجمع، أو لفوات شرط لا يسقط بالتراضى باسقاطه، كنكاج المعتدة والمحرمة، والنكاح بغير ولي، ونحو ذلك. وقد رُوي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- فَرّق بين رجل وامرأة، تزوجها وهي حبلي، فردّ النكاح؛ لوقوعه في العدة (¬1). (ومنها): عقود الربا، فلا يفيد الملك، ويؤمر بردّها. وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- من باع صاع تمر بصاعين أن يرده (¬2). (ومنها): بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام، والكلب، وسائر ما نهي عن بيعه مما لا يجوز بيعه. وأما الثاني: فله صور عديدة: (منها): إنكاح الولي مالا يجوز له إنكاحها إلا بإذنها، لا بغير إذنها، وقد ردّ النبي -صلى الله عليه وسلم- نكاح امرأة ثيب، زوّجها أبوها، وهي كارهة (¬3). وروى عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه خير امرأة زُوِّجَت بغير إذنها (¬4). ¬

_ (¬1) حديث ضعيف، أخرجه أبو داود في "سننه" 2/ 241 - 242 رقم 2131 و 2132. (¬2) أخرجه مسلم 6/ 25 "شرح النووي" رقم 79/ 1594. (¬3) أخرجه البخاريّ 10/ 244 رقم (5138). (¬4) حديث صحيح، أخرجه أبو داود رقم (2098) والمصنّف، ويأتي برقم (1875) وأحمد 1/ 273.

وفي إبطال هذا النكاح، أو وقوفه على الإجازة، روايتان عن أحمد. وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أن من تصرف لغيره في ماله بغير إذنه، لم يكن تصرفه باطلًا من أصله، بل يَقِفُ على إجازته، فإن أجازه جاز، وإن ردّه بطل. واستدلُّوا بحديث عروة بن الجعد في شرائه للنبي -صلى الله عليه وسلم- شاتين، وإنما كان أمَرَهُ بأن يشتري شاة واحدة، ثم باع إحداهما، وقَبِلَ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، وخَصَّ ذلك الإمام أحمد في المشهور عنه بمن كان يتصرف لغيره في ماله بإذن، إذا خالف الإذن. (ومنها): تصرف المريض في ماله كله، هل يقع باطلًا من أصله، أم يوقف تصرفه في الثلث على إجازة الورثة، فيه اختلاف مشهور للفقهاء، والخلاف في مذهب أحمد وغيره. وقد صح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رُفِع إليه أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لا مال له غيرهم، فدعا بهم، فجزّأهم ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين، وأَرَقَّ أربعة، وقال له قولا شديدًا (¬1). ولعل الورثة لم يجيزوا إعتاق الجميع. والله أعلم. (ومنها): بيع المدلَّس ونحوه، كالمصراة، وبيع النجش، وتلقى الركبان، ونحو ذلك، وفي صحته كله اختلاف مشهور في مذهب الإمام أحمد. وذهب طائفة من أهل الحديث إلى بطلانه وردِّه، والصحيح أنه يصح، ويقف على إجازة من حصل له ظلم بذلك، فقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه جعل مشتري المصراة بالخيار، وأنه جعل للركبان الخيار، إذا هبطوا السوق (¬2)، وهذا كله يدل على أنه غير مردود من أصله. وقد أُورد على بعض من قال بالبطلان حديث المصراة، فلم يذكر عنه جوابًا. وأما بيع الحاضر للبادي: فمن صححه جعله من هذا القبيل، ومن أبطله جعل الحق فيه لأهل البلد كلهم، وهم غير منحصرين، فلا يتصور إسقاط حقوقهم، فصار ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم 6/ 154 "شرح النوويّ"، وأبو داود (3958) والترمذيّ (1364) والنسائيّ (1958) والمصنّف (2345). (¬2) متّفقٌ عليه.

كحق الله عز وجل. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بالبطلان هو الظاهر؛ لعدم ورود نصّ يدلّ على صحته، كما ورد في المصرّاة، ونحوه. والله تعالى أعلم. (ومنها): لو باع رقيقًا، يَحرُم التفريق بينهم، وفرق بينهم، كالأم وولدها، فهل يقع باطلا مردودا، أم يقف على رضاهم بذلك؟. وقد رُوي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر برد هذا البيع (¬1). ونص أحمد على أنه لا يجوز التفريق بينهم، ولو رضوا بذلك. وذهبت طائفة إلى جواز التفريق بينهم برضاهم، منهم النخعي، وعبيد الله بن الحسن العَنْبَريّ، فعلى هذا يتوجه أن يصح، ويقف على الرضا. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بالبطلان هو الظاهر؛ للحديث المذكور. والله تعالى أعلم. (ومنها): لو خَصَّ بعض أولاده بالعطية دون بعض، فقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أمر بشير بن سَعْد لمّا خص ولده النعمان بالعطية أن يرده إليه، ولم يدل ذلك على أنه لم ينتقل الملك بذلك إلى الولد، فإن هذه العطية تصح، وتقع مراعاةً، فإن ساوى بين الأولاد في العطية، أو استرد ما أعطي الولد جاز، وإن مات ولم يفعل شيئًا من ذلك، فقال مجاهد: هو ميراث. وحُكي عن أحمد نحوه، وأن العطية تبطل، والجمهور على أنها لا تبطل، وهل للورثة الرجوع فيها أم لا؟ فيه قولان مشهوران، وهما روايتان عن أحمد. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بالبطلان هو الظاهر؛ لظاهر الحديث. والله تعالى أعلم. (ومنها): الطلاق المنهي عنه، كالطلاق في زمن الحيض، فإنه قد قيل: إنه قد نُهي عنه لحق الزوج، حيث كانُ يخشَى عليه أن يعقبه فيه الندم، ومن نُهي عن شيء رِفقًا به، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود برقم (2696)، وفيه انقطاعٌ، وحسّنه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى، راجع "صحيح أبي داود" 2/ 514.

فلم يَنتَهِ عنه، بل فعله، وتجشم مشقته، فإنه لا يحكم ببطلان ما آلى به، كمن صام في المرض، أو السفر، أو واصل في الصيام، أو أخرج ماله، وجلس يتكفف الناس، أو صلى قائما مع تضرره بالقيام للمرض، أو اغتسل، وهو يخشى على نفسه الضرر والتلف، ولم يتيمم، أو صام الدهر ولم يفطر، أو قام الليل ولم ينم، وكذلك إذا جمع الطلاق الثلاث على القول بتحريمه. وقيل: إنما نُهي عن طلاق الحائض؛ لحق المرأة؛ لما فيه من الإضرار بها بتطويل العدة، ولو رضيت بذلك، بأن سألته الطلاق بعوض في الحيض، فهل يزول بذلك تحريمه، فيه قولان مشهوران للعلماء، والمشهور من مذهب الشافعية والحنبليّة أنه يزول التحريم بذلك. وإن قيل: إن التحريم فيه لحق الزوج خاصة، فإذا أقدم عليه، فقد أسقط حقه فسقط، وإن عُلِّل بأنه لحق المرأة لم يمنع نفوذه، ووقوعه أيضا، فإن رضا المرأة بالطلاق غير معتبر؛ لوقوعه عند جميع المسلمين، لم يخالف فيه سوى شِرْذِمة يسيرة من الروافض ونحوهم، كما أن رضا الرقيق بالعتق غير معتبر، ولو تضرر به، ولكن إذا تضررت المرأة بذلك، وكان قد بقي شيء من طلاقها أُمر الزوج بارتجاعها، كما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ابن عمر بارتجاع زوجته؛ تلافيا منه لضررها، وتلافيا منه لما وقع منه من الطلاق المحرم، حتى لا تصير بينونتها منه ناشئة عن طلاق محرم، وليتمكن من طلاقها على وجه مباح، فتحصل إبانتها على هذا الوجه. وقد رُوي عن أبي الزبير، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ردها عليه، ولم يرها شيئًا. وهذا مما تفرد به أبو الزبير عن أصحاب ابن عمر كلهم، مثل ابنه سالم، ومولاه نافع، وأنس، وابن سيرين، وطاوس، ويونس بن جبير، وعبد الله بن دينار، وسعيد بن جبير، وميمون بن مهران، وغيرهم. وقد أنكر أئمة العلماء هذه اللفظة على أبي الزبير، من المحدثين، والفقهاء، وقالوا: إنه تفرد بما خالف الثقات، فلا يقبل تفرده، فإن في رواية الجماعة عن ابن عمر ما يدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حسب عليه الطلقة، من وجوه كثيرة، وكان ابن عمر يقول لمن

سأله عن طلاق المرأة في الحيض: إن كنت طلقت واحدة أو اثنتين، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرني بذلك، يعني بارتجاع المرأة، وإن كنت طلقتها ثلاثا، فقد عصيت ربك، وبانت منك امرأتك. وفي رواية أبي الزبير زيادة أخرى، لم يتايع عليها، وهو قوله: ثم تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق:1]، ولم يذكر ذلك أحد من الرواة عن ابن عمر، وإنما رَوَى عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أنه كان يتلو هذه الآية عند روايته للحديث، وهذا هو الصحيح. وقد كان طوائف من الناس يعتقدون أن طلاق ابن عمر كان ثلاثًا، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما رَدّها عليه؛ لأنه لم يوقع الطلاق في الحيض، وقد روى ذلك عن أبي الزبير أيضا، من رواية معاوية بن عمار الدُّهْنِيّ عنه، فلعل أبا الزبير اعتقد هذا حقّا، فروى تلك اللفظة بالمعنى الذي فهمه. ورَوَى ابنُ لهيعة هذا الحديث عن أبي الزبير، فقال عن جابر: إن ابن عمر طلق امرأته، وهي حائض، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليراجعها، فإنها امرأته"، وأخطأ في ذكر جابر في هذا الإسناد، وتفرد بقوله: "فإنها امرأته"، وهي لا تدُلُّ على عدم وقوع الطلاق، إلا على تقدير أن يكون ثلاثًا، فقد اختُلِفَ في هذا الحديث على أبي الزبير، وأصحابُ ابن عمر الثقاتُ الحفاظُ العارفون به الملازمون له لم يُختَلف عليهم فيه. فرَوَى أيوب عن ابن سيرين قال: مكثت عشرين سنة يحدثني من لا أتهمهم أن ابن عمر طلق امرأته ثلاثًا، وهي حائض، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يراجعها، فجعلت لا أتهمهم، ولا أعرف الحديث، حتى لقيت أبا غلاب، يونسَ بنَ جبير، وكان ذا ثَبْتٍ، فحدثني أنه سأل ابن عمر، فحدثه أنه طلقها واحدة. أخرجه مسلم (¬1). وفي رواية قال ابن سيرين: فجعلت لا أعرف للحديث وجهًا، ولا أفهمه. وهذا يدل على أنه كان قد شاع بين الثقات، من غير أهل الفقه والعلم، أن طلاق ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" 5/ 319 - 320 بشرح النوويّ.

ابن عمر كان ثلاثًا، ولعل أبا الزبير من هذا القبيل، ولذلك كان نافع يُسأل كثيرًا عن طلاق ابن عمر، هل كان ثلاثًا أو واحدة؟، ولما قَدِمَ نافع مكة، أرسلوا إليه من مجلس عطاء، يسألونه عن ذلك؛ لهذه الشبهة. واستنكار ابن سيرين لرواية الثلاث يدل على أنه لم يَعرِف قائلا معتبرا، يقول: إن الطلاق المحرم غير واقع، وأن هذا القول لا وجه له. قال الإمام أحمد في رواية أبي الحارث، وسئل عمن قال: لا يقع الطلاق المحرم؛ لأنه يخالف ما أُمر به، فقال: هذا قول سوء رديء، ثم ذكر قصة ابن عمر، وأنه احتسب بطلاقه في الحيض. وقال أبو عبيدة: الوقوع هو الذي عليه العلماء مجمعون في جميع الأمصار، حجازهم، وتهامهم، ويمنهم، وشأمهم، وعراقهم، ومصرهم. وحكى ابن المنذر ذلك عن كل من يُحفَظ قوله، من أهل العلم، إلا ناسا من أهل البدع، لا يُعتَدُّ بهم. وأما ما حكاه ابن حزم عن ابن عمر، أنه لا يقع الطلاق في الحيض، مُستنِدًا إلى ما رواه من طريق محمد بن عبد السلام الْخُشَنِيّ الأندلسي، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، في الرجل يُطَلِّق امرأته، وهي حائض، قال: لا تعتد بها. وبإسناده عن خِلاَس نحوه، فإن هذا الأثر قد سقطت من آخره لفظةٌ، وهي قال: لا يعتد بتلك الحيضة، كذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة، في كتابه عن عبد الوهاب الثقفي، وكذا رواه يحيى بن معين، عن عبد الوهاب أيضا، قال: هو غريب لا يحدث به إلا عبد الوهاب. ومراد ابن عمر: أن الحيضة التي تُطلق فيها المرأة لا تَعْتَدُّ بها المرأة قُرْءًا، وهذا هو مراد خِلاس وغيره. وقد رُوي ذلك أيضا عن جماعة من السلف منهم: زيد بن ثابت، وسعيد بن المسيب، فوهم جماعة من المفسرين وغيرهم، كما وهم ابن حزم، فحكوا عن بعض من سمينا أن الطلاق في الحيض لا يقع، وهذا سبب وهمهم. والله أعلم. انتهى كلام الحافظ

ابن رجب رحمه الله تعالى (¬1)، وهو تحقيق نفيسٌ جدّا، وسنعود لتكميله في محلّه من كتاب الطلاق، إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله المذكور أول الكتاب قال: 15 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الُمهَاجِرِ المصْرِيُّ، أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَبْدَ الله بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنصَارِ، خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، في شِرَاجِ الحَّرَّةِ، الَّتِي يَسْقُونَ بها النَّخْلَ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: سَرِّحِ الماءَ يَمُرُّ، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَاخْتَصَمَا عِنْدَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُّمَّ أَرْسِلِ الماءَ إِلَى جَارِكَ"، فَغَضِبَ الْأَنصَارِيُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، ثُمَّ قَالَ: "يَا زُبَيْرُ اسْقِ، ثُمَّ احْبِسِ الماءَ حَتَّى يَرْجعَ إِلَى الجدْرِ"، قَالَ: فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَالله إِنِّي لَأَحْسِبُ هَذه الْآيَةَ نَزَلَتْ في ذَلِكَ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (محمد بن رُمْح بن المهاجر) بن المحرر بن سالم التُّجِيبيّ مولاهم، أبو عبد الله المصري الحافظ، ثقة ثبت [10]. رَوَى عن مسلمة بن علي الْخُشَنِيّ، وابن لَهيعة، والليث، ومفضل بن فضالة، ونعيم بن حماد، وجماعة. ورَوَى عنه مسلم، وابن ماجه، وعبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، وبَقِيّ ابن مَخْلَد، وأبو الربيع سليمان بن داود المُهْري، وغيرهم. قال ابن الجنيد: كان أوثق من ابن زُغْبَة. وقال أبو داود: ثقة ولم أكتب عنه شيئًا. ¬

_ (¬1) "جامع العلوم والحكم" جـ 1 ص 176 - 192.

وقال النسائي: ما أخطأ في حديث واحد، ولو كان كتب عن مالك لأثبته في الطبقة الأولي من أصحابه. وقال ابن ماكولا: كان ثقة مأمونا. وقال ابن يونس: ثقة ثبت في الحديث، وكان أعلم الناس بأخبار البلد ووقفه، وكان إذا شهد في دار عَلِمَ أهلُ البلد أنها طيبة الأصل. وذكر ابن السمعاني في "الأنساب" أن البخاري روى عنه. وقال محمد بن وَضّاح: لقيته بمصر، وكان نِعْمَ الشيخُ. وقال مسلمة: أنا عنه غير واحد، وهو ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة ثلاث وأربعين ومائتين، وكذا أرّخه ابن أبي عاصم. وقال البخاري وابن قُدَيد: مات في شوال سنة (42). تفرّد به مسلم، والمصنّف، وفي "الزهرة": روى عنه مسلم مائة حديث، وإحدى وستين حديثا. انتهى. وله عند المصنّف في هذا الكتاب (101) حديثًا. 2 - (الليث بن سعد) بن عبد الرحمن الْفَهْميّ، أبو الحارث الإمام المصريّ، ثقة ثبتٌ، فقيهٌ إمام مشهور [7]. قال يحيى بن بكير: سَعْدٌ أبو الليث مولى قريش، وإنما افترضوا في فهم، فنسب إليهم، وأصلهم من أصبهان، وأهل بيته يقولون: نحن من الفرس من أصبهان، قال ابن يونس: وليس لما قالوه من ذلك عندنا صحة، وُلد بِقَرْقَشَنْدَةَ على نحو أربعة فراسخ من الفسطاط. ورَوَى عن نافع، وابن أبي ملكية، ويزيد بن أبي حبيب، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأخيه عبد ربه بن سعيد، وابن عجلان، والزهري، وهشام بن عرورة، وعطاء بن أبي رباح، وبكير بن الأشج، والحارث بن يعقوب، وجماعة من أقرانه، ومن هو أصغر منه. ورَوَى عنه شعيب، ومحمد بن عجلان، وهشام بن سعد، وهما من شيوخه، وابن لهيعة، وهشيم بن بشير، وقيس بن الربيع، وعطاف بن خالد، وهم من أقرانه، وابن المبارك، وابن وهب، ومروان بن محمد، ومحمد بن المهاجر، وغيرهم، وعيسى بن حماد ابن زُغبَة، وهو آخر من حدث عنه من الثقات، وآخرون.

قال ابن سعد: كان قد اشتغل بالفتوى في زمانه، وكان ثقة كثير الحديث صحيحه، وكان سَرِيّا من الرجال، نبيلًا سخيّا. وقال أحمد بن سعد الزهري عن أحمد: الليث ثقة ثبت. وقال حنبل عن أحمد: الليث أحب إلي منهم فيما يروي عن المقبري. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: أصح الناس حديثا عن المقبري الليث، كان يُفَصّل ما روى عن أبي هريرة، وما روى عن أبيه عن أبي هريرة، وقال ابن المديني: الليث ثقة ثبت. وقال العجلي: مصري ثقة. وقال النسائي: ثقة. وقال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: ما فاتني أحد، فأَسِفتُ عليه ما أسفت على الليث وابن أبي ذئب. وقال ابن أخي ابن وهب: سمعت الشافعي يقول: الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به. وقال حرملة: سمعت الشافعي يقول: الليث أتبع للأثر من مالك. وقال أبو زرعة: سمعت ابن بكير يقول: الليث أفقه من مالك، ولكن كانت الْحُظْوَة لمالك. وقال محمد بن صالح الأشج، عن قتيبة بن سعيد: قدم منصور بن عمار على الليث، فوصله بألف دينار، واحترق بيت ابن لهيعة، فوصله بألف دينار، ووصل مالك ابن أنس بألف دينار، وكساني قميص سُنْدُس فهو عندي. وقال أبو العباس السراج عن قتيبة: قَفَلْنا مع الليث من الإسكندرية، وكان معه ثلاث سفائن، فسفينة فيها مطبخه، وسفينة فيها عياله، وسفينة فيها أضيافه. وقال محمد بن رمح: وقال ابن وهب: كتب مالك إلى الليث إني أريد أن أُدخل ابنتي على زوجها، فأُحب أن تبعث إلي بشيء من عصفر، فبعث إليه ثلاثين حِمْلًا من عصفر، فصبغ لأهله، ثم باع منه بخمسمائة دينار، وبقي عنده. وكان دخل الليث كل سنة ثمانين ألف دينار، ما أوجب الله عليه زكاة. وقال إسماعيل سَمّويه: ثنا عبد الله بن صالح قال: صحبت الليث عشرين سنة، لا يتغدى ولا يتعشى إلا مع الناس. وقال ابن حبان في "الثقات": كان من سادات أهل زمانه فقهًا وورعًا وعلمًا وفضلًا وسخاءً. وقال ابن أبي مريم: ما رأيت أحدا من خلق الله أفضل من ليث، وما

كانت خصلة يُتقرَّب بها إلى الله إلا كانت تلك الخصلة في الليث. وقال أبو يعلى الخليلي: كان إمام وقته بلا مدافعة. وقال يعقوب بن سفيان عن بن بكير: وُلد الليث سنة (94) ومات في يوم الجمعة نصف شعبان سنة خمس وسبعين ومائة، وكذا قال ابن أبي مريم وغير واحد في تاريخ وفاته. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (122). 3 - (ابن شهاب) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله ابن الحارث بن زُهْرة بن كِلاب بن مُرّة القُرَشيّ الزهريّ، أبو بكر المدنيّ الفقيه الحافظ، أحد الأئمة الاعلام، وعالم الحجاز والشام، الثقة الثبت المتّفقٌ على جلالته وإتقانه، من رءوس الطبقة [4]. رَوَى عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن جعفر، وربيعة بن عباد، والمسور بن مَخْرمة، وعبد الرحمن بن أزهر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وسهل بن سعد، وأنس، وجابر، وأبي الطفيل، والسائب بن يزيد، وخلق كثير. ورَوى عنه عطاء بن أبي رباح، وأبو الزبير المكي، وعمر بن عبد العزيز، وعمرو ابن دينار، وصالح بن كيسان، وأبان بن صالح، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وإبراهيم ابن أبي عَبْلَة، وأيوب السختياني، وهشيم، وسفيان بن عيينة، وخلق كثير. قال ابن سعد: وكان الزهري ثقة، كثير الحديث والعلم والرواية فقيها جامعًا. وقال أبو الزناد: كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب يكتب كلما سمع، فلما احتيج إليه علمت أنه أعلم الناس، وقال ابن مهدي: سمعت مالكا يقول: قال الزهري: ما استفهمت عالما قط، ولا رددت على عالم شيئا قط. وقال عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري: ما استعدت حديثا قط، وقال الليث عن جعفر بن ربيعة: قلت لعراك بن مالك: مَن أفقه أهل المدينة، فذكر سعيد بن المسيب، وعروة، وعُبيد الله بن عبد الله، قال عراك: وأعلمهم عندي جميعا ابن شهاب؛ لأنه جمع علمهم إلى علمه،

وقال أبو صالح عن الليث: ما رأيت عالما أجمع من ابن شهاب، ولا أكثر علما منه، لو سمعته يحدث في الترغيب، لقلت لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن الأنساب لقلت لا يعرف إلا هذا، وإن حدث عن القرآن والسنة، كان حديثه نوعا جامعًا. وقال إبراهيم بن سعد بن إبراهيم: قلت لأبي بم فاقكم ابن شهاب؟ قال: كان يأتي المجالس من صدورها، ولا يلقى في المجلس كهلا إلا ساءله، ولا شابا إلا ساءله، ثم يأتي الدار من دور الأنصار، فلا يلقى شابا إلا ساءله، ولا كهلا ولا عجوزا ولا كهلة إلَّا ساءلها حتى يحاول ربات الْحِجَال. وقال سعيد بن عبد العزيز: سأل هشام بن عبد الملك الزهري أن يُملي على بعض ولده، فدعا بكاتب، فأملى عليه أربعمائة حديث، ثم إن هشاما قال له: إن ذلك الكتاب قد ضاع، فدعا الكاتب، فأملاها عليه، ثم قابله هشام بالكتاب الأول، فما غادر حرفا. قال أبو داود، عن أحمد بن صالح: يقولون: إن مولده سنة خمسين، وقال خليفة: وُلد سنة إحدى وخمسين. وقال يحيى بن بكير سنة ست. وقال الواقدي: سنة ثمان. وكان وفاته سنة ثلاث وعشرين، قاله ضمرة بن ربيعة. وقال القطان وغير واحد: مات سنة ثلاث أو أربع. وقال أبو عبيدة، وابن المديني، وعمرو بن علي في آخر سنة أربع، زاد الزبير بن بكار: في رمضان، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. وقال ابن يونس وغيره: مات في رمضان سنة خمس وعشرين ومائة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (296) حديثًا. 4 - (عروة بن الزبير) بن العوّام بن خُوَيلد بن أسد بن عبد العزي بن قصي الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقة فقيهٌ مشهور [3]. رَوَى عن أبيه، وأخيه عبد الله، وأمه أسماء بنت أبي بكر، وخالته عائشة، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأسامة بن زيد، وأبي أيوب، وأبي هريرة، وغيرهم من الصحابة والتابعين.

ورَوَى عنه أولاده: عبد الله، وعثمان، وهشام، ومحمد، ويحيى، وابن ابنه عمر بن عبد الله بن عروة، وابن أخيه محمد بن جعفر بن الزبير، وأبو الأسود، وخلق كثير. ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة، وقال: كان ثقة كثير الحديث فقيهًا عالمًا ثبتًا مأمونًا. وقال العجلي: مدني تابعي ثقة، وكان رجلا صالحًا، لم يدخل في شيء من الفتن، وقال هشام عن أبيه: لقد رأيتني قبل موت عائشة بأربع حِجَحٍ، أو خمس حجج، وأنا أقول: لو ماتت اليوم ما نَدِمتُ على حديث عندها إلا وقد وعيته، وقال قبيصة ابن ذؤيب: كان عروة يغلبنا بدخوله على عائشة، وكانت عائشة أعلم الناس. وعَدَّهُ أبو الزناد في فقهاء المدينة السبعة، مع مشيخة سواهم، من أهل فقه وفضل. وقال ضمرة عن ابن شوْذَب: وقعت في رجله الآكلة، فنشرت، وكان يقرأ ربع القرآن نظرًا في المصحف، ثم يقوم به الليل، فما تركه إلا ليلة قطعت رجله. وقال ابن عيينة عن هشام: خرج عروة إلى الوليد، فخرجت برجله آكلةٌ، فقطعها، وسقط ابن له عن ظهر بيت له، فوقع تحت أرجل الدواب فوطئته، فقال: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، اللهم إن كنت أخذت لقد أعطيت، وإن كنت ابتليت قد عافيت، وقال ابن حبان في "الثقات": كان من أفاضل أهل المدينة وعقلائهم. قال خليفة: في آخر خلافة عمر سنة (23) يقال: وُلِد عروة بن الزبير. قال ابن المديني: مات عروة سنة إحدى أو اثنتين وتسعين، وعنه سنة اثنتين، وعنه سنة (3) وفيها أرخه أبو نعيم، وابن يونس، وغيرهما. وذكره ابن زَبْر فيمن مات في سنة (2) ثم في سنة (4) وقال: هذا أثبت من الأول، وكذا أرخه ابن سعد، وعمرو بن علي، وغير واحد. وقال معاوية بن صالح، عن يحيى بن معين في تسمية تابعي أهل المدينة، ومحدثيهم: أبو بكر بن عبد الرحمن مات سنة (94) وعروة بن الزبير، وسعيد، وعلي بن الحسين، وكان يقال لها: سنة الفقهاء. وقال ابن أبي خيثمة: كان يوم الجمل ابن ثلاث عشرة سنة، فاستصغر، ومات سنة أربع، أو خمس وتسعين، وقال يحيى بن بكير: مات سنة (5). وقال هارون بن محمد: مات سنة (99) أو مائة، أو إحدى ومائة. وقال

مصعب، والزبير بن بكار: مات وهو ابن (67) سنة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (165) حديثًا. 5 - (عبد الله بن الزبير) بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزي القرشي الأسدي، أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، وُلد عام الهجرة، وحَفِظ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو صغير، وحدّث عنه بجملة من الحديث، وعن أبيه، وعن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وخالته عائشة، وسفيان بن أبي زهير، وغيرهم، وهو أحد العبادلة، وأحد الشجعان من الصحابة، وأحد من ولي الخلافة منهم، يكنى أبا بكر، ثم قيل له: أبو حُبيب بولده، وبويع بالخلافة سنه أربع وستين، عقب موت يزيد بن معاوية، ولم يتخلف عنه إلا بعض أهل الشام، وهو أول مولود وُلد للمهاجرين بعد الهجرة، وحنكه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسماه باسم جده، وكناه بكنيته، وزعم الواقدي أنه وُلد في السنة الثانية، والأصح الأول. وقُتل -رضي الله عنه- بعد محاصرة الحجّاج له في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين من الهجرة، وهذا قول الجمهور، وهو الأصح، وله من الأحاديث (33) حديثًا، اتّفَقَ الشيخان على حديث، وانفرد البخاريّ بستة، ومسلم بحديثين، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، بل من رجال الجماعة، إلا شيخ المصنّف، فانفرد به هو ومسلم. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، والليث، فمصريّان. 4 - (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعي عن تابعيّ. 5 - (ومنها): أن فيه عروة أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة. 6 - (ومنها): أن صحابيّه، أول مولود في الإسلام بعد الهجرة، وقد أذهب الله به مزاعم اليهود، حيث قالوا: نحن سحرناهم، فلا يولد لهم ولد، فأبطل الله تعالى ذلك،

وفرح المسلمون به فرحًا شديدًا، وأن أول ما ولج بطنه ريق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث حنّكه، وأنه شرب دمه -صلى الله عليه وسلم-، فكان من أقوى الناس، وأشجعهم -رضي الله عنه-. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) وفي رواة للبخاريّ من طريق ابن جريج، عن ابن شهاب، عن عروة أنه حدّثه (أَنَّ) أخاه (عَبْدَ الله بْنَ الزُّبَيْرِ) رضي الله عنهما (حَدَّثَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ) قال الحافظ رحمه الله تعالى: هذا هو المشهور من رواية الليث بن سعد، عن ابن شهاب، وقد رواه ابن وهب، عن الليث ويونس جميعًا، عن ابن شهاب، أن عروة حدثه، عن أخيه عبد الله بن الزبير، عن الزبير بن العوام. أخرجه النسائي، وابن الجارود، والإسماعيلي. وكأن ابن وهب حَمَل رواية الليث، على رواية يونس، وإلا فرواية الليث ليس فيها ذكر الزبير. والله أعلم. وأخرجه البخاريّ في "الصلح" من طريق شعيب، عن ابن شهاب، عن عروة ابن الزبير، عن الزبير بغير ذكر عبد الله. وقد أخرجه البخاريّ في الباب الذي يليه من طريق معمر، عن ابن شهاب، عن عروة مرسلًا، وأعاده في "التفسير" من وجه آخر عن معمر، وكذا أخرجه الطبري، من طريق عبد الرحمن بن إسحاق، حدثنا ابن شهاب، وأخرجه البخاريّ من رواية ابن جريج كذلك بالإرسال، لكن أخرجه الإسماعيلي، من وجه آخر عن ابن جريج كرواية شعيب التي ليس فيها "عن عبد الله". وذكر الدارقطني في "العلل" أن ابن أبي عَتِيق، وعُمر بن سَعْد وافقا شعيبا وابن جريج، على قولهما: "عروة عن الزبير"، قال: وكذلك قال أحمد بن صالح، وحرملة، عن ابن وهب، قال: وكذلك قال شبيب بن سعيد، عن يونس، قال وهو المحفوظ. قال الحافظ: وإنما صححه البخاري مع هذا الاختلاف؛ اعتمادا على صحة سماع عروة من أبيه، وعلى صحة سماع عبد الله بن الزبير، من النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكيفما دار فهو على ثقة، ثم الحديث ورد في شيء يتعلق بالزبير، فداعية ولده متوفرة على ضبطه، وقد وافقه مسلم على تصحيح طريق الليث، التي ليس فيها ذكر الزبير.

وزعم الحميدي في "جمعه" أن الشيخين أخرجاه من طريق عروة، عن أخيه عبد الله، عن أبيه، وليس كما قال، فإنه بهذا السياق في رواية يونس المذكورة، ولم يخرجها من أصحاب الكتب الستة إلا النسائي، وأشار إليها الترمذي خاصة. وقد جاءت هذه القصة من وجه آخر، أخرجها الطبري، والطبراني، من حديث أم سلمة، وهي عند الزهري أيضا، من مرسل سعيد بن المسيب، كما سيأتي بيانه. انتهى (¬1). (أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ) زاد في رواية شعيب: "قد شهد بدرًا"، وفي رواية عبد الرحمن ابن إسحاق، عن الزهري، عند الطبري، في هذا الحديث: أنه من بني أمية بن زيد، وهم بطن من الأوس. ووقع في رواية يزيد بن خالد، عن الليث، عن الزهري، عند ابن المقري في "معجمه" في هذا الحديث: أن اسمه حميد. قال أبو موسى المديني في "ذيل الصحابة": لهذا الحديث طُرُقٌ، لا أعلم في شيء منها ذكر حميد، إلا في هذا الطريق. انتهى. وليس في البدريين من الأنصار من اسمه حميد. وحَكَى ابن بشكوال في "مبهماته" عن شيخه أبي الحسن بن مُغِيث، أنه ثابت بن قيس بن شَمّاس، قال: ولم يأت على ذلك بشاهد. قال الحافظ: وليس ثابت بدريّا. وحَكَى الواحدي أنه ثعلبة بن حاطب الأنصاري، الذي نزل فيه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة: 75]، ولم يذكر مستنده، وليس بدريا أيضا، نعم ذكر ابن إسحاق في البدريين ثعلبة بن حاطب، وهو من بني أمية بن زيد، وهو عندي غير الذي قبله؛ لأن هذا ذكر ابن الكلبي أنه استُشهِد بأُحُد، وذاك عاش إلى خلافة عثمان. وحَكَى الواحدي أيضًا، وشيخه الثعلبي، والمهدوي: أنه حاطب بن أبي بلتعة. وتُعُقّب بأن حاطبا، وإن كان بدريا، لكنه من المهاجرين، لكن مستند ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم، من طريق سعيد بن عبد العزيز، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، في قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى ¬

_ (¬1) "الفتح" 5/ 307 - 308.

يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النساء: 65] قال: نزلت في الزبير بن العوام، وحاطب بن أبي بلتعة، اختصما في ماء ... الحديث، وإسناده قوي مع إرساله، فإن كان سعيد بن المسيب سمعه من الزبير، فيكون موصولًا، وعلى هذا فيُؤَوّل قوله: "من الأنصار" على إرادة المعنى الأعم، كما وقع ذلك في حق غير واحد، كعبد الله بن حُذَافة. وأما قول الكرماني بأن حاطبا كان حليفا للأنصار، ففيه نظر. وأما قوله: "من بني أمية بن زيد"، فلعله كان مسكنه هناك، كعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. وذكر الثعلبي بغير سند: أن الزبير وحاطبا لمّا خرجا مَرّا بالمقداد، قال. لمن كان القضاء؟ فقال حاطب: قَضَى لابن عمته، ولوى شِدْقه، فَفَطَنَ له يهودي، فقال: قاتل الله هؤلاء، يشهدون أنه رسول الله، ويتهمونه. وفي صحة هذ انظر. ويترشح بأن حاطبا كان حليفا لآل الزبير بن العوام، من بني أسد، وكأنه كان مجاورا للزبير. والله أعلم. وأما قول الداودي، وأبي إسحاق الزجاج، وغيرهما: إن خصم الزبير كان منافقا، فقد وجهه القرطبي بأن قول من قال: إنه كان من الأنصار، يعني نسبًا، لا دينًا، قال: وهذا هو الظاهر من حاله. ويحتمل أنه لم يكن منافقًا، ولكن أصدر ذلك منه بادرةُ نفس، وزلّة شيطان، كما قد اتّفق لحاطب بن أبي بَلْتعة، ولحسّان، ومِسْطَح، وحَمْنَة في قضيّة الإفك، وغيرهم ممن بدرت منهم بوادر شيطانيّة، وأهواء نفسانيّة، لكن لُطِف بهم حتى رجعوا عن الزلّة، وصحّت لهم التوبة، ولم يؤاخذوا بالْحَوْبة (¬1). وقَوَّى هذا شارح المصابيح التوربشتيُّ، وَوَهَّى ما عداه، وقال: لم تجر عادة السلف بوصف المنافقين بصفة النصرة التي هي المدح، ولو شاركهم في النسب، قال: بل هي زلة من الشيطان، تمكن به منها عند الغضب، وليس ذلك بمستنكر من غير المعصوم في تلك الحالة. انتهى. وقد قال الداودي بعد جزمه بأنه كان منافقًا: وقيل: كان بدريّا، فإن صح فقد ¬

_ (¬1) "المفهم" 6/ 153 - 154.

وقع ذلك قبل شهودها؛ لانتفاء النفاق عمن شهدها. انتهى. وقد عرفتَ أنه لا ملازمة بين صدور هذه القضية منه، وبين النفاق. وقال ابن التين: إن كان بدريا، فمعنى قوله: {لَا يُؤمِنُونَ} لا يستكملون الإيمان. انتهى (¬1). (خَاصَمَ الزُّبَيْرَ) وفي رواية معمر عند البخارىّ: "خاصم الزبيرُ رجلًا". والمخاصمة: مفاعلة من الجانبين، فكل منهما مخاصم للآخر. (عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-في شِرَاجِ الحرَّةِ) "الشِّرَاج" -بكسر المعجمة، وبالجيم-: جمع شَرْج -بفتح أوله، وسكون الراء- مثل بَحْر وبِحَار ويجمع على شُرُوج أيضا. وحكى ابن دُريد شَرَج -بفتح الراء-. وحكى القرطبي شَرَجَة. والمراد بها هنا: مَسِيلُ الماء، وإنما أضيفت إلى الحرة؛ لكونها فيها. و"الحرّة": موضع معروف بالمدينة، وهي في خمسة مواضع، المشهور منها اثنتان: حَرّة واقم، وحَرّةُ ليلى. وقال الداوديّ: هو نهر عند الحرة بالمدينة، فأغرب، وليس بالمدينة نهر. قال أبو عبيد: كان بالمدينة واديان يسيلان بماء المطر، فيتنافس الناس فيه، فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للأعلى فالأعلى. (الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ) وفي رواية شعيب عند البخاريّ: "كانا يسقيان بها كلاهما". (فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ) أي للزبير (سَرِّحِ الماءَ) فعل أمر من التسريح: أي أطلقه. وقوله: (يَمُرُّ) جملة في محلّ نصب على الحال من "الماء"، أي حال كونه مارّا. وإنما قال له ذلك؛ لأن الماء كان يمرّ بأرض الزبير، قبل أرض الأنصاري، فيحبسه؛ لإكمال سقي أرضه، ثم يرسله إلى أرض جاره، فالتمس منه الأنصاري تعجيل ذلك (فَأبَى عَلَيْهِ) أي فامتنع الزبير من التسريح قبل إكمال سقي أرضه (فَاخْتَصَمَا عِنْدَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-) مشيرًا إلى الصلح، قبل القضاء (اسْقِ يَا زُبَيْرُ) بوصل الهمزة، وقطعها، يقال: سقاه، وأسقاه، قال الله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]، ¬

_ (¬1) "فتح" 5/ 308 - 309.

وقال تعالى: {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16]. وزاد في رواية البخاريّ: "فأمره بالمعروف"، وهي جملة معترضة من كلام الراوي، وقد أوضحه شعيب في روايته، حيث قال في آخره: "وكان قد أشار على الزبير برأي، فيه سعة له وللأنصاري"، وضبطه الكرماني: "فأَمِرَّهُ" -بكسر الميم، وتشديد الراء- على أنه فعل أمر من الإمرار، وهو محتمل. (ثُمَّ أَرْسِلِ الماءَ إِلَى جَارِكَ، فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ) -بفتح همزة "أَنْ"- وهي للتعليل، كأنه قال: حكمت له بالتقديم؛ لأجل أنه ابن عمتك، أي لأن أم الزبير: هي صفية بنت عبد المطلب، عمّة النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. وقال البيضاوي: يُحذف حرف الجر من "أَنْ" كثيرًا" تخفيفًا، والتقدير: لأن كان، أو بأن كان، ونحوهُ: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم: 14]: أي لا تطعه لأجل ذلك. وحكى القرطبي تبعا لعياض أن همزة "أن" ممدودة، قال: لأنه استفهام على جهة إنكار. قال الحافظ: ولم يقع لنا في الرواية مَدٌّ، لكن يجوز حذف همزة الاستفهام. وحكى الكرماني: "إِنْ كان" -بكسر الهمزة- على أنها شرطية، والجواب محذوف. قال الحافظ: ولا أعرف هذه الرواية، نعم وقع في رواية عبد الرحمن بن إسحاق: فقال: "اعدِل يا رسول الله، وإن كان ابن عمتك"، والظاهر "أَنْ" هذه بالكسر، و"ابْنَ" بالنصب على الخبرية، ووقع في رواية معمر عند البخاريّ: "أنه ابن عمتك". قال ابن مالك: يجوز في "أنه" -بفتح الهمزة، وكسرها-؛ لأنها وقعت بعد كلام تام، معلل بمضمون ما صُدِّر بها، فإذا كُسرت قدر ما قبلها الفاءُ، وإذا فتحت قُدّر ما قبلها اللامُ، وبعضهم يقدر بعد الكلام المصدر بالمكسورة، مثل ما قبلها مقرونا بالفاء، فيقول في قوله مثلا: اضربه إنه مسيِء: اضربه إنه مسيء، فاضربه، ومن شواهده: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32] ولم يُقرأ هنا إلا بالكسر، وإن جاز الفتح في العربية، وقد ثبت الوجهان في قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 28] قرأ نافع، والكسائي: {إِنَّهُ} بالفتح، والباقون بالكسر. انتهى.

(فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-) أي تغير، وهو كناية عن الغضب، زاد عبد الرحمن بن إسحاق في روايته: "حتى عرفنا أن قد ساءه ما قال". والمعني أن وجهه -صلى الله عليه وسلم- تغيّر من شدّة الغضب؛ لانتهاك حرمات النبوة، وقبح كلام هذا الإنسان. (ثُمَّ قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (يَا زُبَيْرُ اسْقِ) بالضبطين المتقدّمين (ثُمَّ احْبِسِ الماءَ) بكسر الباء الموحّدة: أمر من الحبس: أي أمسكه (حَتَّى يَرْجعَ إِلَى الجدْر) أي يصير إليه. قال النوويّ رحمه الله تعالى: أما الجدر فبفتح الجيم وكسرها، وبالدال المهملة، وهو: الجدار، وجمع الجدار جُدُر ككتاب وكتب، وجمع الْجَدْر جُدُور، كفلس وفلوس. ومعنى يرجع التي الجدر: أي يصير اليه، والمراد بالجدر أصل الحائط. وقيل أصول الشجر، والصحيح الأول. وقدره العلماء أن يرتفع الماء في الأرض كلها حتى يبتل كعب رِجْلِ الإنسان، فلصاحب الأرض الأولى التي تلي الماء أن يحبس الماء في الأرض إلى هذا الحد، ثم يرسله إلى جاره الذي وراءه، وكان الزبير صاحب الأرض الأولى، فَأَدَلّ عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال: "اسق، ثم أرسل الماء إلى جارك": أي اسق شيئا يسيرًا، دون قدر حقك، ثم أرسله إلى جارك؛ إدلالًا على الزبير، ولعلمه بأنه يرضى بذلك، ويؤثر الإحسان إلى جاره، فلما قال الجار ما قال، أمره أن يأخذ جميع حقه. انتهى (¬1). وقال في "الفتح": "الجدر" -بفتح الجيم، وسكون الدال المهملة- هو المُسَنّاة، وهو: ما وضع بين شَرَبَات النخل، كالجدار. وقيل: المراد الحواجز التي تَحْبِس الماء، وجزم به السهيلي. ويُروَى "الْجُدُر" بضم الدال، حكاه أبو موسى، وهو جمع جِدار. وقال ابن التين: ضُبِط في أكثر الروايات بفتح الدال، وفي بعضها بالسكون، وهو الذي في اللغة، وهو أصل الحائط. وقال القرطبي: لم يقع في الرواية إلا بالسكون، والمعنى أن يصل الماء إلى أصول النخل. قال: ويُروَى -بكسر الجيم-: وهو الجدار، والمراد به جُدران الشَّرَبَات التي في أصول النخل، فإنها تُرفَعُ، حتى تصير تشبه الجدار. ¬

_ (¬1) "شرح مسلم" للنوويّ رحمه الله تعالى 11/ 108.

و"الشَّرَبَات"-بمعجمة، وفتحات: هي الْحُفَرُ التي تُحفَر في أصول النخل. وحكى الخطابي "الجذر" بسكون الذال المعجمة، وهو جذر الحساب، والمعنى حتى يبلغ تمام الشرب. قال الكرماني: المراد بقوله: "أمسك" أي أمسك نفسك عن السقي، ولو كان المراد أمسك الماء، لقال بعد ذلك: أرسل الماء إلى جارك. وتُعُقّب بأنه ثبت التصريح به في هذه الرواية، حيث قال: "احبس الماء"، وفي رواية معمر عند البخاريّ في "التفسير" قال: "ثم أرسل الماء إلى جارك". والحاصل أن أمره بإرسال الماء كان قبل اعتراض الأنصاري، وأمره بحبسه كان بعد ذلك. وقال في "المفهم": والمخاصمة: إنما كانت في السقي بالماء الذي يَسيل فيها، وكان الزبير يتقدّم شَرْبُهُ على شَرْب الأنصاريّ، فكان الزبير يُمسك الماء لحاجته، فطلب الأنصاريّ أن يُسرّحه له قبل استيفاء حاجته، فلما ترافعا إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- سلك النبيّ -صلى الله عليه وسلم- معهما مسلك الصلح، فقال له: "اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك: أي تساهل في سقيك، وعَجِّلْ في إرسال الماء إلى جارك، يَحُضُّه على المسامحة والتيسير، فلما سمع الأنصاريّ بهذا لم يَرْضَ بذلك، وغَضِبَ لأنه كان يُريد أن لا يُمسك الماء أصلًا، وعند ذلك نطق بالكلمة الجائرة المهلِكة الفاقرة، فقال: آن كان ابن عمّتك؟ بمدّ همزة "أن" المفتوحة، لأنه استفهام على جهة الإنكار: أي أتحكم له عليّ؛ لأجل أنه من قرابتك؟ وعند ذلك تلوّن وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غضبًا، وتألمًا من كلمته، ثم إنه بعد ذلك حكم للزبير باستيفاء حقّه، فقال: "اسق يا زبير، ثم أمسك الماء حتى يرجع إلى الجدر". وفي غير هذه الرواية (¬1): "فاستوعى للزبير حقّه". انتهى (¬2). ¬

_ (¬1) هي رواية البخاريّ برقم (2362). (¬2) "المفهم" 6/ 154.

[تنبيه]: ذكر البخاريّ رحمه الله تعالى في "صحيحه" بعد سوقه الحديث من طريق ابن جريج، عن الزهريّ: ما نصّه: فقال لي ابن شهاب: فقدّرت الأنصار والناس قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "اسق، ثم احبس حتى يرجع إلى الجدر، وكان ذلك إلى الكعبين". انتهى. قال في "الفتح": قوله: فقال لي ابن شهاب "القائل هو ابن جريج، راوي الحديث. وقوله: "وكان ذلك إلى الكعبين" يعني أنهم لمّا رأوا أن الجدر يختلف بالطول والقصر، قاسوا ما وقعت فيه القصّة، فوجدوه يبلغ الكعبين، فجعلوا ذلك معيارًا لاستحقاق الأول، فالأول. والمراد بالأول هنا من يكون مبدأ الماء من ناحيته. وقال بعض المتأخرين من الشافعيّة: المراد من لم يتقدمه أحد في الغِرَاس بطريق الإحياء، والذي يليه من أحيا بعده، وهَلُمِّ جّرّا. قال: وظاهر الخبر أن الأول من يكون أقرب إلى مجرى الماء، وليس هو المرادَ. وقال ابن التين: الجمهور على أن الحكم أن يُمْسك إلى الكعبين، وخصه ابن كنانة بالنخل والشجر، قال: وأما الزروع فإلى الشِّرَاك. وقال الطبري: الأراضي مختلفة، فيمسك لكل أرض ما يكفيها؛ لأن الذي في قصة الزبير واقعة عين. واختلف أصحاب مالك، هل يرسل الأول بعد استيفائه جميع الماء، أو يرسل منه ما زاد على الكعبين، والأول أظهر. ومحله إذا لم يبق له به حاجة. والله أعلم. وقد وقع في مرسل عبد الله بن أبي بكر في "الموطإ": "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى في مسيل مَهْزور، ومُّذَينب أن يمسك حتى يبلغ الكعبين، ثم يرسل الأعلى على الأسفل". و"مهزور" -بفتح أوله، وسكون الهاء، وضم الزاي، وسكون الواو، بعدها راء. و"مُذينب" -بذال معجمة، ونون بالتصغير-: واديان معروفان بالمدينة وله إسناد موصول في غرائب مالك للدارقطني، من حديث عائشة، وصححه الحاكم، وأخرجه أبو داود، وابن ماجه والطبري من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وإسناد كل منهما حسن. وأخرج عبد، الرزاق هذا الحديث المرسل، بإسناد آخر

موصول، ثم رَوَى عن معمر، عن الزهري قال: نظرنا في قوله: "احبس الماء حتى يبلغ الجدر"، فكان ذلك إلى الكعبين. انتهى. وقد رَوَى البيهقي من رواية ابن المبارك، عن معمر قال: سمعت غير الزهري يقول: نظروا في قوله: "حتى يرجع إلى الجدر"، فكان ذلك إلى الكعبين، وكأن معمرا سمع ذلك من ابن جريج، فأرسله في رواية عبد الرزاق، وقد بين ابن جريج أنه سمعه من الزهري. ووقع في راوية عبد الرحمن بن إسحاق: احبس الماء إلى الجدر، أو إلى الكعبين"، وهو شك منه، والصواب ما رواه ابن جريج. وذكر الشاشي من الشافعية أن معنى قوله: "إلى الجدر": أي إلى الكعبين، وكأنه أشار إلى هذا التقدير، وإلا فليس الجدر مرادفا للكعب. انتهى (¬1). (قَالَ) عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما (فَقَالَ الزُّبَيْرُ) رضي الله تعالى عنه (وَاللهِ إِنِّي لَأَحْسِبُ هَذهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ في ذَلِكَ) قال في "الفتح": ووقع في رواية ابن جريج: "فقال الزبير: والله إن هذه الآية أنزلت في ذلك"، وفي رواية عبد الرحمن بن إسحاق: "ونزلت: {فَلَا وَرَبِّكَ} الآية [النساء: 65]. والراجح رواية الأكثر، وأن الزبير كان لا يجزم بذلك لكن. وقع في رواية أم سلمة عند الطبري، والطبراني، الجزم بذلك، وأنها نزلت في قصة الزبير وخصمه، وكذا في مرسل سعيد بن المسيب، الذي تقدمت الإشارة إليه. وجزم مجاهد، والشعبي بأن الآية إنما نزلت فيمن نزلت فيه الآية التي قبلها، وهي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} الآية [النساء: 60]. فرَوَى إسحاق ابن راهويه في "تفسيره" بإسناد صحيح، عن الشعبي قال: كان بين رجل من اليهود، ورجل من المنافقين خصومة، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه على علم أنه لا يقبل الرشوة، ودعا المنافق اليهودي إلى حُكّامهم؛ لأنه علم أنهم يأخذونها، فأنزل الله هذه الآيات، إلى قوله: {وَيُسَلِّمُوا ¬

_ (¬1) "فتح" 5/ 313 - 314.

تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد نحوه. وروى الطبري بإسناد صحيح عن ابن عباس: أن حاكم اليهود يومئذ كان أبا برزة الأسلميّ قبل أن يُسْلِم، ويَصْحَبَ. ورَوَى بإسناد آخر صحيح إلى مجاهد: أنه كعب بن الأشرف. وقد رَوَى الكلبي في "تفسيره" عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية، في رجل من المنافقين، كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: انطلق بنا إلى محمد، وقال المنافق: بل نأتي كعب بن الأشرف، فذكر القصة، وفيه: أن عمر قتل المنافق، وأن ذلك سبب نزول هذه الآيات، وتَسميةِ عمر الفاروقَ، وهذا الإسناد، وإن كان ضعيفا، لكن تقوى بطريق مجاهد، ولا يضره الاختلاف، لإمكان التعدد. وأفاد الواحدي بإسناد صحيح، عن سعيد، عن قتادة، أن اسم الأنصاري المذكور قيس. ورجح الطبري في "تفسيره" وعزاه إلى أهل التأويل في "تهذيبه" أن سبب نزولها هذه القصة؛ ليتسق نظام الآيات كلها في سبب واحد، قال: ولم يَعرِض بينها ما يقتضي خلاف ذلك، ثم قال: ولا مانع أن تكون قصة الزبير وخصمه وقعت في أثناء ذلك، فيتناولها عموم الآية (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الطبريّ رحمه الله تعالى حسنٌ جدًّا؛ جمعًا بين الآثار المذكورة، وإلا فما في "الصحيح" أصحّ. والله تعالى أعلم. {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في "تفسيره": يُقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدّسة أنه لا يؤمن أحد حتى يُحَكِّمَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- في جميع الأمور، فما حكم به، فهو الحقّ الذي يجب الإنقياد له باطنًا وظاهرًا، ولهذا قال {ثُمَّ لَا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] أي إذا حكّموك يطيعونك في بواطنهم، فلا يجدون في أنفسهم حَرَجًا مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن، فيُسلّمون لذلك تسليمًا كليًّا من غير ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 5/ 310 - 311.

ممانعة، ولا مدافعة، ولا منازعة. انتهى (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما هذا متّفق عليه. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا بهذا السند فقط، و (البخاريّ) في "الشِّرْب" عن عبد الله ابن يوسف، عن الليث، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، أن عبد الله بن الزبير حدّثه الخ. و (مسلم) في "فضائل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قتيبة، ومحمد بن رُمح، كلاهما عن الليث به. و (أبو داود) في "القضايا" عن أبي الوليد الطيالسيّ، عن الليث به. و (الترمذيّ) في "الأحكام"، و"التفسير"عن قتيبة"، عن الليث به، و (النسائيّ) في "القضاء" و"التفسير" عن قتيبة به، و (أحمد) (4/ 4) عن هاشم بن القاسم، عن الليث به و (عبد ابن حميد) (519) عن أبي الوليد، عن الليث به. و "الطبريّ" في "تفسيره" 9912 و 9913. و (ابن حبّان) في "صحيحه" (24) و (الحاكم) 3/ 364. و (البيهقيّ) (6/ 153 و 10/ 106) و"البغويّ) في "شرح السنّة" (2194)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو تعظيم حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والتغليظ على من عارضه. 2 - (ومنها): أن للحاكم أن يشير بالصلح بين الخصمين، ويأمر به، ويرشد إليه، ولا يُلزِمه به إلا إذا رضي، وأن الحاكم يستوفي لصاحب الحق حقه، إذا لم يتراضيا، وأن يحكم بالحق لمن توجه له، ولو لم يسأله صاحب الحق. ¬

_ (¬1) "تفسير ابن كثير" 1/ 532.

3 - (ومنها): أن الأولى بالماء الجاري هو الأول، فالأول حتى يستوفي حاجته. قال القرطبيّ: وهذا ما لم يكن أصله ملكًا للأسفل، مختصّا به، فليس للأعلى أن يشرب منه شيئًا، وإن كان يمرّ عليه. 4 - (ومنها): أن من سبق إلى شيء من مياه الأودية والسيول التي لا تُملَك، فهو أحق به، لكن ليس له إذا استغنى أن يَحبِس الماء عن الذي يليه. 5 - (ومنها): الصفح والعفو عن جفاء الخصوم، ما لم يؤدّ إلى هتك حرمة الشرع، والاستهانة بأحكامه، فإن أدّى إلى ذلك أُدّب المرتكب، وهذا هو الذي صدر من خصم الزبير، فقد آذى النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ولكنه لم يقتله؛ لعظيم حلمه، وكريم صفحه؛ امتثالًا لأمر الله عز وجل له بقوله: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85]، وقوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، ولئلا يكون قتله منفّرًا لغيره عن الدخول في دين الإسلام. قال القرطبي رحمه الله تعالى في "المفهم": فلو صدر اليوم مثل هذا من أحد في حقّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لقُتل قِتْلَةَ زنديق. انتهى (¬1). وقال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرح مسلم": قال العلماء: فلو صدر مثل هذا الكلام الذي تكلم به الأنصاري اليوم من إنسان، من نسبته -صلى الله عليه وسلم- إلى هوى، كان كفرًا، وجرت على قائله أحكام المرتدين، فيجب قتله بشرطه، قالوا: وإنما تركه النبي -صلى الله عليه وسلم-، لأنه كان في أول الإسلام يتألف الناس، ويَدْفَع بالتي هي أحسن، ويصبر على أذى المنافقين، ومن في قلبه مرض، ويقول: يَسِّرُوا ولا تُعَسِّروا، وبَشِّروا ولا تنفروا"، ويقول: "لا يتحدث الناس أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- يقتل أصحابه"، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13]. انتهى (¬2). ¬

_ (¬1) "الفهم" 6/ 157. (¬2) "شرح مسلم" 15/ 108.

6 - (ومنها): ما قاله القرطبيّ: أن فيه الاكتفاء من الخصوم بما يُفهم عنه مقصودهم، وأن لا يكلّفوا النصّ على الدعاوي، ولا تحديد المدّعى فيه، ولا حصره بجميع صفاته، كما قد تنطّع في ذلك قُضاة الشافعيّة. انتهى (¬1). 7 - (ومنها): أن القدر الذي يستحقّ الأعلى من الماء كفايته، وغاية ذلك أن يبلُغ الماء إلى الجدر، وقد سبق أن العلماء قدّروه بأن يرتفع الماء في الأرض كلّها، حتى يبتلّ كعب الإنسان. 8 - (ومنها): ما حكاه الخطابي أن فيه دليلا على جواز فسخ الحاكم حكمه، قال: لأنه كان له في الأصل أن يحكم بأي الأمرين شاء، فقدم الأسهل إيثارًا لحسن الجوار، فلما جَهِلَ الخصم موضع حقه، رجع عن حكمه الأول، وحكم بالثاني؛ ليكون ذلك أبلغ في زجره. وتُعُقّب بأنه لم يثبت الحكم أوّلا كما تقدم بيانه. قال: وقيل: بل الحكم كان ما أَمَرَ به أوّلا، فلما لم يقبل الخصم ذلك عاقبه بما حَكَم عليه به ثانيًا على ما بدر منه، وكان ذلك لما كانت العقوبة بالأموال انتهى. وقد وافق ابن الصباغ من الشافعية على هذا الأخير. وفيه نظر، وسياق طُرُق الحديث يأبى ذلك، كما ترى لا سيما قوله: "واستَوْعَى للزبير حقه، في صريح الحكم"، فمجموع الطُّرُق دال على أنه أَمَرَ الزبير أوّلا أن يترك بعض حقه، وثانيا أن يستوفي جميع حقه. قاله في "الفتح" (¬2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله المذكور أول الكتاب قال: 16 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَن رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ الله، أَنْ يُصَلِّينَ ¬

_ (¬1) "المفهم" 6/ 156. (¬2) "فتح" 5/ 313.

في المُسْجِدِ"، فَقَالَ ابْن لَهُ: إِنَّا لنَمْنَعُهُنَّ، فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَقَالَ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، تَقُولُ: إِنَّا لنَمْنَعُهُنَّ". رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (محمد يحيى) بن عبد الله بن خالد بن فارس بن ذؤيب الذُّهْليّ، أبو عبد الله النيسابوريّ، ثقة حافظٌ جليلٌ إمام [11]. رَوَى عن عبد الرحمن بن مهدي، وبشر بن عمر الزهراني، ومحمد بن بكر البرساني، ووهب بن جرير بن حازم، وأزهر بن سعد السمان، وعبد الرزاق، وخلق كثير. ورَوَى عنه الجماعة، سوى مسلم، ولم يصرح البخاري به، بل يقول تارة: ثنا محمد، وتارة: ثنا محمد بن عبد الله، وتارة: محمد بن خالد، ولم يقل في موضع: ثنا محمد ابن يحيى، وابنه يحيى بن محمد بن يحيى، وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان، وخلق كثير. قال محمد بن سهل بن عسكر: كنا عند أحمد بن حنبل، فدخل الذهلي، فقام إليه أحمد، فتعجب الناس منه، ثم قال لبنيه وأصحابه: اذهبوا إلى أبي عبد الله، واكتبوا عنه، وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: محمد بن يحيى إمام زمانه، قال: وكتب عنه أبي بالري، وهو ثقة صدوق، إمام من أئمة المسلمين، سئل أبي عنه؟ فقال: ثقة. وقال النسائي: ثقة مأمون. وقال ابن أبي داود: حدثنا محمد بن يحيى النيسابوري، وكان أمير المؤمنين في الحديث. وقال ابن عقدة، عن ابن خِراش: كان محمد بن يحيى من أئمة العلم. وقال الخطيب: كان أحد الأئمة العارفين، والحفاظ المتقنين، والثقات المأمونين، صنَّفَ حديث الزهري، وجَوَّده، وقال النسائي في "مشيخته": ثقة ثبت أحد الأئمة في الحديث. وقال ابن خزيمة: ثنا محمد بن يحيى الذهلي، إمام أهل عصره بلا مدافعة، وقال الذهلي: قال لي علي بن المديني: أنت وارث الزهري. وقال ابن قانع: مات سنة اثنتين، وقيل: سنة ست وخمسين ومائتين. وقال أبو بكر بن زياد: مات سنة سبع. وقال أبو حامد بن الشرقي، وأبو عبد الله بن الأخرم، وغير واحد: مات سنة ثمان وخمسين ومائتين. قال الخطيب: وهو الصواب، وبلغني أن

وفاته في أحد الربيعين منها، وبلغ ستا وثمانين سنة. روى عنه الجماعة، سوى مسلم، وله في هذا الكتاب (218) حديثًا. 2 - (عبد الرزّاق) بن همّام بن نافع الْحِمْيريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقة حافظٌ مصنّف شهير، عَمِي في آخر عمره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9]. رَوَى عن أبيه، وعمه وهب، ومعمر، وعبيد الله بن عمر العمري، وأخيه عبد الله ابن عمر العمري، وأيمن بن نابل، وعكرمة بن عمار، وابن جريج، والأوزاعي، ومالك، والسفيانين، وخلق كثير. ورَوَى عنه ابن عيينة، ومعتمر بن سليمان، وهما من شيوخه، ووكيع، وأبو أسامة، وهما من أقرانه، وأحمد، وإسحاق، وعلي، ويحيى، وأبو خيثمة، وأحمد بن صالح، وإبراهيم بن موسى، وعبد الله بن محمد المسندي، وخلق كثير. قال الأثرم: سمعت أحمد يُسأل عن حديث: "النارُ جُبَارٌ"، فقالا: ومن يحدث به عن عبد الرزاق؟ قلت: حدثني أحمد بن شبويه، قال: هؤلاء سمعوا بعدما عَمِيَ، كان يُلَقِّن، فَلُقِّنَهُ، وليس هو في كتبه، كان يلقنها بعد ما عَمِي. وقال حنبل بن إسحاق عن أحمد: نحو ذلك، وزاد من سمع من الكتب فهو أصح. وقال أبو زرعة الدمشقي: قلت لأحمد: من أثبت في ابن جريج، عبد الرزاق أو البرساني؟ قال: عبد الرزاق. وقال أيضا: أخبرني أحمد، أنا عبد الرزاق قبل المائتين، وهو صحيح البصر، ومن سمع منه بعدما ذهب بصره، فهو ضعيف السماع. وقال عباس الدُّوري عن ابن معين: كان عبد الرزاق أثبت في حديث معمر، من هشام بن يوسف، وكان هشام في ابن جريج، أقرأ للكتب. وقال يعقوب بن شيبة عن علي بن المديني: قال لي هشام بن يوسف: وكان محمد الرزاق أعلمنا وأحفظنا. "قال يعقوب: وكلاهما ثقة ثبت. وقال الحسن بن جرير الصوري، عن علي بن هاشم، عن عبد الرزاق: كتبت عن ثلاثة، لا أبالي أن لا أكتب عن غيرهم، كتبت عن ابن الشاذكوني، وهو من أحفظ الناس، وكتبت عن يحيى بن معين، وهو من أعرف الناس بالرجال، وكتبت عن أحمد بن حنبل، وهو من أثبت الناس. وقال جعفر

الطيالسي: سمعت ابن معين، قال: سمعت من عبد الرزاق كلاما، استدللت به على ما ذُكر عنه من المذهب، فقلت له: إن أستأذيك الذين أخذت عنهم ثقات، كلهم أصحاب سنة: معمر، ومالك، وابن جريج، والثوري، والأوزاعي، فعمن أخذت هذا المذهب؟ قال: قدم علينا جعفر بن سليمان، فرأيته فاضلًا، حسن الهدي، فأخذت هذا عنه. وقال محمد بن أبي بكر المُقَدَّميّ: وجدت عبد الرزاق ما أفسد جعفرا غيره، يعني في التشيع. وقال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين، وقيل له: قال أحمد إن عبيد الله بن موسى يُرَدّ حديثه للتشيع، فقال: كان عبد الرزاق -والله الذي لا إله إلا هو- أغلى في ذلك منه مائة ضعف، ولقاء سمعت من عبد الرزاق إضعاف ما سمعت من عبيد الله. وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي، هل كان عبد الرزاق يتشيع ويُفرط في التشيع؟ فقال: أما أنا فلم أسمع منه في هذا شيئا. وقال عبد الله بن أحمد: سمعت سلمة بن شبيب يقول: سمعت عبد الرزاق يقول: والله ما انشرح صدري قط أن أفضل عليا على أبي بكر وعمر، رحم الله أبا بكر وعمر وعثمان، من لم يحبهم فما هو مؤمن، وقال: أوثق أعمالي حبي إياهم. وقال أبو الأزهر: سمعت عبد الرزاق يقول: أفضل الشيخين بتفضيل علي إياهما على نفسه، ولو لم يفضلهما ما فضلتهما، كَفَى بي ازدراءً أن أحب عليا، ثم أخالف قوله. وقال النسائي: فيه نظر لمن كتب عنه بآخره، كتب عنه أحاديث مناكير. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، ولا يُحتج به. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان ممن يخطىء إذا حدث من حفظه، على تشيع فيه، وكان ممن جَمَع، وصَنّف، وحفظ، وذاكر. وقال الآجري عن أبي داود: الفريابي أحب إلينا منه، وعبد الرزاق ثقة. وقال أبو داود: سمعت الحسن بن علي الحلواني يقول: سمعت عبد الرزاق، وسئل أتزعم عليا كان على الهدى في حروبه؟ قال: لا ها الله، إذًا يزعم على أنها فتنة، وأتقلدها له هذا. قال أبو داود: وكان عبد الرزاق يُعَرِّض بمعاوية. وقال محمد بن إسماعيل الفزاري: بلغني ونحن بصنعاء، أن أحمد ويحيى تركا حديث عبد الرزاق، فدخلنا غَمٌّ شديدٌ، فوافيت ابن معين في الموسم، فذكرت له، فقال: يا أبا صالح لو ارتد عبد الرزاق ما تركنا

حديثه. ورُوي عن عبد الرزاق أنه قال: حججت فمكثت ثلاثة أيام، لا يجيئني أصحاب الحديث، فتعلقت بالكعبة، وقلت: يا رب مالي، أكذاب أنا، أمدلس أنا؟ فرجعت إلى البيت، فجاؤوني. وقال العجلي: ثقة يتشيع، وكذا قال البزار. وقال الذهلي: كان عبد الرزاق أيقظهم في الحديث، وكان يحفظ. وقال إبراهيم بن عباد الدَّبَريّ: كان عبد الرزاق يحفظ نحوا من سبع عشرة ألف حديث. وقال ابن عدي: ولعبد الرزاق أصنافٌ وحديث كثير، وقد رحل إليه ثقات المسلمين وأئمتهم، وكتبوا عنه، إلا أنهم نسبوه إلى التشيع، وقد روى أحاديث في الفضائل، لم يتابع عليها، فهذا أعظم ما ذَمُّوه من روايته لهذه الأحاديث، ولما رواه في مثالب غيرهم، وأما في باب الصدق، فأرجو أنه لا بأس به. قال أحمد وغيره: مولده سنة ست وعشرين ومائة. وقال البخاري وغير واحد: مات سنة إحدى عشرة ومائتين، زاد ابن سعد في شوال. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (76) حديثًا. 3 - (معمر) بن راشد الأزديّ الحُدّانيّ مولاهم، أبو عُروة بن أبي عمرو البصريّ، نزيل اليمن، شَهِدَ جنازة الحسن البصري، ثقة ثبت فاضل، إلا أن في روايته عن ثابت، والأعمش، وهشام بن عروة شيئًا، وكذا فيما حدّث به بالبصرة، من كبار [7]. رَوَى عن ثابت البناني، وقتادة، والزهري، وعاصم الأحول، وأيوب، والجعد أبي عثمان، وزيد بن أسلم، وصالح بن كيسان، وعبد الله بن طاوس، وجعفر بن بُرْقان، والحكم بن أبان، وخلق كثير. ورَوَى عنه شيخه يحيى بن أبي كثير، وأبو إسحاق السبيعي، وأيوب، وعمرو بن دينار، وهم من شيوخه، وسعيد بن أبي عروبة، وأبان العطار، وابن جريج، وعمران القطان، وهشام الدستوائي، وعبد الرزّاق، وخلق كثير. قال عبد الرزاق عن معمر: طلبت العلم سنة مات الحسن، وعنه قال: جلست إلي قتادة، وأنا ابن أربع عشرة سنة، فما سمعت منه حديثا إلا كأنه يُنقش في صدري،

وعَدّه علي بن المديني، وأبو حاتم فيمن دار الإسناد عليهم. وقال الميموني عن أحمد: ما نَضُمّ أحدا إلى معمر إلا وجدت معمرا يتقدمه في الطلب، كان من أطلب أهل زمانه للعلم، وكذا قال أبو طالب، والفضل بن زياد عن أحمد نحوه. وقال الدُّوري عن ابن معين: أثبت الناس في الزهري مالك، ومعمر، ثم عَدَّ جماعة. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: معمر أثبت في الزهري من ابن عيينة. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: معمر أحب إليك في الزهري أو ابن عيينة، أو صالح بن كيسان، أو يونس؟ فقال: في كل ذلك معمر. وقال الغلابي: سمعت ابن معين يُقَدِّم مالك بن أنس على أصحاب الزهري، ثم معمرا، قال: ومعمر عن ثابت ضعيف. وقال معاوية بن صالح عن ابن معين: ثقة. وقال عمرو بن علي: كان من أصدق الناس. وقال العجلي: بصري سكن اليمن ثقة، رجل صالح. قال: ولما دخل صنعاء كرهوا أن يخرج من بين أظهرهم، فقال لهم رجل: قيدوه، فزوجوه. وقال أبو حاتم: ما حدث معمر بالبصرة فيه أغاليط، وهو صالح الحديث. وقال يعقوب بن شيبة: معمر ثقة، وصالح ثبتٌ عن الزهري. وقال النسائي: ثقة مأمون. وقال أحمد بن حنبل عن عبد الرزاق، عن ابن جريج: عليكم بهذا الرجل، فإنه لم يبق أحد من أهل زمانه أعلم منه، يعني معمرا. وقال ابن سعد في الطبقة الثالثة من أهل اليمن: كان معمر رجلا له قَدْرٌ ونُبْلٌ في نفسه، ولمّا خرج إلى اليمن شيعه أيوب حدثنا عبد الرحمن بن يونس، سمعت ابن عيينة يَسأل عبد الرزاق، فقال: أخبرني عما يقول الناس في معمر: إنه فُقِد، ما عندكم فيه؟ فقال: مات معمر عندنا، وحضرنا موته، وخلف على امرأته قاضينا مُطَرِّف بن مازن. وقال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: إذا حدثك معمر عن العراقيين، فخالفه إلا عن الزهري، وابن طاوس، فإن حديثه عنهما مستقيم، فأما أهل الكوفة، وأهل البصرة فلا، وما عمل في حديث الأعمش شيئًا، قال يحيى: وحديث معمر عن ثابت، وعاصم بن أبي النجود، وهشام بن عروة، وهذا الضرب مضطرب، كثير الأوهام. وقال الخليليّ: أثنى عليه الشافعي، ورَوَى ابن المبارك في "الرقاق" عن معمر، عن سعيد المقبري حديثًا، فقال

الحاكم: صحيح إن كان معمر سمع من سعيد. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان، فقيها حافظا متقنا ورعا، مات في رمضان سنة اثنتين أو ثلاث وخمسين ومائة. قال الواقدي وجماعة: مات سنة ثلاث. وقال أحمد، ويحيى، وعلي، مات سنة أربع، زاد أحمد: وهو ابن ثمان وخمسين. وقال الطبراني: كان معه بن راشد، وسَلْمَ بن أبي الذَّيّال فُقِدا، فلم يُرَ لهما أثر. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (71) حديثًا. 4 - (الزهري) محمد بن مسلم الإمام الحافط الثبت الحجة، رأس الطبقة [4] تقدّم 2/ 4. 5 - (سالم) بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب القرشيّ العدويّ، أبو عمر، ويقال: أبو عبد الله المدنيّ، أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، ثقة ثبت عابد فاضلٌ، كان يُشبّه بأبيه في الهدي والسَّمْت، من كبار [3]. رَوَى عن أبيه، وأبي هريرة، وأبي رافع، وأبي أيوب، وعن زيد بن الخطاب (¬1)، وأبي لبابة على خلاف فيه، وغيرهم. وروى عنه أبنه أبو بكر، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، والزهري، وصالح بن كيسان، وحنظلة بن أبي سفيان، وعبيد الله بن عمر بن حفص، وغيرهم. قال ابن المسيب: كَان عبد الله أشبه ولد عمر به، وكان سالم أشبه ولد عبد الله به. وقال مالك: لم يكن أحد في زمان سالم بن عبد الله أشبه من مضى من الصالحين في الزهد والفضل والعيش منه. وقال الأصمعي عن ابن أبي الزناد كان أهل المدينة يكرهون اتخاذ أمهات الأولاد، حتى نشأ فيهم القراء السادة: علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، ففاقوا أهل المدينة علمًا وتُقًى وعبادة وورعًا، فَرَغِبَ الناس حينئذ في السراري. وقال علي بن الحسن العسقلاني عن ابن ¬

_ (¬1) قال الحافظ: رواية سالم عن عم أبيه زيد بن الخطاب منقطعة قطعًا. والله أعلم. انتهى "تهذيب التهذيب" 1/ 677.

المبارك: كان فقهاء أهل المدينة سبعة، فذكره فيهم، قال: وكانوا إذا جاءتهم المسألة دخلوا فيها جميعًا، فنظروا فيها، ولا يقضي القاضي حتى يرفع إليهم، فينظرون فيها، فيَصْدُرون. وقال مالك: كان ابن عمر يخرج إلى السوق فيشتري، وكان سالم دهره يشتري في الأسواق، وكان من أفضل زمانه. وقال أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، أصح الأسانيد: الزهري، عن سالم، عن أبيه. وقال الدُّوري عن ابن معين: سالم، والقاسم، حديثهما قريب من السواء، وسعيد بن المسيب قريب منهما، وإبراهيم أعجب إلي مرسلًا منهم. وقال البخاري: لم يسمع من عائشة. وقال العجلي: مدني تابعي ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، عاليا من الرجال. وقال ابن حبان في "الثقات": كان يشبه أباه في السَّمْت والْهَدْي. وقال البخاري في "التاريخ الصغير": لا أدري سالم عن أبي رافع صحيح أم لا؟. وقال غيره: لمّا قَدِمَ سبي فارس على عمر، كان فيه بنات يَزدَجْردَ، فقُوِّمن، فأخذهن علي، فأعطى واحدة لابن عمر، فولدت له سالمًا، وأعطى أختها لولده الحسين، فولدت له عليًّا، وأعطى أختها لمحمد ابن أبي بكر، فولدت له القاسم. وقال أبو نعيم وجماعة: مات سنة ست ومائة، في ذي القعدة، أو ذي الحجة. وقال خليفة: سنة (7)، وقال الهيثم بن عدي: سنة (8)، وقال الأصمعي: سنة (5)، والأول أصح أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (54) حديثًا. 6 - (ابن عمر) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، تقدّم 1/ 4 والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها). أن رجاله كلهم رجال الجماعة إلا شيخه، فما أخرج له مسلم. 3 - (ومنها). أنه مسلسل بالمدنيين من ابن شهاب، وشيخه نيسابوريّ، والباقيان يمنيّان. 4 - (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعي عن تابعيّ.

5 - (ومنها): أن فيه سالمًا أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال. 6 - (ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا، وهو من المشهورين بالفتوى. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَا) ناهية، ولذا جُزم الفعل بعدها (تَمْنَعُوا إِمَاءَ الله) بكسر الهمزة: جمع أمة. قال في "المصباح": "الأمة": محذوفة اللام، وهي واو، والأصل: أَمَوَةٌ، ولهذا تردّ في التصغير، فيقال: أُميّةٌ، والأصل أُمَيْوَةٌ، وبالمصغّر سُمّي الرجل، والتثنية أَمَتَان على لغة المفرد، والجمعُ: آمٍ وِزَانُ قاضٍ، وإِمَاءٌ وِزَان كِتَابٍ، وإمْوَانٌ وِزانُ إِسْلام. وقد تُجمع على أَمَوَاتٍ، مثلُ سَنَوَاتٍ. انتهى (¬1). والتعبير بإماء الله أوقع في النفس من التعبير بالنساء، إذ فيه مناسبة تقتضي الإباحة، حيث عُلّق الحكم على الوصف المناسب، كأنه قيل: لا تمنعوا هؤلاء المملوكات عن بيوت مالكهنّ. أفاده بعض المحقّقين (¬2). (أَنْ يُصَلِّينَ في المسْجِدِ) "أن" بفتح الهمزة، وتخفيف النون مصدريّة، والفعل في تأويل المصدر مفعول ثان لمنع؛ لأنه يتعدّى بنفسه إلى مفعولين، يقال: منعته الأمرَ، ويتعدّى أيضًا إلى الثاني بـ "من"، فيقال: منعته من الأمر. قال في "المصباح": منعه الأمرَ، ومن الأمر مَنْعًا، فهو ممنوع منه: محروم. انتهى (فَقَالَ ابْنٌ لَهُ) أي لابن عمر رضي الله تعالى عنهما، واختَلفت الروايات في تسمية ابنه هذا، ففي رواية لمسلم تسميته بلالا، فقد أخرجه من طريق كعب بن علقمة، عن بلال بن عبد الله بن عمر، عن أبيه بلفظ: "لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد، إذا استأذنّكم، فقال بلال. والله لنمنعهن ... " الحديث. وللطبراني من طريق عبد الله بن هُبيرة، عن بلال بن عبد الله نحوه، وفيه: ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" 1/ 25. (¬2) راجع "العدّة حاشية العمدة" للعلامة الصنعاني 2/ 143 - 144.

"فقلت: أما أنا فسأمنع أهلي، فمن شاء فلْيُسَرِّح أهله". وفي رواية يونس، عن ابن شهاب الزهري، عن سالم، في هذا الحديث قال: فقال بلال بن عبد الله: "والله لنمنعهن"، ومثله في رواية عُقَيل عند أحمد، وعنده في رواية شعبة، عن الأعمش فقال سالم، أو بعض بنيه: "والله لا ندعهن يتخذنه دَغَلًا ... " الحديث. وفي رواية لمسلم من طريق عمرو بن دينار، عن مجاهد: فقال له ابن له، يقال له: واقد: إذًا يَتَّخِذنه دَغَلًا، قال: فضرب في صدره، وقال أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتقول: لا. قال الحافظ رحمه الله تعالى: والراجح من هذا أن صاحب القصة بلال؛ لورود ذلك من روايته نفسه، ومن رواية أخيه سالم، ولم يُختلف عليهما في ذلك، وأما هذه الرواية الأخيرة فمرجوحة؛ لوقوع الشك فيها، ولم أره مع ذلك في شيء من الروايات عن الأعمش مسمى، ولا عن شيخه مجاهد، فقد أخرجه أحمد من رواية إبراهيم بن مهاجر، وابن أبي نجيح، وليث بن أبي سُليم، كلهم عن مجاهد، ولم يسمه أحد منهم، فإن كانت رواية عمرو بن دينار، عن مجاهد محفوظة في تسميته واقدًا، فيحتمل أن يكون كل من بلال وواقد وقع منه ذلك، إما في مجلس، أو في مجلسين، وأجاب ابن عمر كلا منهما بجواب يليق به. ويقويه اختلاف النَّقَلَة في جواب ابن عمر، ففي رواية بلال عند مسلم: "فأقبل عليه عبد الله، فسبه سبا سيئا، ما سمعته يسبه مثله قط"، وفسر عبد الله ابن هُبيرة في رواية الطبراني السب المذكور باللعن ثلاث مرات. وفي رواية زائدة، عن الأعمش: "فانتهره، وقال: أُفّ لك"، وله عن ابن نمير، عن الأعمش: "فعل الله بك، وفعل"، ومثله للترمذي من رواية عيسى بن يونس. ولمسلم من رواية أبي معاوية: "فزبره". ولأبي داود من رواية جرير: "فسبّه، وغضب". فيحتمل أن يكون بلال البادئ، فلذلك أجابه بالسب المفسر باللعن، وأن يكون واقد بدأه فلذلك أجابه بالسب المفسر بالتأفيف، مع الدفع في صدره، وكأن السر في ذلك أن بلالا عارض الخبر برأيه، ولم يذكر علة الخالفة، ووافقه واقد، لكن ذكرها بقوله: "يتخذنه دَغَلًا"، وهو -بفتح المهملة، ثم المعجمة- وأصله الشجر الملْتَفّ، ثم

استعمل في المخادعة؛ لكون المخادع يَلُفّ في ضميره أمرا، ويظهر غيره، وكأنه قال ذلك لا رأى من فساد بعض النساء في ذلك الوقت، وحملته على ذلك الغيرة، وإنما أنكر عليه ابن عمر لتصريحه بمخالفة الحديث، هالا فلو قال مثلا: إن الزمان قد تغير، وإن بعضهن ربما ظهر منه قصد المسجد وإضمار غيره، لكان يظهر أن لا ينكر عليه. (إِنَّا لنَمْنَعُهُنِّ) أي نمنع النساء حضور المساجد (فَغَضِبَ) ابن عمر رضي الله تعالى عنهما على ابنه هذا (غَضَبًا شَدِيدًا) لمعارضته السنّة، كما بيّنه بقوله (وَقَالَ) أي اين عمر (أُحَدِّثُكَ عَن رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، وتَقُولُ: إِنَّا لنَمْنَعُهُنَّ) معارضًا للنصّ، وفي رواية لأحمد بن طريق ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "فما كلّمه عبد الله حتى مات" .. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنف) هنا من طريق سالم، عنه، و (الشافعي) (1/ 127)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّقه" (5107)، و (الحميديّ) في "مسنده" (612)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" 2/ 383، و (أحمد) في "مسنده" 2/ 7 و 9 و 57 و140 و 143 و151 و 156 و (الدارمي) في "سننه" (448)، و (البخاريّ) 1/ 219 و 220 و 7/ 49 و (مسلم) 2/ 32 و (النسائي) 2/ 42 و (ابن خزيمة) في "صحيحه" (1677) و (أبو عوانة) 2/ 56 و 57 و (البيهقيّ) في "الكبرى"3/ 132 و (البغويّ) في "شرح السنّة" (862). وأخرجه من طريق نافع، عنه (أحمد) 2/ 16/ و 36 و45 و151، و (البخاريّ) 2/ 7 و (مسلم) 2/ 33 و (أبو داود) (568)، و (ابن خزيمة) (1678) و (أبو عوانة) 2/ 59، و (ابن حبان) (2208) و (2209). وأخرجه من طريق مجاهد، عنه (عبد الرزاق) (5108) و (الطيالسيّ) (1892)،

و (أحمد) 2/ 36 و 43 و 49 و 98 و 127 و143و145و (عبد بن حميد) (805)، و (البخاري) 2/ 7 و (مسلم) 2/ 33 و (أبو داود) (568) و (الترمذيّ) (570) و (ابن حبان) (2210) و (أبو عوانة) 2/ 57 - 58 و (الطبرانيّ) في "الكبير" (13471) و (13472) و (13565) و (13570) و (البيهقي) في "الكبرى" 3/ 132. وأخرجه من طريق حبيب ابن أبي ثابت، عنه (أحمد) 2/ 76 و (أبو داود) (567) و (ابن خزيمة) (1684) و (البيهقيّ) 3/ 131 و (البغويّ) في "شرح السنة" (864). وأخرجه من طريق عمرو بن دينار، عنه (الطيالسيّ) (1903) و (أبو عوانة) 2/ 58. وأخرجه من طريق بلال بن عبد الله بن عمر، عن أبيه (أحمد) 2/ 90 و (مسلم) 2/ 33 و (أبو عوانة) 2/ 57. وأخرجه من طريق محمد بن علي بن الحسين الباقر، عنه (الطبرانيّ) (13255). والله تعالى أعلم. [تنبيه]: هذا الحديث رُوي عن أبي هريرة، وزيد بن خالد الجهنيّ رضي الله عنهما. فأما حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، فأخرجه (الشافعي) 1/ 127 و (عبد الرزّاق) (5121) و (الحميديّ) (978) و (ابن أبي شيبة) 2/ 383 و (أحمد) 2/ 438 و475 و 528، و (أبو داود) (565) و (الدارميّ) (1282) و (1283) و (ابن خزيمة (1679) و (ابن حبان) (2214)، وغيرهم. وأما حديث زيد بن خالد -رضي الله عنه-، فأخرجه (أحمد) 5/ 192 و193، و (ابن حبان) (2211) و (الطبرانيّ) (5239) و (5240) و (البزاز) (445) بإسناد حسن، كما قال الحافط الهيثميّ في "مجمع الزوائد" 2/ 32 - 33، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان وجوب تعظيم حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والتغليظ على من عارضه، ووجه ذلك أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما

غضب على ولده غضبًا شديدًا لمّا خالف حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. 2 - (ومنها): أن فيه جواز خروج النساء إلى مسجد الجماعة؛ لأنه لو كان ممنوعًا لم يؤمر الرجال بالإذن لهنّ إذا استأذنّ، ولكنه مشروط بالشروط الآتية. واختلف العلماء في شهودها الجماعة، هل هو مندوبٌ، أو مباحٌ فقط؟ فقال محمد بن جرير الطبريّ: إن إطلاق الخروج لهنّ إلى المساجد إباحة، لا ندب، ولا فرض. وفرق بعضهم بين الشابّة والعجوز. ذكره وليّ الدين (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بالإباحة هو الأرجح؛ بدليل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وبيوتهنّ خير لهنّ". أخرجه أبو داود (¬2)، والله تعالى أعلم. 3 - (ومنها): أن الزوج لا يجوز له أن يمنعها من المساجد إذا استأذنته، إذا استوفت الشروط، قال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: الحديث عامّ في النساء، ولكن الفقهاء قد خصّوه بشروط، وحالات، منها: أن لا يتطيّبن، وهذا الشرط مذكور في الحديث، ففي بعض الروايات: "وليَخرُجن تَفِلات" (¬3). وفي بعضها: "إذا شهدت إحداكنّ المسجد، فلا تمسّ طيبًا" (¬4). وفي بعضها: "إذا شهدت إحداكنّ العشاء، فلا تطيّب تلك الليلة". فيُلحق بالطيب ما في معناه، فإن الطيب إنما مُنع منه لما فيه من تحريك داعية الرجال، وشهوتهم، وربما يكون سببًا لتحريك شهوة المرأة أيضًا، فما أوجب هذا المعنى التحق به. وقد صحّ أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيما امرأة أصابت بَخُورًا، فلا تشهد معنا العشاء الآخرة". أخرجه مسلم. ويُلحق به أيضًا حسن الملابس، ولبس الحلي الذي يظهر أثره في الزينة. ¬

_ (¬1) "طرح التثريب في شرح التقريب" 2/ 314 - 315. (¬2) حديث صحيح، أخرجه أبو داود في "الصلاة" برقم (566). (¬3) حديث صحيح، أخرجه أبو داود. (¬4) أخرجه مسلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في إلحاق هذه الأشياء بالمنصوص عليه نظر لا يخفى؛ إذ هذه الأشياء كانت موجودة وقت ورود النصّ، فخصّ بعض الأشياء، كالطيب، وسكت عن غيره، فإلحاقه به محلّ نظر. والله تعالى أعلم. قال: ومما خصّ به بعضهم هذا الحديث أن منع الخروج إلى المسجد للمرأة الجميلة المشهورة جائز. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا أيضًا غير صحيح؛ لأن النصّ عامّ، وقد أخرج الترمذيّ، والنسائيّ من حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، قال: كانت امرأة تصلي خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حسناء من أحسن الناس، فكان بعض القوم يتقدّم حتى يكون في الصفّ الأول حتى لا يراها، ويتأخّر بعضهم حتى يكون في الصفّ الأخير حتى يراها، فإذا ركع نظر من تحت إبطه، فأنزل الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} [الحجر: 24] (¬1). ومحلّ الشاهد كون المرأة الجميلة كانت تحضر الصلاة في المسجد، ولم تمنع من ذلك، وإن ذُمّ من يقصد النظر إليها. والله تعالى أعلم. 4 - (ومنها): مشروعيّة صلاة الجماعة للنساء، وإن كان صلاتهنّ في البيوت أفضل لهن؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "وبيوتهنّ خير لهنّ". روه أبو داود. 5 - (ومنها): أنه يجوز للرجل أن يمنع امرأته من الخروج إلا بإذنه. 6 - (ومنها): أنه يؤخذ من إنكار عبد الله -رضي الله عنه- على ولده تأديب المعترض على السنن برأيه، والعامل بهواه. 7 - (ومنها): تأديب الرجل ولده، وإن كان كبيرًا، وتأديب العالم من يتعلّم عنده إذا تكلم بما لا ينبغي. ¬

_ (¬1) حديث صحيح، انظر "صحيح الترمذيّ" للشيخ الألباني رحمه الله تعالى في "تفسير سورة الحجر" رقم (2497) و"السلسلة الصحيحة" له رقم (2472).

8 - (ومنها): جواز التأديب بالهجران، فقد وقع في رواية ابن أبي نجيح، عن مجاهد عند أحمد: "فما كلّمه عبد الله حتى مات". وهذا -إن كان محفوظا- يحتمل أن يكون أحدهما مات عقب هذه القصة بيسير. قاله في "الفتح" (¬1). وبقيّة مباحث الحديث ستأتي في "كتاب الصلاة"، إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله المذكور أول الكتاب قال: 17 - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ الجحْدَرِيُّ، وَأَبُو عَمرٍو حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مُغَفّل، أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا إِلَى جَنْبِهِ ابْنُ أَخ لَهُ، فَخَذَفَ، فَنَهَاهُ، وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْها، وَقَالَ: "إِنَّهَا لَا تَصِيدُ صَيْدًا، وَلَا تَنْكي عَدُوًّا، وَإِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ، وَتَفْقَأُ العَيْنَ"، قَالَ فَعَادَ ابْنُ أَخِيهِ، فَخَذَفَ، فَقَالَ: أُحَدِّثُكَ أَنَّ رَسولَ اللهَ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْها، ثُمَّ عُدْتَ تَخْذِفُ، لَا أُكلِّمُك أَبدًا). وحال هذا الإسناد: ستة: 1 - (أحمد بن ثابت الجُحدريّ) أبو بكر البصريّ، صدوقٌ [10]. رَوَى عن سفيان بن عيينة، وعبد الوهاب الثقفي، وغندر، والقطان، وغيرهم. ورَوَى عنه المصنّف، والبخاري في "التاريخ"، وابن صاعد، وأبو عروبة، وعمر ابن بجير، وابن خزيمة، وأبو بكر بن أبي داود، وغيرهم. كان حيا في سنة (250). قال ابن حبان في "الثقات": كان مستقيم الأمر في الحديث. وذكره أبو علي الغساني في شيوخ أبي داود وقال: إنه روى عنه في "كتاب بدء الوحي "له. رَوَى عنه المصنّف في هذا الكتاب أربعة عشر حديثًا. 2 - (أبو عَمْرو حفص بن عَمْرو) بن ربَال -بفتح الراء، والموحّدة- ابن إبراهيم ابن عجلان الرَّبَاليّ الرَّقَاشيّ، أبو عُمَر، ويقال: أبو عَمْرو البصريّ، ثقة عابد [10]. ¬

_ (¬1) "فتح" 2/ 622.

رَوَى عن أبي بحر البكراوي، وأبي بكر الحنفي، وعبد الوهاب الثقفي، وابن علية، وأبي عاصم، وغيرهم. ورَوَى عنه أبو داود في "فضائل الأنصار"، وابن ماجه، وإبراهيم الحربي، والْبُجَيري، وابن خزيمة، وابن ناجية، وموسى بن هارون، وابن أبي داود، والبغوي، وابن صاعد، والمحاملي، وابن مخلد، والحسين بن يحيى بن عياش، وغيرهم. قال ابن أبي حاتم: أدركته، ولم أسمع منه، وهو صدوق. وقال الدارقطني، وابن قانع: ثقة مأمون. قلت وقال ابن خزيمة في "صحيحه": كان من العباد. وقال ابن كيسان، راوي النسائي: سمعت عبد الصمد البخاري يقول: هو ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، ونسبه هو، والسمعاني مجاشعيا. وقال ابن قانع: مات سنة (258). روى عنه المصنف في هذا الكتاب أربعة عشر حديثًا. [تنبيه]: وقع في بعض النسخ "حفص بن عُمَر" بضم العين، وهو غلطٌ، والصواب "ابن عَمْرو" بالفتح، فتنبّه. والله تعالى أعلم. 3 - (عبد الوهّاب) بن عبد المجيد بن الصَّلْت بن عبيد الله بن الحكم بن أبي العاص الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقة تغيّر قبل موته بثلاث سنين [8]. رَوَى عن حميد الطويل، وأيوب السختياني، وابن عون، وخالد الحذاء، وداود بن أبي هند، وغيرهم. ورَوَى عنه الشافعي، وأحمد، وعلي، ويحيى، وإسحاق، وابنا أبي شيبة، وأبو خيثمة، وبندار، وأبو موسى، ومسدد، وآخرون. قال عفان عن وهب: لمّا مات عبد المجيد قال لنا أيوب: الزموا هذا الفتى عبد الوهاب. وعده ابن مهدي فيمن كان يحدث من كتب الناس، ولا يحفظ ذلك الحفظ. وقال أحمد: الثقفي أثبت من عبد الأعلى الشامي. وقال عثمان: سألت يحيى بن معين، قلت: ما حال وهيب في أيوب؟ فقال: ثقة، قلت: هو أحب إليك، أو عبد الوهاب؟ قال: ثقة وثقة. وقال الدُّوري عن أَبن معين: اختلط بآخره. وقال عقبة بن مُكْرَم:

اختلط قبل موته بثلاث سنين، أو أربع سنين. وقال علي بن المديني: ليس في الدنيا كتاب عن يحيى -يعني بن سعيد الأنصاري- أصح من كتاب عبد الوهاب، وكل كتاب عن يحيى فهو عليه كَلٌّ. وقال الترمذي: سمعت قتيبة يقول: ما رأيت مثل هؤلاء الأربعة: مالك، والليث، وعبد الوهاب الثقفي، وعباد بن عباد. وقال العجلي: بصري ثقة. وقال عمرو بن علي: اختلط حتى كان لا يعقل، وسمعته وهو مختلط يقول: حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، باختلاطٍ شديد. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (84) وقيل: سنة (94). وقال محمد بن سعد: كان ثقة، وفيه ضعف، وتوفي سنة أربع وتسعين ومائة. وقال أحمد: كان مولده سنة (8). وقال الفلاس: وُلد سنة (110)، ومات سنة (94). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (28) حديثًا. 4 - (أيوب) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ -بفتح المهملة، بعدها معجمة، ثم مثنّاة، ثم تحتانيّة، وبعد الألف نون- أبو بكر، ويقال: أبو عثمان البصريّ، مولى عنزة، ويقال: مولى جهينة، ثقة ثبت حجة، من كبار الفقهاء العباد [5]. رَأَى أنس بن مالك، وروى عن عمرو بن سَلِمَة الجرمي، وحميد بن هلال، وأبي قلابة، والقاسم بن محمد، والأعرج، وعمرو بن دينار، وغيرهم. ورَوَى عنه الأعمش من أقرانه، وقتادة، وهو من شيوخه، والحمادان، والسفيانان، وشعبة، وعبد الوارث، ومالك، وخلق كثير. قال علي بن المديني: له نحو ثمانمائة حديث، وأما ابن علية فكان يقول: حديثه ألفا حديث، فما أقل ما ذهب علي منها. وقال ميمون، أبو عبد الله عن الحسن، وقد رأى أيوب: هذا سيد الفتيان. وقال الجعد أبو عثمان: سمعت الحسن يقول: أيوب سيد شباب أهل البصرة. وقال أبو الوليد عن شعبة: حدثني أيوب، وكان سيد الفقهاء. وقال ابن الطباع، عن حماد بن زيد: كان أيوب عندي أفضل من جالسته، وأشده اتباعا للسنة. وقال الحميدي عن ابن عيينة: ما لقيت مثل أيوب. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: أيوب عن نافع أحب إليك، أو عبيد الله؟ قال: كلاهما، ولم يفضل. وقال

ابن أبي خيثمة عنه: ثقة، وهو أثبت من ابن عون. وقال أبو حاتم: سئل ابن المديني، من أثبت أصحاب نافع؟ قال: أيوب وفَضلُهُ، ومالك وإتقانه، وعبيد الله وحفظه. وقال ابن البراء عن ابن المديني: أيوب في ابن سيرين أثبت من خالد الحذاء. وقال ابن سعد: كان ثقة ثبتا في الحديث، جامعًا، كثير العلم، حجة عدلًا. وقال أبو حاتم: هو أحب إلي في كل شيء من خالد الحذاء، وهو ثقة، لا يسأل عن مثله، وهو أكبر من سليمان. وقال النسائي: ثقة ثبت. ورُوي أن شعبة سأله عن حديث، فقال: أشك فيه، فقال له: شكك أحب إلي من يقين غيرك. وقال مالك: كان من العالمين العاملين الخاشعين، وقال أيضا: كتبت عنه لما رأيت من إجلاله للنبي -صلى الله عليه وسلم-. وقال ابن علية: وُلد أيوب سنة (66). وقال غيره سنة (68). وقال البخاري عن ابن المديني: مات سنة (131) زاد غيره: وهو ابن ثلاث وستين. ويقال: مات سنة (25) وقيل: قبلها بسنة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (55) حديثًا. 5 - (سعيد بن جبير) بن هشام الأسدي الوالبي مولاهم، أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه [3]. رَوَى عن ابن عباس، وابن الزبير، وابن عمر، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وأبي موسى الأشعري، وأنس، وعمرو بن ميمون، وعائشة، وغيرهم. ورَوَى عنه ابناه: عبد الملك، وعبد الله، ويعلى بن حكيم، ويعلى بن مسلم، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو الزبير المكي، وابن شهاب، وثابت بن عجلان، وغيرهم. قال يعقوب الْقُمِّيُّ عن جعفر بن أبي المغيرة: كان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه يقول: أليس فيكم ابن أم الدَّهْمَاء -يعني سعيد بن جبير-. وقال عمرو بن ميمون عن أبيه: لقد مات سعيد بن جبير، وما على ظهر الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه. وكان سفيان يقدم سعيدا على إبراهيم في العلم، وكان أعلم من مجاهد وطاووس. وقال عثمان بن بوذويه: كنت مع وهب بن منبه، وسعيد بن جبير يوم عرفة،

فقال وهب لسعيد: أبا عبد الله كم لك منذ خِفت من الحجاج؟ قال: خرجت عن امرأتي، وهي حامل، فجاءني الذي في بطنها، وقد خَرَجَ وجهه. وقال هشيم: حدثني عتبة مولى الحجاج، قال: حضرت سعيد بن جبير، حين أُتِي به الحجاج بواسط، فجعل الحجاج يقول له: ألم أفعل بك؟، ألم أفعل بك؟ فيقول: بلى، قال: فما حملك على ما صنعت من خروجك علينا؟ قال: بيعة كانت عليّ، قال: فغضب الحجاج، وصفق بيديه، وقال: فبيعة أمير المؤمنين كانت أسبق وأولى، وأمر به، فضُربت عنقه. وقال ابن حبان في "الثقات": كان فقيها عابدًا فاضلا ورعًا، وكان يكتب لعبد الله بن عتبة بن مسعود، حيث كان على قضاء الكوفة، ثم كتب لأبي بردة بن أبي موسى، ثم خرج مع ابن الأشعث في جملة القراء، فلما هُزِم ابن الأشعث، هَرَب سعيد بن جبير إلى مكة، فأخذه خالد الْقَسْريّ بعد مدة، وبعث به إلى الحجاج، فقتله الحجاج سنة (95) وهو ابن (49) لسنة، ثم مات الحجاج بعده بأيام، وكان مولد الحجاج سنة (40). انتهى. وقيل: إن قتله كان في آخر سنة (94)، وقال عمر بن سعيد بن أبي حسين: دعا سعيد بن جبير ابنه حين دُعي ليُقتَل، فجعل ابنه يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة؟. وقال أبو قاسم الطبري: هو ثقة إمام حجة على المسلمين، قُتل في شعبان سنة خمس وتسعين، وهو ابن (49) سنة. وقال أبو الشيخ: قتله الحجاج صبرا سنة (95). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (50) حديثًا. 6 - (عبد الله بن مغفّل) بمعجمة، وفاء مشدّدة- ابن عبد غَنْم، وقيل: عبد بن نَهْم -بفتح النون، وسكون الهاء- ابن عَفِيف بن أسحم بن ربيعة بن عدي بن ثعلبة بن ذؤيب، وقيل: دُويد بن سعد بن عَدّاء بن عثمان بن عمرو بن أدّ بن طابخة المزنيّ، أبو سعيد، وأبو زياد. ونقل البخاري عن يحيى بن معين أنه كان يُكنَى أبا زياد. وعن بعض ولده أنه كان يكنى بهما (¬1)، وأنه كان له عدة أولاد منهم: سعيد، وزياد، من مشاهير ¬

_ (¬1) وفي "تهذيب التهذيب": ويقال: أبو عبد الرحمن.

الصحابة. قال البخاري: له صحبة، سكن البصرة، وهو أحد البكائين في غزوة تبوك، وشهد بيعة الشجرة، ثبت ذلك في "الصحيح"، رَوَى عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وعن أبي بكر، وعثمان، وعبد الله بن سالم. ورَوَى عنه حميد بن هلال، وثابت البناني، ومطرف بن عبد الله بن الشِّخِّير، ومعاوية بن قرة، وعقبة بن صُهْبان، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وعبد الله بن بريدة، وابن له غير مُسَمّى، يقال: اسمه يزيد، وغيرهم، وهو أحد العشرة الذين بعثهم عمر ليفقهوا الناس بالبصرة، وهو أول من دخل من باب مدينة تُسْتَر، ومات بالبصرة سنة تسع وخمسين، قاله مسدد. وقيل: سنة ستين، فأوصى أن يصلى عليه أبو برزة الأسلمي، فصلى عليه، ومات سنة إحدى وستين (¬1). أخرج له الجماعة، روى (43) حديثًا، اتفق الشيخان على أربعة، وانفرد البخاريّ بحديث، ومسلم بآخر، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، إلا شيخيه، فقد تفرّد بهما. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير سعيد بن جبير، فكوفيّ. 4 - (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. 5 - (ومنها): أن عبد الله بن مغفّل منفرد بهذا الاسم، فلا يوجد في الكتب الستة من يُسمّى بهذا الاسم غيره، قال السيوطيّ في "ألفية الحديث". وَالِدُ عَبْدِ الله قُلْ مُغَفَّلُ ... مُنفَرِدٌ وَمَن سِواهُ مَعْقِلُ والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَن عَبْدِ الله بْنِ مُغَفَّلٍ) بصيغة اسم المفعول المضعّف -رضي الله عنه- (أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا إِلَى ¬

_ (¬1) "الإصابة" 4/ 206 - 207.

جَنْبِهِ ابْنُ أَخٍ لَهُ) لم يعرف اسمه، كما قاله في "الفتح" (فَخَذَفَ) بالخاء، والذال المعجمتين -يقال: خذفت الحصاة ونحوها خَذْفًا، من باب ضرب: إذا رميتها بطرفي الإبهام والسبّابة. قاله في "المصباح". وقال في "الفتح": ما حاصله: الخذف بخاء معجمة، وآخره فاء: أن يرمي بحصاة، أو نواة بين سبّابتيه، أو بين الإبهام والسبّابة، أو على ظاهر الوسطى، وباطن الإبهام. وقال ابن فارس: خذفت الحصاةَ: رميتها بين إصبعيك. وقيل: في حصى الخذف أن يجعل الحصاة بين السبّابة من اليمنى والإبهام من اليسرى، ثم يقذفها بالسبّابة من اليمين. وقال ابن سِيدَهْ: خذف بالشيء يخذِفُ فارسيّ، وخصّ بعضهم به الحصى، قال: والمِخْذَفة: التي يوضع فيها الحجر، ويُرمَى بها الطير، ويُطلق على المِقْلاع أيضًا. قاله في "الصحاح" (¬1). (فَنَهَاهُ) أي نهى عبد الله -رضي الله عنه- ابنَ أخيه عن الخذف (وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْهَا) أنّث الضمير بتأويله بالخذفة: أي نهى عن هذه الخذفة، وفي رواية لمسلم: "فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الخذف"، وفي رواية للشيخين: "فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الخذف"، أو "كان يكره الخذف" (وقَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (إِنَّهَا لَا تَصِيدُ صَيْدًا) أي لا تقتله، يقال: صاد الصيد يصيده ويصاده: إذا أخذه. أفاده في "اللسان". وفي "المصباح": صاد الرجل الطيرَ وغيره يَصيده صَيْدًا، فالطير مَصِيد، والرجل صائدٌ، وصَيّادٌ. قال ابن الأعرابيّ: يقال: صاد يَصَادُ، وبات يباتُ، وعاف يَعاف، وخالَ الغيثَ يخاله لغة في يفعِلُ بالكسر في الكلّ. وسُمّي ما يُصادُ صَيدًا، إما بمعنى مفعول، وإما تسميةً بالمصدر، والجمع صُيُود. انتهى (¬2). وقال في "الفتح" قال المهلّب: أباح الله الصيد على صفة، فقال: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94]، وليس الرمي بالبندقة ونحوها من ذلك، وإنما هو وَقِيذٌ، ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 11/ 30. (¬2) "المصباح المنير" 2/ 353.

وأطلق الشارع أن الخذف لا يصاد به؛ لأنه ليس من المُجْهِزَات، وقد اتفق العلماء إلا من شَذّ منهم على تحريم أكل ما قتلته البندقة والحجر. انتهى. وإنما كان كذلك؛ لأنه يقتل الصيد بقوة راميه، لا بحده. (وَلَا تَنْكِي عَدُوًّا) بفتح التاء، وكسر الكاف، مضارع نَكَى، يقال: نكيت في العدوّ من باب رمى، والاسم النِّكايةُ بالكسر: إذا قتلتَ وأثخنتَ، ويقال: نكأت نكئًا، من باب نفع أيضًا لغة فيه، ويقال: نكأتُ الْقَرْحَة أنكؤها مهموز بفتحتين: قشرتها. أفاده في "المصباح". وقال في "الفتح": قال عياض: الرواية -بفتح الكاف، وبهمزة في آخره- وهي لغة، والأشهر بكسر الكاف بغير همز. وقال في "شرح مسلم": "لا ينكأ" بفتح الكاف مهموز، ورُوي "لا يَنكي" بكسر الكاف، وسكون التحتانية، وهو أوجه؛ لأن المهموز إنما هو من نكأت الْقَرْحة، وليس هذا موضعه، فإنه من النكاية. لكن قال في "العين": نكأت لغة في نكيت، فعلى هذا تتوجه هذه الرواية. قال: ومعناه المبالغة في الأذى. وقال ابن سِيدَهْ: نكأ العدوَّ نِكاية: أصاب منه، ثم قال: نكأت العدو أنكؤهم لغة في نكيتهم، فظهر أن الرواية صحيحة المعنى، ولا معنى لتخطئتها. وأغرب ابن التين: فلم يُعَرِّج على الرواية التي بالهمز أصلًا، بل شرحه على التي بكسر الكاف، بغير همز، ثم قال: ونكأت الْقَرْحة بالهمز. انتهى. (وَإِنَّهَا) أي الخذفة (تَكْسِرُ) بكسر السين المهملة، من باب ضرب (السِّنَّ) أطلقه، فشمل سنّ المرميّ، وغيره من الآدميين وغيرهم، ومثله يقال في العين في قوله: (وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ) بفتح التاء، وسكون الفاء، وقاف، آخره همزة: أي تشقّها، قال الفيّوميّ: فقأت العين أَفْقَؤُها مهموزٌ -بفتحتين-: بَخَصْتُها (¬1)، وفقأت الْبَثْرَةَ: شققتها، فانفقأت، وتفقّأت: تشققت. انتهى. (قَالَ) الراوي، والظاهر أنه سعيد بن جبير (فَعَادَ) أي رجع (ابْنُ أَخِيهِ، فَخَذَفَ) ¬

_ (¬1) بخصت العين بالصاد، وبخستها بالسين: خَسَفتها، والصاد أجود. أفاده في "المصباح".

أي رمى بالحصاة، ونحوها (فَقَالَ) أي عبد الله بن مغفّل -رضي الله عنه- (أُحَدِّثُكَ) بالرفع على الاستئناف (أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْهَا) أي عن الخذفة (ثُمَّ عُدْتَ) أي رجعت (تَخْذِفُ لَا أُكَلِّمُكَ أَبَدًا) أي هَجْرًا؛ لمخالفتك السنّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عبد الله بن مغفّل رضي الله تعالى عنه هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا 2/ 17 وفي "كتاب الصيد" (2/ 1075، 3336 و 3227) و (البخاريّ) (6/ 170 و 7/ 112و 8/ 60) و (مسلم) (6/ 72 و 72) و (أبو داود) (5270) و (النسائيّ) 8/ 47، و (الطيالسيّ) (919) و (الحميديّ) (887) و (أحمد) 4/ 54 و 57 و 4/ 87 و5/ 55 و 56، و (الدارميّ) (446) و (ابن حبان) (5949) (والحاكم) 4/ 283، و (البيهقي) 9/ 248، و (البغوي) (2574). والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تعظيم حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتغليظ على من خالفه. 2 - (ومنها): النهي عن الخذف؛ لأنه لا مصلحة فيه، بل يُخاف مفسدته، ويَلتحق به كلّ ما شاركه في هذا. 3 - (ومنها): أن ما كان فيه مصلحة، أو حاجة في قتال العدوّ، وتحصيل الصيد فهو جائز. 4 - (ومنها): جواز هِجْران أهل البدع والفسوق، ومنابذي السنّة مع العلم، وأنه يجوز هجرانهم دائمًا، ولا تعارض بين هذا، وبين قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ولا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام"، متّفقٌ عليه؛ لأن هذا فيمن هجر لحظ نفسه، ومعايش الدنيا،

وأما أهل البدع والفسق، فهجرانهم يكون دائمًا إلى أن يتوبوا، فقد هجر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كعب ابن مالك وصاحبيه الذين خُلّفوا، وأمر بهجرانهم إلى أن نزل قبول توبتهم، وكان ذلك خمسين يومًا، كما هو مشهور في قصّتهم في "الصحيحين"، وغيرهما. والله تعالى أعلم. 5 - (ومنها): أن فيه تغيير المنكر، ومنع الرمي بالبندقة؛ لأنه إذا نَفَى الشارع أنه لا يصيد، فلا معنى للرمي به، بل فيه تعريض للحيوان بالتلف لغير مالكه، وقد ورد النهي عن ذلك. نعم قد يُدرِك ذكاة ما رُمي بالبندقة، فيحل أكله، ومن ثم اختُلف في جوازه، فصّرح مجلي في "الذخائر" بمنعه، وبه أفتي ابن عبد السلام. وجزم النووي بحله؛ لأنه طريق إلى الاصطياد، والتحقيق التفصيل، فإن كان الأغلب من حال الرمي ما ذُكِرَ في الحديث امتنع، وإن كان عكسه جاز، ولا سيما إن كان المرْميّ مما لا يَصِل إليه الرمي إلا بذلك، ثم لا يقتله غالبًا. وقد نُقل عن الحسن في كراهية رمى البندقة في القرى والأمصار، ومفهومه أنه لا يكره في الفلاة، فجعل مدار النهي على خشية إدخال الضرر على أحد من الناس. قاله في "الفتح" (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول بالمنع هو الأظهر؛ لظاهر النصّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله المذكور أول الكتاب قال: 18 - (حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنِي بُرْدُ بْنُ سِنَانٍ، عَنْ إِسْحَقَ ابْنِ قَبِيصَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ الْأَنْصَارِيَّ النَّقِيبَ، صَاحِبَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، غَزَا مَعَ مُعَاوِيَةَ أَرْضَ الرُّومِ، فَنَظَرَ إِلَى النَّاسِ، وَهُمْ يَتَبَايَعُونَ كِسَرَ الذَّهَبِ بِالَدَّنَانِيرِ، وَكِسَرَ الْفِضَّةِ بِالدَّرَاهمِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَأْكُلُونَ الرِّبَا، سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "لَا تَبْتَاعُوا الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، إِلَّا مِثْلًا بمِثْلٍ، لَا زِيَادَةَ بَيْنَهُمَا، وَلَا نَظِرَةً"، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: يَا أَبَا الْوَلِيدِ لَا أَرَى الرِّبَا في هَذَا، إِلا مَا كَانَ مِنْ نَظِرَةٍ، فَقَال ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 11/ 31.

عُبَادَةُ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، وَتُحَدِّثُنِي عَنْ رَأْيِكَ، لَئِنْ أَخْرَجَنِي الله، لَا أُسَاكِنُكَ بِأَرْضٍ لَكَ عَلَيَّ فِيهَا إِمْرَةٌ، فَلمَّاَ قَفَلَ لحِقَ بِالمدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الخطَّابِ: مَا أَقْدَمَكَ يَا أَبا الْوَليدِ، فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، وَمَا قَالَ مِنْ مُسَاكنَتِهِ، فَقَالَ: ارْجِعْ يَا أَبا الْوَليدِ إِلَى أَرْضِكَ، فَقَبحَ الله أَرْضًا لَسْتَ فِيهَا وَأَمْثَالُكَ، وَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ: لَا إِمْرَةَ لَكَ عَلَيْهِ، وَاحْمِلِ النَّاسَ عَلَى مَا قَالَ، فَإِنَّهُ هُوَ الْأَمْرُ). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (هشام بن عمّار) الدمشقيّ الخطيب، صدوق، كبر، فصار يتلقّن، من كبار [10] تقدّم في 1/ 5. 2 - (يحيى بن حمزة) بن واقد الحضرميّ، أبو عبد الرحمن الدمشقيّ القاضي، ثقة، رُمي بالقدر [8] 1/ 7. 3 - (بُرْد بن سِنَان) أبو العلاء الدمشقيّ، نزيل البصرة، مولى قريش، صدوقٌ، رُمي بالقدر [5]. رَوَى عن واثلة، وإسحاق بن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي، وبُديل بن ميسرة الْعُقيلي، وبكير بن فيروز، وعبادة بن نسي، وعطاء بن أبي رباح، والزهري، وغيرهم. ورَوَى عنه ابن علية، والسفيانان، والحمادان، وحفص بن غياث، والأوزاعي، وسعيد بن أبي عروبة، وابنه العلاء بن برد، ويحيى بن حمزة الحضرمي، وغيرهم. ذكره النسائي في الطبقة السادسة من أصحاب نافع. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: صالح الحديث. وقال ابن معين: ثقة. وقال دحيم، والنسائي، وابن خراش: ثقة. وقال الدُّوري عن ابن معين: ليس بحديثه بأس، وكان شاميا. وقال ابن الجنيد عنه نحو ذلك، وقال أيضا: هرب من الشام من أجل قتل الوليد بن يزيد، فلأجل ذلك سمع منه أهل البصرة. وقال يزيد بن زريع: ما رأيت شاميا أوثق من بُرْد. وقال يعقوب بن سفيان: سألت عبد الرحمن بن إبراهيم: أيُّ أصحاب مكحول أعلى؟ فقال وذكر جماعة، ثم قال: ولكن زيد بن واقد، وبرد بن سنان من كبارهم. وقال النسائي مرة: ليس به

بأس. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال أيضا: كان صدوقا في الحديث. وقال أبو حاتم: كان صدوقا قدريا. وقال أيضا: ليس بالمتين، وقال مرة: كان صدوقا في الحديث. وقال الدارمي عن علي بن المديني: برد بن سنان ضعيف. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال أبو داود: كان يرى القدر. قال عمرو بن علي، وخليفة: مات سنة (135). أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والأربعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث، برقم 18 و 1344 و 4207. 4 - (إسحاق بن قبيصة) بن ذُؤَيب الخُزَاعيّ الشاميّ، صدوقٌ، يرسل [6]. رَوَى عن عمر مرسلا، وعن أبيه قبيصة، وكعب الأحبار. ورَوى عنه برد بن سنان، وعبادة بن نُسَيّ، وأسامة بن زيد الليثي، وغيرهم. قال أبو زرعة الدمشقي: كان عامل هشام على الأُرْدُنّ. وقال ابن سُمَيع: كان على ديوان الزَّمْنَى في أيام الوليد. وذكره ابن حبان في "الثقات". تفرّد به المصنف بهذا الحديث فقط. 5 - (أبوه) قبيصة بن ذؤيب -بالمعجمة، مصغّرًا- ابن حَلْحَة -بمهملتين، مفتوحتين، بينهما لام ساكنة- الْخُزاعيّ، أبو سعيد، ويقال: أبو إسحاق المدنيّ، نزيل دمشق، من أولاد الصحابة، وُلِدَ عام الفتح، وله رؤية [2]. أرسل عن أبي بكر، ورَوَى عن عمر بن الخطاب، ويقال: مرسل. وعن بلال، وعثمان بن عفان، وحذيفة، وعبد الرحمن بن عوف، وزيد بن ثابت، وعبادة بن الصامت، وغيرهم. ورَوَى عنه ابنه إسحاق، والزهري، ورجاء بن حيوة، وعثمان بن إسحاق بن خرشة، وعبد الله بن موهب، وآخرون. قال ابن سعد كان على خاتم عبد الملك، وكان آثر الناسِ عنده، وكان البريد إليه، وكان ثقة مأمونًا، كثير الحديث. وقال ابن لهيعة عن ابن شهاب: كان من علماء هذه الأمة. وذكره أبو الزناد في الفقهاء. وقال محمد بن راشد عن مكحول: ما رأيت أحدًا

أعلم منه. وقال مغيرة عن الشعبي: كان أعلم الناس بقضاء زيد بن ثابت. وقال الغلابي عن ابن معين: أُتي به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليدعو له بالبركة. وقال الهيثم عن عبد الله بن عياش: ذهبت عينه يوم الحرّة، وقال العجلي: مدني تابعي ثقة. وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وقال: كان من فقهاء أهل المدينة، وصالحيهم. وقال ابن عبد البر في "الاستيعاب": ولِد في أول سنة من الهجرة، وكان له فقه وعلم. وقال ابن قانع: يقال: له رؤية. وقال أبو موسى المديني في "الذيل": أورده العسكري في "الصحابة". وقال جعفر: لا يصح سماعه؛ لأنه وُلد يوم الفتح، وروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحاديث مراسيل. وقال خليفة، وغير واحد: مات سنة ست وثمانين. وقال ابن سعد: مات سنة ست أو سبع. وقال ابن معين: مات سنة (7). وقيل: مات سنة (8). وقيل: مات سنة (89) في خلافة عبد الملك بن مروان. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث برقم 18 و 1444 و 2084 و 2714. 6 - (عبادة بن الصامت) بن قيس بن أَصْرم بن فِهر بن قيس بن ثعلبة بن غَنْم بن سالم بن عوف بن عَمرو بن عوف بن الخزرج الأنصاري الخزرجيّ، أبو الوليد، قال خليفة بن خياط: وأمه قُرّة العين بنت عبادة بن نَضْلَة بن العجلان، شهد بدرا. وقال ابن سعد: كان أحد النقباء بالعقبة، وآخى رسول الله -رضي الله عنه- بينه وبين أبي مَرْثَد الْغَنَوِيّ، وشَهِد المشاهد كلها بعد بدر. وقال ابن يونس: شَهِد فتح مصر، وكان أمير ربع المُدَد. وفي "الصحيحين" عن الصنابحي، عن عبادة قال: أنا من النقباء الذين بايعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة العقبة" ... الحديث. وروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا. وروى عنه أبناؤه: الوليد، وداود، وعبيد الله، وحفيداه: يحيى، وعبادة ابنا الوليد، واسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة، ولم يدركه، ومن أقرانه أبو أيوب الأنصاري، وأنس ابن مالك، وجابر بن عبد الله، ورفاعة بن رافع، وشُرَحبيل بن حسنة، وخلق كثير. قال عبد الصمد بن سعيد في "تاريخ حمص"، هو أول من ولي قضاء فلسطين. ومن مناقبه ما ذُكِرَ في "المغازي" لابن إسحاق: حدثني أبي إسحاق بن يسار، عن عبادة

ابن الصامت قال: لما حارب بنو قينقاع بسبب ما أمرهم عبد الله بن أُبَيّ، وكانوا حلفاءه، فمشى عبادة بن الصامت، وكان له حِلْف مثل الذي لعبد الله بن أُبيّ، فخلعهم، وتبرأ إلي الله ورسوله من حِلْفهم، فنزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى} الآية [المائدة: 51]. وذكر خليفة أن أبا عبيدة ولّاه إِمْرَة حمص، ثم صرفه، ووَلَّي عبد الله بن قُرْط. وروى ابن سعد في ترجمته من طريق محمد بن كعب القرظي، أنه ممن جمع القرآن في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكذا أورده البخاري في "التاريخ" من وجه آخر عن محمد بن كعب، وزاد: فكتب يزيد بن أبي سفيان إلى عمر، قد احتاج أهل الشام إلي من يُعَلِّمهم القرآن، ويفقههم، فأرسل معاذا وعبادة وأبا الدرداء، فأقام عبادة بفلسطين. وقال السراج في"تاريخه" حدثنا قتيبة، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن جنادة: دخلت على عبادة، وكان قد تفقه في دين الله، هذا سند صحيح. وفي مسند إسحاق بن راهويه، و"الأوسط" للطبراني من طريق عيسى بن سنان، عن يعلى بن شداد، قال: ذكر معاوية الفرار من الطاعون، فذكر قصة له مع عبادة، فقام معاوية عند المنبر، بعد صلاة العصر، فقال: الحديث كما حدثني عبادة، فاقتبِسُوا منه، فهو أفقه مني. ولعبادة قصص متعددة مع معاوية، وإنكاره عليه أشياء، وفي بعضها رجوع معاوية له، وفي بعضها شكواه إلى عثمان منه، تدل على قوته في دين الله، وقيامه في الأمر بالمعروف. ورَوَى ابن سعد في ترجمته أنه كان طِوَالا جميلا جسيما، ومات بالرملة سنة أربع وثلاثين، وكذا ذكره المدائني، وفيها أرّخه خليفة بن خياط، وآخرون منهم من قال: مات ببيت المقدس. وأورد ابن عساكر في ترجمته أخبارا له مع معاوية، تدل على أنه عاش بعد ولاية معاوية الخلافة، وبذلك جزم الهيثم بن عديّ، وقيل: إنه عاش إلي سنة خمس وأربعين. قاله في "الإصابة" (¬1). وفي "تهذيب التهذيب": قال ابن سعد، عن الواقدي، عن يعقوب بن مجاهدة، ¬

_ (¬1) "الإصابة" 3/ 505 - 507.

عن عبادة بن الوليد بن عبادة، عن أبيه: مات بالرملة سنة أربع وثلاثين، وهو ابن (72) سنة. قال ابن سعد: وسمعت من يقول: إنه بقي حتى توفي في خلافة معاوية، وكذا قال الهيثم بن عدي. وقال دُحَيم: توفي ببيت المقدس. وقال ابن حبان: هو أول من ولي القضاء بفلسطين. وقال سعيد بن عُفَير: كان طوله عشرة أشبار (¬1). أخرج الجماعة، وله (181) حديثًا، اتفق الشيخان على ستة، وانفرد البخاريّ بحديثين، ومسلم بحديثين، وله في هذا الكتاب (28) حديثًا. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير برد بن سنان، فإنه من رجال الأربعة، وهو ثقة، وغير إسحاق بن قبيصة، فإنه من أفراده، وفيه انقطاع؛ لأن قبيصة لم يلق عبادة -رضي الله عنه-. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالشاميين. 4 - (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ إِسْحَقَ بْنِ قَبِيصَةَ، عَنْ أَبِيهِ) قبيصة بن ذؤيب (أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ الْأَنصَارِيَّ النَّقِيبَ) بفتح النون، وكسر القاف: فعيل بمعنى فاعل، يقال: نَقَبَ على القوم، من باب قَتَلَ، نِقَابة بالكسر، فهو نقيب: أي عَرِيف، والجمع نُقَباء. قاله في "المصباح" (صَاحِبَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، غَزَا مَعَ مُعَاوِيَةَ) بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أُميّة الأمويّ، أبي عبد الرحمن الخليفة، أسلم قبل الفتح، وكتب الوحي، ومات -رضي الله عنه- سنة ستّين، وقد قارب الثمانين (أَرْضَ الرُّومِ، فَنَظَرَ إِلَى النَّاسِ، وَهُمْ يَتبَايَعُونَ كِسَرَ الذَّهَبِ بِالدَّنَانِيرِ) "الكسَر" -بكسر الكاف، وفتح السين المهملة-: جمع كِسْرة -بكسر، ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" 2/ 285 - 268.

فسكون- كقِطع وقطعة وزنًا ومعنىً، والمراد أنهم يتبايعونها عددًا (وَكِسَرَ الْفِضَّةِ بِالدَّرَاهِمِ، فَقَالَ) أي عبادة -رضي الله عنه- (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَأْكُلُونَ الرِّبَا) أي لأنهم يتباعون الجنس بالجنس دون معرفة الوزن (سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "لَا تَبْتَاعُوا) أي لا تشتروا، أو لا تبيعوا، لأن هذه المادّة تستعمل لهما، قالَ في "القاموس": باعه يبيعه بيعًا ومَبِيعًا: إذا باعه، وإذا اشتراه، ضدّ. انتهى. وقال في "المصباح": ابتاع زيد الدار: بمعنى اشتراها، وابتاعها لغيره: اشتراها له، وباع عليه القاضي: أي من غير رضاه. انتهى. (الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ) أي إلا متماثلين وزنًا (لَا زِيادَةَ بَيْنَهُمَا) أي لا تفضيل لأحدهما على الآخر (وَلَا نَظِرَةً) بفتح، فكسر: أي لا انتظار، ولا تأخير من أحد الطرفين (فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ) بن أبي سفيان (يَا أَبَا الْوَليدِ) كنية عبادة -رضي الله عنه- (لَا أَرَى الرِّبَا في هَذَا) أي لا أعتقد وجود الربا في هذا الذي يتعامل فيه الناس من بيع كسر الذهب بالدنانير، وكسر الفضّة بالدراهم، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى ما ذكره عبادة -رضي الله عنه- في قوله: "لا تبتاعوا الذهب بالذهب الخ (إِلَّا مَا كَانَ مِنْ نَظِرَةٍ) أي نسيئة، يعني أنه لا يرى الربا إلا في النسيئة، ولعل معاوية -رضي الله عنه- سمع حديث: "لا ربا إلا في النسيئة"، كما كان ابن عباس يرى ذلك، فقد أخرج الشيخان (¬1) من طريق عمرو بن دينار عن أبي صالح الزيات، أنه أخبره أنه سمع أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- يقول: "الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم"، قال: فقلت له: فإن ابن عباس لا يقوله، فقال أبو سعيد سألته، فقلت: سمعته من النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو وجدته في كتاب الله؟ قال: كل ذلك لا أقول، وأنتم أعلم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- مني، ولكن أخبرني أسامة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا ربا إلا في النسيئة". (فَقَالَ عُبَادَةُ) -رضي الله عنه- منكرًا على معاوية -رضي الله عنه- لمّا خالف رأيه الحديث (أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، وَتُحَدِّثُنِي عَنْ رَأْيِكَ، لَئِنْ أَخْرَجَني الله) أي من أرض العدوّ، وهي الروم ¬

_ (¬1) وسيأتي للمصنّف في "كتاب التجارات" برقم (2248).

(لَا أُسَاكِنُكَ) أي لا أسكن معك (بِأَرْضٍ لَكَ عَلَيَّ فِيها إِمْرَةٌ) بكسر الهمزة، وسكون الميم: أي ولاية (فَلَمَّا قَفَلَ) بقاف، ففاء، آخره لام، يقال: قَفَلَ من سفره قُفولًا، من باب قعد: إذا رجع. بقاف، ففاء مفتوحتين: أي رجع من تلك الغزوة (لَحِقَ بِالمدِينةِ) بكسر الحاء المهملة، يقال: لحق به، كسمِعَ، ولَحِقه لحقًا بفتح، فسكون، ولَحَاقًا بفتحتين: إذا أدركه، أفاده في "القاموس"، والمراد هنا أنه ذهب إلى المدينة تاركًا الشام (فَقَالَ لَهُ عُمَرُ ابْنُ الخطَّابِ) رضي الله تعالى عنه مستفسرًا سبب قدومه (مَا) اسم استفهام (أَقدَمَكَ يَا أَبا الوليدِ) أي أيّ شيء حملك على القدوم إلى المدينة بعد أن سكنت الشام، وأهلها محتاجون إلى علمك (فَقَصَّ عَلَيْهِ القِصَّةَ) أي التي جرت بينه وبين معاوية رضي الله تعالى عنهما في شأن بيع الذهب بالذهب، والفضّة بالفضّة نسيئة (وَمَا قَالَ مِنْ مُسَاكَنَتِهِ) أي وما قال عبادة لمعاوية أنه لا يساكنه بأرض له فيها عليه إمرة (فَقَالَ) عمر -رضي الله عنه- (ارْجِعْ يَا أَبا الْوَليدِ إِلَى أَرْضِكَ) يريد الشام؛ لأنها كانت مسكنه، حيث أرسله عمر -رضي الله عنه- إلى فلسطين يعلّم أهلها القرآن، كما سبق في ترجمته -رضي الله عنه- (فقَبَحَ الله أَرْضًا) أي أبعدها عن الخير، يقال: قبحه الله بتخفيف الباء الموحّدة، يقبحه، من باب منع: نحّاه عن الخير، فهو مقبوحٌ، وفي التنزيل العزيز: {هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص: 42] أي المبعَدين عن الفوز، ويجوز: قبّحه بالتثقيل مبالغة. أفاده الفيّوميّ (لَسْتَ فيِهَا وَأَمْثَالُكَ) بالرفع عطفًا على اسم "ليس"، وفيه العطف على الضمير المرفوع المتّصل بدون تأكيد بالضمير المنفصل، وهو جائزٌ؛ لوقوع الفصل بينهما بالجارّ والمجرور قال في "الخلاصة": وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعِ مُتَّصِلْ ... عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنفَصِلْ أَوْ فَاصِلٍ مَا وَبِلاَ فَصْلٍ يَرِدْ ... في النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ والنصب على المعيّة بعيد معنًى. قاله السنديّ. والمعنى: الذين يشابهونك في العلم، والعمل، والدعوة إلى السنّة، ومجانبة من يخالفها (وَكتَبَ) أي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- (إِلَى معَاوِيَةَ) -رضي الله عنه- (لَا إِمْرَةَ لَكَ عَلَيْهِ) أي لا يكون لك ولاية على عبادة -رضي الله عنه- (وَاحْمِلِ) بكسر الميم: أمر من الحمل (النَّاسَ عَلَى مَا قَال)

أي ألزم الناس بما قاله عبادة -رضي الله عنه- (فَإِنَّهُ هُوَ الْأَمْرُ) الفاء للتعليل: أي لأن ما قاله هو الأمر الحقّ الموافق للشرع، حيث إن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أمر به. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه هذا صحيحٌ. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه انقطاع، حيث إن قبيصة بن ذؤيب لم يلقَ عبادة -رضي الله عنه-، كما نصّ عليه الحافظ المزّيّ في "تحفة الأشراف" 4/ 256؟. [قلت]: إنما صححناه؛ لأنه يشهد له ما أخرجه مسلم في "صحيحه" من طريق أيوب السختياني، عن ابن قلابة، قال: كنت بالشام في حلقة فيها مسلم بن يسار، فجاء أبو الأشعث، قال: قالوا: أبو الأشعث، أبو الأشعث، فجلس، فقلت له: حدث أخانا حديث عبادة بن الصامت، قال: نعم، غزونا غَزَاةً، وعلى الناس معاوية، فغَنِمْنَا غنائم كثيرة، فكان فيما غنمنا آنية من فضة، فأمر معاوية رجلا أن يبيعها في أعطيات الناس، فتسارع الناس في ذلك، فبلغ عبادة بن الصامت، فقام، فقال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينا بعين، فمن زاد أو ازداد، فقد أربى"، فرد الناس ما أخذوا، فبلغ ذلك معاوية، فقام خطيبا، فقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحاديث، قد كنا نشهده، ونصحبه، فلم نسمعها منه، فقام عبادة بن الصامت، فأعاد القصة، ثم قال: لَنُحَدِّثَنَّ بما سمعنا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإن كره معاوية، أو قال: وإن رَغِمَ، ما أُبالي أن لا أصحبه في جنده ليلة سوداء (¬1). وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، عن إسماعيل -يعني ابن أبي خالد- ¬

_ (¬1) راجع "صحيح مسلم" بشرح النوويّ 11/ 12 - 14.

حدثنا حكيم بن جابر، عن عبادة بن الصامت، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقول: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، مثلا بمثل، حتى خص الملح"، فقال معاوية: إن هذا لا يقول شيئا لعبادة، فقال عبادة: لا أبالي أن لا أكون بأرض يكون فيها معاوية، أشهد أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ذلك. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الإسناد صحيح، إلا أن البخاريّ أعلّه بالانقطاع -كما نقله في "تهذيب التهذيب" 1/ 472 - حيث قال حكيم: أُخبرت عن عبادة في الصرف. انتهى. لكنه يصلح للشواهد. والحاصل أن الحديث صحيح، والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: هذا الحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، أخرجه هنا (2/ 18) بهذا الإسناد فقط، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تعظيم حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والتغليظ على من عارضه. 2 - (ومنها): بيان تحريم بيع الذهب بالذهب، أو الفضّة بالفضّة، إلا مثلًا بمثل، يدًا بيد، وسيأتي تمام البحث فيه في محلّه من "كتاب التجارات"، إن شاء الله تعالى. 3 - (ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم من شدّة تعظيم حديثه -صلى الله عليه وسلم-، فقد غضب عبادة -رضي الله عنه- لمّا خالف معاوية -رضي الله عنه- ما حدّثه به، مع أنه لم يخالفه إلا بالتأويل. 4 - (ومنها): مقاطعة من خالف الحديث لرأي رآه، أو لتقليد إمام من الأئمة، وإن كان له عذر بالتأويل. 5 - (ومنها): أن فيه منقبةً عظيمة لعبادة -رضي الله عنه- حيث وفى بما التزم به من مبايعة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أن لا يخاف في الله لومة لائم، فقد أخرج الشيخان، وغيرهما عنه -رضي الله عنه-، أنه قال: بايعنا

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة، في النشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم، أو نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله المذكور أول الكتاب قال: 19 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الخلَّادِ الْبَاهِليُّ، حَدَّثَنَا يَحْيىَ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، أَنْبَأَنَا عَوْنُ بْنُ عَبْدِ الله، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: إِذَا حَدَّثْتكُمْ عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَظنوا بِرَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- الذِي هُوَ أَهْنَاهُ، وَأَهْدَاهُ، وَأَتْقَاهُ). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (أَبُو بَكْرِ بْنُ الخلَّادِ الْبَاهِليُّ) محمد بن خلّاد بن كثير البصريّ، ثقة [10]. رَوَى عن الدراورديّ، وعبد الوهاب الثقفي، والوليد بن مسلم، وابن عيينة، والقطان، وابن مهدي، وبهز بن أسد، وغيرهم. ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود، وابن ماجه، ورَوَى النسائي عن زكريا السجزي عنه، وأبو حاتم الرازي، وعبد الله بن أحمد، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وإبراهيم الحربي، وغيرهم. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: أبو بكر بن خلاد عرفته معرفة قديمة، لقيناه أيام المعتمر بالبصرة وببغداد، وكان ملازما ليحيى بن سعيد. وقال أبو بكر الأعين: سمعت مسددا يقول: أبو بكر بن خلاد ثقة، ولكنه صَلِف (¬1)، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال معاوية بن عبد الكريم الزيادي: أدركت البصرة، والناس يقولون: ما بها أعقل من أبي الوليد، وبعده أبو بكر بن خلاد، وبعده عباس العنبري. وقال مسلمة بن قاسم: كان ثقة. قال ابن أبي عاصم: مات سنة أربعين ومائتين. وقيل: مات سنة (39). وقيل: ¬

_ (¬1) ذكر في "القاموس" من معنى الصَّلف التكلّم بما يكرهه صاحبك، والتمدّح بما ليس عندك، أو مجاوزة قدر الظرف، والادعاء فوق ذلك تكبّرًا، ولا أدري أيّ المعاني أراد به هنا. والله تعالى أعلم.

سنة تسع وأربعين. وقيل: سنة (57). روى عنه الجماعة، سوى البخاريّ، والترمذيّ، وله في هذا الكتاب (48) حديثًا. 2 - (يَحْيىَ بْنُ سَعِيدٍ) بن فرّوخ -بفتح الفاء، وتشديد الراء المضمومة، وسكون الواو، ثم معجمة- التميميّ، أبو سعيد القطّان البصريّ الأحول، ثقة متقن حافظٌ إمام، قدوة، من كبار [9]. رَوَى عن سليمان التيمي، وحميد الطويل، وإسماعيل بن أبي خالد، وعبيد الله بن عمر، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، وعكرمة بن عمار، ويزيد بن أبي عبيد، وأبان بن صمعة، وبهز بن حكيم، وخلق كثير. ورَوَى عنه ابنه محمد بن يحيى بن سعيد، وحفيده أحمد بن محمد، وأحمد، وإسحاق، وعلي ابن المديني، ويحيى بن معين، وعمرو بن علي الفلاس، ومسدد، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو خيثمة، وبشر بن الحكم، وصدقة بن الفضل، وأبو قدامة السرخسي، وخلق كثير. قال علي بن المديني: سمعت يحيى بن سعيد يقول: اختلفت إلى شعبة عشرين سنة. وقال عبد الرحمن بن مهدي: اختلفوا يوما مع شعبة، فقالوا: اجعل بيننا وبينك حَكَمًا، فقال: قد رضيت بالأحول -يعني يحيى بن سعيد القطان-، وقال عمرو بن علي عن يحيى بن سعيد: ما اجمعت أنا وخالد بن الحارث، ومعاذ بن معاذ، إلا قَدَّماني. وقال القواريري عن ابن مهدي: ما رأيت أحسن أخذا للحديث، ولا أحسن طلبا له من يحيى القطان، وسفيان بن حبيب، وقال الأثرم: سمعته يقول: رحم الله تعالى يحيى القطان ما كان أضبطه، وأشد تفقّده، كان محدّثًا، وأثنى عليه، فأحسن الثناء، وقال ابن خزيمة عن بندار: ثنا يحيى بن سعيد، إمام أهل زمانه. وقال إسحاق بن إبراهيم بن أبي حبيب بن الشهيد: كنت أرى يحيى القطان يصلي العصر، ثم يستند، فيقف بين يديه علي ابن المديني، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والشاذكوني، وعمرو بن علي، يسألونه عن الحديث، وهم قيام، هيبةً له، وقال أبو داود عن يحيى بن معين: أقام يحيى القطان

عشرين سنة يختم القرآن في كل ليلة، ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونا رفيعًا حجة. وقال النسائي: ثقة ثبت مرضي. وقال العجلي: بصري ثقة في الحديث، كان لا يحدث إلا عن ثقة. وقال أبو زرعة: كان من الثقات الحفاظ. وقال أبو حاتم: حجة حافظ. وقال أيضًا: كان من سادات أهل زمانه حفظا وورعا وفهما فضلا ودينا وعلما، وهو الذي مهد لأهل العراق رسم الحديث، وأمعن في البحث عن الثقات، وترك الضعفاء، وزاد ابن حبان: ومنه تعلم أحمد ويحيى وعلي وسائر أئمتنا، وقال الخليلي: هو إمام بلا مدافعة، وهو أجل أصحاب مالك بالبصرة، وكان الثوري يتعجب من حفظه، واحتج به الأئمة كلهم، وقالوا من تركه يحيى تركناه. قال عمرو بن علي: سمعت بن سعيد يقول: وُلدت سنة عشرين ومائة في أولها، ومات في سنة ثمان وتسعين ومائة، وفيها أرخه غير واحد، زاد علي بن المديني: في صفر. وقال الدُّوري عن ابن معين، عن عفان بن مسلم: رأى رجل ليحيى بن سعيد قبل موته بعشرين سنة: بَشِّرْ يحيى بن سعيد بأمان من الله تعالى يوم القيامة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (79). 3 - (شعبة) بن الحجّاج الإمام الحجة الثبت [7] تقدّم في 1/ 6. 4 - (ابن عجلان) هو محمد بن عجلان القرشيّ، مولى فاطمة بنت الوليد بن عتبة ابن ربيعة، أبو عبد الله المدنيّ، أحد العلماء العاملين، صدوقٌ، إلا أنه اختلطت عليه أحاديت أبي هريرة -رضي الله عنه-[5]. رَوَى عن أبيه، وأنس بن مالك، وسلمان أبي حازم الأشجعي، وسمي مولى أبي بكر ابن عبد الرحمن، وعامر بن عبد الله بن الزبير، والأعرج، وأبي الزناد، وعكرمة، وغيرهم. ورَوَى عنه صالح بن كيسان، وهو أكبر منه، وعبد الوهاب بن بُخْت، ومات قبله، وإبراهيم بن أبي عبلة، وهو من أقرانه، ومالك، ومنصور، وشعبة، وزياد بن سعد، والسفيانان، والليث، وسليمان بن بلال، ويحيى القطان، وخلق كثير. قال صالح بن أحمد عن أبيه: ثقة. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: سمعت ابن

عيينة يقول: حدثنا محمد بن عجلان، وكان ثقة. وقال أيضا: سألت أبي عن محمد بن عجلان، وموسى بن عقبة؟ فقال: جميعا ثقة، وما أقربهما. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة، وقدمه على داود بن قيس الفراء. وقال الدُّوري عن ابن معين: ثقة، أوثق من محمد بن عمرو، وما يشك في هذا أحد. كان داود بن قيس: يجلس إلى ابن عجلان يتحفظ عنه، وكان يقول: إنها اختلطت على ابن عجلان -يعني أحاديث سعيد المقبري-. وقال يعقوب بن شيبة: صدوق وسط. وقال أبو زرعة: ابن عجلان من الثقات. وقال أبو حاتم، والنسائي: ثقة. وقال ابن سعد: كان عابدا ناسكا فقيها، وكانت له حلقة في المسجد، وكان يفتي. وقال العجلي: مدني ثقة. وقال الساجي: هو من أهل الصدق، لم يحدث عنه مالك إلا يسيرا. وقال ابن عيينة: كان ثقة عالمًا. وقال يحيى القطان عن ابن عجلان: كان سعيد المقبري يحدث عن أبي هريرة، وعن أبيه عن أبي هريرة، وعن رجل عن أبي هريرة، فاختلطت عليه، فجعلها كلها عن أبي هريرة. ولمّا ذكر ابن حبان في كتاب "الثقات" هذه القصة قال: ليس هذا بِوَهْنٍ يُوَهَّنُ الإنسانُ به؛ لأن الصحيفة كلها في نفسها صحيحة، وربما قال ابن عجلان: عن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، فهذا مما حُمل عنه قديما قبل اختلاط صحيفته، فلا يجب الاحتجاج إلا بما يروي عنه الثقات. وقال العقيلي: يضطرب في حديث نافع. وقال الواقدي: سمعت عبد الله بن محمد بن عجلان يقول: حُمِل بأبي أكثر من ثلاث سنين، قال: وقد رأيته، وسمعت منه، ومات سنة ثمان أو تسع وأربعين ومائة، وكان ثقة، كثير الحديث. علّق له البخاريّ، وأخرج له مسلم في المتابعات، ولم يحتج به، وأخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب (47) حديثًا. 4 - (عون بن عبد الله) بن عتبة بن مسعود الْهُذَليّ، أبو عبد الله الكوفيّ الزاهد، ثقة عابد [4]. رَوَى عن أبيه وعم أبيه عبد الله بن مسعود مرسلًا، وأخيه عبيد الله، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، ويوسف بن عبد الله بن سلام، والشعبي، وسعيد بن علاقة،

وأبي بردة بن أبي موسى، وأم الدرداء، وجماعة، ويقال: إن روايته عن الصحابة مرسلة. ورَوَى عنه أخوه حمزة، والمسعودي، وأبو العميس، ومحمد بن عجلان، والزهري، وغيرهم. قال أحمد، ويحيى بن معين، والعجلي، والنسائي: ثقة. وقال ابن المديني: قال عون: صليت خلف أبي هريرة. وذكر الدارقطني أن روايته عن ابن مسعود مرسلة. وقال ابن سعد: لمّا ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، رحل إليه عون بن عبد الله، وعُمر ابن ذَرّ، وأبو الصباح موسى بن أبي كثير، فناظروه في الإرجاء، فزعموا أنه وافقهم، وكان عون ثقة كثير الإرسال. وقال الأصمعي عن أبي نَوْف الهذلي، عن أبيه: كان من آدب أهل المدينة، وأوفقهم، وكان مرجئا، ثم رجع عن ذلك، وقال أبياتا في ذلك منها [من الوافر]: لأَوَّلُ مَا نُفَارِقُ غَيْرَ شَكٍّ ... نُفَارِقُ مَا يَقُولُ المُرْجِئُونَا ثم خرج مع ابن الأشعث، ثم هرب، وصحب عمر بن عبد العزيز في خلافته، وفيهم يقول جرير [من البسيط]: يَا أَيُّهَا الْقَارِئُ المُرْخِي عِمامَتَهُ ... هَذَا زَمَانُكَ إِنِّي قَدْ خَلاَ زَمَنِي وقال العجلي: كان يَرَى الإرجاء، ثم تركه. وقال ابن حبان في ثقات التابعين: كان من عباد أهل الكوفة، وقرائهم، يروي عن أبي هريرة، إن كان سمع منه، وقد أدرك أبا جحيفة. قال البخاري: سمع أبا هريرة، وابن عمرو. وقال ابن عيينة عن أبي هارون، موسى بن أبي عيسى: كان عون يحدثنا، ولحيته ترتش بالدموع. ذكره البخاري فيمن مات بين عشر ومائة إلى عشرين ومائة. أخرج الجماعة، إلا البخاريّ، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث برقم 19 و880 و 896 و 3799 و 4187. 5 - (عبد الله بن مسعود) بن غافل -بمعجمة، وفاء- ابن حبيب بن شَمْخ بن فار ابن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار الْهُذَلي، أبو عبد الرحمن، حَلِيف بني زهرة، وكان أبوه حالف عبد الحارث بن زهرة. أمه أم عبد الله بنت عبد وَدّ بن سواءة، أسلمت، وصحبت. أحد

السابقين الأولين، أسلم قديمًا، وهاجر، الهجرتين، وشهد بدرًا والمشاهد بعدها، ولازم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان صاحب نعليه وحدث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بالكثير، وعن عمر، وسعد بن معاذ، وروى عنه ابناه: عبد الرحمن، وأبو عبيدة وابن أخيه عبد الله بن عتبة، وامرأته زينب الثقفية، ومن الصحابة: العبادلة، وأبو موسى، وأبو رافع، وأبو شُرَيح، وأبو سعيد، وجابر، وأنس، وأبو جُحَيفة، وأبو أمامة، وأبو الطفيل، ومن التابعين: علقمة، والأسود، ومسروق، والربيع بن خثيم، وشريح القاضي، وأبو وائل، وزيد ابن وهب، وزِرّ بن حُبيش، وأبو عمرو الشيباني، وعَبِيدة بن عمرو السلماني، وعمرو بن ميمون، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وأبو عثمان النَّهدي، والحارث بن سُويد، ورِبْعي بن حِرَاش، وآخرون. وآخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين الزبير، وبعد الهجرة بينه وبين سعد بن معاذ، وقال له في أول الإسلام: "إنك لغلام مُعَلَّم". وأخرج البغوي من طريق القاسم بن عبد الرحمن ابن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، قال: قال عبد الله: لقد رأيتني سادس ستة، وما على الأرض مسلم غيرنا. وبسند صحيح عن ابن عباس قال: آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أنس وابن مسعود. وقال أبو نعيم: كان سادس من أسلم، وكان يقول: أخذت من في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبعين سورة. أخرجه البخاري. وهو أول من جهز بالقرآن بمكة. ذكره ابن إسحاق عن يحيى بن عروة، عن أبيه (¬1)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من سره أن يقرأ القرآن غَضّا، كما نزل، فليقرأ على قراءة ابن أم عبد" (¬2). وكان يلزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويحمل نعليه. وقال علقمة: قال لي أبو الدرداء: أليس فيكم صاحب النعلين والسواك والوساد -يعني عبد الله-. وقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذْنُكَ عَلَيَّ أن ترفع الحجاب، وتسمع سوادي حتى أنهاك". أخرجهما أصحاب الصحيح، وعن عبد الله بن مسعود قال: ¬

_ (¬1) أخرجه ابن هشام في "السيرة" 1/ 314 مطولًا، ورجاله ثقات. (¬2) حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده" 1/ 7 - 36 والبيهقيّ في "الكبري" 1/ 452.

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تمسكوا بعهد ابن أم عبد". أخرجه الترمذي في أثناء حديث (¬1). وأخرج الترمذي أيضا من طريق الأسود بن يزيد، عن أبي موسى قال: قدمت أنا وأخي من اليمن، وما نرى ابن مسعود إلا أنه رجل من أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، لما نرى من دخوله ودخول أمه على النبي -صلى الله عليه وسلم-. وعند البخاري في "التاريخ" بسند صحيح عن حُريث بن ظُهير: جاء نعي عبد الله بن مسعود إلى أبي الدرداء، فقال: ما ترك بعده مثله. وقال البخاري: مات قبل قتل عثمان. وقال أبو نعيم وغيره: مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين. وقيل: مات سنة ثلاث. وقيل: مات بالكوفة، والأول أثبت. أخرج له الجماعة، وروى (848) حديثًا، اتفق الشيخان على (64)، وانفرد البخاريّ بـ (21)، ومسلم بـ (35) حديثًا، وله في هذا الكتاب (131) حديثًا، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح (¬2)، إلا أن فيه انقطاعًا؛ لأن عون ابن عبد الله لم يُدرك ابن مسعود -رضي الله عنه-. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، وابن عجلان مدنيّ، والباقيان كوفيّان. 4 - (ومنها): أن فيه روية تابعي عن تابعيّ، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعودٍ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: إِذَا حَدَّثْتُكُم) ووقع في "تحفة الأشراف" 7/ 132: "إذا حُدِّثتم" بالبناء للمفعول (عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَظُنُّوا) أي اعتقدوا ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 5/ 385 والترمذيّ رقم 3810 والحاكم 3/ 75 وصححه، ووافقه الذهبيّ. (¬2) وابن عجلان علّق له البخاريّ، وأخرج له مسلم متابعة.

(بِرَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- الَّذِي هُوَ (¬1) أَهْنَاهُ) أي الذي هو أوفق به من غيره، و"أهنأ" في الأصل بالهمزة اسم تفضيل من هنُأ الطعام بالهمزة: إذا ساغ، أو جاء بلا تَعَب، ولم يَعقُبه بلاءٌ، لكن قُلبت همزته ألفًا للازدواج والمشاكلة (وَأَهْدَاهُ) أي أليق بكمال هداه (وَأَتْقَاهُ) أي أنسب بكمال تقواه، وهو أن قوله صوابٌ، ونُصْحٌ، واجب العمل به؛ لكونه جاء به من عند الله تعالى، وبلّغه الناسَ بلا زيادة ولا نقصان. و"أتقى" اسم تفضيل من الاتقاء على الشذوذ؛ لأن القياس بناء اسم التفضيل من الثلاثيّ المجرد، وهو مبنيّ على توهّم أن التاء حرف أصليّ. قاله السنديّ (¬2). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "من الاتّقاء على الشذوذ الخ" محلّ نظر؛ لأنه يقال: تَقَاه يَتْقِيه، كقَضَاه يَقْضِيه ثلاثيّا، قال في "القاموس": واتّقيتُ الشيءَ، وتَقَيْتُهُ أَتَّقِيهِ، وأَتْقِيهِ تُقًى وَتَقِيّةً، وتِقَاءً ككساءٍ: حذِرْتُهُ، والاسم التّقْوَى. انتهى. فعلى هذا يكون أتقى اسم تفضيل قياسيّا، فليُتأمّل. والله تعالى أعلم. وقال في "إنجاح الحاجة": قوله: "فظنّوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخ": أي فاقبلوه، واعزموا عليه، فإن الوجوه الممكنة في فعل من أفعاله، أو قول من أقواله متعدّدةٌ، أحسنها ما ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم-، واستقرّ أمر الصحابة عليه. وتوضيح المقام أن الشارع ربّما يتكلّم بكلام يحتمل المعاني والوجوه، إما لعمومه، أو لاشتراكه، أو إجماله، أو مجازه (¬3)، فالذي في قلبه زيغٌ يتّبع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله. مثلًا ورد {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]: أي كيف شئتم، فأحلّ الغبيّ الإتيان في الأدبار، وما تأمّل النهي الوارد عنه. ¬

_ (¬1) سقط من "تحفة الأشراف" قوله: "الذي هو"، ولفظه: "فظنوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهناه وأهداه وأتقاه". (¬2) راجع "شرح السنديّ" 1/ 20 - 21. (¬3) هكذا في النسخة، ولعل الأولى "ومجازيّته".

وكذلك حمل حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما جمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الظهر والعصر في المدينة بلا خوف، ولا مطر"، مع احتمال الجمع الصوريّ على الجمع الحقيقي؛ مخالفة لإجماع الأمة، والنصّ الناطق: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، وهكذا كلّ من خالف الإجماع من أهل الأهواء بظاهر النصوص من الْفِرَق الضّالّة، فهذا الحديث منطبقٌ عليه؛ لأنه أَوَّلَ النصّ على مراده، واللازم أن يُحمَل على الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما هو مناسبٌ لورعه وتقواه. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حمل حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذا على الجمع الصوريّ غير صحيح، ودعوى الإجماع على هذا باطلة؛ لأن حمله على الجمع الحقيقيّ مذهب بعض السلف، ومنهم ابن عبّاس الراوي له، فالحقّ جوازه لمن لا يتّخذه عادة، وقد حقّقت القول في ذلك فيما كتبته على النسائيّ، فراجعه تستفد. والله تعالى وليّ التوفيق. قال: أو "فظُنُّوا" برسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي يَليق بشأنه من الهدى والتقى، فإنه لا يأمرنا إلا بالخير، وإن كان بعض الأمور مخالفًا للطبع والعادة؛ فإن النفس مجبولة على الشرّ، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} الآية [البقرة: 216]. انتهى (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلقّ بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه هذا ضعيف؛ للانقطاع بين عون ابن عبد الله وابن مسعود -رضي الله عنه-، كما سبق بيانه، وهو صحيحٌ من حديث عليّ -رضي الله عنه- الآتي بعده، والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (2/ 19) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (أحمد) في "مسند ¬

_ (¬1) "إنجاح الحاجة" للشيخ عبد الغنيّ المجدّديّ الدهلويّ المدنيّ المتوفّى سنة (1295 هـ).

المكثرين" (3463 و 3744) و (الدارميّ) في "المقدّمة" (591) والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان وجوب تعظيم حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. 2 - (ومنها): أن الواجب على المسلم إذا سمع حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أن يُجلّه، ويعتقد فيه الخير كلّ الخير، ويرى الشرّ كلَّ الشرّ في مخالفته. 3 - (ومنها): أن الواجب عليه أن يعتقد في النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ما يليق بعظيم رتبته، وجسيم مكانته، من الهدى، والبرّ، والتقوى، ولا يراه كأحد من الناس. 4 - (ومنها): أنه لا ينبغي أن يحمِل حديثه -صلى الله عليه وسلم- إلا على المحامل الحسنة الموافقة لما جاء به من الهداية والإرشاد، فلا يسيء ظنه به، وإن كان ظاهره لا يوافق هواه؛ لأن الخير كلّ الخير فيما جاء به، لا فيما تهواه نفسه؛ لأنها أمّارة بالسوء، ففي التنزيل العزيز: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] وروي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به"، والحديث وإن كان فيه كلام، إلا أن الحديث المتّفق عليه، يؤيّده، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده، وولده، والناس أجمعين". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله المذكور أول الكتاب قال: 20 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَن شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: "إِذَا حَدَّثْتُكُمْ (¬1) عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- حَدِيثًا، فَظُنُّوا بِهِ الَّذِي هُوَ أَهْنَاهُ، وَأَهْدَاهُ، وَأَتْقَاهُ"). ¬

_ (¬1) هكذا نسخ "ابن ماجه"، ووقع في "تحفة الأشراف" 7/ 402 رقم (10177): "إذا حُدِّثتم".

رجال هذا الإسناد: سبعة: 1 - (محمد بن بشّار) العبديّ، أبو بكر البصريّ، المعروف ببندار، ثقة حافظ [10] 1/ 6. 2 - (يحيى بن سعيد) القطّان الإمام الحجة المذكور في السند الماضي. 3 - (شعبة) بن الحجّاج البصريّ الإمام الثقة الثبت الحجة [7] 1/ 6. 4 - (عمرو بن مُرّة) بن عبد الله بن طارق بن الحارث بن سلمة بن كعب بن وائل ابن جمل بن كنانة بن ناجية بن مراد الْجَمَليّ -بفتح الجيم والميم- المراديّ، أبو عبد الله الكوفيّ الأعمى، ثقة عابد، كان لا يُدلّس، ورُمي بالإرجاء [5]. رَوَى عن عبد الله بن أبي أوفى، وأبي وائل، ومرة الطيب، وسعيد بن المسيب، وعبد الرحمن ابن أبي ليلى، وعبد الله بن الحارث النجراني، وعمرو بن ميمون الأودي، وغيرهم. ورَوَى عنه ابنه عبد الله، وأبو إسحاق السبيعي، وهو أكبر منه، والأعمش، ومنصور، وزيد بن أبي أنيسة، ومسعر، والعلاء بن المسيب، وإدريس بن يزيد الأودي، والأوزاعي، والمسعودي، وحصين بن عبد الرحمن، وغيرهم، قال البخاري عن علي: له نحو مائتي حديث. وقال سعيد الأُرَاطيّ (¬1): زَكّاه أحمد ابن حنبل. وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق ثقة، كان يرى الإرجاء. وقال حفص بن غياث: ما سمعت الأعمش يُثني على أحد إلا على عمرو بن مرة، فإنه كان يقول: كان مأمونا على ما عنده. وقال بقية عن شعبة: كان أكثرهم علمًا. وقال معاذ بن معاذ عن شعبة: ما رأيت أحدًا من أصحاب الحديث إلا يدلس إلا ابن عون، وعمرو ابن مرة. وقال قُرَاد عن شعبة: ما رأيت عمرو بن مرة في صلاة قط، إلا ظننت أنه لا ينفتل حتى يستجاب له. وقال عبد الملك بن ميسرة في جنازته: إني لأحسبه خير أهل ¬

_ (¬1) قال في "القاموس": وذو أُراط كغُراب: موضعان. انتهى.

الأرض. وقال مسعر: لم يكن بالكوفة أحب إلي، ولا أفضل منه. وقال ابن عيينة عن مسعر: كان عمرو من معادن الصدق. وقال عبد الرحمن بن مهدي: أربعة بالكوفة لا يختلف في حديثهم، فمن اختلف عليهم، فهو يخطىء، منهم: عمرو بن مرة. وقال جرير عن مغيرة: لم يزل في الناس بقية حتى دخل عمرو في الإرجاء، فتهافت الناس فيه. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يُكنى أبا عبد الرحمن، وكان مرجئًا. ووثقه ابن نمير، ويعقوب بن سفيان. وقال أبو نعيم، وأحمد بن حنبل: مات سنة (116)، وقيل: مات سنة (118). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (26) حديثًا. 5 - (أبو الْبَخْتَريّ) -بفتح الموحّدة، والمثنّاة، بينهما خاء معجمة ساكنة- سعيد بن فيروز ابن أبي عمران الطائيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبتٌ، فيه تشيّعٌ قليل، كثير الإرسال [3]. رَوَى عن أبيه، وابن عباس، وابن عمر، وأبي سعيد، وأبي كبشة، وأبي برزة، ويعلى بن مرة، وأبي عبد الرحمن السُّلَمِيّ، وغيرهم. ورَوَى عنه عمرو بن مرة، وعبد الأعلى بن عامر، وعطاء بن السائب، وسلمة بن كهيل، ويونس بن خَبّاب، وخبيب بن أبي ثابت، ويزيد بن أبي زياد، وغيرهم. قال عبد الله بن شعيب عن ابن معين: أبو البختري الطائي اسمه: سعيد، وهو ثبت، ولم يسمع من علي شيئًا. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة. وكذا قال أبو زرعة. وقال أبو حاتم: ثقة صدوق. وقال أبو داود: لم يسمع من أبي سعيد. وقال فطر ابن خليفة عن حبيب بن أبي ثابت: اجتمعت أنا وسعيد بن جبير، وأبو البختري، فكان الطائي أعلمنا وأفقهنا. وقال هلال بن خباب: كان من أفاضل أهل الكوفة. قال أبو نعيم مات في الجماجم سنة (83). وقال ابن سعد: قُتل بدُجَيل مع ابن الأشعث سنة (83)، وكان كثير الحديث يُرسل حديثه، ويَروي عن الصحابة، ولم يسمع من كثير أحد، فما كان من حديثه سماعًا، فهو حسن، وما كان غيره فهو ضعيف. وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل" عن أبيه: لم يدرك أبا ذر، ولا أبا سعيد، ولا زيد بن ثابت، ولا رافع

ابن خديج، وهو عن عائشة مرسل. وقال أبو زرعة: هو عن عمر مرسل. وذكره ابن حبان في "الثقات"، فقال: سعيد بن فيروز، ويقال: سعيد بن عمران، وقيل: غير ذلك. وقال العجلي: تابعي ثقة، فيه تشيع. ونقل ابن خلفون توثيقه عن ابن نمير. وقال أبو أحمد الحاكم في "الكنى": ليس بالقوي عندهم، كذا قال، وهو سهو. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث، برقم 20 و 1822 و2301 و2875 و 3998. 6 - (أبو عبد الرحمن السُّلَميّ) (¬1) عبد الله بن حبيب بن رُبَيعة -بضم الراء، وفتح الموحّدة، وتشديد الياء المكسورة، مصغّرًا- الكوفيّ المقرىء، مشهور بكنيته، ولأبيه صحبة، ثقة ثبتٌ [2]. رَوَى عن عمر، وعثمان، وعلي، وسعد، وخالد بن الوليد، وابن مسعود، وحذيفة، وأبي موسى الأشعري، وأبي الدرداء، وأبي هريرة رضي الله عنهم. ورَوَى عنه إبراهيم النخعي، وعلقمة بن مرثد، وسعد بن عبيدة، وأبو إسحاق السبيعي، وسعيد ابن جبير، وأبو الحصين الأسدي، وعطاء بن السائب، وعبد الأعلى بن عامر، وعبد الملك بن أعين، ومسلم البطين، وأبو البختري الطائي، وعاصم بن بهدلة، وغيرهم. قال أبو إسحاق السبيعي: أقرأ القرآن في المسجد أربعين سنة. وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة. وقال أبو داود: كان أعمى. وقال النسائي: ثقة. وقال حجاج بن محمد عن شعبة: لم يسمع من ابن مسعود، ولا من عثمان، ولكن سمع من علي. وقال ابن سعد: توفي زمن بشر بن مروان. وقيل: مات سنة (72). وقيل: سبعين. وقال ابن قانع: مات سنة خمس وثمانين، وهو ابن (90) سنة. وقال عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن: صمت لله ثمانين رمضان. وذكره البخاري في "الأوسط" في فصل من مات بين السبعين إلى الثمانين، وقال: روى عن أبيه. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: ليس تثبت ¬

_ (¬1) "السُّلَمِيّ" بضم السين المهملة، وفتح اللام-: نسبة إلى سُلَيم قبيلة مشهورة. قاله في "لبّ اللباب" 2/ 23.

روايته عن علي، فقيل له: سمع من عثمان؟ قال: روى عنه، ولم يذكر سماعًا. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: لم يسمع من عمر، وقال البخاري في "تاريخه الكبير": سمع عليا، وعثمان، وابن مسعود. وقال بن سعد: قال محمد بن عمر: كان ثقة، كثير الحديث. وقال غيره عن الواقدي: شهد مع علي صِفِّين، ثم صار عثمانيا، ومات في سلطان الوليد بن عبد الملك، وكان من أصحاب ابن مسعود. وقال ابن عبد البر: هو عند جميعهم ثقة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث، برقم 20 و75 و 207و208 و 800 و2080و3429 و 3653. 7 - (عليّ بن أبي طالب) واسم أبيه عبد مناف -على المشهور- ابن عبد المطلب بن هاشم ابن عبد مناف القرشي الهاشمي، أبو الحسن، أول الناس إسلاما، في قول كثير من أهل العلم، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، وهي أول هاشميّة وَلَدت هاشميًّا، أسلمت، وهاجرت إلى المدينة، وتُوفّيت في حياة النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وصلّى عليها النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ونزل قبرها رضي الله عنها. وُلد عليّ -رضي الله عنه- قبل البعثة بعشر سنين على الصحيح، فرُبِّي في حجر النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يفارقه، وشهد معه المشاهد إلا غزوة تبوك، فقال له بسبب تأخيره له بالمدينة: "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى"، وزوجه بنته فاطمة، وكان اللواء بيده في أكثر المشاهد، ولمّا آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه قال له: "أنت أخي"، ومناقبه كثيرة، حتى قال الإمام أحمد: لم يُنقل لأحد من الصحابة ما نقل لعلي. وقال غيره: وكان سبب ذلك بغض بني أمية له، فكان كل من كان عنده علم من شيء من مناقبه من الصحابة يثبته، وكلما أرادوا إخماده، وهدّدوا من حدث بمناقبه لا يزداد إلا انتشارًا. وقد وَلَّدَ له الرافضة مناقب موضوعة، هو غنى عنها، وتتبع النسائي ما خُصّ به من دون الصحابة، فجمع من ذلك شيئا كثيرًا، بأسانيد أكثرها جياد. رَوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا، وروى عنه من الصحابة ولداه: الحسن والحسين، وابن مسعود، وأبو موسى، وابن عباس، وأبو رافع، وابن عمر، وأبو سعيد، وصهيب، وزيد بن أرقم، وجرير، وأبو أمامة، وأبو

جحيفة، والبراء بن عازب، وأبو الطفيل، وآخرون. ومن التابعين من المخضرمين أو من له رؤية: عبد الله بن شداد بن الهاد، وطارق ابن شهاب، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، ومسعود بن الحكم، ومروان بن الحكم، وآخرون. وكان قد اشتهر بالفروسية والشجاعة والإقدام، وكان أحد الشورى الذين نَصَّ عليهم عمر، فعرضها عليه عبد الرحمن بن عوف، وشرط عليه شروطا، امتنع من بعضها، فعدل عنه إلى عثمان، فقبلها فولاه، وسَلَّمَ علي، وبايع عثمان، ولم يزل بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- متصديًا لنشر العلم والفتيا، فلما قُتل عثمان بايعه الناس، ثم كان من قيام جماعة من الصحابة منهم: طلحة، والزبير، وعائشة، في طلب دم عثمان، فكان من وقعة الجمل ما اشتهر، ثم قام معاوية في أهل الشام، وكان أميرها لعثمان، ولعمر من قبله، فدعا إلى الطلب بدم عثمان، فكان من وقعة صِفِّين ما كان، وكان رأى عليّ أنهم يدخلون في الطاعة، ثم يقوم ولي دم عثمان، فيدعى به عنده، ثم يعمل معه ما يوجبه حكم الشريعة المطهرة، وكان من خالفه يقول له: تتبعهم، واقتلهم، فيرى أن القصاص بغير دعوى، ولا إقامة بينة لا يتجه، وكُلٌّ من الفريقين مجتهد. وكان من الصحابة فريق لم يدخلوا في شيء من القتال، وظهر بقتل عمار أن الصواب كان مع علي، واتفق على ذلك أهل السنة بعد اختلاف كان في القديم، ولله الحمد. وكان قتل علي في ليلة السابع عشر من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة، ومدة خلافته خمس سنين، إلا ثلاثة أشهر ونصف شهر؛ لأنه بويع بعد قتل عثمان في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، وكانت وقعة الجمل في جمادى سنة ست وثلاثين، ووقعة صفين في سنة سبع وثلاثين، ووقعة النهروان مع الخوارج في سنة ثمان وثلاثين، ثم أقام سنتين يُحَرِّض على قتال البغاة، فلم يتهيأ ذلك إلى أن مات -رضي الله عنه- (¬1). أخرج له الجماعة، ¬

_ (¬1) راجع "الإصابة" 4/ 464 - 468.

وروى (586) حديثًا، اتفق الشيخان على (20) وانفرد البخاريّ بـ (9) ومسلم بـ (15) حديثًا، وله في هذا الكتاب (109) أحاديث. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سباعيّات المصنف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، والباقون كوفيّون. 4 - (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة، وقد تقدّموا. 5 - (ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين يروي بعضهم عن بعض: عمرو، عن أبي الْبَخْتَريّ، عن أبي عبد الرحمن السُّلَميّ. 6 - (ومنها): أن صحابيّه أحد الخلفاء الأربعة، وأحد العشرة المبشّرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين توفّي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو عنهم راض، وأحد السابقين إلى الإسلام، وابن عم المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وزوج ابنته، وأقضى الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وهو المشهور بلقب أبي تراب، لقبّه به النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، لمّا وجده نائمًا في المسجد، وقد سقط رداؤه، وأصابه التراب، والقصّة مشهورة في "الصحيحين"، وغيرهما، وأنه أخو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمؤاخاة، وهو أبو السبطين، وأول هاشميّ وُلد بين هاشميين، وأول خليفة من بني هاشم، وأحد العلماء الربانيين، وأحد الشجعان المشهورين، والزهّاد المذكورين، شهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المشاهد كلها، إلا تبوك، كما تقدّم. وأما شرح الحديث، وبيان فوائده فقد تقدّما في الحديث الذي قبله، فلا حاجة إلى إعادتهما، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عليّ رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (2/ 20) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه أحمد في "مسنده العشرة" (938 و 988 و 1027 و 1038) (الدارميّ) في "المقدّمة" (592). وقال الحافظ البوصيريّ رحمه الله تعالى في "مصباح الزجاجة": هذا إسناد صحيح، رجاله محتجّ بهم في "الصحيحين"، ورواه أبو داود الطيالسيّ في "مسنده" عن شعبة بإسناده ومتنه. ورواه مسدّد في "مسنده" عن يحيى، عن مسعر، عن عمرو بن مرّة، فذكره بإسناده ومتنه. ورواه أحمد بن منيع في "مسنده": حدثنا أبو قَطَن، قال: حدّثنا شعبة، فذكره، وزاد: "فخرج إلينا حين يوم (كذا (¬1)) المؤذّن، فقال: أين السائل عن الوتر؟، هذا حينُ وترٍ حسن. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله المذكور أول الكتاب قال: 21 - (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ المُنْذِرِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفُضَيْلِ، حَدَّثَنَا المقْبُرِيُّ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، أَنَّهُ قَالَ: "لَا أَعْرِفَنَّ مَا يُحَدَّثُ أَحَدُكُمْ عَنِّي الحدِيثَ، وَهُوَ مُتِّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ، فَيَقُولُ: اقْرَأْ قُرْآنًا، مَا قِيلَ مِنْ قَوْلٍ حَسَنٍ، فَأَنَا قُلْتُهُ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (عليّ بن المنذر) بن زيد الأوديّ، ويقال: الأسديّ، أبو الحسن الكوفيّ الطَّرِيقيّ -بفتح الطاء المهملة، وكسر الراء، بعدها تحتانيّة ساكنة، ثم قاف- الكوفيّ، صدوقٌ يتشيّع [10]. رَوَى عن أبيه، وابن عيينة، وابن فضيل، وابن نمير، ووكيع، والوليد بن مسلم وإسحاق بن منصور السلولي، وأبي غسان النهدي، وجماعة. وروى عنه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، ومطين، ومحمد بن يحيى بن منده، وزكرياء السجزي، وغيرهم. ¬

_ (¬1) هكذا النسخة والظاهر أنه كان بياض فكتب مكانه (كذا) والله أعلم.

قال ابن أبي حاتم: سمعت منه مع أبي، وهو صدوق ثقة، سئل عنه أبي؟ فقال: محله الصدق. وقال ابن نمير: هو ثقة صدوق. وقال النسائي: شيعي محض ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الإسماعيلي: في القلب منه شيء، لَسْتُ أَخْبُرُهُ. وقال ابن ماجه: سمعته يقول: حججت ثمانيا وخمسين حجة، أكثرها راجلًا (¬1). وذكر ابن السمعاني أنه قيل له: "الطَّرِيقيّ"، لأنه وُلد بالطريق. وقال الدارقطني: لا بأس به، وكذا قال مسلمة بن قاسم، وزاد: كان يتشيع. وقال مطين: مات في ربيع الآخر سنة ست وخمسين ومائتين. تفرّد به الترمذيّ، والنسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب ثمانية عشر حديثًا. 2 - (محمد بن الفضيل) بن غَزْوان -بفتح المعجمة، وسكون الزاي- ابن جرير الضبيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ، عارفٌ، رُمي بالتشيّع [9]. رَوَى عن أبيه، وإسماعيل بن أبي خالد، وعاصم الأحول، والمختار بن فلفل، وأبي إسحاق الشيباني، وأبي مالك الأشجعي، وخلق كثير. وروى عنه الثوري، وهو أكبر منه، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأحمد ابن إشكاب الصفار، وأحمد بن عمر الوكيعي، وأبو خيثمة، وقتيبة، وغيرهم. قال حرب عن أحمد: كان يتشيع، وكان حسن الحديث. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال أبو زرعة: صدوق من أهل العلم. وقال أبو حاتم: شيخ. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أبو داود: كان شيعيا محترقًا. ذكره ابن حبان في "الثقات". وقال: كان يغلو في التشيع. وقال ابن سعد: كان ثقة، صدوقًا، كثير الحديث، متشيعا، وبعضهم لا يحتج به. وقال العجلي: كوفي ثقة شيعي. وكان أبوه ثقة، وكان عثمانيا. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال علي بن المديني: كان ثقة ثبتا في الحديث. وقال الدارقطني: كان ثبتا في ¬

_ (¬1) سيأتي هذا الكلام في"كتاب الصيد" برقم (3199) إن شاء الله تعالى.

الحديث، إلا أنه كان منحرفا عن عثمان. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة شيعي. وقال أبو هاشم الرفاعي: سمعت ابن فضيل يقول: رَحِمَ الله عثمان، ولا رَحِمَ من لا يترحم عليه. قال: وسمعته يحلف بالله أنه صاحب سنة، رأيت على خفه أثر المسح، وصليت خلفه ما لا يحصى، فلم أسمعه يجهر يعني بالبسملة. وقال الحافظ: صَنّفَ مصنفات في العلم، وقرأ القراءات على حمزة الزيات. قال ابن سعد، وأبو داود: توفي سنة أربع وتسعين، زاد أبو داود: في أولها. وقال البخاري، وغير واحد: مات سنة خمس وتسعين ومائتين. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (61) حديثًا. 3 - (المقبريّ) هو عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد كيسان، أبو عبّاد الليثيّ مولاهم المدني، متروك [7]. رَوَى عن أبيه، وجده، وعبد الله بن أبي قتادة. ورَوَى عنه حفص بن غياث، ومحمد بن جعفر بن أبي كثير، ومُعارك بن عباد، وهشيم، ومروان بن معاوية، ووهب ابن إسماعيل الأسدي، ومحمد بن فضيل، وغيرهم. قال عمرو بن علي: كان عبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن سعيد، لا يحدثان عنه. وقال أبو قدامة عن يحيى بن سعيد: جلست إليه مجلسًا، فعرفت فيه -يعني الكذب-. قال أبو طالب عن أحمد: منكر الحديث متروك الحديث وكذا قال عمرو بن علي. وقال عباس الدوري عن ابن معين: ضعيف، وقال الدارمي عن ابن معين: ليس بشيء. وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن يحيى: لا يكتب حديثه. وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث، لا يوقف منه على شيء. وقال أبو: حاتم: ليس بقوي وقال البخاري. تركوه. وقال النسائي: ليس بثقة، تركه يحيى، وعبد الرحمن. وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث. وقال ابن عدي: وعامة ما يرويه الضعفُ عليه بَيِّنٌ وضعفه ابن الْبَرْقِيّ، ويعقوب بن سفيان، وأبو داود، والساجي، وقال الدارقطني: متروك، ذاهب الحديث. وقال ابن حبان: كان يقلب الأخبار، حتى يَسْبِقَ إلى القلب أنه المُتَعِّمد لها. وقال البزار:

فيه لين. تفرّد به الترمذيّ (¬1)، والمصنّف، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث برقم 21 و 256 و 958 و 1422 و 1636 و 2439 و 2584 و3311. 4 - (جدّه) كيسان، أبو سعيد المقبريّ المدنيّ، صاحب العباء، مولى أم شَرِيك، ثقة ثبتٌ [2]. رَوَى عن عمر، وعلي، وعبد الله بن سلام، وأسامة بن زيد، وأبي هريرة، وأبي شريح الخزاعي، وأبي سعيد الخدري، وعقبة بن عامر، وغيرهم. ورَوَى عنه ابنه سعيد، وابن ابنه عبد الله بن سعيد، وعبد الملك بن نوفل بن مُساحق، وأبو صخر، حميد بن زياد. ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل المدينة. وقال الواقدي: كان ثقة كثير الحديث، توفي سنة مائة. وقال ابن سعد: توفي في خلافة الوليد بن عبد الملك. وقال النسائي: لا بأس به. وقال إبراهيم الحربي: كان ينزل المقابر، فسمي بذلك. وقيل: إن عمر جعله على حَفْرِ القبور، فسمي المقبري، وجعل نُعيمًا على إجمار المسجد، فسمي المجمر. قال الحافظ: هذا بعيد من الصواب، وما أظن نعيما أدرك عمر. وقال البخاري في "صحيحه": قال إسماعيل بن أبي أويس: إنما سُمِّي المقبري؛ لأنه كان ينزل ناحية المقابر. وزعم الطحاوي في "بيان المشكل" أنه مات سنة خمس وعشرين ومائة، وهو وهم منه، فإن ذلك تاريخ وفاة ابنه سعيد، وحاول الطحاوي بذلك إنكار سماعه من أبي رافع، ومن الحسن بن علي، ولا إنكار في ذلك؛ لأن البخاري قد جزم بأن أبا سعيد سمع من عمر، ولو صح ما قال الطحاوي، لكان عمر أبي سعيد أكثر من مائة وعشر سنين، وهذا لم يقله أحد، وقد صرح أبو داود في روايته لحديث أبي سعيد، عن أبي رافع بالسماع. وفرق ابن حبان في "الثقات" بين كيسان صاحب العباء، رَوَى عن عمر، وعنه ¬

_ (¬1) ذكر في "تهذيب التهذيب" 2/ 346 أن له عند الترمذيّ حديث واحد في المغازي، وعند النسائي في الاستعاذة من الجوع، لكنه كنى عنه، ولم يسمه، أخرج له في "المجتبى" 8/ 263.

أبو صخر، وبين كيسان مولى أم شريك، يكنى أبا سعيد، وهو المعروف بالمقبري؛ لأن منزله كان بالقرب من المقابر. فالله أعلم. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث برقم 21 و 256 و 1087 و 1636 و 1679 و 1848 و 3439 و 3311. 5 - (أبو هريرة) -رضي الله عنه-، تقدّم في أول الباب 1/ 1، والله تعالى أعلم (¬1). شرح الحديث: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، أنَّهُ قَالَ: "لَا أَعْرِفَنَّ) من المعرفة، و"لا" نافية، والنون المشدّدة نون التوكيد: أي لا أعلمنّ، ولا أجدنّ، وهو نظير قوله: "لا أُلفيَنّ"، وقد تقدّم تمام البحث فيه قرييبًا (مَا يُحَدَّثُ أَحَدُكُمْ عَنِّي الحدِيثَ) "ما" مصدريّة، و"يُحدّث" بالبناء للمفعول، وهو في تأويل المصدر مفعول "أعرفنّ": أي لا أعرفنّ تحديث أحدكم (وَهُوَ مُتَّكِئٌ) جملة في محلّ نصب على الحال أي حال كونه متكئًا: أي متوسّدًا (عَلَى أَرِيكَتِهِ) متعلّق بـ "متكىء": أي سريره المزيّن (فَيَقُولُ) ردّا على حديثي (اقْرَأْ قُرْآنا) فعل أمر من القراءة: أي يقول لراوي الحديث اقرأ قرآنًا حتى نعرف به صدق هذا الحديث من كذبه. ويحتمل أن يكون "أَقْرَأُ قرآنًا" بصيغة المضارع للمتكلّم: أي أنا اقرأ القرآن، فإن وجدته موافقًا لحديثك قبلته، وإلا رددته. وإنما نكّر القرآن؛ لأن مراده بعض آياته الذي بقراءته يظهر الأمر بزعمه الباطل. ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "اقرأ قرآنًا"، النهي عن الحديث أصلًا، فكأنه يقول له: اترك حديثك، فإني لا أقبل إلا القرآن، نظير ما تقدّم في قوله: "فما وجدنا في كتاب الله من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام، حرّمناه"، وقوله: "ما وجدنا في كتاب الله اتّبعناه". (مَا) مصولٌ اسميٌّ: أي الذي (قِيلَ) أي ذُكر، ونُقل (مِنْ قَوْلٍ حَسَنٍ، فَأَنا قُلْتُهُ) هذا من قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ذكره ردّا على المتّكىء الذي يزعم أنه لا يقبل إلا القرآن، والمعنى ¬

_ (¬1) لم أذكره لطائف الإسناد؛ لأنه ضعيف، لأن فيه متروكًا، فتنبّه.

أن ما نقل عني بسند صحيح من القول الحسن الذي لا يتعارض مع النصوص الصحيحة، فإنه -صلى الله عليه وسلم- قاله، وهو كلام حسنٌ لا يصحّ ردّه بما زعمه المتكىء. قال السنديّ رحمه الله تعالى: أو هو من كلام المتّكىء، ذكره افتخارًا بمقاله، وإعجابًا برأيه، وأن مقاله مما ينبغي للناس الرجوع إليه. انتهى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كونه من كلام المتّكىء بعيدٌ، فالوجه الأول هو الصواب. . والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -صلى الله عليه وسلم- هذا ضعيف جدّا؛ لأن في سنده المقبريّ، وهو متروك، كما سبق في ترجمته آنفًا، والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (2/ 21) بهذا السند فقط، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (2/ 367) و (483) وفي "باقي مسند المكثرين" (8446 و9880) و (البزّار) (126) من طريق أبي معشر نَجيح بن عبد الرحمن، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، وأبو معشر ضعيف. وهذا الحديث لم يذكره البوصيريّ في "مصباح الزجاجة" مع أنه من شرطه؛ إذ هو مما انفرد به المصّنف، فكان عليه أن يذكره، فيُستدرك عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله المذكور أول الكتاب قال: 22 - (حَدَّثَنَا مُحمَّدُ بن عَبَّادِ بْنِ آدَمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ح وحَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيَمْانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة قَالَ لِرَجُلٍ: يَا ابْنَ أَخِي إِذَا حَدَّثْتُكَ عَنْ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- حدِيثًا، فَلا تَضْرِبْ لَهُ الأَمْثَالَ.

رجال هذا الإسناد: ثمانية: 1 - (محمد بن عبّاد بن آدم) الْهُذَليّ، أبو عبد الله البصريّ، مقبول [10]. رَوَى عن أبيه، وأبي أحمد الزبيري، وعبد الوهاب الثقفي، وابن أبي عدي، وغندر، ومروان بن معاوية، ومعتمر بن سليمان، وغيرهم. ورَوَى عنه النسائي، وابن ماجه، وعمرو بن محمد بن بجير، والحسن بن علي الفسوي، وأبو بكر أحمد بن محمد بن صدقة، ومحمد بن أبان الأصبهاني، ومحمد بن أحمد بن سهل البركاني، وأبو عروبة، وأبو بكر بن أبي داود وآخرون. ذكر الْقَراب في تاريخه بإسناد له أنه توفي في رمضان سنة ثمان وستين ومائتين، تفرّد به النسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا 2/ 22 وفي "كتاب الجنائز" حديث رقم (1547). 2 - (أبوه) عبّاد بن آدم الْهُذَليّ البصريّ، رَوَى عن شعبة، وحماد بن سلمة، وعنه ابنه محمد فقط، مجهول [9]، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 3 - (هنّاد بن السريّ) -بفتح السين المهملة، وكسر الراء الخفيفة- ابن مصعب بن أبي بكر بن شَبْر بن صَعْفُوق بن عَمْرو بن زُرَارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم التميميّ الدارميّ، أبو السَّرِيّ الكوفيّ، ثقة [10]. رَوَى عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، وهشيم، وأبي بكر بن عياش، وعبد الله بن إدريس، وأبي الأحوص، وحفص بن غياث، وعبدة بن سليمان، وغيرهم. ورَوَى عنه البخاري في "خلق أفعال العباد"، والباقون، وابن بن أخيه محمد بن السري بن يحيى بن السري، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وأحمد بن منصور الرمادي، ومحمد ابن عبد الملك الدقيقي، ومطين، وعبدان الأهوازي، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وغيرهم. قال أحمد بن حنبل: عليكم بهناد. وقال أبو حاتم. صدوق. وقال قتيبة: ما رأيت وكيعا يُعَظّم أحدا تعظيمه لهناد. "وقال النسانّي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال السراج: قال هناد بن السري: وُلدت سنة اثنتين وخمسين ومائة، قال: ومات في ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين ومائتين. وله في هذا الكتاب (32) حديثًا.

4 - (عبدة بن سليمان) الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، يقال: اسمه عبد الرحمن بن سليمان بن حاجب بن زُرَارة بن عبد الرحمن بن صُرَد بن سُمَير بن مليل بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب، أدرك صُرَد الإسلامَ، وأسلم، ثقة ثبتٌ [8]. رَوَى عن إسماعيل بن أبي خالد، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعاصم الأحول، وعبيد الله بن عمر، وهشام بن عروة، وأبو إسحاق، وطلحة بن يحيى بن طلحة، وسعيد بن أبي عروبة، والأعمش، والثوري، وعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وغيرهم. ورَوَى عنه أحمد، وإسحاق، وابنا أبي شيبة، وإبراهيم بن موسى الرازي، وعمرو الناقد، وأبو الشعثاء علي بن الحسن، ومحمد بن سلام البيكندي، وأبو كريب محمد بن العلاء، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وهناد بن السري، وأبو سعيد الأشج، وإبراهيم بن مُجَشّر، وغيرهم. قال صالح بن أحمد عن أبيه: ثقة ثقة، وزيادة مع صلاح في بدنه، وكان شديد الفقر. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: أبو أسامة أحب إليك، أو عبدة بن سليمان؟ قال: ما منهما إلا ثقة. وقال العجلي: ثقة رجل صالح، صاحب قرآن يُقْرِىء. وقال الميموني عن أحمد: قدمت الكوفة سنة (188) وقد مات عبدة سنة سبع وثمانين ومائة قبل قدومي بسنة. وقال ابن سعد: كان ثقة، مات في رجب سنة (88)، وكذا أرخه ابن نمير، لكنه قال في جمادى الثانية. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مستقيم الحديث جدّا، مات في رجب سنة (7). وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي وأبو زرعة، عن عبدة، ويونس بن بكير، وسلمة بن الفضل، أيهم أحب إليكم في ابن إسحاق؟ فقال: عبدة بن سليمان. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: ثقة، مسلم صدوق. وقال الدارقطني: ثقة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (50) حديثًا. 5 - (شعبة) بن الحجاج الإمام الحافظ الحجة المشهور البصريّ [7] 1/ 6. 6 - (محمد بن عمرو) بن علقمة بن وقّاص، أبو عبد الله، ويقال: أبو الحسن

الليثيّ المدنيّ، صدوقٌ، له أوهام [6]. رَوَى عن أبيه، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وعَبيدة بن سفيان، وسعيد بن الحارث، وإبراهيم بن عبد الله بن حنين، ودينار أبي عبد الله القراظ، وغيرهم. ورَوَى عنه موسى بن عقبة، ومات قبله، وابن عمه عمر بن طلحة بن علقمة بن وقاص، وشعبة، والثوري، وحماد بن سلمة، وأبو معشر المدني، ويزيد بن زريع، وغيرهم. قال علي بن المديني: سمعت يحيى بن سعيد، وسئل عن سهيل، ومحمد بن عمرو، فقال: محمد أعلى منه، قال علي: قلت ليحيى: محمد بن عمرو كيف هو؟ قال: تريد العفو، أو تَشَدَّد، قال: لا، بل أُشَدّد، قال: ليس هو ممن تريد، وكان يقول: حدثنا أشياخنا: أبو سلمة، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، قال يحيى: وسألت مالكا عنه، فقال فيه نحو ما قلت لك، قال علي: وسمعت يحيى يقول: محمد بن عمرو أحب إلي من ابن أبي حرملة. وقال إسحاق بن حكيم عن يحيى القطان: محمد بن عمرو رجل صالح، ليس بأحفظ الناس للحديث. وقال إسحاق بن منصور: سئل يحيى بن معين عن محمد ابن عمرو، ومحمد بن إسحاق، أيهما يُقَدَّم؟ فقال: محمد بن عمرو. وقال ابن خيثمة: سئل ابن معين عن محمد بن عمرو، فقال: ما زال الناس يتّقون حديثه، قيل له: وما علة ذلك؟ قال: كان يحدث مرة عن أبي سلمة بالشيء من رأيه، ثم يحدث به مرة أخرى عن أبي سلمة عن أبي هريرة. وقال الجوزجاني: ليس بقوي الحديث، ويُشتَهَى حديثه. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، يكتب حديثه، وهو شيخ. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال مرة: ثقة. وقال أحمد بن أبي مريم عن ابن معين: ثقة. وقال عبد الله بن أحمد عن ابن معين: سهيل، والعلاء، وابن عَقِيل حديثهم ليس بحجة، ومحمد بن عمرو فوقهم. وقال يعقوب بن شيبة: هو وسط، وإلى الضعف ما هو؟. وقال الحاكم: قال ابن المبارك: لم يكن به بأس. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، يُسْتَضعف. وقال ابن معين: ابن عجلان أوثق من محمد بن عمرو، ومحمد بن عمرو أحب إلي من محمد بن إسحاق.

حكاه العقيلي وقال ابن عدي: له حديث صالح، وقد حدّث عنه جماعة من الثقات، كل واحد يتفرد عنه بنسخة، ويُغْرب بعضهم على بعض. وروى عنه مالك في "الموطإ"، وأرجو أنه لا بأس به. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطئ. قال الواقدي: توفي سنة أربع وأربعين ومائة. وقال عمرو بن علي: مات سنة خمس وأربعين. روى له البخاري مقرونا بغيره، ومسلم في المتابعات، وأخرج له الباقون، وله في هذا الكتاب (50) حديثًا. 7 - (أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف الزهريّ المدنيّ، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، وقيل: اسمه كنيته، ثقة مُكثر [3]. رَوَى عن أبيه، وعثمان بن عفان، وطلحة، وعبادة بن الصامت، وقيل: لم يسمع منهما، وأبي قتادة، وأبي الدرداء، وابن أبي أَسيد، وأسامة بن زيد، وحسان بن ثابت، ورافع بن خديج، وثوبان، ونافع بن عبد الحارث، وعبد الله بن سلام، وأبي هريرة، وعائشة، وأم سلمة، وفاطمة بنت قيس، وخلق كثير من الصحابة والتابعين. ورَوَى عنه أبنه عمر، وأولاد إخوته: سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن، وعبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن، وزرارة بن مصعب بن عبد الرحمن، والأعرج، وعمرو بن الحكم بن ثوبان، وعروة بن الزبير، والزهري، ومحمد بن عمرو بن علقمة وخلق كثير. ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من المدنيين، وقال: كان ثقة فقيهًا، كثير الحديث، وأمه تُمَاضِر بنت الأصبع الكلبية يقال: إنها أدركت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال: مات سنة أربع وتسعين. وقال الواقدي: سنة أربع ومائة، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. وقال مالك ابن أنس: كان عندنا رجال من أهل العلم، اسم أحدهم كنيته، منهم أبو سلمة بن عبد الرحمن. وقال معمر عن الزهري: أربعة من قريش وجدتهم بُحورًا: ابن المسيب، وعروة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: وكان أبو سلمة كثيرًا ما يخالف ابن عباس، فَحُرِم لذلك من ابن عباس علمًا كثيرًا. وقال عقيل

عن الزهري: قال لي إبراهيم بن عبد الله بن قارظ -وأنا بمصر-: لقد تركت رجلين من قومك، لا أعلم أكثر حديثا منهما: عروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن. وقال أبو زرعة: ثقة إمام. وقال ابن حبان في "الثقات": كان من سادات قريش مات سنة أربع وتسعين. وقيل: أربع ومائة. وجزم ابن سعد والزبير بن بكار بأن اسمه عبد الله. وقال ابن عبد البر: هو الأصح عند أهل النسب. وقال الْجِعَابي اختلفوا في اسمه، فقالوا: عبد الله. وهكذا قال الفضل بن موسى، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف. قال: وقيل: اسمه إسماعيل. زاد ابن سعد: ولمّا ولي سعيد بن العاص لمعاوية المرة الأولى، استقْضَى أبا سلمة على المدينة. ورُوي عن الشعبي قال: قَدِم علينا أبو سلمة، فمشى بيني وبين أبي بردة، فقلنا له: مَن وافقه من خَلَّفتَ ببلادك؟ فقال: رجل بينكما. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (141) حديثًا. 8 - (أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى بالنسبة للإسناد الأول، ومن خماسياته بالنسبة للثاني. 2 - (ومنها): أن رجال الثاني كلهم رجال الصحيح، ومحمد بن عمرو أخرج له البخاريّ مقرونا، ومسلم في المتابعات. 3 - (ومنها): أنه مسلس بالمدنيين من محمد بن عمرو. 4 - (ومنها): أن فيه أبا سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال. 5 - (ومنها): أن أبا هريرة -رضي الله عنه- أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا. 6 - (ومنها) فيه كتابة (ح) إشارة إلي إسناد آخر، وقد اختُلف قال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرح مسلم" 1/ 38: وإذا كان للحديث إسنادان أو أكثر، كتبوا عند الانتقال من الإسناد إلى إسناد (ح) وهي حاء مهملة مفردة، والمختار أنها مأخوذة من

التحوّل؛ لتحوّله من الإسناد إلى إسناد، وأنه يقول القارىء إذا انتهى إليها (ح) ويستمر في قراءة ما بعدها. وقيل: إنها من حَالَ بين الشيئين: إذا حجز؛ لكونها حالت بين الإسنادين، وأنه لا يلفظ عند الانتهاء إليها بشيء، وليست من الرواية. وقيل: إنها رمز إلى قوله: الحديث، وأن أهل الغرب كلهم يقولون إذا وصلوا إليها: الحديث. وقد كَتَبَ جماعة من الحفاظ موضعها "صح"، فيشعر بأنها رمز "صح"، وحسنت ههنا كتابة "صح"؛ لئلا يُتوهّم أنه سقط متن الإسناد الأول، ثم هذه الحاء توجد في كتب المتأخرين كثيرًا، وهي كثيرة في "صحيح مسلم"، قليلة في "صحيح البخاري". انتهى كلام النوويّ (¬1). وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله تعالى في "ألفية الحديث"، حيث قال: وَكَتَبُوا (ح) عِنْدَ تَكْرِيرِ سَنَدْ ... فَقِيلَ مِنْ صَحَّ وَقِيلَ ذَا انْفَرَدْ مِنَ الحدِيثِ أَوْ لِتَحْوِيلٍ وَرَدْ ... أَوْ حَائِلٍ وَقَوْلهُا لَفْظاَ أَسَدْ والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف (أَنَّ أبَا هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- أنه (قَالَ لِرَجُلٍ) هو ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، كما سيأتي التصريح به في "كتاب الطهارة" (485)، ولفظه: "عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "توضّئوا مما غيّرت النار"، فقال ابن عباس: أتوضّأ من الحميم؟ ... أراد ابن عباس بهذا أنه ينبغي على مقتضى هذا الحديث أن الإنسان إذا توضّأ بالماء الحارّ، يلزمه أن يتوضّأ بالماء البارد؛ لأنه مسّ ما غيّرته النار، فردّ عليه أبو هريرة -رضي الله عنه-، بأن هذا ليس مراد الحديث، فقال له: (يَا ابْنَ أَخِي) أراد به أخوّة الإسلام؛ لأنه لا نسب بين أبي هريرة والعباس بن عبد المطّلب رضي الله تعالى عنهما، وإنما هو على قوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] (إِذَا ¬

_ (¬1) "شرح مسلم" 1/ 38.

حَدثْتُكَ عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- حَدِيثًا، فَلَا تَضْرِبْ لَهُ الْأَمْثَالَ) أي لا تعارضه بمثل هذه المعارضات المدفوعة بالنظر فيما أريد بالحديث، فإن المراد به أن أكل ما مسّته النار يوجب الوضوء، لا مسّه .. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- كل هذا حسنٌ، من أجل الكلام في محمد بن عمرو؛ لأنه وإن أخرج عنه الشيخان، إلا أن البخاريّ أخرج له مقرونًا بغيره، ومسلم في المتابعات، فهو حسن الحديث، والله تعالى أعلم. [فإن قلت]: في سنده محمد بن عبّاد مقبولٌ، وأبوه مجهول، فكيف يُحَسّن؟. [قلت]: تحسينه بالسند الثاني، والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تعظيم حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والتغليظ على من عارضه. 2 - (ومنها): حسن التلطّف في الردّ على من خالف النصّ، متأوّلًا؛ ليكون أدعى إلى الرجوع إليه، فإن أبا هريرة -رضي الله عنه- خاطب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بقوله: "يا ابن أخي"، رفقًا به؛ ليحمله على أن يتدبّر خطر ما عارض به النصّ، فلو أغلظ له القول ربّما حمله ذلك على التمادي في المعارضة، وهكذا ينبغي أن يكون الداعي إلى الحقّ يسلك مسلك الحكمة؛ امتثالًا لقوله جلّ وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} الآية [النحل: 125]. 3 - (ومنها): عدم جواز معارضة النصوص لرأي ظهر له، بل يستسلم للحقّ أوّل ما يقرع سمعه، هان كان مخالفًا لرأيه، أو مذهبه، فإن الخير كلَّ الخير فيما قاله الشارع، لا فيما يظهر للعقول القاصرة، فقد ضمن الله تعالى الفلاح لمن اتّبعه -صلى الله عليه وسلم-، فقال

تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، وشرط الهداية لطاعته، فقال عز وجل: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} الآية [النور: 54]، ونفى الإيمان عمن لم يحكّم شرعه، فقال جلّ وعلا: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. اللهم أرنا الحقّ حقّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين آمين آمين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. (قَالَ أَبو الحسَنِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الله الْكَرَابِيسيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الجُعْدِ، عَنْ شُعْبِةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، مِثلَ حَدِيثِ عِليٍّ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُ). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كان حقّ هذا الإسناد أن يُذكر قبل حديثي أبي هريرة -رضي الله عنه-؛ لأنه تابع لحديث عليّ -رضي الله عنه- الماضي، ولعله من تصرّف بعض النسّاخ، والله تعالى أعلم. [تنبيه]: الغرض من ذكر هذا الإسناد بيان علوّ سند أبي الحسن القطّان من هذا الطريق على طريق ابن ماجه الماضية، فقد وصل إلى شعبة هنا بواسطتين، وهما يحيى بن عبد الله، وعليّ بن الجعد، بخلاف طريق ابن ماجه، فإنه وصل إليه بثلاث وسائط: ابن ماجه، ومحمد بن بشّار، ويحيى بن سعيد القطّان. والله تعالى أعلم. و"أبو الحسن": هو الحافظ عليّ بن إبراهيم بن سَلَمَة بَن بَحْر الْقَزْوينيّ القطّان، عالم قزوين، وُلد سنة (254) وتوفّي سنة (345) (¬1). و"يحيى بن عبد الله الكرابيسيّ" لم أجد ترجمته. و"عليّ بن الجعد": هو ابن عُبيد الْجَوْهريّ، أبو الحسن البغداديّ، مولى بني هاشم، ثقة ثبت، رُمي بالتشيّع، من صغار [9]. رَوَى عن حَرِيز بن عثمان، وشعبة، والثوري، ومالك، وابن أبي ذئب، وغيرهم. ¬

_ (¬1) راجع ترجمته في "سير أعلام النبلاء" 15/ 463 - 465.

ورَوى عنه البخاري، وأبو داود، وأحمد، ويحيى بن معين، وأبو بكر بن أبي شيبة، وغيرهم. قال علي بن الجعد: رأيت الأعمش، ولم أكتب عنه، وقدمت البصرة، وكان بن أبي عروبة حيا، وعن موسى بن داود قال: ما رأيت أحفظ من علي بن الجعد، كنا عند ابن أبي ذئب، فأملى علينا عشرين حديثا فحفظها، وأملاها علينا. وقال خلف بن سالم: سِرْت أنا وأحمد ويحيى إلى علي بن الجعد، فأخرج إلينا كتبه، وألقاها بين أيدينا، وذهب فلم نجد فيها إلا خطأ واحدا، فلما فرغنا من الطعام، قال هاتوا، فحدث بكل شيء كتبناه حفظًا. وقال ابن معين في سنة (225) كتبت عن علي بن الجعد منذ أكثر من ثلاثين سنة. وقال صالح بن محمد الأسدي: كان علي بن الجعد يُحَدّث بثلاثة أحاديث لكل إنسان عن شعبة، وكان عنده عن مالك ثلاثة أحاديث، كان يقول: إنه سمعها من مالك في ثلاثة أعوام، كان يقول فيها: أخبرنا مالك، كان مالك حَدَّثه. وقال عبدوس: ما أعلم أني لقيت أحفظ منه. قال المحاملي: فقلت له: كان يُتَّهَم بالجهم؟ قال: قد قيل هذا، ولم يكن كما قالوا، إلا أن ابنه الحسن كان على قضاء بغداد، وكان يقول بقول جهم، وكان عند عليّ نحو من ألف ومائتي حديث عن شعبة، وكان قد لقي المشايخ. وقال أبو الحسن السُّوسِيّ: سمعت النُّفَيلي يقول: لا ينبغي أن يكتب عنه قليل ولا كثير، وضَعَّفَ أمره جدّا. وقال الجوزجاني: متشبث بغير بدعة، زائغ عن الحق. وقال أحمد بن إبراهيم الدَّوْرَقي: قلت لعلي بن الجعد: بلغني أنك قلت: ابن عمر ذاك الصبي، قال: لم أقل، ولكن معاوية ما أكره أن يعذبه الله. وقال الآجري عن أبي داود: عمرو بن مرزوق أعلى من علي بن الجعد، ويُتَّهَم بِمُتَّهَم سوء، قال: ما يسوءني أن يعذب الله معاوية. وقال هارون بن سفيان المستملي: كنت عند علي بن الجعد، فذكر عثمان، فقال: أخذ من بيت المال مائة ألف درهم بغير حق. وقال العقيلي: قلت لعبد الله بن أحمد: لم لم تكتب عن علي بن الجعد؟ قال: نهاني أبي، وكان يبلغه عنه أنه يتناول الصحابة. وقال زياد بن أيوب: كنت عند علي بن الجعد، فسألوه عن القرآن؟ فقال. القرآن كتاب الله، ومن قال: مخلوق لم أُعَنِّفه، فقال: ذكرت ذلك لأحمد، فقال: ما بلغني عنه أشد من هذا. وقال

زياد بن أيوب أيضا: سأل رجل أحمد عن علي بن الجعد، فقال الهيثم: ومثله يسأل عنه؟ فقال أحمد: أمسك، قال: فذكره رجل بشرّ، فقال أحمد: ويقع في الصحابة. وقال أبو زرعة: كان أحمد لا يرى الكتابه عنه، ورأيته مضروبا عليه في كتابه. وقال ابن معين: ثقة صدوق. قال جعفر الطيالسي عن ابن معين: علي بن الجعد أثبت البغداديين في شعبة، قلت له: فأبو النضر؟ فقال: وأبو النضر. وقال الحسين بن فهم: سمعت ابن معين في جنازة علي بن الجعد يقول: ما روى عن شعبة -أراه يعني من البغداديين- أثبت من هذا، يعني علي بن الجعد، فقال له رجل: ولا أبو النضر؟ قال: ولا أبو النضر، قال: ولا شبابة؟ قال خَرّب الله بيت أمه إن كان مثل شبابة، قال ابن فهم: فعجبنا منه. وعن ابن معين قال: كان علي بن الجعد رباني العلم. وقال أبو زرعة: كان صدوقا في الحديث. وقال أبو حاتم: كان متقنا صدوقا، ولم أر من المحدثين من يحفظ، ويأتي بالحديث على لفظ واحد، لا يغيره سوى قبيصة، وأبي نعيم في حديث الثوري، ويحيى الحماني في حديث شريك، وعلي بن الجعد في حديثه. وقال صالح بن محمد: ثقة. وقال النسائي: صدوق. وقال حنبل بن إسحاق: وُلد سن (132)، ومات سنة ثلاثين ومائتين، وفيها أرخه غير واحد. وقال البغوي أُخبرت عن إسحاق بن أبي إسرائيل أنه قال في جنازة علي بن الجعد: أخبرني أنه منذ نحو ستين سنة يصوم يوما ويفطر يوما. وقال ابن سعد: علي بن الجعد وُلد في أول خلافة بني العباس سن (136)، ومات في سنة (230)، وله يوم توفي ست وتسعون سنة وستة أشهر. قال الحافظ: هذا وَهَمٌ بَيِّنٌ في موضعين: الأول أنَّ أول خلافة بني العباس سنة اثنتين وثلاثين، لا سنة ست، الثاني أن من يولد سن (6) ويموت سنة (30) لا يوفي عمره ستا وتسعين، بل يكون (94) فقط فتأمله. وقال الدارقطني: ثقة مأمون. وحكى العقيلي عن ابن المديني: ما يقتضي وهنه عنده، ولفظه: حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثني بعض أصحابنا عن علي بن المديني قال: وممن تُرك حديثه عن شعبة علي بن الجعد، وعَدَّدَ جماعة، فقالوا: وعلي بن الجعد ما له؟ قال: رأيت ألفاظه عن شعبة تختلف. قال الحافظ: فإن ثبت هذا فلعله كان في أول الحال لم

يُثْبِت، فضَبَط كما قال أبو حاتم فيما تقدم. وقال عبد الله بن أحمد: ما رأيت عنده في الجامع إلا بعض صبيان. وقال ابن قانع: ثقة ثبت. وقال مطين: ثقة. وقال ابن عدي: ما أرى بحديثه بأسا، ولم أر في رواياته إذا حدث عن ثقة حديثا منكرًا، والبخاري مع شدة استقصائه يروي عنه في "صحيحه". تفرّد به البخاريّ، وأبو داود، وفي هامش "الزهرة" بخط ابن الطاهر: روى عنه البخاري ثلاثة عشر حديثا. وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الوضع من زيادة أبي الحسن القطّان. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [خاتمة]: نختم بها هذا الباب: قد كتب الإمام الحافظ السيوطيّ رحمه الله رسالةً مفيدةً تجمع معظم ما يتعلّق بهذا الباب من الأحاديث والآثار الواردة عن السلف -رضي الله عنه-، سمّاها "مفتاح الجنّة في الاحتجاج بالسنة" أحببت إيرادها بنصّها تتميمًا للفوائد، وتكميلًا للعوائد. قال رحمه الله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد لله، وبه ثقتي، وسلام على عباده الذين اصطفى. اعلموا يرحمكم الله أن من العلم كهيئة الدواء، ومن الآراء كهيئة الخلاء، لا تذكر إلا عند داعية الضرورة، وأن مما فاح ريحه في هذا الزمان، وكان دارسا -بحمد الله تعالى- منذ أزمان، وهو أن قائلا رافضيا زنديقا أكثر في كلامه، أن السنة النبوية، والأحاديث المروية -زادها الله علوا وشرفا- لا يحتج بها، وأن الحجة في القرآن خاصة، وأورد على ذلك حديث: "ما جاءكم عني من حديث فاعرضوه على القرآن، فإن وجدتم له أصلا، فخذوا به، وإلا فردوه" (¬1)، وهكذا سمعت هذا الكلام بجملته منه، وسمعه منه خلائق غيري، فمنهم من لا يُلقي لذلك بالًا، ومنهم من لا يعرف أصل هذا الكلام، ولا من أين جاء، ¬

_ (¬1) قال القيليّ: ليس له إسناد يصحّ، وقال الصغانيّ: موضوع، وقال الخطابيّ: وضعته الزنادقة. انظر الفوائد المجموعة للشوكاني 278 - 291.

فأردت أن أوضح للناس أصل ذلك، وأبين بطلانه، وأنه من أعظم المهالك. فاعلموا رحمكم الله أن من أنكر كون حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، قولا كان أو فعلًا بشرطه المعروف في الأصول حجةً كفر، وخرج عن دائرة الإسلام، وحُشر مع اليهود والنصارى، أو مع من شاء الله من فِرَق الكفرة. روى الإمام الشافعي -رضي الله عنه- يوما حديثا، وقال: إنه صحيح، فقال له قائل: أتقول به يا أبا عبد الله، فاضطرب، وقال، يا هذا أرأيتني نصرانيا؟ أرأيتني خارجا من كنيسة؟ أرأيت في وسطي زُنَّارًا، أروي حديثا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا أقول به. وأصل هذا الرأي الفاسد أن الزنادقة، وطائفة من غلاة الرافضة، ذهبوا إلى إنكار الاحتجاج بالسنة، والاقتصار على القرآن، وهم في ذلك مختلفوا القاصد: فمنهم من كان يعتقد أن النبوة لعلي، وأن جبريل عليه السلام أخطأ في نزوله إلى سيد المرسلين، -صلى الله عليه وسلم-، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. ومنهم من أقر للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالنبوة، ولكن قال: إن الخلافة كانت حقا لعلي، فلما عَدَل بها الصحابة عنه إلى أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين، قال هؤلاء المخذولون -لعنهم الله-: كَفَرُوا، حيث جاروا، وعدلوا بالحق عن مستحقه، وكَفَّروا -لعنهم الله- عليا -رضي الله عنه- أيضًا؟ لعدم طلبه حقه، فبنوا على ذلك رَدَّ الأحاديث كلها؛ لأنها عندهم بزعمهم من رواية قوم كفار، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وهذه آراء ما كنتُ أستحل حكايتها، لولا ما دعت إليه الضرورة من بيان أصل هذا المذهب الفاسد، الذي كان الناس في راحة منه من أعصار. وقد كان أهل هذا الرأي موجودين بكثرة في زمن الأئمة الأربعة، فمن بعدهم، وتصدى الأئمة الأربعة، وأصحابهم في دروسهم، ومناظراتهم، وتصانيفهم للرد عليهم، وسأسوق إن شاء الله تعالى جملة من ذلك. والله الموفق (¬1). ¬

_ (¬1) هكذا عبارة السيوطيّ، ويحتاج إلى ثبوت إطلاق لفظ "الموفق" على الله، اللهم إلا أن يقال: إن باب الإخبار أوسع من باب التسمية، وبالجملة فلو قال: والله ولي في التوفيق، =

قال الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "الرسالة"، ونقله عنه البيهقي في "المدخل" قد وضع الله رسوله -صلى الله عليه وسلم-، من دينه وفرضه وكتابه الموضعَ الذي أبان جل ثناؤه أنه جعله عَلَمًا لدينه، بما افترض من طاعته، وحَرّم من معصيته، وأبان من فضيلته، بما قرن بين الإيمان برسوله مع الإيمان به، فقال تبارك وتعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 171]، وقال عز وجل {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ} [النور: 62]، فجعل كمال ابتداء الإيمان الذي سواه تبع له، الإيمانَ بالله، ثم برسوله معه. قال الشافعي: ففرض الله على الناس أتباع وحيه، وسنن رسوله، فقال في كتابه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164] مع آي سواها، ذ كر فيهن الكتاب والحكمة. قال الشافعي: فذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت من أرضاه من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [النساء: 59]، فقال بعضهم أهل العلم: {وَأُولِي الْأَمْرِ}: أمراء سرايا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ} يعني اختلفتم في شيء، يعني -والله تعالى أعلم- هم وأمراؤهم الذين أُمروا بطاعتهم {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} يعني -والله تعالى أعلم- إلى ما قال الله والرسول، ثم ساق الكلام إلى أن قال: فأعلمهم أن طاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طاعته، فقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. وأحتج أيضا في فرض ¬

_ = أو "وبالله التوفيق، لكان أولى فتنبّه.

اتباع أمره بقوله: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وغيرها من الآيات التي دلت على اتباع أمره، ولزوم طاعته، فلا يسع أحدًا رد أمره لفرض الله طاعة نبيه. قال البيهقي بعد إحكامه هذا الفصل: ولولا ثبوت الحجة بالسنة، لما قال -صلى الله عليه وسلم- في خطبته بعد تعليم من شهده أمر دينهم: "ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مُبَلَّغ أوعى من سامع" (¬1)، ثم أورد حديث: "نضر الله امرءا سمع منا حديثا، فأداه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع" (¬2) وهذا الحديث متواتر كما سأبينه. قال الشافعي: فلما نَدَبَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلى استماع مقالته، وحفظها، وأدائها، دل على أنه لا يأمر أن يؤدَّى عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أُدِّى إليه؛ لأنه إنما يُؤَدَّى عنه حلال يُؤتَى، وحرام يُجتَنَبُ، وحَدٌّ يقام، ومال يؤخذ ويُعطَى، ونصيحة في دين ودنيا. ثم أورد البيهقي من حديث أبي رافع قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا أُلفينّ أحدَكم متكئا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به، أو نهيت عنه، يقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعنا"، أخرجه أبو داود، والحاكم (¬3). ومن حديث المقدام ابن معدي كرب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حرّم أشياء يوم خيبر، منها الحمار الأهلي وغيره، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يوشك أن يقعد الرجل على أريكته، يحدَّث بحديثي، فيقول: بيني وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه، وما وجدنا فيه حراما حرمناه، ألا وإن ما ¬

_ (¬1) متّفقٌ عليه. (¬2) حديث صحيح، سيأتي للمصنّف برقم (232) وسنذكر تخريجه هناك مفصلا، إن شاء الله تعالى. (¬3) تقدّم للمصنّف برقم (13) وتقدّم تخريجه هناك.

حَرَّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثلُ ما حَرَّم الله" (¬1). قال البيهقي: وهذا خبر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عما يكون بعده من رَدّ المبتدعة حديثه، فوجد تصديقه فيما بعده. ثم أخرج البيهقي بسنده عن شَبيب بن أبي فَضَالة المكي، أن عمران بن حصين رضي الله عنهما ذكر الشفاعة، فقال رجل من القوم: يا أبا نُجَيد، إنكم تحدّثونا بأحاديث، لم نجد لها أصلًا في القرآن، فغضب عمران، وقال للرجل: قرأت القرآن؟ قال: نعم، قال فهل وجدت فيه صلاة العشاء أربعًا؟ ووجدت المغرب ثلاثًا؟ والغداة ركعتين؟ والظهر أربعًا؟ والعصر أربعًا؟ قال: لا، قال: فعمن أخذتم ذلك؟ ألستم عنا أخذتموه، وأخذناه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ أوجدتم فيه من كل أربعين شاةً شاةٌ، وفي كل كذا بعيرًا كذا، وفي كل كذا درهمًا كذا؟ قال: لا، قال: فعن من أخذتم ذلك؟ ألستم عنا أخذتموه، وأخذناه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؟، وقال: أوجدتم في القرآن: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، أوجدتم فيه: فطوفوا سبعًا، واركعوا ركعتين خلف المقام، أو وجدتم في القرآن: "لا جَلَبَ، ولا جَنَبَ، ولا شِغَار في الإسلام" (¬2)، أما سمعتم الله قال في كتابه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] قال عمران: فقد أخذنا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشياء، ليس لكم بها علم. ثم قال البيهقي: والحديث الذي رُوي في عرض الحديث على القرآن باطل لا يصح، وهو ينعكس على نفسه بالبطلان، فليس في القرآن دلالة على عرض الحديث على القرآن. انتهى كلام البيهقي "المدخل الصغير"، وهو "المدخل إلى دلائل النبوة". وقد ذكر المسألة في "المدخل الكبير"، وهو "المدخل إلى السنن" بأبسط من هذا، فقال: "باب تعليم سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفرض اتباعها"، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 164] إلى قوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} ¬

_ (¬1) حديث صحيح، تقدّم للمصنّف برقم (12). (¬2) حديث صحيح أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ.

[آل عمران: 164]، قال الشافعي: سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم أخرج بأسانيده عن الحسن، وقتادة، ويحيى بن أبي كثير أنهم قالوا: الحكمة في هذه الآية: السنة. ثم أورد بسنده عن المقدام بن يكرب، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ألا إني أوتيت الكتاب، ومثله معه، ألا إتي أوتيت القرآن ومثله، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة مال معاهد ... " الحديث (¬1). ثم أورد من طريق آخر عن المقدام بن معدي كرب، قال: حَرَّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشياء يوم خيبر، من الحمار الأهلي وغيره، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته، يُحَّدث بحديثي، فيقول: بيني وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه، وما وجدنا فيه حراما حرمناه، وإنما حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل ما حرم الله" (¬2). وقال البيهقي بإسناد صحيح أخرجه أبو داود في "سننه" قلت (¬3): وأخرجه أيضا الحاكم. ثم أورد البيهقي أيضا بسنده، عن أبي هريرة قال. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"إني قد خَلَّفتُ فيكم شيئين، لن تضلوا بعدهما أبدًا. كتاب الله، وسنتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض". أخرجه الحاكم في "المستدرك" (¬4). وأورد بسنده عن ابن عباس، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، خطب الناس في حجة الوداع، فقال:"يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به، فلن تضلوا أبدًا، كتاب الله وسنتي". أخرجه الحاكم أيضًا (¬5). ¬

_ (¬1) حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده" 4/ 131، وأبو داود رقم 4580 والدارقطني 4/ 287 وابن حبان في "صحيحه" 1/ 107. (¬2) صحيح، تقدّم تخريجه. (¬3) القائل السيوطيّ. (¬4) "المستدرك" 1/ 93 أحمد 3/ 59 الترمذي (3788) وهو حديث صحيح. (¬5) صحيح سبق تخريجه.

وأورده بسنده أيضا عن عروة أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، خطب في حجة الوداع، فقال: "إني تركت فيكم ما إن اعتصمتم به، فلن تضلوا أبدًا أمرين اثنين: كتاب الله وسنة نبيكم، أيها الناس اسمعوا ما أقول لكم، تعيشوا به". وأخرج بسنده عن ابن وهب قال: سمعت مالك بن أنس يقول: ألزم ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: "أمران تركتهما فيكم، لن تضلوا ما تمسكم بهما: كتاب الله، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-". وأخرج بسنده عن الْعِرْبَاض بن سارية، قال: صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعَظَنا مَوْعظةً بليغةً، ذَرَفَت منها العيون، ووَجِلَت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأنها موعظة مُوَدِّع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعه، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، كأنّ رأسه زبيبة، فإنه من يَعِش منكم بعدي، فسيرىَ اختلافا كثيرًا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والحاكم في "مستدركه" (¬1). وأخرج بسنده عن عائشة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ستة لعنهم الله، وكل نبي مجاب الدعوة. الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، المتسلط بالجبروت ليذل بذلك من أعز الله، ويعز من أذل الله، والمستحل لحرم الله، والمستحل من عترتي ما حرم الله، والتارك لسنتي". قلت: أخرجه أيضا الطبراني، والحاكم وصححه (¬2). وأخرج بسنده عن ابن عمرو، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن لكل عمل شِرَّةً، ولكل شِرَّة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت إلى غير ذلك، فقد هلك" (¬3). وأخرج بسنده عن أنس بن مالك، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أحيا سنتي، فقد أحبني، ومن أحبني كان ¬

_ (¬1) حديث صحيح، يأتي للمصنّف برقم 42 وأخرجه أحمد في "مسنده" 4/ 126 - 127 وأبو داود 4583 و"الترمذيّ" رقم 2815 والحاكم 1/ 97. (¬2) صححه ابن حبان، والحاكم، وقال الشيخ الألباني: إسناده حسن، لولا أنه أُعلّ بالإرسال. (¬3) صحيح أخرجه أحمد في "مسنده" 2/ 188 - 210.

معي في الجنة" (¬1). قلت أخرجه أيضا الترمذي. وأخرج بسنده عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "القائم بسنتي عند فساد أمتي له أجر مائة شهيد" (¬2). قلت أخرجه أيضا الطبراني. ثم قال البيهقي في "باب بيان وجوه السنة": قال الشافعي -رضي الله عنه-: وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ثلاثة أوجه: [أحدها]: ما أنزل الله فيه نص كتاب، فسن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمثل نص الكتاب. [والثاني]: ما أنزل الله فيه جملة كتاب، فَبَيَّنَ عن الله معنى ما أراد بالجملة، وأوضح كيف فرضها عامّا أو خاصا؟ وكيف أراد أن يأتي به العباد؟. [والثالث]: ما سنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مما ليس فيه نصّ كتاب. فمنهم من قال: جعله الله له بما افترض من طاعته، وسبق في علمه من توفيقه لرضاه، أن يسن فيما ليس فيه نص كتاب. ومنهم من قال: لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب، كما كانت سنته، كتبيين عدد الصلاة، وعملها على أصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سن في البيوع وغيرها من الشرائع؛ لأن الله -تعالى ذكره- قال: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، فما أحل وحرم، فإنما بَيَّنَ فيه عن الله، كما بين في الصلاة. ومنهم من قال: بل جاءته به رسالة الله، فأثبتت سنته بفرض الله تعالى. ومنهم من قال: أُلْقِيَ في رُوعِهِ كلّ ما سَنَّ، وسنته الحكمة التي أُلقيت في رُوْعه عن الله تعالى. انتهى بلفظه. ثم أخرج البيهقي بسنده عن عمر بن الخطاب، أنه قال على المنبر: "يا أيها الناس إن الرأي إنما كان من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الله تعالى كان يُريه، وإنما هو منا الظن والتكلف" (¬3). وأخرج بسنده عن الشعبي: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقضي بالقضاء، ¬

_ (¬1) ضعيف أخرجه الترمذيّ رقم 2818. (¬2) ضعيف أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط"، وأبو نعيم في "الحلية". (¬3) رواه أبو داود برقم 3569 وفيه انقطاعٌ؛ لأن الزهريّ لم يُدرك عمر -رضي الله عنه- قاله المنذريّ.

وينزل القرآن بغير ما قضى، فيستقبل حكم القرآن، ولا يرد قضاءه الأول. واحتج من ذهب إلى أنه لم يَسُنّ إلا بأمر الله، إما بوحي ينزله عليه، فيتلى على الناس، أو برسالة ثابتة عن الله، أن افعل كذا بقوله -صلى الله عليه وسلم-، فيما رواه الشيخان في قصة الزاني: "لأقضين بينكم بكتاب الله" (¬1)، ثم قضى بالجلد والتغريب، وليس التغريب في القرآن. وبما أخرجه الشيخان عن يعلى بن أمية: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان بالجعرانة، فجاءه رجل، عليه جبة، متضمخ بطيب، وقد أحرم بعمرة، فقال: يا رسول الله، كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة، بعد ما تضمخ بطيب؟ فنظر إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- ساعة، ثم سكت، فجاءه الوحي، فأنزل الله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، ثم سُرِّى عنه، فقال: "أين الذي سألني عن العمرة آنفًا؟ أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها، ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك" (¬2). ثم أخرج البيهقي بسنده عن طاوس: أن عنده كتابا من العقول نزل به الوحي، وما فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من صدقة وعقول، فإنما نزل به الوحي. وأخرج بسنده عن حسان بن عطية قال: "كان جبريل عليه السلام ينزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسنة، كما ينزل عليه بالقرآن، يعلمه إياها، كما يعلمه القرآن". أخرجه الدارمي. وأخرج بسنده من طريق القاسم بن مُخَيمِرة، عن طلحة بن فضيلة قال: قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عامِ سنةٍ: سَعِّرْ لنا يا رسول الله، قال: "لا يسألني الله عن سُنَّةٍ أحدثتها فيكم لم يأمرني بها، ولكن اسألوا الله من فضله" (¬3). وأخرج بسنده عن المطلب بن حنطب: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما تركت شيئا مما أمركم الله به، إلا وقد أمرتكم به، ولا تركت شيئا مما نهاكم الله عنه، إلا وقد نهيتكم عنه، وأن ¬

_ (¬1) متفق عليه، وسيأتي للمصنّف برقم (2549). (¬2) متّفقٌ عليه. (¬3) راوه أحمد 3/ 286 والدارمي 2/ 249 وأبو داود رقم 3433 - 3434 والترمذيّ رقم 1328 ويأتي للمصنف رقم (2200) وقال الترمذيّ: حسن صحيح.

الروح الأمين قد نَفَثَ في رُوعِي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب" (¬1). قال الشافعي: وليس تَعْدُو السنن كلها واحدا من هذه المعاني التي وضعت باختلاف من حكيتُ عنه من أهل العلم، وكل ما سَنَّ فقد ألزمنا الله تعالى اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته، وفي العنود عن اتباعه معصيته التي لم يَعذِر بها خلقا، ولم يجعل له من اتباع سنن نبيه مخرجا. ثم قال البيهقي: "باب ما أمر الله به من طاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والبيان أن طاعته طاعته" قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10]، وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. قال الشافعي -رضي الله عنه-: فأعلمهم أن بيعة رسوله بيعته، وأن طاعته طاعته، فقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] قال الشافعي: -فيما بلغنا، والله تعالى أعلم- نزلت هذه الآية في رجل خاصم الزبير في أرض، فقضى النبي -صلى الله عليه وسلم- بها للزبير، وهذا القضاء سنة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لا حكم منصوص في القرآن. أخرج الشيخان عن عبد الله بن الزبير: أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير في شِرَاج الحَرَّة التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سَرِّح الماء يَمُرُّ، فأبى عليه الزبير، فاختصما إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك"، فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك، فتَلَوَّن وجهُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "يا زبير اسق، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر"، فقال الزبير: والله إني لأحسب أن هذه ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم، وابن حبان في "صحيحه"، وهو مرسل رجاله ثقات، وله شواهد يصحّ بها، وسيأتي للمصنف في"كتاب التجارات" برقم (2144) موصولًا من حديث جابر -رضي الله عنه-.

الآية نزلت في ذلك: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النساء: 65]. وأخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله (¬1). وأخرج البخاري عن جابر بن عبد الله، قال: "جاءت ملائكة إلى نبي الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو نائم، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة، والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلًا، فاضربوا له مثلًا، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة، والقلب يقظان، فقالوا: مثله كمثل رجل بَنَى دارًا، وجعل فيها مَأْدبَةً، وبعث داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار، وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار، ولم يأكل من المأدبة، فقالوا: أَوِّلُوها له يفقهها، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة، والقلب يقظان، فقالوا: فالدار الجنة، والداعي محمد -صلى الله عليه وسلم-، فمن أطاع محمدا -صلى الله عليه وسلم- فقد أطاع الله، ومن عصى محمدا -صلى الله عليه وسلم- فقد عصى الله، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- فَرْقُ بين الناس" (¬2). وأخرج البخاري عن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كُلُّ أمتي يدخلون الجنة إلا من أبي"، قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصانى فقد أبي" (¬3). قال الشافعي رحمه الله: وقال تعالى {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] إلى قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. وأخرج البيهقي عن سفيان في قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَة}، قال: يطبع الله على قلوبهم، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ في "كتاب الجهاد" 6/ 116 ومسلم في "الإمارة" 12/ 223، وسيأتي للمصنف برقم (2895). (¬2) رواه البخاريّ في "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة" 13/ 249 نسخة "الفتح"، وأحمد في "مسنده" 6/ 57. (¬3) "صحيح البخاريّ" 13/ 249 نسخة "الفتح".

قال الشافعي: وأَمَرَهم بأخذ ما آتاهم، والانتهاء عما نهاهم عنه، فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. أخرج الشيخان عن ابن مسعود، أنه قال: لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله تعالى، فبلغ ذلك امرأة يقال لها: أم يعقوب، فجاءت، فقالت: إنه بلغني أنك قلت: كيت وكيت، فقال: ما لي لا ألعن من لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو في كتاب الله، فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين، فما وجدته، قال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، أما قرأت: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]؟ قالت: بلى، قال: فإنه نهى عنه. قال الشافعي: وأبان أنه يَهدي إلى صراط مستقيم، فقال: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]. قال الشافعي: وكان فرضه على من عاين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن بعده إلى يوم القيامة واحدًا في أن على كل طاعته. ثم أخرج البيهقي بسنده عن ميمون بن مِهْران في قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، قالوا: الردّ إلى الله إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إذا قبض إلى سنته. ثم أورد البيهقي من حديث أبي داود، عن أبي رافع قال: قال رسول الله:"لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به، أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" (¬1). قال الشافعي: وفي هذا تثبيت الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإعلامهم أنه لازم لهم، وإن لم يجدوا فيه نصا في كتاب الله. ثم أورد البيهقي حديث أبي داود أيضًا عن العرباض بن سارية، قال: نزلنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- خيبر، ومعه من معه من أصحابه، وكان صاحبُ خيبر رجلا مارِدًا منكرًا، فأقبل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا محمد ألكم أن تذبحوا حمرنا، ¬

_ (¬1) حديث صحيح، سبق تخريجه.

وتأكلوا ثمرنا، وتضربوا نساءنا، فغضب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال: "يا ابن عوف اركب فرسك، ثم نَادِ أن اجتمعوا للصلاة"، فاجتمعوا، فصلى النبي عليه الصلاة والسلام، ثم قام فقال: "أيحسب أحدكم متكئا على أريكته، لا يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما في هذا القرآن، ألا إني والله قد أمرت، ووعظت، ونهيت عن أشياء، إنها لمثل القرآن، أو أكثر، وإن الله عز وجل لم يُحِلَّ لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم، إذا أعطوكم الذي عليهم". ثم قال البيهقي: "باب بيان بطلان ما يَحتجّ به بعضُ من رد الأخبار، من الأخبار التي رواها بعض الضعفاء في عرض السنة على القرآن". قال الشافعي: احتج عَلَيَّ بعضُ من ردّ الأخبار بما رُوي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "ما جاءكم عني فأعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فأنا قلته، وما خالفه فلم أقله" (¬1). فقلت له: ما رَوَى هذا أحد يثبت حديثه في شيء صغير ولا كبير، وإنما هي رواية منقطعة، عن رجل مجهول، ونحن لا نقبل مثل هذه الرواية في شيء. قال البيهقي أشار الإمام الشافعي إلى ما رواه خالد بن أبي كريمة، عن أبي جعفر، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أنه دعا اليهود فسألهم، فحدثوه حتى كذبوا على عيسى عليه السلام، فصعد النبي - صلى الله عليه وسلم - المنبر، فخطب الناس، فقال: إن الحديث سيفشو عني، فما أتاكم يوافق القرآن فهو عني، وما أتاكم عني يخالف القرآن فليس عني. قال البيهقي: خالد مجهول، وأبو جعفر ليس بصحابي، فالحديث منقطع. وقال الشافعي: وليس يخالف الحديث القرآن، ولكن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبين معنى ما أراد خاصا وعاما، وناسخا ومنسوخًا، ثم يلزم الناس ما سن بفرض الله، فمن قَبِلَ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعن الله قبل. قال البيهقي: وقد رُوي الحديث من أوجه أخر كلها ضعيفة. ثم أخرج من طريق ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن الأصبغ بن محمد بن أبي منصور، أنه بلغه أن رسول الله قال: ¬

_ (¬1) سبق أنه حديث لا يثبت، بل قيل: إنه من وضع الزنادقة.

الحديث على ثلاث: فأيما حديث بلغكم عني تعرفونه بكتاب الله فاقبلوه، وأيما حديث بلغكم عني لا تجدون القرآن موضعه، ولا تعرفون موضعه فلا تقبلوه، وأيما حديث بلغكم عني تَقْشَعِرُّ منه جلودكم، وتشمئزّ منه قلوبكم، وتجدون في القرآن خلافه فردوه". قال البيهقي: وهذه رواية منقطعة عن رجل مجهول. ثم أخرج بسنده من طريق عاصم بن أبي النجود، عن زِرّ بن حُبيش، عن علي بن أبي طالب، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنها تكون بعدي رُواة يروون عنى الحديث، فاعرضوا حديثهم على القرآن، فما وافق القرآن فحدثوا به، وما لم يوافق القرآن فلا تأخذوا به". قال البيهقي: قال الدارقطني: هذا وَهَمٌ، والصواب عن عاصم، عن زيد بن علي منقطعًا. قال بسنده من طريق بشر بن نمير، عن حسين بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، عن علي: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنه سيأتي ناس يحدثون عني حديثًا، فمن حدثكم حديثا يُضارع القرآن فأنا قلته، ومن حدثكم حديثا لا يضارع القرآن فلم أقله". قال، البيهقي: هذا إسناد ضعيف، لا يحتج بمثله، حسين بن عبد الله بن ضميرة قال فيه ابن معين: ليس بشيء، وبشر بن نمير ليس بثقة. ثم أخرج بسنده من طريق صالح بن موسى، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنه سيأتيكم مني أحاديث مختلفة، فما أتاكم! موافقا لكتاب الله وسنتي فهو مني، وما أتاكم مخالفا لكتاب الله وسنتي فليس مني". قال البيهقي: تفرد به صالح بن موسى الطلحي، وهو ضعيف، لا يحتج بحديثه. قلت: (¬1) ومع ذلك فالحديث لنا لا علينا، ألا ترى إلى قوله: "موافقا لكتاب الله وسنتي". ثم أخرج البيهقي من طريق يحيى بن آدم، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا حُدّثتم عني حديثا تعرفونه ولا تنكرونه، قلته أو لم أقله فصدقوا به، فإني أقول ما يعرف ولا ينكر، وإذا حدثتم عني حديثا تنكرونه ولا تعرفونه، فلا تصدقوا به، فإني لا أقول ما يُنكَر ولا ¬

_ (¬1) القائل هو السيوطيّ.

يُعرَف". قال البيهقي: قال ابن خزيمة: في صحة هذا الحديث مقال، لم نَرَ في شرق الأرض ولا غربها أحدا يعرف خبر ابن أبي ذئب، من غير رواية يحيى بن آدم، ولا رأيت أحدا من علماء الحديث يُثبت هذا عن أبي هريرة. قال البيهقي: وهو مختلف على يحيى ابن آدم في إسناده ومتنه اختلافا كثيرا، يوجب الاضطراب، مفهم من يذكر أبا هريرة، ومنهم من لا يذكره ويرسل الحديث، ومنهم من يقول في متنه: "إذا رويتم الحديث عني فاعرضوه على كتاب إلله". وقال البخاري في "تاريخه": ذكر أبي هريرة فيه وَهَمٌ. ثم أخرج البيهقي من طريق الحارث بن نَبْهان، عن محمد بن عبد الله العرزمي، عن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما بلغكم عني من حديث حسن لم أقله، فأنا قلته". قال البيهقي: هذا باطل، والحارث، والعرزمي متروكان (¬1)، وعبد الله بن سعيد عن أبي هريرة مرسل فاحش. قال: وقد رُوي عن أبي هريرة ما يضادّ بعض هذا، ثم أخرج من طريق أبي معشر السندي، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه الحديث من حديثي، فيقول: اتل عليّ قرآنًا، ما آتاكم من خير عني، قلته أو لم أقله فأنا أقوله، وما أتاكم عني من شر، فإني لا أقول الشر". قال البيهقي: صدر هذا الحديث موافق للأحاديث الصحيحة في قبول الأخبار، وقوله: "قلته أو لم أقله" في هذه الأحاديث ما لا يليق بكلام النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يشبه المقبول. ثم أخرج من طريق عبد الرحمن ابن سلمان بن عمرو مولى المطلب، عن أبي الحويرث، عن محمد بن جبير بن مطعم: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما حُدّثتم عني مما تعرفون فصدقوا، وما حدثتم عني مما تنكرون فلا تصدقوا، فإني لا أقول المنكر، وليس مني". قال البيهقي: وهذا منقطع، قال: وأمثل إسناد رُوَي في هذا المعنى ما رواه ربيعة، عن عبد الملك بن سعيد بن سويد، عن أبي حميد، أو أبي أُسيد قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم، ¬

_ (¬1) وكذا عبد الله سعيد بن أبي سعيد متروك أيضًا. انظر "تقريب التهذيب" في ترجمته.

وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب، فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه" (¬1). ثم أخرج من طريق بكير، عن عبد الملك بن سعيد، عن ابن عباس بن سهل، عن أُبَيّ، قال: إذا بلغكم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يُعرف، وتلين له الجلود، فقد يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- الخير، ولا يقول إلا الخير". قال البيهقي: قال البخاري: وهذا أصح -يعني أصح من رواية من رواه عن أبي حميد، أو أبي أسيد-. وقد رواه ابن لهيعة عن بكير بن الأشج، عن عبد الملك بن سعيد، عن القاسم بن سهيل، عن أبي بن كعب، قال ذلك بمعناه، فصار الحديث المسند معلولًا، وعلى الأحوال كلها حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الثابت عنه قريب من العقول، موافق للأصول، لا ينكره عَقْلُ من عَقَلَ عن الله الموضعَ الذي وُضِع به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من دينه، وما افتُرِض على الناس من طاعته، ولا يَنفِر منه قلب من اعتقد تصديقه فيما قال، واتباعه فيما حَكَم به، وكما هو جميلٌ حسنٌ من حيث الشرع، جميل في الأخلاق، حسن عند أولي الألباب. هذا هو المراد بما عسى يصح من ألفاظ هذه الأخبار. ثم أخرج بسنده عن ابن عباس قال: إذا حدثتكم بحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلم تجدوا تصديقه في الكتاب، أو هو حسن في أخلاق الناس، فأنا به كاذب. وأخرج عن علي: فإذا حدثتم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئا، فظُنُّوا به الذي هو أهدى، والذي هو أهنأ، والذي هو أتقى (¬2). قلت (¬3): والمعول عليه في معنى الحديث المورد أن تثبت ما أشار إليه الإمام الشافعي مما سبق أن السنة الثابتة ليست منافرة للقرآن، بل معاضدة له، ¬

_ (¬1) حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده" 3/ 497 و5/ 425. قال الحافظ الهيثميّ في "مجمع الزوائد" 1/ 149: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. وحسّنه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" رقم 732. (¬2) صحيح تقدّم للمصنّف برقم (20). (¬3) القائل السيوطيّ.

وإن لم يكن فيه نص صريح بلفظها، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- يفهم من القرآن ما لا يفهمه غيره. وقد قال لما سئل عن الحمر: "ما أُنزل فيها شيء إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8] (¬1). فانظر أخذ حكمها من أين؟. وقال ابن مسعود فيما أخرجه ابن أبي حاتم: ما من شيء إلا بُيِّنَ لنا في القرآن، ولكن فهمنا يقصر عن إدراكه، فلذلك قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. فانظر هذا الكلام من ابن مسعود أحد أجلاء الصحابة، وأقدمهم إسلاما. قال بعضهم: السنة شرح للقرآن. وقد ألف ابن بُرَّجَان (¬2) كتابا في معاضدة السنة للقرآن. أخرج الشافعي والبيهقي من طريق طاوس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه". قال الشافعي: وهذا منقطع، وكذلك صَنَعَ -صلى الله عليه وسلم-، وبذلك أُمِر، وافتُرض عليه أن يتبع ما أُوحى إليه، ونشهد أن قد اتبعه، وما لم يكن فيه وحي فقد فرض الله في الوحي اتباع سنته، فمن قَبِل عنه فإنما قبل بفرض الله، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. قال البيهقي: وقوله: "في كتابه" -إن صحت هذه اللفظة- فإنما أراد فيما أُوحي إليه، ثم ما أُوحي إليه نوعان: أحدهما وحي يُتلَى، والآخر وحي لا يتلى. وقد احتج ابن مسعود من الآية التي احتج بها الشافعي بمثل ما احتج به في أن مَنْ قَبِل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبكتاب الله قبله، فإن حكمه في وجوب اتباعه حكم ما ورد به الكتاب، ثم أورد الحديث السابق في لعن الواشمات. ثم قال البيهقي: "باب فيما ورد عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة من ¬

_ (¬1) متّفقٌ عليه. (¬2) هو عبد السلام بن عبد الرحمن بن محمد اللخميّ الإشبيليّ، أبو الحكم، متصوّف، من مشاهير الصالحين، له كتاب في التفسير، وشرح أسماء الله الحسنى. توفي بمراكش سنة (536 هـ). انظر "فوات الوفيات" 1/ 274.

الرجوع إلى خبره". أخرج فيه عن قبيصة بن ذؤيب قال: جاءت الجدّة إلى أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- لتسأله ميراثها، فقال لها أبو بكر: ما لك في كتاب الله شيء، وما أعلم لك في سنة نبي الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال له المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري، فقال مثل ما قال، فأنفذه لها أبو بكر (¬1). وأخرج عن ابن المسيب أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يقول: الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئًا، حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابيّ من ديته، فرجع إليه عمر (¬2). أخرجه أبو داود. وأخرج عن طاوس أن عمر قال: أُذَكِّرُ الله امرءا سمع من النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنين شيئًا، فقام حَمَلُ بن مالك بن النابغة قال: كنت بين جارتين لي -يعني ضرتين- فضربت إحداهما الأخرى بمسطح، فألقت جنينا ميتا، فقضى فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بغُرّة، فقال عمر: لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا، إن كِدْنَا نقضي فيه برأينا (¬3). وقال البيهقي: قال الشافعي: قد رجع عمر عما كان يقضي فيه بحديث الضحاك إلى أن خالف حكم نفسه، وأخبر في الجنين أنه لو لم يسمع هذا لقضى بغيره، وقال: إن كدنا نقضي فيه برأينا. وأخرج الشيخان من طريق ابن شهاب، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة: أن عمر خرج إلى الشام، فلما جاء سَرْغَ بلغه أن الوباء قد وقع بالشام، فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذيّ رقم (2983) وقال: حسن صحيح، قلت: الإسناد صحيح، إلا أنه مرسل؛ لأن قبيصة بن ذؤيب لا يصح سماعه من الصديق، ولا يمكن شهوده القصّة. وضعفه الشيخ الألباني في "الإرواء" رقم (1680). (¬2) صحيح رواه أبو داود، والترمذيّ، وسيأتي للمصنف في "كتاب الديات" رقم (2642). (¬3) صحيح، أخرجه أبو داود، والنسائيّ، وسيأتي للمصنّف برقم (2641).

وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا"، فرجع عمر من سرغ. قال ابن شهاب: وأخبرني سالم بن عبد الله بن عمر أن عمر إنما انصرف بالناس من حديث عبد الرحمن ابن عوف. وأخرج البخاري عن عائشة قالت: لم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذها من مجوس هجر. وأخرج البيهقي عن زينب بنت كعب بن عجرة، أن الفُريعة بنت مالك بن سنان، وهي أخت أبي سعيد الخدري أخبرتها، أنها جاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتسأله، أن ترجع إلى أهلها في بني خُدْرة، فإن زوجها خرج في طلب أعبُد له أَبَقُوا، حتى إذا كان بطرف الْقَدُوم (¬1) لَحِقَهم، فقتلوه، فسألتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أرجع إلى أهلي، فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله"، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرًا، قالت: فلما كان عثمان بن عفان أرسل إليّ، فسألني عن ذلك، فأخبرته فاتبعه، وقضى به (¬2). وأخرج عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: كنت إذا سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثًا نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدّقته، وأنه حدثني أبو بكر، وصدق أبو بكر، أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من عبد موقن يذنب ذنبًا، فيتطهر، فيحسن الطهور، ويستغفر الله إلا غفر له". أخرجه أحمد (¬3). وأخرج الشيخان عن ابن عباس أن زيد بن ثابت قال له: أتفتي أن تَصدُر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؟ فقال ابن عباس: إما لا فسأل فلانة الأنصارية، هل أمرها بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فرجع زيد بن ثابت يضحك ويقول: ما أراك إلا قد صدقت. قال الشافعي: فسمع زيد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما أفتى ابن عباس بالصدر ¬

_ (¬1) بفتح القاف، وتخفيف الدال المهملة: اسم موضع على ستة أميال من المدينة. (¬2) صحيح، رواه أبو داود 2283 والترمذيّ 1216 وقال: حسن صحيح، وسيأتي للمصنّف برقم 2031. (¬3) حديث حسنٌ، رواه أحمد 1/ 10. والترمذي رقم (1395) وقال: عحسن.

أنكره عليه، فلما أُخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى عليه حقّا أن يرجع عن خلاف ابن عباس. وأخرج الشيخان عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفا الْبِكَالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس بموسى بني إسرائيل، فقال: كَذَبَ عَدُوُّ الله، أخبرني أُبَيّ ابن كعب قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فذكر حديث موسى والخضر. قال الشافعي: ابن عباس مع فقهه وورعه كَذَّب امرأً من المسلمين، ونسبه إلى عداوة الله لما أخبر به عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من خلاف قوله. وأخرج البيهقي والحاكم عن هشام بن جبير قال: كان طاوس يصلي ركعتين بعد العصر، فقال له ابن عباس: اترُكهما، فقال: ما أَدَعُهما، فقال ابن عباس: فإنه قد نَهَى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن صلاة بعد العصر، ولا أدري أتعذب أم تؤجر؟؛ لأنَّ الله قال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [الأحزاب: 36]. قال الشافعي: فَرَأيَ ابن عباس الحجة قائمة على طاوس بخبره عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ودَلَّه بتلاوة كتاب الله عز وجل على أن فرضا عليه أن لا يكون له الخيرة إذا قضى الله ورسوله أمرًا. وأخرج مسلم عن ابن عمر قال: كنا نُخَابِر، ولا نرى بذلك بأسًا، حتى زعم رافع أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عنها، فتركناها من أجل ذلك. قال الشافعي: فابن عمر قد كان ينتفع بالمخابرة، ويراها حلالًا، ولم يتوسع إذ أخبره الثقة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أنه نهى عنها أن يخابر بعد خبره. وأخرج البيهقي عن عطاء بن يسار، أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن مثل هذا، إلا مثلا بمثل، فقال له معاوية: ما أرى بهذا بأسًا، فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية، أُخبره عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويخبرني عن رأيه، لا أُساكنك بأرض أنت بها (¬1). قال الشافعي: فرأى أبو الدرداء الحجة تقوم على معاوية بخبره، فلما لم ير معاويةُ ذلك فارق أبو الدرداء الأرض التي هو بها؛ إعظامًا؛ لأنه ترك خبر ثقة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال الشافعي: وأُخْبِرنا أن أبا سعيد الخدري لقي رجلًا، فأخبره عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا، فخالفه، فقال أبو سعيد: والله لا ¬

_ (¬1) صحيح، أخرجه النسائيّ 2/ 322 مختصرًا.

آواني وإياك سقف بيت أبدًا. قال الشافعي: فرأى أن ضيقًا على المخبر أن لا يقبل خبره. وأخرج الشيخان عن ابن عمر، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تمنعوا النساء بالليل من المساجد"، فقال بعض بني عبد الله بن عمر: والله لا نَدَعُهُنّ يتخذنه دَغَلًا، فضرب ابن عمر صدره، وقال: أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنت تقول ما تقول (¬1). وأخرج الشيخان عن عبد الله بن بريدة، أن عبد الله بن مغفل، رأى رجلًا يَخْذِف فنهاه، فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الخذف، وقال: "إنه لا يرد الصيد، ولا ينكأ العدو، ولكنه قد يكسر السن، ويفقأ العين"، قال: فرآه بعد ذلك يخذف، فقال: أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم تخذف، والله لا أكلمك أبدًا (¬2). وأخرج الشيخان عن عمران بن حصين أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الحياء خير كله"، فقال بُشَير بن كعب: إنا نجد في بعض الكتاب أن منه سكينة ووقارًا، ومنه ضعفًا، فغضب عمران بن حصين حتى احمرت عيناه، وقال: أُحَدِّثُك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتعارض فيه، وفي رواية: وتحدثني عن صُحُفك. وأخرج البيهقي والحاكم عن الحسن قال: بينما عمران بن الحصين يحدث عن سنة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، إذ قال له رجل: يا أبا نُجيد، حَدِّثنا بالقرآن، فقال له عمران: أنت وأصحابك تقرءون القرآن، أكنت تحدثني عن الصلاة وما فيها وحدودها، أكنت محدثي عن الزكاة في الذهب والإبل والبقر وأصناف المال، ولكن قد شهدتُ، وغبت أنت، ثم قال: فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الزكاة كذا وكذا، فقال الرجل: أحييتني أحياك الله، قال الحسن: فما مات ذلك الرجل حتى صار من فقهاء المسلمين (¬3). قال الشافعي: ولا أعلم من الصحابة، ولا من التابعين أحدًا أخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا قُبِل خبره، وانتُهِيَ إليه، وأُثبت ذلك سنة. ثم أخرج عن سالم بن عبد الله، أن عمر بن الخطاب نَهَى عن الطيب قبل زيارة البيت، وبعد الجمرة، قال سالم: فقالت عائشة: طَيَّبْتُ رسولَ الله ¬

_ (¬1) متّفقٌ عليه، وتقدّم للمصنف برقم (16). (¬2) متّفق عليه، وتقدّم للمصنف برقم (17). (¬3) أخرجه الحاكم في "مستدركه" 1/ 109، وصححه.

-صلى الله عليه وسلم- بيدي لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت، وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحقّ. قال الشافعي: فترك سالم قول جدّه عمر في إمامته، وعَمِل بخبر عائشة، وأعلم من حدّثه أنه سنة، وأن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحقّ، وذلك الذي يجب عليه. قال الشافعي: وصنع ذلك الذين بعد التابعين، والذين لقيناهم كلهم يُثبت الأخبار، ويجعلها سنةً، يُحمَد من تبعها، ويعاب من خالفها، فمن فارق هذا المذهب كان عندنا مفارق سبيل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأهل العلم بعدهم إلي اليوم، وكان من أهل الجهالة. انتهى. قلت (¬1): هذا الذي سقته من أول الكتاب إلى هنا كله تحرير الإمام الشافعي -رضي الله عنه- كلامًا واستدلالًا بالأحاديث، ولقد أتقنه -رضي الله عنه- وأطنب فيه؛ لداعية الحاجة إليه في زمنه، لما كان يناظره من الزنادقة والرافضة الرادين للأخبار، ونقله البيهقي في كتابه، فزاده محاسن كما تقدم بيانه، وبقيت آثار ذكرها البيهقي مفرقة في كتابه، فها أنا أذكرها، ثم أزيد عليها بما لم يقع في كلامه، ولا في كلام الشافعي رضي الله عنه. وأخرج البيهقي بسنده عن أيوب السختياني قال: إذأ حَدَّثْتَ الرجل بسنة، فقال: دعنا من هذا، وأنبئنا عن القرآن، فاعلم أنه ضال. قال الأوزاعي: وذلك أن السنة جاءت قاضية على الكتاب، ولم يجئ الكتاب قاضيا على السنة. وأخرج عن أيوب قال: قال رجل عند مُطَرِّف بن عبد الله: لا تحدثونا إلا بما في القرآن، فقال مطرف: إنا والله ما نريد بالقرآن بدلًا، ولكنا نريد من هو أعلم بالقرآن منا. وأخرج البخاري عن مروان بن الحكم، قال: شهدت عليا وعثمان بين مكة والمدينة، وعثمان ينهى عن المتعة، وأن يُجمَعَ بينهما، فلما رأى ذلك عليٌّ أَهَلَّ بهما جميعا، فقال: لبيك بحجة وعمرة معًا، فقال عثمان: تراني أنهي الناس عن شيء، وأنت تفعله؟ فمّال: ما كنت لأدع سنة رسول الله لقول أحد من الناس. وأخرج مسلم عن سليمان بن يسار، أن أبا هريرة وابن عباس وأبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف تذاكروا المتوفى عنها ¬

_ (¬1) القائل السيوطيّ رحمه الله تعالى.

الحامل تضع عند وفاة زوجها، فقال ابن عباس: تعتدُّ آخر الأجلين، وقال أبو سلمة: بل تَحِلُّ حين تضع، قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي، فأرسلوا إلى أم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: قد وضعت سبيعة الأسلمية بعد وفاة زوجها بيسير، فاستفتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأمرها أن تتزوج. وأخرج البيهقي عن البراء قال: ليس كلنا كان يسمع حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، كانت لنا ضَيْعَةٌ وأشغال، ولكن كان الناس لم يكونوا يكذبون، فيحدث الشاهد الغائب. وأخرج عن قتادة أن إنسانا حدث بحديث، فقال له رجل: أسمعت هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: نعم، أو حَدَّثني من لم يكذب والله، ما كنا نكذب، ولا كنا ندري ما الكذب؟ (¬1). وأخرج من طريق مالك أن رجاء حدثه، أن عبد الله بن عمر كان يتبع أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وآثاره، وحاله، ويهتم به حتى كان قد خيف على عقله من اهتمامه بذلك. وأخرج عن الحسن، عن سمرة قال: حفظت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سكتتين: سكتة إذا كبر، وسكتة إذا فرغ من قراءة السورة، فكتب عمران بن حصين في ذلك إلى أُبيّ بن كعب، فكتب يُصَدِّق سمرة، ويقول: إن سمرة حفظ الحديث من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬2). وأخرج عن محمد بن سيرين أن ابن عباس لمّا أمر بزكاة الفطر، أنكر الناس ذلك عليه، فأرسل إلى سمرة، أما علمت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أَمَر بها؟ فقال: بلى، قال: فما منعك أن تعلم أهل البلد؟. قال البيهقي: فابن عباس عاتب سمرة على ترك إعلام أهل البلد، أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بزكاة الفطر. وأخرج البخاري عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بَلِّغُوا عني ولو آية، وحَدِّثوا عني ولا تكذبوا علي، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". وأخرج البيهقي عن ابن المبارك قال: سأل أبو عصمة أبا حنيفة، ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في "المستدرك" 1/ 127، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبيّ. (¬2) أخرجه أحمد في 5/ 7 و 15 و 20و23 والترمذيّ، وقال: حسنٌ، وسيأتي للمصنّف، برقم (844).

فقال: إني سمعت هذه الكتب -يعني الرأي- فمن تأمرني أن أسمع الآثار؟ قال: فممن كان عدلا في هواه إلا الشيعة، فإن أصل عقدهم تضليل أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال: ومن أتى السلطان طائعًا، حتى انقادت له العامة، فهذا لا ينبغي أن يكون من أئمة المسلمين. قلت (¬1) هذا الكلام من الإمام أبي حنيفة -رضي الله عنه- في الشيعة وِفَاق ما قدمته في الخطبة. وأخرج البيهقي عن حرملة بن يحيى، قال: سمعت الشافعي يقول: ما في أهل الأهواء قوم أشهد بالزور من الرافضة. وأخرج عن جابر بن عبد الله قال: بلغني حديث عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لم أسمعه منه، فابتعت بعيرًا، فشددت عليه رحلي، ثم سِرْت إليه شهرًا، حتى قدمت الشام، فإذا هو عبد الله بن أنيس الأنصاري، فأتيته، فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المظالم لم أسمعه، فخشيت أن أموت، أو تموت قبل أن أسمعه، فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يُحشَر الناس عراة غُرْلًا بُهْمًا"، قلنا: وما البهم؟ قال: "ليس معهم شيء، فيناديهم نداء يَسمَعُهُ من بَعُدَ كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، ولأحد من أهل الجنة عنده مظلمة حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة حتى أقصه منه، حتى اللطمة"، قلنا: كيف وإنما نأتي الله عراة غُرْلًا بُهْمًا؟، قال: "بالحسنات والسيئات". أخرجه أحمد والطبراني (¬2). وأخرج البيهقي عن عطاء بن أبي رباح قال: خرج أبو أيوب إلى عقبة بن عامر، يسأله عن حديث سمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لم يبق أحد سمعه منه غيره، فلما قَدِمَ أتى منزل مسلمة بن مُخَلَّد الأنصاري، وهو أمير مصر، فخرج إليه فعانقه، ثم قال له: ما جاء بك يا أبا أيوب؟، قال: حديث سمعتَهُ من رسول ¬

_ (¬1) القائل السيوطيّ رحمه الله تعالى. (¬2) صحيح، رواه أحمد 1/ 229 وابن حبان في "صحيحه" 9211 - 212. وأورده الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7899).

الله -صلى الله عليه وسلم- في ستر المؤمن، فقال: نعم، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من ستر مؤمنا في الدنيا على كربته، ستره الله يوم القيامة". ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته، فركبها راجعا إلا المدينة، فما أدركته جائزة مسلمة إلا بعَرِيش مصر (¬1). وأخرج الشيخان من طريق صالح بن حي، قال: كنت عند الشعبي، فقال له رجل من أهل خرسان: إنا نقول بخرسان: إن الرجل إذا أعتق أم ولده، ثم تزوجها فهو كالذي يُهدِي البدنة ثم يركبها، قال الشعبي: أخبرني أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، عن أبيه، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل كانت له أمة فعلمها، فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، وأعتقها فتزوجها، فله أجران، والعبد يؤدي حق الله وحق سيده، وهو من أهل الكتاب" (¬2)، ثم قال الشعبي للرجل: قد أعطيناكها بغير شيء، وقد كان الرجل يرحل فيما دونها إلى المدينة. وأخرج البيهقي عن سعيد بن المسيب قال: إن كنت لأسافر مسيرة الأيام والليالي في الحديث الواحد. وأخرج عن الزهري قال: قيل لعروة ابن الزبير في قصة ذكرها: كذبت، قال عروة: ما كذبت، ولا أكذب، وإن أكذب الكاذبين لمن كَذّب الصادقين. وأخرج عن عثمان بن نُفيل قال: قلت لأحمد بن حنبل: ¬

_ (¬1) صحيح، أخرجه أحمد 4/ 159 وأصل الحديث دون القصّة، متّفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وسيأتي للمصنف برقم (221) و (كتاب الحدود) (2534) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬2) هكذا نصّ الرسالة، وفيه نقصٌ، ونصّ البخاريّ في "كتاب العلم" من "صحيحه": 95 - أخبرنا محمد، هو ابن سلام، حدثنا المحاربي، قال: حدثنا صالح بن حيان، قال: قال عامر الشعبي: حدثني أبو بردة، عن أبيه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وآمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها، فله أجران"، ثم قال عامر: أعطيناكها بغير شيء، قد كان يُركب فيما دونها إلى المدينة.

إن فلانا يتكلم في وكيع، وعيسى بن يونس، وابن المبارك، فقال: من كَذّب أهل الصدق فهو الكذاب. وأخرج مسلم عن ابن سيرين قال: لقد أتى على الناس زمان، وما يُسأل عن إسناد حديث، فلما وقعت الفتنة، سئل عن إسناد الحديث، فنُظر من كان من أهل السنة أُخذ من حديثه، ومن كان من أهل البدع تُرك حديثه. وأخرج البيهقي عن مالك قال: كان عمر بن عبد العزيز يقول: سَنَّ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، وولاة الأمر من بعده سننا الآخذ بها تصديق كتاب الله، واستكثار لطاعة الله، وقوة على دين الله، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، والله تعالى يقول: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. وأخرج بسنده عن المزنى، أو الربيع قال: كنا يوما عند الشافعي، إذ جاء شيخ عليه جبة صوف، وعمامة صوف، وأزرار صوف، وفي يده عُكّاز، فقام الشافعي، وسَوّى عليه ثيابه، واستوى جالسًا، وسلم الشيخ، وجلس، وأخذ الشافعي ينظر إلى الشيخ هيبة له، إذ قال له للشيخ: سل، قال: إيش الحجة في دين الله؟ قال: كتاب الله، قال: وماذا؟ قال: وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: وماذا؟ قال: اتفاق الأمة، قال: من أين قلت اتفاق الأمة من كتاب الله؟، قال: فتدبر الشافعي ساعة، فقال للشافعي: قد أجلتك ثلاثة أيام ولياليها، فإن جئت بحجة من كتاب الله في الاتفاق، وإلا تب إلى الله، فتغير لون الشافعي، ثم إنه ذهب، فلم يخرج إلا بعد ثلاثة أيام ولياليهن، قال: فخرج إلينا من اليوم الثالث، وقد انتفخ وجهه ويداه ورجلاه، وهو مِسْتقَام، فجلس، فلم يكن بأسرع، إذ جاء الشيخ، وسلم وجلس، فقال: حاجتي، فقال الشافعي: نعم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، لا يُصلِيه على خلاف المؤمنين إلا وهو فرض، فقال: صدقت، وقام فذهب، فلما ذهب الرجل، قال الشافعي: قرأت القرآن كل يوم وليلة ثلاث مرات،

حتى وقعت عليه. وأخرج البيهقي والدارمي عن معاذ بن جبل قال: لما بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن، قال لي: "كيف تقضي إن عرض عليك قضاء؟ "، قلت: أقضى بما في كتاب الله، قال: "فإن لم يكن في كتاب الله؟ "، قلت: أقضي بما قضى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: "فإن لم يكن قضى به الرسول؟ "، قلت: أجتهد رأيي، ولا آلو، فضرب صدري، وقال:"الحمد لله الذي وفّق رسولَ رسولِ الله؟ "، لِمَا يُرضي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". وأخرجا أيضا والحاكم عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: رأيت ابن عباس إذا سئل عن الشيء، فإذا كان في كتاب الله قال به، فإن لم يكن في كتاب الله، وكان عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال به، وإن لم يكن في كتاب كتاب الله، ولا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن أبي بكر وعمر قال به، وإن لم يكن في كتاب الله، ولا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن أبي بكر وعمر اجتهد رأيه. وأخرج البيهقي عن مالك قال: قال ربيعة: أنزل الله كتابه على نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وترك فيه موضعا لسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وسن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سننًا، وترك فيها موضعا للرأي. وأخرج عن مسروق قال: قال: عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- تُرَدُّ الناس. من الجهالات إلى السنة. وأخرج الشيخان (¬1) يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]، وقد أَمِنَ الناسُ، فقال عمر: عَجِبتُ مما عجبت منه، فسألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: "صدقةٌ تصدّق بها الله عليكم، فاقبلوا صدقته". قال العلماء: فَهِمُوا من الآية أنه إذا عُدِم الخوف كان الأمر في القصر بخلافه، حتى أخبرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالرخصة في الحالين معًا. "وأخرج البيهقي عن أمية بن عبد الله ابن خالد، أنه قال لعبد الله بن عمر: إنا نجد صلاة الحضر، وصلاة الخوف في القرآن، ولا نجد صلاة السفر في القرآن، فقال ابن عمر: يا ابن أخي، إن الله بعث ¬

_ (¬1) فيه نظر، فإنه مما أخرجه أخرجه مسلم 5/ 196 في "كتاب صلاة المسافرين"، وأما عزوه إلى البخاريّ، فلا أظنّه صحيحًا.

إلينا محمدا -صلى الله عليه وسلم-، ولا نعلم شيئًا، فإنما نفعل كما رأينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- يفعل. وأخرج البيهقي عن ابن عمر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أحاديثي ينسخ بعضها بعضا، كنسخ القرآن بعضه بعضًا" (¬1). وأخرج عن الزبير بن العوام أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول القول، ثم يلبث حينا، ثم ينسخه بقول آخر كما ينسخ القرآن بعضه بعضًا (¬2). وأخرج عن مكحول قال: القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن. أخرجه سعيد بن منصور. وأخرج عن يحيى بن أبي كثير قال: السنة قاضية على الكتاب، وليس الكتاب قاضيًا على السنة. أخرجه الدارمي، وسعيد بن منصور، قال البيهقي: ومعنى ذلك أن السنة مع الكتاب أقيمت مقام البيان عن الله، كما قال الله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، لا أن شيئًا من السنن يخالف الكتاب. قلت (¬3): والحاصل أن معنى احتياج القرآن إلى السنة أنها مبينة له، ومُفَصِّلة لمجملاته؛ لأن فيه لِوَجَازته كنوزًا تحتاج إلى من يَعرِف خفايا خباياها فيبرزها، وذلك هو المُنْزَل عليه -صلى الله عليه وسلم-، وهو معنى كون السنة قاضية عليه، وليس القرآن مبينا للسنة، ولا قاضيا عليها؛ لأنها بَيِّنَةٌ بنفسها، إذ لم تصل إلى حَدّ القرآن في الإعجاز والإيجاز؛ لأنها شرح له، وشأن الشرح أن يكون أوضح وأبين وأبسط من المشروح. والله أعلم. وأخرج البيهقي عن هشام بن يحيى المخزومي، أن رجلا من ثقيف أتى عمر بن الخطاب، فسأل عن امرأة حاضت، وقد كانت زارت البيت، ألها أن تَنْفِر قبل أن تطهر؟ فقال: لا، فقال له الثقفي: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفتاني في مثل هذه المرأة بغير ما أَفْتَيتَ، فقام إليه عمر، فضربه بالدِّرَّة، ويقول: لم تستفتوني في شيء أفتى فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وأخرج عن ابن خزيمة قال: ليس لأحد قول مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صح الخبر. وأخرج عن يحيى ¬

_ (¬1) موضوع، أخرجه الدارقطنيّ في "سننه" 4/ 145 وهو مسلسل بالمتروكين. (¬2) في سنده ابن لهيعة، وفيه مقال مشهور. (¬3) القائل السيوطيّ رحمه الله تعالى.

ابن آدم قال: لا يُحتاج مع قول النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى قول أحد، إنما كان يقال: سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأبي بكر وعمر؛ ليعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مات وهو عليها. وأخرج عن مجاهد قال: ليسن أحد إلا يؤخذ من قوله ويُترك من قوله إلا النبي -صلى الله عليه وسلم-. وأخرج عن ابن المبارك قال: سمعت أبا حنيفة يقول: إذا جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن أصحاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم- نختار من قولهم، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم. وأخرج مسلم عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القرآن سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرةً". وأخرج عن أبي البحتري قال: قيل لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: أخبرنا عن ابن مسعود، قال: عَلِمَ القرآن والسنة، ثم انتهى، وكفى به علمًا. وأخرج عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به، لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة منّي ماضية، فإن لم يكن سنة منّي فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة" (¬1). وأخرج عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه مرّ على قاصّ يقصّ (¬2)، قال: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، فقال علي: هلكت وأهلكت. وأخرج مثله عن ابن عباس. قال البيهقي: قال الشافعي: ولا يُستدَلّ على الناسخ والمنسوخ في القرآن إلا بخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. أو بوقت يدل على أن أحدهما بعد الآخر، فيعلم أن الآخر هو الناسخ، أو بقول من سمع الحديث أو الإجماع. قال: وأكثر الناسخ في كتاب الله إنما عُرف بدلالة سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وأخرج عن ابن المبارك أنه قيل له: متى يُفتي الرجل؟ فقال: إذا كان عالما بالأثر، بصيرًا بالرأي. وأخرج عن جُندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله -صلى الله عليه وسلم-: ¬

_ (¬1) موضوع، أخرجه عبد بن حميد في "المنتخب المسند" 1/ 86 وذكره الديلمي في "الفردوس" 6497 وأورده الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" رقم 61. (¬2) ووقع في بعض النسخ "على قاض يقضي" بالضاد، ولعل الصواب بالصاد.

"من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ" (¬1). وأخرج عن إبراهيم التيمي قال: أرسل عمر بن الخطاب إلى ابن عباس فقال: كيف تختلف هذه الأمة، وكتابها واحد، ونبيها واحد، وقبلتها واحدة؟ فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين، إنا أنزل علينا القرآن، فقرأناه، وعلمناه فيما نزل، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن، ولا يعرفون فيما نزل، فيكون لكل قوم فيه رأي، فإذا كان لكل قوم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا. أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (¬2). قلت (¬3): فعرف من هذا وجوب احتياج الناظر في القرآن إلى معرفة أسباب نزوله، وأسباب النزول إنما تؤخذ من الأحاديث. والله أعلم. وأخرج البيهقي والدارمي عن الشعبي قال: كتب عمر بن الخطاب إلى شُريح: إذا حضرك أمر لا بد منه، فانظر ما في كتاب الله فاقض به، فإن لم يكن فبما قضى به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فإن لم يكن فبما قضى به الصالحون، وأئمة العدل، فإن لم يكن فاجتهد رأيك (¬4). وأخرجا أيضا عن ابن مسعود أنه قال: من ابتلى منكم بقضاء فليقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله، فليقض بما قضى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن لم يكن في كتاب الله، ولا في قضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فليقض بما قضى به الصالحون، فإن لم يكن فليجتهد رأيه. وأخرجا أيضا عن ابن عباس قال: من أحدث رأيا ليس في كتاب الله، ¬

_ (¬1) ضعيف أخرجه أبو داود رقم 3635. والترمذيّ رقم 4024 وقال: حديث غريب. انظر "ضعيف الجامع" للشيخ الألبانيّ رقم 5748. (¬2) منقطعٌ؛ لأن إبراهيم التيميّ لم يلق عمر، ولا سمع من ابن عباس رضي الله تعالى عنهم. انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" 1/ 92. (¬3) القائل السيوطيّ رحمه الله تعالى. (¬4) منقطع؛ لأن الشعبيّ لم يدرك عمر -رضي الله عنه-؛ لأنه وُلد على الأصحّ لست سنين خلت من خلافته، وقيل: (19) وقيل: (20) وقيل: (31). انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" 2/ 265.

ولم تمض به سنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لم يدر على ما هو منه إذا لقي الله. وأخرج البيهقي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لن يستكمل مؤمن إيمانه حتى يكون هواه تبعا لما جئت به" (¬1). وأخرج البيهقي واللالكائي في "السنة" عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، أعيتهم أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يحفظوها، فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا. وأخرج البخاري عن أبي وائل قال: لما قدم سهل بن حُنيف من صِفِّين أتيناه لنستخبره، فقال: اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو أستطيع أن أردّ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره لرددت، والله ورسوله أعلم، وما وضعنا أسيافنا على عواتقنا في أمر يُفظعنا إلا سهل بنا إلى أمر نعرفه قبل هذا الأمر، ما سددنا عنه خُصْمًا إلا انفجر علينا خُصْمٌ، ما ندري كيف نأتي إليه؟. وأخرج البيهقي وأبو يعلى عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: يا أيها الناس اتهموا الرأي على الدين فلقد رأيتني أردُّ أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برأيي اجتهادًا، فو الله ما آلوا عن الحق، وذلك يوم أبي جندل، والكتاب بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأهل مكة، فقال: "اكتبوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، فقالوا: ترانا قد صدقناك بما تقول، ولكنك تكتب كما كنت تكتب: "باسمك اللهم"، فرضي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأبيت عليهم حتى قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تراني أرضي، وتأبى أنت، فرضيت". وأخرج البيهقي عن علي -رضي الله عنه- قال: لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخفين أحق بالمسح من ظاهرهما، ولكن رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمسح على ظاهرهما. وأخرج عن ابن عمر قال: لا يزال الناس على الطريق ما اتبعوا الأثر. وأخرج عن عروة قال: اتباع السنن قوام الدين. وأخرج عن عامر قال: إنما هلكتم في حين تركتم الآثار. وأخرج عن ابن سيرين قال: كانوا يقولون: ما دام على الأثر فهو على الطريق. وأخرج عن شُريح قال: أنا أقتفي الأثر، يعني آثار النبي -صلى الله عليه وسلم-. وأخرج عن الأوزاعي قال: إذا بلغك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديث، فإياك أن تقول بغيره، فإن رسول ¬

_ (¬1) ضعّفه الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في "جامع العلوم والحكم"، من أجل نعيم بن حمّاد، وقد تقدّم تحقيقه.

الله -صلى الله عليه وسلم- كان مبلغا عن الله تعالى. وأخرج عن سفيان الثوري قال: إنما العلم كله العلم بالآثار. وأخرج عن عثمان بن عمر قال: جاء رجل إلى مالك، فسأله في مسألة، فقال له: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا وكذا، فقال الرجل: أرأيت، فقال مالك: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. وأخرج عن ابن وهب قال: قال مالك: لم يكن من فتيا الناس أن يقال لهم: لم قلت هذا، كانوا يكتفون بالرواية، ويرضون بها. وأخرج عن إسحاق بن عيسى قال: سمعت مالك بن أنس يعيب الجدال في الدين، ويقول: كلما جاءنا رجل أجدل من رجل أردنا أن نردّ ما جاء به جبريل عليه السلام إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-. وأخرج عن ابن المبارك قال: لِيَكُن الذي تعتمد عليه الأثر، وخذ من الرأي ما يفسر لك الحديث. وأخرج عن يحيى بن ضريس قال: شهدت سفيان، وأتاه رجل فقال: ما تنقم على أبي حنيفة؟ قال: وما له؟ قد سمعته يقول: آخذ بكتاب الله، فإن لم أجد فبسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسوله، أخذت بقول أصحابه، آخذ بقول من شئت منهم، وأدع قول من شئت منهم، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فأما إذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي وابن سيرين والحسن وعطاء وابن المسيب، وعدّد رجالًا، فقوم اجتهدوا، فأجتهد كما اجتهدوا. وأخرج عن الربيع قال: روى الشافعي يوما حديثًا، فقال له رجل: أتأخذ بهذا يا أبا عبد الله، فقال: متى ما رويتُ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثا صحيحًا، فلم آخذ به، فأشهدكم أن عقلي قد ذهب. وأخرج عن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقولوا بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ودَعُوا ما قلت. وأخرج عن مجاهد في قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} [النساء: 59] قال: إلى كتاب الله {وَالرَّسُولِ} قال: إلى سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وأخرج البيهقي والدارمي عن أبي ذر قال: أَمَرَنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن لا نُغلَب على أن نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونعلم الناس السنن. وأخرج عن عمر ابن الخطاب قال: تعلموا السنن والفرائض واللحن، كما تعلمون القرآن.

وأخرج عن ابن مسعود أنه قال: أيها الناس عليكم بالعلم قبل أن يُرفع، فإن من رفعه أن يُقبض أصحابه، وإياكم والتبدُّع والتنطع، وعليكم بالعتيق، فإنه سيكون في آخر هذه الأمة أقوام يزعمون أنهم يَدْعُون إلى كتاب الله، وقد تركوه وراء ظهورهم. أخرجه الدارمي. وأخرج عن سليمان التيمي قال: كنت أنا وأبو عثمان، وأبو نضرة، وأبو مجلز، وخالد الأشج نتذاكر الحديث والسنة، فقال بعضهم: لو قرأنا سورة من القرآن كان أفضل، فقال أبو نضرة: كان أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- يقول: مذاكرة الحديث أفضل من قراءة القرآن. قلت: وهذا كما قال الشافعي -رضي الله عنه-: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة؛ لأن قراءة القرآن نافلة، وحفظ الحديث فرض كفاية. والله أعلم. وأخرج عن سفيان الثوري قال: لا أعلم شيئا من الأعمال أفضل من طلب الحديث لمن حسنت فيه نيته. وأخرج عن ابن المبارك قال: ما أعلم شيئا أفضل من طلب الحديث لمن أراد به الله عز وجل. وأخرج عن خالد بن يزيد قال: حرمة أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كحرمة كتاب الله. قال البيهقي: وإنما أراد في معرفة حقها وتعظيم حرمتها وفرض اتباعها. وأخرج عن الشافعي قال: كلما رأيت رجلا من أصحاب الحديث، فكأنما رأيت رجلا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-. وأخرج عن إسماعيل بن أبي أويس قال: كان مالك إذا أراد أن يحدث توضأ، وجلس على صدر فراشه، وسَرّح لحيته، وتمكن من جلوسه بوقار وهيبة وحَدَّث، فقيل له في ذلك: فقال أحب أن أعظم حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا أحدث إلا على طهارة متمكنًا، وكان يكره أن يحدث في الطريق، أو وهو قائم، أو مستعجل، وقال أُحِبّ أن أتفهم ما أحدث به عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وأخرج عن مالك أن رجلا جاء إلى سعيد بن المسيب، وهو مريض فسأله عن حديث، وهو مضطجع، فجلس فحدثه، فقال له الرجل: وددت أنك لم تتعنّ، فقال له: إني كرهت أن أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنا مضطجع. وأخرج عن الأعمش، أنه

كان إذا أراد أن يحدث على غير طهر تيمم. وقال الأعمش عن ضرار بن مرة قال: كانوا يكرهون أن يحدثوا على غير طهر. وأخرج عن قتادة قال: لقد كان يستحب أن لا نقرأ الأحاديث التي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا على طهارة. وأخرج عن بشر بن الحارث قال: سأل رجل ابن المبارك عن حديث، وهو يمشي، فقال: ليس هذا من توقير العلم. وأخرج عن ابن المبارك قال: كنت عند مالك، وهو يحدث، فجاءت عقرب فلدغته ست عشرة مرة، ومالك يتغير لونه، ويتصبر ولا يقطع حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما فرغ من المجلس، وتفرق الناس، قلت له: لقد رأيت منك عجبًا قال: نعم إنما صبرت إجلالا لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وأخرج عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كل شيء سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشر، يتكلم في الرضى والغضب، قال: فأمسكت، فذكرت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "اكتب فوالذي نفسي بيده، ما خرج منه إلا حق"، وأشار بيده إلى فمه. أخرجه الدارمي والحاكم (¬1). وأخرج عن أبي هريرة أن رجلًا من الأنصار شكا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: إني أسمع منك الحديث، ولا أحفظه، فقال: "استعن بيمينك"، وأومأ بيده للخط. أخرجه الترمذي (¬2). وأخرج البيهقي والدارمي عن عبد الله بن دينار، أن عمر بن عبد العزيز كتب إلي أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو سنة ماضية فاكتبه، فإني قد خفت درس العلم وذهاب أهله. وأخرجا أيضا عن الزهري قال: كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة. قال السيوطيّ رحمه الله تعالى: هذا ما لخصته من كتاب البيهقي من الأحاديث ¬

_ (¬1) صحيح، أخرجه أبو داود رقم 3629 والحاكم 1/ 106 والدارميّ 1/ 125. (¬2) ضعيف، أخرجه الترمذيّ رقم 3803.

والآثار الدالة على وجوب الاعتصام بالسنة، وفرض اتباعها، وهذه أحاديث، وآثار لم تقع في كتابه: أخرج الشيخان عن أنس وابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من رغب عن سنتي فليس مني". "وأخرج الطبراني في "الأوسط" عن ابن عباس قال: النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم ارحم خلفائي"، قلنا: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: "الذين يأتون من بعدي، يروون أحاديثي، ويعلمونها الناس" (¬1). وأخرج أبو نعيم في "الحلية" عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أدى إلى أمتي حديثا تقام به سنة، أو تثلم به بدعة، فله الجنة" (¬2). وأخرج أبو يعلى والطبراني في "الأوسط" عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كذب عليّ متعمدًا، أو ردّ شيئا أمرت به، فليتبوأ بيتا في جهنم". وأخرج أحمد والبزار والطبراني عن زيد بن أرقم قال: بعث إليَّ عبيد الله بن زياد، فأتيته فقال: ما أحاديث تحدث بها، وترويها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لا نجدها في كتاب الله؟، تحدث أن له حوضا في الجنة، قال: قد حدثناه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووعدناه، وأخرج الطبراني في الكبير عن سلمان قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كذب علي متعمدًا، فليتبوأ بيتا في النار، ومن رد حديثا بلغه عني فأنا مخاصمه يوم القيامة، فإذا بلغكم عني حديث فلم تعرفوه، فقولوا: الله أعلم". وأخرج في "الأوسط" عن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من بلغه عني حديث، فكذّبه فقد كذّب ثلاثًا: الله، ورسوله، والذي حدث به". وأخرج أبو يعلى والطبراني في"الأوسط" عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من بلغه ¬

_ (¬1) أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط" قال الحافظ الهيثميّ في "مجمع الزوائد": وفيه أحمد بن عيسى الهاشميّ، قال الدارقطنيّ: كذّاب. وأورده الشيخ الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" رقم (1269) وقال: موضوع. (¬2) في سنده عبد الرحمن بن حبيب، قال الذهبي: متّهم بالوضع، وإسماعيل بن يحيى، قال الذهبيّ: كذاب. وأورده الشيخ اللألباني في "ضعيف الجامع" رقم (5372)، وحكم عليه بالوضع.

عن الله فضيلة فلم يصدق بها لم ينلها" (¬1). وأخرج أبو يعلى عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عسى أن يكذبني رجل منكم، وهو متكئ على أريكته، يبلغه الحديث عني، فيقول: ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا، دَعْ هذا، وهات ما في القرآن". هذه طريقة خامسة للحديث، فقد تقدم من حديث أبي رافع، والمقدام، والعرباض بن سارية، وأبي هريرة. وله طريق سادسة، أخرج الطبراني في "الكبير" عن خالد بن الوليد قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا خالد أَذِّن في الناس الصلاة"، ثم خرج، فصلى الهاجرة، ثم قام في الناس فقال: "ما أُحِلّ أموال المعاهدين بغير حقها، يمسي الرجل منكم يقول: وهو متكئ على أريكته: ما وجدنا في كتاب الله من حلال أحللناه، وما وجدنا من حرام حرمناه، ألا وأني أحرم عليكم أموال المعاهدين بغير حقها". وطريق سابعة، أخرج السلفي في "المنتفي" من حديث أبي طاهر الحنائي، من طريق حماد بن زيد، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يمسي رجل يكذبني، وهو متكئ يقول: ما قال هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬2). وأخرج الطبراني عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي، أنه كان في مجلس قومه، وهو يحدثهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبعضهم يقبل على بعض يتحدثون، فغضب، ثم قال: انظر إليهم، أحدثهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبعضهم يقبل على بعض، أما والله لأخرجن من بين أظهركم، ولا أرجع إليكم أبدًا، قلت: له أين تذهب؟ قال: أذهب فأجاهد في سبيل الله. وأخرج أبو يعلى بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قال في القرآن بغير ما يعلم، جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار". وأخرج الطبراني في "الكبير" عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من مشى إلى سلطان الله في الأرض ¬

_ (¬1) ضعيف، بل قال الشيخ الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (5504): موضوع. (¬2) في سنده أبو هارون العبديّ، واسمه عمارة بن جُوَين، شيعيّ متروك، ومنهم من كذّبه.

ليذله، أذل الله رقبته، مع ما يدخر له في الآخرة" (¬1). قال مسدد: وسلطان الله في الأرض كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-. وأخرج في "الأوسط" عن ابن عمر قال: العلم ثلاثة: كتاب ناطق، وسنة ماضية، ولا أدري. وأخرج أيضا عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سيأتي عليكم زمان لا يكون فيه شيء أعز من ثلاث: درهم حلال، أو أخ يستأنس به، أو سنة يُعمَل بها. وأخرج أحمد عن عمران بن حصين قال: نزل القرآن، وسن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السنن، ثم قال: اتبعونا، فوالله إن لم تفعلوا تضلوا. وأخرج أحمد والبزار عن مجاهد قال: كنا مع ابن عمر في سفر، فمرّ بمكان، فحاد عنه، فسئل لم فعلت؟ قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعل هذا ففعلت. وأخرج أحمد عن أنس بن سيرين قال: كنت مع ابن عمر بعرفات، فلما أفاض أفضت معه، حتى انتهى إلى الضيق، دون المأزمين، فأناخ فأنخنا، ونحن نحسب أنه يريد أن يصلي، فقال غلامه الذي يمسك راحلته: إنه ليس يريد الصلاة، ولكنه ذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، لما انتهى إلى هذا المكان قضى حاجته، فهو يحب أن يقضي حاجته. وأخرج البزار عن ابن عمر، أنه كان يأتي شجرة بين مكة والمدينة، فيقيل تحتها، ويخبر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يفعل ذلك. وأخرج هو وأبو يعلى عن زيد بن أسلم قال: رأيت ابن عمر محلول الأزرار، وقال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- محلول الأزرار. وأخرج الطبراني في "الكبير" عن عمرو بن شعواء اليافعي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سبعة لعنتهم، وكلُّ نبي مجاب: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمستحل حرمة الله، والمستحل من عترتي ما حرم الله، ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "الكبير" رقم (11534). وفي سنده حسين بن قيس أبو عليّ الرحبيّ، ضعفه البخاريّ، وأحمد، وجماعة. وأورده الألباني في "صحيح الجامع" 2/ 1054 بلفظ: "من أهان سلطان الله في الأرض أهان الله". وقال: رواه الترمذيّ، والإمام أحمد، والطبرانيّ في "الصغير"، ثم قال: حديث حسن.

والتارك لسنتي، والمستأثر بألفيء، والمتجبر بسلطانه ليعز ما أذل الله، ويذل ما أعز الله" (¬1). وأخرج في "الكبير" عن ابن عباس قال: قال علي يا رسول الله، أرأيت إن عَرَض لنا أمر لم ينزل فيه قرآن، ولم تمض فيه سنة منك؟ قال: "تجعلونه شورى بين العابدين من المؤمنين، ولا تقضونه برأي خاصة". وأخرج في "الأوسط" بسند صحيح عن علي -رضي الله عنه- قال: قلت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أن نزل بنا أمر ليس فيه بيان أمر ولا نهي، فما تأمرنا؟ فقال: "تشاورون الفقهاء والعابدين، ولا تجعلونه برأي خاصة" (¬2). وأخرج في "الأوسط" عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أكثر ما أتخوف على أمتي من بعدي رجل يتأول القرآن، يضعه على غير مواضعه" (¬3). وأخرج أحمد والطبراني عن غُضيف بن الحرث الثمالي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أحدث قوم بدعة إلا رُفع مثلها من السنة" (¬4). وأخرج البخاري في "تاريخه"، والطبراني عن ابن عباس قال: ما أتى على الناس عام إلا أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا فيه سنة، حتى تحيا البدع، وتموت السنن (¬5). وأخرج عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من مشى إلى صاحب بدعة ليوقره، فقد ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذيّ في "القدر" 2/ 22 - 23 والحاكم في "المستدرك" 1/ 36 وقال: صحيح الإسناد، ولا أعرف له علّة، ووافقه الذهبيّ، وأعلّه الترمذيّ بالإرسال، وقال: إنه أصحّ. (¬2) أورده الألباني في "السلسلة الضعيفة" 1/ 286 وقال: حديث معضل؛ لأن أبا سلمة، واسمه سليمان بن سليم الكلبي الشاميّ من أتباع التابعين، وقد رواه عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. انتهى. (¬3) قال الهيثمي في "المجمع" 1/ 187: فيه إسماعيل بن قيس الأنصاريّ، وهو متروك الحديث. (¬4) رواه أحمد في "مسنده" 4/ 105 قال الحافظ الهيثمي في "المجمع" 1/ 188: فيه أبو بكر ابن عبد الله بن أبي مريم، وهو من منكر الحديث. (¬5) قال في "مجمع الزوائد" 1/ 188: موقوف على ابن عباس، رواه الطبراني في "الكبير"، ورجاله موثوقون.

أعان على هدم الإسلام" (¬1). وأخرج عن الحكم بن عمير الثمالي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الأمر المفظع، والحمل المضلع، والشر الذي لا ينقطع، إظهار البدع" (¬2). وأخرج في "الصغير" عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا واحدة"، قالوا: وما تلك الفرقة؟ قال: "ما أنا عليه اليوم وأصحابي" (¬3). وأخرج الحاكم من حديث ابن عمرو مثله. وأخرج الدارمي في "مسنده" عن عبد الله بن الديلمي قال: بلغني أن أول الدين تركًا السنةُ. وأخرج ابن مسعود أنه قال: ما سألتمونا عن شيء من كتاب الله، نعلمه أخبرناكم به، أو سنة من نبي الله -صلى الله عليه وسلم- أخبرناكم به، ولا طاقة لنا بما أخذتم". وأخرج عن أبي سلمة مرسلًا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن الأمر يحدث، ليس في كتاب الله، ولا سنته؟ قال: "ينظر فيه العابدون من المؤمنين". قال: وأخرج الدارمي واللالكائي في "السنة" عن عمر بن الخطاب قال: سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله. وأخرج اللالكائي "السنة" عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: سيأتي قوم يجادلونكم، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله. وأخرج ابن سعد في "الطبقات" من طريق عكرمة، عن ابن عباس، أن علي بن أبي طالب أرسله إلى الخوارج، فقال: أذهب إليهم، فخاصمهم، ولا تحاجهم بالقرآن، فإنه ذو وجوه، ولكن خاصمهم بالسنة. وأخرج من وجه آخر أن ابن عباس قال: يا أمير المؤمنين فأنا أعلم بكتاب الله منهم، في بيوتنا نزل، قال: صدقت، ولكن القرآن حَمّال ذو وجوه، نقول ويقولون، ولكن حاجِّهِم بالسنن، فإنهم لن يجدوا عنها محيصًا، فخرج إليهم فحاجهم ¬

_ (¬1) قال في "المجمع": فيه بقيّة، وهو ضعيف. (¬2) قال في "المجمع": فيه بقية ضعيف. وقال الشيخ الألباني في "الضعيفة" (756): ضعيف جدًّا. (¬3) حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده" 2/ 332 والترمذيّ (2778) وقال: حسن صحيح.

بالسنن، فلم يبق بأيديهم حجة. وأخرج سعيد بن منصور عن عمران بن حصين، أنهم كانوا يتذاكرون الحديث، فقال رجل: دعونا من هذا، وجيؤنا بكتاب الله، فقال عمر: إنك أحمق، أتجد في كتاب الله الصلاة مفسرةً، أتجد في كتاب الله الصيام مفسرًا، إن القرآن أحكم ذلك، والسنة تفسره. وأخرج الدارمي عن المسيب بن رافع قال: كانوا إذا نزلت بهم القضية التي ليس فيها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أثر، اجتمعوا لها وأجمعوا، فالحق فيما رأوا، فالحق فيما رأوا. وأخرج الدارمي عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر -رضي الله عنه-، إذا ورد عليه الخصم، نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضى به بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب، وعلم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه خرج، فسأل المسلمين، وقال: أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى في ذلك بقضاء، فربما اجتمع إليه النفر كلهم، يذكر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه قضاء، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ علينا ديننا. وأخرج عن أبي نضرة قال: لمّا قَدِم أبو سلمة البصرة أتيته أنا والحسن، فقال للحسن: أنت الحسن بلغني أنك تفتي برأيك، فلا تُفْتِ برأيك إلا أن تكون سنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو كتاب منزل. وأخرج عن جابر بن زيد، أن ابن عمر لقيه في الطواف، فقال له: يا أبا الشعثاء إنك من فقهاء البصرة، فلا تفت إلا بقرآن ناطق، أو سنة ماضية، فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت. وأخرج عن شُريح قال: إنك لن تضل ما أخذت بالأثر. وأخرج عن الحسن قال: إن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي الذين لم يذهبوا مع أهل الأتراف في أترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم. وأخرج عن ابن مسعود قال: الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة. أخرجه الحاكم. وأخرج الدارمي عن عطاء في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، قال: أولو العلم والفقه، فطاعة الرسول اتباع الكتاب والسنة.

وأخرج عن أبي هريرة قال: إني لأُجَزِّئ الليل ثلاثة أجزاء: ثلث أنام، وثلث أقوم، وثلث أتذكر أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". وأخرج عن ابن عباس قال: أما تخافون أن تُعَذَّبوا، ويُخْسَف بكم أن تقولوا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال فلان. وأخرج عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب: لا رأي لأحد في كتاب الله، ولا في سنة سنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإنما رأى الأمة فيما لم ينزل فيه كتاب، ولم تمض به سنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وأخرج عن سعيد بن المسيب أنه رأى رجلا يصلي بعد العصر الركعتين يكثر، فقال له: يا أبا محمد أيعذبني الله على الصلاة؟ قال: لا، ولكن يعذبك الله بخلاف السنة. وأخرج عن خِرَاش بن جبير قال: رأيت في المسجد فتى يخذف، فقال له شيخ: لا تخذف، فإني سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الخذف، فخذف، فقال له الشيخ أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم تخذف، والله لا أشهد لك جنازة، ولا أعودك في مرضك، ولا أكلمك أبدًا (¬1). وأخرج عن قتادة قال: حدث ابن سيرين رجلًا بحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال رجل: قال فلان كذا وكذا، فقال ابن سيرين: أُحَدِّثك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتقول: قال فلان، والله لا أكلمك أبدًا. ثم قال الدارمي: "باب تعجيل عقوبة من بلغه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديث، فلم يعظمه، ولم يوقره": وأخرج فيه من طريق ابن عجلان، عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بينما رجل يتبختر في بُرْدين خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة"، فقال له فتى، وهو في حلة له يا أبا هريرة، أهكذا كان يمشي ذلك الفتى الذي خُسف به، ثم ضرب بيده فعثر عثرة كاد ينكسر منها، فقال أبو هريرة: للمنخرين والفم، {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95]. وأخرج عن عبد الرحمن بن حرملة قال: جاء رجل إلى سعيد بن المسيب يُوَدِّعه لحج أو عمرة، فقال له: لا تخرج حتى تصلي، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يخرج بعد النداء من المسجد إلا منافق"، فقال: إن أصحابي بالحرة، فخرج، فلم يزل سعيد مولعا بذكره، حتى أُخبر أنه وقع من راحلته، فانكسر فخذه. وأخرج ¬

_ (¬1) متّفقٌ عليه من حديث عبد الله بن مغفّل رضي الله تعالى عنه، وقد تقدّم تخريجه.

البخاري (¬1) عن أبي ذَرّ أنه قال: لو وضعتم الصمصامة على هذه وأشار إلى قفاه، ثم ظننت أني أُنفذ كلمة سمعتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن تجيزوا عليّ لأنفذتها. وأخرج الدارمي عن بشر بن عبد الله قال: إن كنت لأركب إلى مصر من الأمصار في الحديث الواحد لأسمعه. وأخرج عن سعيد بن جبير، أنه حدث يوما بحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال له رجل: في كتاب الله ما يحالف هذا، فقال: لا أراني أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتعرض فيه بكتاب الله، كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعلم بكتاب الله منك. هذا ما انتقيته من "مسند الدارمي" (¬2). وهذه جملة منتقاه من كتاب "السنة" للالكائي في هذا المعنى، أخرج بسنده عن أُبيّ بن كعب قال: اقتصاد في سنة، خير من اجتهاد في خلاف سنة. وأخرج عن أبي الدرداء مثله. وأخرج عن ابن عباس قال: النظر إلى الرجل من أهل السنة يدعو إليها، وينهى عن البدعة عبادة. وأخرج عن ابن عباس قال: والله ما أظن على وجه الأرض اليوم أحد أحب إلى الشيطان هلاكًا مني، قيل: ولمَ؟ قال: إنه ليُحدِث البدعةَ في مشرق أو مغرب، فيحملها الرجل إليّ، فإذا انتهت إليّ، قمعتها بالسنة، فترد إليه كما أخرجها. وأخرج عن أبي العالية قال: عليكم بسنة نبيكم، والذي كان عليه أصحابه. وأخرج عن الحسن قال: لا يصلح قول إلا بعمل، ولا يصلح قول وعمل إلا بنية، ولا يصلح قول وعمل ونية إلا بالسنة. وأخرج عن سعيد بن جبير قال: لا يقبل قول إلا بعمل، ولا يقبل قول وعمل إلا بنية، ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة. وأخرج عن الحسن قال: يا أهل السنة تفرقوا، فإنكم من أقل الناس. وأخرج عن يونس بن عبيد قال: ليس شيء أغرب من السنة، وأغرب منها من لا يعرفها. وأخرج عن أيوب قال: إني أُخبَرُ بموت الرجل من أهل السنة، فكأني أفقد بعض أعضائي. وأخرج عنه قال: إن من سعادة الحدَث والأعجمي أن يوفقهما الله للعالم بالسنة. وأخرج عن ابن شوذب قال: أول نعمة الله على الشاب إذا نَسَكَ أن ¬

_ (¬1) فيه نظر؛ لأنه ما أخرجه، وإنما أورده معلّقًا، ووصله الدارمي من طريق الأوزاعي عن أبي كثير عن أبيه عنه. (¬2) الكلام للسيوطيّ رحمه الله تعالى.

يؤاخي صاحب سنة، يحمله عليها. وأخرج عن حماد بن زيد قال: أيوب يبلغه موت الفتى من أصحاب الحديث، فيرى ذلك فيه، ويبلغه موت الرجل يذكر بعبادة فما يرى ذلك فيه. وأخرج عن أيوب قال: إن الذين يتمنون موت أهل السنة، يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم. وأخرج عن ابن عوف قال: ثلاث أحبهن لنفسي ولأصحابي: قراءة القرآن، والسنة، ورجل أقبل على نفسه ولهى عن الناس إلا من خير. وأخرج عن الأوزاعي: ندور مع السنة حيثما دارت. وأخرج. عنه قال: كان يقال: خمس كان عليها أصحاب رسول -صلى الله عليه وسلم- والتابعون بإحسان: لزوم الجماعة، وأتباع السنة، وعمارة المساجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله. وأخرج عن سفيان الثوري قال: استوصوا بأهل السنة خيرا، فإنهم غرباء. وأخرج عن الفضيل بن عياض قال: إن لله عبادا يحيى بهم البلاد، وهم أصحاب السنة. وأخرج عن أبي بكر بن عياش قال: السنة في الإسلام أعز من الإسلام في سائر الأديان. وأخرج عن ابن عوف قال: من مات على الإسلام والسنه فله بشير بكل خير. وأخرج عن الحسن في قوله {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، قال: فكان علامة حبهم إياه إتباع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وأخرج عن ابن عباس في قوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} قال: وجوه أهل السنة، {وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] قال: وجوه أهل البدع. وأخرج عن العلاء بمن المسيب عن أبيه قال: قال عبد الله: إنا نفتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ولن نضل ما تمسكنا بالأثر. وأخرج عن شاذ بن يحيى قال: ليس طريق أقصد إلى الجنة من طريق من سلك الآثار وأخرج عن الفضيل بن عياض قال: طوبى لمن مات على الإسلام والسنة، وإذا كان كذلك فليكثر من قول ما شاء الله كان. وأخرج عن أحمد بن حنبل قال: السنة عندنا آثار رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والسنة تفسير القرآن، وهي دلائل القرآن. وأخرج عن بعض أصحاب الحديث أنه أنشد [من الكامل]: دِينُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ أَخبَارُ ... نِعْمَ المُطِيَّةُ لِلْفَتَى آثَارُ لاَ تَعْدِلَنَّ عَنِ الحدِيثِ وَأَهْلِهِ ... فَالرَّأْيُ لَيْلٌ وَالحدِيثُ نَهَار وَلَرُبِّمَا غَلِطَ الْفَتَى أَثَرَ الهُدَى ... وَالشَّمْسُ بَازِغَةٌ لَها أَنوارُ

وهذه جملة منتقاة من كتاب "الحجة على تارك المحجة" للشيخ نصر المقدسي: أخرج بسنده عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من غدا أو راح في طلب سنة، مخافة أن تَدْرُس كان كمن غدا أو راح في سبيل الله، ومن كتم علمًا علمه الله إياه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نارا" (¬1). وأخرج عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا ظهرت البِدَعُ في أمتي، وشُتِم أصحابي، فليظهر العالم علمه، فإن لم يفعل فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" (¬2). قيل للوليد بن مسلم: ما إظهار العلم؟ قال: إظهار السنة. وأخرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من حفظ على أمتي أربعين حديثا فيما ينفعهم في أمر دينهم، بُعث يوم القيامة من العلماء" (¬3). قلت (¬4): هذا الحديث له طرق كثيرة. وأخرج من وجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من روى عني أربعين حديثا من السنة، حُشر يوم القيامة في زمرة الأنبياء". وأخرج عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من تعلم حديثين اثنين ينفع بهما نفسه، أو يعلمهما غيره فينتفع بهما، كان خيرا من عبادة ستين سنة". وأخرج عن كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا، فطوبى للغرباء"، قيل: يا رسول الله ومن الغرباء؟ قال: "الذين يحيون سنتي من بعدي، ويعلمونها عباد الله" (¬5). وأخرج من هذا الطريق مرفوعا: "من أحي سنة من سنتي قد أُميتت بعدي، كان له مثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص ¬

_ (¬1) صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده" 3/ 440، وابن حبان في "صحيحه" 1/ 154 والحاكم في "المستدرك" 1/ 102. (¬2) ضعيف أخرجه ابن عساكر. انظر "ضعيف الجامع" للشيخ الألباني ص 84 رقم (589). (¬3) ضعيف، قال البيهقي في "الشعب" مشهور فيما بين الناس، وليس له إسناد صحيح. وله طرق استقصاها ابن الجوزي في "العلل المتناهية" 1/ 128 ثم نقل عن الدارقطنيّ أنه قال: لا يثبت منها شيء. (¬4) القائل السيوطيّ رحمه الله تعالى. (¬5) أخرجه أحمد 2/ 389 وابن ماجه رقم 3987 وأخرجه مسلم دون قوله: "ومن الغرباء الخ".

من أجرهم شيئًا" (¬1). وأخرج عن علي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حفظ على أمتي أربعين حديثا من أمر دينها، بعثه الله يوم القيامة فقيها، وكنت له شافعا وشهيدًا" (¬2). وأخرج عن أبي الدرداء مرفوعا مثله. وأخرج عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من حفظ على أمتي أربعين حديثا من السنة، كنت له شفيعا يوم القيامة" (¬3). وأخرج عن علي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أدلكم على الخلفاء مني، ومن أصحابي، ومن الأنبياء قبلي، هم حملة القرآن والأحاديث عني في الله ولله" (¬4). وأخرج عن علي -رضي الله عنه- قال: "ما من شيء إلا وعلمه في القرآن، ولكن رأي الرجل يعجز عنه". وأخرج عن الجنيد قال: الطريق مسدود على خلق الله، إلا على المتبعين أخبار رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، المقتدين بآثاره، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. وأخرج عن عبد الرحمن بن مهدي قال: الرجل إلى الحديث أحوج منه إلى الأكل والشرب؛ لأن الحديث يفسر القرآن. وأخرج عن رجل من الصحابة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن في آخر أمتي قوما يُعطَون من الأجر مثل ما لأولهم، ينكرون المنكر، ويقاتلون أهل الفتن"، فقيل لإبراهيم بن موسى: من هم؟ قال: أهل الحديث، يقولون: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: افعلوا كذا، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا تفعلوا كذا. وأخرج عن أحمد بن حنبل أنه قيل له: هل لله أبدال في الأرض؟ قال: نعم، قيل: من هم؟ قال: إن لم يكن أصحاب لحديث هم الأبدال، فلا أعرف لله أبدالًا. وأخرج عن ابن المبارك، أنه ذكر حديث: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من ناوأهم، حتى تقوم الساعة". قال ابن المبارك: هم عندي أصحاب الحديث. وأخرج عن ابن المديني أنه قال في ¬

_ (¬1) ضعيف، لأن في سنده كثير بن عبد الله ضعيف. (¬2) تقدّم أنه ضعيف بجميع طرقه. (¬3) تقدم أنه ضعيف. (¬4) عزاه الشيخ الألباني في "ضعيف الجامع" ص 317 إلى السجزيّ في "الإبانة"، وقال موضوع.

حديث: "لا تزال طائفة" هم أهل الحديث، والذين يتعاهدون مذهب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ويذبون عن العلم، لولاهم لأهلك الناس المعتزلة، والرافضة، والجهمية، وأهل الأرجاء والرأي. وأخرج عن ابن مسعود وأبي ذر قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من ورائكم أيامُ صَبْرٍ، فالتمسك بما أنتم عليه له أجر خمسين"، قالوا: يا رسول الله منا أو منهم؟ قال: "منكم" (¬1). وأخرج مثله من حديث ابن عمر وأخرج عن أبي الجلد قال: يُرسَل على الناس على رأس كل أربعين سنة شيطان يقال له: القمقم، فيبتدع لهم بدعة. وأخرج عن الإمام البخاري قال: كنا ثلاثة أو أربعة على باب ابن عبد الله (¬2)، فقال. إني لأرجو أن تأويل هذا الحديث: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم أنتم، لأن التجار قد شغلوا أنفسهم بالتجارات، وأهل الصنعة قد شغلوا أنفسهم بالصناعات، والملوك قد شغلوا أنفسهم بالمملكة، وأنتم تُحيون سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-. وأخرج عن ابن وهب قال: قال لي مالك بن أنس: لا تعارضوا السنة، وسلموا لها. وأخرج عن كهمس الهمداني قال: من لم يتحقق أن أهل السنة حفظةُ الدين، فإنه يُعَدّ في ضعفاء المساكين، الذين لا يدينون الله بدين، يقول الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23]، ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: حدثني جبريل عن الله. وأخرج عن سفيان الثوري قال: الملائكة حُرّاس السماء، وأصحاب الحديث حراس الأرض. وأخرج عن وكيع قال: لو أن الرجل لم يصب في الحديث شيئًا، إلا أنه يمنعه من الهوى، كان قد أصاب فيه. وأخرج عن أحمد بن سنان قال: كان الوليد الكرابيسي خالي، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه: تعلمون أحدًا أعلم بالكلام مني؟ قالوا: لا، قال: فتتهموني؟ ¬

_ (¬1) صحيح، أخرجه الترمذي رقم5051 وقال: حسن غريب، وسيأتي للمصنف برقم 4014. انظر "السلسلة الصحيحة" للشيخ الألباني 812 رقم (494). (¬2) وفي نسخة: "أبي عبد الله"، فليُحرّر.

قالوا: لا، قال: فإني أوصيكم أتقبلون؟ قالوا: نعم، قال: عليكم بما عليه أصحاب الحديث، فإني رأيت الحق معهم. وأخرج أحمد في "الزهد: عن قتادة قال: والله ما رغب أحد عن سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- إلا هلك، فعليكم بالسنة وإياكم والبدعة، وعليكم بالفقه، وإياكم والشبهة. وأخرج الحاكم في "المستدرك" عن عبد الرحمن بن أبزي قال: لما وقع الناس في عثمان، قلت لأبي بن كعب: ما المخرج من هذا؟ قال: كتاب الله وسنة نبيه، ما استبان لكم فاعملوا به، وما أشكل عليكم فكلوه إلى عالمه. وأخرج الحاكم أيضا عن علي بن أبي طالب، أن أناسا أتوه، فأثنوا على ابن مسعود، فقال: أقول فيه ما قالوا، وأفضل، قرأَ القرآنَ، وأحل حلاله، وحرم حرامه، فقيه في الدين، عالم بالسنة. وأخرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله، أما إني لم أقله، ولكن الله قاله. وهذه جملة منتقاة من "رسالة القشيري" من كلام أهل الطريق في ذلك: قال ذو النون المصري: من علامه المحب لله متابعة حبيب الله -صلى الله عليه وسلم-، في أخلاقه، وأفعاله، وأوامره، وسننه. قال أبو سليمان الداراني: ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أيامًا، فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة. وقال أحمد بن أبي الحواري: من عمل عملا بلا اتباع سنة، فباطل عمله. قال أبو حفص عمر بن سالم الحداد: من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة، ولم يتّهِم خواطره، فلا تعدوه في ديوان الرجال. وقال الجنيد: الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقال: من لم يحفط القرآن، ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا هذا مقيّد بالكتاب والسنة. وقال أيضا: مذهبنا هذا مشيد بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقال أبو عثمان الحيري: الصحبة مع الله بحسن الأدب، ودوام الهيبة والمراقبة، والصحبة مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- باتباع سنته، ولزوم ظاهر العلم. وقال: من أَمّر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمّر الهوى على نفسه نطق بالبدعة،

قال الله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]. ولما احتُضر أبو عثمان مَزّق ابنه أبو بكر قميصه، ففتح أبو عثمان عينه، وقال: خلاف السنة يا بُنَيّ في الظاهر علامة رياء في الباطن. قال أبو الفوارس شاه بن شجاع الكرماني: من غَضّ بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشهوات، وعمر باطنه بدوام المراقبة، وظاهره باتباع السنة، وعود نفسه أكل الحلال، لم تخطئ له فراسة. وقال أبو العباس أحمد بن سهل بن عطاء الأدمي من ألزم نفسه آداب السنة نور الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من متابعة الحبيب، في أوامره وأفعاله وأخلاقه. وقال أبو حمزة البغدادي: من علم طريق الحق سهل سلوكه عليه، ولا دليل على الطريق إلى الله إلا بمتابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أحواله وأفعاله وأقواله. وقال أبو إسحاق إبراهيم بن داود الدقّي: علامة محبة الله إيثار طاعته، ومتابعة نبيه -صلى الله عليه وسلم-. وقال أبو بكر الطمستاني: الطريق واضح، والكتاب والسنة قائم بين أظهرنا، وفضل الصحابة معلوم، لسبقهم إلى الهجرة، ولصحبتهم، فمن صحب هذا الكتاب والسنة، وتغرب عن نفسه والخلق، وهاجر بقلبه إلى الله، فهو الصادق المصيب. وقال أبو القاسم النصراباذي: أصل التصوف ملازمة الكتاب والسنة، وترك الأهواء والبدع، وتعظيم حرمات المشايخ، ورؤية أعذار الخلق، والمداومة على الأوراد، وترك ارتكاب الرخص والتأويلات. وقال الخواص: الصبر الثبات على أحكام الكتاب والسنة. وقال سهل بن عبد الله: الفتوة اتباع السنة. قال أبو علي الدقاق: قصد أبو يزيد البسطامي بعض من يوصف بالولاية، فلما وافى مسجده قعد ينتظر خروجه، فخرج الرجل، وتنخم في المسجد، فانصرف أبو يزيد، ولم يسلم عليه، وقال: هذا الرجل غير مأمون على أدب من آداب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكيف يكون أمينا على أسرار الحق. قال أبو حفص: أحسن ما يَتوسل به العبد إلى مولاه دوام الفقر إليه على جميع الأحوال، وملازمة السنة في جميع الأفعال، وطلب القوت من وجه الحلال. وأخرج أبو نعيم في "الحلية" عن سهل بن عبد الله: قال: أصولنا ستة أشياء: التمسك بكتاب الله، والاقتداء بسنة رسول

الله، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، وأداء الحقوق. وأخرج عنه قال: من كان اقتداؤه بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، لم يكن في قلبه اختيار لشيء من الأشياء. [خاتمة]: أخرج الدِّينَوَرِيُّ في "المجالسة" عن عبد الرحمن بن عبد الله الخرقي قال: كان بدأ الرافضة، أن قوما من الزنادقة اجتمعوا، فقالوا: نشتم نبيهم، فقال كبيرهم: إذًا نقتل، فقالوا: نشتم أحباءه، فإنه يقال: إذا أردت أن تؤذي جارك فاضرب كلبه، ثم نعتزل فنكفرهم، فقالوا: الصحابة كلهم في النار إلا علي، ثم قال: كان علي هو النبي فأخطأ جبريل. قال البخاري في "تاريخه" عن ابن مسعود قال: بعث الله نوحا فما أهلك أمته إلا الزنادقة، ثم نبى فنبى، والله لا يهلك هذه الأمة إلا الزنادقه. ورأيت بعض من صنّف في الملل والنحل قسم فرق الرافضة إلى اثنتي عشرة فرقة، فسمى الفرقة الأولى: القائلة بنبوة علي العلوية، وذكر أنهم يقولون عليّ النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويقولون في أذانهم: أشهد أن عليا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. والثانية: الأموية، قالوا: إن عليا شريك النبي -صلى الله عليه وسلم- في النبوة. والثالثة: الشاعية، قالوا: إن عليا وصيّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووليه من بعده، وأن الصحابة هزأت به، وردت أمر الله ورسوله، حين تركوا وصيته، وبايعوا غيره. كذب هؤلاء لعنهم الله، ورضي الله عن الصحابة. وهذه هي الفرقة الثانية التي أشرت إليها في الخطبة، ونقلنا في أثناء الكتاب كلام أبي حنيفة -رضي الله عنه-، والعجب من هؤلاء حيث ضللّوا الصحابة، وردوا الأحاديث؛ لأنها من رواياتهم، وذلك يلزمهم في القرآن أيضًا؛ لأن الصحابة الذين رووا لنا الحديث، هم الذين رووا لنا القرآن، فإن قبلوه لزمهم قبول الأحاديث، إذ الناقل واحد. والرابعة: الإسحاقية، قالوا: النبوة متصلة من لدن آدم إلى يوم القيامة، ومن يعلم علم أهل البيت والكتاب فهو نبي. والخامسة: الناوسية، قالوا: من فضل أبا بكر وعمر علي علي فقد كفر.

والسادسة: الإمامية، قالوا: لا تخلو الأرض من إمام من ولد الحسين، إما ظاهر مكشوف، أو باطن موصوف، ولا يتعلم العلم من أحد، بل يعلمه جبريل، فإذا مات بدل مكانه مثله. والسابعة: الزيدية، قالوا: ولد الحسين كلهم أئمة في الصلوات، فما دام يوجد منهم أحد لم تجز الصلاة خلف غيرهم. والثامنة: الرجعية، قالوا: إن عليا وأصحابه كلهم يرجعون إلى الدنيا، وينتقمون من أعدائه، ويُسَوَّى لهم الملك في الدنيا ما لم يسو لأحد، ويملأ الأرض عدلا كما ملئت جورًا. والتاسعة: اللاعنة، يتدينون بلعن الصحابة، لعن الله هذه الفرقة، ورضي الله عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. العاشرة: السبأية، قالوا: بإلهية علي تعالى الله عما يقول المفترون علوا كبيرًا. [والحادية عشرة]: الناسخة، قالوا: بتناسخ الأرواح. [والثانية عشرة]: المتربصة، يقيمون لهم في كل عصر رجلا ينسبون له الأمر، ويزعمونه المهدي، وأن من خالفه كفر. وقد أوسع صاحب هذا الكتاب، وهو من مشايخ الحافظ أبي الفضل بن ناصر من الرد على كل فرقة فرقة من الكتاب والسنة. وروى فيه بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: مثل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل العيون، ودواء العيون ترك مسها. وأخرج بسنده عن ابن وهب قال: كنا عند مالك بن أنس نتذاكر السنة، فقال مالك: السنة سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غَرِق. والأثر الذي أشرنا إليه في الخطبة عن الشافعي -رضي الله عنه-، أخرجه أبو نعيم في "الحلية" بسنده عن الحميدي قال: كنت بمصر، فحدّث محمد بن إدريس الشافعي بحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال له رجل: يا أبا عبد الله أتأخذ بهذا؟ فقال: أرأيتني خرجت من كنيسة، ترى عليّ زنارا حتى لا أقول به. وأخرج عن الربيع بن سليمان قال: سأل رجل

الشافعي عن حديث؟ فقال: هو صحيح، فقال له الرجل: فما تقول؟ فارتعد وانتفض، وقال: أَيُّ سماء تظلني، وأيُّ أرض تُقِلُّني إذا رويت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقلت بغيره. وأخرج عن الربيع قال: ذَكَر الشافعي حديثًا، فقال له رجل: أتأخذ بالحديث؟ فقال: اشهدوا أني إذا صح عندي الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلم آخذ به، فإنّ عقلي قد ذهب. وأخرج عن ابن الوليد بن أبي الجارود، قال الشافعي: إذا صح الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقلت قولًا، فأنا راجع عن قولي، وقائل بذلك. وأخرج عن الزعفراني قال: قال الشافعي: إذا وجدتم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- سنة فاتبعوها، ولا تلتفتوا إلى قول أحد. انتهى، والله أعلم. انتهت رسالة الحافظ السيوطيّ رحمه الله تعالى بنصّها، مشتملةً على غرر الفوائد، ودرر العوائد، نسأل الله تعالى التمسّك بالسنّن، ومجانبة البدع والفتن، اللهم أرنا الحقّ حقّا وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين آمين آمين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

3 - باب التوقي في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

3 - (بابُ التَّوَقِّي في الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) أي هذا باب ذكر الأحاديث الدّالّة على الحَذَر في التحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خوفًا من أن يدخل الخطأ فيه، فيقع في محذور الكذب عليه -صلى الله عليه وسلم-. و"التوقّي": مصدر توقّى، يقال: توقّيت الشيء أتَوَقّاهُ: إذا حَذِرْتَهُ. أفاده في "اللسان"، والله تعالى أعلم بالصواب. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله المذكور أول الكتاب قال: 23 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ الْبَطِينُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: مَا أَخْطَأَنِي ابْنُ مَسْعُودٍ عَشِيَّةَ خَمِيسٍ، إِلا أتَيْتُهُ فِيهِ، قَالَ: فَمَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ بِشَيْءٍ قَطُّ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَلمَّا كَانَ ذَاتَ عَشِيَّةٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله قَالَ -صلى الله عليه وسلم-، فَنكَسَ، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، فَهُوَ قَائِمٌ، مُحَلَّلَةً أَزْرَارُ قَمِيصِهِ، قَدِ اغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ، وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ، قَالَ: أَوْ دُونَ ذَلِكَ، أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، أَوْ شَبِيهًا بِذَلِكَ). رجال هذا الإسناد: ثمانية: 1 - (أبو بكر بن أبي شيبة) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة العبسيّ الكوفيّ، ثقة ثبتىت [10] تقدّم في 1/ 1. 2 - (معاذ بن معاذ) بن نصر بن حسّان بن الحارث بن مالك بن الخشخاش العنبريّ، أبو المثنى التميمي الحافظ البصريّ القاضي، ثقة متقنٌ، من كبار [9]. رَوَى عن سليمان التيمي، وحميد الطويل، وابن عون، وأبي يونس حاتم بن أبي صغيرة، وبهز بن حكيم، وعاصم بن محمد بن زيد، وفرج بن فَضَالة، وغيرهم. ورَوَى عنه ابناه: عبيد الله، والمثنى، وعبد الرحمن بن أبي الزناد، وهو من أقرانه، وأحمد، وإسحاق، وأبو خيثمة، ويحيى بن معين، وآخرون. قال المروزي عن أحمد: معاذ بن معاذ قرة عين في الحديث، وقال في موضع آخر: إليه المنتهى في التثبت بالبصرة، وقال النسائي: ثقة ثبت، وقال ابن سعد: كان ثقة، ولي

قضاء البصرة لهارون، ثم عُزِل، وتوفي في ربيع الآخر. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان فقيها عالما متقنا. قال عمرو بن علي: سمعت يحيى بن سعيد يقول: وُلدت في سنة عشرين ومائة في أولها، ووُلد معاذ في سنة تسع عشرة في آخرها، كان أكبر مني بشهرين. وقال ابنه عبيد الله بن معاذ وغيره: مات سنة ست وتسعين ومائة. وقال ابن أبي خيثمة: مات معاذ بن نصر، وابنه معاذ مولود سنة تسع عشرة، ومات لليلة بقيت من ربيع الآخر سنة ست. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث برقم 23 و 24 و1218و 1869 و 3116و3881. 3 - (ابن عون) هو: عبد الله بن عون بن أَرْطَبان المزني مولاهم، أبو عون الْخَزّار البصري، ثقة ثبتٌ، فاضل، من أقران أيوب في العلم، والعمل، والسنّ [5] (¬1). رأى أنس بن مالك، وروى عن ثمامة بن عبد الله بن أنس، وأنس بن سيرين، ومحمد بن سيرين، وإبراهيم النخعي، وزياد بن جُبير بن حية، والحسن البصري، والشعبي، وغيرهم. ورَوى عنه الأعمش، وداود بن أبي هند، والثوري، وشعبة، والقطان، وابن المبارك، ومعاذ بن معاذ، وغيرهم. قال ابن المديني: جُمِع لابن عون من الإسناد ما لا يُجْمَع لأحد من أصحابه، سمع بالمدينة من القاسم، وسالم، وبالبصرة من الحسن، وابن سيرين، وبالكوفة من الشعبي، والنخعي، وبمكة من عطاء، ومجاهد، وبالشام من مكحول، ورجاء بن حيوة، وقال الثوري: ما رأيت أربعة اجتمعوا في مصر مثل هؤلاء: أيوب، ويونس، والتيمي، وابن عون. وقال وهيب: دار أمر البصرة على أربعة، فذكر هؤلاء. وقال أبو داود عن شعبة: ما رأيت مثلهم، وقال ابن المبارك: ما رأيت أحدا ذُكِر لي قبل أن ألقاه، ثم لقيته إلا وهو على دون ما ذُكر لي إلا ابن عون وحيوة، وسفيان، فأما ابن عون فلوددت أني لزمته ¬

_ (¬1) وجعله في "التقريب" من السادسة، وما هنا أولى؛ لأنه ثبت أنه لقى أنس بن مالك -رضي الله عنه-، فيكون من الخامسة، كأيوب، والأعمش، ونحوهما. والله تعالى أعلم.

حتى أموت أو يموت. وقال ابن مهدي: ما كان بالعراق أحد أعلم بالسنة منه، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وكان عثمانيا، وكان كثير الحديث، ورعًا، وقال النسائي في "الكنى": ثقة مأمون. وقال في موضع آخر: ثقة ثبت. وقال ابن حبان في "الثقات": كان من سادات أهل زمانه عبادةً، وفضلًا، وورعًا، ونسكًا، وصلابة في السنه، وشدةً على أهل البدع. وقال أبو بكر البزار: كان على غاية من التوقي. وقال عثمان بن أبي شيبة: ثقة، صحيح الكتاب. وقال العجلي: بصري ثقة، رجل صالح. وقال قرة: كنا نتعجب من ورع ابن سيرين، فأنساناه ابن عون. ومناقبه كثيرة جدّا. قال عمرو بن علي وغير واحد: مولده سنة (66). ومات سنة (151). وقيل: مات سنة خمسين. وقيل: سنة اثنتين وخمسين، والأول أصح. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا. 4 - (مسلم البطين) هو: مسلم بن عمران، ويقال: ابن أبي عمران، أبو عبد الله الكوفي، ثقة [6]. روى عن عطاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي وائل، وإبراهيم التيمي، وغيرهم. وروى عنه سلمة بن كهيل، وأبو إسحاق السبيعي، وسليمان الأعمش، وعبد الله بن عون، وغيرهم. قال أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، والنسائي: ثقة، زاد أبو حاتم: لم يدركه شعبة. وذكره ابن حبان في "الثقات". أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث برقم 23 و 813 و 1717 و 1748. 5 - (إبراهيم التيميّ) هو: إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي، تيم الرباب، أبو أسماء الكوفي، كان من العباد، ثقة، يرسل، ويدلّس [5]. روى عن أنس، وأبيه، والحارث بن سويد، وعمرو بن ميمون، وأرسل عن عائشة. وروى عنه بيان بن بشر، والحكم بن عتيبة، وزبيد بن الحارث، ومسلم البطين، ويونس بن عبيد، وجماعة. قال ابن معين: ثقة. وقال أبو زرعة: ثقة، مرجئ، قتله الحجاج بن يوسف. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال الأعمش: كان إبراهيم إذا سجد، تجيء العصافير،

فتنقر ظهره. وقالت الكرابيسي: حدث عن زيد بن وهب قليلًا، أكثرها مُدَلَّسَةٌ. وقال الدارقطني: لم يسمع من حفصة، ولا من عائشة، ولا أدرك زمانهما. وقال أحمد: لم يلق أبا ذر. وقال ابن حبان في "الثقات": كان عابدًا صابرًا على الجوع الدائم. وقال أبو داود في "كتاب الطهارة" من "سننه": لم يسمع من عائشة، وكذا قال الترمذي. وقال ابن المديني: لم يسمع من علي، ولا من ابن عباس. وقال القطان في رواية إبراهيم التيمي، عن أنس في القبلة للصائم: لا شيء، لم يسمعه. نقله الضياء الحافظ. قال أبو داود: مات ولم يبلغ أربعين سنة. وقال غيره: مات سنة (92). وقال الواقدي: مات سنة (94). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث برقم 23 و 546 و 547 و745 و 2976. 6 - (أبوه) يزيد بن شريك بن طارق التيمي الكوفي، ثقة [2]. روى عن عمر، وعلي، وأبي ذر، وابن مسعود، وأبي مسعود، وحذيفة، وأبي معمر. وروى عنه ابنه إبراهيم، وإبراهيم النخعي، وجَوّاب التيمي، والحكم بن عتيبة، وهمام بن عبد الله التيمي الكوفيون. قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سعد: كان ثقةً، وكان عَرِيفَ قومه، وله أحاديث. وقال أبو موسى المديني في "الذيل": يقال: إنه أدرك الجاهلية. أخرج الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث برقم 23 و745 و 2976. 7 - (عمرو بن ميمون) الأَوْديّ، أبو عبد الله، ويقال: أبو يحيى الكوفي، أدرك الجاهلية، ولم يلق النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثقة عابدٌ، مخضرمٌ، مشهور [2]. روى عن عمر، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبي ذر، وأبي مسعود البدري، وسعد بن أبي وقاص، ومعقل بن يسار، وعائشة، وأبي هريرة، وابن عباس، وغيرهم. وروى عنه سعيد بن جبير، والربيع بن خُثَيم، وأبو إسحاق السبيعي، ويزيد بن شريك، وإبراهيم بن يزيد التيمي، وأبوه، وغيرهم. قال العجلي: كوفي تابعي ثقة، وقال أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق: كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يرضون بعمرو بن ميمون، وقال يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه:

كان عمرو بن ميمون إذا دخل المسجد، فرُؤي ذُكِر الله. وقال الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن عبد الرحمن بن سابط، عن عمرو بن ميمون: قدم علينا معاذ اليمن رسولَ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- من الشِّحر، رافعا صوته بالتكبير، أجش الصوت، فأُلقيت عليه محبتي ... الحديث. وقال ابن معين، والنسائي: ثقة. وذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب"، فقال: أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصَدَّقَ إليه، وكان مسلما في حياته. وذكره ابن حبان في ثقات التابعين. قال أبو نعيم، وغير واحد: مات سنة أربع وسبعين. ويقال: سنة (75). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب عشرة أحاديث. 8 - (ابن مسعود) عبد الله الصحابيّ الجليل -رضي الله عنه-، تقدّم في 2/ 19. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من ثمانيات المصنف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير معاذ، وابن عون، ومسلم، فبصريون. 4 - (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه. 5 - (ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين يروي بعضهم عن بعض: إبراهيم، عن أبيه، عن عمرو، ورواية الأخيرين من رواية الأقران. 6 - (ومنها): أن رواية ابن عون عن مسلم البطين من رواية الأكابر عن الأصاغر؛ لأن ابن عون من الخامسة، ومسلمًا من السادسة. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ) الأوديّ، أنه (قَالَ: مَا أَخْطَأَنِي ابْنُ مَسْعُودٍ) رضي الله تعالى عنه: أي ما فاتني لقاؤه، يقال: أخطأه السهم: إذا تجاوزه، ولم يُصبه. (عَشِيَّةَ خَمِيسٍ) بنصب "عشيّة" ظرفًا لأخطأني (إِلَّا أَتَيْتُهُ) قال السنديّ رحمه الله تعالى: الاستثناء من أعمّ الأحوال بتقدير "قد". قال: وهذا الاستثناء من قبيل: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] معلوم أنه لا يفوته

الملاقاة حال إتيانه إيّاه، فهذا تأكيد للزوم الملاقاة في عشيّة كلّ خميس. ويحتمل أن يكون أن ابن مسعود -رضي الله عنه- كان يجيئه، فإن كان ما جاءه يومًا أتاه هو فيه. انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الأخير بعيدٌ من سياق الكلام، فلا يُلتفت إليه. والله تعالى أعلم. (فِيهِ) أي في عشيّة الخميس، وإنما ذكّر الضمير؛ لتأويله بالوقت، ويحتمل أن يكون لاكتسابه التذكير من المضاف إليه، وهو "خميس"، كما أشار إليه في "الخلاصة": وَرُبَّمَا أَكْسَبَ ثَانٍ أَوَّلاَ ... تَأْنِيثًا إِنْ كَانَ لِحَذْفٍ مُوهَلاَ أي وتذكيرًا. (وقَالَ) عمرو (فَمَا سَمِعْتُهُ) أي ابن مسعود -رضي الله عنه- (يَقُولُ بِشَيْءٍ) هكذا النسخ بالباء الموحّدة، فالباء سببيّة: أي بسبب ذكر شيء، أو بمعنى "في": أي في حال ذكر شيء، ووقع في "تحفة الأشراف" 7/ 121: "لشيء" باللام: أي لأجل ذكر شيء (قَطُّ) بفتح القاف، وتشديد الطاء: أي في الزمان الماضي. قاله الفيّوميّ. وذكر في "القاموس": ما: يدلّ على أن "قطّ" التي بمعنى الزمان تكون مثلّثة الطاء، مشدّدةً، ومضمومة الطاء مخفّفة، ومرفوعة. قال: وتختصّ بالنفي ماضيًا، وتقول العامّة: لا أفعله قطّ، وفي مواضع من "صحيح البخاريّ" جاء بعد المُثْبَتِ، منها في "الكسوف": "أطول صلاة صلّيتها قطّ"، وفي "سنن أبي داود": "توضّأ ثلاثًا قطّ". وأثبته ابن مالك في "الشواهد" لغةً، قال: وهي مما خَفِي على كثير من النحاة. انتهى. وقوله: (قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-) مقول "يقول": أي ما سمعته قائلًا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " (فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ عَشِيَّةٍ) بنصب "ذات" على أنها خبر "كان"، واسمها ضمير يعود إلى الزمن المفهوم من المقام. أو برفعها على الفاعليّة، و"كان" تامّة. ولفظ "ذات" مقحم. قاله السنديّ في "شرحه" هنا. وقال في "شرحه" على "سنن النسائيّ" عند قوله: "فلما كان ذات ليلة": يمكن رفعه على أنه اسم "كان"، ونصبه على أنه خبر "كان": أي كان ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 22 - 23.

الزمان، أو الوقت ذات ليلة. وقيل: يجوز نصبه على الظرفيّة: أي كان الأمر في ذات ليلة. ثم "ذات ليلة" قيل: معناه: ساعة من ليلة. وقيل: معناه ليلة من الليالي، و"ذات" مقحمة. انتهى (¬1). وقال في "الفتح": "ذات" مقحمة، وقيل: بل هي من إضافة الشيء لنفسه، على رأي من يُجيزه. انتهى (¬2). (قَالَ) أي ابن مسعود -رضي الله عنه- (قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَنكَسَ) بالبناء للفاعل، والكاف مخفّفة، من باب نصر: أي طأطأ رأسه، وخفضه، ويحتمل أن تشدّد الكاف للمبالغة. (قَالَ) عمرو بن ميمون (فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ) أي ابن مسعود -رضي الله عنه- (فَهُوَ قَائِمٌ، مُحَلَّلَةً) بفتح اللام الأولى، بصيغة اسم المفعول، ونصبه على الحاليّة. وقوله: (أَزْرَارُ قَمِيصِهِ) بالرفع على أنه نائب فاعل "محلّلة". و"الأزرار" بفتح الهمزة: جمع زِرّ بالكسر، وتشديد الراء: وهو شيء كالْحَبّة يُدخَل في عروة القميص (¬3). (قَدِ اغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ) أي دمعتا، كأنهما غَرِقَا في دمعهما. قاله في "القاموس". وهو افْعَوْعَل، من غَرِق، كاخشَوْشَن، من خَشُن للمبالغة (وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ) بالفتح: جمع وَدَج. قال الفيّوميّ: "الْوَدَجُ بفتح الدال، والكسرُ لغةٌ: عِرْقُ الأَخْدَع الذي يقطعه الذابح، فلا يبقى معه حياةٌ. ويقال: في الجسد عِرْقٌ واحدٌ حيثما قُطِع مات صاحبه، وله في كلّ عضو اسمٌ، فهو في العنق الْوَدَجُ، والْوَرِيد أيضًا، وفي الظهر النِّيَاطُ، وهو عِرْقٌ مُمتدّ فيه، الأَبْهَرُ، وهو عِرْقٌ مُستبطن الصُّلْب، والقلبُ متّصلٌ به، والْوَتِين في البطن، والنسا في الفخذ، والأبجل في الرجل، والأَكحَلُ في اليد، والصافن في الساق. وقال في "المجرَّد" أيضًا: الوريد عِرْقٌ كبير يدور في البدن، وذكر معنى ما تقدّم، لكنه خالف في بعضه، ثم قال: والودجان: عرقان غليظان، يكتنفان ثُغْرَة النحر يمينًا ويسارًا، والجمع ¬

_ (¬1) "شرح السندي" 7/ 108. (¬2) "فتح الباري" 11/ 391. (¬3) راجع "المعجم الوسيط" 1/ 391.

أوداج، مثلُ سبب وأسباب. انتهى (¬1). وقد نظمت ما سبق بقولي: يُقَالُ في الْجسَدِ عِرْقٌ حَيْثُمَا ... قُطِعَ صَاحِبُهُ ماتَ أَلمَا لَهُ تَشَعُّبٌ بِأَعْضَاءِ الْجسَدْ ... في كُلِّ عُضْوٍ خُصَّ بِاسْمِ انْفَرَدْ فَخُصَّ في الْعُنُقِ بِالْوَرِيدِ ... كَذَلِكَ الْوَدَجُ ذُو تَسْدِيدِ في الظَّهْرِ بِالنِّيَاطِ يُدْعَى وَالِّذِي ... اسْتَبْطَنَ الصُّلْبَ بِأَبْهَر خُذِ وَذَا بِهِ الْقَلْبُ غَدَا يَتِّصِلُ ... في الْبَطْنِ بِالْوَتِينِ صَارَ يُعْقَلُ وَبِالنَّسا في الْفَخْذِ وَالأَبْجَلُ في ... رِجْلٍ وَبِالأَكْحَلِ في الْيَدِ يَفِي في السِّاقِ بِالصِّافِنِ يُدْعَى وَانْتَهَى ... نَظْمِي لَمِنْ يَرْغَبُ مِنْ ذَوِي النُّهَى (قَالَ) أي ابن مسعود -رضي الله عنه- (أَوْ دُونَ ذَلِكَ) أي دون ما ذكره من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، أَوْ شَبِيهًا بِذَلِكَ) "أو" في الجميع للتنويع، لا للشكّ، وإنما قال هذا كلّه خشية أن يكون رواه بالمعنى، فزاد فيه، أو نقص منه .. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: أثر ابن مسعود رضي الله تعالى عنه هذا صحيح. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (3/ 23) وهو من زوائده على الكتب الخمسة، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (4321) و (الدارميّ) (276)، و (الحاكم) في "المستدرك" (3/ 111) و (البخاري) في "التاريخ" (4/ 216) و (الخطيب) في "الجامع" (2/ 8)، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" 2/ 652.

[تنبيه]: قال الحافظ البوصيريّ في "مصباح الزجاجة" (ص 35 - 36): هذا إسناد صحيح، احتجّ الشيخان بجميع رواته، رواه الحاكم من طريق ابن عون، وفي آخره: أو كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قلت: وقد اختُلف فيه على مسلم بن عمران البطين اختلافًا كثيرًا، فقيل: عنه، عن أبي عَمْرو الشيبانيّ. وقيل: عنه، عن أبي عُبيدة بن عبد الله ابن مسعود. وقيل: عنه، عن أبي عبد الرحمن السُّلَميّ. وقيل: عنه، عن إبراهيم التيميّ، عن عمرو بن ميمون. وقيل: عنه، عن عمرو بن ميمون، كلهم عن ابن مسعود. انتهى. قال البيهقيّ في "المدخل": ورواية ابن عون أكملها إسنادًا ومتنًا، وأحفظها. والله تعالى أعلم (¬1). (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان التوقّي، والتحفّظ في الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لشدّة خطره. 2 - (ومنها): بيان فضيلة عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، حيث بلغ به الورع إلى أن يتحفّظ عن الإكثار من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مع أنه كان كثير المجالسة له، من منذ أن أسلم في أوئل من أسلم من المهاجرين إلى أن تُوفي -صلى الله عليه وسلم-، ولكنه يقلّل الرواية تورّعًا، واحتياطًا، لشدّة خوفه من الزيادة والنقص في حديثه -صلى الله عليه وسلم-. 3 - (ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم من تعظيم حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. 4 - (ومنها): أنه ينبغي للمحدّث إذا خاف أن يشتبه عليه بعض ألفاظ الحديث، فرواه بمعناه أن يقول: أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-، أو نحو ذلك، مما يُفهم أنه رواه بالمعنى. قال الحافظ السيوطيّ رحمه الله تعالى في "ألفيّة الأثر": وَقُلْ أَخِيرًا "أَوْ كَمَا قَال" وَمَا ... أَشْبَهَهُ كَالشَّكِّ فَيمَا أَبْهَمَا ¬

_ (¬1) انظر ما كتبه بشار عواد على هذا الكتاب 1/ 59.

5 - (ومنها): ما كان عليه السلف من شدّة الحرص على ملازمة مجالس أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ليأخذوا عنهم السنن، والهدي النبويّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال: 24 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: كَانَ أَنسُ بْنُ مَالِكٍ، إِذَا حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- حَدِيثًا، فَفَرَغَ مِنْهُ، قَالَ: أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو عبد الله بن محمد بن أبي شيبة العبسيّ الكوفي، ثقة حافظ [10] 1/ 1. 2 - (مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ البصريّ المذكور في السند الماضي. 3 - (ابن عون): هو عبد الله بن عون بن أرطبان المذكور في السند الماضي. 4 - (محمد بن سيرين) الأنصاريّ، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقة ثبتٌ، كبير القدر، كان لا يرى الرواية بالمعنى [3]. رَوَى عن مولاه أنس بن مالك، وزيد بن ثابت، والحسن بن علي بن أبي طالب، وغيرهم من الصحابة والتابعين. وروى عنه الشعبي، وثابت، وخالد الحذاء، وداود بن أبي هند، وابن عون، وخلق كثير. قال ابن عون: كان ابن سيرين يحدث بالحديث على حروفه. وقال عون بن عمارة، عن هشام بن حسان: حدثني أصدق من أدركته من البشر، محمد ابن سيرين. وقال أبو طالب عن أحمد: من الثقات. وقال ابن معين: ثقة، وقال العجلي: بصري تابعي ثقة، وهو من أروى الناس عن شُريح وعَبيدة، وإنما تأدب بالكوفيين أصحاب عبد الله. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونا عاليا، رفيعا فقيها، إماما كثير العلم ورعا،

وكان به صمم. وقال حماد بن زيد عن عاصم الأحول: سمعت مُوَرِّقا يقول: ما رأيت رجلا أفقه في ورعه، ولا أورع في فقهه، من محمد بن سيرين. قال: وقال أبو قلابة: اصْرِفُوه حيث شئتم، فلتجدنه أشدكم ورعا، وأملككم لنفسه. وقال معتمر عن ابن عون: كان من أرجى الناس لهذه الأمة، وأشدهم إِزْراءً على نفسه، وكان كاتب أنس بن مالك بفارس. وقال ابن سعد: سألت محمد بن عبد الله الأنصاري عن السبب الذي حُبِس محمد لأجله؟ فقال: كان اشترى طعاما بأربعين ألفًا، فأُخبر عن أصله بشيء كرهه، فتصدق به، وبقي المال عليه، فحُبِسَ، حَبَسَته امرأة، وعن ثابت البناني قال: قال لي محمد بن سيرين: كنت أمتنع من مجالستكم مخافة الشهرة، فلم يزل بي البلاء حتى أُخِذ بلحيتي، وأقمت على المِصْطَبَّة (¬1)، وقيل: هذا محمد بن سيرين أكل أموال الناس، ويُرْوَى في سبب حبسه غير ذلك. قال حماد بن زيد: مات الحسن أول يوم من رجب سنة عشرة ومائة، وصليت عليه، ومات محمد لتسع مضين من شوال منها. وقال ابن حبان: كان محمد بن سيرين من أورع أهل البصرة، وكان فقيها فاضلًا حافظًا متقنا يعبر الرؤيا، مات وهو ابن (77) سنة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (41) حديثًا. 5 - (أنس بن مالك) بن النضر بن ضَمْضَم بن زيد بن حَرَام بن جُندَب بن عامر ابن غَنْم بن عديّ بن النجار الأنصاري، أبو حمزة، خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، نزيل البصرة، رَوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعبد الله بن رواحة، وجماعة آخرين، وروى عنه جلّ التابعين. قال الزهري، عن أنس: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وأنا ابن عشر سنين، وكنّ ¬

_ (¬1) "الْمِصْطَبّة" بكسر الميم، وتشديد الموحدة: كالدكّان للجلوس عليه. اهـ "القاموس" ص 98.

أُمّهاتي يَحْثُثْنني على خدمته (¬1) .. وقال جعفر بن سليمان الضُّبَعي عن ثابت، عن أنس، جاءت بي أم سليم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا غلام، فقالت: يا رسول الله، أنيس ادع الله له، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم أكثر ماله وولده، وأدخله الجنة" (¬2)، قال فقد رأيت اثنتين، وأنا أرجو الثالثة، وقال أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس: شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحديبية، وعمرته، والحج، والفتح، وحنينا، والطائف. وقال علي بن الجعد، عن شعبة، عن ثالت: قال أبو هريرة: ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ابن أم سليم، وقال جعفر، عن ثابت: كنت مع أنس، فجاء قهرمانه، فقال: يا أبا حمزة عطشت أرضنا، قال: فقام أنس: فتوضأ، وخرج إلى البرية، فصلى ركعتين، ثم دعا، فرأيت السحاب يلتئم، قال: ثم مَطَرَت، حتى ملأت كل شيء، فلما سكن المطر بعث أنس بعض، أهله، فقال: انظر أين بلغت السماء، فنظر، فلم تَعْدُ أرضه إلا يسيرا، وذلك في الصيف. وقال الأنصاري: ثنا ابن عون، عن موسى بن أنس، أن أبا بكر لما استُخْلِف بَعَثَ إلى أنس بن مالك ليوجهه إلى البحرين علي السعاية، قال فدخل عليه عمر، فقال: إني أردت أن أبعث هذا إلى البحرين على السعاية، وهو فتى شاب، فقال ابعثه، فإنه لبيب كاتب، قال: فبعثه، وقال علي بن المديني: آخر من بقي بالبصرة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنس. وقال الأنصاري: مات وهو ابن مائة وسبع سنين. وقال وهب بن جرير، عن أبيه: مات أنس سنة (90)، وكذا قال شعيب بن الحبحاب. وقال همام عن قتادة: سنة (91)، وقال معن ابن عيسى عن بعض ولد أنس: سنة (92)، وقال ابن علية، وأبو نعيم، وخليفة، وغيرهم: مات سنة (93). وقد تعقّب الحافظ قول الأنصاري: إن أنسا عاش مائة وسبع سنين، فقال: فيه نظر؛ لأن أكثر ما قيل في سنه إذ قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، وأقرب ما قيل في وفاته سنة ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2029). (¬2) رواه بنحوه البخاريّ في "الأدب المفرد" (653).

(93) فعلى هذا غاية ما يكون عمره مائة سنة وثلاث سنين، وقد نَصّ على ذلك خليفة ابن خياط في "تاريخه"، فقال: مات سنة (93) وهو ابن (103) سنة، وأعجب من قول الأنصاري قول الواقدي: إنه مات سنة (92) وله (99) سنة، وكذا قال معتمر عن حميد، إلا أنه جزم بأنه مات سنة (91)، فهذا أشبه، وقول خليفة أصح، وحكى الحذاء في رجال "الموطإ" أنه يكنى أبا النضر. أخرج له الجماعة. وله في هذا الكتاب (279) حديثًا. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، إلا شيخه، فكوفيّ. 4 - (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعي، فإن ابن عون قد رأى أنسًا -رضي الله عنه-. 5 - (ومنها): أن أنسًا -رضي الله عنه- أشهر من خدم النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، خدمه عشر سنين -رضي الله عنه-. 6 - (ومنها): أنه كان يُكْنَى أبا حمزة، كناه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببَقْلَة كان يَجتنيها، قال الأزهريّ: الْبَقْلة التي جناها أنس كان في طعمها لذعٌ، فسُمّيت حَمْزة بفعلها، يقال: رُمّانة حامزة: أي فيها حُمُوضة، ذكره ابن الملقّن رحمه الله (¬1). 7 - (ومنها): أنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا. 8 - (ومنها): أنه آخر من مات من الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالبصرة، مات، سنة (92) أو (93). 9 - (ومنها): أنه من المعمّرين، مات، وقد جاوز مائة سنة، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ) رحمه الله تعالى، أنه (قَالَ: كَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) -رضي الله عنه- (إِذَا ¬

_ (¬1) "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 422.

حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- حَدِيثًا، فَفَرَغَ مِنْهُ) أي انتهى من التحديث به (قَالَ: أَوْ كَما قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-) أي قَال أنس -رضي الله عنه- هذا اللفظ، فقوله: "أو كمال" مقول "قال"، فقول السنديّ: عَطف على مقول "قال" الخ فيه نظر لا يخفى، فتبصّر. والكاف زائدة، كما قال السنديّ. وإنما قال ذلك تنبيهًا على أن ما ذكره مما رواه بالمعنى، وأما اللفظ، فيحتمل أن يكون هذا اللفظ المذكور، ويحتمل أن يكون لفظًا آخر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أنس -رضي الله عنه- هذا صحيح، قال البوصيريّ رحمه الله: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وقد احتجّا بجميع رواته، وقد روينا عن جماعة من الصحابة نحو ما فعله أنس من الحذر والاحتياط، منهم: ابن مسعود -رضي الله عنه-. انتهى. والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا فقط، و (الدارميّ) في "المقدّمة" (276) عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن ابن عون به، و (277) عن عثمان بن محمد، عن إسماعيل، عن أيوب به. وأما فوائد الحديث فقد تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال: 25 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: قُلْنَا لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: حَدِّثْنَا عَن رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: كَبِرْنَا، وَنَسِينَا، وَالحدِيثُ عَنْ رَسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- شَدِيدٌ). رجال هذا الإسناد: ثمانية: 1 - (أبو بكر بن أبي شيبة) هو: عبد الله بن محمد المذكور في السند الماضي.

2 - (محمد بن بشّار) العبديّ، أبو بكر البصريّ الحافظ الثبت المعروف بـ "بُنْدار" [10] 1/ 6. 3 - (غُنْدَر) -بضم الغين المعجمة، وسكون النون، وفتح الدال المهملة، آخره راء- محمد بن جعفر البصريّ الحافظ الثقة ربيب شعبة [9] تقدّم في 1/ 6. 4 - (عبد الرحمن بن مهديّ) بن حسان العنبريّ، وقيل: الأزدي مولاهم، أبو سعيد البصريّ اللؤلؤي الحافظ الإمام العلم الثقة الثبت، من [9]. رَوَى عن أيمن بن نابل، وجرير بن حازم، وعكرمة بن عمار، ومالك، وشعبة، والسفيانين والحمادين، وإسرائيل، وخلق كثير. وروى عنه ابن المبارك، من شيوخه، وابن وهب، وهو أكبر منه، وأحمد، وإسحاق، وعلي، ويحيى بن معين، وخلق كثير. قال حنبل عن أبي عبد الله: ما رأيت بالبصرة مثل يحيى بن سعيد، وبعده عبد الرحمن، وعبد الرحمن أفاقه الرجلين. وقال أيضا: إذا اختلف وكيع وعبد الرحمن، فعبد الرحمن أثبت؛ لأنه أقرب عهدا بالكتاب، وقال أحمد بن سنان: سمعت علي بن المديني يقول: كان عبد الرحمن بن مهدي أعلم الناس، قالها مرارًا. وقال ابن أبي صفوان: سمعت علي بن المديني يقول: لو حُلِّفتُ بين الركن والمقام لحلفت بالله إني لم أر أحدا قط أعلم بالحديث من عبد الرحمن بن مهدي وقال علي بن نصر عن علي بن المديني: كان يحيى بن سعد أعلم بالرجال، وكان عبد الرحمن أعلم بالحديث، وما شَبَّهت علم عبد الرحمن بالحديث إلا بالسحر. وقال القواريري عن يحيى بن سعيد: ما سمع عبد الرحمن من سفيان، عن الأعمش، أحب إلي مما سمعتُ أنا من الأعمش. وقال إسماعيل ابن إسحاق القاضي: سمعت علي بن المديني يقول: أعلم الناس بالحديث عبد الرحمن ابن مهدي، قال: وكان يعرف حديثه وحديث غيره، وكان يُذْكَر له الحديث عن الرجل، فيقوك خطأ، ثم يقول: ينبغي أن يكون أُتِي هذا الشيخ من حديث كذا من وجه كذا، فنجده كما قال. وقال أبو حاتم: هو أثبت أصحاب حماد بن زيد، وهو إمام، ثقة،

أثبت من يحيى بن سعيد، وأتقن من وكيع، وكان يعرض حديثه على الثوري. وقال ابن المديني: كان ورد عبد الرحمن كل ليلة نصف القرآن. وقال الأثرم عن أحمد: إذا حدث عبد الرحمن عن رجل، فهو حجة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من الحفاظ المتقنين، وأهل الورع في الدين، ممن حَفِظَ، وجمع، وتفقه، وصنف، وحدث، وأَبَى الرواية إلا عن الثقات. وقال الخليلي: هو إمام بلا مدافعة، ومات الثوري في داره. وقال الشافعي: لا أعرف له نظيرا في الدنيا. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، توفي سنة ثمان وتسعين ومائة، في جمادى الآخرة، وهو ابن (63) سنة. وكذا قال ابن المديني، وغير واحد في سنة وفاته. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (74) حديثًا. 5 - (شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت من [7] تقدّم 1/ 6. 6 - (عمرو بن مُرّة) بن عبد الله بن طارق الْجَمَليّ المراديّ، أبو عبد الله الكوفيّ الأعمى، ثقة عابدٌ، كان لا يُدلّس، ورُمي بالإرجاء، من [5] تقدّم في 2/ 20. 7 - (عبد الرحمن بن أبي ليلى) واسمه يسار، ويقال: بلال، ويقال: داود بن بلال ابن بُلَيل بن أُحَيحة بن الْجُلاح الحَرِيش بن جَحْجَبَا بن كُلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن أوس الأنصاري الأوسي، أبو عيسى المدنيّ، ثمّ الكوفي، والد محمد، ولد لست بقين من خلافة عمر -رضي الله عنه-، ثقة [2]. رَوَى عن أبيه، وعمر، وعثمان، وعلي، وسعد، وحذيفة، ومعاذ بن جبل، وخلق كثير. وروى عنه ابنه عيسى، وابن ابنه عبد الله بن عيسى، وعمرو بن ميمون الأودي، وهو أكبر منه، والشعبي، وعمرو بن مرة، وخلق كثير. قال عطاء بن السائب عن عبد الرحمن: أدركت عشرين ومائة من الأنصار صحابة. وقال عبد الملك بن عمير: لقد رأيت عبد الرحمن في حلقة فيها نفر من الصحابة، فيهم البراء يسمعون لحديثه، وينصتون له. وقال عبد الله بن الحارث بن

نوفل: ما ظننت أن النساء ولدن مثله. وقال الدوري عن ابن معين: لم ير عمر، قال: فقلت له: فالحديث الذي يُروَى كنا مع عمر نَتَرَاءى الهلال؟ فقال: ليس بشيء. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة، وقال الخليلي في "الإرشاد": الحفاظ لا يُثبتون سماعه من عمر، وقال حفص بن غياث، عن الأعمش: سمعت عبد الرحمن يقول: أقامني الْحَجّاج، فقال: العن الكاذبين، فقلت: لعن الله الكاذبين، آه، ثم يسكت، عليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن الزبير، والمختار بن أبي عُبيد، قال حفص: وأهل الشام حَمِيرٌ، يظنون أنه يوقعها عليهم، وقد أخرجهم منها، ورفعهم. ذكر أبو عبيد أنه أصيب سنة (71)، وهو وَهَمٌ. ثم قال أبو عبيد: وأخبرني يحيى ابن سعيد، عن سفيان، أن ابن شداد، وابن أبي ليلى فُقِدا بالجماجم، وقد اتفقوا على أن الجماجم كانت سنة (82)، وفيها أرّخه خليفة، وأبو موسى، وغير واحد. ويقال: إنه غَرِقَ بدُجَيل. والله أعلم. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (28) حديثًا. 8 - (زيد بن أرقم) بن زيد بن قيس بن النعمان بن مالك بن الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج، مختلف في كنيته، قيل: أبو عمر، وقيل: أبو عامر، وقيل: أبو عمارة، وقيل: أبو أُنيسة، وقيل: أبو حمزة، وقيل: أبو سعد، ويقال: أبو سعيد. واستُصْغِر يوم أحد، وأول مشاهده الخندق. وقيل: المُرَيسيع، وغزا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- سبع عشرة غزوة، ثبت ذلك في "الصحيح"، وله حديث كثير، ورواية أيضا عن علي، رَوَى عنه أنس مكاتبةً، وأبو الطفيل، وأبو عثمان النَّهْدي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد خير، وطاوس. وله قصة في نزول "سورة المنافقين" في "الصحيح"، وشهد صِفّين مع علي، وكان من خواصّه، ومات بالكوفة أيام المختار سنة ست وستين، وقيل: سنة ثمان وستين. قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر عن بعض قومه، عن زيد بن أرقم، قال: كنت يتيما لعبد الله بن رواحة، فخرج بي معه مردفي يعني إلى مؤتة، فذكر الحديث، وهو الذي سمع عبد الله بن أبي يقول: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}

[المنافقون:8]، فأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسأل عبدَ الله، فأنكر، فأنزل الله تصديق زيد ثبت ذلك في "الصحيحين"، وفيه: فقال: "إن الله قد صدّقك يا زيد". وقال أبو المنهال: سألت البراء عن الصرف؟ فقال: سل زيد بن أرقم، فإنه خير مني، وأعلم (¬1). أخرج له الجماعة، روى من الأحاديث (90) حديثًا، اتفق الشيخان منها على أربعة، وانفرد البخاريّ بحديثين، ومسلم بستّة أحاديث. وله عند ابن ماجه في هذا الكتاب ثمانية أحاديث برقم 25 و 142 و 292 و1300 و 1494 و 3339 و 3118 و 3458. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، سوى شيخه أبي بكر، فكوفيّ، ومسلسلٌ بالكوفيين بعد شعبة. 4 - (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. 5 - (ومنها): أن شيخه الثاني أحد التسعة الذين روى عنهم أصحاب الأصول الستّة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة. 6 - (ومنها): أن صحابيّه -رضي الله عنه- من أفاضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقد نزلت في تصديقه سورة المنافقون. 7 - (ومنها): أن ابن مهديّ، وابن أبي ليلى، وزيدًا هذا أول محل ذكرهم من الكتاب، وجملة ما رواه المصنّف في هذا الكتاب لابن مهديّ (74) ولابن أبي ليلى (28) ولزيد بن أرقم -رضي الله عنه- (8)، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) راجع "الإصابة" 2/ 487 - 488. و"تهذيب التهذيب" 1/ 658.

شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيلى) الأنصاريّ رحمه الله، أنه (قَالَ: قُلْنَا لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ) رضي الله تعالى عنه (حَدِّثْنَا عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- (قَالَ) زيد -رضي الله عنه- (كَبرْنَا) بكسر الباء الموحّدة، قال المجد في "القاموس": كبر كفرِح كِبَرًا، كعِنَب، ومَكْبِرًا كمنزِلٍ: طعن في السنّ. وكبُرَ ككرُم، كِبَرًا كعِنَب، وكُبْرًا بالضم، وكَبَارَةً بالفتح: نقيض صَغُرَ. انتهى. قال الشارح المرتضى: فعُرف من أن فعل الْكِبَر بمعنى العظمة ككُرم، وبمعنى الطعن في السنّ كفرِح، ولا يجوز استعمال أحدهما في الآخر اتّفاقًا، وهذا قد يَغْلَطُ فيه الخاصّة، فضلًا عن العامّة. انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: المناسب هنا كفرح؛ لأن مراد زيد كبر سنّه؛ لأنه الذي يُخشى منه عدم ضبط الحديث، لا عظم جسمه. فكأنه يقول: وصلنا إلى سنّ يختلّ فيه الضبط، وتضعف فيه قوى الذاكرة. والله تعالى أعلم. (وَنَسِينَا) بكسر السين المهملة، قال في "القاموس" نَسِيه نِسْيًا، ونسيانًا، ونسيانة -بالكسر فيهنّ- ونَسوةً -بالفتح-: ضد حفظه. انتهى. وقال في "المصباح": ونسيتُ الشيءَ أنساه نِسيانًا مشترك بين معنيين، أحدهما: ترك الشيء على ذهول، وغفلة، وذلك خلاف الذكر له. والثاني: الترك على تعمّد، وعليه: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] أي لا تقصدوا الترك والإهمال. انتهى (¬2). قال الجامع عفا الله تعالى عنه المناسب هنا من المعنيين المذكورين هو المعنى الأول. والله تعالى أعلم. (وَالحدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- شَدِيدٌ) أي قويّ يحتاج إلى قوة الحفظ، فـ "الحديث" مبتدأٌ، والجارّ والمجرور متعلّق به، و"شديد" خبر المبتدإ. ¬

_ (¬1) راجع "تاج العروس من جواهر القاموس" 3/ 514. (¬2) "القاموس" ص 1204. و"المصباح المنير" 2/ 604.

وحاصل ما أشار إليه زيد -رضي الله عنه- في كلامه هذا أنه لا ينبغي للمحدّث أن يحدّث إلا إذا تأكّد حفظه، وضبطه، وأما إذا خشي عدم ذلك، بأن تقادم سنّه، وضعفت ذاكرته، فينبغي له أن يتوقّاه؛ لئلا يدخل غفلةً في وعيد الكذب على النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. وهذا هو الذي إراده المصنّف رحمه الله تعالى في إيراده في هذا الباب، وهو "باب التوقّي في الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه هذا صحيح. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (3/ 25) بهذا الإسناد، وهو من أفراده، فلم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه أحمد في "مسند الكوفيين" (4/ 370 و372) رقم (18499)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 26 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ نُمَيرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الله ابْنِ أَبِي السَّفَرِ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، يَقُولُ: جَالَسْتُ ابْنَ عُمَرَ سَنَةً، كما سَمِعتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بْن نُمَيْرٍ) الهَمْدانيّ -بسكون الميم- الكوفيّ، أبو عبد الرحمن، ثقة حافظ فاضل من [10] تقدّم في 1/ 4. 2 - (أبو النضر) هاشم بن القاسم بن مسلم الليثيّ مولاهم البغداديّ الحافظ خراسىاني الأصل الملقّب قيصر، ثقة ثبت، من [9].

رَوَى عن عكرمة بن عمار، وحَرِيز بن عثمان، وورقاء بن عمر، وسمع من شعبة جميع ما أملى ببغداد، وهو أربعة آلاف حديث، وغيرهم. وروى عنه ابنه، أو حفيده أبو بكر بن أبي النضر، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعلي بن المديني، وابن معين، وغيرهم. قال الحارث بن أبي أسامة: كان أحمد بن حنبل يقول: أبو النضر شيخنا من الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر. وقال أبو بكر بن أبي عتاب عن أبي حميد: أبو النضر من مُتَثَبِّتي بغداد. وقال مهنا عن أحمد: أبو النضر أثبت من شاذان. وحكى أحمد ابن منصور الرَّمَادي عن أحمد بن حنبل ترجيحه على وهب بن جرير. وقال ابن معين، وابن المديني، وابن سعد، وأبو حاتم: ثقة. وقال ابن قانع: ثقة. وقال ابن عبد البر: اتفقوا على أنه صدوق. وقال النسائي: لا بأس به. وقال الحاكم: حافظ ثبت في الحديث. وقال العجلي: بغدادي، صاحب سنة، وكان أهل بغداد يفخرون به. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: قال أبو النضر: وُلِدت سنة أربع وثلاثين ومائة. وقال ابن حبان: مات في ذي القعدة سنة خمس أو سبع ومائتين. وقال الحارث، ومُطَيَّن: مات سنة سبع، وفيها جزم ابن سعد. أخرج له الجماعة. وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث. 3 - (شعبة) بن الحجّاج الإمام الحجة الثبت [7] تقدّم في 1/ 6. 4 - (عبد الله بن أبي السفر) -بفتح الفاء- واسمه سعيد بن يحمد، ويقال: أحمد الْهَمْداني الثوريّ الكوفيّ، ثقة من [6]. رَوَى عن أبيه، وأبي بردة بن أبي موسى، وعامر الشعبي، ومصعب بن شيبة، وغيرهم. وروى عنه شعبة، وعمر بن أبي زائدة، ويونس بن أبي إسحاق، وعيسى بن يونس، والثوري، وشريك، وغيرهم. قال أحمد، وابن معين، والنسائي: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة، وليس بكثير الحديث. وقال العجلي كوفي ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سعد: مات في خلافة مروان بن محمد. أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي،

والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 5 - (الشعبيّ) -بفتح الشين المعجمة، وسكون العين المهملة- عامر بن شَرَاحيل، أبو عمرو الكوفيّ، ثقة فقيه فاضل مشهور، من [3] تقدّم في 1/ 11، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيّن، غير أبي النضر، فبغداديّ، وشعبة، فبصريّ. 4 - (ومنها): أن فيه التحديث، والعنعنة، وهما من صيغ الاتصال، على الأصحّ في "عن" من غير المدلس. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ الله بْنِ أَبِي السَّفَرِ) سعيد بن يُحْمِد، ويقال: أحمد، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ) عامر بن شَرَاحيل (يَقُولُ: جَالَسْتُ ابْنَ عُمَرَ) هو عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما، تقدّمت ترجمته في 1/ 4 (سَنَةً) هكذا في رواية المصنّف، ووقع في رواية الشيخين من طريق شعبة، عن توبة العنبريّ، قال: قال لي الشعبيّ: "أرأيت حديث الحسن، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وقاعدت ابن عمر قريبًا من سنتين أو سنة ونصف ... " الحديث. والجمع بين الروايتين أن يقال: كانت مدّة مجالسته سنة وكسرًا، فألغى الكسر تارةً، وجبره أخرى. وكان الشعبيّ جاور بالمدينة، أو بمكة، وإلا فهو كوفيّ، وابن عمر لم تكن له إقامة بالكوفة. أفاده في "الفتح" (¬1). (فَمَا سَمِعْته يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا) أي توقّيًا من تكثير الحديث حتى لا يدخل عليه كذبٌ خطأً. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث ساقه المصنّف مقتصرًا على محلّ ¬

_ (¬1) "فتح الباري" 13/ 300 رقم الحديث 7267.

الترجمة، وقد ساقه الشيخان في "صحيحيهما" مطوّلًا، ولفظ البخاري في "كتاب أخبار الآحاد": حدثنا محمد بن الوليد، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن توبة العنبري، قال: قال لي الشعبي: أرأيت حديث الحسن عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقاعدت ابن عمر قريبا من سنتين، أو سنة ونصف، فلم أسمعه يحدث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- غير هذا، قال: كان ناس من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيهم سعد، فذهبوا يأكلون من لحم، فنادتهم امرأة من بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- إنه لحم ضب فأمسكوا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كلوا، أو اطعموا، فإنه حلال"، أو قال: "لا بأس به" شك فيه، ولكنه ليس من طعامي. قال في"الفتح": قوله: "أرأيت حديث الحسن": أي البصري، والرؤيا هنا بصرية، والاستفهام للإنكار، كان الشعبي يُنكر على من يُرسل الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إشارةً إلى أن الحامل لفاعل ذلك طلب الإكثار من التحديث عنه، وإلا لكان يكتفي بما سمعه موصولًا. وقال الكرماني: مراد الشعبي أن الحسن مع كونه تابعيا، كان يكثر الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وابن عمر مع كونه صحابيا يحتاط، ويُقِلّ من ذلك مهما أمكن. قال الحافظ: وكأن ابن عمر اتبع رأي أبيه في ذلك، فإنه كان يَحُضُّ على قلة التحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لوجهين، أحدهما: خشية الاشتغال عن تعلم القرآن، وتفهم معانيه. والثاني: خشية أن يُحَدَّث عنه بما لم يقله؛ لأنهم لم يكونوا يكتبون، فإذا طال العهد لم يُؤمن النسيان. وقد أخرج سعيد بن منصور بسند آخر صحيح، عن الشعبي، عن قَرَظَةَ بن كعب، عن عمر -رضي الله عنه- قال: "أَقِلُّوا الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنا شريككم. انتهى. (¬1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. ¬

_ (¬1) "فتح" 13/ 299 "كتاب أخبار الآحاد" رقم 7267، وسيأتي الحديث عند المصنف برقم (28).

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: أثر الشعبيّ رحمه الله تعالى هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا بهذا الإسناد فقط، و (البخاريّ) (9/ 112) و (مسلم) (6/ 67) و (أحمد) في "مسنده" (2/ 84 و137 و157) وفوائد الحديث واضحة من السابق واللاحق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال: 27 - (حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنبرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَاقِ، أنبَأنا مَعْمَرٌ، عنِ ابْن طَاوُسٍ، عَن أَبِيهِ، قَال: سمعتُ ابْنَ عبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّا كُنَّا نَحْفَظُ الحدِيثَ، وَالحدِيثُ يُحْفَظُ عن رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَأَمَّا إِذَا رَكبتُمَ الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ فَهَيْهاتَ). رجال هذا الإسناد: ستة. 1 - (الْعَبّاسُ بن عبد الْعَظيم) بن إسماعيل بن تَوْبةَ الْعَنْبَرِيُّ، أبو الفضل البصريّ، ثقة حافظُ، من كبار [11]. رَوَى عن عبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن سعيد القطان، وسعيد بن عامر الضبعي، وأبي داود الطيالسي، وخلق كثير. وروى عنه الجماعة، لكن البخاري تعليقا، وبقي بن مَخْلَد، وأبو بكر الأثرم، وابن خزيمة، وغيرهم. قال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي،: ثقة مأمون. وقال محمد بن المثنى السمسار: كنا عند بشر بن الحارث، وعنده العباس بن عبد العظيم، وكان من سادات المسلمين. وقال معاوية بن عبد الكريم الزيادي: أدركت الناس، وهم يقولون: ما جاءنا بالبصرة أعقل من أبي الوليد، وبعده أبو بكر بن خلاد، وبعده عباس بن عبد العظيم. وقال مسلمة: بصري ثقة. قال البخاري، والنسائي: مات سنة ست وأربعين

ومائتين. وله في هذا الكتاب (18) حديثًا. 2 - (عبد الرزاق) بن همّام بن نافع الْحِمْيريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقة حافظ مصنّفٌ مشهور، عمي في آخره، فتغيّر حفظه، وكان يتشيّع، من [9] تقدّم في 2/ 16. 3 - (معمر) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقة ثبتٌ، فاضل، من [7] تقدّم في 2/ 16. 4 - (ابن طاوس) هو عبد الله بن طاوس بن كيسان اليمانيّ، أبو محمد الأبْنَاويّ، ثقة فاضلٌ، عابدٌ، من [6]. رَوَى عن أبيه، وعطاء، وعمرو بن شعيب، وغيرهم. وروى عنه ابناه: طاوس، ومحمد، وعمرو بن دينار، وهو أكبر منه، وأيوب السختياني، وهو من أقرانه، وابن إسحاق، ومعمر، وغيرهم. قال أبو حاتم، والنسائي: ثقة. وقال عبد الرزاق عن معمر: قال لي أيوب: إن كنت راحلا إلى أحد، فعليك بابن طاوس، فهذه رحلتي إليه. وقال أيضا عن معمر: ما رأيت ابن فقيه مثل ابن طاوس، فقلت له: ولا هشام بن عروة؟ فقال: حسبك بهشام، ولكن لم أر مثل هذا، وكان من أعلم الناس بالعربية، وأحسنهم خُلُقًا. وقال النسائي في "الكنى: ثقة مأمون. وكذا قال الدارقطني في "الجرح والتعديل". وقال العجلي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات بعد أيوب بسنة، وكان من خيار عباد الله فضلًا، ونُسُكًا، ودينًا، وتكلم فيه بعض الرافضة. قال ابن سعد عن الهيثم بن عدي: مات في خلافة أبي العباس. وقال ابن عيينة: مات سنة (132). وأرخه ابن قانع سنة إحدى. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث. 5 - (أبوه) طاوس بن كيسان اليمانيّ، أبو عبد الرحمن الحِمْيريّ مولاهم الفارسيّ الجنَدِيُّ، مولى بَحِير بن رَيْسَان، من أبناء الفرس، كان ينزل الجْنَد. وقيل: هو مولى

هَمْدَان. وقال ابن حبان: كانت أمه من فارس، وأبوه من النَّمِر بن قاسط. وقيل: اسمه ذكوان، وطاوس لقبه، ثقة فقيه، فاضلٌ، من [3]. رَوَى عن العبادلة الأربعة، وأبي هريرة، وعائشة، وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وسراقة بن مالك، وصفوان بن أمية، وعبد الله بن شداد بن الهاد، وجابر، وغيرهم، وأرسل عن معاذ بن حنبل. وروى عنه ابنه عبد الله، ووهب بن مُنبَّه، وسليمان التيمي، وسليمان الأحول، وأبو الزبير، وغيرهم. قال عبد الملك بن ميسرة عنه: أدركت خمسين من الصحابة. وقال ابن جريج عن عطاء، عن ابن عباس: إني لأظن طاوسا من أهل الجنة. وقال ليث بن أبي سليم: كان طاوس يَعُدُّ الحديث حرفا حرفا. وقال قيس بن سعد: كان فينا مثل ابن سيرين بالبصرة. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: طاوس أحب إليك أم سعيد بن جبير؟ فلم يُخَيِّر. وقال إسحاق ابن منصور عن ابن معين: ثقة. وكذا قال أبو زرعة. وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل": كتب إليّ عبد الله بن أحمد، قال: قلت لابن معين: سمع طاوس من عائشة؟ قال: لا أراه. وقال الآجري عن أبي داود: ما أعلمه سمع منها. وقال أبو زرعة، ويعقوب بن شيبة: حديثه عن عمر، وعن علي مرسل. وقال أبو حاتم: حديثه عن عثمان مرسل. وقال الزهري: لو رأيتَ طاوسا علمتَ أنه لا يكذب. وقال عمرو بن دينار: ما رأيت أحدا أعفّ عما في أيدي الناس من طاوس. وقال ابن عيينة: متجنبوا السلطان ثلاثة: أبو ذر في زمانه، وطاووس في زمانه، والثوري في زمانه. وقال ابن حبان: كان من عباد أهل اليمن، ومن سادات التابعين، وكان قد حج أربعين حجة، وكان مستجاب الدعوة، مات سنة إحدى، وقيل: سنة ست ومائة. وقال ضمرة عن ابن شَوْذَب: شهدت جنازة طاوس بمكة سنة مائة، فجعلوا يقولون: رحم الله أبا عبد الرحمن حج أربعين حجة. وقال عمرو بن علي وغيره: مات سنة ست ومائة. وقال الهيثم بن عدي: مات سنة بضع عشرة ومائة.

أخرج له الجماعة، ولد في هذا الكتاب (41) حديثًا. 6 - (ابن عبّاس) هو: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كان يقال له: الْحَبْر والْبَحْر؛ لكثرة علمه. رَوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن أبيه، وأمه أم الفضل، وأخيه الفضل، وخالته ميمونة؛ وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن ابن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي ذر، وأبي بن كعب، وتميم الداري، وخالد بن الوليد، وهو ابن خالته، وأسامة بن زيد، وجماعة. وروى عنه ابناه: علي ومحمد، وابن ابنه محمد بن علي، وأخوه كَثِير بن العباس، وابن أخيه عبد الله بن عبيد الله بن عباس، وابن أخيه الآخر، عبد الله بن معبد بن عباس، ومن الصحابة عبد الله بن عمر بن الخطاب، وثعلبة بن الحكم الليثي، والمسور ابن مخرمة، وأبو الطفيل، وغيرهم من الصحابة، وخلق كثير من التابعين. دعا له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحكمة مرتين، وقال ابن مسعود: نعم ترجمان القرآن ابن عباس. وقال ابن مسعود أيضًا: لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عشره منا أحد. ورَوَى ابن أبي خيثمة بسند فيه جابر الجعفي أن ابن عمر كان يقول: ابنُ عباس أعلم أمة محمد بما أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-. وروى ابن سعد بسند صحيح أن أبا هريرة قال -لما مات زيد بن ثابت-: مات اليوم حبر الأمة، ولعل الله أن يجعل في ابن عباس منه خلفًا. وقال ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه: ما رأيت مثل ابن عباس قط. وقال يزيد بن الأصمّ: خرج معاوية حاجا، وخرج ابن عباس حاجا، فكان لمعاوية موكب، ولابن عباس ممن يطلب العلم موكب. وقالت عائشة: هو أعلم الناس بالحج. وروى الزبير بن بكار في كتاب "الأنساب" بسند له فيه ضعف عن ابن عمر قال: كان عمر يدعو ابن عباس، ويُقَرِّبه، ويقول: إني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، دعاك يومًا، فمسح رأسك، وتفل في فيك، وقال: "اللهم فَقِّهه في الدين، وعلمه التأويل". ورَوَى أحمد هذا المتن بسند لا بأس به، من طريق عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به، وبعضه في "الصحيح". ورواه الطبرانيّ بمعناه من طريق ميمون بن مِهْران، عن ابن عباس نحوه.

وعند أبي نعيم بسند له عن عبد الله بن بُريدة، عن ابن عباس قال: انتهيت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعنده جبريل، فقال له جبريل: إنه كائن حبرَ هذه الأمة، فاستوصِ به خيرًا. [فائدة]: رُوي عن غُندَر أن ابن عباس لم يسمع من النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا تسعة أحاديث. وعن يحيى القطان: عشرة. وقال الغزالي في "المستصفى": أربعة. وفيه نظر، ففي "الصحيحين" عن ابن عباس مما صرح فيه بسماعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثر من عشرة، وفيهما مما شَهِدَ فعله نحوُ ذلك، وفيهما مما له حُكمُ الصريح نحوُ ذلك، فضلًا عما ليس في "الصحيحين". ورَوَى سعيد بن جبير عنه قال: قُبض النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنا ابن ثلاث عشرة سنة. وعنه قال: وأنا خَتِين. وعنه قال: ابن عشر سنين. وعنه قال: وأنا ابن خمس عشرة، وصوبه أحمد بن حنبل. وصحح ابنُ عبد البر ما قاله أهل السير أنه كان له عند موت النبي -صلى الله عليه وسلم- (13) سنة. وقال أبو نعيم في آخرين: مات سنة ثمان وستين، وصلى عليه محمد ابن الحنفية، وقال: اليوم مات رباني هذه الأمة. وكان موته بالطائف. وقيل: مات سنة (69)، وقيل سنة سبعين. أخرج له الجماعة، وله من الأحاديث (1696) حديثًا، اتفق الشيخان على (75) حديثًا، وانفرد البخاريّ بـ (28) ومسلم بـ (49) حديثًا، وله في هذا الكتاب (344) حديثًا. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله. 2 - (ومنها). أن رجاله كلهم رجال الصحيح. 3 - (ومنها): أنه مسلسل باليمنيين، غير شيخه، فبصريّ، وابن عبّاس رضي الله عنهما، فمدنيّ، ثم بصريّ، ثم مكيّ، ثم طائفيّ. 4 - (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه.

5 - (ومنها): أن فيه التحديث، والإنباء، والعنعنة، وكلها من صيغ الاتصال، على الأصح في "عن" من غير المدلّس إذا ثبت السماع، واكتفى مسلم بالمعاصرة. 6 - (ومنها): أن صحابيّه أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا، وأحد المشهورين بالفتوى، والملقّب بالحبر والبحر، وآخر من مات من الصحابة بالطائف، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَن) عبد الله (ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ) طاوس، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: إِنَّا كُنَّا نَحْفَظُ الحدِيثَ) بالبناء للفاعل: أي نأخذه من الناس، ونحفظه اعتمادًا على صدقهم (وَالحدِيثُ يُحْفَظُ) ببناء الفعل للمفعول، أي هو حقيقٌ بأن يُعتنى به. والجملة في محلّ نصب على الحال من "الحديث". وقوله: (عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-) متعلّق بـ "يُحفَظ" (فَأَمَّا إِذَا) هكذا في رواية المصنّف "إذا" بألف بعد الذال، ووقَع في رواية مسلم في "المقدّمة" "إذ" بسكون الذال، والمعنى متقارب؛ لأن "إذا" ظرف مُستقبل، كما أن "إذ" ظرف ماضٍ، وكلاهما صالح هنا. والله تعالى أعلم (رَكبْتُمُ) بكسر الكاف، من باب علم (الصَّعْبَ) -بفتح الصاد المهملة، وسكون العين المهملة-: صفة مشبّهة من صَعُبَ الشيءُ صُعُوبَةً، فهو صَعْبٌ، والجمع صِعَابٌ، مثلُ سَهْمٍ وسِهَام. قاله الفيّوميّ. (وَالذَّلُولَ) بفتح الذال المعجمة: صفة مشبّهة من ذَلّت الدابّة ذِلّا بالكسر: إذا سَهُلَت، وانقادت، فهي ذَلُولٌ، والجمع ذُلُلٌ بضمّتين، مثلُ رَسُول ورُسُلٍ، وذَلّلتها بالتثقيل في التعدية. قاله الفيّوميّ. والكلام كناية عن الإفراط والتفريط في النقل، بحيث ما بقي الاعتماد على نقلهم. وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: هذا مثلٌ، وأصله في الإبل، ومعناه أن الناس تسامحوا في الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واجترؤوا عليه، فتحدّثوا بالمرضيّ عنه

الذي مثّله بالذّلول من الإبل، وبالمنكر منه الممثل بالصعب من الإبل. انتهى (¬1). وقال النوويّ رحمه الله تعالى: هو مثالٌ حسنٌ، وأصل الصعب والذلول في الإبل، فالصعب الْعَسِرُ المرغوب عنه، والذَّلُول السَّهْلُ الطيّب المحبوب المرغوب فيه. فالمعنى: سلك الناس كلَّ مَسْلَك مما يُحمد ويُذمّ. انتهى (¬2). وقوله: (فَهَيْهَاتَ) جواب "إذا": أي بَعُد أن نقبل أحاديثكم، ونحفظ اعتمادًا عليكم. وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: أي ما أبعد استقامة أمركم، أو فما أبعد أن نثق بحديثكم، ونسمع منكم، ونُعَوِّل على روايتكم. انتهى (¬3). وقال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه": قوله: "فهيهات": أي بَعُدت استقامتكم، أو بَعُد أن نثق بحديثكم. و"هيهات": موضوعة لاستبعاد الشيء، واليأس منه. قال الإمام أبو الحسن الواحديّ: "هيهات": اسم سُمِّي به الفعل، وهو بَعُدَ في الخبر، لا في الأمر، قال: ومعنى "هيهات": بَعُدَ، وليس له اشتقاق، لأنه بمنزلة الأصوات، قال: وفيه زيادة معنى ليست في بَعُدَ، وهو أن المتكلم يخبر عن اعتقاده استبعاد ذلك الذي يخبر عن بعده، فكأنه بمنزلة قوله: بَعُد جِدّا، وما أبعده، لا على أن يعلم المخاطب مكان ذلك الشيء في البعد، ففي "هيهات" زيادة على "بَعُد"، وان كنا نفسره به، ويقال: هيهات ما قلتُ، وهيهات لِمَا قلتُ، وهيهات لك، وهيهات أنت. وقال الواحدي: وفي معنى هيهات ثلاثة أقوال: [أحدها]: أنه بمنزلة بَعُدَ، كما ذكرناه أولا، وهو قول أبي علي الفارسي، وغيره من حذاق النحويين. ¬

_ (¬1) "المفهم" 1/ 124. (¬2) "شرح مسلم" 1/ 80. (¬3) "إكمال المعلم" 1/ 121.

[والثانى]: بمنزلة بعيد، وهو قول الفراء. [والثالث]: بمنزلة البعد، وهو قول الزجاج، وابن الأنباري، فالأول نجعله بمنزلة الفعل، والثاني بمنزلة الصفة، والثالث بمنزلة المصدر. وفي "هيهات": ثلاث عشرة لغة، ذكرهن الواحديّ: "هيهات" -بفتح التاء، وكسرها، وضمها، مع التنوين فيهن، وبحذفه، فهذه ست لغات، و"أيهات" بالألف بدل الهاء الأولى، وفيها اللغات الست أيضا. والثالثة عشرة: "أيها" بحذف التاء من غير تنوين. وزاد غير الواحدى: "أيئات" بهمزتين بدل الهاءين، والفصيح المستعمل من هذه اللغات استعمالًا فاشيًّا "هيهات" بفتح التاء بلا تنوين. قال الأزهريّ: واتفق أهل اللغة على أن تاء هيهات ليست أصلية، واختلفوا في الوقف عليها، فقال أبو عمرو، والكسائيّ: يوقف بالهاء. وقال الفراء: بالتاء. انتهى كلام النوويّ (¬1). وقال السنديّ في "شرحه": ويحتمل أن المعنى: إنا كنا نحفظ الحديث على الناس بالإلقاء عليهم، والرواية لهم، وحيث ظهرت فيهم الخيانة، فبعيد أن نروي لهم. وفيه أن كذب الناس يمنع من الأخذ، لا من تعليمهم، بل ينبغي أن يكون علّة لتعليمهم عقلًا، فإن الجهل يوجب الإكثار من الكذب، إلا أن يقال: إنهم كانوا يغيرون في النقل؛ لأنهم يَضَعُون الحديث، ومثل هذا إذا تُرك تعليمه لا يَنقُل، فلا يُغيّر. انتهى (¬2). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الاحتمال الذي ذكره السنديّ بعيد من سياق كلام ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما جدّا، كما يتبيّن من قصّته مع بُشير بن كعب الآتية في التنبيه التالي، ففيه قوله: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف. فتبصّر، ولا تتحيّر. والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) "شرح مسلم" 1/ 80 - 81 وقد أشبع النووي رحمه الله تعالى البحث في "هيهات" في كتابه النافع "تهذيب الأسماء واللغات" بما لا تراه في غيره، فطالعه 4/ 185 - 188. تزدد علمًا. (¬2) "شرح السنديّ" 1/ 24 - 25.

[تنبيه]: جرت قصّةٌ لابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما مع بُشير بن كعب، أخرجها الإمام مسلم رحمه الله تعالى في "المقدّمة" من طريق هشام بن حُجَير، عن طاوس، قال: جاء هذا إلى ابن عباس -يعني بُشير بن كعب- فجعل يحدثه، فقال له ابن عباس: عُد لحديث كذا وكذا، فعاد له، ثم حدثه، فقال له: عُدْ لحديث كذا وكذا، فعاد له، فقال له: ما أدري أعرفت حديثي كله، وأنكرت هذا، أم أنكرت حديثي كله، وعرفت هذا؟ فقال له ابن عباس: إنا كنا نُحَدِّث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ لم يكن يُكْذَب عليه، فلما رَكِب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه. وأخرج أيضًا من طريق قيس بن سعد، عن مجاهد، قال: جاء بُشير الْعَدوي إلى ابن عباس، فجعل يُحَدِّث، ويقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجعل ابن عباس لا يَأْذَن لحديثه، ولا ينظر إليه، فقال: يا ابن عباس، ما لي لا أراك تسمع لحديثي، أُحَدِّثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا تسمع، فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف، انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: أثر ابن عباس رضي الله عنهما هذا صحيح. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا بهذا الإسناد فقط، و (مسلم) في "المقدّمة" (2/ 19 - 20) و (النسائيّ) في "السنن الكبرى" في "العلم" (¬1)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: ¬

_ (¬1) راجع "تحفة الأشراف" 5/ 14 حديث (5717).

1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو التوقّي في الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ووجه دلالة هذا الأثر عليه أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اتّقى أحاديث الناس حذرًا من أن ينقل عنهم ما ليس من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. 2 - (ومنها): بيان فضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، حيث كانوا يحفظون أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويؤدّونها كما سمعوا. 3 - (ومنها): بيان تغير حال الناس في أواخر عهد الصحابة حيث نشأ أناس يُحدّثون عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن كلّ من دبّ ودرج، من غير توقّ، فلذلك توقّى ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أن يأخذ عنهم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال: 28 - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدةَ، حَدَّثَنَا حَمَادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: بَعَثنَا عُمَرُ بْنُ الخطَّابِ إِلَى الْكُوفَةِ، وَشَيَّعَنَا، فَمَشَى مَعَنَا إِلَى مَوْضِعٍ، يُقَالُ لَهُ: صِرَارٌ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ لِمَ مَشَيْتُ مَعَكُمْ؟ قَالَ: قُلْنَا: لحِقِّ صُحْبَةِ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، وَلحِقِّ الْأَنْصَارِ، قَالَ. لَكِنِّي مَشَيْتُ مَعَكُمْ لحِدِيثٍ، أَرَدْتُ أَنْ أُحَدِّثَكُمْ بِهِ، وَأَرَدْتُ أَنْ تَحْفَظُوهُ لمِمْشَايَ مَعَكُمْ، إِنَّكُمْ تَقْدَمُونَ عَلَى قَوْمٍ، لِلْقُرْآنِ في صُدُورِهِمْ هَزِيزٌ كهَزِيزِ المِرْجَلِ، فَإِذَا رَأَوْكُمْ مَدُّوا إِلَيْكُمْ أَعْنَاقَهُمْ، وَقَالُوا: أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ، فَأَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، وَأَنا شَرِيكُكُمْ). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (أحمد بن عبدة) بن موسى الضّبّيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقة [10]. رَوَى عن حماد بن زيد، ويزيد بن زُريع، وفضيل بن عياض، وابن عيينة، وغيرهم. وروى عنه الجماعة إلا البخاري، ورَوَى عنه في غير "الجامع"، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وقال: ثقة، وابن خزيمة، وأبو القاسم البغوي، وعِدّة. قال النسائي: ثقة. وفي موضع آخر: لا بأس به. وتكلم فيه ابن خراش، فلم

يَلتَفِت إليه أحد للمذهب. وذكر ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في رمضان سنة (245). وله في هذا الكتاب (45) حديثًا. 2 - (حماد بن زيد) بن درهم الأزديّ الجهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ الأزرق، مولى آل جرير بن حازم، ثقة ثبت فقيه، من كبار [8]. رَوَى عن ثابت البناني، وأنس بن سيرين، وعبد العزيز بن صهيب، وخلق كثير. وروى عنه ابن المبارك، وابن مهدي، وابن وهب، والقطان، وابن عيينة، وهو من أقرانه، والثوري وهو أكبر منه، وإبراهيم بن أبي عبلة، وهو في عداد شيوخه، وخلق كثير. قال رسته: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: أئمة الناس في زمانهم أربعة: سفيان الثوري بالكوفة، ومالك بالحجاز، والأوزاعي بالشام، وحماد بن زيد بالبصرة. وقال ابن مهدي: ما رأيت أعلم من هؤلاء: فذكرهم سوى الأوزاعي. وقال فطر بن حماد: دخلت على مالك، فلم يسألني عن أحد من أهل البصرة إلا عن حماد بن زيد. وقال ابن مهدي: لم أر أحدا قط أعلم بالسنة، ولا بالحديث الذي يدخل في السنة من حماد بن زيد. وقال أبو حاتم: قاك ابن مهدي: ما رأيت بالبصرة أفقه من حماد بن زيد. وقال محمد بن المنهال الضرير: سمعت يزيد بن زريع، وسئل ما تقول في حماد بن زيد، وحماد بن سلمة، أيهما أثبت؟ قال: حماد بن زيد، وكان الآخر رجلا صالحا. وقال وكيع، وقيل له: أيهما أحفظ؟ فقال: حماد بن زيد، ما كنا نشبهه إلا بمسعر. وقال يحيى بن يحيى النيسابوري: ما رأيت أحفظ منه. وقال أحمد بن حنبل: حماد بن زيد أحب إلينا من عبد الوارث، حماد من أئمة المسلمين، من أهل الدين والإسلام، وهو أحب إلي من حماد بن سلمة. وقال يحيى بن معين: حماد بن زيد أثبت من عبد الوارث، وابن علية، والثقفي، وابن عيينة. وقال أيضا: ليس أحد أثبت في أيوب منه. وقال أيضا: من خالفه من الناس جميعا فالقول قوله في أيوب. وقال أبو زرعة: حماد بن زيد أثبت من حماد بن سلمة بكثير، وأصح حديثا وأتقن. وقال أبو عاصم: مات حماد يوم مات، ولا أعلم له في الإسلام نظيرا في هيئته ودَلِّه. وقال خالد بن خداش: كان من عقلاء الناس، وذوي

الألباب. وقال يزيد بن زريع يوم مات: اليوم مات سيد المسلمين. وقال محمد بن سعد: كان عثمانيا، وكان ثقة ثبتا حجة كثير الحديث. وقال أبو زرعة: سمعت أبا الوليد يقول: ترون حماد بن زيد دون شعبة في الحديث؟ وقال عبد الله بن معاوية الجمحي: حدثنا حماد بن سلمة بن دينار، وحماد بن زيد بن درهم، وفضلُ ابنِ سلمة على ابن زيد، كفضل الدينار على الدرهم. وقال ابن منجويه، وابن حبان: كان ضريرا. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا يردّه ما روأه ابن أبي خيثمة، قال: سأل إنسان عبيد الله بن عمر: كان حماد أميا؟ قال: أنا رأيته، وأتيته يوم مطر، فرأيته يكتب، ثم ينفخ فيه ليجف، قال: وسمعت يحيى يقول: لم يكن أحد يكتب عند أَبواب إلا حماد، إلا أن يُجاب -كما قال الحافظ- بأن العمى طرأ عليه. والله تعالى أعلم. وقال ابن حبان في "الثقات": وقد وهم من زعم أن بينهما كما بين الدينار والدرهم، إلا أن يكون القائل أراد فضل ما بينهما مثل الدينار والدرهم في الفضل والدين؛ لأن حماد بن سلمة كان أفضل، وأدين، وأورع من حماد بن زيد. وقال الخليلي: ثقة متفق عليه، رضيه الأئمة، قال: والمعتمد في حديث يرويه حماد، ويخالفه غيره عليه، والرجوع إليه. قال خالد بن خداش: وُلد سنة (98). وقال عارم وجماعة: مات في رمضان سنة (179). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (57) حديثًا. 3 - (مجالد) -بضم الميم، وتخفيف الجيم- ابن سعيد بن عمير الْهَمْدَانيّ الكوفي، ضعيف، من صغار [6] تقدم في 1/ 11. 4 - (الشعبيّ) عامر بن شَرَاحيل المذكور قبل حديث. 5 - (قَرَظة (¬1) بن كعب) بن ثعلبة بن عمرو بن كعب بن الإطنابة الأنصاري الخزرجيّ، حليف بني عبد الأشهل. ويقال: قرظة بن عمرو بن كعب بن عمرو بن ¬

_ (¬1) بفتحتين، وظاء مشالة.

عائذ بن زيد مناة بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، هكذا نسبه ابن الكلبيّ وغيره. وقال ابن السكن: يُكنى أبا عمرو، قال البخاريّ: له صحبة وقال البغويّ: سكن الكوفة. وقال ابن سعد: أمه خُليدة بنت ثابت بن سنان، وهو أخو عبد الله بن أُنيس لأمه. وشهد قَرَظة أحدًا وما بعدها، وهو أحد العشرة الذين وجههم عمر إلى الكوفة من الأنصار يفقّهون الناس، وعلى يده كان فتح الرّيّ، وولاه عليّ الكوفةَ، وتُوُفّي بها في ولايته، وقيل: في إِمْرَة المغيرة بن شعبة. وقال ابن أبي حاتم: يقال له صحبة، سكن الكوفة، وابتنى بها دارًا، وكنيته أبو عمرو، مات في خلافة عليّ، فصلّى عليه. رَوَى عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وعن عمر بن الخطاب، وروى عنه عامر الشعبي، وعامر بن سعد البجلي، قال سعيد بن عبيد الطائي عن علي بن ربيعة: أوّلُ من نِيح عليه بالكوفة قَرَظة بن كعب، فقال المغيرة بن شعبة: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من نِيح عليه يعذب"، رواه مسلم، والترمذيّ. قال في "تهذيب التهذيب": رجح الحافظ المزّيّ أنه مات في إمارة المغيرة، مستدلا بهذا الحديث، وليست فيه دلالة لاحتمال أن يكون المغيرة قال ذلك عند موته، ولم يكن حينئذ أميرا. وقد جزم أبو حاتم الرازي، وابن سعد، وابن حبان، وابن عبد البر بأنه مات في ولاية علي، وأن عليا صلى عليه، لكن في "صحيح مسلم" في هذه القصة عن علي بن ربيعة: أتيت المسجد، والمغيرة أمير الكوفة، وفي روايه له: "أول من نيح عليه بالكوفة قرظة بن كعب". وفي رواية الترمذي: مات رجل من الأنصار يقال له: قرظة بن كعب، فنيح عليه، فجاء المغيرة، فصعد المنبر، فهذا يُقَوّي قول من قال: إنه مات في إمارة المغيرة، وكانت إمارته على الكوفة في عشر الخمسين. انتهى. وقال في "الإصابة" بعد أن أورد حديث مسلم المذكور: ما نصّه: وهذا يقتضي أن يكون قرظة مات في خلافة معاوية حين كان المغيرة على الكوفة؛ لأن المغيرة كان في مدة الاختلاف بين عليّ ومعاوية مقيمًا بالطائف، فقدِم بعد موت عليّ، فولّاه معاوية الكوفة

بعد أن سلّم له الحسن الخلافة، وبذلك جزم ابن سعد، وقال: مات بالكوفة، والمغيرة والٍ عليها. وكذا قال ابن السكن، وزاد: وهو الذي قتل ابن النوّاحة، صاحب مسيلمة في ولاية ابن مسعود بالكوفة، وفتح الريّ سنة ثلاث وعشرين، وأسند ما تقدّم في خلافة عليّ عن عليّ بن المدينيّ، ووقع التصريح بأن المغيرة كان يومئذ أمير الكوفة في رواية لمسلم. وفي رواية الترمذيّ: "فجاء المغيرة، فصعِد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: ما بال النَّوْح في الإسلام؟ "، ثم ذكر الحديث. وفي "كتاب العلم" من "صحيح البخاريّ" ما يدلّ على أن المغيرة مات وهو أمير الكوفة في خلافة معاوية رضي الله تعالى عنهم انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الأرجح أن قرظة مات في إمرة المغيرة في خلافة معاوية رضي الله تعالى عنهم. والله تعالى أعلم. تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. وله عند النسائيّ حديث واحد، رقم (3383) "رُخّص لنا في اللهو عند العرس". 6 - (عمر بن الخطاب) بن نفيل بن عبد العُزَّى بن رِيَاح -بالتحتانية- ابن عبد الله ابن قرط بن رزاح -بمهملة، ومعجمة، وآخره مهملة- ابن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي العدوي، أبو حفص، أمير المؤمنين، وأمه حَنْتَمَة بنت هاشم بن المغيرة المخزومية، كذا قال ابن الزبير. وروى أبو نعيم من طريق ابن إسحاق أنها بنت هشام، أخت أبي جهل. جاء عنه أنه وُلد بعد الفجار الأعظم بأربع سنين، وذلك قبل المبعث النبوي بثلاثين سنة، وقيل بدون. وذكر خليفة بسند له أنه وُلد بعد الفيل بثلاث عشرة سنة. وكان إليه السفارة في الجاهلية. وكان عند المبعث شديدًا على المسلمين، ثم أسلم فكان إسلامه فتحا على المسلمين، وفرجا لهم من الضيق. قال عبد الله بن مسعود: وما عبدنا الله جهرة حتى أسلم عمر. وأخرج ابن أبي الدنيا بسند صحيح، عن أبي رجاء ¬

_ (¬1) "راجع الإصابة" 5/ 328 - 330.

العطاردي، قال: كان عمر طويلًا، جسيمًا، أصلع، أشعر، شديد الحمرة، كثير السَّبَلَة (¬1) في أطرافها صهوبة، وفي عارضيه خِفَّة. وروى يعقوب بن سفيان في "تاريخه" بسند جيد إلى زِرّ بن حُبَيش قال: رأيت عمر أعسر أصلع آدم، قد فَرعَ الناسَ، كأنه على دابة، قال: فذكرت هذه القصة لبعض ولد عمر، فقال: سمعنا أشياخنا يذكرون أن عمر كان أبيض، فلما كان عام الرَّمَادة، وهي سنة المجاعة، ترك أكل اللحم والسمن، وأدمن أكل الزيت حتى تغير لونه، وكان قد احمرّ، فشحب لونه، وأخرج ابن سعد بسند جيد من طريق سماك بن حرب، أخبرني هلال بن عبد الله قال: رأيت عمر جسيمًا، كأنه من رجال بني سدوس، وأخرج يونس بن بُكير في زيادات المغازي، عن أبي عمر الجزار، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم أعز الإسلام بأبي جهل بن هشام، أو بعمر بن الخطاب"، فأصبح عمر، فغدا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأخرج أبو يعلى من طريق أبي عامر العقدي، عن خارجة، عن نافع، عن ابن عمر قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك، بعمر بن الخطاب، أو بأبي جهل بن هشام"، وكان أحبهما إلى الله عمر بن الخطاب. وأخرجه عبد بن حميد، عن أبي عامر، عن خارجة بن عبد الله الأنصاري به. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (78) حديثا. والله تعالى أعلم. شرح الأثر: (عَنْ قَرَظَةَ) بفتحتين (ابْنِ كَعْب) الأنصاريّ الخزرجيّ -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: بَعَثنَا عُمَرُ ابْنُ الخطَابِ) رضي الله تعالى عنه (إِلَى الْكُوفَةِ) ليُقرءوا الناس القرآن، ويُفقّهوهم في الدين. [فائدة]: "الكوفة" -بضم الكاف-: مدينة مشهورة بالعراق، قيل: سُمّيت كُوفةً؛ لاستدارة بنائها؛ لأنه يقال: تكوّف القوم: إذا اجتمعوا، واستداروا. قاله ¬

_ (¬1) السَّبَلَة بالتحريك: الشارب، جمعه سِبال.

الفيّوميّ. وقال في "القاموس" وشرحه: الْكُوفة بالضمّ: الرَّمْلة الحمراء المجتمعة. وقيل: المستديرة. أو كلُّ رملة تُخالطها حصباء، أو الرملة ما كانت. والكوفة: مدينة بالعراق الكبرى، وهي قبّة الإسلام، ودار هجرة المسلمين. قيل: مصّرها سعد بن أبي وقّاص، وكان قبل ذلك منزل نوح عليه السلام، وبنى مسجدها الأعظم. واختُلف في سبب تسميتها، فقيل: سُمّيت لاستدارتها، وقيل: بسبب اجتماع الناس بها، وقيل: لكونها كانت رملة حمراء، أو لاختلاط ترابها بالحصى. ويقال لها أيضًا كُوفان بالضمّ، ويُفتح، وكُوفَة الجند؛ لأنه اختُطّت فيها خِطَطُ العرب أيام عثمان -رضي الله عنه-، خططها السائب بن الأقرع الثقفيّ -رضي الله عنه-. أو سُمّيت بكُوفان، وهو جُبَيلٌ صغير، فَسَهّلوه، واختطّوا عليه. أو من الكَيْف، وهو القطع؛ لأن أَبْرَوِيز أقطعه لِبَهْرَامَ، أو لأنها قطعة من البلاد، والأصلُ كُيفَةٌ، فلما سَكَنَتِ الياء، وانضمّ ما قبلها جُعلت واوًا، أو هي من قولهم: هم في كُوفَانٍ بالضمّ، ويُفتح، وكَوَّفَانٍ مُحرّكةً ممشدّدةَ الواو: أي في عِزّ ومَنَعَة، أو لأن جَبَل سَاتِيدما محيطٌ بها كالكاف، أو لأن سعد بن أبي وقّاص -رضي الله عنه- لمّا أراد أن يبني الكوفة، وارتاد هذه المنزلة للمسلمين، قال لهم: تكوّفوا في هذا المكان: "أي اجتمعوا فيه، أو لأنه قال: كَوِّفُوا هذه الرملةَ: أي نَحُّوها، وانزلوا. قال والمسافة ما بين الكوفة والمدينة نحو عشرين مرحلة. انتهى باختصار (¬1). (وَشَيَّعَنَا) أي خرج معنا للتوديع، قال في "المصباح": شيّعتُ الضيفَ: إذا خرجتَ معه عند رَحِيله؛ إكرامًا له، وهو التوديع انتهى (¬2). (فَمَشَى) عمر -رضي الله عنه- (مَعَنَا إِلَى مَوْضِع، يُقَال لَه: صِرَارٌ) قال في "القاموس"، و"شرحه": الصِّرَارُ بالكسر، ككتاب: موضع بقرب المدينة، وهو ماء محُتفر، جاهليّ، ¬

_ (¬1) " تاج العروس من جواهر القاموس" 6/ 240. (¬2) "المصباح المنير" 1/ 329.

على سمت العراق، وقيل: أُطُمٌ لبني عبد الأشهل. انتهى (¬1). وزاد الحاكم في روايته الوضوء، ولفظه: "فمشى معنا عمر بن الخطاب إلى صِرَار، فتوضّأ ... ". (فَقَالَ: أَتَدْرُونَ) أي أتعلمون (لِمَ مَشَيْتُ مَعَكُمْ؟ قَالَ) قوظة (قُلْنَا) أي قال المبعوثون إلى الكوفة (لَحِقِّ صُحْبَةِ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-) متعلّق بمقدّر أي مشيت معنا لحقّ الخ (وَلَحِقِّ الْأَنْصَارِ) -بفتح الألف، وسكون النون، وفتح الصاد المهملة، وفي آخرها الراء- هم جماعة من أهل المدينة من الصحابة من أولاد الأوس والخزرج، قيل لهم الأنصار؛ لنصرتهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} الآية [الأنفال: 74]، وقال عزّ من قائل: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117]، وقال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]. وفيهم كثرة وشهرة على اختلاف بطونها، وأفخاذها، ومن أولادهم إلى الساعة جماعة يُنسبون إليهم. ذكره أبو سَعْد السمعانيّ في كتابه "الأنساب" (¬2). والمعنى: أنك مشيت معنا أيضًا للحقّ الذي جعله الله تعالى للأنصار، من وجوب احترامهم، والقيام بمهمّاتهم؛ لنصرهم الإلسلام، وإيوائهم أهله، فلهم بذلك حقّ على كلّ مسلم، ولهذا أوصى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بهم ولاة الأمور بعده، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" من طريق عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرضه الذي مات فيه، بِمِلْحَفة، قد عَصَبَ بِعِصَابة دَسْمَاء حتى جلس على المنبر، ¬

_ (¬1) "تاج العروس من جواهر القاموس" 3/ 330. (¬2) "الأنساب" 1/ 228.

فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعدُ، فإن الناس يكثرون، وَيقِلّ الأنصار، حتى يكونوا في الناس بمنزلة الملح في الطعام، فمن وَلِيَ منكم شيئا، يضُرّ فيه قومًا، وينفع فيه آخرين، فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم، فكان آخر مجلس جلس به النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬1). (قَالَ) عمر -رضي الله عنه- (لَكِنِّي) استدراك من مقدّر أي هذا الذي ذكرتموه، وإن كان مما يُمشَى من أجله، لكنه الآن ليس هو وحده حاملًا لمشيي معكم، وإنما (مَشَيْتُ مَعَكُمْ لَحِدِيثٍ) أي لأجل بيان حديث (أَرَدْتُ أَنْ أُحَدِّثَكُمْ بِهِ، وَأَرَدْتُ أَنْ تَحْفَظُوهُ لَمِمْشَايَ مَعَكُمْ) يحتمل أن يكون "ممشى" مصدرًا ميميّا، ويحتمل أن يكون ظرفًا زمانيّا، أو مكانيّا: أي وقت مشيي، أو مكان مشيي. والمعنى: إنما مشيت معكم ليكون ممشاي هذا حاملًا لكم، وباعثًا إياكم على أن تحفظوا ما أُحدّثكم به؛ لأنهم إذا تذكّروا مشيه معهم مكانًا بعيدًا، مع كبر سنّه، ووجاهته، وكونه خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حملهم ذلك كله على أن يعتنوا بحفظ ما يُحدّثهم به، والعمل بمقتضاه. ثم بيّن الحديث الذي يريد أن يحدّثهم به، بقوله: (إِنَّكُمْ تَقْدَمُونَ) بفتح الدال، من باب تَعِبَ (عَلَى قَوْمٍ، لِلْقُرْآنِ) بكسر اللام، وهي لام الجرّ، والجار والمجرور خبر مقدّم لقوله" "هزيز" (في صُدُورِهِمْ) متعلّق بحال مقدّر (هَزِيزٌ كَهَزِيزِ الْمِرْجَلِ) "الهزيز" -بفتح الهاء، وكسر الزاي-: صوت غَلَيَان القِدْر، وتردُّد صوت الرعد. قاله في "القاموس". وقال في "اللسان": هَزِيز الريح: دَويّها عند هزّها الشجر. قال امرؤ القيس [من الطويل]: إِذَا مَا جَرَى شَأْوَيْنِ وَابْتَلَّ عِطْفُهُ ... تَقُولُ هَزِيزُ الرِّيحِ مَرَّتْ بِأَثْأَبِ (¬2) و"الْمِرْجَل" -بكسر الميم، وسكون الراء، وفتح الجيم-: قِدرٌ من نُحاس، وقيل ¬

_ (¬1) انظر "صحيح البخاريّ" في "كتاب المناقب" رقم (3628). ترقيم "الفتح". (¬2) "الأثأب": شجرٌ ينبت في بطون الأودية بالبادية. قاله في "اللسان".

يُطلقُ على كلّ قِدْرٍ يُطبخ فيها. قاله في "المصباح". وقال في "النهاية": "الْمِرجل" بالكسر: هو الإناء الذي يُغلى فيه الماء، وسواء كان من حديد، أو صُفر، أو حجارة، أو خَزَف، والميم زائدة، قيل: لأنه إذا نُصب كأنه أُقيم على أرجل. انتهى (¬1). ولفظ الحاكم: "قال: إنكم تأتون أهل قرية لهم دويّ بالقرآن كدويّ النحل، فلا تبدونهم بالأحاديث، فيشغلونكم، جرّدوا القرآن، وأقلّوا الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وامضوا وأنا شريككم، فلما قدِم قَرَظة قالوا: حدّثنا، قال: نهانا عمر بن الخطّاب". و"دويّ النحل" -بفتح الدال المهملة- صوتها. (فَإِذَا رَأَوْكُمْ مَدُّوا إِلَيْكُمْ أَعْنَاقَهُمْ) أي للأخذ عنكم، وتسليما للأمر إليكم، وتحكيمًا لكم (وَقَالُوا: أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ) خبر لمبتدإ محذوف: أي هؤلاء أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، ويحتمل أن يكون فاعلا لفعل محذوف: أي جاء أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- (فَأَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-) أي لا تكثروا رواية أحاديثه -صلى الله عليه وسلم- لهم نظرًا إلى كثرة طلبهم، وشوقهم في الأخذ عنكم؛ تعظيمًا لأمر الرواية عنه -صلى الله عليه وسلم-، أو لئلا يُشغلوا بذلك عن قراءة القرآن، والاحتمال الأول هو الذي فهمه المصنّف رحمه الله تعالى، حيث أورد الحديث في "باب التوقّي في الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، والاحتمال الثاني هو الذي يؤيّده السياق، حيث إن عمر -رضي الله عنه- قال لهم: "إنكم تَقْدَمون على قوم للقرآن في صدورهم هزيز الخ"، فإنه يدلّ على أن أمره لهم بالإقلال من الرواية لئلا يشغلهم كثرة الحديث عن قراءة القرآن. وأوضح منه ما سبق آنفًا من رواية الحاكم. والله تعالى أعلم. وقوله: (وَأَنَا شَرِيكُكُمْ) أي في الأجر بسبب أنه الدالّ لهم على الخير، والباعث لهم عليه؛ لأن الدالّ على الخير كفاعله، فقد أخرج أبو داود في "سننه" بإسناد صحيح عن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من دل على خير، فله مثل أجر فاعله" .. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. ¬

_ (¬1) "النهاية" 4/ 315.

مسائل تتعلقُ بهذا الأثر: (المسألة الأولى): في درجته: أثر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده مجالد بن سعيد، وهو ضعيف، كما سبق؟. [قلت]: لم ينفرد به، بل تابعه عليه بيان بن بشر الأحمسيّ، وهو ثفة ثبت، فقد رواه أبو عبد الله الحاكم في "المستدرك" (1/ 102) عن محمد بن يعقوب الأصمّ، عن محمد ابن عبد الله بن عبد الحكم، عن ابن وهب، عن ابن عُيينة، عن بيان، عن الشعبيّ به، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، وله طرق تُجمَع، ويُذاكر بها. قال: وقَرَظَة بن كعب صحابيّ، سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: وأما رواته فقد احتجّا بهم، والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف رحمه الله) هنا بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (الحاكم) في "المستدرك" كما مرّ آنفًا، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف، على ما فهمه هو، وإن كان ظاهر سياق الأثر يدلّ على أن أمر عمر -رضي الله عنه- بإقلال الرواية خوفًا من الاشتغال به عن القرآن، لا خوفًا من الزيادة والنقصان، كما هو ظاهر تبويب المصنّف. والله تعالى أعلم. 2 - (ومنها): مدح عمر -رضي الله عنه- لأهل الكوفة الذين كانوا في عهده، قبل أن ينشأ فيهم أصحاب الأهواء الباطلة، فإن الكوفة معروفة بالتشيّع وغيره من الأهواء، ولكن هذا متأخر عن عهده -رضي الله عنه-. 3 - (ومنها): بيان تواضع عمر -رضي الله عنه- حيث يخرج بنفسه ليودّع أهل العلم؛ إذ خرجوا لنشر علمهم، وتفقيه الأمة، ودعوتها إلى السنة المطهّرة. 4 - (ومنها): الحثّ على ملازمة القرآن، وعدم الاشتغال بغيره، وهذا إذا كان يخشى أن ينساه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم

الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال: 29 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى ابْنِ سَعِيدٍ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: صَحِبْتُ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ، مِنَ المَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَمَا سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (محمد بن بشّار) بُندَار الحافظ الثبت المذكور قبل ثلاثة أسانيد. 2 - (عبد الرحمن) بن مهديّ الإمام الحجة المذكور قبل ثلاثة أسانيد أيضًا. 3 - (حماد بن زيد) بن درهم الإمام الحافظ المذكور في السند الماضي. 4 - (يحيى بن سعيد) بن قيس بن عمرو بن سهل بن ثعلبة بن الحارث بن زيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، ويقال: يحيى بن سعيد بن قيس بن قَهْد، ولا يصح، قاله البخاري، الأنصاريُّ النجاريُّ أبو سعيد المدني القاضي، ثقة ثبت [5]. رَوَى عن أنس بن مالك، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، ومحمد بن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف، وغيرهم. ورَوَى عنه الزهري، ويزيد بن الهاد، وابن عجلان، ومالك، وشعبة، والسفيانان، وحماد بن زيد، وغيرهم. قال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث، حجة ثبتا. وقال جرير بن عبد الحميد: لم أر أنبل منه. وقال حماد بن زيد: قدم أيوب من المدينة، فقال: ما تركت بها أحدا أفقه من يحيى بن سعيد. وقال سعيد بن عبد الرحمن الْجُمَحي: ما رأيت أقرب شبها بالزهري من يحيى بن سعيد، ولولاهما لذهب كثير من السنن. وقال ابن المديني: لم يكن بالمدينة بعد كبار التابعين أعلم من ابن شهاب، ويحيى بن سعيد، وأبي الزناد، وبكير بن الأشج. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: يحيى بن سعيد يوازي الزهري. وقال الثوري: كان أجل عند أهل المدينة من الزهري. وقال الليث: لم يكن بدون أفاضل العلماء في زمانه، وعده الثوريّ في الحفاظ، وابن عيينة في محدثي الحجاز الذين يجيئون بالحديث على وجهه،

وابن المديني في أصحاب صحة الحديث وثقاته، ممن ليس في النفس من حديثهم شيء، وابن عمار في موازين أصحاب الحديث، وقال العجلي: مدني تابعي ثقة، له فقه، وكان رجلا صالحا، وكان قاضيا على الحيرة، وثَمَّ لقيه يزيد بن هارون، وقال أحمد ابن حنبل، ويحيى بن معين، وأبو حاتم، وأبو زرعة: ثقة. وقال أحمد بن سعيد الدارمي: سمعت أصحابنا يحكون عن مالك، قال: ما خرج منا أحد إلى العراق إلا تغير غير يحيى بن سعيد. قال ابن سعد، وغير واحد: مات سنة ثلاث. وقال يزيد بن هارون، وعمرو بن علي: مات سنة أربع وأربعين ومائة. وقيل: مات سنة ست وأربعين. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (43) حديثًا. 5 - (السائب بن يزيد) بن سعيد بن ثمامة بن الأسود الكندي، ويقال: الأسدي، أو الليثي، أو الْهُذَليُّ وقال الزهري: هو من الأزد، عداده في كنانة، وهو ابن أخت النمر، لا يُعْرَفُون إلا بذلك، له ولأبيه صحبة. قال محمد بن يوسف، عن السائب بن يزيد: حَجَّ بي أبي مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنا ابن سبع سنين. روى عن -صلى الله عليه وسلم-، وعن حويطب بن عبد العزى، وعمر، وعثمان، وعبد الله بن السعدي، وأبيه يزيد، وخاله العلاء بن الحضرمي، وطلحة بن عبيد الله، وسعد، وسفيان بن أبي زهير، وعبد الرحمن بن عبد القاري، ومعاوية، وعائشة، وغيرهم. وروى عنه ابنه عبد الله، والجعد بن عبد الرحمن، وإبراهيم بن عبد الله بن قارظ، وحميد بن عبد الرحمن بن عوف، ويحيى بن سعيد، والزهريّ، وغيرهم. وقال ابن عبد البر: كان عاملا لعمر على سوق المدينة. وقال أبو نعيم: تُوفي سنة اثنتين وثمانين. وذكره البخاري في "فصل من مات ما بين التسعين إلى المائة". وقال ابن أبي داود: هو آخر من مات بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم. قال الواقدي: تُوفي بالمدينة سنة إحدى وتسعين. وقال غيره: سنة (6) وقيل: سنة (88). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث برقم (29) و (509) و (1063) و (1125) و (1333) و (2796) و (3197).

6 - (سعد بن مالك) هو سعد بن أبي وقّاص مالك بن أُهيب، ويقال له: ابن وُهيب بن عبد مناف بن زُهْرة بن كلاب القرشي الزهري، أبو إسحاق، أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وهو آخرهم موتا. وأمه حَمْنة بنت سفيان بن أمية، بنت عم أبي سفيان ابن حرب بن أمية. روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرا، وروى عنه بنوه: إبراهيم، وعامر، ومصعب، وعمر، ومحمد، وعائشة، ومن الصحابة عائشة، وابن عباس، وابن عمر، وجابر بن سمرة، ومن كبار التابعين سعيد بن المسيب، وأبو عثمان النهدي، وقيس بن أبي حازم، وعلقمة، والأحنف، وآخرون. وكان أحد الفرسان، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، وهو أحد الستة أهل الشورى. وقال عمر -رضي الله عنه- في وصيته: إن أصابت الإمرة سعدا فذاك، وإلا فليستعن به الذي يلي الأمر، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة، وكان عمر أَمّره على الكوفة سنة إحدى وعشرين، ثم لما ولي عثمان أمّره عليها، ثم عزله بالوليد بن عقبة سنة خمس وعشرين. وكان رأس من فتح العراق، ووَلِي الكوفة لعمر، وهو الذي بناها، ثم عُزِل، ووليها لعثمان، وكان مجاب الدعوة، مشهورا بذلك. مات سنة إحدى وخمسين. وقيل: ست. وقيل: سبع. وقيل: ثمان. والثاني أشهر. وقد قيل: إنه مات سنة خمس. وقيل: سنة أربع. وقع في "صحيح البخاري" عنه أنه قال: لقد مكثت سبعة أيام، وإني لَثُلُث الإسلام. وقال إبراهيم بن المنذر: كان هو وطلحة، والزبير، وعليّ عِذَار عام واحد، أي كان سنهم واحدا. ورَوَى الترمذي من حديث جابر قال: أقبل سعد، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هذا خالي، فليرني امرؤ خاله". مات سعد بالعقيق، وحُمل إلى المدينة، فصُلي عليه في المسجد. وقال الواقدي: أثبت ما قيل في وقت وفاته: إنها سنة خمس وخمسين. وقال أبو نعيم: مات سنة ثمان وخمسين. أخرج له الجماعة، وله (271) حديثًا، اتفق الشيخان على (15) حديثًا، وانفرد البخاريّ بخمسة أحاديث، ومسلم بثمانية عشر حديثًا، وله في هذا الكتاب (26) حديثًا.

لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. 3 - (ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالبصريين، والثاني بالمدنيين. 4 - (ومنها): أن شيخه أحد المشايخ التسعة الذي اتفق على الرواية عنهم أصحاب الأصول بلا واسطة. 5 - (ومنها): أن فيه رواية صحابيّ عن صحابيّ. 6 - (ومنها): أن سعدًا -رضي الله عنه- من السابقين إلى الإسلام، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وهو آخرهم موتا، وكان أحد الفرسان، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، وهو أحد الستة أهل الشورى، وكان مجاب الدعوة. والله تعالى أعلم. شرح الأثر: (عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ) الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: صَحِبْتُ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ) هو ابن أبي وقّاص -رضي الله عنه- (مِنَ المدِينةِ إِلَى مَكَةَ) وفي رواية الدارميّ: "قال: خرجت مع سعد إلى مكة" (فَمَا سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ) زاد في رواية الدارمي: "حتى رجعنا إلى المدينة". وأخرج البخاري في "الجهاد والسير" من "صحيحه" من طريق محمد بن يوسف، عن السائب بن يزيد، قال: "صحبت طلحة بن عبيد الله، وسعدًا، والمقداد بن الأسود، وعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهم- فما سمعت أحدا منهم يحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إلا أني سمعت طلحة يحدث عن يوم أحد". قال ابن بطال رحمه الله تعالى: كان كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم لا يحدثون عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خشية المزيد والنقصان (¬1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 6/ 46.

المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلقان بهذا الأثر: (المسألة الأولى): في درجته: أثر سعد بن مالك رضي الله تعالى عنه هذا صحيح، وقال البوصيريّ رحمه الله: هذا إسناد صحيح، موقوف. انتهى. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا وهو بهذا السياق من أفراده، فلم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره. وأخرجه (البخاريّ) في "الجهاد"، و"المغازي" من وجه آخر عن السائب، وقد سبق لفظه آنفًا. و (الدارميّ) في "المقدمة" (281) والبيهقيّ في "كتاب الزكاة" "سننه" (4/ 106) من طريق ابن لهيعة، عن يحيى بن سعيد، وفيه زيادة، ولفظه: قال: سمعت السائب بن يزيد يقول: صحبت سعد بن أبي وقّاص زمانًا، فلم أسمعه يحدّث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا حديثًا واحدًا، يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "لا يُفرّق بين مجتمع، ولا يُجمَع بين متفرّق في الصدقة، والخليطان ما اجتمع على الفحل، والراعي، والحوض. انتهى. واستدلال المصنّف بهذا الأثر على ترجمته واضحٌ لأنه يدلّ على شدّة توقّي سعد -رضي الله عنه- عن التحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خشية من الزيادة والنقصان، والتصحيف، والتحريف، فيدخل في الوعيد الشديد لمن كذب على النبيّ -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ الكذب لا يشترط فيه التعمّد، بل يوجد خطأ ونسيانًا؛ لأن الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، سواء كان عمدًا، أم خطأ، والمخطىء والناسي وإن كانا غير آثمين بالإجماع، لكن قد يأثم بالإكثار، إذ الإكثار مظنّة الخطأ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

4 - باب التغليظ في تعمد الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

4 - (بابُ التَّغليظ في تَعمُّدِ الكَذبِ عَلَى رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-) قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "التغليظ": مصدر غلّظ، يقال: غَلَّظ عليه في اليمين تغليظًا: إذا شدّد عليه، وأكّد، وغلّظت اليمينَ تغليظًا أيضًا: إذا قوّيتها، وأكّدتها. قاله الفيّوميّ (¬1). و"التعمّد" مبالغة في العمد. و"الكذب" بفتح، فكسر مصدر كَذَب يَكذِب، من باب ضرب، ويجوز التخفيف بكسر الكاف، وفتحها، مع سكون الذال فيهما، وهو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو، سواء فيه العمد والخطأ، ولا واسطة بين الصدق والكذب على مذهب أهل السنّة، والإثم يَتْبعُ العمد. وأكذب نفسه، وكذّبها: بمعنى اعترف بأنه كَذَبَ في قوله السابق، وأكذبت زيدًا بالألف وجدتُهُ كاذبًا، وكذّبته تكذيبًا: نسبتُهُ إلى الكذب، أو قلتُ له: كَذَبْتَ. قاله الفيوميّ (¬2). وقال في "عمدة القاري": الكذب خلاف الصدق. قال الصغانيّ: تركيب الكذب يدلّ على خلاف الصدق، وتلخيصه أنه لا يبلغ نهاية الكلام في الصدق. والكذب عند الأشعريّة الإخبار عن الأمر على خلاف ما هو عليه عمدًا أو سهوًا، خلافًا للمعتزلة في اشتراطهم العمديّة. ويقال: فيه ثلاثة مذاهب: المذهب الحقّ أن الكذب عدم مطابقة الواقع، والصدق مطابقته. والثاني: أنهما مطابقة الاعتقاد، أو لا مطابقته. والثالث: مطابقة الواقع مع اعتقاد المطابقة، ولا مطابقته مع اعتقاد لا مطابقته، وعلى الأخيرين يكون بينهما الواسطة. انتهى (¬3)، والله تعالى أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" 2/ 451. (¬2) "المصباح" 2/ 528. (¬3) "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" 2/ 107 - 108.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال: 30 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَسُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَبْدُ الله بْنُ عَامِرِ بْنِ زُرَارَةَ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى، قَالُوا: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عَبْدِ الَرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: " مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتبَوَّأْ مَقعَدَهُ مِنَ النَّارِ"). رجال هذا الإسناد: ثمانية: 1 - (أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفيّ، ثقة ثبت حافظ [10] 1/ 1. 2 - (سُوَيْدُ بْنُ سَعِيد) بن سهل بن شَهْريار الْهَرَويّ الأصل، أبو محمد الْحَدَثَاني -بفتح المهملة، والمثلّثة- ويقال له: الأنباريّ -بنون، ثم موحّدة- سَكَنَ الحدِيثة، تحت عانة وفوق الأنبار، أبو محمد، صدوق في نفسه، إلا أنه عَمِى، فصار يتلقّن ما ليس من حديثه، وأفحش فيه ابن معين القول، من قُدَماء [10]. رَوَى عن مالك، وحفص بن ميسرة، ومسلم بن ميسرة، ومسلم بن خالد الزنجي، وحماد بن زيد، وعبد الرحمن بن أبي الزناد، وغيرهم. ورَوَى عنه مسلم، وابن ماجه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ويعقوب بن شيبة، وعبد الله بن أحمد، وغيرهم. قال عبد الله بن أحمد: عَرَضتُ على أبي أحاديث سُويد عن ضِمَام بن إسماعيل، فقال لي: اكتبها كلها، فإنه صالح، أو قال ثقة. وقال الميموني عن أحمد: ما عَلِمتُ إلا خيرا. وقال البغوي: كان من الحفاظ، وكان أحمد ينتقي عليه لولديه، فيسمعان منه. وقال أبو داود عن أحمد: أرجو أن يكون صدوقًا، لا بأس به. وقال أبو حاتم: كان صدوقًا، وكان يدلس ويكثر. وقال البخاري: كان قد عَمِي فتَلَقّن ما ليس من حديثه. وقال يعقوب بن شيبة: صدوق، مضطرب الحفظ، ولا سيما بعدما عَمِيَ. وقال صالح ابن محمد: صدوق إلا أنه كان عَمِي، فكان يُلَقِّن أحاديث ليس من حديثه. وقال الْبَرْذَعِيّ: رأيت أبا زرعة يُسيىء القول فيه، فقلت له: فَأَيْشٍ حاله؟. قال: أما كُتُبه

فصحاح، وكنت أتتبع أصوله فأكتب منها، فأما إذا حدَّث من حفظه فلا. قال: وسمعت أبا زرعة يقول: قلنا لابن معين: إن سُويدا يحدِّث عن ابن أبي الرجال عن ابن أبي رَوّاد، عن نافع، عن ابن عمر: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قال في ديننا برأيه فاقتلوه"، فقال يحيى: ينبغي أن يُبْدَأ بسويد فيُقتَل. وقيل لأبي زرعة: إن سويدا يحُدث بهذا عن إسحاق بن نَجِيح، فقال: نعم، هذا حديث إسحاق، إلا أن سُويدا أَتَى به عن ابن أبي الرجال، قلت: فقد رواه لغيرك عن إسحاق؟ فقال: عَسَى، قيل له: فرجع. وقال الحاكم أبو أحمد: عَمِي في آخر عمره، فربما لُقِّن ما ليس من حديثه، فمن سَمِع منه وهو بصير فحديثه عنه حسن. وقال النسائي: ليس بثقة ولا مأمون، أخبرني سليمان بن الأشعث، قال: سمعت يحيى بن معين يقول: سويد بن سعيد حلال الدم. وقال محمد ابن يحيى الْخَزّاز: سألت ابن معين عنه، فقال: ما حدثك فاكتب عنه، وما حدث به تلقينا فلا. وقال عبد الله بن علي بن المديني: سئل أبي عنه، فحرك رأسه، وقال. ليس بشيء. وقال أبو بكر الأعين: هو سِدَادٌ من عيش، هو شيخ. وقال أبو بكر الإسماعيلي: في القلب من سُويد شيء، من جهة التدليس، وما ذُكِر عنه في حديث عيسى بن يونس الذي كان يقال: تفرد به نعيم بن حماد. وقال حمزة بن يوسف السهمي: سألت الدارقطني عن سويد، فقال: تكلم فيه يحيى بن معين، وقال حَدَّث عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد، رَفَعَه: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة". قال ابن معين: وهذا باطل عن أبي معاوية. قال الدارقطني: فلم يَزَل يُظَنّ أن هذا كما قال يحيى، وأنّ سُويدًا أَتى أمرًا عظيمًا في روايته هذا الحديث، حتى دخلت مصر في سنة سبع وخمسين -يعني وثلاثمائة- فوجدت هذا الحديث في "مسند" أبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن يونس البغدادي المُنْجَنِيقِيّ، وكان ثقة، رواه عن أبي كريب، عن أبي معاوية، كما قال سويد سواءً، وتَخَلَّص سويد، وصحّ الحديث عن أبي معاوية. وقال العجليّ: ثقة، من أروى الناس عن علي بن مسهر. وقال ابن حبان: كان أتى عن الثقات بالمعضلات، رَوَى عن أبي مسهر -يعني عن أبي يحيى القتات- عن مجاهد، عن ابن

عباس، رَفَعَه: "مَنْ عَشِقَ وكَتَم وعَفَّ ومات مات شهيدًا". قال: ومَن رَوَى مثل هذا الخبر عن أبي مسهر تجب مجانبة رواياته، هذا إلى ما لا يُحصَى من الآثار، ونقل الأخبار. وقال فيه يحيى بن معين: لو كان لي فرس ورمح لكنت أعْزوه، قاله لمّا رَوَى سُوَيد هذا الحديث. وكذا قال الحاكم: إن ابن معين قال هذا في هذا الحديث. قال أبو داود: سمعت يحيى بن معين، وقال له الفضل بن سهل الأعرج: يا أبا زكريا، سويد عن مالك، عن الزهري، عن أنس، عن أبي بكر: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أهدى فرسا لأبي جهل"، فقال يحيى: لو أن عندي فرسا خَرجتُ أغزوه. وقال سلمة في "تاريخه" سويد ثقة ثقة، رَوَى عنه أبو داود. وقال إبراهيم بن أبي طالب: قيل لمسلم: كيف استجزتَ الرواية عن سويد في "الصحيح"؟ فقال: ومن أين كنت آتي بنسخة حفص بن ميسرة؟. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أعدل ما قيل في سويد هذا عندي: ما قاله أبو زرعة: إن كتب صحاح، وأما حفظه فلا يُعتمد عليه؛ لأنه كان يتلقّن، والله تعالى أعلم. قال البخاري: مات سنة أربعين ومائتين أول شوال بالْحَدِيثة، وفيها أَرَّخه البغوي، وقال: وكان قد بلغ مائة سنة. أخرج له مسلم، والمصنّف، وله في هذا الكتاب (85) حديثًا. 3 - (عَبْدُ الله بْنُ عَامِرِ بْنِ زُرَارَةَ) الحضرمي مولاهم، أبو محمد الكوفي، صدوقٌ [10]. رَوَى عن أَبيه، وعن أبي بكر بن عياش، وعلي بن مسهر، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وعبد الرحيم بن سليمان، ومُعَلَّى بن هلال، ومحمد بن فضيل، وعَبِيدة بن حُمَيد، وشَريك بن عبد الله، وغيرهم. ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود، وأبن ماجه، وبَقيّ بن مَخْلَد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله الحضرمي، وعبد الله بن أحمد، ومحمد بن صالح بن ذريح، وأبو بكر بن أبي عاصم، والحسن بن علي المعْمَريّ، وعبدان الأهوازيّ، والحسن بن سفيان، وأبو يعلى، وغيرهم. قال أبو حاتم: صدوق وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مستقيم الحديث. قال محمد بن عبد الله الحضرمي: مات سنة سبع وثلاثين ومائتين. وفي "الزهرة": رَوَى

عنه مسلم حديثين، أو ثلاثة. انتهى. وله في هذا الكتاب (21) حديثًا. 4 - (إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى) الْفَزَاريّ، أبو محمد، ويقال: أبو إسحاق الكوفي، نَسِيب السُّدّيّ، أو ابن بنته، أو ابن أخته، صدوقٌ يُخطىء، ورُمي بالرفض [10]. رَوَى عن مالك، وإبراهيم بن سعد، وابن أبي الزناد، وابن عيينة، وغيرهم. ورَوَى عنه البخاري في "كتاب خلق أفعال العباد"، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وابن خزيمة، والساجي، وأبو يعلى، وأبو عروبة، ومُطيَّن، وبَقِيّ بن مخْلَد، وطائفة. قال أبو حاتم: سألته عن قرابته من السُّدّيّ، فأنكر أن يكون ابن ابنته، وإذا قرابته منه بعيدة. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: صدوق. وقال مُطَيَّن: كان صدوقا. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن حبان في "الثقات": يُخطىء (¬1). وقال عبدان: أَنْكَر علينا أبو بكر بن أبي شيبة، أو هناد بن السري ذهابنا إليه، وقال: ذاك الفاسق يَشتِم السلف. وقال ابن عديّ: وصل عن مالك حديثين، وتفرد عن شريك بأحاديث، وإنما أنكروا عليه الغلو في التشيع. وقال الآجري عن أبي داود: صدوق في الحديث، وكان يتشيع. وجزم البخاري ومسلم في "الكنى"، وابن سعد، والنسائي، وغيرهم بأنه ابن بنت السديّ. والله أعلم. وقال أبو علي الجياني "في رجال أبي داود": وهو ابن أخت السدي. قال البخاري وغيره: مات سنة 245. (¬2). وله في هذا الكتاب (23) حديثًا. 5 - (شريك) بن عبد الله النخعي الكوفيّ القاضي بواسط، ثم الكوفة، أبو عبد الله، صدوقٌ يُخطىء كثيرًا، وتغيّر حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، وكان عادلًا فاضلًا عابدًا شديدًا على أهل البِدَع [8] تقدّم في 1/ 1. ¬

_ (¬1) قال الحافظ في "تهذيب التهذيب"-1/ 170 - : لم أر في النسخة التي بخط الحافظ أبي علي البكري من "ثقات ابن حبان" قوله: "يُخطىء". انتهى. (¬2) راجع "تهذيب التهذيب" 1/ 169 - 170.

6 - (سماك) -بكسر أوله، وتخفيف الميم- ابن حرب بن أوس بن خالد بن نِزار ابن معاوية بن حارثة الذهلي البكريّ، أبو المغيرة الكوفي، صدوقٌ، وروايته عن عكرمة خاصّةً مضطربةٌ، وقد تغيّر بآخره، فكان ربّما يُلقّن [4]. رَوَى عن جابر بن سمرة، والنعمان بن بشير، وأنس بن مالك، والضحاك بن قيس، وثعلبة بن الحكم، وعبد الله بن الزبير، وطارق بن شهاب، وإبراهيم النخعي، وعبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وغيرهم. ورَوى عنه ابنه سعيد، وإسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، وداود بن أبي هند، وحماد بن سلمة، وشعبة، والثوري، وشريك، وغيرهم. قال حماد بن سلمة عنه: أدركت ثمانين من الصحابة. وقال عبد الرزاق عن الثوري: ما سقط لسماك حديث. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا نقله الحافظ المزيّ في "تهذيب الكمال"، واعترضه الحافظ، فقال: إنما قال الثوري هذا في سماك بن الفضل اليماني، وأما سماك بن حرب فالمعروف عن الثوري أنه ضعفه (¬1). والله تعالى أعلم. وقال صالح بن أحمد عن أبيه: سماك أصح حديثا من عبد الملك بن عمير. وقال أبو طالب عن أحمد: مضطرب الحديث. وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: ثقة. قال: وكان شعبة يُضَعِّفه، وكان يقول في التفسير: عكرمة، ولو شئت أن أقول له ابن عباس: لقاله. وقال ابن أبي خيثمة: سمعت ابن معين سُئل عنه، ما الذي عابه؟ قال: أسند أحاديث لم يُسندها غيره، وهو ثقة. وقال ابن عمار: يقولون: إنه كان يَغلَط، ويختلفون في حديثه. وقال العجلي: بكري جائز الحديث، إلا أنه كان في حديث عكرمة ربما وصل الشيء، وكان الثوري يضعفه بعض الضعف، ولم يَرْغَب عنه أحد، وكان فصيحًا، عالما بالشعر وأيام الناس. وقال أبو حاتم: صدوق ثقة، وهو كما قال أحمد. وقال يعقوب بن ¬

_ (¬1) راجع "تهذيب التهذيب" 2/ 115.

شيبة: قلت لابن المديني: رواية سماك عن عكرمة؟ فقال: مضطربة. وقال زكريا بن عدي عن ابن المبارك. سماك ضعيف في الحديث. وقال يعقوب: وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وهو في غير عكرمة صالح، وليس من المتثبتين، ومن سمع منه قديمًا، مثل شعبة وسفيان، فحديثهم عنه صحيح مستقيم، والذي قاله ابن المبارك إنما نَرَى أنه فيمن سمع منه بآخره. وقال النسائي: ليس به بأس، وفي حديثه شيء. وقال أيضًا: كان ربما لُقِّن، فإذا انفرد بأصل لم يكن حجة؛ لأنه كان يُلَقَّن فيتلقن. وقال صالح جزرة: يُضَعَّف. وقال ابن خِرَاش: في حديثه لين. وقال ابن حبان في "الثقات": يخطىء كثيرًا، مات في آخر ولاية هشام بن عبد الملك حين ولي يوسف بن عمر على العراق. وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل": سئل أبو زرعة هل سمع سماك من مسروق شيئًا؟ فقال: لا. وقال البزار في "مسنده" كان رجلًا مشهورًا، لا أعلم أحدًا تركه، وكان قد تغير قبل موته. وقال جرير بن عبد الحميد: أتيته فرأيته يبول قائمًا، فرجعت ولم أسأله عن شيء، قلت: قد خَرِفَ. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: البول قائمًا لا يكون سببًا لتضعيف الشخص؛ لأنه جائز شرعًا، ولعل جريرًا قام عنده من القرينة ما يدلّ على خَوَف سماك، فتحاشاه لذلك، لا لمجرّد البول قائمًا، فليُتأمّل والله تعالى أعلم. وقال ابن عدي: ولسماك حديث كثير مستقيم -إن شاء الله- وهو من كبار تابعي أهل الكوفة، وأحاديثه حسان، وهو صدوق لا بأس به. وقال ابن قانع: مات سنة 123. أخرج له البخاري في التعاليق، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب (44) حديثًا. 7 - (عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ) الْهُذَليّ الكوفي، ثقة، من صغار [2]. رَوَى عن أبيه، وعلي بن أبي طالب، والأشعث بن قيس، وأبي بردة بن نيار إن كان محفوظا، ومسروق بن الأجدع. وروى عنه ابناه: القاسم، ومعن، وسماك بن

حرب، والحسن بن سعد، وعباد الملك بن عمير، وأبو إسحاق السبيعي، وغيرهم. قال يعقوب بن شيبة. كان ثقة قليل الحديث، وقد تكلموا في روايته عن أبيه، وكان صغيرا، فأما علي بن المديني فقال: قد لقي أباه. وقال ابن معين: عبد الرحمن وأبو عبيدة لم يسمعا من أبيهما. وقال أحمد بن حنبل عن يحيى بن سعيد: مات عبد الله، وعبد الرحمن ابن ست سنين أو نحوها. وقال أحمد: أما سفيان الثوري وشريك فإنهما يقولان: سمع وأما إسرائيل فإنه يقول في حديث الضب: سمعت. وقال العجلي: يقال: إنه لم يَسمع من أبيه إلا حرفا واحدا: "مُحرم الحلال كمستحل الحرام". وقال، إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: ثقة. وقال معاوية بن صالح عن ابن معين: سمع من أبيه، ومن علي. وقال أبو حاتم: صالح. ورَوَى البخاري في "التاريخ الصغير" بإسناد لا بأس به، عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه قال: لما حضر عبد الله الوفاةُ قال له ابنه عبد الرحمن: يا أبت أوصني، قال: ابك من خطيئتك. ورَوَى البخاري في "التاريخ الكبير"، وفي"الأوسط" من طريق ابن خُثَيم عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه قال: إني مع أبي ... فذكر الحديث في تأخير الصلاة، وزاد في"الأوسط": قال شعبة: لم يسمع من أبيه، وحديث ابن خثيم أولى عندي. وقال ابن المديني في "العلل": سمع من أبيه حديثين: حديث الضب، وحديث تأخير الوليد للصلاة. وقال العجلي: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، وأسند حديثه: "مُحِّرم الحلال ... " من طريق سماك عنه. وقال أبو حاتم: سمع من أبيه، وهو ثقة. وقال الحاكم: اتفق مشايخ أهل الحديث أنه لم يسمع من أبيه. انتهى. قال الحافظ: وهو نقلٌ غير مستقيم. وقال خليفة بن خياط: مات مَقْدَمَ الحجاج العراق سنة 79. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تلخّص مما سبق أن الراجح أنه سمع من أبيه، والله تعالى أعلم. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط.

8 - (أبوه) عبد الله بن مسعود الصحابيّ الشهير -رضي الله عنه-، تقدّم في 2/ 19. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خُماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله موثقون. 3 - (ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين. 4 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- (مَنْ) شرطيّة (كَذَبَ عليّ) بفتح الذال المعجمة، يقال: كَذَب يَكْذِب من باب ضرب، كَذِبًا بفتح، فكسر، ويجوز التخفيف بكسر الكاف (¬1) مع سكون الذال. وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى في "المفهم": الكذب لغة هو الخبر عن الشيء على خلاف ما هو به، غير أن المحرّم شرعًا المستقبح عادةً هو العمد المقصود إلا ما استثني على ما يأتي، ويقال: كذب بمعنى أخطأ، وأصل الكذب في الماضي، {ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65]، ويقال: كذب الرجل بفتح العين (¬2) يكذب بكسرها كِذْبًا بكسر الكاف، وسكون الذال، وكَذِبًا بفتح الكاف، وكسر الذال، فأما كِذَّابٌ المشدّدُ، فأحد مصادر كذّب بالتشديد. انتهى كلام القرطبيّ (¬3). وقال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه": وأما الكذب فهو عند المتكلّمين من أصحابنا الإخبارُ عن الشيء على خلاف ما هو، عمدًا كان أو سهوًا، هذا مذهب أهل ¬

_ (¬1) ويجوز أيضًا فتحها مع سكون الذال. (¬2) أي بفتح عين الكلمة، وهو الذال. (¬3) "المفهم" 1/ 107.

السنّة. وقالت المعتزلة: شرطه العمدية، ودليل خطاب هذه الأحاديث لنا، فإنه -صلى الله عليه وسلم- قيّده بالعمد لكونه قد يكون عمدًا، وقد يكون سهوًا، مع أن الإجماع، والنصوص المشهورة في الكتاب والسنّة متوافقة متظاهرة على أنه لا إثم على الناسي والغالط، فلو أطلق -صلى الله عليه وسلم- الكذب لتُوهّم أنه يأثم الناسي أيضًا، فقيّده، وأما الروايات المطلقة فمحمولة على المقيّدة بالعمد. والله تعالى أعلم. انتهى (¬1). (مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتبَوَّأْ) أي فليتّخذ (مَقْعَدَهُ) بفتح الميم، وسكون القاف، وفتح العين المهملة: أي محلّ قعوده، والمراد منزله (مِنَ النَّارِ) بيان لمعقده، متعلّق بحال محذوف: أي حال كون ذلك المقعد كائنًا من النار. وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "فليتبوّأ الخ": أي ليتّخذ فيها منزلًا، فإنها مقرّه، ومسكنه، يقال: تبوّأت منزلًا: أي اتّخذته، ونزلته، وبوّأت الرجل منزلًا: أي هيّأته له، ومصدره باءة، ومباءة، وهذه صيغة أمر، والمراد بها التهديد، والوعيد. وقيل: معناها الدعاء: أي بوّأه الله ذلك. وقيل: معناها الإخبار بوقوع العذاب به في نار جهنّم، وكذلك القول في حديث عليّ -رضي الله عنه- الذي قال فيه: "يلج النار". وقد روى أبو بكر البزّار هذا الحديث، وزاد: ليُضلّ به"، وقد اغترّ بهذه الزيادة ممن يقصد الخير، ولا يعرفه، فظنّ أن هذا الوعيد إنما يتناول من قصد الإضلال بالكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأما من قصد الترغيب في الأعمال الصالحة، وتقوية مذاهب أهل السنّة، فلا يتناوله، فوضع الأحاديث لذلك، وهذه جهالة؛ لأن هذه الزيادة تُروى عن الأعمش، ولا تصحّ عنه، وليست معروفة عند نَقَلَة ذلك الحديث مع شهرته، وقد رواها أبو عبد الله الحاكم المعروف بابن الْبَيّع من طرق كثيرة، وقال: إنها واهية، لا يصحّ منها شيء. ولو صحّت لما كان لها دليل خطاب، وإنما تكون تأكيدًا لقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} ¬

_ (¬1) "شرح النووي" 1/ 69.

[الأنعام: 144]، وافتراء الكذب علي الله محرّم مطلقًا، قُصد به الإضلال، أو لم يُقصد. قاله الطحاويّ. ولأن وضعَ الخبر الذي يُقصد به الترغيب كذب على الله تعالى في وضع الأحكام، فإن المندوب قسم من أقسام الأحكام الشرعيّة، وإخبار عن أن الله تعالى وَعَدَ على ذلك العمل بذلك الثواب، فكلّ ذلك كذبٌ، وافتراء على الله تعالى، فيتناوله عموم قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام: 144]. وقد استجاز بعض فقهاء العراق نسبةَ الحكم الذي دلّ عليه القياس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نسبة قوليّة، وحكاية نقليّةً، فيقول في ذلك: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا وكذا، ولذلك ترى كتبهم مشحونةً بأحاديث مرفوعة، تشهد متونها بأنها موضوعة؟ لأنها تُشبه فتاوى الفقهاء، ولا تَليق بجزالة سيد الأنبياء -صلى الله عليه وسلم- مع أنهم لا يُقيمون لها صحيح سند، ولا يُسندونها من أئمة النقل إلى كبير أحد، فهؤلاء قد خالفوا ذلك النهي الأكيد، وشملهم ذلك الذمّ والوعيد، ولا شكّ في أن تكذيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كفرٌ، وأما الكذب عليه، فإن كان ذلك الكاذب مستحلّا لذلك، فهو كافر، وإن كان غير مستحلّ، فهو مرتكب كبيرة، وهل يَكفُرُ أم لا؟ اختُلف فيه، انتهى كلام القرطبيّ. رحمه الله تعالى. انتهى (¬1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- هذا صحيحٌ. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده شريك بن عبد الله النخعي، وقد تكلّموا فيه -كما سبق بيانه في ترجمته-؟. [قلت]: لم ينفرد شريك به، بل تابعه عليه غيره، فقد أخرجه الحميديّ في ¬

_ (¬1) "المفهم" 1/ 115.

"مسنده" رقم (88)، والترمذيّ رقم (2658) من طريق سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه -رضي الله عنه-، وأيضًا فمتن الحديث متواترٌ كما سيأتي بيان ذلك قريبًا -إن شاء الله تعالى-. والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في بيان موضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه: أخرجه (المصنف) هنا (4/ 30) بالسند المذكور، وأخرجه (أبو داود) (5118) عن محمد بن بشار، عن أبي عامر العقديّ، عن سفيان الثوريّ- و (الترمذيّ) (2257) عن محمود بن غيلان، عن أبي داود الطيالسيّ، عن شعبة- و (النسائيّ) في "الكبرى" (¬1) عن عمرو بن عليّ الفلّاس، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو، عن سفيان- كلهم سماك ابن حرب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه. وأخرجه (أحمد) 1/ 389 و 393 و401 و 436 و449، وابن أبي شيبة في "مصنّفه" 8/ 759 والطحاويّ 1/ 213. والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو التغليظ في تعمّد الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنه فاحشة عظيمة، وموبقة كبيرة، واختُلف هل يكفر به أم لا؟ وسيأتي تحقيق القول في ذلك، إن شاء الله تعالى. 2 - (ومنها): أن فيه تثبيت القاعدة السابقة، وهي أن الكذب يتناول إخبار العامد والساهي عن الشيء بخلاف ما هو، وأن الوعيد إنما يتعلق بالعمد فقط. 3 - (ومنها): أنه لا فرق في تحريم الكذب عليه -صلى الله عليه وسلم- بين ما كان في الأحكام، وما كان في غير الأحكام، كالترغيب، والترهيب، والمواعظ، وغير ذلك، فكلّه حرام من أكبر الكبائر، وأقبح القبائح بإجماع المسلمين الذين يُعتد بهم في الإجماع، وخالف في ذلك الكرّاميّة الطائفة المبتدعة في زعمهم الباطل أنه يجوز وضع الحديث في الترغيب ¬

_ (¬1) أخرجه في "كتاب الزينة" 5/ 511 رقم 9828.

والترهيب، وسيأتي تفنيد هذا الزعم الباطل قريبًا، إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الرابعة): في بيان عِظَم هذا الحديث، وقوّة درجته: (اعلم): أن هذا الحديث حديث عظيم في نهاية من الصحّة، وقيل: إنه متواتر، ذكر أبو بكر البزار في "مسنده" أنه رواه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نحو من أربعين نفسا من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. وحكى الإمام أبو بكر الصيرفي في "شرحه لرسالة الشافعيّ" رحمهما الله أنه رُوي عن أكثر من ستين صحابيا مرفوعا. وذكر أبو القاسم عبد الرحمن بن منده عدد من رواه، فبلغ بهم سبعة وثمانين، ثم قال: وغيرهم. وذكر بعض الحفاظ أنه رُوي عن اثنين وستين صحابيا، وفيهم العشرة المشهود لهم بالجنة، قال: ولا يُعرف حديث اجتمع على روايته العشرة إلا هذا، ولا حديث يُروَى عن أكثر من ستين صحابيا إلا هذا، وقال بعضهم: رواه مائتان من الصحابة، ثم لم يزل في ازدياد. وقد اتفق البخاري ومسلم على إخراجه في "صحيحهما" من حديث عليّ، والزبير، وأنس، وأبي هريرة، وغيرهم رضي الله تعالى عنهم، وأما إيراد أبي عبد الله الحميدى صاحب "الجمع بين الصحيحين" حديث أنس -رضي الله عنه- في أفراد مسلم فليس بصواب، فقد اتفقا عليه. والله أعلم. انتهى كلام النوويّ. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "ولا يُعرف حديث اجتمع عليه العشرة الخ" هذا فيه نظر، فقد ردّه جماعة من العلماء، منهم الحافظ العراقيّ، قال: وليس كذلك، فقد ذكر الحاكم والبيهقيّ أن حديث رفع اليدين في الصلاة رواه العشرة، وقالا: ليس حديثٌ رواه العشرة غيره، وذكر أبو القاسم بن منده أن حديث المسح على الخفّين رواه العشرة أيضًا. وإلى هذا أشرت في نظمي "الجليس الأمين" بقولي: وَمَن يَقُلْ مَا اجْتَمَعَ الْعَشَرَةُ ... إِلَّا عَلَى ذَا رَدَّهُ جَمَاعَةُ إِذْ عَنْهُمُ رَفْعُ الْيَدَيْنِ وَارِدُ ... كَذَاكَ مَسْحُ الخُفِّ خُذْ يَا رَاشِدُ وقوله: "رواه مائتان" تعقّبه الحافظ العراقيّ رحمه الله تعالى، وقال: وأنا أستبعد

وقوع ذلك. وقال الحافظ السخاويّ رحمه الله تعالى: ولعله سبق قلم من مائة. قال العراقيّ: وليس التواتر في هذا المتن بعينه، وإنما هو في مطلق الكذب، والخاصّ بهذا المتن رواية بضعة وسبعين صحابيّا، ثم ساقهم، فقال: العشرة المشهود لهم بالجنة، أسامة (قا)، أنس بن مالك (خ م)، أوس بن أوس (طب)، البراء بن عازب (طب)، بريدة (عد)، جابر بن حابس، (مع) جابر بن عبد الله (م)، حذيفة بن أسد (طب)، حذيفة بن اليمان (طب)، خالد بن عرفُطَة (حم)، رافع بن خديج (طب)، زيد ابن أرقم (حم)، زيد بن ثابت (خل)، السائب بن يزيد (طب)، سعد بن المدحاس (خل)، سفينة (عد)، سليمان بن خالد الخزاعي (قط)، سلمان الفارسي (قط)، سلمة بن الأكوع (خ)، صهيب بن سنان (طب)، عبد الله بن أبي أوفى (قا)، عبد الله بن زغب (نع)، ابن الزبير (قط)، ابن عباس (طب)، ابن عمر (حم)، ابن عمرو (خ)، ابن مسعود (ت ن)، عتبة بن غزوان (طب)، الْعُرْس بن عَمِيرة (طب)، عفان بن حبيب (ك)، عقبة بن عامر (حم)، عمار بن ياسر (طب)، عمران بن حصين (ن)، عمرو بن حريث (طب)، عمرو بن عبسة (طب)، عمرو بن عوف (طب)، عمرو بن مرّة الجهني (طب)، قيس بن سعد بن عبادة (حم)، كعب بن قطبة (خل)، معاذ بن جبل (طب)، معاوية بن حيدة (خل)، معاوية بن أبي سفيان (حم)، المغيرة بن شعبة (نع)، المنقع التميمي (خل)، نبيط بن شريط (طب)، واثلة ابن الأسقع (عد)، يزيد بن أسد (قط)، يعلى بن مرة (مي)، أبو أمامة (طب)، أبو الحمراء (طب)، أبو ذر (قط)، أبو رمثة (قط)، أبو سعيد الخدري (حم)، أبو قتادة (هـ)، أبو قرصافة (عد)، أبو كبشة الأنماري (خل)، أبو موسى الأشعري (طب)، أبو موسى الغافقي (حم)، أبو ميمون الكردي (طب)، أبو هريرة (هـ)، والدأبي العشراء الدارمي (خل)، والدأبي مالك الأشجعي (بز)، عائشة (قط)، أم أيمن (قط). قال: وقد أعلمت على كل واحد رمز من أخرج حديثه من الأئمة "حم" لأحمد في "مسنده"، و"طب" للطبراني و"قط" للدارقطني، و"عد" لابن عدي في "الكامل"،

و"بز" لمسند البزار، و"قا" لابن قانع في "معجمه"، و"خل" للحافظ يوسف بن خليل في كتابه الذي جمع فيه طرق هذا الحديث، و"نع" لأبي نعيم، و"مي" لمسند الدارمي، و"ك" لمستدرك الحاكم، و"ت" للترمذي، و"ن" للنسائي، و"خ م " للبخاري ومسلم. انتهى. وقد ذكر ابن الجوزيّ رحمه الله تعالى أنه روي عن ثمانية وتسعين من الصحابة، وقد نظمت ما قاله ابن الجوزيّ في كتابي "تذكرة الطالبين"، فقلت: وَقَدْ تَوَاتَرَ حَدِيثُ مَنْ كَذَبْ ... عَنْ عِدَّةٍ مِنَ الصِّحَابِ تُنْتَخَبْ وَوَلَدُ الجوْزِيِّ عَنْ تِسْعِينَ جَا ... مَعَ الثَّمانِيَةِ نِعْمَ مَنْهَجَا فَمِنْهُمُ الْعَشَرَةُ الْبَرَرَةُ ... وَنَجْلُ مَسْعُودٍ صُهَيْبٌ عُقْبَةُ سَلْمَانُ وَالمِقْدَادُ وَابْنُ عُمَر ... عَمْرُو بْنُ عَبْسَةَ وَعُتْبَةُ السَّرِي عُتْبَةُ عَمَّارٌ مُعَاذٌ جُنْدَبُ ... أَبُو قَتَادَةَ أُبَيٌّ يَصْحَبُ وَابْنُ الْيَمانِ جَابرُ (¬1) بْنُ سَمُرَهْ ... وَجَابِرُ بْنُ عَابِسٍ قَدْ ذَكَرَهْ وَابْنُ أُسَيْدٍ وَابْنُ عَمْرٍ وَالْبَرَا ... أَبُو هُرَيْرَةَ وَعِمْرَانُ يُرَى وَرَافِعٌ سَفِينَةٌ مُغِيرَةُ ... زَيْدٌ وَزَيْدٌ (¬2) أَنَسٌ سَلَمَةُ أَبُو سَعِيدٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ كَذَا ... عَمْرٌو وَسَائِبٌ أسَامَةُ احْتَذَا وَنَجْلُ حَيْدَةَ وَنَجْلُ صَخْرِ ... عَمْرٌو وَجَهْجَاهٌ بُرَيْدَةُ ادْرِ وَجُنْدَعٌ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَاثِلَهْ ... كَذَا أَبُو كَبْشَةَ قَيْسٌ نَافِلَهْ وَابْنُ أَبِي أَوْفَى وَعَمْرٌو أَوْسُ ... أَبُو أُمَامَةَ وَسَعْدٌ عُرْسُ وَالأَشعَرِي وَالْغَافِقِي وَالخطْمِي ... كَذَا أَبُو رَافِعِهِمْ وَالتَّيْمِي ¬

_ (¬1) الأول زيد بن ثابت، والثاني زيد بن أرقم. (¬2) أي زيد بن ثابت، وزيد بن أرقم.

جَنْدَرَةٌ وَخَالِدٌ وَطَارِقٌ ... عَمْرٌ وَكَعْبٌ وَنُبَيْطٌ لاَحِقُ يَعْلَى وَمُرَّةُ كَذَا نَجْلُ صُرَدْ ... عَفَّانُ عَبْدُ الله نِعْمَ المُسْتَنَدْ يَزِيدُ وَالمُنْقَعُ وَابْنُ خَالِدِ ... وَابْنُ جَرَادٍ ثُمَّ الازْدِي يَقْتَدِي وَرَجُلٌ مِنْ أَسْلَمِ مَعْ آخَرَا ... قَدْ صَحِبَا النَّبِيَّ نِعْمَ مَتْجَرَا عَائِشَةٌ وَحَفْصَةٌ قَدْ رَوَتَا ... لأُمِّ أَيْمَنَ كَذَاكَ ثَبَتَا وَوَلَدُ الجوْزِيِّ قَدْ أَسْنَدَ مَا ... لِهُؤلاءِ مِنْ أَحَادِيثَ انْتَمَى وَقَالَ قَدْ رَوَاهُ أَيْضًا مَالِكُ ... سَهْلٌ مُعَاذٌ وَحَبِيبٌ سَالِكُ كَذَا أَبُو بَكْرَةَ سَهْلٌ سَبْرَةُ ... كَذَا أَبُو هِنْدٍ رَوَى وَخَوْلَةُ النَّوَوِي عَنْ مِائَتَيْنِ وَارِدُ ... عَبْدُ الرَّحِيمِ قَالَ ذَا مُسْتَبْعَدُ والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الخامسة): في حكم الكذب في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اعلم): أن الكذب عليه -صلى الله عليه وسلم- حرام بالإجماع مطلقًا (¬1)، وأنه فاحشة عظيمة، وموبقة كبيرة، ولكن لا يكفر بهذا الكذب، إلا أن يستحله، هذا هو المشهور من مذاهب العلماء من الطوائف، وقال الشيخ أبو محمد الجويني، والد إمام الحرمين أبي المعالى، من أئمة الشافعية يكفر بتعمد الكذب عليه -صلى الله عليه وسلم-، حكى إمام الحرمين عن والده هذا المذهب، وأنه كان يقول في درسه كثيرا: من كَذَب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمدا كفر، وأريق دمه، وضعف إمام الحرمين هذا القول، وقال: إنه لم يره لأحد من الأصحاب، وإنه هفوة عظيمة، والصواب ما قدمناه عن الجمهور. ذكره النوويّ في "شرحه" لهذا الكتاب (¬2). وقال الإمام النوويّ أيضًا: لا فرق في تحريم الكذب عليه -صلى الله عليه وسلم- بين ما كان في الأحكام، وما لا حكم فيه، كالترغيب والترهيب، والمواعظ، وغير ذلك، فكله حرام ¬

_ (¬1) أي سواء كان في التحليل والتحريم، أو في الفضائل والترغيب والترهيب، أو في غيرها. (¬2) "شرح مسلم" 1/ 69.

من أكبر الكبائر، وأقبح القبائح بإجماع المسلمين، الذين يُعتَدُّ بهم في الإجماع، خلافا للكرامية الطائفة المبتدعة، في زعمهم الباطل أنه يجوز وضع الحديث في الترغيب والترهيب، وتابعهم على هذا كثيرون من الجهلة، الذين ينسبون أنفسهم إلى الزهد، أو ينسبهم جهلة مثلهم، وشُبهةُ زعمهم الباطل أنه جاء في رواية: "من كذب عليّ متعمدا -ليضل به الناس- فليتبوأ مقعده من النار"، وزعم بعضهم أن هذا كَذِبٌ له عليه الصلاة والسلام، لا كذب عليه، وهذا الذي انتحلوه، وفعلوه واستدلوا به غاية الجهالة، ونهاية الغفلة، وأدل الدلائل على بُعْدِهم من معرفة شيء من قواعد الشرع، وقد جمعوا فيه جُمَلًا من الأغاليط اللائقة بعقولهم السخيفة، وأذهانهم البعيدة الفاسدة، فخالفوا قول الله عز وجل: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] وخالفوا صريح هذه الأحاديث المتواترة، والأحاديث الصريحة المشهورة في إعظام شهادة الزور، وخالفوا إجماع أهل الْحَلّ والْعَقْد، وغير ذلك من الدلائل القطعيات، في تحريم الكذب على آحاد الناس، فكيف بمن قوله شرعٌ، وكلامه وَحْيٌ، وإذا نُظِر في قولهم وُجِد كذبا على الله تعالى، قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]. ومن أعجب الأشياء قولهم: هذا كذب له، وهذا جهل منهم بلسان العرب، وخطاب الشرع، فإن كل ذلك عندهم كذب عليه. وأما الحديث الذي تعلقوا به، فأجاب العلماء عنه بأجوبة: أحسنها، وأخصرها، أن قوله: "ليضل الناس" زيادة باطلة، اتفق الحفاظ على إبطالها، وأنها لا تعرف صحيحة بحال. الثاني: جواب أبي جعفر الطحاوى أنها لو صحت لكانت للتأكيد، كقول الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ} [الأنعام: 144]. الثالث: أن اللام في "ليضل" ليست لام التعليل، بل هي لام الصيرورة والعاقبة، معناه أن عاقبة كذبه، ومصيره إلى الإضلال به، كقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ

آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، ونظائره في القرآن، وكلام العرب أكثر من أن يُحصَر، وعلى هذا يكون معناه: فقد يصير أمر كذبه إضلالًا. وعلى الجملة مذهبهم أَرَكّ من أن يُعتنَى بإيراده، وأبعد من أن يُهتَمَّ بإبعاده، وأفسدُ من أن يُحتاج إلى إفساده. قاله النوويّ رحمه الله تعالى (¬1). وقال العلّامة ابن عراق رحمه الله تعالى: أجمع المسلمون -كما قال النوويّ رحمه الله تعالى- الذين يُعتد بهم على تحريم تعمّد الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعلى أنه من الكبائر؛ لخبر: "من كذب عليّ، متعمّدًا، فليتبوّأ مقعده من النار"، بل بالغ الشيخ أبو محمد الجوينيّ، فكفّر به. ونقل الحافظ ابن كثير عن أبي الفضل الهمدانيّ، شيخ ابن عقيل من الحنابلة أنه وافق الجوينيّ على هذه المقالة. وقال الحافظ الذهبيّ في "كتاب الكبائر" له: ولا ريب أن تعمّد الكذب على الله تعالى، وعلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تحريم حلال، أو تحليل حرام كفر محض، وإنما الشأن في الكذب عليهما فيما سوى ذلك. والله تعالى أعلم. وقد جَوّزت الكرّاميّة، وبعض المتصوّفة، كما قال الحافظ ابن حجر الكذب، قال الغزاليّ: وهذا من نزغات الشيطان، ففي الصدق مندوحة عن الكذب، وفيما ذكر الله تعالى، ورسوله -صلى الله عليه وسلم- غُنية عن الاختراع في الوعظ. وقد أولوا حديث: "من كذب عليّ، متعمدًا الخ" بتأويلات باطلة: [أحدها]: أن ذلك إنما ورد في رجل معيّن، ذهب إلى قوم، وادّعى أنه رسول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم، يحكم في دمائهم، وأموالهم، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأمر بقتله، وقال: "من كذب عليّ ... " الحديث (¬2). ¬

_ (¬1) "شرح صحيح مسلم" 1/ 70 - 71. (¬2) رواه الطبراني في "الأوسط" من حديث عبد الله بن عمرو، وفيه أنه بعث أبا بكر وعمر ليقتلاه، فإن وجداه قد مات فليحرّقاه بالنار، فوجداه قد مات من لدغة حيّة، فحرقاه بالنار. وروى ابن عديّ في "الكامل" عن بُريدة، قال: كان حيّ من بني ليث =

[الثاني]: أنه في حقّ من كذب عليه يقصد به عيبه، أو شين الإسلام، وتعلّقوا في ذلك بما روي عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "من كذب عليّ، متعمّدًا، فليتبوّأ مقعده بين عيني جهنم"، قال: فشقّ ذلك على أصحابه، حتى عرف في وجوههم، وقالوا: يا رسول الله، قلت هذا، ونحن نسمع منك الحديث، فنزيد، وننقص، ونقدّم، ونؤخّر، فقال: لم أعنِ ذلك، ولكن عنَيتُ من كذب عليّ، يريد عيبي، وشين الإسلام. [الثالث]: أنه إذا كان الكذب في الترغيب والترهيب، فإنه كذب للنبيّ -صلى الله عليه وسلم-، لا عليه. [الرابع]: أنه ورد في بعض طرق الحديث: "من كذب عليّ متعمّدًا؛ ليضلّ به الناس، فليتبوّأ مقعده من النار"، فتُحمل الروايات المطلقة عليه. [والجواب عن هذه الشُّبَه ما يلي]: أما شبهتهم الأولى، فجوابها أن السبب المذكور لم يثبت إسناده، وبتقدير ثبوته، فإن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. وأما الشبهة الثانية: فجوابها أن الحديث باطل، كما قاله الحاكم، ففي إسناده محمد ابن الفضل بن عطيّة، اتّفقوا على تكذيبه، وقال صالح جزرة: كان يضع الحديث. وأما الشبهة الثالثة: فجوابها أنه كذب عليه في وضع الأحكام، فإن المندوب قسم ¬

_ = على ميل من المدينة، وكان رجل خطب منهم في الجاهليّة، فلم يزوّجوه، فأتاهم، وعليه حلّة، فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كساني هذه، وأمرني أن أحكم في أموالكم، ودمائكم، ثم نزل علي تلك المرأة التي كان خطبها، فأرسل القوم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: كذب عدوّ الله، ثم أرسل رجلًا، فقال: إن وجدته حيّا فاضرب عنقه، وإن وجدته ميتًا، فاحرقه، فجاء، فوجده قد لدغته أفعى، فمات، فحرقه بالنار، فذلك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كذب عليّ متعمدًا ... " الحديث.

منها، وفيه الإخبار عن الله عز وجل في الوعد على ذلك العمل بذلك الثواب. وأما الشبهة الرابعة: فجوابها أن أئمة الحديث اتّفقوا على أن زيادة: "ليضلّ به الناس" ضعيفة، وبتقدير صحتها لا تعلّق لهم بها؛ لأن اللام في قوله: "ليضلّ" لام العاقبة، لا لام التعليل، أو هي للتأكيد، ولا مفهوم لها، وعلى هذين الوجهين خُرّج قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 144] الآية؛ لأن افتراء الكذب على الله تعالى محرّم مطلقًا، سواء قُصد به الإضلال أم لا. انتهى كلام ابن عراق رحمه الله تعالى (¬1). وإلى هذا كلّه أشرت في منظومتي "تذكرة الطالبين"، فقلت: وَرَابِعُ الأَصْنَافِ قَوْمٌ نُسِبُوا ... للِزُّهْدِ جَاهِلِينَ ذَاكَ ارْتَكَبُوا قَدْ وَضَعُوا الحدِيثَ في التَّرغيبِ ... لِلنَّاسِ في الخيْرِ وَللتَّرْهِيبِ وَمَنْ يَرَى جَوَازَ ذَا فَإِنَّهُ ... قَدْ غَرَّهُ الشَّيْطَانُ مُرْدِيًا فَانْبِذَنَّهُ لأَنَّ في السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ ... غِنًى عَنِ اخْتِلاقِ ذَا الْكَذَّابِ وَخَالَفْوا إِجْمَاعَ أَهْلِ المْلَّةِ ... في حُرْمَةِ الْكِذْبِ عَلَى ذِي السُّنَّةِ وَأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ الَّتِي ... تُرْدِي بِأَهْلِهَا إِلَى الهاوِيَةِ وَبَالَغَ الشَّيخُ أَبُو مُحَمِّدِ ... مُكَفِّرًا بِهِ لِهَذَ المُعْتَدِي وَالهمَذَانِيُّ لَهُ مُوَافِقُ ... وَالذَّهَبِيُّ لهُمَا يُرَافِقُ إِنْ حَرَّمَ الحلاَلَ أَوْ بِضِدِّهِ ... وَإِنَّمَا الشَّأْنُ يِجِي في غَيْرهِ وَمَنْ يَقُلْ مُؤِّلًا لـ "مَنْ كَذَبْ" ... في رَجُلٍ مُعَيَّنٍ فَقَدْ كَذَبْ أَوْ حَقِّ مَنْ قَدِ افتَرَى يَقْصِدُ بِهْ ... عَيبًا لَهُ أَوْ شَيْنَ الإسْلاَمِ النَّبِهْ فَكُلُّ مَا قَالُوهُ فَهْوَ بَاطلُ ... وَلَوْ تُرَى صِحَّته يُؤَوَّلُ ¬

_ (¬1) راجع "تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة" 1/ 12 - 13.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في قبول توبة من كذب في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: (اعلم): أن من كذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمدا في حديث واحد فَسَقَ، ورُدّت رواياته كلها، وبطل الاحتجاج بجميعها، فلو تاب، وحسنت توبته، فقد قال جماعة من العلماء منهم: أحمد بن حنبل، وأبو بكر الحميدي، شيخ البخاري، وصاحب الشافعي، وأبو بكر الصيرفي من فقهاء الشافعية، وأصحاب الوجوه منهم، ومتقدميهم في الأصول والفروع: لا تؤثر توبته في ذلك، ولا تُقبل روايته أبدا، بل يُحتم جرحه دائما، وأطلق الصيرفي، وقال: كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب وجدناه عليه لم نعد لقبوله بتوبة تظهر، ومن ضعفنا نقله لم نجعله قويا بعد ذلك، قال: وذلك مما افترقت فيه الرواية والشهادة. ولم أر دليلا لمذهب هؤلاء، ويجوز أن يوجه بأن ذلك جعل تغليظا، وزجرا بليغا عن الكذب عليه -صلى الله عليه وسلم-؛ لعظم مفسدته، فإنه يصير شرعا مستمرا إلى يوم القيامة، بخلاف الكذب على غيره والشهادة، فإن مفسدتهما قاصرة، ليست عامة. قال النوويّ رحمه الله تعالى: وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة ضعيف، مخالف للقواعد الشرعية، والمختار القطع بصحته توبته في هذا، وقبول رواياته بعدها، إذا صحت توبته بشروطها المعروفة، وهي: الإقلاع عن المعصية، والندم على فعلها، والعزم على أن لا يعود إليها، فهذا هو الجاري على قواعد الشرع، وقد أجمعوا على صحة رواية من كان كافرا فأسلم، وأكثر الصحابة كانوا بهذه الصفة، وأجمعوا على قبول شهادته، ولا فرق بين الشهادة والرواية في هذا. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى في شرحه لهذا الكتاب. وقال في "التدريب شرح التقريب" 1/ 330: تقبل رواية التائب من الفسق، ومن الكذب في غير الحديث النبوي، كشهادته؛ للآيات، والأحاديث الدالة على ذلك، إلا الكذب في أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلا تقبل رواية التائب منه أبدا، وإن حسنت

طريقته، كذا قاله أحمد بن حنبل، وأبو بكر الحميدي شيخ البخاري، وأبو بكر الصيرفي الشافعي، بل قال الصيرفي، زيادة على ذلك في "شرح الرسالة": كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب وجدناه عليه، لم نَعُد لقبوله بتوبة تظهر، ومن ضعفناه لم نُقَوِّهَ بعده، بخلاف الشهادة، قال النوويّ: ويجوز أن يُوَجَّهَ بأن ذلك جُعِل تغليظا عليه، وزجرا بليغا عن الكذب عليه -صلى الله عليه وسلم-؛ لِعِظَم مفسدته، فإنه يصير شرعا مستمرا إلى يوم القيامة، بخلاف الكذب على غيره، والشهادةِ، فإن مفسدتهما قاصرة ليست عامة. وقال أبو المظفر السمعاني: مَنْ كَذَبَ في خبر واحد وجب إسقاط ما تقدم من حديثه، قال ابن الصلاح: وهذا يضاهي من حيث المعنى ما ذكره الصيرفي، قال النوويّ: هذا كله مخالف لقاعدة مذهبنا، ومذهب غيرنا، ولا نُقَوِّى الفرقَ بينه وبين الشهادة، وكذا قال في شرح مسلم: المختار القطع بصحة توبته، وقبول روايته كشهادته، كالكافر إذا أسلم. قال السيوطيّ: وأنا أقول: إن كانت الإشارة في قوله: "هذا كله" لقول أحمد، والصيرفي، والسمعاني، فلا -والله- ما هو بمخالف، ولا بعيد، والحق ما قاله الإمام أحمد؛ تغليظا وزجرا، وإن كانت لقول الصيرفي بناءً على أن قوله: "بكذب" عامٌّ في الكذب في الحديث وغيره، فقد أجاب عنه العراقي بأن مراد الصيرفي ما قاله أحمد، أي في الحديث، لا مطلقا، بدليل قوله: "من أهل النقل"، وتقييده بالمحدِّث في قوله أيضا في "شرح الرسالة": وليس يُطعَن على المحدث، إلا أن يقول: تعمدت الكذب، فهو كاذب في الأول، ولا يقبل خبره بعد ذلك. انتهى. وقولُهُ: ومن ضعفناه، أي بالكذب، فانتظم مع قول أحمد. وقد وجدتُّ في الفقه فرعين يشهدان لما قاله الصيرفي والسمعاني، فذكروا في "باب اللعان" أن الزاني إذا تاب، وحسنت توبته لا يعود محصنا، ولا يُحَدُّ قاذفه بعد ذلك؛ لبقاء ثلمة عرضه، فهذا نظير أن الكاذب لا يقبل خبره أبدا، وذكروا أنه لو قُذِفَ، ثم زنى بعد القذف قبل أن يُحَدَّ القاذف لم يُحَدّ؛ لأن الله تعالى أجرى العادة أنه لا يَفضَح أحدا من أول مرة، فالظاهر تقدُّمُ زناه قبل ذلك، فلم يحد له القاذف، وكذلك نقول

فيمن تبين كذبه: الظاهر تكرر ذلك منه، حتى ظهر لنا، ولم يتعين لنا ذلك فيما رَوَى من حديثه، فوجب إسقاط الكل، وهذا واضح بلا شك، ولم أَرَ أحدا تنبّه لما حررته -ولله الحمد-. وإلى هذا أشار السيوطي رحمه الله تعالى في "ألفية الحديث" بقوله: وَمَنْ يَتُبْ عَنْ فِسْقِهِ فَلْيُقْبَلِ ... أَوْ كَذِبِ الحدِيثِ فَابْنُ حَنْبلِ وَالصَّيْرَفيُّ وَالحُمَيدِيُّ أَبوْا ... قَبُولَهُ مُؤَبَّدًا ثُمَّ نَأَوْا عنْ كُلِّ مَا مِن قَبْلِ ذَا رَوَاهُ ... وَالنَّوَوِيُّ كُلَّ ذَا أباهُ وَمَا رَآهُ الأَوَّلُونَ أَرْجَحُ ... دَلِيلُهُ في شَرْحِنَا مُوَضَّحُ انتهى كلام السيوطيّ رحمه الله تعالى (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قرره السيوطيّ رحمه الله تعالى من ترجيح قول ما ذهب إليه أحمد، والحميديّ، والصيرفيّ، والسمعانيّ من عدم قبول توبة الكاذب في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تغليظًا، وزجرًا هو الصواب عنديّ، لوضوح حجته، كما حققه هو رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة السابعة): في حكم رواية الحديث الموضوع: قال في "تدريب الراوي": ما حاصله: تحرم رواية الموضوع مع العلم بوضعه، وكذا مع الظنّ مطلقًا، في أي معنى كان، سواء الأحكام، والقِصص، والترغيب، وغيرها، إلا مقرونًا ببيان وضعه، لما رواه مسلم في "صحيحه" من حديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: "من حدّث عنّي بحديث يُرى أنه كذبٌ، فهو أحد الكاذبين". وقوله: "يُرى" بضم الياء بمعنى يظنّ، وفي "الكاذبين" روايتان، فتح الموحدة، على إرادة التثنية، وكسرها على إرادة الجمع. ¬

_ (¬1) راجع "التدريب" 1/ 329 - 331.

وقال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه": يحرم رواية الحديث الموضوع على من عرف كونه موضوعا، أو غلب على ظنه وضعه، فمن رَوَى حديثا عَلِم، أو ظن وضعه، ولم يُبَيِّن حال روايته وضعه، فهو داخل في هذا الوعيد، مندرج في جملة الكاذبين على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويدل أيضا الحديث السابق: "من حدث عنى بحديث يُرَى أنه كذب فهو أحد الكاذبين". انتهى (¬1). وإلى هذا أشرت في منظومتي المذكورة، حيث قلت: وَالخبَرُ الموْضُوعُ يَحْرُمُ لِمَنْ ... يَعْلَمُ أَوْ يَظُنُّ أنَّهُ وهَنْ بِسَنَدٍ أَوْ لاَ لأيِّ مَعْنَى ... إِلَّا إِذَا بَيَّنَهُ فَأَغْنَى والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الثامنة): في كيفيّة رواية الحديث: (اعلم): أنه ينبغي -كما قال العلماء رحمهم الله تعالى- لمن أراد رواية حديث، أو ذكره أن ينظر، فإن كان صحيحا أو حسنا، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا، أو فعله، أو نحو ذلك من صيغ الجزم، وإن كان ضعيفا، فلا يَقُل: قال، أو فعل، أو أمر، أو نهى، وشِبْهَ ذلك من صيغ الجزم، بل يقول: رُوي عنه كذا، أو جاء عنه كذا، أو يُروَى، أو يُذكَر، أو يُحكَى، أو يقال، أو بلغنا، وما أشبه ذلك. قاله النووي رحمه الله تعالي في "شرحه" (¬2). وإلى هذه القاعدة أشار السيوطيّ رحمه الله تعالى في "ألفيّة الحديث"، حيث، قال: ومَنْ رَوَى مَتْنًا صَحِيحًا يَجزِمُ ... أَوْ وَاهيًا أَوْ حَالُهُ لاَ يُعْلمْ مِن غَيْرِ مَا إِسنَادِهِ يُمَرِّضُ ... وَتَرْكَهُ بَيَانَ ضُعْفٍ قدْ رَضُوا في الْوَعْظِ أَوْ فَضَائِلِ الأَعْمَالِ ... لاَ الْعَقْدِ وَالحرَامِ والحلاَلِ ¬

_ (¬1) "شرح مسلم" 1/ 71. (¬2) "شرح مسلم" 1/ 71.

وَلاَ إِذَا يَشْتَدُّ ضُعْفٌ ثُمَّ مَنْ ... ضُعْفًا رَأَى في سَنَدٍ وَرَامَ أَنْ يَقُولَ في المتْنِ صَحِيحٌ قَيَّدَا ... بِسَنَدٍ خَوْفَ مَجِيءِ أَجْوَدَا والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة التاسعة): فيما يلزم الحديثيّ من تعلّم علم النحو ونحوه: (اعلم): أنه ينبغي لقاريء الحديث أن يعرف من النحو، واللغة، وأسماء الرجال، ما يسلم به من قوله ما لم يُقَل، وإذا صح في الرواية ما يَعلَم أنه خطأ، فالصواب الذي علي الجماهير من السلف والخلف، أنه يرويه على الصواب، ولا يغيره في الكتاب، لكن يكتب في الحاشية، أنه وقع في الرواية كذا، وأن الصواب خلافه كذا، ويقول عند الرواية: كذا وقع في هذا الحديث، أو في روايتنا، والصواب كذا، فهذا أجمعُ للمصلحة، فقد يعتقده خطأ، ويكون له وجه يَعرِفه غيره، ولو فُتِح باب تغير الكتاب، لتجاسر علي غير أهله. قاله النوويّ رحمه الله تعالى. وقال في "التدريب": ينبغي للشيخ أن لا يروي حديثه بقراءة لحان أو مصحف، فقد قال الأصمعي: إن أخوف ما أخاف على طالب العلم، إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من كَذَب علي فليتبوأ مقعده من النار"؛ لأنه لم يكن يَلحَن، فمهما رَوَيتَ عنه، ولحنت فيه كذبت عليه. وشكا سيبويه حمادَ بنَ سلمة إلى الخليل، فقال له: سألته عن حديث هشام بن عروة، عن أبيه، في رجل رَعُف، فانتهرني، وقال أخطأت إنما هو رَعَف -بفتح العين- فقال الخليل: صدق، أتلقى بهذا الكلام أبا أسامة؟. وعلى طالب الحديث أن يتعلم من النحو واللغة ما يسلم به من اللحن والتصحيف، رَوَى الخطيب عن شعبة، قال: من طلب الحديث، ولم يبصر العربية، كمثل رجل عليه بُرْنُس، وليس له رأس. ورَوَى أيضا عن حماد بن سلمة قال: مثلُ الذي يطلب الحديث، ولا يعرف النحو مثل الحمار، عليه مِخْلاة ولا شعير فيها. ورَوَى الخليلي في "الإرشاد" عن العباس بن المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: جاء عبد العزيز الدراوردي في جماعة إلى أبي ليَعْرِضُوا عليه كتابا، فقرأ لهم الدراورديُّ، وكان

رديء اللسان يَلْحَن، فقال أبي: ويحك يا دراوردي، أنت كنت إلى إصلاح لسانك قبل النظر في هذا الشأن أحوج منك إلى غير ذلك. وطريقه في السلامة من التصحيف الأخذُ من أفواه أهل المعرفة والتحقيق، والضبط عنهم، لا من بطون الكتب. وإذا وقع في روايته لحن أو تحريف، فقد قال ابن سيرين، وعبد الله بن سخبرة، وأبو معمر، وأبو عبيد القاسم بن سلام، فيما رواه البيهقي عنهما: يرويه على الخطأ كما سمعه، قال ابن الصلاح: وهذا غُلُوّ في اتباع اللفظ، والمنع من الرواية بالمعنى، والصواب، وهو قول الأكثرين، منهم ابن المبارك، والأوزاعي، والشعبي، والقاسم بن محمد، وعطاء، وهمّام، والنضر بن شُميل أنه يرويه على الصواب، لا سيما في اللحن الذي لا يختلف المعنى به، واختار ابن عبد السلام تركَ الخطأ والصواب أيضا، حكاه عنه ابن دقيق العيد، أما الصواب فإنه لم يسمع كذلك، وأما الخطأ فلأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يَقُلْه كذلك. وأما إصلاحه في الكتاب، وتغيير ما وقع فيه، فجوزه بعضهم أيضا، والصواب تقريره في الأصل على حاله، مع التضبيب عليه، وبيان الصواب في الحاشية، فإن ذلك أجمع للمصلحة، وأنفى للمفسدة، وقد يأتي من يَظهَرُ له وجه صحته، ولو فتح باب التغيير لجسر عليه من ليس بأهل، ثم الأولى عند السماع، أن يقرأه أوّلًا على الصواب، ثم يقول: وقع في روايتنا، أو عند شيخنا، أو من طريق فلان كذا، وله أن يقرأ ما في الأصل أوّلًا، ثم يذكر الصواب، وإنما كان الأوّلُ أَوْلَى، كيلا يتقول على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لم يقل، وأحسن الإصلاح أن يكون بما جاء في رواية أخرى، أو حديث آخر، فإن ذكره أمن من التقول المذكور. وإن كان الإصلاح بزيادة الساقط من الأصل، فإن لم يغاير معنى الأصل، فلا بأس بإلحاقه في الأصل من غير تنبيه على سقوطه، بأن يعلم أنه سقط في الكتابة، كلفظة "ابن" في النسب، وكحرف لا يختلف المعنى به، وقد سأل أبو داود أحمدَ بن حنبل،

فقال: وجدت في كتابي حجاج "عن جريج" يجوز لي أن أصلحه ابن جريج؟ قال: أرجو أن يكون هذا لا بأس به. وقيل لمالك: أرأيت حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- يزاد فيه الواو والألف، والمعنى واحد؟ فقال: أرجو أن يكون خفيفا. وإن غاير الساقط معنى ما وقع في الأصل، تأكد الحكم بذكر الأصل، مقرونا بالبيان لما سقط، فإن علم أن بعض الرواة له أسقطه وحده، وأن من فوقه من الرواة أَتَى به فله أيضا أن يُلحقه في نفس الكتاب، مع كلمة "يعني" قبله، كما فعل الخطيب، إذ رَوَى عن أبي عمر بن مهدي، عن المحاملي بسنده إلى عروة، عن عمرة -يعنى عن عائشة- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُدني إليّ رأسه، فأرجله "قال الخطيب: كان في أصل ابن مهدي "عن عمرة قالت: كان"، فألحقنا فيه ذكر عائشة، إذ لم يكن منه بُدّ، وعلمنا أن المحاملي كذلك رواه، وإنما سقط من كتاب شيخنا، وقلنا له ما فيه "يعني"؛ لأن ابن مهدي لم يقل لنا ذلك، قال: وهكذا رأيت غير واحد من شيوخنا يفعل في مثل هذا، ثم رَوَى عن وكيع، قال: أنا أستعين في الحديث بـ "يعني"، هذا إذا عُلم أن شيخه رواه له على الخطأ، فأما إن رواه في كتاب نفسه، وغلب على ظنه أن السقط من كتابه، لا من شيخه، فيتجه حينئذ إصلاحه في كتابه، وفي روايته عند تحديثه كما تقدم عن أبي داود. كما إذا دَرَسَ من كتابه بعضُ الإسناد، أو المتن، بتقطع، أو بَلَلٍ، ونحوه، فإنه يجوز له استدراكه من كتاب غيره، إذا عَرَفَ صحتَهُ، ووثِقَ به، بأن يكون أخذه عن شيخه، وهو ثقة، وسكَنَت نفسه إلى أن ذلك هو الساقط، كذا قال أهل التحقيق، وممن فعله نُعيم بن حماد، ومنعه بعضهم، وإن كان معروفا محفوظا، نقله الخطيب عن أبي محمد بن ماسي، وبيانه حال الرواية أولى، قاله الخطيب. وهكذا الحكم في استثبات الحافظ ما شك فيه، من كتاب غيره من الثقات، أو حفظه، كما رُوي عن أبي عوانة، وأحمد، وغيرهما، ويحسن أن يبين مرتبته، كما فعل يزيد ابن هارون وغيره، ففي "مسند أحمد": حدثنا يزيد بن هارون، أنا عاصم بالكوفة، فلم أكتبه، فسمعت شعبة يحدث به، فعرفته به، عن عاصم، عن عبد الله بن سَرْجِسَ، أن

رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كان إذا سافر قال: "اللهم إني أعوذ بك من وَعْثاء السفر"، وغير "المسند" عن يزيد: أنا عاصم، وثبتني فيه شعبة. فإن بَيّن أصل التثبت من دون من ثَبته فلا بأس، فَعَلَه أبو داود في "سننه" عقب حديث الحكم بن حزن، قال ثَبّتني في شيء منه بعض أصحابنا. وإن وَجَدَ في كتابه كلمةً من غريب العربية، غير مضبوطة، أَشكَلَت عليه، جاز أن يسأل عنها العلماء بها، ويرويها على ما يُخبرونه به، فَعَلَ ذلك أحمد، وإسحق، وغيرهما. ورَوَى الخطيب عن عفّان بن سلمة، أنه كان يجيء إلى الأخفش، وأصحاب النحو، يَعْرِض عليهم نحو الحديث، يُعْرِبه. انتهى ما في "التدريب" ببعض تصرّف. (¬1). وإلى ما تقدّم كلّه أشار السيوطيّ رحمه الله تعالى في "ألفية الحديث"، حيث قال: وَاحْذَرْ مِنَ اللَّحْنِ أَوِ التَّصْحِيفِ ... خَوْفًا مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّحْرِيفِ فَالنَّحْوُ وَاللُّغَاتُ حَقُّ مَنْ طَلَبْ ... وَخُذْ مِنَ الأَفوَاهِ لاَ مِنَ الْكُتُبْ في خَطَإٍ وَلحنِ أَصْل يُرْوَى ... عَلَى الصَّوَابِ مُعْرَبًا في الأَقْوَى ثَالِثُها تَرْكُ كِلَيهَما وَلاَ ... تَمْحُ مِنَ الأَصْلِ عَلَى مَا انْتُخِلاَ تَقْرَأهُ قَدِّمْ مُصْلَحًا في الأَوْلَى ... وَالأَخْذُ مِنْ مَتْنٍ سِوَاهُ أَوْلَى وَإِنْ يَكُ السَّاقِطُ لاَ يُغَيِّر ... كَابْنٍ وَحْرْفٍ زِدْ وَلاَ تَعَسَّرُ كَذَاكَ مَا غَايَرَ حَيْثُ يُعْلَمُ ... إِتْيَانُهُ مِمَّنْ عَلاَ وَأَلْزَمُوا "يَعْنِي" وَمَا يَدْرُسُ في الْكِتَابِ ... مِنْ غَير يُلْحَقُ في الصَّوَابِ كَمَا إِذَا يَشُكُّ وَاسْتَتَثْبَتَ مِنْ ... مُعْتَمَدٍ وَفِيهِمَا نَدْبًا أَبِنْ وَمْنْ عَلَيْهِ كَلَماتٌ تُشْكِلُ ... يَرْوِيَ عَلَى مَا أَوْضَحُوا إِذْ يَسْألُ والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. ¬

_ (¬1) راجع "تدريب الراوي على تقريب النواوي" 2/ 105 - 111.

(المسألة العاشرة): في بيان أدب من يروي الحديث بالمعنى، أو اشتبهت عليه لفظة في الحديث: (اعلم): أنه ينبغي للراوي بالمعنى أن يقول عقبه: "أو كما قال"، "أو نحوه"، "أو شبهه"، أو ما أشبه هذا من الألفاظ، وقد كان قوم من الصحابة يفعلون ذلك، وهم أعلم الناس بمعاني الكلام، خوفا من الزلل؛ لمعرفتهم بما في الرواية بالمعنى من الخطر، فقد روى أحمد، وابن ماجه، والحاكم عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال يوما: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاغر ورقت عيناه، وانتفخت أوداجه، ثم قال: أو مثله، أو نحوه، أو شبيه به. وفي "مسند الدارمي"، و"الكفاية" للخطيب، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أنه كان إذا حدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أو نحوه"، "أو شبهه". وروى أحمد، وابن ماجه، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه كان إذا حدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ففرغ قال: "أو كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". وإذا اشتبهت على القارئ لفظةٌ، فحَسَنٌ أن يقول بعد قراءتها على الشك: "أو كما قال"؛ لتضمنه إجازة من الشيخ، وإذنا في رواية صوابها عنه إذا بان، وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله تعالى بقوله: وَقُلْ أَخِيرًا "أَوْ كَمَا قَالَ" وَمَا ... أَشْبَهَهُ كَالشَّكِّ فِيمَا أُبْهِمَا والله تعالى وليّ التوفيق، وهو الهادي لأقوم طريق. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال: 31 - (حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ عَامِرِ بْنِ زُرَارَةَ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى قَالَا: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ، فَإِنَّ الْكَذِبَ عَلَيَّ يُولجُ النَّارَ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (منصور) بن المعتمر بن عبد الله بن رُبَيِّعة، وقيل: المعتمر بن عَتّاب بن فرقد السُّلَميّ، أبو عَتَّاب الكوفيّ، ثقة ثبت، لا يُدلّس [6]. رَوَى عن أبي وائل، وزيد بن وهب، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري،

وربعي بن حِرَاش، وتميم بن سلمة، وخلقٍ كثير. ورَوَى عنه أيوب، وحصين بن عبد الرحمن، والأعمش، وسليمان التيمي، وهم من أقرانه، والثوري، وشعبة، ومسعر، وشيبان، وزائدة، وشريك النخعيّ، وخلقٌ كثير. قال الآجري عن أبي داود: كان منصور لا يروي إلا عن ثقة. وقال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين -وأبي حاضرٌ - يقول: إذا اجتمع منصور والأعمش، فقَدَّمْ منصورًا. وقال أيضا: سمعت يحيى يقول: منصور أثبت من الحكم، ومنصور من أثبت الناس. وقال أيضا: رأيت في كتاب علي بن المديني -وسئل أيُّ أصحاب إبراهيم أعجب إليك؟ - قال: إذا حدثك عن منصور ثقة، فقد ملأت يديك، ولا تريد غيره. وقال عبدان: سمعت أبا حمزة يقول: دخلت إلى بغداد، فرأيت جميع من بها يُثنِي على منصور. وقال وكيع عن سفيان: إذا جاءت المذاكرة جئنا بكل، وإذا جاء التحصيل جئنا بمنصور. وقال عبد الرزاق: حدث سفيان عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، فقال: هذا الشرف على الكرسي. وقال أبو زرعة عن إبراهيم بن موسى: أثبت أهل الكوفة منصور، ثم مسعر. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن منصور؟ فقال: ثقة. قال: وسئل أبي عن الأعمش ومنصور؟ فقال: الأعمش حافظ يخلط ويدلس، ومنصور أتقن لا يخلط ولا يدلس. وقال العجلي: كوفي ثقة ثبت في الحديث، كان أثبت أهل الكوفة، وكأن حديثه القَدَحُ، لا يَختَلِف فيه أحد، متعبدٌ، رجل صالح، أُكرِه على القضاء شهرين، وكان فيه تشيع قليل، ولم يكن بغال، وكان قد عَمِشَ من البكاء، وصام ستين سنة وقامها، وقالت فتاة لأبيها: يا أبت الأسطُوانة التي كانت في دار منصور ما فعلت؟ قال: يا بُنية ذاكِ منصور، يصلي باليل فمات. قال ابن سعد، وخليفة في آخرين: مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (56) حديثًا. 2 - (رِبْعيّ -بكسر الراء، وسكون الموحّدة- ابن حِرَاش) -بكسر الحاء المهملة،

والراء، آخره شين معجمة -ابن جَحْش -بفتح الجيم، وسكون الراء المهملة، آخره شين معجمة- ابن عمرو بن عبد الله بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بَغِيض ابن رَيث بن غطفان بن سعد بن قيس بن غيلان بن مضر الغطفانيّ العبسيّ -بالموحّدة- أبو مريم الكوفي الأعور العابد الورع، ثقة عابد مخضرم [2]. قَدِمَ الشام، وسمع خطبة عمر بالجابية، وروى عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وأبي موسى، وعمران بن حصين، وحذيفة بن اليمان، وغيرهم من الصحابة، والتابعين. ورَوَى عنه عبد الملك بن عمير وأبو مالك الأشجعي، والشعبي، ونعيم بن أبي هند، ومنصور المعتمر، وغيرهم. قال ابن المديني: بنو حِرَاش ثلاثة: ربعي، وربيع، ومسعود، ولم يُرْوَ عن مسعود شيء، سوى كلامه بعد الموت. يقال: لم يَكذِب كَذْبة قط، وكان له ابنان عاصيان على الحجاج، فقيل للحجاج: إن أباهما لم يكذب قطّ، لو أرسلتَ إليه فسألته عنهما، فأرسل إليه، فقال: هما في البيت، فقال: قد عفونا عنهما لصدقك. وحلف أن لا يضحك حتى يعرِف أين مصيره إلى الجنة أو إلى النار؟ فما ضَحِكَ إلا بعد موته. وله أخوان: مسعود، وهو الذي تكلّم بعد الموت، وربيع، وهو أيضًا حلف أن لا يضحك حتى يعرِف أفي الجنّة أم لا، فقال غاسله: إنه لم يزل مبتسمًا على سريره حتى فرغنا. وقال العجلي: تابعي ثقة، من خيار الناس، وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث صالحة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من عباد أهل الكوفة. قال ابن سعد: تُوُفِّي بعد الجماجم في ولاية الحجاج بن يوسف، وليس له عَقِب. وقال أبو نعيم، وغير واحد: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز. وقال أبو عبيد: مات سنة مائة. وقال ابن نمير: سنة 101. وقال ابن معين وغيره: سنة 104. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (13) حديثًا. 3 - (عليّ) بن أبي طالب -رضي الله عنه- تقدم في 2/ 20، والباقون تقدموا في السند الماضي. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد. 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فمن رجال الأربعة غير النسائيّ. 3 - (ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين. 4 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ على قول من جعل منصورًا من التابعين. 5 - (ومنها): أن ربعي بن حِرَاش، بالحاء المهملة لا يوجد في الأسماء بهذا الضبط غيره، وغير حِرَاش بن مالك، ومن عداهما، فإنه خِراش بالشين المعجمة، وإلى هذا أشار السيوطيّ في "ألفية المصطلح" بقوله: حِرَاشٌ ابْنُ مَالِكٍ كَوَالِدِ ... رِبْعِيٍّ اهْمِلْهُ بِغَيْرِ زَائِدِ و"حراش بن مالك" هذا كان معاصرًا لشعبة، وليست له رواية في الكتب الستّة، وقد اختُلف في ضبطه، فقيل: بالمهملة، وقيل: بالمعجمة، وقيل: "خراش بن بمهملة، وتشديد راء، آخره سين مهملة. ومن اختلف في ضبطه أيضًا "خراش بن أمية" الكعبيّ الخزاعيّ الصحابيّ، فقيل: بالمهملة، وقيل: بالمعجمة. قاله ابن ناصر الدين في "توضيح المشتبه" (¬1). 6 - (ومنها): أن صحابيّه أحد الخلفاء الراشدين، والعشرة المبشّرين بالجنّة، وابن عمّ المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وزوج ابنته، وأبو السبطين، ولقّبه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بأبي تراب -رضي الله عنه والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَن عَلِيٍّ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُوُل الله -صلى الله عليه وسلم- "لَا) ناهية، ولذا جُزم بها قوله ¬

_ (¬1) "توضيح المشتبه" 1/ 160 - 161.

(تَكْذِبُوا عَلَيَّ) قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: صدر هذا الحديث نهيٌ، وعجزه وعيد وشديدٌ. وقال في "الفتح": هو عام في كل كاذب، مطلق في كل نوع من الكذب، ومعناه لا تنسُبُوا الكذب إليّ، ولا مفهوم لقوله: "عليّ"؛ لأنه لا يُتَصَوَّر أن يُكذَب له؛ لنهيه عن مطلق الكذب. وقد اغتر قوم من الجهلة، فوَضعُوا أحاديث في الترغيب والترهيب، وقالوا: نحن لم نكذب عليه، بل فعلنا ذلك لتأييد شريعته، وما دَرَوا أن تقويله -صلى الله عليه وسلم- ما لم يقل يقتضي الكذب على الله تعالى؛ لأنه إثبات حكم من الأحكام الشرعية، سواء كان في الإيجاب أو الندب، وكذا مقابلهما، وهو الحرام والمكروه، ولا يُعْتَدُّ بمن يُخالَف ذلك من الكَرّامية، حيث جوزوا وضع الكذب في الترغيب والترهيب، في تثبيت ما ورد في القرآن والسنة، واحتجوا بأن كذب له لا عليه، وهو جهل باللغة العربية. وتمسك بعضهم بما ورد في بعض طرق الحديث من زيادة لم تثبت، وهي ما أخرجه البزار، من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- بلفظ: "من كذب عليّ ليضل به الناس" الحديث، وقد اختُلِف في وصله وإرساله، ورجح الدارقطني والحاكم إرساله، أخرجه الدارمي من حديث يعلى بن مُرّة بسند ضعيف، وعلى تقدير ثبوته فليست اللام فيه للعلة، بل للصيرورة، كما فُسّر به قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ} الآية [الأنعام: 144]، والمعنى أن مآل أمره إلى الإضلال، أو هو من تخصيص بعض أفراد العموم بالذكر، فلا مفهوم له، كقوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} الآية [آل عمران: 130]، {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} الآية [الأنعام: 151]، فإن قتل الأولاد، ومضاعفة الربا، والإضلال، في هذه الآيات، إنما هو لتأكيد الأمر فيها، لا لاختصاص الحكم. انتهى (¬1). (فَإِنَّ) الفاء للتعليل، لأن (الْكَذِبَ عَلَيَّ يُولجُ النَّارَ) أي يدخل النارَ، برفع الفعل، والجملة خبر "إن"، وهو من وَلَجَ يَلِج وُلُوجًا وِلِجَةً من باب وعَدَ يَعِدُ: إذا دخل. ¬

_ (¬1) "فتح" 1/ 264.

وانتصاب "النار" بتقدير "في"؛ لأن الفعل لازم، وهو من قبيل قولك: دخلتُ الدارَ، والتقدير: دخلت في الدار؛ لأن دخل لازم، واللازم لا يَنصب إلا بالصلة. (¬1). وفي رواية البخاريّ: "فإنه من كذَبَ عليّ فليج النار". قال في "الفتح": قوله: "فليلج النار" جَعَلَ الأمر بالولوج مسببا عن الكذب؛ لأن لازم الأمر الإلزامُ، والإلزامُ بولوج النار سببه الكذب عليه، أو هو بلفظ الأمر، ومعناه الخبر، ويؤيده رواية مسلم من طريق غندر عن شعبة، بلفظ: "من يكذب على يلج النار" انتهى (¬2). قال النوويّ رحمه الله تعالى: معنى الحديث أن هذا جزاؤه، وقد يُجازَى به، وقد يعفو الله الكريم عنه، ولا يُقطَع عليه بدخول النار، وهكذا سبيل كل ما جاء من الوعيد بالنار لأصحاب الكبائر غير الكفر، فكلها يقال فيها: هذا جزاؤه، وقد يجازى، وقد يُعفَى عنه، ثم إن جوزى، وأدخل النار فلا يخلد فيها، بل لابد من خروجه منها بفضل الله تعالى ورحمته، ولا يخلد في النار أحد مات على التوحيد، وهذه قاعدة متفق عليها عند أهل السنة. انتهى (¬3). وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: هذا وعيدٌ شديدٌ عامٌّ في كلّ كاذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومطلق في أنواع الكذب، ولمّا كان كذلك هاب قوم من السلف الحديثَ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كعمر، والزبير بن العوّام، وأنس بن مالك، وابن هرمز رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فإن هؤلاء سمعوا كثيرًا، وحدّثوا قليلًا، كما صرّح الزبير -رضي الله عنه- بذلك لمّا قال له ابنه عبد الله -رضي الله عنه-: إني لا أسمعك تُحدّث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما يحدّث فلان وفلان؟ فقال: أما إني لم أكن أفارقه، ولكنّي سمعته يقول: "من كذب عليّ، فليتبوّأ مقعده من النار" (¬4). وقال أنس -رضي الله عنه-: "إنه ليمنعني أن أُحدّثكم حديثًا ¬

_ (¬1) راجع "عمدة القاري" 2/ 110. (¬2) "فتح" 1/ 264. (¬3) "شرح النوويّ" 1/ 68 - 69. (¬4) راوه البخاريّ برقم (107) وأبو داود برقم (3651).

كثيرًا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كذب عليّ "الحديث (¬1). ومنهم من سمع، وسكت، كعبد الملك بن إياس، وكأن هؤلاء تخوّفوا من إكثار الحديث الوقوعَ في الكذب والغلط، فقلّلوا، أو سكتوا، غير أن الجمهور خصّصوا عموم هذا الحديث، وقيّدوا مُطلقه بالأحاديث التي ذُكر فيها "متعمدًا"، فإنه يُفهم منها أن ذلك الوعيد الشديد إنما يتوجّه لمن تعمّد الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذه الطريقة هي المرضيّة، فإنها تجمع بين مختلفات الأحاديث؛ إذ هي تخصيص العموم، وحملُ المطلق على المقيّد مع اتّحاد الموجَب والموجَب، كما قَرَّرناه في الأصول. هذا مع أن القاعدة الشرعيّة القطعيّة تقتضي أن المخطىء والناسي غير آثمين، ولا مؤاخذين، لا سيّما بعد التحرّز والحذر. انتهى كلام القرطبيّ (¬2)، وهو بحث نفيس جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عليّ -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (4/ 31) عن عبد الله بن عامر بن زُرارة، وإسماعيل بن موسى، جميعًا عن شريك، عن منصور، عن ربعيّ بن حراش، عنه، و (البخاريّ) في (العلم) (1/ 38 رقم 103) عن عليّ بن الجعد، عن شعبة، عن منصور به. و (مسلم) في "المقدمة" (1/ 7) عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن غندر، عن شعبة ح وعن محمد بن المثنى وابن بشار كلاهما عن غندر، عن شعبة به. و (الترمذيّ) في "العلم" (2660) عن إسماعيل بن موسى الفزاريّ، عن شريك بن عبد الله، عن منصور به. و (3715) عن ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2) والترمذيّ (2663). (¬2) "المفهم" 1/ 113.

سفيان بن وكيع، عن أبيه، عن شريك به. والنسائيّ في "الكبرى" في "العلم" (44/ 5911) عن إسماعيل بن منصور، عن خالد الهجيميّ، عن شعبة -وعن محمد بن بشار، عن يحيى القطان، عن شعبة، قال: حدثني منصور، قال: سمعت ربعيّا، سمعت عليّا يقول .... و (أحمد) في "مسند العشرة" 1/ 83 (629) و1/ (1000) عن يحيى القطان، عن شعبة و (1/ 83) عن حسين، عن شعبة به. و (1/ 123) عن حجاج، عن شعبة و (1/ 123) و (1/ 150) عن محمد بن جعفر، عن شعبة به. وأخرجه عبد الله ابن أحمد في زياداته على "المسند" (1/ 130) عن أبي عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عليّ -رضي الله عنه-، وسيأتي برقم (38). وأما فوائده فقد تقدّمت في شرح حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-، ولله الحمد والمنّة، ومنه التوفيق والعصمة، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المّتصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال: 32 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ المِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن كَذَبَ عَلَيَّ -حَسِبْتُهُ قَالَ-: مُتَعَمِّدًا فَلْيَتبَوَّأْ مَقعَدَهُ مِنَ النَّارِ"). رجال هذا الإسناد: أربعة: 1 - (مُحَمَّدُ بْن رُمْحٍ المِصْرِيُّ) التُّجِيبيّ موهم، ثقة ثبتٌ [10] تقدّم في 2/ 15. 2 - (الليث بن سعد) بن عبد الرحمن الفهميّ، أبو الحارث المصريّ الإمام الحجة الثبت الفقيه [7] تقدم في 2/ 15. 3 - (ابن شهاب) هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهريّ، أبو بكر المدنيّ الفقيه الحافظ الحجة المتّفق على جلالته، من رءوس [4] تقدّم 2/ 15. 4 - (أنس بن مالك) بن النضر الأنصاريّ الخزرجيّ الخادم الشهير -رضي الله عنه- تقدّم في 3/ 24. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد، أنه من رباعيّات المصنّف، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، بل من رجال الجماعة، غير شيخه، فقد تفرّد به هو ومسلم، وأن فيه مدنيّان، ومصريّان، وفيه أنس -رضي الله عنه- أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو من المعمّرين، وهو آخر من مات من الصحابة -رضي الله عنه- بالبصرة، مات سنة (2) أو (93) وقد جاوز مائة سنة، والله تعالى أعلم. وأما شرح الحديث فقد تقدّم في أول الباب، وفيه: مسألتان تتعلّقان به: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- هذا متّفق عليه. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (-4/ 32) بالسند المذكور، وأخرجه (أحمد) (3/ 223) و (الترمذيّ) رقم (2661) و (ابن حبان) في "صحيحه" رقم (31) من هذا الوجه. وأخرجه (أحمد) 3/ 98 و (البخاريّ) 1/ 38 و (مسلم) في "المقدّمة" 1/ 7 و (النسائيّ) في "الكبرى" (3/ 457) رقم (5913) من طريق عبد العزيز بن صُهيب، عن أنس -رضي الله عنه-. وأخرجه (ابن أبي شيبة) 8/ 763 و (أحمد) 3/ 116 و 166 و (الدارميّ) رقم (242) و (عبد الله بن أحمد) في زياداته على "المسند" 3/ 278 و (النسائيّ) في "الكبرى" (3/ 458) رقم (5914) من طريق سليمان التيميّ، عن أنس -رضي الله عنه-. وأخرجه (أحمد) 3/ 172 و 203 و 209 و (الدارميّ) رقم (241 و 242) و (عبد الله بن أحمد) في زياداته 3/ 278 و 279 من طريق حمّاد بن أبي سليمان، وعبد العزيز بن رُفيع، وعَتّاب مولى ابن أزهر، وسليمان التيميّ، وقتادة، خمستهم عن أنس -رضي الله عنه-. وأخرجه (أحمد) 3/ 113 من طريق عاصم الأحول، عن أنس -رضي الله عنه-. و (الدارميّ) (244) من طريق محمد بن بشر (¬1) عن أنس -رضي الله عنه-. وأخرجه (أحمد) 3/ 280 من طريق ¬

_ (¬1) هكذا وقع في نسخة "سنن الدارميّ" "محمد بن بشر"، ولعله "محمد بن سرين"، فليُحرّر.

عيسى بن طهمان، عن أنس -رضي الله عنه-. والله تعالى وليّ التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 33 - حَدَّثَنَا أَبو خَيْثَمَةَ، زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" * رجال هذا الإسناد: أربعة: 1 - (أَبو خَيْثَمَةَ، زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) بن شدّاد الحَرَشيّ (¬1) النسائيّ، نزيل بغداد، مولى بني الحَرِيش بن كعب، وكان اسم جده أشتال، فَعُرِّب شدادا، الحافظ الثقة الثبت. رَوَى عن عبد الله بن إدريس، وابن عيينة، وحفص بن غياث، وحميد بن عبد الرحمن الرُّؤَاسِيُّ، وجرير بن عبد الحميد، وابن علية، وعبد الله بن نمير، وعبد الرزاق، وعبدة بن سليمان، وغيرهم. ورَوَى عنه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه، ورَوَى له النسائي بواسطة أحمد بن علي بن سعيد المروزي، وابنُهُ أبو بكر بن أبي خيثمة، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وإبراهيم الحربي، وموسى بن هارون، وغيرهم. قال معاوية بن صالح عن ابن معين: ثقة. وقال علي بن الجنيد عن ابن معين: يكفي قبيلةً. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال يعقوب بن شيبة: زهير أثبت من عبد الله ابن أبي شيبة، وكان في عبد الله تهاون بالحديث، لم يكن يفصل هذه الأشياء -يعني الألفاظ-. وقال جعفر الفريابي: قلت لابن نمير: أيهما أحب إليك؟ فقال: أبو خيثمة، وجعل يُطريه، ويَضَع من أبي بكر. وقال الآجري: قلت لأبي داود: كان أبو خيثمة حجة في الرجال؟ قال: ما كان أحسن علمه. وقال النسائي ثقة مأمون. وقال الحسين ابن فهم: ثقة ثبت. وقال أبو بكر الخطيب: كان ثقة، ثبتا، حافظا، متقنا. وقال أبو ¬

_ (¬1) "الحَرَشيّ" -بفتحتين، ومعجمة: نسبة إلى بني الْحَرِيش بن كعب. قاله في "لبّ اللباب" 1/ 242.

القاسم البغوي: كتبت عنه. وقال ابن قانع: كان ثقة تبتا، وقال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل": سُئل أبي عنه؟ فقال: ثقة صدوق. وقال ابن وضاح: ثقة من الثقات، لقيته ببغداد. وقال ابن حبان في "الثقات": كان متقنا، ضابطا، من أقران أحمد، ويحيى بن معين. قال محمد بن عبد الله الحضرمي وغيره: مات سنة (234). وقال ابنه أبو بكر: وُلِد أبي سنة (160)، ومات ليلة الخميس لسبع خلون من شعبان، وهو ابن (74) سنة. وحكى الخطيب عن أبي غالب علي بن أحمد بن النصر: أنه توفي سنة (32) قال الخطيب: هذا وَهَمٌ، والصواب سنة (4). روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط: هذا، وحديث أنس -رضي الله عنه- رقم (1900): "شهدت للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- وليمة ما فيها لحم ولا خبز". 2 - (هشيم) -بالتصغير- ابن بَشير -بالفتح بوزن عَظِيم- ابن القاسم بن دينار -السلميّ، أبو معاوية ابن أبي خازم -بمعجمتين- الواسطيّ، قيل: إنه بخاري الأصل الحافظ الثقة الثبتٌ، كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7]. رَوَى عن أبيه، وخاله القاسم بن مِهْران، وعبد الملك بن عُمير، ويعلى بن عطاء، وعبد العزيز بن صهيب، وسليمان التيمي، وإسماعيل بن أبي خالد، وعمرو بن دينار، وأبي الزبير، وعاصم الأحول، والأعمش، وخلق كثير. ورَوَى عنه مالك بن أنس، وشعبة، والثوري، وهم أكبر منه، وابنه سعيد بن هشيم، وابن المبارك، ووكيع، ويزيد بن هارون، وعلي بن المديني، وابنا أبي شيبة، وأحمد ابن حنبل، وعمرو بن عوف، وزهير بن حرب، وآخرون. قال الفضل بن زياد: سألت أحمد أين كَتَبَ هشيم عن الزهري؟ قال: بمكة. وقال عمرو بن عون عن هشيم: سمعت من الزهري نحوًا من مائة حديث، فلم أكتبها. وقال الحسين بن محمد بن فهم: أخبرني الهروي، أن هشيما كَتَبَ عن الزهري صحيفة بمكة، فجاءت الريح، فحملت الصحيفة، فطرحتها؛ فلم يجدوها، وحفظ

هُشيم منها تسعة. وقال أبو القاسم البغوي عن يحيى بن، أيوب المقابري: سمعت أبا عبيدة الحداد يقول: قدم علينا، هشيم البصرة، فذكرنا لشعبة، فقال: إن حدثكم عن ابن عباس وابن عمر، فصدّقوه. وقال علي بن معبد الرَّقّيّ: جاء رجل من أهل العراق، فذاكر مالكا بحديث، فقال: وهل بالعراق أحد يُحسن الحديث إلا ذاك الواسطي -يعني هشيما-. وقال عمرو بن عوف: سمعت حماد بن زيد يقول: ما رأيت في المحدثين أنبل من هشيم، وقال محمد بن عيسى بن الطباع. قال عبد الرحمن بن مهدي: كان هشيم أحفظ للحديث من سفيان الثوري، قال: وسمعت وكيعا يقول: نَحُّوا عنّي هشيما، وهاتوا من شتم -يعني في المذاكرة-. وقال الحارث بن سُرَيج البقال: سمعت يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي يقولان: هشيم في حصين أثبت من سفيان وشعبة. وفي رواية عن ابن مهدي: هشيم أثبت منهما، إلا أن يجتمعا. وقال أبو داود: قال أحمد: ليس أحد أصح حديثا عن حصين من هشيم، وقال العجليّ: هُشيم واسطي ثقة، وكان يدلس. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي عن هشيم ويزيد بن هارون؟ فقال: هشيم أحفظهما، وقال: وسألت أبي هشيم؟ فقال: ثقة، وهو أحفظ من أبي عوانة، قال: وسئل أبو زرعة عن هشيم وجرير؟ فقال: هشيم أحفظ. وقال ابن سعد. كان ثقة كثير الحديث، ثبتا يدلس كثيرا، فما قال في حديثه: أنا فهو حجة، وما لم يَقُل فليس بشيء. وقال نصر بن حماد: سألت هشيما متى ولدت؟ قال: في سنة أربع ومائة. وقال ابن سعد: أخبرني إبنه سعيد أنه وُلد في سنة خمس، وقال ابن سعد: ومات في شعبان سنة ثلاث وثمانين ومائة، وفيها أرخه غير واحد. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (37) حديثًا. 3 - (أبو الزبير) هو: محمد بن مسلم بن تَدْرُس -بفتح المثناة، وسكون الدال المهملة، وضمّ الراء- الأسدي مولاهم المكي، صدوق، إلا أنه يُدلّس [4]. رَوَى عن العبادلة الأربعة، وعن عائشة، وجابر، وأبي الطفيل، وسعيد بن جبير،

وعكرمة، وطاووس، وخلق كثير. ورَوَى عنه عطاء، وهو من شيوخه، والزهري، وأيوب، وأيمن بن نابل، وابن عون، والأعمش، وسلمة بن كهيل، وهُشيم، وخلق كثير. قال ابن عيينة عن أبي الزبير: كان عطاء يُقَدِّمني إلى جابر أحفظ لهم الحديث. ويُروَى عن يعلى بن عطاء قال: حدثني أبو الزبير، وكان أكمل الناس عقلا وأحفظهم. وقال حرب بن إسماعيل: سُئل أحمد عن أبي الزبير، فقال: قد احتمله الناس، وأبو الزبير أحب إلي من سفيان؛ لأنه أعلم بالحديث منه، وأبو الزبير ليس به بأس. وقال عبد الله بن أحمد: قال أبي: كان أيوب يقول: حدثنا أبو الزبير، وأبو الزبير أبو الزبير، قلت لأبي: يضعفه؟ قال: نعم. وقال نعيم بن حماد: سمعت ابن عيينة يقول: حدثنا أبو الزبير، وهو أبو الزبير، أي كأنه يضعفه. وقال هشام بن عمار عن سويد بن عبد العزيز: قال لي شعبة: تأخذ عن أبي الزبير، وهو لا يحسن أن يصلي. وقال نعيم بن حماد: سمعت هشيما يقول: سمعت من أبي الزبير، فأخذ شعبة كتابي فمزقه. وقال محمود بن غيلان عن أبي داود: قال شعبة: ما كان أحد أحب إلي أن ألقاه بمكة من أبي الزبير، حتى لقيته، ثم سكت. وقال محمد بن جعفر المدائني عن ورقاء: قلت لشعبة: ما لك تركت حديث أبي الزبير؟ قال: رأيته يَزِن ويسترجح في الميزان، وقال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: أبو الزبير يحتاج إلى دعامة. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: صالح الحديث. وقال مرة: ثقة. وقال الدُّوري عن ابن معين: أبو الزبير أحب إلي من سفيان. وقال أيضا عن يحيى: لم يسمع من ابن عمر ولم يره. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صدوق، وإلى الضعف ما هو؟ وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن أبي الزبير، فقال: يُكتَب حديثه، ولا يحتج به، وهو أحب إلي من سفيان. قال: وسألت أبا زرعة عن أبي الزبير، فقال: رَوَى عنه الناس، قلت: يُحتَجّ بحديثه؟ قال: إنما يُحتَجّ بحديث الثقات. وقال النسائي: ثقة. وقال ابن عدى: رَوَى مالك عن أبي الزبير أحاديث، وكفى بأبي الزبير صدقا أن يحدث عنه مالك، فإن مالكا

لا يروي إلا عن ثقة. وقال لا أعلم أحدا من الثقات تخلف عن أبي الزبير، إلا وقد كتب عنه، وهو نفسه ثقة، إلا إِنْ رَوَى عنه بعضُ الضعفاء، فيكون ذلك من جهة الضعيف. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: لم يُنصِف من قَدَح فيه؛ لأن من استرجح في الوزن لنفسه لم يَستَحِقَّ الترك لأجله. وقال ابن أبي مريم عن الليث: قدمت مكة، فجئت أبا الزبير، فدفع إلي كتابين، فانقلبت بهما، ثم قلت في نفسي: لو عاودته فسألته هل سمع هذا كله من جابر؟ فقال: منه ما سمعت، ومنه ما حُدِّثت عنه، فقلت له: أَعْلِم لي على ما سمعت، فأَعْلِم لي على هذا الذي عندي. وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: سألت ابن المديني عنه، فقال: ثقة ثبت. وقال هشيم عن حجاج، وابن أبي ليلى، عن عطاء: كنا نكون عند جابر، فإذا خرجنا من عنده تذاكرنا حديثه، فكان أبو الزبير أحفظنا. وقال ابن عون: ثنا أبو الزبير وما كان بدون عطاء (¬1). وقال عثمان الدارمي: قلت ليحيى: فأبو الزبير؟ قال: ثقة، قلت: محمد بن المنكدر أحب إليك أو أبو الزبير، قال: كلاهما ثقتان. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، إلا أن شعبة تركه لشيء زعم أنه رآه فعله في معاملة. وقال الساجي: صدوق حجة في الأحكام، قد روى عنه أهل النقل وقبلوه واحتجوا به، قال: وبلغني عن يحيى ابن معين أنه قال: استحلف ليث أبا الزبير بين الركن والمقام أنك سمعت هذه الأحاديث من جابر؟ فقال: والله إني سمعتها من جابر، يقول ثلاثا. وقال ابن عيينة: كان أبو الزبير عندنا بمنزلة خبز الشعير، إذا لم نجد عمرو بن دينار ذهبنا إليه. قال البخاري عن علي بن المديني: مات قبل عمرو بن دينار. وقال عمرو بن علي، والترمذي: مات سنة ست وعشرين ومائة. أخرج له الجماعة، وحديثه عند البخاري مقرون بغيره، وله في هذا الكتاب (95) حديثًا. ¬

_ (¬1) كان في نسخة "تت": "حدثنا أبو الزبير" بدون عطاء"، وهو كلام ركيك، فأصلحته مما في "سير النبلاء" للذهبيّ، ونصّه: قال ابن عون: ما أبو الزبير بدون عطاء بن أبي رباح. انتهى.

4 - (جابر) تقدّم في 1/ 11. والله تعالى أعلم. وشرح الحديث يُعلم مما سبق، وفيه مسألتان تتعلّقان به: (المسألة الأولى): في درجته: حديث جابر -رضي الله عنه- هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه عنعنة هُشيم، وأبي الزبير، وهما مدلّسان؟. [قلت: إنما يصحّ بشواهده، فإن أحاديث الباب تشهد له، وهي صحاح، بل متواترة، كما سبق بيان ذلك مستوفىً. والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (4/ 33) بهذا السند، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (3/ 303) و (الدارميّ) في "مسنده" رقم (237). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 34 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْن عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: قَالَ رَسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَقَوَّلَ عَلَيَّ مَا أَقُلْ، فَلْيَتبَّوأْ مَقعَدهُ مِنَ النَّارِ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفي واسطيّ الأصل، ثقة حافظ، صاحب تصانيف [10] 1/ 1. 2 - (مُحَّمدُ بْنُ بِشرٍ) بن الفَرَافِصَة بن المختار الحافظ العَبْدي، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة ثبتٌ [9]. رَوَى عن إسماعيل بن أبي خالد، وهشام بن عروة، وعبيد الله بن عمر العمري، ويزيد بن زياد بن أبي الجعد، والأعمش، وزكريا بن أبي زائدة، والثوري، وشعبة، وغيرهم.

ورَوَى عنه علي بن المديني، وأبو بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، وأبو كريب، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وموسى بن حزام الترمذي، وغيرهم. قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال الآجري عن أبي داود: هو أحفظ من كان بالكوفة. وقال الكديمي عن أبي نعيم: لما خرجنا في جنازة مسعر جعلت أتطاول، فقلت يجيئوني، فيسألوني عن حديت مسعر، فذاكرني محمد بن بشر العبدي بحديث مسعر، فأغرب علي سبعين حديثا لم يكن عندي منها إلا حديث واحد. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وفي "المراسيل": قال ابن معين: والله ما سمع محمد ابن بشر من مجاهد بن رومي شيئًا، ولكنه مرسل. وقال النسائي وابن قانع: ثقة. وقال ابن الجنيد عن ابن معين: لم يكن به بأس، وقيل له: هو أحب إليك أو أبو أسامة؟ فقال: إبو أسامة، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: محمد بن بشر ثقة ثبت، إذا حدث من كتابه. ووثقه ابن سعد، ويعقوب بن شيبة، وذكره ابن حبّان في "الثقات". قال البخاري وابن حبان: مات سنة ثلاث ومائتين، وفيها أرخه يعقوب بن شيبة، ومحمد بن سعد، وزاد في جمادى الأولى. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (46) حديثًا. 3 - (محمد بن عمرو) بن علقمة 2/ 22. 4 - (أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف [3] 2/ 22. 5 - (أبو هريرة) -رضي الله عنه- تقدّم في1/ 1، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، بل من رجال الجماعة. 3 - (ومنها): أنه ليس في الكتب الستة من اسمه محمد بن بشر غير هذا، إلا محمد ابن بشر بن بشير الأسلميّ الكوفيّ عند النسائيّ أخرج له حديثًا واحدًا خولف فيه،

حديث عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أخذ شيئًا أخذه بيمينه ... " الحديث. 4 - (ومنها): أن فيه أبا سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال. 5 - (ومنها): أن فيه أبا هريرة -رضي الله عنه- أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه-، أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَقَوَّلَ عَلَيَّ" أي افترى عليّ، يقال: تقوّل الرجل على زيد ما لم يَقُل ادّعىَ عليه ما لا حقيقة له. قاله في "المصباح" (¬1). وفي حديث سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- عند البخاريّ: "من يقُل"، وأصله: "يقول" وإنما جزم بالشرط (مَا لَمْ أَقُلْ) "ما" اسم موصولٌ مفعول "تقوّل": أي شيئا لم أقله، فحذف العائد، وهو جائز، كما أشار إليه في "الخلاصة": ........................... ... وَالحذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي في عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ ... بِفْعْلٍ أوْ وَصْفٍ كَمَنْ نَرْجُو يَهَبْ وإنما ذكر القول؛ لأنه الأكثر، وإلا فحكم الفعل كذلك؛ لاشتراكهما في علة الامتناع، وقد دخل الفعل في عموم حديث "من كذب عليّ"، فلا فرق في ذلك بين أن يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا، وفعل كذا، إذا لم يكن قاله أو فعله. وقد تمسك بظاهر هذا اللفظ من منع الرواية بالمعنى، وأجاب المجيزون عنه بأن المراد النهي عن الإتيان بلفظ يوجب تغيير الحكم، مع أن الإتيان باللفظ لا شك في أولويته. أفاده في "الفتح" (¬2). (فَلْيَتبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) قال في "عمدة القاري": "فليتبوّأ" -بكسر اللام-: هو ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" 2/ 520. (¬2) "فتح" 1/ 267.

الأصل، وبالسكون هو المشهور، وهو أمر من التبوّء، وهو اتّخاذ المبَاءة: أي المنزل، يقال: تبوّأ الرجل المكان: إذا اتّخذه موضعًا لمقامِهِ، وقال الجوهريّ: تبوّأتُ منزلًا: أي نزلته. وقال الخطّابيّ: تبوّأت بالمكان أصله من مباءة الإبل، وهي أعطانها. وقال الخطابيّ أيضًا: ظاهره أمر، ومعناه خبرٌ، يريد أن الله تعالى يبوّئه مقعده من النار. وقال الطيبيّ: الأمر بالتبوّؤ تهكّم وتغليظٌ، إذ لو قيل: كان مقعده في النار لم يكن كذلك، وأيضًا فيه إشارة إلى معنى القصد في الذنب وجزائه: أي كما أنه قصد في الكذب التعمّد فليقصد في جزائه التبوّء. وقال الكرمانيّ: يجوز أن يكون الأمر على حقيقته، والمعنى: من كذب فليأمر نفسه بالتبوّء. وقال العينيّ: الأولى أن يكون أمر تهديد، أو يكون دعاء على معنى بوّأه الله. انتهى (¬1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه، بلفظ (¬2): "من كذب عليّ متعمّدًا، فليتبوّأ مقعده من النار". والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا -4/ 34 بهذا الإسناد، وأخرجه (أحمد) (2/ 501) و (ابن حبّان) رقم (28) من هذا الوجه. و (أحمد) 2/ 413 و (الدارميّ) رقم (599) من طريق عاصم بن كُليب، عن أبيه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. و (أحمد) 1/ 400 و 2/ 410 و463 و 469 و 519 و (البخاريّ) 1/ 38 و 8/ 54 و (مسلم) في "المقدّمة" 1/ 7 ¬

_ (¬1) "عمدة القاري" 2/ 113. (¬2) وأما بلفظ: "من تقوّل عليّ ما لم أقل الخ" فتفرّد به محمد بن عمرو، وهو وإن قال الذهبيّ: حسن الحديث، إلا أن أحاديث الباب تشهد له، فيصحّ. والله تعالى أعلم.

و (الترمذيّ) في "الشمائل" (407) و (النسائيّ) في "الكبرى" 3/ 458 رقم (5915) من طريق أبي صالح، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. وأخرجه (ابن أبي شيبة) 8/ 762 و (أحمد) 2/ 321 و365 و (أبو داود) رقم (3657) و (البخاريّ) في "الأدب المفرد" (259) و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار" رقم (411) من طريق مسلم بن يسار، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 35 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَعْلَى التَّيْمِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسحَقَ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: -عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ- "إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الحدِيثِ عَنِّي، فَمَنْ قَالَ عَلَيَّ، فَلْيَقُلْ حَقًّا "أَوْ" صِدْقًا، وَمَنْ تَقَوَّلَ عَلَيّ مَا لَمْ أَقُلْ، فَلْيَتبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد المذكور في السند الماضي. 2 - (يَحْيَى بْنُ يَعْلَى) بن حرملة التيميّ أبو المُحَيّاة -بضم الميم، وفتح المهملة، وتشديد التحتانيّة، آخره هاء- الكوفي [8]. رَوَى عن أبيه، وعبد الملك بن عمير، وسلمة بن كهيل، ومنصور، وهشام بن حسان، ومحمد بن إسحاق، وليث بن أبي سُليم، وغيرهم. ورَوَى عنه أسود بن عامر شاذان، وإبراهيم بن موسى الفراء، ومنصور بن أبي مزاحم، وعلي بن سعيد بن مسروق، ويحيى بن يحيى النيسابوري، وأبو بكر بن أبي شيبة، وهناد بن السري، ومحمد ابن حسان التيمي، وعباد بن يعقوب، وغيرهم. قال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة. وذكره بن حبان في "الثقات". قال مطين: مات سنة ثمانين ومائة، وهو ابن ست وتسعين سنة فيما أُخْبِرتُ. وهو قول ابن سعد في الطبقات، أخرج له مسلم، والترمذيّ، والنسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب (4)

أحاديث فقط برقم 35 و2239 و1711 و3724. 3 - (محمد بن إسحاق) بن يسار بن خيار ويقال: كومان المدني أبو بكر، ويقال: أبو عبد الله المطلبي مولاهم، نزيل العراق، إمام المغازي، صدوقٌ يُدلّس، ورُمي بالتشيّع والقدر، من صغار [5]. رأى أنسًا، وابن المسيب، وأبا سلمة بن عبد الرحمن، ورَوَى عن أبيه، وعميه عبد الرحمن، وموسى، والأعرج، وعبيد الله بن عبد الله بن عمر، وغيرهم. ورَوَى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، ويزيد بن أبي حبيب، وهما من شيوخه، وجرير بن حازم، وعبد الله بن سعيد بن أبي هند، وابن عون، وإبراهيم بن سعيد، والحمادان، وشعبة، والسفيانان، وغيرهم. قال سلمة بن الفضل عن ابن إسحاق: رأيت أنس بن مالك عليه عمامه سوداء. وقال المفضل الغلابي: سألت ابن معين عنه، فقال: كان ثقة، وكان حسن الحديث: فقلت: إنهم يزعمون أنه رأى ابن المسيب، فقال: إنه لقديم. وقال الدُّوري عن ابن معين: قد سمع محمد بن إسحاق من أبان بن عثمان، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، والقاسم بن محمد، وعطاء، وقال علي بن المديني: مدار حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ستة فذكرهم، ثم قال: فصار عِلمُ الستة عند اثني عشر، فذكر ابن إسحاق فيهم. وقال ابن عيينة: رأيت الزهري قال لمحمد بن إسحاق. أين كنت؟ فقال: هل يَصِلُ إليك أحد، قال: فدعا حاجبه، وقال: لا تحجبه إذا جاء. وقال ابن المديني: سمعت سفيان قال: قال ابن شهاب -وسئل عن مفاريده-: فقال: هذا أعلم الناس بها. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: قال عاصم بن عمر بن قتادة: لا يزال في الناس علم ما بقي ابن إسحاق. وقال ابن أبي خيثمة عن هارون بن معروف: سمعت أبا معاوية يقول: كان ابن إسحاق من أحفظ الناس، فكان إذا كان عند الرجل خمسة أحاديث أو أكثر جاء، فاستودعها ابن إسحاق. وقال النفيلي عن عبد الله بن فائد: كنا إذا جلسنا إلى ابن إسحاق، فأخذ في فن من العلم قضي مجلسه في ذلك الفن. وقال الميموني: ثنا أبو عبد الله بحديث استحسنته

عن ابن إسحاق، فقلت له: يا أبا عبد الله ما أحسن هذه القصص التي يجيء بها ابن إسحاق، فتبسم إليّ متعجبا. وقال صالح بن أحمد عن علي بن المديني عن ابن عيينة قال: جالست ابن إسحاق منذ بضع وسبعين سنة، وما يتهمه أحد من أهل المدينة، ولا يقول فيه شيئا، قلت لسفيان: كان ابن إسحاق جالس فاطمة بنت المنذر، فقال أخبرني: ابن إسحاق أنها حدثته، وأنه دخل عليها. وقال عبد الله ابن أحمد: ثنا أبو بكر بن خلاد الباهلي، سمعت يحيى بن سعيد يقول: سمعت هشام بن عروة يقول: يحدث ابن إسحاق عن امرأتي فاطمة بنت المنذر، والله إن رآها قط، قال عبد الله: فحدثنا أبي بذلك، فقال: ولِمَ يُنكِرُ هشام؟ لعله جاء فاستاذن عليها، فأذنت له أحسبه قال: ولم يعلم. وذكر في "الميزان" عن أبي قلابة الرقاشيّ، حدثني أبو داود سليمان بن داود، قال: قال يحيى القطّان: أشهد أن محمد بن إسحاق كذّاب، قلت: وما يُدريك؟ قال: قال لي وُهيب، فقلت لوهيب: وما يُدريك؟ قال: قال لي مالك بن أنس، فقلت لمالك: وما يُدريك؟ قال: قال لي هشام بن عروة، قال: قلت لهشام بن عروة: وما يدريك؟ قال: حدّث عن امرأتي فاطمة بنت المنذر، وأُدخلت عليّ وهي بنت تسع، وما رآها رجلٌ حتى لقيت الله تعالى. قال الحافظ الذهبيّ: قد أجبنا عن هذا، والرجل فما قال: إنه رآها، أفبمثل هذا يُعتمد على تكذيب رجل من أهل العلم، هذا مردود، ثم قد روى عنها محمد بن سُوقة، ولها رواية عن أم سلمة، وجدّتها أسماء، ثم ما قيل من أنها أُدخلت عليه وهي بنت تسع غلطٌ بَيِّنٌ، ما أدري ممن وقع من رواة الحكاية، فإنها أكبر من هشام بثلاث عشرة سنة، ولعلها ما زُفّت إليه إلا وقد قاربت بضعًا وعشرين سنة، وأخذ عنها ابن إسحاق، وهي بنت بضع وخمسين سنة، أو أكثر. انتهى (¬1). ¬

_ (¬1) "ميزان الاعتدال" 3/ 471.

وقال في "سير أعلام النبلاء" بعد ذكره الحكاية: ما نصّه: قلت: معاذ الله أن يكون يحيى وهؤلاء بَدَا منهم هذا بناءً على أصل فاسد واهٍ، ولكنّ هذه الخرافة من صَنْعَة سليمان، وهو الشاذكونيّ -لا صبّحه الله بخير- فإنه مع تقدّمه في الحفظ متّهمٌ بالكذب، وانظر كيف قد سلسل الحكاية، ويُبيّن لك بطلانها أن فاطمة بنت المنذر لما كانت بنت تسع سنين لم يكن زوجها هشام خُلِق بعدُ، فهي أكبر منه ببضع عشرة سنة، وأسنده منه، فإنها روت كما ذكرنا عن أسماء بنت أبي بكر، وصحّ أن ابن إسحاق سمع منها، وما عرف بذلك هشام، أفبمثل هذا القول الواهي يُكذّب الصادق؟ كلا والله، نعوذ بالله من الهوى والمكابرة، ولكن صَدَق القاضي أبو يوسف إذ يقول: من تتبّع غريب الحديث كُذِّب، وهذا من أكبر ذنوب ابن إسحاق، فإنه كان يكتب عن كلّ أحد، ولا يتورّع سامحه الله. انتهى كلام الذهبيّ (¬1). وقال الأثرم عن أحمد: هو حسن الحديث. وقال مالك: دجال من الدجاجلة. وقال البخاري: رأيت علي بن عبد الله يحتج بحديث ابن إسحاق، قال: وقال علي: ما رأيت أحدا يَتَّهِم ابن إسحاق، قال: وقال لي إبراهيم بن المنذر: ثنا عمر بن عثمان أن الزهري كان يتلقف المغازي من ابن إسحاق فيما يحدثه عن عاصم بن عمر بن قتادة، والذي يُذكَر عن مالك في ابن إسحاق لا يكاد يَتبَيَّنُ، وكان إسماعيل بن أبي أويس من أتبع من رأينا لمالك، أخرج إليّ كتب ابن إسحاق عن أبيه في المغازي وغيرها، فانتخبت منها كثيرًا، قال: وقال لي إبراهيم بن حمزة: كان عند إبراهيم بن سعد، عن بن إسحاق نحو من سبعة عشر ألف حديث في الأحكام سوى المغازي، وإبراهيم بن سعد من أكثر أهل المدينة حديثا في زمانه، قال: ولو صح عن مالك تناوله من ابن إسحاق، فلربما تكلم الإنسان، فيرمي صاحبه بشيء، ولا يتهمه في الأمور كلها، قال: وقال إبراهيم بن المنذر عن محمد بن فليح: نهاني مالك عن شيخين من قريش، وقد أكثر عنهما في ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" 7/ 49 - 50.

"الموطإ"، وهما ممن يحتج بهما، قال: ولم ينج كثير من الناس من كلام بعض الناس فيهم، نحو ما يذكر عن إبراهيم من كلامه في الشعبي، وكلام الشعبي في عكرمة، ولم يلتفت أهل العلم في هذا النحو إلا ببيان وحجة، ولم تَسقُط عدالتهم إلا ببرهان وحجة، قال: وقال عبيد بن يعيش: ثنا يونس بن بكير، سمعت شعبة يقول: ابن إسحاق أمير المؤمنين لحفظه، قال: وقال لي علي بن عبد الله: نظرت في كتب ابن إسحاق، فما وجدت عليه إلا في حديثين، ويمكن أن يكونا صحيحين، قال: وقال لي بعض أهل المدينة: إن الذي يُذكَر عن هشام بن عروة قال: كيف يدخل ابن إسحاق على امرأتي، لو صح عن هشام جائز أن تكتب إليه، فإن أهل المدينة يَرَون الكتاب جائزًا، وجائز أن يكون سمع منها وبينهما حجاب، إلى هنا عن البخاري. وقال البخاري أيضًا: محمد بن إسحاق ينبغي أن يكون له ألف حديث ينفرد بها. وقال إبراهيم الحربي: حدثني مصعب قال: كانوا يطعنون عليه بشيء من غير جنس الحديث. وقال أبو زرعة الدمشقي: وابن إسحاق رجلٌ قد أجمع الكبراء من أهل العلم على الأخذ عنه، وقد اختبره أهل الحديث، فرأوا صدقًا وخيرًا مَع مِدْحَة ابن شهاب له، وقد ذاكرت دُحيما قولَ مالك فيه، فرأى أن ذلك ليس للحديث، إنما هو لأنه اتّهمه بالقدر. وقال الزبيري عن الدراوردي: وجُلِد ابن إسحاق -يعني في القدر-. وقال الجوزجاني: الناس يشتهون حديثه، وكان يُرمَى بغير نوع من البدع. وقال موسى بن هارون: سمعت محمد بن عبد الله بن نمير يقول: كان محمد بن إسحاق يُرمَى بالقدر، وكان أبعد الناس منه. وقال يعقوب بن شيبة: سمعت ابن نمير يقول: إذا حدث عن من سمع منه من المعروفين، فهو حسن الحديث صدوق، وإنما أُتِي من أنه يحدث عن المجهولين أحاديث باطلة. قال يعقوب: وسألت ابن المديني كيف حديث ابن إسحاق عندك؟ فقال: صحيح، قلت له: فكلام مالك فيه؟ قال: مالك لم يجالسه، ثم قال عليّ: أَيَّ شيء حدث بالمدينة، قلت له: وهشام بن عروة قد تكلم فيه، قال عليّ: الذي قال هشام ليس بحجة، لعله دخل على امرأته وهو غلام فسمع منها، قال: وسمعت عليا يقول: إن حديث ابن إسحاق لَيَتبَيَّنُ فيه الصدق،

يروي مرة حدثني أبو الزناد، ومرة ذكر أبو الزناد، وهو من أروى الناس عن سالم أبي النضر، ورَوَى عن رجل عنه، وهو من أروى الناس عن عمرو بن شعيب، وروى عن رجل عن أيوب عنه. وقال يعقوب بن سفيان: قال علي: لم أجد لابن إسحاق إلا حديثين منكرين: نافع عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا نَعَس أحدكم يوم الجمعة"، والزهري عن عروة عن زيد بن خالد: "إذا مسّ أحدكم فرجه"، والباقي يعني المناكير في حديثه يقول: ذَكَرَ فلان، ولكن هذا فيه حَدَّثنا، وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: سألت عليا عنه، فقال: صالح وسط. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال العجلي: مدني ثقة. وقال ابن يونس: قدم الإسكندرية سنة (199) ورَوَى عن جماعة من أهل مصر أحاديث لم يروها عنهم غيره فيما علمت. وقال ابن عيينة: سمعت شعبة يقول: محمد ابن إسحاق أمير المؤمنين في الحديث، وفي رواية عن شعبة فقيل له: لِمَ؟ قال: لحفظه. وفي رواية عنه: لو سُوِّد أحدٌ في الحديث لسُوِّد محمد بن إسحاق. وقال ابن سعد: كان ثقة، ومن الناس من يتكلم فيه، وكان خرج من المدينة قديما، فأتى الكوفة، والجزيرة، والري، وبغداد، فأقام بها حتى مات بها سنة (51)، وقال في موضع آخر: ورواته من أهل البلدان أكثر من رواته من أهل المدينة، لم يرو عنه منهم غير إبراهيم بن سعد. وقال ابن عدي: ولمحمد بن إسحاق حديث كثير، وقد رَوَى عنه أئمة الناس، ولو لم يكن له من الفضل إلا أنه صرف الملوك عن الاشتغال بكُتُب لا يحصل منها شيء إلى الاشتغال بمغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومبعثه، ومبدأ الخلق لكانت هذه فضيلةً سَبَق إليها، وقد صنفها بعده قوم، فلم يبلغوا مبلغه، وقد فَتَّشْتُ أحاديثَهُ الكثير فلم أجد فيها ما يتهيأُ أن يُقطع عليه بالضعف، وربما أخطأ أو يهم في الشيء بعد الشيء كما يخطىء غيره، وهو لا بأس به. وذكره النسائي في الطبقة الخامسة من أصحاب الزهري. وقال ابن المديني: ثقة لم يضعه عندي إلا روايته عن أهل الكتاب. قال الحافظ: وكذبه سليمان التيمي، ويحيى القطان، ووهيب بن خالد، فأما وهيب والقطان فقلدا فيه هشام بن عروة ومالكا، وأما سليمان التيمي فلم يتبين لي لأي

شيء تكلم فيه، والظاهر أنه لأمر غير الحديث؛ لأن سليمان ليس من أهل الجرح والتعديل. قال ابن حبان في "الثقات" تكلم فيه رجلان: هشام ومالك، فأما قول هشام فليس مما يجرح به الإنسان، وذلك أن التابعين سمعوا من عائشة من غير أن ينظروا إليها، وكذلك ابن إسحاق كان سمع من فاطمة، والستر بينهما مُسْبَل، وأما مالك فإن ذلك كان منه مرة واحدة، ثم عادله إلى ما يُحبّ، ولم يكن يقدح فيه من أجل الحديث، إنما كان ينكر تتبعه غزوات النبي -صلى الله عليه وسلم- من أولاد اليهود الذين أسلموا، وحفظوا قصة خيبر وغيرها، وكان ابن إسحاق يتتبع هذا منهم من غير أن يحتج بهم، وكان مالك لا يرى الرواية إلا عن متقن. ولما سئل ابن المبارك قال: إنا وجدناه صدوقا ثلاث مرات. قال ابن حبان: ولم يكُن أحدٌ بالمدينة يقارب ابن إسحاق في علمه، ولا يوازيه في جمعه، وهو من أحسن الناس سياقا للأخبار إلى أن قال: وكان يكتب عمن فوقه ومثله ودونه، فلو كان ممن يستحل الكذب لم يحتج إلى النزول، فهذا يدلك على صدقه، سمعت محمد ابن نصر الفراء يقول: سمعت يحيى بن يحيى، وذُكِرَ عنده محمد بن إسحاق فوثقه. وقال الدارقطني: اختلف الأئمة فيه، وليس بحجة إنما يُعتَبر به. وقال أبو يعلى الخليلي: محمد ابن إسحاق عالم كبير، وإنما لم يخرجه البخاري من أجل روايته المطولات، وقد استشهد به، وأكثر عنه فيما يَحكِي في أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي أحواله وفي التواريخ، وهو عالم واسع الرواية والعلم ثقة. وقال ابن الْبَرْقِيّ: لم أر أهل الحديث يختلفون في ثقته وحسن حديثه وروايته، وفي حديثه عن نافع بعض الشيء. وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه. وقال أبو زرعة: صدوق. وقال الحاكم: قال محمد بن يحيى: هو حسن الحديث، عنده غرائب. ورَوَى عن الزهري، فأحسن الرواية. قال الحاكم: وذُكِر عن البوشنجي أنه قال: هو عندنا ثقة ثقة. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول الوسط في ابن إسحاق، هو ما قاله الإمام الذهبيّ رحمه الله تعالى في "الميزان" -بعد ما ساق أقوال المعدّلين والجارحين له-:

فالذي يظهر لي أن ابن إسحاق حسن الحديث، صالح الحال، صدوقٌ، وما انفرد به ففيه نكارة؛ فإن في حفظه شيئًا، وقد احتجّ به أئمة، فالله تعالى أعلم انتهى (¬1). قال الجامع: ويزاد على قوله: "حسن الحديث": "إن صرّح بالتحديث؛ لكونه مدلّسًا"، والله تعالى أعلم. قال عمرو بن علي: مات سنة خمسين. وقال الهيثم بن عدي: مات سنة إحدى. وقال ابن معين وابن المديني: مات سنة اثنتين. وقال خليفه بن خياط: مات سنة اثنتين أو ثلاث وخمسين ومائة. روى له مسلم سبعة أحاديث في المتابعات (¬2) وعلق له البخاري، وأخرج له الباقون، وله في هذا الكتاب (80) حديثًا. 4 - (مَعبَد بن كعب) بن مالك الأنصاري السلمي المدني، كان أصغر الإخوة، السَّلَميّ، صدوق (¬3) [3]. رَوَى عن أبي قتادة، وجابر، وعن أخويه عبد الله وعبيد الله، ورَوَى عنه وهب بن كيسان، ومحمد بن عمرو بن حلحلة، والعلاء بن عبد الرحمن، والوليد بن كثير، وابن إسحاق، وأسامة بن زيد الليثي، وعيسى بن معاوية، وعُقَيل بن خالد. ذكره بن حبان في "الثقات"، أخرج له البخاري حديثا واحدًا (¬4) ومسلم (¬5)، وأبو داود في "الناسخ ¬

_ (¬1) "ميزان الاعتدال" 3/ 475. (¬2) وذكر "ميزان الاعتدال" 3/ 475 أنها خمسة أحاديث، وما هنا من برنامج الحديث "صخر" وهي برقم 480 و830 و873 و1173 و1199 و1656 و1703. ترقيم محمد عبد الباقي. (¬3) وما قاله في "ت" من أنه "مقبول" ففيه نظر لا يخفى؛ لأنه روى عنه جماعة، ووثقه ابن حبّان وله في البخاريّ حديث واحد، وأخرج له مسلم، فالأولى أنه صدوق. والله تعالى أعلم. (¬4) هو حديث رقم 6512: "مستريح ومستراح منه ... " الحديث، وأعاده بعده رقم 6513. (¬5) له عنه ثلاثة أحاديث برقم 137 و950 و1607.

والمنسوخ"، والنسائي، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط: هذا، وحديث رقم (2200) "إياكم وكثرة الحلف ... " الحديث. 5 - (أبو قتادة) الأنصاري السَّلَمِيّ فارس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اسمه الحارث بن رِبْعيّ -بكسر الراء، وسكون الموحّدة، بعدها عين مهملة-، وقيل: النعمان، وقيل: عمرو، وقيل: عون، وقيل، مراوح، والمشهور الحارث بن ربعي بن بُلْدُمَة -بضم الموحّدة والمهملة، بينهما لام ساكنة-ابن خُناس -بضم المعجمة، وتخفيف النون، وآخره مهملة- ابن سنان بن عُبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سَلَمَة السَّلَمي -بفتحتين- المدني. وأمه كبشة بنت مُطَهَّر بن حرام بن سَوَاد بن غَنْم. روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن معاذ بن جبل، وعمر بن الخطاب، وعنه ولداه ثابت وعبد الله، ومولاه أبو محمد نافع بن عباس بن الأقرع، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن رباح الأنصاري، ومعبد بن كعب بن مالك، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وعمرو بن سليم الزرقي، وآخرون. قال ابن سعد شهد أُحُدًا وما بعدها. وقال الحاكم أبو أحمد يقال: كان بدريا ولا يصح. وأخرج مسلم في "صحيحه" عن إياس بن سلمة عن أبيه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خير فرساننا أبو قتادة، وخير رجالنا سلمة ابن الأكوع". وأخرج مسلم أيضًا عن أبي قتادة في قصة طويلة قال: كنت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره إذ مال عن راحلته، قال: فدعمته، فاستقيظ ... فذكر الحديث، وفيه: "حفِظَك الله كما حفِظت نَبِيَّهُ -صلى الله عليه وسلم-". وقال أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري: أخبرني من هو خير مني أبو قتادة. وقال الواقدي: توفي بالمدينة سنة أربع وخمسين، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، ويقال: ابن سبعين، ولم أَرَ بين علمائنا اختلافا في ذاك، قال: وروى أهل الكوفة أنه مات بالكوفة، وعلي بها، وصلى عليه. وحكى خليفة أن ذلك كان سنة ثمان وثلاثين، وهو شاذّ، والأكثر على أنه مات سنة أربع وخمسين. ومما يؤيد ذلك أن البخاري ذكره في "الأوسط" في "فصل من مات بعد الخمسين إلى الستين"، ثم

روى بإسناده أن مروان بن الحكم لما كان واليا على المدينة من قِبَل معاوية أرسل إلى أبي قتادة ليريه مواقف النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فانطلق معه فأراه. وقال ابن عبد البر: رُوي من وجوه عن موسى بن عبد الله والشعبي أنهما قالا: صلى عليٌّ على أبي قتادة، وكبر عليه سبعًا، قال الشعبي: وكان بدريا، ورجح هذا ابن القطان، ولكن قال البيهقي: رواية موسى والشعبي غلط؛ لإجماع أهل التاريخ على أن أبا قتادة بقي إلى بعد الخمسين. قال الحافظ: ولأن أحدا لم يوافق الشعبي على أنه شهد بدرًا، والظاهر أن الغلط فيه ممن دون الشعبي. والله تعالى أعلم. انتهى (¬1). والحاصل أن الأصحّ في وقت وفاته ما قاله الواقديّ. أخرج له الجماعة، وله من الأحاديث (170) حديثًا، اتفقا على على (11) وانفرد البخاريّ بحديثين، ومسلم بثمانية، وله في هذا الكتاب (25) حديثًا. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، فإن ابن إسحاق علّق له البخاريّ، واستشهد به مسلم، كما سبق بيانه في ترجمته. 3 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. 4 - (ومنها): مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، ويحيى، فكوفيّان. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي قَتَادَةَ) الحارث بن ربعيّ الأنصاريّ الصحابي -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: -عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ-) يريد منبر المدينة النبويّة على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحيّة (إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحدِيثِ عَنِّي) أي باعدوا أنفسكم عن كثرة ¬

_ (¬1) راجع "الإصابة" 7/ 272 - 274. و"تهذيب التهذيب" 4/ 574.

الحديث عنّي، وهذا التركيب هو الذي يُسمّى في علم النحو بـ "التحذير"، وهو تنبيه المخاطب على أمر يجب الاحتراز منه، نحو: "إياك والشرّ"، وهو منصوب بفعل محذوف وجوبًا، فقيل: التقدير: اتّقوا أنفسكم وكثرة الحديث، وقيل: باعدوا أنفسكم من كثرة الحديث، وكثرة الحديث منكم، وقيل: احذروا تلاقي أنفسكم وكثرة الحديث. وإلى هذا أشار ابن مالك في "خلاصته" حيث قال: إِيَّاكَ وَالشَّرَّ وَنَحْوَهُ نَصَبْ ... مُحَذِّرٌ بِمَا اسْتِتَارُهُ وَجَبْ وَدُونَ عَطْفٍ ذَا لإِيَّا انْسُبْ وَمَا ... سِوَاهُ سَتْرُ فِعْلِهِ لَنْ يَلْزَمَا إِلَّا مَعَ الْعَطْفِ أَوِ التَّكرَارِ ... كَالضَّيْغَمَ الضَّيْغَمَ يَا ذَا السَّارِي وَكَمُحَذَّرٍ بِلَا إِيَّا اجْعَلَا ... مُغْرًى بِهِ في كُلِّ مَا قَدْ فُصِّلَا وراجع تفاصيل المسألة في شروح "الخلاصة"، وحواشيها في "باب التحذير والإغراء". والله تعالى أعلم. (فَمَنْ قَالَ عَلَيَّ) أي أراد نسبة القول إليّ (فَلْيَقُلْ حَقًّا أَوْ صِدْقًا) "أو" للشكّ من الراوي (وَمَنْ تَقَوَّلَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ) أي افترى عليّ، ونسب إليّ ما لم أقله (فَلْيَتبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ") أي هذا جزاؤه، وقد تقدّم أنه يحتمل أن يكون إخبارًا، وأن يكون دعاء عليه، وفي كلا الحالتين وعيد شديد؛ لأن إخباره -صلى الله عليه وسلم- واقع حقّا وصدقًا، ودعاءه لمن يستحقّ مستجاب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي قتادة -رضي الله عنه- هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه عنعنة ابن إسحاق، وهو مدلّسٌ، كما سبق في ترجمته؟. [قلت]: ثبت تصريحه عند الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، ونصّه:

حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا محمد -يعني ابن إسحاق- حدثني ابن لكعب بن مالك، عن أبي قتادة، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول على هذا المنبر: "يا أيها الناس إياكم وكثرة الحديث عني، من قال عليّ، فلا يقولنّ إلا حقا أو صدقا، فمن قال عليّ ما لم أقل، فليتبوأ مقعده من النار". فبهذا زال ما يُخشَى من تهمة التدليس، ولله الحمد. فتبيّن بهذا أن قول الحافظ البوصيريّ رحمه الله تعالى في "الزوائد": وهذا إسناد ضعيف؛ لتدليس ابن إسحاق، غير صحيح؛ لتصريحه بالتحديث المذكور آنفًا، فتنبّه. والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (4/ 35) بالسند المذكور، وهو من أفراد المصنّف لم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (أحمد) (5/ 297 و310) و (الدارميّ) رقم (243) و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار" رقم (413 و414) والله تعالى وليّ التوفيق، وله الحمد والنعمة، ومنه الفضل والعصمة، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال: 36 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَا: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، مُحَمَّد بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، أَبِي صَخْرَةَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ: مَا ليَ لَا أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- كَمَا أَسْمَعُ ابْنَ مَسْعُودٍ وَفُلَانًا وَفُلَانًا؟ قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً يَقُولُ: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتبَؤَأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ") رجال هذا الإسناد: ثمانية: 1 - (أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) المذكور في السند الماضي. 2 - (مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بن عثمان العبديّ، أبو بكر بُندار البصرىّ، ثقة حافظٌ [10] 1/ 6. 3 - (غندر محمد بن جعفر) الْهُذليّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقة صحيح

الكتاب [9] 1/ 6. 4 - (شعبة) بن الحجّاج الإمام الحجة المشهور، أبو بسطام البصريّ [7] 1/ 6. 5 - (جامع بن شدّاد أبو صخرة) الكوفيّ، ثقة [5]. رَوَى عن صفوان بن محُرِز وطارق بن عبد الله المحاربي، وعبد الرحمن بن يزيد النخعي، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وأبي بردة بن أبي موسى، وعامر بن عبد الله بن الزبير، وجماعة. ورَوَى عنه الأعمش، ومسعر، وشعبة، والثوري، والمسعودي، وأبو العميس، وغيرهم. قال البخاري عن علي: له نحو عشرين حديثًا. وقال ابن معين وأبو حاتم والنسائي: ثقة. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة متقن. وقال العجلي: شيخ عالٍ ثقةٌ، من قدماء شيوخ الثوري. وقال، أبو نعيم: مات سنة 18، وقال ابن سعد: مات سنة 128، وقال في موضع آخر: سنة 27. وفي كتاب "الطبقات" لابن سعد: أخبرنا طلق بن غنام: سمعت قيس بن الربيع يقول: مات جامع بن شداد ليلة الجمعة لليلة بقيت من رمضان سنة 118 وكذا ذكر ابن حبان في "الثقات" وفاته، ثم قال: وقيل: سنة 27. وفيها أرخه خليفة بن خياط. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (6) أحاديث برقم 36 و452 و 1575 و 2660 و3021 و4212. 6 - (عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّه بْنِ الزُّبَيْرِ) بن العوّام الأسديّ، أبو الحارث المدنيّ، وأمه حَنْتَمَةُ بنت عبد الرحمن بن هشام، ثقة عابدٌ [4]. رَوَى عن أبيه، وخاله أبي بكر بن عبد الرحمن، وأنس، وعمرو بن سُلَيم الزُّرَقيّ، وعوف بن الحارث رضيع عائشة، وصالح بن خَوّات بن جبير. ورَوَى عنه أخوه عمر، وابن أخيه مصعب بن ثابت، وابن ابن عمه عمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير، وغيرهم.

قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة من أوثق الناس. وقال ابن معين والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة صالح، وقال ابن سعد: كان عابدا فاضلًا، وكان ثقة مأمونًا، وله أحاديث يسيرة. وقال الخليلي: أحاديثه كلها يُحتَجّ بها. وقال العجلي: مدني تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات": وقال: كان عالمًا فاضلًا، مات سنة (121). وقال الواقدي: مات قبل هشام أو بعده بقليل، قال: ومات هشام، سنة أربع وعشرين ومائة. والصحيح أنه مات سنة (5). أخرج له الجماعة، وله عند الترمذيّ حديث واحد في الأمر بتحية المسجد، وله في هذا الكتاب (4) أحاديث فقط، برقم 36 و1003 و4182 و4233. 7 - (أبوه) عبد الله بن الزبير بن العوّام القرشيّ الأسديّ، أبو بكر، وأبو خُبيب، أول مولود في الإسلام بالمدينة للمهاجرين، ولي الخلافة تسع سنين، وقتل في ذي الحجة سنة (73) تقدّم في 2/ 15. 8 - (الزبير بن العوّام) بن خُويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قُصيّ بن كلاب، أبو عبد الله القرشيّ الأسديّ، أحد العشرة المشهود لهم بالجنّة، قُتل سنة (36) بعد منصرفه من وقعة الجمل، تقدّم في 2/ 15. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. 3 - (ومنها): أن شيخه محمد بن بشار أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة. 4 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وصحابيّ عن صحابي، وروية الابن عن أبيه، عن جدّه. 5 - (ومنها): أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأول مولود للمهاجرين بعد الهجرة، وقد فرح المسلمون بولادته، حيث إن المنافقين كانوا

يزعمون أنه لا يولد لهم؛ لأن اليهود سحرتهم، فأبطل الله عز وجل ذلك الزعم الباطل بسببه. 6 - (ومنها): أن الزبير -رضي الله عنه- أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين مات النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وهو عنهم راض، وحواريّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ ابْنِ الْعَوَّامِ) -رضي الله عنه- (مَا لِيَ) "ما" استفهاميّة: أي أيُّ شيء ثبت (لَا) نافية (أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-) جملة "تُحدّث" في محلّ نصب على الحال من المفعول (كَمَا أَسْمَعُ ابْنَ مَسْعُودٍ) -رضي الله عنه- (وَفُلَانًا وَفُلَانًا؟) لم يُعرف اسمهما (قَالَ) أي الزبير -رضي الله عنه- (أَمَا) بتخفيف الميم: أداة استفتاح وتنبيه، بمنزلة "ألا" (إنِّي) بكسر الهمزة، لوقوعها بعد أداة الاستفتاح (لَمْ أُفَارِقهُ) أي لم أفارق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (مُنْذُ أَسْلَمْتُ) أراد به أغلب الأوقات، وإلا فقد هاجر الزبير إلى الحبشة، وكذا لم يكن مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في حال هجرته إلى المدينة، وإنما أورد هذا الكلام على سبيل التوجيه للسؤال؛ لأن لازم الملازمة السماعُ، ولازمه عادةً التحديثُ، لكن منعه من ذلك ما خشيه من معنى الحديث الذي ذكره، ولهذا أتى بقوله: "لكن"، وقد أخرجه الزبير بن بَكّار في "كتاب النسب" من وجه آخر عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير قال: "عناني ذلك" يعني قلة رواية الزبير، "فسألته" أي عن ذلك، "فقال يا بُنَيّ كان بيني وبينه من القرابة والرحم ما علمتَ، وعمته أمي، وزوجته خديجة عمتي، وأمه آمنة بنت وهب، وجدتي هالة بنت وهب ابني وهيب بن عبد مناف بن زهرة، وعندي أمك، وأختمها عائشة عنده، ولكني سمعته يقول ... ". (وَلَكِنِّي) قال العينيّ رحمه الله تعالى: فإن قلت: شرط "لكن" أن تتوسّط بين كلامين متغايرين، فما هما هنا؟. قلت: لازم عدم المفارقة السماع، ولازم السماع التحديث عادةً، ولازم التحديث الذي ذكره في الجواب عدم التحديث، فبين الكلامين

منافاة فضلًا عن المغايرة. انتهى (¬1) (سَمِعْتُ مِنْهُ كلِمَةً يَقُولُ) إنما عدل عن "قال"، وإن كان هو المناسب لـ"سمعت" حتّى يتوافقا مضيّا استحضارًا لصورة القول للحاضرين والحكاية عنها كأنه يُريهم أنه قال به الآن. (¬2) (مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا) هكذا في رواية المصنّف بزيادة "متعمّدًا"، وكذا للإسماعيلي من طريق معاذ، عن شعبة، ووقع في رواية البخاري بدونه، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق غندر عن شعبة وكذا في رواية الزبير بن بكار المذكورة، قال الحافظ: والاختلاف فيه على شعبة، وقد أخرجه الدارمي من طريق أخرى، عن عبد الله بن الزبير بلفظ: "من حدث عني كذبا"، ولم يذكر العمد. وفي تمسك الزبير -رضي الله عنه- بهذا الحديث على ما ذهب إليه من اختيار قلة التحديث دليل للأصح في أن الكذب هو الأخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، سواء كان عمدا أم خطأً، والمخطيء وإن كان غير مأثوم بالإجماع، لكن الزبير خَشِي من الإكثار أن يقع في الخطإ، وهو لا يشعر، لأنه وإن لم يأثم بالخطإ لكن قد يأثم بالإكثار؛ إذ الإكثار مظنة الخطإ، والثقة إذا حدث بالخطإ، فحمل عنه، وهو لا يشعر أنه خطأ يُعمَل به على الدوام؛ للوثوق بنقله، فيكون سببا للعمل بما لم يقُله الشارع، فمن خشي من إكثار الوقوع في الخطإ لا يؤمن عليه الإثم إذا تعمد الإكثار، فمن ثَمِّ توقف الزبير وغيره من الصحابة -رضي الله عنهم- عن الإكثار من التحديث، وأما من أكثر منهم فمحمول على أنهم كانوا واثقين من أنفسهم بالتثبيت، أو طالت أعمارهم، فاحتيج إلى ما عندهم، فسئلوا فلم يمكنهم الكتمان رضي الله عنهم. قاله في "الفتح" (¬3). (فَلْيَتبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) أي فليتخذ لنفسه منزلًا، يقال: تبوأ الرجل المكانَ: إذا اتخذه سَكَنًا، وهو أمر بمعنى الخبر أيضًا، أو بمعنى التهديد، أو بمعنى التهكم، أو دعاء ¬

_ (¬1) "عمدة القاري" 2/ 113. (¬2) راجع "عمدة القاري" 2/ 113. (¬3) "الفتح" 1/ 265 - 266.

على فاعل ذلك: أي بوأه الله ذلك. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون الأمر على حقيقته، والمعنى: مَن كَذَب فليأمر نفسه بالتبوء، ويلزم عليه، كذا قال، وأولها أولاها، فقد رواه أحمد بإسناد صحيح عن ابن عمر بلفظ: "بُنِي له بيت في النار". قال الطيبي فيه إشارة إلى معنى القصد في الذنب وجزائه، أي كما أنه قصد في الكذب التعمد، فليقصد بجزائه التبوء. انتهى (¬1). والله تعالى وليّ التوفيق، وهو الهادي لأقوم طريق. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث الزبير بن العوّام -رضي الله عنه- هذا أخرجه البخاريّ. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنف رحمه الله) هنا (4/ 36) بالسند المذكور، و (البخاريّ) (1/ 38) و (أبو داود) رقم (3651) و (النسائيّ) في "الكبرى" "العلم" (3/ 457) رقم (5912) و (أحمد) في "مسنده" (1/ 165 و166) من هذا الوجه. وأخرجه (الدارميّ) في "سننه" رقم (239) من طريق عبد الله بن عروة، عن عبد الله بن الزبير. وأخرجه (ابن حبّان) في "صحيحه" رقم (6982) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير عنه. وفوائد الحديث تقدّمت قريبًا، والله تعالى وليّ التوفيق، وله الحمد والنعمة، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال: 37 - حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتبَوأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ"). ¬

_ (¬1) المصدر السابق.

رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ) بن سهل الهرويّ الأصل، ثم الْحَدَثانيّ -بفتح المهملة، والمثلّثة- ويقال له الأنباريّ، أبو محمد، صدوق في نفسه، إلا أنه عَمِي فصار يتلقّن ما ليس من حديثه، وأفحش فيه القول ابنُ معين، من قدماء [10] تقدّم أول الباب برقم 30. 2 - (عِليُّ بْنُ مُسْهِرٍ) -بضم الميم، وسكون المهملة، وكسر الهاء- القرشيّ الكوفيّ الحافظ، قاضي الموصل، ثقة له غرائب بعد ما أضرّ [8] 52/ 66. رَوَى عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، وعبيد الله بن عمر، وموسى الجهني، وإسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، وغيرهم. ورَوَى عنه أبو بكر، وعثمان ابنا أبي شيبة، وخالد بن مخلد، وإسماعيل بن الخليل، وبشر بن آدم، وغيرهم. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: صالح الحديث، أثبت من أبي معاوية. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: هو أحب إليك أو أبو خالد الأحمر؟ فقال: ابن مسهر، فقلت ابن مسهر أو إسحاق بن الأزرق؟ قال: ابن مسهر، قلت: ابن مسهر أو يحيى بن أبي زائدة؟ فقال: كلاهما ثقة. وقال يحيى بن معين: قال: ابن نمير: كان قد دَفَن كتبه، قال يحيى: وهو أثبت من ابن نمير. وقال العجلي: قرشي من أنفسهم، كان ممن جَمَع الحديث والفقه ثقة. وقال أبو زرعة: صدوق ثقة. وقال النسائي: ثقة. وقال العجلي أيضا: صاحب سنة، ثقة في الحديث ثبت فيه، صالح الكتاب، كثير الرواية عن الكوفيين. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال العُقيليّ: قال أبو عبد الله -يعني أحمد-: لما سئل عنه، لا أدري كيف أقول؟ قال: كان قد ذهب بصره فكان يحدثهم من حفظه. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة تسع وثمانين ومائة. وعن يحيى بن معين: أنه وَلِيَ قضاءَ أرمينية، فاشتكى عينه، فَدَسَّ القاضي الذي كان بأرمينية إليه طبيبا فكحله، فذهبت عينه، فرجع إلى الكوفة أعمى. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (45) حديثًا. 3 - (مطرف) -بضمّ أوله، وفتح ثانيه، وتشديد الراء المكسورة- ابن طَرِيف الحارثيّ،

ويقال: الخارفيّ، أبو بكر، يقال: أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقة فاضلٌ، من صغار [6]. رَوَى عن الشعبي، وأبي إسحاق السبيعي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وحبيب بن أبي ثابت، وسليمان بن الجهم، وسلمة بن كهيل، وعطية العوفي، وغيرهم. ورَوَى عنه أبو عوانة، وهشيم، وأبو جعفر الرازي، وعليّ مسهر، وغيرهم. قال أحمد وأبو حاتم: ثقة. وقال الآجري عن أبي داود: قلت لأحمد: أصحابُ الشعبي مَنْ أحبهم إليك؟ قال: ليس عندي فيهم مثل إسماعيل بن أبي خالد، قلت: ثُمّ مَنْ؟ قال: مطرف، وقال في موضع آخر: الشيبانيُّ، ومطرف، وحصين، هؤلاء ثقات. وقال مرة عن أبي داود: بَيَانٌ فوق مُطَرِّف، ومطرف ثقة، وابن أبي السَّفَر دونه، حدثنا الحسن بن علي، حدثنا الشافعي قال: ما كان ابن عيينة بأحد أشد إعجابا منه بمطرف. وقال علي ابن المديني: حدثنا سفيان، حدثنا مُطَرِّف، وكان ثقة. وقال محمد بن عمرو الباهلي عن ابن عيينة قال مطرف: ما يُسرُّني أني كذبت كذبةً، وأن لي الدنيا وما فيها. وقال داود بن عُلْبَة ما أعرف عربيا ولا عجميا أفضل من مُطَرِّف بن طَرِيف. وقال العجليّ: صالح الكتاب، ثقة ثبت في الحديث، ما يُذكر عنه إلا الخير في المذهب. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: هو ثقة صدوق، وليس بثبت. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة ثبت. قال ابن حبان: مات سنة ثلاث وثلاثين، وقد قيل: سنة اثنتين وأربعين. وقال البخاري: قال عبد الله بن الأسود، عن أبي عبد الله البَجَليّ: مات سنة إحدى أو اثنتين وأربعين. وقال عمرو بن علي: مات سنة ثلاث وأربعين. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (4) أحاديث فقط برقم 37 و1693 و2559 و2648. 4 - (عطية) بن سَعْد بفتح، فسكون -ابن جُنّادة -بضمّ الجيم، بعدها نون خفيفة -الْعَوْفيّ الْجَدَليّ -بفتح الجيم والمهملة- الْقَيسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، صدوقٌ يُخطىء كثيرًا، كان شيعيّا مُدلّسًا [3]. رَوَى عن أبي سعيد، وأبي هريرة، وابن عباس، وابن عمر، وزيد بن أرقم،

وعكرمة، وعدي بن ثابت، وعبد الرحمن بن جندب، وغيرهم. ورَوَى عنه ابناه: الحسن وعمر، والأعمش، والحجاج بن أرطاة، ومطرف بن طريف، وغيرهم. قال البخاري: قال لي علي عن يحيى: عطية، وأبو هارون، وبشر بن حرب عندي سواءٌ، وكان هشيم يتكلم فيه. وقال مسلم بن الحجاج: قال أحمد -وذكر عطية العوفي- فقال: هو ضعيف الحديث، ثم قال: بلغني أن عطية كان يأتي الكلبيّ، ويسأله عن التفسير، وكان يَكْنِيه بأبي سعيد، فيقول: قال أبو سعيد، وكان هشيم يضعف حديث عطية، قال أحمد: وحدثنا أبو أحمد الزبيري، سمعت الكلبيّ يقول: كناني عطية أبا سعيد. وقال الدُّوريّ عن ابن معين: صالح. وقال أبو زرعة: لَيِّن. وقال أبو حاتم: ضعيف يُكتب حديثه، وأبو نضرة أحب إِلَيّ منه. وقال الجوزجاني: مائل. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن عديّ: قد رَوَى عن جماعة من الثقات، ولعطية عن أبي سعيد أحاديث عِدَّة، وعن غير أبي سعيد، وهو مع ضعفه يكتب حديثه، وكان يُعَدّ مع شيعة أهل الكوفة. وقال ابن حبان في "الضعفاء": بعد أن حكى قصته مع الكلبيّ بلفظ مُستغرب، فقال: سمع من أبي سعيد أحاديث، فلما مات جعل يُجالس الكلبيّ، ويَحضُر قِصَصَه، فإذا قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا، فيحفظه، وكناه أبا سعيد، ويروي عنه، فإذا قيل له: مَنْ حدّثك بهذا؟ فيقول: حدثني أبو سعيد، فيتوهمون أنه يريد أبا سعيد الخدري، وإنما أراد الكلبيّ، قال: لا يَحِلّ كَتْبُ حديثه إلا على التعجب، ثم أسند إلى أبي خالد الأحمر قال: قال لي الكلبيّ: قال لي عطية: كَنَيتك بأبي سعيد، فأنا أقول: حدثنا أبو سعيد. وقال ابن سعد: أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا فضيل، عن عطية قال: لمّا وُلدت أَتَى بي أبي عليا ففرض لي في مائة. وقال ابن سعد: خرج عطية مع ابن الأشعث، فكتب الحجاج إلى محمد بن القاسم أن يَعْرِضَه على سبّ عليّ، فإن لم يَفعل فاضربه أربعمائة سوط، واحلِقْ لحيته، فاستدعاه فأبى أن يسبّ، فأمضى حكم الحجاج فيه، ثم خرج إلى خراسان، فلم يزل بها حتى ولي عُمر بن هُبَيرة العراق، فقَدِمها، فلم يزل بها إلى أن توفي

سنة (11) وكان ثقة -إن شاء الله- وله أحاديث صالحة، ومن الناس من لا يحتج به. وقال أبو داود: ليس بالذي يُعتمد عليه. قال أبو بكر البزار: كان يَغلُو في التشيع، رَوَى عنه جِلَّة الناس. وقال الساجي: ليس بحجة، وكان يُقَدِّم عليا على الكل. قال محمد بن عبد الله الحضرميّ: تُوفي سنة إحدى عشرة ومائة. وقيل: مات سنة (27) ذكره ابن قانع والقراب. أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والترمذي، والمصنّف، وله في هذا الكتاب (25) حديثًا. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تلخص مما سبق أن عطيّة الْعَوفيّ ضعيف، وأما توثيق ابن سعد له مخالفًا للجمهور فمما لا يُلتفت إليه. والله تعالى أعلم. 5 - (أبو سعيد) سعد بن مالك بن سِنَان بن عُبيد بن ثَعْلَبة بن عُبيد بن الأبجر -وهو خُدْرَة- ابن عوف بن الحارث بن الخزرج الأنصاري الخزرجي، أبو سعيد الخدري، مشهورٌ بكنيته، استُصغِر يوم أحد، واستُشهد أبوه بها، وغزا هو بعد ذلك اثتتي عشرة غزوة، رَوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الكثير، وعن أبيه، وأخيه لأمه قتادة بن النعمان، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وزيد بن ثابت، وأبي قتادة الأنصاري، وعبد الله بن سلام، وأُسيد بن حُضير، وابن عباس، وأبي موسى الأشعري، ومعاوية، وجابر بن عبد الله. ورَوَى عنه ابنه عبد الرحمن، وزوجته زينب بنت كعب بن عجرة، وابن عباس، وابن عمر، وجابر، وزيد بن ثابت، وأبو أمامة بن سهل، ومحمود بن لبيد، وابن المسيب، وطارق بن شهاب، وأبو الطفيل، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء بن يسار، وعطاء بن يزيد، وخلق كثير. قال حنظلة بن أبي سفيان عن أشياخه: لم يكن أحد من أحداث أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفقه من أبي سعيد. وقال الخطيب: كان من أفاضل الصحابة، وحفظ حديثا كثيرًا. ورَوَى الهيثم بن كُليب في "مسنده" من طريق عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد، عن أبيه، عن جده قال: بايعت النبي -صلى الله عليه وسلم- أنا وأبو ذر، وعبادة بن الصامت، ومحمد بن مسلمة، وأبو سعيد الخدري، وسادس على ألا تأخذنا في الله لومة لائم، فاستقال

السادس فأقاله (¬1). قال الواقدي وابن نمير وابن بكير: مات سنة (74). وقيل: مات سنة (64) وهو ابن (74) سنة، وفيه نظر. وقال أبو الحسن المدائني: مات سنة (63). وقال العسكري: مات سنة (65) أخرج له الجماعة، وله من الأحاديث (1170) حديثًا، اتفقا على (43) وانفرد البخاريّ بـ (26) ومسلم بـ (52) حديثًا، وله في هذا الكتاب (158) حديثًا. والله تعالى أعلم. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أما شرح الحديث، فقد تقدّم قريبًا، وهو بهذا الإسناد ضعيف؛ لضعف عطيّة الْعَوْفيّ، كما سبق في ترجمته، لكن متن الحديث صحيح، بل متواتر كما سبق بيان ذلك. وقال الحافظ أبو بكر البوصيريّ رحمه الله تعالى: هذا إسناد ضعيف؛ لضعف عطيّة، رواه أبو بكر بن أبي شيبة في "مسنده" عن أسباط بن محمد، عن مطرف. انتهى. والله تعالى وليّ التوفيق، وله الحمد والنعمة، وهو حسبنا ونعم الوكيل. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. ¬

_ (¬1) في سنده عبد المهيمن ضعيف.

5 - باب من حدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا وهو يرى أنه كذب

5 - (باب من حدَّث عن رسُول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثًا وهو يرى أنه كَذِب) قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "حَدَّث" بالبناء للفاعل. وقوله: "يُرى" ضُبط بوجهين: (أحدهما): بفتح أوله وثالثه، ومعناه يعتقد. (والثاني): بضم أوله، وفتح ثالثه، ومعناه يَظُنّ مبنيّا للفاعل، وسيأتي تمام البحث فيه في شرح الحديث، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال: 38 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عِلِيُّ بْنُ هَاشِمٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَلي -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "مَنْ حَدَّثَ عَنِّي حَدِيثًا، وَهُوَ يَرَى أنَّهُ كَذِبٌ، فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبَيْنِ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو عبد الله بن محمد المذكور قبل حديث في الباب الماضي. 2 - (عِليُّ بْنُ هَاشِمٍ) بن البريد -بفتح الموحّدة، وكسر الراء، بعدها تحتانيّة ساكنة- الْبَرِيديّ العائذيّ مولاهم، أبو الحسن الكوفيّ الخزاز، صدوقٌ يتشيّع، من صغار [8]. رَوَى عن هشام بن عروة، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلي، والأعمش، وطلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله، ويزيد بن كيسان، وغيرهم. ورَوَى عنه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبو معاوية، وإسماعيل بن إبراهيم القَطِيعي، وأحمد بن منيع، وسعيد بن سليمان الواسطيّ، وآخرون. قال حنبل عن أحمد: ليس به بأس. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ما أرى به بأسًا. وقال ابن أبي خيثمة وغير واحد عن ابن معين: ثقة. وقال أبو الحسن بن البراء عن ابن المديني: كان صدوقًا، زاد الباغندي عن ابن المديني: وكان يتشيع، وقال غيره

عن علي: ثقة، وكذا قال يعقوب بن شيبة. وقال الجوزجاني: كان هو وأبوه غاليين في مذهبهما. وقال أبو زرعة: صدوق. وقال أبو حاتم: كان يتشيع، ويُكتَب حديثه. وقال الآجري عن أبي داود: سئل عنه عيسى بن يونس، فقال: أهل بيت تشيع، وليس ثَمَّ كَذِب. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات"، ثم ذكره في "الضعفاء"، وقال: كان غاليا في التشيع، ورَوَى المناكير عن المشاهير. وقال ابن سعد: كان صالح الحديث صدوقًا. وقال ابن عديّ: حدّث عنه جماعة من الأئمة، ويَروِي في فضائل عليّ -رضي الله عنه- أشياء لا يرويها غيره، وهو -إن شاء الله- صدوق لا بأس به. ووثقه العجلي، وضعفه الدارقطني. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: سمعت منه سنة تسع وسبعين ومائة أولَ سنةِ طلبتُ الحديثَ مجلسًا، ثم عدت إليه المجلس الآخر، وقد مات. وقال ابن المثنى: مات سنة (180)، وقال محمد بن عبد الله الحضرميّ، ويعقوب بن شيبة: سنة (181). أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم قال اللالكائي: له عنده حديثان، والأربعة، وله في هذا الكتاب (3) أحاديث برقم 38 و1342 و3737. 3 - (ابن أبي ليلى) هو: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاريّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ الفقيه قاضي الكوفة، صدوقٌ سيّء الحفظ جدًّا [7]. رَوَى عن أخيه عيسى، وابن أخيه عبد الله بن عيسى، ونافع مولى ابن عمر، وأبي الزبير المكي، وعطاء بن أبي رباح، وعطيّة، وعمرو بن مرة، وغيرهم. ورَوَى عنه ابنه عمران، وقريبه عيسى بن المختار بن عبد الله بن عيسى، وزائدة، وابن جريج، وقيس ابن الربيع، وشعبة، والثوري، وأبو الأحوص، وغيرهم. قال أبو طالب عن أحمد: كان يحيى بن سعيد يضعفه. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: كان سيء الحفظ، مضطرب الحديث، كان فقهُ ابن أبي ليلى أحب إلينا من حديثه. وقال مَرَّةً: ابنُ أبي ليلى ضعيف، وفي عطاء أكثر خطأ. وقال أبو داود الطيالسي عن شعبة: ما رأيت أحدا أسوأ حفظا من ابن أبي ليلى. وقال روح عن شعبة: أفادني ابن أبي

ليلى أحاديث، فإذا هي مقلوبة. وقال الجوزجاني عن أحمد بن يونس: كان زائدة لا يحدث عنه، وكان قد ترك حديثه. وقال أبو حاتم عن أحمد بن يونس: ذكره زائدة، فقال: كان أفقه أهل الدنيا. وقال العجلي: كان فقيها صاحب سنة صدوقًا جائز الحديث، وكان عالما بالقرآن، وكان من أحسب الناس، وكان جَمِيلًا نَبِيلًا، وأول من استقضاه على الكوفة يوسف بن عمر الثقفي. وقال ابن أبي خيثمة عن يحيى بن معين: ليس بذاك. وقال أبو زرعة: ليس بِأَقوَى ما يكون. وقال أبو حاتم: محله الصدق، كان سيء الحفظ، شُغِل بالقضاء، فساء حفظه، لا يُتَّهَم بشيء من الكذب، إنما يُنكَر عليه كثرة الخطإ، يُكتب حديثه ولا يحتج به، وهو والحجاج بن أرطاة ما أقربهما. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال ابن حبان: كان فاحش الخطإ، ردىء الحفظ، فكثرت المناكير في روايته، تركه أحمد ويحيى. وقال الدارقطني: كان رديء الحفظ، كثير الوهم. وقال ابن جرير الطبري: لا يحتج به. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة عدل في حديثه بعض المقال، لين الحديث عندهم. وقال صالح بن أحمد عن ابن المديني: كان سيء الحفظ، واهي الحديث. وقال أبو أحمد الحاكم: عامة أحاديثه مقلوبة. وقال الساجي: كان سيء الحفظ، لا يتعمد الكذب، فكان يُمدَح في قضائه، فأما في الحديث فلم يكن حجة، قال: وكان الثوري يقول: فقهاؤنا ابن أبي ليلى، وابن شبرمة. وقال ابن خزيمة: ليس بالحافظ، وإن كان فقيهًا عالمًا. قال البخاري: مات سنة ثمان وأربعين ومائة. أخرج له الأربعة، وله ذكر في "كتاب الأحكام" من "صحيح البخاري" قال: أول من سأل على كتاب القاضي البينةَ ابنُ أبي ليلى، وسَوّار. وله في هذا الكتاب (27) حديثًا. 4 - (الحكم) بن عُتيبة -بالمثنّاة، ثم الموحّدة، مصغّرًا- الكنديّ مولاهم، أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله، ويقال: أبو عمر الكوفيّ، ثقة ثبتٌ فقيهٌ، إلا أنه ربّما دلّس [5]. رَوَى عن أبي جحيفة، وزيد بن أرقم، وقيل: لم يسمع منه، وعبد الله بن أبي أوفى هؤلاء صحابة، وشُريح القاضي، وقيس بن أبي حازم، وموسى بن طلحة، ويزيد بن

شريك التيمي، وعائشة بنت سعد، وغيرهم. ورَوَى عنه الأعمش، ومنصور، ومحمد بن جُحَادة، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو إسحاق الشيباني، وقتادة، وغيرهم من التابعين، وأبان بن صالح، وحجاج بن دينار، وسفيان بن حسين، والأوزاعي، ومسعر، وشعبة، وأبو عوانة، وعدة. قال الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير وعبدة بن أبي لبابة: ما بين لابتيها أفقه من الحكم. وقال مجاهد بن رُوميّ: رأيت الحكم في مسجد الخيف، وعلماء الناس عيال عليه. وقال جرير عن مغيرة: كان الحكم إذا قدم المدينة أخلوا له سارية النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي إليها. وقال عباس الدُّوريّ: كان صاحب عبادة وفضل. وقال ابن عيينة: ما كان بالكوفة بعد إبراهيم والشعبي مثل الحكم وحماد. وقال ابن مهدي: الحكم بن عتيبة ثقة ثبت، ولكن يختلف معنى حديثه. وقال ابن المديني: قلت ليحيى بن سعيد: أيُّ أصحاب إبراهيم أحب إليك؟ قال: الحكم ومنصور، قلت: أيُّهما أحبّ إليك؟ قال ما أقربهما. وقال سعيد بن أبي سعيد الأنماطيّ الرازيّ: سُئل أحمد بن حنبل عن الحكم بن عتيبة، قال: ليس هو بدون عمرو بن مرة وأبي حصين. وقال أحمد أيضا: أثبت الناس في إبراهيم الحكم، ثم منصور. وقال ابن معين وأبو حاتم والنسائي: ثقة، زاد النسائي: ثبت، وكذا قال العجلي، وزاد: وكان من فقهاء أصحاب إبراهيم، وكان صاحب سنة واتباع، وكان فيه تشيع إلا أن ذلك لم يظهر منه. وقال ابن سعد: كان ثقةً فقيهًا عالمًا رفيعًا كثير الحديث. وقال أحمد وغيره: لم يسمع الحكم حديث مِقسم، كتاب إلا خمسة أحاديث، وعدها يحيى القطان: حديث الوتر، والقنوت، وعزمة الطلاق، وجزاء الصيد، والرجل يأتي امرأته وهي حائض، رواه ابن أبي خيثمة في "تاريخه" عن علي بن المديني، عن يحيى. وقال البخاري في "التاريخ الكبير": قال القطان: قال شعبة: الحكم عن مجاهد كتاب إلا ما قال: سمعت. وقال ابن حبان في "الثقات": كان يُدَلِّس، وكان سنه سنَّ إبراهيم النخعي.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: نظمت الأحاديث الخمسة التي ذكرها القطّان، فقلت: اعْلَمْ بِأَنَّ حَكَمًا قَدْ سمعَا ... عَنْ مِقْسَمِ خَمْسًا فَقَطْ فَاسْتَمِعَا حَدِيثَ وِتْرٍ وَقُنُوتٍ وَجَزَا ... صَيْدٍ وَعَزْمَةَ الطَّلَاقِ أَنْجَزَا وَرَجُلٌ جَامَعَ زَوْجًا حَائِضَا ... ذَكرَهَا الْقَطَّانُ يَحْيَى الْمُرْتَضَى أَوْرَدَهُ الحافِظُ في التَّهْذِيبِ ... نَظْمْتُهُ حِرْصًا عَلَى التَّقْرِيبِ ذكر ابن منجويه، وابن حبّان أنه وُلد سنة (50)، وقيل: إنه مات سنة (113). وقال الواقدي: سنة (14). وقال عمرو بن علي وغيره: سنة (15). وأرخه ابن قانع سنة (47). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (34) حديثًا. 5 - (عبدُ الرحمن بن أبي ليلى) الأنصاريّ المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقة [2] 3/ 25. 6 - (عليّ) بن أبي طالب الخليفة الراشد -رضي الله عنه- تقدّم في 2/ 20. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير محمد بن أبي ليلى، فمن رجال الأربعة. 3 - (ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين. 4 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. 5 - (ومنها): أن صحابيّه أحد الخلفاء الأربعة، والعشرة المبشّرين بالجنّة، وأحد الستة الشورى، وأول من أسلم من الصبيان، ذو المناقب الجمة -رضي الله عنه-، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَلِيٍّ) بن أبي طالب -رضي الله عنه- (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-) أنه (قَالَ: "مَنْ) شرطيّة مبتدأ (حَدَّثَ عَنِّي حَدِيثًا، وَهُوَ يَرَى) قال النوويّ رحمه الله تعالى: ضبطناه يُرَى بضم الياء. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أراد أنه مبنيّ للمفعول لفظًا، ولكن معناه معنى المبنيّ للفاعل؛ لأنه بمعنى يَظُنّ مبنيّا للفاعل. قال ابن منظور نقلًا عن "تهذيب الأزهريّ": قال الليث: يقال من الظنّ رِيتُ -بكسر الراء- فلانًا أخاك، ومن همز قال: رُؤِيتُ، فإذا قلت: أرى وأخواتها لم تهمز، قال: ومن قلب الهمز من رأى قال: راء، كقولك: نأى وناء. وقال ابن الأثير رُؤي فعل لم يُسمّ فاعله، من رأيتُ بمعنى ظننت، وهو يتعدّى إلى مفعولين، تقول: رأيت زيدًا عاقلًا، فإذا بنيته لما لم يُسمّ فاعله تعدّى إلى مفعول واحد، فقلت: رُؤي زيد عاقلًا. انتهى (¬1). وهذا الذي ذكرنا من ضبط "يُرَى" بصيغة المبني للمفعول هو المشهور، وذكر بعض الأئمة جواز بفتح الياء من "يَرَى"، قال النووي رحمه الله تعالى: وهو ظاهر حسن، فأما من ضم الياء فمعناه: يَظُنُّ"، وأما من فتحها فظاهر، ومعناه: وهو يعلم، ويجوز أن يكون بمعنى يَظُنّ أيضا، فقد حُكِيَ رَأَى بمعنى ظَنّ. وقَيّد بذلك؛ لأنه لا يأثم إلا بروايته ما يعلمه، أو يظنه كذبا، أما ما لا يعلمه، ولا يظنه، فلا إثم عليه في روايته، وإن ظنه غيره كذبا، أو عَلِمَهُ. انتهى (¬2). وقال القرطبي رحمه الله تعالى: قوله: "يرى" قيّدناه عن مشايخنا مبنيّا للفاعل والمفعول، فـ "يرى" بالفتح بمعنى يَعْلَم المتعدّيّة لمفعولين، و"أنّ" سَدَّت مسدّهما، وماضي "يرى" رأى مهموزًا، وإنما تركت العرب همز المضارع لكثرة الاستعمال، وقد نطقوا به على الأصل مهموزًا في قولهم: أَلمْ تَرَ مَا لَاقَيْتُ وَالدَّهْرُ أَعْصُرُ ... وَمَنْ يَتَمَنَّى الْعَيْشَ يَرْأَى وَيَسْمَعُ وربّما تركوا همز الماضي في قولهم: صَاح هَلْ رَيْتَ أَوْ سَمِعْتَ بِرَاعِ ... رَدَّ في الضَّرْعِ مَا قَرَا في الْحِلَابِ ¬

_ (¬1) "لسان العرب" 14/ 304. (¬2) "شرح النووي" 1/ 64.

ويحتمل ما في الحديث أن يكون بمعنى الرأي، فيكون ظنّا من قولهم: رأيت كذا، أي ظهر لي، وعليهما يكون المقصود بالذمّ الذي في الحديث: المعتمد للكذب علمًا أو ظنّا. وأما يُرَى بالضمّ فهو مبنيّ لما لم يُسَمّ فاعله، ومعناها الظنّ، وإن كان أصلها مُعَدّى بالهمزة من رأى إلا أن استعماله في الظنّ أكثر وأشهر. انتهى (¬1). (أَنَّهُ كَذِبٌ) في تأويل المصدر مفعول ثان لـ "يُرى"، والأول ضمير "من" (فَهُوَ أَحَدُ الَكَاذِبِينَ) -بكسر الباء، وفتح النون- على الجمع، وهذا هو المشهور في ضبطه، قال النووي: قال القاضي عياض: الرواية فيه عندنا "الكاذِبِينَ" على الجمع. ورواه أبو نعيم الأصبهانى في كتابه "المستخرج على صحيح مسلم" في حديث سمرة "الكاذبِيَنِ" -بفتح الباء، وكسر النون- على التثنية، واحتج به على أن الراوي له يُشارِك البادىء بهذا الكذب، ثم رواه أبو نعيم من رواية المغيرة "الكاذِبَينِ" أو "الكاذِبِينَ" على الشك في التثنية والجمع. انتهى (¬2). وقال القرطبي رحمه الله تعالى: قوله: "أحد الكاذبين" رويناه بكسر الباء على الجمع، فيكون معناه أنه أحد الكذّابين على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين قال الله تعالى في حقّهم: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} الآية [الزمر: 60]؛ لأن الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذب على الله تعالى. ورويناه أيضًا بفتح الباء على التثنية، ويكون معناه: أن المحدِّث والمحدَّث بما يَظنّان، أو يَعلمان كذبه كاذبان، هذا بما حدّث، والآخر بما تحمل من الكذب مع علمه، أو ظنّه لذلك (¬3). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. ¬

_ (¬1) "المفهم" 1/ 111 - 112. (¬2) "شرح النوويّ" 1/ 64. (¬3) "المفهم" 1/ 112.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عليّ رضي الله تعالى عنه هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو متكلّم فيه، كما سبق في ترجمته؟. [قلت]: لم ينفرد به هو، بل تابعه الأعمش عن الحكم كما سيأتي بعد حديث، وأيضَّا فإن الحديث صحيح مرويّ عن عدّة من الصحابة -رضي الله عنه -كما سيأتي. والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) بالسند المذكور هنا (5/ 38 و5/ 40) بالسند الآتي، وهو من أفراد المصنّف لم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" (8/ 595) و (عبد الله بن أحمد) في زياداته على "المسند" (1/ 112) و (البزّار) رقم (621)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): تغليظ الكذب، والتعرض له، وأن من غلب على ظنه كذب ما يَرويه، فرواه كان كاذبا، وكيف لا يكون كاذبا، وهو مُخبِر بما لم يكن. قال أبو جعفر الطحاويّ رحمه الله تعالى في كتابه "مشكل الآثار" 1/ 375 بعد أن أورد هذا الحديث من رواية عليّ، وسمرة بن جندب، والمغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنهم: ما نصّه: فتأملنا هذا الحديث لنقف على المراد به منه ما هو؟ فوجدنا الله تعالى قد قال في كتابه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف: 169]، فوجدناه تعالى قد أخبر أن ذوي الكتاب مأخوذ عليهم أن لا يقولوا على الله إلا الحق،

وكان ما يأخذونه عن الله تعالى هو ما يأخذونه عن رسله -صلوات الله عليهم- إليهم، فكان فيما أخذه الله تعالى عليهم أن لا يقولوا على الله إلا الحق، ودخل فيه أخذه عليهم أن لا يقولوا على رسله إلا الحقّ، كان الحق هاهنا كهو في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]، وكان من شهد بظن، فقد شهد بغير الحقّ، إذ كان الظن كما قد وصفه الله تعالى في قوله: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]. وفي ذلك إعلامه إيانا أن الظنّ غير الحقّ، وإذا كان من شهد بالظنّ شاهدًا بغير الحقّ كان مثله من حدّث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثًا لظنّ محدّثا عنه بغير الحقّ، والمحدث عنه بغير الحقّ محدث عنه بالباطل، والمحدّث عنه بالباطل كاذب عليه كأحد الكاذبين عليه الداخلين في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من كذب عليّ متعمّدًا، فليتبوّأ مقعده من النار"، ونعوذ بالله تعالى من ذلك. انتهى كلام الطحاويّ (¬1). 2 - (ومنها): تحريم رواية المنكر والموضوع من الأخبار. قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: يفيد الحديث التحذير عن أن يُحدّث أحد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا بما تحقّق صدقه علمًا أو ظنّا، إلا أن يحدّث بذلك على جهة إظهار الكذب، فإنه لا يتناوله الحديث. وفي كتاب الترمذيّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "اتّقوا الحديث عنّى إلا ما علمتم، فمن كذب عليّ متعمّدًا فليتبوّأ مقعده من النار، ومن قال في القرآن برأيه، فليتبوّأ مقعده من النار"، وقال: هذا حديث حسنٌ انتهى كلام القرطبيّ (¬2). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذا ¬

_ (¬1) "شرح مشكل الآثار" 1/ 374 - 375. (¬2) "المفهم" 1/ 112.

ضعيف؛ لأن في سنده سفيان بن وكيع، وهو ضعيف، وعبد الأعلى بن عامر الثعلبيّ ضعيف أيضًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 39 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيع ح وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَال: "مَنْ حَدَّثَ عَنِّي حَدِيثًا، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ كَذِب فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبَيْنِ"). رجال هذا الإسناد: ثمانية: 1 - (محمد بن بشّار) بن عثمان العبديّ، أبو بكر بُنْدار البصريّ، ثقة حافظ [10] 1/ 6. 2 - (وكيع) بن الْجَرّاح بن مَلِيح الرُّؤَاسِيّ، أبو سفيان الكوفيّ ثقة حافظٌ عابدٌ، من كبار [9] 1/ 3. 3 - (محمد بن جعفر) أبو عبد الله البصريّ المشهور بغُنْدَر، ثقة صحيح الكتاب [9] 1/ 6. 4 - (سمرة بن جندب) بن هلال بن حُدَيج بن مُرَّة بن حَزْم بن عمرو بن جابر ابن ذي الرياستين (¬1) الْفَزَاريّ، أبو سعيد، ويقال: أبو عبد الله، ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو سليمان، صاحب النبيّ -صلى الله عليه وسلم- نزل البصرة. قال ابن إسحاق: كان حليف الأنصار، رَوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن أبي عُبيدة بن الجرّاح. ورَوَى عنه ابناه: سليمان، وسَعْد، وعبد الله بن بُريدة، وزيد بن عقبة، والرَّبِيع بن عَمِيلة، وهلال بن ¬

_ (¬1) قال في "تهذيب التهذيب" 2/ 116: وذكر الرشاطي أن ابن عبد البر صَحّف في اسم ذي الرياستين قال: وصوابه ذي الرأسين، قال: وابن عبد البر إنما نقله من كتاب ابن السكن، وهو في كتاب ابن السكن على الصواب. انتهى.

يساف، وأبو رجاء العُطَاردي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وأبو نضرة العبدي، وثعلبة بن عِبَاد (¬1) والحسن البصري وغيرهم. قال ابن إسحاق: كان من حلفاء الأنصار، قدِمت به أمه بعد موت أبيه، فتزوّجها رجلٌ من الأنصار، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَعرِض غلمان الأنصار، فمرّ به غلامٌ، فأجازه في البعث، وعُرض عليه سمُرة فردّه، فقال: لقد أجزت هذا، ورددتني، ولو صارعته لصرعته، قال: فدونكه فصارعه، فصرعه سمُرة، فأجازه. وعن عبد الله بن بُريدة عن سمرة: كنت غلامًا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكنت أحفظ عنه (¬2). وقال ابن عبد البر: سكن البصرة وكان زياد يَستخلفه عليها ستة أشهر، وعلى الكوفة ستة أشهر، فلما مات زياد استخلفه على البصرة، فأقره معاوية عاما أو نحوه، ثم عزله، وكان شديدًا على الحرورية، كان إذا أُتي بواحد منهم قتله، ولم يُقِله، ويقول: شرُّ قَتْلَى تحت أديم السماء، يُكَفِّرون المسلمين، ويَسفكون الدماء، فالحروريّة، ومن قاربهم يَطعَنون عليه، وينالون منه، وكان الحسن وابن سيرين، وفضلاء أهل البصرة يُثنون عليه. وقال ابن سيرين في رسالة سمرة إلى بَنِيه علم كثير. وقال أيضًا: كان عظيم الأمانة، صدوق الحديث، يحب الإسلام وأهله. قال ابن عبد البر: مات بالبصرة سنة ثمان وخمسين، سقط في قِدْر مملوءة ماء حارّا، كان يتعالج بالقعود عليها من كزاز شديد أصابه، فسقط في القدر الحارّة، فمات، فكان ذلك تصديقا لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له ولأبي هريرة وثالث معهما -يعني أبا محذورة-: "آخرُكم موتا في النار". وقيل: مات آخر سنة (59) أو أول سنة ستين بالكوفة، وقيل: بالبصرة كذا قال ابن حبان في "الصحابة". أخرج له الجماعة، وله من الأحاديث (123) حديثًا، اتفق الشيخان على حديثين، وانفرد البخاريّ بحديثين، ومسلم بأربعة، وله في هذا الكتاب (28) حديثًا. ¬

_ (¬1) هو -كما في "التقريب" -بكسر العين المهملة، وتخفيف الموحّدة. (¬2) "الإصابة" 3/ 150.

والباقون تقدّموا في السند الماضي. وأما شرح الحديث، فيُعلم مما سبق، وفيه مسألتان تتعلّقان به: (المسألة الأولى): في درجته: حديث سمرة بن جندب -رضي الله عنه- هذا أخرجه مسلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (5/ 39) بالسند المذكور، و (مسلم) (1/ 7) و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"، (1/ 38) و (أحمد) في "مسنده" (5/ 14 و19 و20) و (ابن حبّان) في "صحيحه" رقم (29)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار" رقم (422) من طرق عن شعبة بهذا الإسناد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 40 - (حَدَّثَنَا عُثْمانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْل، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَليٍّ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ رَوَى عَنِّي حَدِيثًا وَهُوَ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ، فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبَيْنِ). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (عُثْمانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن بن عثمان بن خُوَاستِي الْعَبْسيّ، أبو الحسن ابن أبي شيبة الكوفيّ، صاحب "المسند"، و"التفسير"، ثقة حافظ شهير، وله أوهام، وقيل: كان لا يحفظ القرآن [10]. رَوَى عن هشيم، وحميد بن عبد الرحمن الرُّؤاسيّ، وطلحة بن يحيى الزُّرَقي، وعبدة بن سليمان، وأبي حفص عمو بن عبد الرحمن الأبار، ومحمد بن فُضيل، وخلق كثير. ورَوَى عنه الجماعة، سوى الترمذي، وسوى النسائي، فرَوَى في "اليوم والليلة" عن زكريا بن يحيى السِّجْزيّ عنه، وفي "مسند علي" عن أبي بكر المروزي عنه، وروى عنه ابنه محمد، وابن سعد ومات قبله، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وزياد بن أيوب

الطوسي، وعثمان بن خرزاذ، والذهلي، وخلق كثير. قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: ابن أبي شيبة ما تقول فيه؟ -أعني أبا بكر- فقال: ما علمت إلا خيرًا، وكأنه أنكر المسألة عنه، قلت لأبي عبد الله: فأخوه عثمان؟ فقال: وأخوه عثمان ما علمت إلا خيرًا، وأثنى عليه، وقال: عثمان رجل سليم، وقال فضلك الرازي: سألت ابن معين عن محمد بن حميد الرازي، فقال: ثقة وسألته عن عثمان بن أبي شيبة، فقال: ثقة، فقلت: من أحب إليك ابن حميد، أو عثمان؟ فقال: ثقتان أمينان مأمونان. وقال الحسين بن حيان عن يحيى: ابنا أبي شيبة: عثمان وعبد الله ثقتان صدوقان، ليس فيه شك. وقال أبو حاتم: سمعت رجلا يسأل محمد بن عبد الله بن نمير عن عثمان، فقال: سبحان الله، ومثله يسأل عنه، إنما يسأل هو عنّا. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: كان عثمان أكبر من أبي بكر إلا أن أبا بكر صَنّف، قال: وقال أبي: هو صدوق. وقال العجلي: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة ثقة، وأخوه عثمان ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". قال محمد بن عبد الله الحضرمي وغيره: مات في المحرم سنة (239). وقال السراج عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة: وُلد أبي سنة (56). أخرج له الجماعة، وفي "الزهرة": روى عنه البخاري (53) ومسلم (135) (¬1)، وله في هذا الكتاب (46) حديثًا. 2 - (مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ) بن غَزْوان الضبّيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ عارفٌ رُمي بالتشيّع [9] تقدّم في 2/ 21. 3 - (الأعمش) سليمان بن مِهران، أبو محمد الكوفيّ، ثقة ثبت إمام، لكنه يدلّس [5] تقدّم في 1/ 1، والباقون تقدّموا قبل حديث. وكذا شرح الحديث، والمسائل ¬

_ (¬1) هكذا في "تهذيب التهذيب" جـ 3/ 78 والذي في برنامج الحديث (صخر) أن البخاريّ روى عنه (61) حديثًا، وأن مسلمًا روى عنه (117) حديثًا، ولعل الاختلاف حصل بالتكرار، أو لاختلاف النسخ، فالله أعلم.

المتعلّقة به، وهو حديث صحيح، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال: 41 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّه، أَنْبَأَنَا الْحسَنُ بْنُ مُوسَى الْأَشْيَبُ، عَنْ شُعْبَةَ، مِثْلَ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ). رجال هذا الإسناد: ثلاثة: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّه) الظاهر (¬1) أنه "محمد بن عبد الله" بن المبارك القرشيّ المخَرِّميّ -بخاء معجمة مفتوحة، فراء مكسورة مشدّدة- أبو جعفر البغداديّ المدائنيّ، قاضي حلوان، ثقة حافظ من [11]. روى عن أبي معاوية الضرير، ويحيى القطان، وابن مهدي، وأبي عامر العقدي، وأبي أسامة، وإسحاق بن يوسف الأزرق، والحسن بن موسى الأشيب، وغيرهم. وروى عنه البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه -كما هو الظاهر من هذه الرواية، على ما سنحققه- وروى النسائي أيضًا عن أحمد بن علي المروزي عنه، وأبو حاتم، وإبراهيم الحربي، ويعقوب بن سفيان، وابن خزيمة، وغيرهم. أمر الإمام أحمد ابنه عبد الله بالكتابة عنه. وقال أبو بكر الباغندي: كان حافظًا متقنًا. وقال ابن عقدة: سمعت نصر بن أحمد بن نصر قال: كان محمد بن عبد الله المخرِّمي من الحفاظ المتقنين والمأمونين. وقال ابن أبي حاتم: كتب عنه أبي، وهو صدوق ثقة، سئل أبي عنه، فقال: ثقة ثقة. وقال النسائي: ثقة. وقال أيضًا في "مشيخته": كان أحد الثقات، ما رأينا بالعراق مثله. وقال ابن عديّ: كان حافظًا. وقال ابن ماكولا: كان ثبتًا عالمًا. وقال الْبَرْقَاني عن الدارقطني: ثقة جليل متقن. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال مسلمة بن قاسم: كان أحد الثقات، جليل القدر، توفي ببغداد سنة ¬

_ (¬1) إنما رجّحت هذا لأنه المعروف بالرواية عن الحسن بن موسى الأشيب.

خمس وخمسين ومائتين. وقال ابن قانع: مات سنة أربع وخمسين ومائتين. وقال ابن حبان: مات سنة ستين ومائتين، أو قبلها بقليل، أو بعدها بقليل. انتهى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا وقع في النسخ المطبوعة محمد بن عبد الله، والظاهر أن المخرّميّ الذي ترجمته الآن، فإنه الذي يروي عن الحسن بن موسى الأشيب، ولا ينافيه عدم ذكر المصنّف في الرواة عنه "تهذيب الكمال"؛ لاحتمال تركه نسيانًا، وذلك لنُدْرَة رواية المصنف عنه، إذ ليس له إلا هذا الحديث، فتأمل. ووقع في النسخة "الهنديّة": "محمد بن عبدك" وكتب في هامشها: ما نصّه: الكاف في "عبدك" علامة التصغير في اللغة الفارسية، وهذا لم أجد ترجمته. والله تعالى أعلم. (تنبيهان): [الأول]: أنه ذكر الأستاذ بشار بن عوّاد، وأشار أيضًا الشيخ علي بن حسن في تحقيقيهما لهذا الكتاب أن هذه الرواية مما زاده أبو الحسن ابن القطّان، ولم يذكرا على ذلك بينة، إلا أن الأول استدلّ له بعدم ذكر الحافظ المزيّ له في "تحفة الأشراف"، وعندي في هذا نظر؛ لأمرين: (الأول): أنه لا يكفي عدم ذكر المزيّ في "تحفته" دليلا على عدم كونه من رواية المصنف؛ إذ قد وُجدت أحاديث لم يذكرها المزيّ فيه، إما نسيانًا، أو لغير ذلك، ومن أراد بيان ذلك فليراجع "الإطراف بأوهام الأطراف" للحافظ وليّ الدين العراقيّ، و"النكت الظراف" للحافظ ابن حجر رحمهما الله تعالى يجد الأمر واضحًا. (الثاني): أن زيادات ابن القطّان على المصنّف متميّزة واضحة، حيث يصدّوها بقوله: قال أبو الحسن، ونحوه، كما مر برقم 22 ويأتي برقم 281 و252 و261 و302 و327 و362 و364 و380 و394 و407 و419 و466 و474 و524 و531 و601 و663، كله إلى آخر "كتاب الطهارة" فقط، ولو تتبعت إلى آخر الكتاب لوجدت ما قلته جليًّا واضحًا. والحاصل أنه لا حجة مقنعة على أن هذه الرواية من زيادة ابن القطّان، فتأمل ذلك

بالإنصاف، ولا تسلك مسلك التقليد والاعتساف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. [الثاني]: كتب الدكتور بشار عوّاد، في تحقيقه لهذا الكتاب، ما نصّه: هذا الإسناد من زيادات ابن القطّان، وقد كان في المطبوعة مُدْمجًا في الحديث السابق، ودليلنا على ذلك أن المزّيّ لم يذكره في "تحفة الأشراف" 4/ 80 حديث (4627). وأيضًا فإن محمد بن عبد الله الذي يروى عن الحسن بن موسى الأشيب هو ابن المبارك المخَرِّميّ البغداديّ، لم يرقم المزيّ عليهّ برقم ابن ماجه حينما ترجمه في "تهذيب الكمال" (25/ 524). وأيضًا فإنه لمّا ترجم للحسن بن موسى الأشيب لم يذكر فيمن روى عنه ممن يُسمّى محمد بن عبد الله سوى ابن المبارك المخَرّميّ البغداديّ، ولم يرقم عليه برقم ابن ماجه (6/ 329) بل اكتفى في الموضعين برقم البخاريّ في "خلق أفعال العباد". والله أعلم. انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ادّعاه الدكتور المذكور من أن هذا من رواية ابن القطّان غير صحيح؛ لأن أبا الحسن ابن القطّان لا يروي عن المخرّميّ أصلًا؛ لأنه لم يَلْقَهُ، فإنه وُلد سنة (254 هـ) كما قاله الحافظ الذهبيّ في "سير أعلام النبلاء" جـ 15 ص 463 - 465 وكان موت المخرّميّ -كما في "تهذيب التهذيب" جـ 3 ص 614 - سنة بضع وخمسين ومائتين، قيل: سنة (254) أي في السنة التي وُلد فيها ابن القطان، وقيل: سنة (255). وقال ابن حبّان: مات سنة (260) أو قبلها بقليل، أو بعدها بقليل. وعلى أيّ حال فلا يمكن أن يسمع ابن القطّان القزوينيّ من المخرّميّ البغداديّ بمثل هذه المدّة، وقد صرّح هنا بقوله: "حدّثنا محمد بن عبد الله". فالحقّ عندي أنّ القائل: "حدّثنا" هو الإمامُ ابنُ ماجه، لا ابن القطان، ولا يَرِد على هذا عدم رمز أصحاب كتب الرجال لابن ماجه في ترجمة محمد بن عبد الله هذا؛ ¬

_ (¬1) انظر ما كتبه الدكتور بشّار عواد على "سنن ابن ماجه" جـ 1 ص 70 رقم الحديث (39).

لاحتمال أن يكون أغفلوه نسيانًا، وذلك لنُدْرة روايته عنه، حيث لم يرو عنه إلا في هذا الوضع، كما أسلفته قريبًا. والحاصل أن محمد بن عبد الله المخرّميّ ليس من شيوخ ابن القطّان، وإنما هو من شيوخ المصنّف، فتأمّله بالإنصاف، ولا تسلك مسلك الاعتساف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. 2 - (الحسن بن موسى الأشيب) بمعجمة، ثم تحتانيّة- أبو عليّ البغداديّ، قاضي طَبَرِستان، والموصل، وحمص، ثقة [9]. روى عن الحمادين، وشعبة، وسفيان، وجرير بن حازم، وزهير بن معاوية، وابن لهيعة، وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، وغيرهم. وعنه أحمد بن حنبل، وحجاج بن الشاعر، وأحمد بن منيع، وأبو خيثمة، وابنا أبي شيبة، والفضل بن سهل الأعرج، وهارون الحمال، وغيرهم. قال أحمد: هو من مُتَثَبِّتِي أهل بغداد. وقال ابن معين: ثقة، وكذا قال أبو حاتم عن ابن المديني. وقال أبو حاتم، وصالح بن محمد، وابن خِرَاش: صدوق، زاد أبو حاتم: ثم مات بالريّ، وحضرت جنازته. وقال ابن سعد: كان ثقةً صدوقًا في الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". وذكره مسلم في رجال شعبة الثقات في الطبقة الثالثة. وقال عبد الله بن المديني عن أبيه: كان ببغداد كأنه ضعفه (¬1). وقال الخطيب: لا أعلم علةَ تضعيفه إياه. وقال الأعين: مات سنة ثمان. وقال ابن سعد والمطين: سنة تسع. وقال حنبل: سنة (9) أو عشر ومائتين. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا. ¬

_ (¬1) قال الحافظ في "هدي الساري" ص (397): هذا ظنّ لا تقوم به حجّة، وقد كان أبو حاتم الرازيّ يقول: سمعت علي بن المدينيّ يقول: الحسن بن موسى الأشيب ثقة، فهذا التصريح الموافق لأقوال الجماعة أولى أن يُعمَل به من ذلك الظنّ. انتهى.

3 - (شعبة) بن الحجاج المذكور قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال: 42 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شبِيب، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ، فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبَيْنِ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (سفيان) بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن موهب بن منقذ بن نصر بن الحكم بن الحارث بن مالك بن ملكان بن ثور بن عبد مناة بن أدّ بن طابخة على الصحيح، وقيل: هو من ثور همدان، الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، أحد الأئمة الأعلام، ثقة حافظ فقيه عابد إمام حجة، وربّما دلّس، من رءوس الطبقة [7]. رَوَى عن أبيه، وأبي إسحاق الشيباني، وأبي السحاق السبيعي، وعبد الملك بن عمير، وعبد الرحمن بن عابس بن ربيعة، وإسماعيل بن أبي خالد، وسلمة بن كهيل، وطارق بن عبد الرحمن، والأسود بن قيس، وبيان بن بشر، وخلق كثير من أهل العراق، والحجاز، وغيرهم. ورَوَى عنه خلق لا يحصون، منهم: جعفر بن برقان، وخصيف بن عبد الرحمن، وابن إسحاق، وغيرهم من شيوخه، وأبان بن تغلب، وزائدة، والأوزاعي، ومالك، وزهير بن معاوية، ومسعر وغيرهم من أقرانه، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن سعيد القطان، وابن المبارك، وجرير، ووكيع، وعلي بن الجعد، وهو آخر من حدث عنه من الثقات، وغيرهم. قال شعبة، وابن عيينة، وأبو عاصم، وابن معين، وغير واحد من العلماء: سفيان أمير المؤمنين في الحديث. وقال ابن المبارك: كتبت عن ألف ومائة شيخ، ما كتبت عن أفضل من سفيان. وقال يونس بن عبيد: ما رأيت أفضل من سفيان، فقال له رجل: يا

أبا عبد الله، رأيت سعيد بن جبير وغيره، وتقول هذا؟ فقال: هو ما أقول، ما رأيت أفضل من سفيان. وقال وكيع عن شعبة: سفيان أحفظ مني. وقال ابن مهدي: كان وُهَيْب يقدم سفيان في الحفظ على مالك. وقال يحيى القطان: ليس أحد أحب إليّ من شعبة، ولا يعد له أحد عندي، وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان. وقال الدوري: رأيت يحيى بن معين لا يقدم على سفيان في زمانه أحدا في الفقه والحديث والزهد وكل شيء. وقال الآجري عن أبي داود: ليس يختلف سفيان وشعبة في شيء إلا يظفر سفيان. وقال أبو داود: بلغني عن ابن معين ما خالف أحد سفيان في شيء إلا كان القول قول سفيان. وقال العجلي: أحسن إسناد الكوفة سفيان عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله. وقال ابن المديني: لا أعلم سفيان صحف في شيء قط إلا في اسم امرأة أبي عبيد، كان يقول حفينة. وقال المروذي عن أحمد: لم يتقدمه في قلبي أحد. وقال عبد الله بن داود: ما رأيت أفقه من سفيان. وقال أبو قطن: قال لي شعبة: إن سفيان ساد الناس بالورع والعلم. وقال النسائي: هو أجل من أن يقال فيه: ثقة، وهو أحد الأئمة الذين أرجو أن يكون الله ممن جعله للمتقين إماما. وقال الخطيب: كان الثوريّ إمامًا من أئمة المسلمين، وعَلَمًا من أعلام الدين، مجمعًا على إمامته، مع الإتقان والضبط والحفظ والمعرفة والزهد والورع. قال أبو نعيم: خرج سفيان من الكوفة سنة خمسمين ومائة، ولم يرجع إليها، وقال العجلي وغيره: مولده سنة سبع وتسعين. وقال ابن سعد أجمعوا على أنه توفي بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة، وفي بعض ذلك خلاف، والصحيح ما هنا. أخرج له الجماعة (¬1). وله في هذا الكتاب (215) حديثًا. 2 - (حبيب) بن أبي ثابت قيس، ويقال: هند بن دينار، الأسدي الكاهليّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، ثقة فقيه، جليل، وكان كثير الإرسال والتدليس [3]. رَوَى عن زيد بن أرقم، وابن عبّاس، وابن عمر، وخلق من الصحابة والتابعين. ¬

_ (¬1) راجع "الخلاصة" ص 145 و"التقريب" ص 128.

وروى عنه مسعر، والثوريّ، وشعبة، وأبو بكر النهشليّ، وخلق كثير. وثقه ابن معين، وأبو زرعة، والنسائيّ، والعجليّ. وقال أبو بكر بن عياش: كان بالكوفة ثلاثة ليس لهم رابع: حبيب بن أبي ثابت، والحكم، وحماد، وكانوا أصحاب الفتيا، ولم يكن أحد إلا ذلّ لحبيب. وقال ابن المدينيّ: له نحو مائتي حديث. وقال العجلي: كوفي تابعيّ ثقة. وقال ابن معين والنسائي: ثقة. وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: ثقة حجة، قيل له: ثبت؟ قال: نعم، إنما روى حديثين -قال: أظن يحيى يريد منكرين- حديث المستحاضة تصلي وإن قطر الدم على الحصير، وحديث القبلة للصائم. وقال أبو زرعة: لم يسمع من أم سلمة. وقال أبو حاتم: صدوق ثقة، ولم يسمع حديث المستحاضة من عروة. وقال الترمذي عن البخاري: لم يسمع من عروة ابن الزبير شيئا. قال أبو بكر بن عياش وغيره: مات سنة (119)، وقيل: غير ذلك. وقال ابن حبان في "الثقات": كان مدلسا. وقال ابن عدي: هو أشهر وأكثر حديثا من أن أحتاج أذكر من حديثه شيئا، وقد حدث عنه الأئمة، وهو ثقة حجة كما قال ابن معين. وقال العجلي: كان ثقة ثبتا في الحديث، سمع من ابن عمر غير شيء، ومن ابن عباس، وكان فقيه البدن، وكان مفتي الكوفة قبل الحكم وحماد. وذكره أبو جعفر الطبري في "طبقات الفقهاء"، وكان ذا فقه وعلم. وقال ابن خزيمة في "صحيحه": كان مدلسا، وقد سمع من ابن عمر. مات سنة (119) وقيل: (122). أخرج له الجماعة (¬1). وله في هذا الكتاب (24) حديثًا. 3 - (ميمون بن أبي شبيب) الرَّبَعِيُّ، أبو نصر الكوفيّ، ويقال: الرقّيّ، صدوقٌ، كثير الإرسال [3]. رَوَى عن معاذ بن جبل، وعمر، وعلي، وأبي ذر، والمقداد، وابن مسعود، وقيس ¬

_ (¬1) "الخلاصة" ص 71. و"التقريب" ص 63 و"شرح النووي" 1/ 63.

بن سعد، والمغيرة بن شعبة، وعائشة، وسمرة بن جندب، وأبي عمرو الصِّينِيِّ. ورَوَى عنه إبراهيم النخعي، وحبيب بن أبي ثابت، والحكم بن عتيبة، ومنصور ابن زاذان، والحسن بن الحُرّ، وإسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصُّفَيراء. قال علي بن المديني: خفي علينا أمره. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال عمرو بن علي: كان رجلا تاجرا كان من أهل الخير، وليس يقول في شيء من حديثه: سمعت، ولم أُخْبَر أن أحدا يزعم أنه سمع من الصحابة. وقال أبو داود: ولم يدرك عائشة. وقال الحسن بن الحر عن ميمون بن أبي شبيب أردت الجمعة في زمان الحجاج، فذكر خبرا. قال أبو بكر بن أبي عاصم: مات سنة ثلاث وثمانين، وفيها أرخه ابن حبان، وزاد: قُتِل في الجماجم. وقال ابن معين: ضعيف. وقال ابن خراش: لم يسمع من علي، وصحح له الترمذي روايته عن أبي ذر، لكن في بعض النسخ، وفي أكثرها قال: حسن فقط. أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والأربعة (¬1)، وله في هذا الكتاب (3) أحاديث فقط برقم 41 و2240 و3557. 4 - (المغيرة (¬2) بن شعبة) بن أبي عامر بن مسعود بن معقب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قيس الثقفي، أبو عيسى، أو أبو محمد. وقال الطبري: يكنى أبا عبد الله. قال: وكان ضخم القامة، عَبْلَ الذراعين، بعيد ما بين المنكبين، أصهب الشعر جعده. وكان لا يَفرُقُه، أسلم قبل عمرة الحديبية، وشهدها، وبيعة الرضوان، وله فيها ذكر، وحَدَّثَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، رَوَى عنه أولاده: عروة، وعفار، وحمزة ومولاه ورّاد، وابن عم أبيه حسن بن حبة، ومن الصحابة الْمِسْوَر بن مخرمة، ومن المخضرمين فمن ¬

_ (¬1) "الخلاصة" ص 394 و"التقريب" 354. (¬2) "المغيرة" بضم الميم على المشهور، وحكى ابن السكّيت، وابن قتيبة، وغيرهما أنه يقال: بكسرها أيضًا. انتهى "شرح النووي" 1/ 63.

بعدهم، قيس بن أبي حازم، ومسروق، وقبيصة بن ذؤيب، ونافع بن جبير، وبكر بن عبد الله المزني، والأسود بن هلال، وزياد بن علاقة، وآخرون. قال ابن سعد: كان يقال له: مغيرة الرأي، وشهد اليمامة، وفتوح الشام والعراق، وقال الشعبي، كان من دُهاة العرب، وكذا ذكره الزهري. وقال قبيصة بن جابر: صحبت المغيرة، فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب، لا يخرج من باب منها إلا بالمكر لخرج المغيرة من أبوابها كلها، وولاه عمر البصرة، ففتح مِيسان، وهَمَذان، وعِدّة بلاد إلى أن عزله لا شهد عليه أبو بكرة ومن معه. قال البغوي: كان أول من وضع ديوان البصرة. وقال ابن حبان: كان أول من سُلِّم عليه بالإِمْرة (¬1)، ثم ولاه عمر الكوفة، وأقره عثمان، ثم عزله، فلما قُتل عثمان اعتزل القتال إلى أن حضر مع الحكمين، ثم بايع معاوية بعد أن اجتمع الناس عليه، ثم ولاه بعد ذلك الكوفة، فاستمر على إمرتها حتى مات سنة خمسين عند الأكثر، ونقل فيه الخطيب الإجماع، وقيل: مات قبلُ بسنة، وقيل بعدها بسنة. وقال الطبري: كان لا يقع في أمر إلا وجد له مخرجا، ولا يلتبس عليه أمران إلا ظهر الرأي في أحدهما. وأخرج البغوي من طريق هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: استعمل عمر المغيرة على البحرين، فكرهوه، وشَكَوا منه، فعزله، فخافوا أن يعيده عليهم، فجمعوا مائة ألف، فأحضرها الدِّهْقان إلى عمر، فقال: إن المغيرة أختان هذه، فأودعها عندي، فدعاه، فسأله، فقال: كذب، إنما كانت مائتي ألف، فقال: وما حملك على ذلك، قال كثرة العيال، فسُقِطَ في يد الدّهقان، فحلف وأكد الأيمان أنه لم يودع عنده قليلا ولا كثيرا، فقال عمر للمغيرة: ما حمل على هذا؟، قال: إنه افترى عليّ، فأردت أن أُخزيه. قال أبو عبيد القاسم بن سلام: توفي سنة تسع وأربعين، وهو أميرها، وقال ابن ¬

_ (¬1) قال الحافظ الذهبيّ رحمه الله تعالى في "سير أعلام النبلاء" 3/ 28: يعني قول المؤذّن عند خروج الإمام إلى الصلاة: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته". انتهى.

سعد، وأبو حسان الزيادي، وغير واحد: مات سنة خمسين، ونقل الخطيب الإجماع من أهل العلم على ذلك، وفيها في شعبان أرخه ابن حبان. وقال ابن عبد البر: مات سنة إحدى وخمسين. أخرج له الجماعة، وله (136) حديثًا، اتفق الشيخان على تسعة منها، وانفرد البخاريّ بحديث، ومسلم بحديثين (¬1). وله في هذا الكتاب (21) حديثًا. والباقيان تقدّما قبل حديثين. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين. 3 - (ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، فميمون أخرج له مسلم في "المقدّمة" هذا الحديث. 4 - (ومنها): أن سفيان فمن بعده هذا أول محلّ ذكرهم من الكتاب. 5 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. قال النووي رحمه الله تعالى: وهذا كثير، وقد يَروِي ثلاثة تابعيّون بعضهم عن بعض، وهو أيضًا كثير، لكنه دون الأول، وقد يروي أربعة تابعيون بعضهم عن بعض، وهذا قليل جدّا، وكذلك وقع مثل هذا في الصحابة رضي الله تعالى عنهم، صحابي عن صحابي كثير، وثلاثة صحابة بعضهم عن بعض، وأربعة بعضهم عن بعض، وهو قليل جدّا، وقد جمعت أنا الرباعيات من الصحابة والتابعين في أول شرح "صحيح البخاري" بأسانيدها، وجمل من طُرفها. انتهى كلام النوويّ (¬2). والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) هكذا في "الخلاصة"، والذي في برنامج الحديث (صخر) أن في "صحيح مسلم" (31) حديثًا، وهذا مع المكرّرات، فلا تنافي بين العددين، والله تعالى أعلم. (¬2) "شرح النوويّ على صحيح مسلم" 1/ 63.

وقد بيّن السيوطي رحمه الله تعالى أمثلة هذا النوع في كتابه "تدريب الراوي" 2/ 386، حيث قال: النوع (السادس والسابع والسبعون): رواية الصحابة بعضهم عن بعض، والتابعين بعضهم عن بعض، هذان ذكرهما البلقيني في "محاسن الاصطلاح"، وقال: إنهما مُهِمّان؛ لأن الغالب رواية التابعين عن الصحابة، ورواية أتباع التابعين عن التابعين، فيحتاج إلى التنبيه على ما يخالف الغالب، قال: ومن أمثلة الأول حديث اجتمع فيه أربعة صحابة، وهو حديث الزهري، عن السائب بن يزيد، عن حويطب بن عبد العزى، عن عبد الله بن السعدي، عن عمر بن الخطاب، مرفوعا: "ما جاءك الله به من هذا المال عن غير إشراف، ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك". وحديث خالد بن معدان، عن كثير بن مرة، عن نعيم بن هبار، عن المقداد بن معدي كرب، عن أبي أيوب، عن عوف بن مالك، قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو مرعوب، متغير اللون، فقال: "أطيعوني ما دمت فيكم، وعليكم بكتاب الله، فَأَحِلُّوا حلاله، وحرموا حرامه". وحديث اجتمع فيه أربع من نساء الصحابة، اثنتان من أمهات المؤمنين، وربيبتان للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو ما رواه مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، من طريق ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن زينب بنت أم سلمة، عن حبيبة بنت أم حبيبة، عن أمها أم حبيبة، عن زينب بنت جحش، قالت: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما، محمرا وجهه، وهو يقول: "لا إله إلا الله -ثلاث مرات- ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من رَدْمِ يأجوج ومأجوج مثل هذه، وعقد عشرا"، قلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم إذا كثر الخبث". وقد أفرد بعضهم هذه الأحاديث الثلاثة في جزء. قال السيوطي: وقع في بعض الأجزاء حديثٌ اجتمع فيه خمسة من الصحابة، ثم أخرج بسنده عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن عثمان بن عفان، عن عمر بن الخطاب، عن أبي بكر الصديق،

عن بلال، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الموت كفارة لكل مسلم". انتهى كلام السيوطيّ ببعض اختصار، وقال في "ألفية الحديث" مشيرًا إلى هذا: وَفِي الصِّحَابِ أَرْبَعٌ في سَنَدِ ... وَخَمْسَةٌ وَبَعْدَهَا لَمْ يُوجَدِ وقد علّق العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله تعالى فيما كتبه على "ألفية المصطلح" للسيوطي على الحديث المذكور أخيرًا: ما نصّه: هكذا نقله الناظم في "التدريب" عن بعض الأجزاء، ورواه بإسناده هو، ولم يتكلّم على إسناده من صحّة، أو ضعف، وقد نقل المتن في "الجامع الصغير"، ورمز له بأنه رواه أبو نعيم في "الحلية"، والبيهقي في "الشعب" من حديث أنس، وأطال القول فيه في "اللآلىء المصنوعة" 2/ 221 - 222 وكل طرقه التي ذكرها من حديث أنس، ولم يذكر أنه جاء من رواية بلال، وكذلك نسبه العجلوني في "كشف الخفا" 2/ 289 للبيهقي والقضاعي، ولم أجد له إسنادًا عن بلال إلا الذي رواه به الناظم، وهو إسناد يحتاج إلى نظر كثير. انتهى كلام أحمد شاكر، والله تعالى أعلم بالصواب. وأما شرح الحديث فيُعلم مما سبق، فلا حاجة إلى إعادته، ولنذكر هنا مسألتين تتعلّقان به: (المسألة الأولى): في درجته: حديث المغيرة بن شُعبة -رضي الله عنه- هذا صحيح. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (5/ 41) بالسند المذكور، و (مسلم) في "المقدّمة" (1/ 7) و (الترمذيّ) رقم (2662) وقال: حسن صحيح. [تنبيه]: قال الإمام الترمذيّ رحمه الله تعالى في "جامعه" (جـ: 5 ص: 36) -بعد أن أخرج حديث المغيرة -رضي الله عنه- هذا -: ما نصّه: "وفي الباب عن علي بن أبي طالب، وسمرة، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، ورَوَى شعبة عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن سمرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا

الحديث، ورَوَى الأعمش، وابن أبي ليلى، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكأن حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن سمرة عند أهل الحديث أصحُّ. قال: سألت أبا محمد عبد الله بن عبد الرحمن، عن حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من حَدَّث عَنِّي حديثًا، وهو يَرَى أنه كَذِبٌ فهو أحد الكاذبين". قلت له: مَن رَوَى حديثًا وهو يَعلَم أن إسناده خطأٌ أيُخافُ أن يكون قد دخل في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو إذا رَوَى الناس حديثا مرسلًا، فأسنده بعضهم، أو قَلَبَ إسنادَه يكون قد دخل في هذا الحديث؟ فقال: لا، إنما معنى هذا الحديث: إذا رَوَى الرجل حديثًا، ولا يُعرَف لذلك الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أصلٌ، فحدَّث به، فأخاف أن يكون قد دخل في هذا الحديث. انتهى كلام الترمذيّ (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ذكره الإمام الترمذيّ عن الإمام أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارميّ رحمهما الله تعالى كلام كلام نفيس، وتحقيقٌ أنيسٌ. وحاصله أنه لا يدخل في هذا الوعيد من يُحدّث بالأحاديث الواردة بالأسانيد المرسلة، والمنقطعة، أو الأحاديث التي دخل على بعض رواتها قلب، أو نحوه، إنما الذي يدخل فيه من يروي الأحاديث التي لا أصل لها من الموضوعات، والواهيات بالمرّة، فإن روايتها لا تحلّ إلا لبيان كونها غير ثابتة، وأما القسم الأول، فإن الأولى لمن يرويها أن يُبيّن ما فيها من العلل، وإن لم يُبين ذلك اتّكالًا على إيراد أسانيدها، فلا بأس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. ¬

_ (¬1) راجع "الجامع" للإمام الترمذيّ في "كتاب العلم" جـ 5/ ص 36 رقم (2662).

6 - باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين

6 - (باب اتِّباع سُنّة الخلفاء الراشدين المهديين) وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال: 43 - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّه بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بَشِيرِ بْنِ ذَكْوَانَ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّه بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي المُطَاعِ، قَالَ: سَمِعْتُ الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ يَقُولُ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ، فَوَعَظنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنهَا الْعُيُونُ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّه وَعَظْتَنَا مَوْعِظَةَ مُوَدِّعٍ، فَاعْهَدْ إِلَيْنَا بِعَهْدٍ، فَقَالَ: "عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، وَسَتَرَوْنَ مِنْ بَعْدِي اخْتِلَافًا شَدِيدًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْأُمُورَ الْمُحْدَثَاتِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ". رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (عَبْدُ اللَّه بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بَشِيرِ بْنِ ذَكْوَانَ الدِّمَشْقِيُّ) الْبَهْرَانيّ، أبو عمرو، ويقال: أبو محمد المقريء، إمام الجامع، صدوقٌ مُقَدَّم في القراءة [10]. رَوَى عن أيوب بن تميم المقريء، وقرأ عليه، وبقية، وضمرة بن ربيعة، ومروان ابن محمد، والوليد بن مسلم، وغيرهم. ورَوَى عنه أبو داود، وابن ماجه، وأحمد بن أبي الحواري، وهو من أقرانه، وابنُهُ أبو عبيدة أحمد بن عبد الله، وأبو زرعة الرازي، وأبو زرعة الدمشقي، وغيرهم. قال هشام بن مَرْثد عن ابن معين: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال الوليد بن عُتبة: ما بالعراق أقرأُ منه. قال أبو زرعة الدمشقيّ: ولا بالحجاز، ولا بالشام، ولا بمصر، ولا بخراسان في زمنه عندي أقرأ منه. قال أبو زرعة: حدثني قال: وُلدت سنة (173) يوم عاشوراء، وتُوُفّي في شوال سنة (242). وقال في موضع آخر: مات سنة (3). وقال عمرو بن دُحيم: وُلد سنة (73)، ومات سنة (42). وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (243). وله في هذا الكتاب (6) أحاديث فقط برقم 42 و474 و1327 و1817 و3285 و4186.

2 - (الْوَليدُ بْنُ مُسْلِمٍ) القرشيّ مولى بني أمية، وقيل: مولى بني العباس، أبو العبّاس الدمشقيّ، عالم الشام، ثقة، لكنه كثير التدليس والتسوية [8]. رَوَى عن حَرِيز بن عثمان، وصفوان بن عمرو، والأوزاعي، وابن جريج، وابن عجلان، وابن أبي ذئب، وسعيد بن عبد العزيز، والثوري، وعبد الله بن العلاء بن زَبْر، وثور بن يزيد، وغيرهم. ورَوَى عنه الليث بن سعد، وهو من شيوخه، وبقية بن الوليد، وعبد الله بن وهب، وهما من أقرانه، والحميدي، وسليمان بن عبد الرحمن، وأحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه، وعلي بن المديني، وغيرهم. قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال حماد كاتبه عنه: جالست ابن جابر سبع عشرة سنة، وعنه قال: كنت إذا أردت أن أسمع من شيخ سألت عنه الأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز. وقال الفضل بن زياد عن أحمد: ليس أَحَدٌ أَرْوَى عن الشاميين من إسماعيل بن عياش والوليد. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ما رأيت أعقل منه. وقال إبراهيم بن المنذر: سألني علي بن المديني أن أُخرج له حديث الوليد، فقلت له: سبحان الله وأين سماعي من سماعك؟ فقال: الوليد دخل الشام وعنده علم كثير، ولم استمكن منه، قال فأخرجته له، فتعجب من فوائده، وجعل يقول: كان يكتب على الوجه. وقال عبد الله بن علي بن المديني عن أبيه: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن الوليد، ثم سمعت من الوليد، وما رأيت من الشاميين مثله، وقد أغرب بأحاديث صحيحة، لم يَشرَكه فيها أحد. وقال أحمد ابن أبي الْحَوَاريّ: قال لي مروان بن محمد: إذا كتبت حديث الأوزاعي عن الوليد، فما تبالي مَنْ فاتك. وقال مروان أيضًا: كان الوليد عالما بحديث الأوزاعي. وقال أبو مسهر: كان الوليد معتنيا بالعلم. وقال أيضًا: كان من ثقات أصحابنا. وفي رواية من حفاظ أصحابنا. وقال أبو زرعة الدمشقي: قال لي أحمد: عندكم ثلاثة أصحاب حديث: مروان بن محمد، والوليد، وأبو مسهر. وقال يعقوب بن سفيان: كنت أسمع أصحابنا يقولون: علم الناس عند إسماعيل بن عَيّاش، والوليد بن

مسلم، فأما الوليد فمضى على سنته محمودًا، عند أهل العلم، متقنًا صحيحًا، صحيح العلم. وقال العجلي ويعقوب بن شيبة: الوليد بن مسلم ثقة. وقال محمد بن إبراهيم: قلت لأبي حاتم: ما تقول في الوليد بن مسلم؟ قال: صالح الحديث. وقال أبو زرعة الرازي: كان الوليد أعلم من وكيع بأمر المغازي. وقال ابن جَوْصاء: لم نزل نسمع أنه من كتب مصنفات الوليد صَلَح أن يلي القضاء، قال: ومصنفات الوليد سبعون كتابًا. وقال صدقة بن الفضل المروزي: قدم الوليد مكة، فما رأيت أحفظ للطوال، والملاحم منه، فجعلوا يسألونه عن الرأي، ولم يكن يحفظ، ثم رجع وأنا بمكة، وإذا هو قد حفظ الأبواب، وإذا الرجل حافظ متقن. وقال الحميدي: قال لنا الوليد بن مسلم: إن تركتموني حدثتكم عن ثقات شيوخنا، وإن أبيتم فاسألوا نحدثكم بما تسألون. وقال الإسماعيلي: أُخبرت عن عبد الله بن أحمد عن أبيه قال: كان الوليد رَفّاعًا. وقال المروذي عن أحمد: كان الوليد كثير الخطإ. وقال حنبل عن ابن معين: سمعت أبا مسهر يقول: كان الوليد ممن يأخذ عن أبي السَّفَر حديث الأوزاعي، وكان أبو السفر كذابًا. وقال مؤمل بن إهاب عن أبي مسهر: كان الوليد بن مسلم يحدث حديث الأوزاعي عن الكذابين، ثم يُدَلِّسها عنهم. وقال صالح بن محمد: سمعت الهيثم بن خارجة يقول: قلت للوليد: قد أفسدت حديث الأوزاعي، قال: كيف؟ قلت: تروي عن الأوزاعي عن نافع، وعن الأوزاعي عن الزهري، ويحيى بن سعيد، وغيرك يُدخل بين الأوزاعي وبين نافع عبد الله بن عامر، وبينه وبين الزهري إبراهيم بن مُرّة، وقُرّة، وغيرهما، فما يَحمِلك على هذا؟ قال أُنَبِّل الأوزاعي عن هؤلاء. قلت: فإذا رَوَى الأوزاعي عن هؤلاء وهؤلاء وهم ضعفاء، أحاديثَ مناكير فأسقطتهم أنت، وصَيَّرتهَا من رواية الأوزاعي عن الثقات ضُعِّف الأوزاعي، قال: فلم يَلتَفت إلى قولي. وقال الدارقطني: كان الوليد يُرسل، يروي عن الأوزاعي أحاديث عند الأوزاعي عن شيوخ ضعفاء، وعن شيوخ قد أدركهم الأوزاعي، فيسقط أسماء الضعفاء، ويجعلها عن الأوزاعي عن نافع، وعن عطاء. وقال الْفَسَوي: سألت هشام بن عمار عن الوليد،

فأقبل يصف علمه وورعه وتواضعه. وقال ابن اليمان: ما رأيت مثله. وقال الآجريّ: سألت أبا داود عن صدقة بن خالد، فقال: هو أثبت من الوليد، الوليدُ رَوَى عن مالك عشرة أحاديث، ليس لها أصل، منها أربعة عن نافع. وقال مهنا: سألت أحمد عن الوليد، فقال: اختلطت عليه أحاديث ما سمع وما لم يسمع، وكانت له منكرات، منها حديث عمرو بن العاص: "لا تُلَبِّسُوا علينا ديننا -صلى الله عليه وسلم-" (¬1)، في هذا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال عبد الله بن أحمد: سئل عنه أبي، فقال: كان رَفّاعًا. قال دُحَيم عن ابن بنت الوليد: وُلد الوليد سنة تسع عشرة ومائة. وقال ابن سعد ويعقوب بن شيبة وغيرهما: حج الوليد سنة أربع وتسعين، ومات بعد انصرافه من الحج قبل أن يصل إلى دمشق، وفي سنة أربع أرخه عمرو بن علي وأبو موسى وغيرهما. وقال دُحيم وغير واحد: مات في المحرم سنة خمس وتسعين. وقال البخاري: قال لي إبراهيم بن المنذر: قال لي حرملة بن عبد العزيز: نزل عليّ الوليدُ قافلًا من الحج، فمات عندي بذي المُرْوة. وقال معاوية بن صالح: مات سنة ست وتسعين، ولم يتابع على ذلك. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (120) حديثًا. 3 - (عَبْدُ اللهِ بْنُ الْعَلَاءِ) بن زَبْر -بفتح الزاي، وسكون الموحّدة- ابن عُطارد بن عمرو بن حُجْر، أبو زَبْر، ويقال: أبو عبد الرحمن الرَّبَعِيّ الدمشقيّ، ثقة [7]. رَوَى عن بشر بن عبيد الله، وثور بن يزيد، وربيعة بن مَرْثد، وسالم بن عبد الله بن عُمَر، والضحاك بن عبد الرحمن، وعطية بن قيس، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، والوليد بن مسلم، وغيرهم. ¬

_ (¬1) حديث صحيح، أخرجه أبو داود برقم (2308) بلفظ "لا تلبسوا علينا سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، عدة المتوفّى عنها أربعة أشهر وعشرٌ" -يعني أم الولد-. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبيّ، وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (4300) والدارقطنيّ 2/ 309 - 310 والبيهقيّ 7/ 447 - 448.

ورَوَى عنه ابنه إبراهيم، وزيد بن الحباب، وعمر بن أبي سلمة، ومحمد بن شعيب، ومروان بن محمد، وشبابة بن سوار، وأبو مسهر، وأبو المغيرة، وجماعة. قال حنبل عن أحمد: مقارب الحديث، وقال الدُّوريّ، وابن أبي خيثمة، وغير واحد عن ابن معين: ثقة. وكذا قال دُحَيم، وأيو داود، ومعاوية بن صالح، وهشام بن عمار. وقال النسائي: ليس به بأس، وكذا قال محمد بن عوف عن ابن معين. وقال ابن سعد: كان ثقة -إن شاء الله-. وقال عثمان الدارمي: سألت عبد الرحمن -يعني دحيمًا- عنه فوثقه جدّا. وقال يعقوب بن سفيان: سألته -يعني دحيمًا- عنه فقال: كان ثقة، وكان من أشراف البلد. قال يعقوب: وعبد الله بن العلاء ثقة، أثنى عليه غير واحد. وقال عمرو بن عليّ: حديث الشاميين كله ضعيف، إلا نفرًا منهم: عبد الله بن العلاء. وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، وقال في موضع آخر: هو أحب إلي من أبي مُعَيْد حفص ابن غَيْلان. وقال الدارقطني: ثقة يُجمَع حديثه. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال النسائي في "التمييز": ليس به بأس شامي. وقال العجلي: شامي ثقة. ونقل الإمام الذهبي في "الميزان" أن ابن حزم نقل عن ابن معين أنه ضعفه. قال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذي": لم أجد ذلك عن ابن معين بعد البحث. قال الحافظ: ووقع في "المحَلَّى" لابن حزم في الكلام على حديث أبي ثعلبة في آنية أهل الكتاب: عبدُ الله بن العلاء ليس بالمشهور، وهو متعقب بما تقدم. انتهى (¬1). قال إبراهيم بن عبد الله: تُوُفي أبي سنة أربع وستين ومائة، وهو ابن تسع وثمانين سنة، وصَلَّى عليه سعيدُ بن عبد العزيز. وقال إبراهيم في رواية أخرى: مات سنة خمس. أخرج له الجماعة، سوى مسلم، وله في هذا الكتاب (4) أحاديث فقط برقم 42 و3846 و4032 و4085. 4 - (يَحْيَى بْنُ أَبِي المُطَاعِ) القرشيّ الأُرْدُنّيّ -بتشديد النون- ابن أخت بلال، ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" 2/ 399 - 400.

مؤذّن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، صدوقٌ [4]. رَوَى عن العرباض بن سارية، ومعاوية. ورَوَى عنه عبد الله بن العلاء بن زَبْر، وعطاء الخراساني، والوليد بن سليمان بن أبي السائب، ذكره أبو زرعة في الطبقة الرابعة. وقال عثمان الدارمي عن دُحَيم: ثقة معروف. وذكوه ابن حبان في "الثقات". وقال أبو زرعة لِدُحَيم تعجبًا من حديث الوليد بن سليمان قال: صحبتُ يحيى بن أبي المطاع، كيف يحدث عبدُ الله بنُ العلاء بن زَبْر عنه أنه سمع العرباض، مع قرب عهد يحيى، قال: أنا من أنكر الناس لهذا، والعرباض قديم الموت. وزعم ابن القطان أنه لا يعرف حاله. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قول ابن القطّان: لا يعرف حاله، متعقّبٌ بقول دُحيم المذكور آنفًا -وهو أعرف به-: ثقة معروف. تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط. 5 - (الْعِرْبَاضَ (¬1) بْنَ سَارِيَةَ) السُّلَمِيّ، كنيته أبو نَجِيح، صحابيّ مشهورٌ، كان من أهل الصُّفّة، وهو أحد البكّائين الذين نزل فيهم قوله عز وجل: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} الآية [التوبة: 92] نَزَل الشام، وسكن حِمْص، رَوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن أبي عُبيدة بن الْجَرّاح، وعنه ابنته أم حبيبة، وعبد الرحمن بن عمرو السُّلَميّ، وسعيد بن هانىء الْخَوْلانيُّ، وجُبير بن أبي سليمان بن جبير، وحُجْر بن حجر الكَلاعيُّ، وحكيم بن عمير، وعبد الله بن أبي بلال، وأبو رُهْم السماعي، ويحيى بن أبي المطاع، وآخرون. قال محمد بن عوف كل واحد من العرباض بن سارية، وعمرو بن عَبَسَة يقول: أنا ربع الإسلام، لا نَدري أيهما أسلم قبل صاحبه. قال ضمضم بن زُرعة، عن شُريح ابن عُبيد: كان عُتبة بن عبد يقول: عرباض خير مني، وكان عرباض يقول: عتبة خير ¬

_ (¬1) بكسر أوله، وسكون الراء، بعدها موحّدة، وبعد الألف معجمة. قاله في "الإصابة" 4/ 398.

مني سبقني إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بسنة. قال خليفة: مات في فتنة ابن الزبير. وقال أبو مسهر وغير واحد: مات سنة (75). وقال أبو عمر محمد بن عبد الواحد اللغويّ الزاهد غلام ثعلب: "العرباض": الطويلُ من الناس وغيرهم، الْجَلْدُ المخاصِمُ من الناس، وهو مدح. و"السارية": الأسطوانة. قال ابن الْبَرْقيّ: له بضعة عشر حديثًا (¬1). أخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط هذا الحديث 42 وأعاده بعده 43 وحديث رقم 986 ورقم 2277. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث. 3 - (ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات الشاميين من أوله إلى آخره، إلا أن فيه انقطاعًا بين يحيى والعرباض -رضي الله عنه-، كما سيأتي بيانه. 4 - (ومنها): أن صحابيّه -رضي الله عنه- من المقلّين من الرواية، فليس له إلا نحو عشرة أحاديث، وهي في "السنن". راجع "تحفة الأشراف" 7/ 286 - 290، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: عن يَحْيى بْنِ أَبِي المُطَاعِ القرشيّ الأردنّيّ، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَة) -رضي الله عنه- هكذا ثبت تصريح يحيى بسماعه من العرباض -رضي الله عنه- في هذه الرواية، وقد سبق في ترجمته أن أبا زرعة ودُحيمًا أنكرا سماعه منه، لأنه قديم الموت، وسيأتي تمام البحث في ذلك في المسألة الثالثة -إن شاء الله تعالى-. ¬

_ (¬1) راجع "تهذيب الكمال" 19/ 549 - 550.

(يَقُولُ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ) ظرف متعلّق بـ "قام": أي يومًا من الأيام، قيل: "ذات" مقحمة، وقيل: بل هي من إضافة الشيء إلى نفسه على رأي من يُجيزه. قاله في "الفتح" (¬1). وقال الطيبيّ: "ذات" يجوز أن تكون صلة، قال صاحب "النهاية" في حديث: "يطلع عليكم رجلٌ من ذي يَمَنٍ على وجهه مَسْحة من ذي مُلْك": كذا أورده أبو عُمَر الزاهدُ، وقال: "ذي" هنا صِلَةٌ: أي زائدة (¬2). وأن تكون غير صِلَة في "المغرب": "ذو" بمعنى الصاحب، تقول للمرأة: امرأة ذات مال، ثم أجروها مُجرَى الأسماء التامّة المستقلّة بأنفسها، فقالوا: ذات قديمة أو محدثةٌ، ثم استعملوها استعمال النفس والشيء، فعلى هذا قوله: "ذاتَ يوم" يفيد من التوكيد ما لا يُفيده لو لم يُذكر؛ لئلّا يُتوهَّمَ التجوّز إلى مطلق الزمان، نحو قولك: رأيت نفس زيد، وقولك: رأيت زيدًا. انتهى كلام الطيبيّ (¬3). وفي الرواية الآتية بعد حديث (44) من رواية عبد الرحمن بن عمرو السلميّ، عن العرباض -رضي الله عنه- قال: "صلّى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الصبح، ثم أقبل علينا بوجهه، فوعظنا ... " الحديث. (فَوَعَظَنَا) من باب ضرب، يقال: وعَظَه يَعِظه وَعْظًا وعِظَةً -بكسرٍ، ففتح-: أمره بالطاعة، ووصّاه بها، وعليه قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} الآية [سبأ: 46]: أي أُوصِيكم وآمركم، فاتّعظ: أي ائتمر، والاسم الموعِظة. قاله الفيّوميّ (¬4) (مَوْعِظَةً) بفتح الميم، وسكون الواو، وكسر العين الهملة: اسم من الوعظ. وقوله (بَلِيغَةً) صفة لـ "موعظة": أي تامّةً في الإنذار من المبالغة: أي بالغ فيها بالإنذار ¬

_ (¬1) "فتح الباري" 11/ 391. (¬2) "النهاية" 2/ 173. (¬3) "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 422. (¬4) "المصباح المنير" 2/ 667.

والتخويف، لا من البلاغة المفسّرة بوجازة اللفظ، وكثرة المعنى مع البيان؛ لعدم المناسبة بالمقام. قاله في "المرعاة" (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "البلاغة الخ" فيه نظر، أيّ مانع من إرادة البلاغة بالمعنى الثاني، بل هو أقرب؛ لأن المبالغة بالإنذار والتخويف يوجد بها، كما هو أسلوب القرآن الكريم، فإن البلاغة هي التعبير عن المعنى الصحيح بما طابقه من اللفظ الرائق من غير مزيد على المقصود، ولا انتقاص عنه في البيان. ومعنى بلاغة الكلام مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته، ومعنى مقتضى الحال أن يعبر بالتنكير في محله، وبالتعريف في محلّه، وما أشبه ذلك. قاله الكفويّ. انتهى (¬2). وقال في "اللسان": البلاغة: الفصاحة، ورجلٌ بَلِيغٌ -بفتح، فكسر- وبَلْغٌ -بفتح، فسكون- وبِلْغٌ -بكسر، فسكون-: حسنُ الكلام، فصيحه، يَبْلُغُ بعيارة لسانه كُنْهَ ما في قلبه، والجمع بُلغاء. انتهى (¬3). ومما لا شكّ فيه أن موعظته -صلى الله عليه وسلم- مشتملة على البلاغة بمعناها اللغويّ، والاصطلاحيّ، فلا وجه لإنكار تفسير قوله: "بليغة" بهذا المعنى، فتبصّر. والله تعالى أعلم. وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: البلاغة في الموعظة مستحسنة؛ لأنها أقرب إلى قبول القلوب، واستجلابها، والبلاغة هي التوصل إلى إفهام المعاني المقصودة، وإيصالها إلى قلوب السامعين بأحسن صورة، من الألفاظ الدالة عليها، وأفصحِها، وأحلاهما للأسماع، وأوقعِها في القلوب. انتهى (¬4). ¬

_ (¬1) "المرعاة" 1/ 262. (¬2) "الكليات" للكفويّ ص 236 - 237. (¬3) "لسان العرب" 8/ 420. (¬4) "جامع العلوم والحكم" 2/ 86.

(وَجِلَتْ) -بفتح، فكسر-: أي خافت وخشعت، يقال: وَجِل كفَرِحَ يوجَل بالفتح، ويَيْجلُ، وياجَل ويِيجَل بكسر أوله وَجلَا وموجَلًا بفتح الجيم، كمَقْعَد. أفاده في "القاموس" (مِنْهَا الْقُلُوبُ) بالرفع على الفاعليّة لـ"وجل": أي خافت من أجل تلك الموعظة البليغة قلوب الحاضرين؛ لتأثيرها في النفوس، واستيلاء سلطان الخشية عليها (وَذَرَفَت) بفتح الراء: أي دمعت، يقال: ذَرَف الدمع يَذْرِف ذَرْفًا، وذَرَفَانًا، وذُروفًا، وذَرِيفًا، وتَذْرَافًا: سال، وعينُهُ: سال دمعها. قاله في "القاموس" (مِنْهَا الْعُيُونُ) بالرفع أيضًا على الفاعلية: أي سال منها الدمع، وإسناد الذَّرْف إلى العيون مع أن السائل دمعها، كإسناد الفيض إليها في قوله تعالى: {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} الآية [التوبة:92]، كأن أعينهم ذَرَفت مكان الدمع، ففيه من المبالغة ما لا يخفى. والمقصود أنها أثّرت فيهم ظاهرًا وباطنًا. ووقع في الرواية التالية تقديم قوله: "ذَرَفت منها العيون" على قوله: "وجِلَت منها القلوب"، قيل: فائدة تقديمه عليه مع أن الأولى تأخيره؛ للإشعار بأن الموعظة أثّرت فيهم، وأخذت بمجامعهم ظاهرًا وباطنًا. (¬1). (فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَعَظْتَنَا مَوْعِظَةَ مُوَدِّعٍ) بنصب "موعظة" على أنه مفعول مطلق نوعيّ، وإضافته إلى "المودع" وهو بتشديد الدال المهملة المكسورة، اسم فاعل من ودعّ توديعًا: إذا شيّعه عند سفره، أي كأنك تودّعنا بهذه الموعظة حيث بالغت فيها، وفائدة هذا القيد أن المودِّع -بالكسر- لا يترك عند الوَداع شيئًا مما يُهِمّ المُوَدَّع -بالفتح- ويفتقر إليه إلا ويورده، ويستقصي فيه (¬2). (فَاعْهَدْ) بفتح الهاء أمر من العَهْد بمعنى الوصيّة، والفاء فصيحيّة، أي إذا كان الأمر كذلك فمرنا بما فيه كمال صلاحنا. وقوله (إِلَيْنَا بِعَهْدٍ) متعلّق بما قبله: أي أَوْصِنَا ¬

_ (¬1) "شرح الطيبيّ على المشكاة" 2/ 633. (¬2) "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 633.

بوَصِيّة، و"العَهْد": الوصيّةُ، يقال: عَهِدَ إليه يَعْهَدُ من باب تَعِبَ: إذا أوصاه. وفي الرواية التالية: "فماذا تعهد إلينا". وفي رواية لأحمد بلفظ: "فأوصنا". قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: قولهم: "فأوصنا". يَعْنُون وصيةً جامعةً كافيةً، فإنهم لمّا فَهِمُوا أنه مُوَدِّع استوصوه وصيةً ينفعهم التمسك بها بعده، ويكون فيها كفايةٌ لمن تمسك بها، وسعادة له في الدنيا والآخرة. (فَقَالَ: "عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللَّه) أي الزموا تقوى الله تعالى، وهذا من جوامع كلمه -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن التقوى امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، فهي كافلة سعادة الدنيا والآخرة لمن تمسّك بها، وهي وصيّة الله للأولين والآخرين بقوله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] (وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ) أي وعليكم بقبول قول من ولّاه الله عز وجل عليكم، وطاعته بما أمركم به عادلًا كان أو جائرًا ما لم يأمر بمعصية؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا) خبرٌ لـ "كان" المحذوفة مع اسمها، أي وإن كان المطاع عبدًا حبشيًّا، وهذا الحذف كثيرٌ بعد "إن"، كما أشار إليه ابن مالك في "الخلاصة" بقوله: وَيَحْذِفُونَهَا وَيُبْقُونَ الخُبَرْ ... وَبَعْدَ "إِنْ" وَ"لَوْ" كَثِيرًا ذَا اشْتَهَرْ وفي رواية الترمذيّ: "وإن عبدٌ حبشيّ"، وعليه فيكون الحذف لـ"كان" مع خبرها، أي وإن كان عبد حبشيّ مُوَلًّى عليكم، وهذا الحذف أقلّ مما قبله. وفي رواية لأحمد والدارميّ: "وإن كان عبدًا حبشيّا". والمعنى: وإن صار أدنى الخلق أميرًا عليكم، فلا تستنكفوا عن طاعته، أو لو استولى عليكم عبد حبشيّ فأطيعوه مخافة إثارة الفتن. قال الخطّابي رحمه الله تعالى: يريد به طاعة من ولّاه الإمام عليكم، وإن كان عبدًا حبشيّا، ولم يُرد بذلك أن يكون الإمام عبدًا حبشيّا، وقد ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الأئمة من قريش"، وقد يُضرب المثلُ في الشيء بما لا يكاد يصحّ في الوجود، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من بنى لله مسجدًا، ولو كمَفْحَص قطاة بنى الله له بيتًا في الجنّة"، وقدرُ مَفْحَص القطاة لا

يكون مسجدًا لشخص آدميّ. ونظائر هذا في الكلام كثير. انتهى (¬1). وقال الطيبيّ: هذا واردٌ على سبيل المبالغة، لا التحقيق، كما جاء: "من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة"، يعني لا تستنكفوا عن طاعة من وُلّي عليكم، ولو كان عبدًا حبشيّا؛ إذ لو استنكفتم عنه لأدّى إلى إثارة الحرب، وتهييج الفتن، وظهور الفساد في الأرض، فعليكم بالصبر والمداراة حتى يأتي أمر الله. انتهى (¬2). وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: هذا مما تكاثرت به الروايات عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو مما اطّلَعَ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من أمر أمته بعده، وولايةِ العبيد عليهم. وفي "صحيح البخاري" عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اسمعوا وأطيعوا وإن استُعمِلَ عليكم عبد حبشي، كان رأسه زبيبة"، وفي "صحيح مسلم" عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: "إن خليلي -صلى الله عليه وسلم- أوصاني أن أسمع وأطيع، ولو كان عبدًا حبشيا مُجَدَّع الأطراف". والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جِدّا، ولا ينافي هذا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي في الناس اثنان"، متّفقٌ عليه، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "الناس تبع لقريش"، متّفقٌ عليه، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "الأئمة من قريش" (¬3)؛ لأنّ ولاية العبيد قد تكون من جهة إمام قُرَشِيٍّ، ويشهد لذلك ما أخرجه الحاكم من حديث علي -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال: "الأئمة من قريش، أبرارُها أمراء أبرارها، وفُجّارها أمراء فجارها، ولكلٍّ حقٌّ فآتوا كل ذي ¬

_ (¬1) "معالم السنن" 7/ 11. (¬2) "الكاشف" 2/ 634. (¬3) هو ما أخرجه أحمد في "مسنده" 18941 - حدثنا سليمان بن داود، حدثنا سكين، حدثنا سيار بن سلامة، سمع أبا برزة يرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الأئمة من قريش، إذا استُرحِمُوا رَحِمُوا، وإذا عاهدوا وَفَوا، وإذا حَكَموا عَدَلُوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لَعنة الله والملائكة والناس أجمعين". وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات، وسكين بن عبد العزيز وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: لا بأس به، والباقون كلهم رجال الجماعة. وسليمان هو أبو داود الطيالسيّ.

حق حقه، وإن أَمَّرَت عليكم قريشٌ عبدًا حبشيّا فاسمعوا له وأطيعوا"، وإسناده جيد، ولكنه رُوي عن علي موقوفا، وقال الدارقطني: هو أشبه. وقد قيل: إن العبد الحبشي إنما ذَكَرَه على وجه ضرب المثل، وإن لم يصح وقوعه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيمن بنى مسجدًا، ولو كمَفْحَص قَطاة (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن يؤوّل بأن المراد به من تولّى من جهة الإمام، أو أن هذا مثلٌ ضربه النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وإن لم يصحّ وقوعه. أو هو محمول على المتغلّب المتسلّط. والله تعالى أعلم. (وَسَتَرَوْنَ مِنْ بَعْدِي) أي بعد موتي (اخْتِلَافًا شَدِيدًا) وفي رواية أبي داود: "فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا" قال الطيبيّ: والفاء في "فإنه" للتسبيب، جَعَلت ما بعدها سببًا لما قبلها، يعني من قبِل وصيّتي، والتزم تقوى الله، وقَبِل طاعة من وليّ عليه، ولم يُهيج الفتن أمن بعدي ما يرى من الاختلاف الكثير، وتشعُّب الآراء، ووقوع الفتن، ثم أكّد الوصيّة بقوله: "فعليكم بسنتي" على سبيل الالتفات، وعطف عليه قوله: "وإياكم ومحدثات الأمور" تقريرًا بعد تقرير، أو توكيدًا بعد توكيد، وكذا قوله: "تمسّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ" تشديد على تشديد. انتهى. (فَعَلَيْكُم) اسم فعل بمعنى الزموا (بسُنَّتِي) أي بطريقتي الثابتة عنّي واجبًا، أو مندوبًا: أي فالزموها، واعملوا بها (وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ) أي والزموا سنتهم؛ لأنهم فيما سنّوه إما متّبعون لسنتي نفسها، وإما متّبعون لما فهموا منها في الجملة وظهر لهم تفصيلها على وجه يَخفى على غيرهم. قال المنذريّ رحمه الله تعالى في "مختصر السنن" والخلفاء: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ -رضي الله عنه-، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اقتَدُوا بالذين من بعدي: أبي بكر وعمر"، فخص اثنين، وقال: "فإن لم تَجِديني فأْتِي أبا بكر"، فخصه، فإذا قال أحدهم، وخالفه ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبّان في "صحيحه" 4/ 490 رقم 491 وإسناده صحيح.

فيه غيره من الصحابة كان المصير إلى قوله أولى. انتهى كلام المنذريّ (¬1). وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: والخلفاء الراشدون الذين أُمرنا بالاقتداء بهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ -رضي الله عنه-، فإن في حديث سفينة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم يكون مُلْكًا"، وقد صححه الإمام أحمد، واحتج به على خلافة الأئمة الأربعة. ونَصَّ كثير من الأئمة على أن عمر بن عبد العزيز خليفة راشد أيضًا، ويدل عليه ما أخرجه الإمام أحمد من حديث حذيفة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: تكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوّة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله، ثم تكون ملكا عَاضّا ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة"، ثم سكت. فلما وُلِّيَ عمرُ بن عبد العزيز دخل عليه رجل، فحدثه بهذا الحديث، فَسُرّ له، وأعجبه (¬2). ¬

_ (¬1) "مختصر السنن" 7/ 12. (¬2) أخرجه أحمد مطوّلًا 4/ 273 رقم (17680) ولفظه: حدثنا سليمان بن داود الطيالسي، حدثني داود بن إبراهيم الواسطي، حدثني حبيب بن سالم، عن النعمان بن بشير، قال: كنا قعودا في المسجد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان بشير رجلا يَكُفّ حديثه، فجاء أبو ثعلبة الْخُشَنيّ، فقال: يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الأمراء، فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته، فجلس أبو ثعلبة، فقال حذيفة: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جَبْرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة". ثم سكت، قال حبيب: فلما قام عمر بن عبد العزيز، وكان يزيد بن النعمان بن بشير في صحابته، فكتبت إليه بهذا =

وكان محمد بن سيرين يُسْأَل أحيانا عن شيء من الأشربة، فيقول: نَهَى عنه إمام هدى عمرُ بنُ عبد العزيز -رضي الله عنه- ورحمه (¬1). وقال القاري في "المرقاة": الخلفاء قيل: هم الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي -رضي الله عنه-؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة"، وقد انتهت بخلافة علي -رضي الله عنه-. انتهى (¬2). (الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ) قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: إنما وصف الخلفاء بـ "الراشدين"؛ لأنهم عرفوا الحقّ، وقَضَوا به، فالراشد ضد الغاوي، والغاوي من عرف الحق وعمل بخلافه، وقوله: "المهديين" يعني أن الله يَهديهم للحق، ولا يُضلهم عنه، فالأقسام ثلاثة: راشد، وغَاوٍ، وضالّ، فالراشدُ عَرَفَ الحقَّ واتبعه، والغاوي عرفه ولم يتبعه، والضالُّ بالكلية لم يَعرِفه بالكلّيّة، فكل راشد فهو مهتدٍ، وكل مهتد هداية تامة فهو راشد؛ لأن الهداية إنما تتم بمعرفة الحق والعمل به أيضًا. انتهى (¬3). وقال بعض المحققين: وصف "الراشدين" بـ"المهديين"؛ لأنه إذا لم يكن مهتديا في نفسه لم يصلح أن يكون هاديا لغيره؛ لأنه يوقع الخلق في الضلالة من حيث لا يشعر. فأبو بكر الصدّيق، وعمر الفاروق، وعثمان ذو النورين، وأبو تراب عليّ -رضي الله عنهم- لما كانوا أفضل الصحابة، وواظبوا على استمطار الرحمة من السحابة النبويّة، وخصّهم الله تعالى ¬

_ = الحديث أُذَكِّره إياه، فقلت له: إني أرجو أن يكون أمير المؤمنين -يعني عمر- بعد الملك العاض والجبرية، فأدخل كتابي على عمر بن عبد العزيز، فسُرَّ به، وأعجبه. وهذا إسناد رجاله موثقون، فداود بن إبراهيم الواسطيّ وثقه أبو داود الطيالسيّ، وروى عنه، وحبيب بن سالم وثقه أبو حاتم، وأبو داود، وتكلم فيه بعضهم، فالحديث لا ينقص عن درجة الحسن. (¬1) "جامع العلوم والحكم" 2/ 94. (¬2) "المرقاة" 1/ 409. (¬3) "جامع العلوم والحكم" 2/ 97.

بالمراتب العليّة، والمناقب السنيّة، ووطّنوا أنفسهم على مشاقّ الأسفار، ومجاهدة النفس، والقتال مع الكفّار، أنعم الله تعالى عليهم بمنصب الخلافة العظمى، والتصدّي إلى الرئاسة الكبرى؛ لإشاعة أحكام الدين، وإعلاء أعلام الشرع المتين، رفعًا لدرجاتهم، وازديادًا لمثوباتهم. فخلف الصدّيق -رضي الله عنه- بإجماع الصحابة -رضي الله عنهم- سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام؛ لعلمه، وحمله ووقاره، وسلامة نفسه، ولين جانبه، والناس متحيّرون، والأمر غير ثابت، فحَمَى بيضة الدين، ودفع غوائل المرتدّين، وجمع القرآن، وفتح بعض البلدان. ثم استُخلف الفاروق -رضي الله عنه-، والأمر مستقرّ، والقوم مطيعون، والفِتَن ساكنة، فرفع رايات الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وفَتَح أكثر أقاليم الأرض؛ لأنه في غاية الصلابة، وكمال الشهامة، ومتانة الرأي، وحسن التدبير، وخلافته عشر سنين وستة أشهر وعشر ليال. ثم بويع لعثمان -رضي الله عنه- لكونه أحقّ من وُجد في ذلك الوقت لدى أهل الحلّ والعقد، من المهاجرين والأنصار، فأظهر في مدّة اثنتي عشرة سنة مساعي جميلة في الإسلام، وجمع الناس على مصحف واحد بعد ما كانوا يقرءون بقراءات مختلفة على حسب السماع، وبَعَث بها إلى الآفاق، ولذا نُسب المصحف إليه، وجُعل إمامًا. ثم بويع بعده لعليّ -رضي الله عنه-؛ لأنه أفضل الصحابة بعدهم، وسيّد بني هاشم بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلو لم تقع الخلافة على الترتيب المذكور لحُرم أحدهم من ذلك المنصب المشكور، ولا يخفى كون هذا من جملة معجزاته -صلى الله عليه وسلم- الدالّ على صدق نبوّته؛ لأنه استبدّ بذكر هذا الغيب، وقال: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكًا عضوضًا"، ووقع كما قال (¬1). وقال التوربشتيّ في "شرح المصابيح": المعنيّون بهذا القول هم الخلفاء الأربعة؛ ¬

_ (¬1) أفاده في "المرقاة شرح المشكاة" 1/ 409 ونقلته ببعض تصرّف.

لأنه قال في حديث آخر: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة"، وقد انتهت الثلاثون بخلافة علي -رضي الله عنه-، وليس معنى هذا القول نفي الخلافة عن غيرهم؛ لأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "يكون في أمتي اثنا عشر خليفةً"، وإنما المراد تفخيم أمرهم، وتصويب رأيهم، والشهادة لهم بالتفوّق فيما يمتازون به عن غيرهم من الإصابة في العلم، وحسن السيرة، واستقامة الأحوال، ولهذا وصفهم بـ "الراشدين"، وهم الذين أوتوا الرشَدَ في مقاصدهم الصحيحة، وهُدُوا إلى الأقوم والأصلح في أقوالهم وأفعالهم. وإنما ذكر سنّتهم في مقابلة سنّته؛ لأمرين: (أحدهما): أنه عَلِم أنهم لا يُخطئون فيما يستخرجونه من سنته باجتهادهم. (والثاني): أنه -صلى الله عليه وسلم- عَلِم أن بعضًا من سننه لا يشتهر بزمانه، وإن عَلِمه الأفراد من أصحابه، ثم يشتهر في زمانهم، فيضاف إليهم، فربما يستدرع أحدٌ من ردّ تلك السنن بإضافتها إليهم، فأطلق القول باتباع سنتهم؛ سدّا للباب. انتهى. وقيل: الحديث عامّ في كلّ خليفة راشد لا يخُصّ الخلفاء الراشدين الأربعة، ومعلومٌ من قواعد الشريعة أنه ليس لخليفة راشد أن يَشرَع طريقة غير ما كان عليها النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فليس المراد في الحديث بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته -صلى الله عليه وسلم- من جهاد الأعداء، وتقوية شعائر الدين، ونحوها. انتهى. (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: المراد بالموافقة في قوله: "الموافقة لطريقته -صلى الله عليه وسلم-" الموافقة إما نصّا، أو استنباطًا، فافهم. والله تعالى أعلم. وقال الشوكانّي في "الفتح الرباني": إن أهل العلم قد أطالوا الكلام في هذا، وأخذوا في تأويله بوجوه، أكثرها مُتَعَسَّفة، والذي ينبغي التعويل عليه، والمصير إليه هو العمل بما يدل عليه هذا التركيب، بحسب ما تقتضيه لغة العرب، فالسنة هي الطريقة، فكأنه قال: الزموا طريقتي، وطريقة الخلفاء الراشدين، وقد كانت طريقتهم هي نفس ¬

_ (¬1) "المرعاة" 1/ 263.

طريقته، فإنهم أشد الناس حرصًا عليها، وعملًا بها في كل شيء، وعلى كل حال، كانوا يَتَوَقَّون مخالفته في أصغر الأمور فضلًا عن أكبرها، وكانوا إذا أعوزهم الدليل من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- عملوا بما يَظهَر لهم من الرأي بعد الفحص والبحث والتشاور والتدبر، وهذا الرأي عند عدم الدليل هو أيضا من سنته؛ لِمَا دل عليه حديث معاذ -رضي الله عنه- لمّا قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بم تقضي؟ " قال: بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد"، قال: فبسنة رسول الله، قال: "فإن لم تجد"، قال: أجتهد رأيي، قال: "الحمد لله الذي وَفَّق رسولَ رسوله"، أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-، وهذا الحديث -وإن تكلم فيه بعض أهل العلم بما هو معروف- فالحق أنه من قسم الحسن لغيره، وهو معمول به، وقد أوضحت هذا في بحث مستقل. [فإن قلت]: إذا كان ما عَمِلوا فيه بالرأي هو من سنته لم يبق لقوله: "وسنة الخلفاء الراشدين" ثمرة. [قلت]: ثمرته أن من الناس من لم يُدرك زمنه -صلى الله عليه وسلم-، وأدرك زمن الخلفاء الراشدين، أو أدرك زمنه وزمن الخلفاء، ولكنه حَدَث أمرٌ لم يَحدُث في زمنه، ففعله الخلفاء، فأشار بهذا الإرشاد إلى سنة الخلفاء إلى دفع ما عساه يتردد في بعض النفوس من الشك، ويَختلِج فيها من الظنون، فأقل فوائد الحديث أن ما يَصدُر عنهم من الرأي، وإن كان من سنته كما تقدم، ولكنه أولى من رأي غيرهم عند عدم الدليل. وبالجملة فكثيرًا ما كان -صلى الله عليه وسلم- ينسب الفعل أو الترك إليه، أو إلى أصحابه في حياته، مع أنه لا فائدة لنسبته إلى غيره مع نسبته إليه؛ لأنه محل القدوة، ومكان الأسوة، فهذا ما ظهر لي في تفسير هذا الحديث، ولم أقف عند تحريره على ما يوافقه من كلام أهل العلم، فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله العظيم. انتهى كلام الشوكاني (¬1). ¬

_ (¬1) راجع "تحفة الأحوذي" 7/ 413.

وقيل: المعنى في ذكر سنة الخلفاء مع سنّته أن يُعْلَم أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مات على تلك السنّة، وأنه لا يحتاج مع قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إلى قول أحد، فلا زائد إذًا على ما ثبت في السنّة إلا أنه قد يُخاف أن تكون منسوخة بسنة أخرى، فافتقر العلماء إلى النظر في عمل الخلفاء بعده؛ ليعلموا أن ذلك هو الذي مات عليه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من غير أن يكون له ناسخٌ؛ لأنهم كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمره. انتهى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا يقتضي أن المراد بسنة الخلفاء هي السنة المنصوص عليها فقط، وهذا خلاف الصواب، بل الحقّ أن لهم سنة تُعزى إليهم، وهي التي استنبطوها من الأدلّة الشرعيّة، فنُسبت إليهم، فأمر -صلى الله عليه وسلم- باتباعها؛ لأنها مستنبطة من سنته. فتفطّن، والله الهادي إلى سواء السبيل. وقال صاحب "سبل السلام": أما حديث: "عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين بعدي، فإنه ليس المراد بسنّة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته -صلى الله عليه وسلم- من جهاد الأعداء، وتقوية شعائر الدين ونحوها، فإن الحديث عام لكل خليفة راشد، لا يَخُصُّ الشيخين، ومعلوم من قواعد الشريعة أنه ليس لخليفةٍ راشدٍ أن يَشْرَع طريقةً غير ما كان عليها النبي -صلى الله عليه وسلم-. ثم هذا عمر -رضي الله عنه- نفسُهُ الخليفةُ الراشد سَمَّى ما رآه من تجميع صلاته ليالي رمضان بدعةً، ولم يَقُل: إنها سنة فتأمل. على أن الصحابة -رضي الله عنهم- خالفوا الشيخين في مواضع ومسائل، فدل على أنهم لم يحملوا الحديث على أن ما قالوه، وفعلوه حجة. قال المباركفوريّ رحمه الله بعد نقل كلام صاحب "السبل" هذا: فإذا عرفت أنه ليس المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته -صلى الله عليه وسلم- لاح لك أن الاستدلال على كون الأذان الثالث -يعني أذان الجمعة- الذي هو من مجتهدات عثمان -رضي الله عنه- أمرًا مسنونًا ليس بتامّ، ألا ترى أن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: الأذان الأول يوم الجمعة بدعة، فلو كان هذا الاستدلال تاما، وكان الأذان الثالث أمرًا مسنونًا، لم يُطلِق عليه

لفظ البدعة، لا على سبيل الإنكار، ولا على سبيل غير الإنكار، فإن الأمر المسنون لا يجوز أن يُطلَق عليه لفظ البدعة بأي معنى كان، فتفكر. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي فيما قاله المباركفوريّ نظرٌ؛ بل الحقّ أنه لا تنافي بين تسمية عمر -رضي الله عنه- للتراويح، ولا ابن عمر رضي الله عنهما للأذان المذكور بدعةً وبين الأمر باتباع سنة الخلفاء في حديث الباب؛ لأن التسمية تعود إلى اللغة، لا إلى الشرع؛ فمن حيث كون ذلك لم يكن في عهده -صلى الله عليه وسلم- سُمّي بدعة، وهذا معناه لغةً؛ لكونه حدث بعد أن لم يكن، وأما أن يكون بدعة شرعيّة من البدع التي قال فيها -صلى الله عليه وسلم-: "كل بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار"، فكّلا ثم كلّا. قال الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى-عند قوله "فإن كلَّ بدعة ضلالة": ما نصّه: المراد بالبدعة ما أُحدِث مما لا أصل له في الشريعة يَدُلُّ عليه، وأما ما كان له أصلى من الشرع يَدُلُّ عليه فليس ببدعة شرعا وإن كان بدعة لغة. انتهى. وسيأتي تحقيق ذلك في الباب التالي، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم. (عَضُّوا) بفتح العين، أي أمسكوا، قال الفيّوميّ: عَضِضتُ اللُّقمة، وبها، وعليها عَضًّا: أمسكتها بالأسنان، وهو من باب تَعِبَ في الأكثر، لكن المصدر ساكنٌ، ومن باب نفع لغة قليلةٌ، وفي أفعال ابن القطّاع من باب قتل. انتهى (¬1). قال الجامع: إن صحّ ما حكاه ابن القطّاع يجوز هنا ضم العين. والله تعالى أعلم. (عَلَيْهَا) أي على السنّة (بِالنَّوَاجِذِ) جمع ناجذ: هو السنّ بين الضرس والناب، يقال: ضَحِكَ حتى بدت نواجذه، قال ثعلب: المراد الأنياب، وقيل: الناجذ آخر الضِّرْس، وهو ضِرس الْحُلُم؛ لأنه ينبت بعد البلوغ وكمال العقل، وقيل: الأضراس كلّها نواجذ، قال في "البارع": وتكون النواجذ للإنسان والحافرِ، وهي من ذوات الخفّ الأنياب. قاله في "المصباح". وفي "القاموس": النواجذ: أقصى الأضراس، وهي ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" 2/ 415.

أربعة، أو هي الأنياب، أو التي تلي الأنياب، أو هي الأضراس كلّها، جمع ناجذ، والنّجْذُ: شدّة العضّ بها، والكلام الشديد، وعَضَّ على ناجذه: بلغ أشُدّه. انتهى. وقال الماوردي: إذا تكاملت الأسنان فهي ثنتان وثلاثون، منها أربعة ثنايا، وهي أوائل ما يَبْدُو للناظر من مقدم الفم، ثم أربع رباعيات، ثم أربع أنياب، ثم أربع ضواحك، ثم اثنا عشر أضراس، وهي الطواحن، ثم أربع نواجذ، وهي أواخر الأسنان، كذا نقله الأبهري. والصحيح أن الأضراس عشرون، شاملة للضواحك والطواحن والنواجذ. والعضّ بالنواجذ مَثَلٌ في التمسّك بهذه الوصيّة بجميع ما يُمكن من الأسباب المعينة عليه، كمن يتمسّك بشيء، ثم يستعين عليه بأسنانه استظهارًا للمحافظة. وقال في "تحفة الأحوذي": العض كناية عن شدة ملازمة السنة، والتمسك بها، فإن من أراد أن يأخذ شيئا أخذًا شديدًا يأخذ بأسنانه، أو المحافظةُ على الوصية بالصبر على مقاساة الشدائد، كمن أصابه أَلَمٌ لا يُريد أن يُظهِره، فيَشُدّ بأسنانه بعضها على بعض (¬1). وقال في "المرقاة": قال بعض المحقّقين: هذه استعارة تمثيليّة، شُبِّه حال المتمسّك بالسنّة المحمديّة بجميع ما يمكن من الأسباب المعينة عليه بحال من يتمسّك بشيء بيديه، ثم يستعين عليه بأسنانه استظهارًا للمحافظة في ذلك؛ لأن تحصيل السعادات الحقيقيّة بعد مجانبة كلّ صاحب يفسد الوقت، وكلّ سببٍ يَفْتِن القلب منوط باتّباع السنّة، بأن يمتثل الأمر على مشاهدة الإخلاص، ويُعَظِّم النهي على مشاهدة الخوف، بل باقتفاء آثار الرسول -صلى الله عليه وسلم- في جميع موارده ومصاده، وحركاته وسكناته، ويقظته ومنامه، حتى يُلجم النفس بلجام الشريعة، ويتحلّى في القلب حقائق الحقيقة بتصقيله من مفاتح ¬

_ (¬1) راجع "تحفة الأحوذيّ" 7/ 414.

الأخلاق (¬1)، وتنويره بأنوار الذكر والمعرفة والوفاق، وتعديله بإجراء جميع حركات الجوارح على قانون العدل، حتى يحدث فيه هيئة عادلة مسنونة من آثار الفضل، يستعدّ لقبول المعارف والحقائق، ويصلُح أن يُنفخ روح الله المخصّص بسُلّاك أحسن الطرائق. هذا. انتهى (¬2). (وَإِيَّاكُمْ وَالْأُمُورَ المُحْدَثَاتِ) عطف على قوله: "فعليكم الخ" للتقرير والتوكيد، وهو منصوب على التحذير بفعل محذوف وجوبًا، كما قال في "الخلاصة": إِيَّاكَ وَالشَّرَّ وَنَحْوَهُ نَصَبْ ... مُحَذِّرٌ بِمَا اسْتِتَارُهُ وَجَبْ أي احذروا الأمورَ التي أُحدثت على خلاف أصل من أصول الدين، واتّقُوا إحداثها (فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) الفاء للتعليل: أي لأن كلّ شيء محدث ليس عليه دليلٌ من الشرع ضلالة، أي طريق موصل إلى الهلاك الأبديّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه- هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي سنده انقطاع كما سبق بيانه؟. [قلت]: يشهد له ما بعده، فيصحّ به، والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنف) هنا (6/ 42 و43 و44) وهو من رواية يحيى بن أبي المطاع عن العرباض -رضي الله عنه- من أفراده، وأخرجه من طريق عبد الرحمن بن عمرو السَّلَمي عنه ¬

_ (¬1) هكذا نسخة "المرقاة" "من مفاتح الأخلاق"، ولعل الصواب "من مساوىء الأخلاق"، فليُنظر. (¬2) "المرقاة" 1/ 410.

(أبو داود) (4607) و (الترمذيّ) (2676) و (أحمد) في "مسنده" (4/ 126 - 127) و (الدارميّ) في "سننه" (96) و (ابن حبان) في "صحيحه" (5) و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار" (1185 و 1186) و (الطبرانيّ) في "المعجم الكبير" (18/ 245) رقم (617) و (الحاكم) في "المستدرك" (1/ 95) و (البيهقيّ) (6/ 541) و (البغويّ) في "شرح السنّة" (102) وقال الترمذيّ: حسنٌ صحيحٌ، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبيّ. [تنبيه]: هذا الحديث خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه من رواية ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن عبد الرحمن بن عمرو السَّلَميّ -رضي الله عنه-، زاد أحمد في رواية له، وأبو داود: وحُجْر بن حُجْر الكَلاعي كلاهما عن العرباض -رضي الله عنه-، وقال الترمذيّ: حسن صحيح. وقال الحافظ أبو نعيم: هو حديث جَيّدٌ من صحيح حديث الشاميين، قال: ولم يتركه البخاري ومسلم من جهة إنكار منهما له. وزعم الحاكم أن سبب تركهما له أنهما توهما أنه ليس له راو عن خالد بن معدان غيرُ ثور بن يزيد، وقد رواه عنه أيضا بَحِير بن سَعْد، ومحمد بن إبراهيم التيمي، وغيرهما. قال الحافظ ابن رجب: ليس الأمر كما ظنه، وليس الحديث على شرطهما، فإنهما لم يُخرجا لعبد الرحمن بن عمرو السُّلَمي، ولا لِحُجر الكَلاعي شيئًا، وليس ممن اشتهر بالعلم والرواية، وأيضًا فقد اختلف فيه على خالد بن معدان، فرُوي عنه كما تقدم، ورُوي عنه عن ابن أبي بلال، عن العرباض. وأخرجه الإمام أحمد من هذا الوجه أيضًا عن ضمرة بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن عمرو السلميّ، عن العرباض، أخرجه من طريقه الإمام أحمد، وابن ماجه، وزاد في حديثه: "فقد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك"، وزاد في آخر الحديث: "فإنما المؤمن كالجمل الأَنِفِ، حيثما قِيد انقاد". وقد أنكر طائفة من الحفاظ هذه الزيادة في آخر الحديث، وقالوا: هي مدرجة فيه، وليست منه، قاله أحمد بن صالح المصري وغيره، وقد أخرجه الحاكم، وقال في

حديثه: وكان أسد بن وَدَاعة يزيد في هذا الحديث: "فإن المؤمن كالجمل الأَنِفِ حيثما قيد انقاد". انتهى كلام الحافظ ابن رجب (¬1). والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في الكلام على رواية يحيى بن أبي المطاع عن العرباض بن سارية -رضي الله عنه-: قال في "تهذيب الكمال" جـ: 31 ص: 540: قال أبو زرعة الدمشقي: حدثني عبد الرحمن بن إبراهيم قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: أخبرني الوليد بن سليمان بن أبي السائب، قال: صحبت يحيى بن أبي المطاع إلى زَيزَى (¬2) فلم يزل يقرأ بنا في صلاة العشاء وصلاة الصبح في الركعة الأولى بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، وفي الركعة الثانية بـ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1]، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1]، قال أبو زرعة: فقلت لعبد الرحمن بن إبراهيم تعجبًا لقرب عهد يحيى بن أبي المطاع، وما يحدث عنه عبد الله بن العلاء بن زَبْر أنه سمع من العرباض بن سارية، فقال: أنا من أنكر الناس لهذا، وقد سمعتُ ما قال الوليد بن سليمان، قال عبد الرحمن: قال محمد بن شعيب: قال الوليد بن سليمان: فحدثت أيوب بن أبي عائشة بهذا، فأخبرني أنه صَحِب عبد الله بن أبي زكريا إلى بيت المقدس، فكان يقرأ في صلاة العشاء بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، وفي الركعة الثانية بالمعوذتين، فكانت هذه أيضًا -إذ يَحكِيها الوليد بن سليمان عن يحيى بن أبي المطاع لأيوب بن أبي عائشة، فيحدثه بمثلها عن ابن أبي زكريا- أكبرَ دليل على قرب عهد يحيى بن أبي المطاع، وبُعْد ما يُحدث به عبد الله بن العلاء بن زبر عنه، من لُقِيّه العرباض، والعرباض قديم الموت، روى عنه الأكابر: عبد الرحمن بن عمرو السُّلَمي، وجبير بن نفير، وهذه الطبقة. انتهى (¬3). ¬

_ (¬1) "جامع العلوم والحكم" 2/ 85. (¬2) قرية من البلقاء، وتُكتب بالمدّ "زيزاء" أيضًا، كما في "معجم البلدان". (¬3) "تهذيب الكمال" 31/ 450 - 541.

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى-بعد ذكر رواية المصنّف هذه التي فيها تصريح يحيى بالسماع من العرباض -رضي الله عنه-: ما نصّه: وهذا في الظاهر إسناد جَيِّدٌ مُتّصِلٌ، ورواته ثقات مشهورون، وقد صَرّح فيه بالسماع، وقد ذكر البخاري في "تاريخه" (¬1) أن يحيى بن أبي المطاع سمع من العرباض اعتمادًا على هذه الرواية، إلا أن حفاظ أهل الشام أنكروا ذلك، وقالوا: يحيى بن أبي المطاع لم يسمع من العرباض، ولم يَلْقَه، وهذه الرواية غلط، وممن ذَكَر ذلك أبو زرعة الدمشقيُّ، وحكاه عن دُحَيم، وهؤلاء أعرف بشيوخهم من غيرهم، والبخاريُّ رحمه الله يقع له في "تاريخه" أوهام في أخبار أهل الشام. وقد رُوي عن العرباض من وجوه أُخَر، وروي من حديث بُريدة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أن إسناد بُريدة لا يثبت. انتهى كلام ابن رجب (¬2). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حاصل ما سبق أن يحيى بن أبي المطاع لم يسمع من العرباض -رضي الله عنه-، كما أنكر ذلك دُحيم، وأبو زرعة، وقد أيّد ذلك ابن رجب بأنهما أعلم بشيوخ بلدهما، وأن إثبات البخاريّ السماع له مُستَنَدُه هذه الرواية، وأن إنكارهما أرجح من إثباته؛ لما ذُكر، ولأنه يقع له في "تاريخه" أوهام في أخبار أهل الشام. لكن الحديث وإن طُعِن فيه بما ذُكر يؤيّده السند التالي، فيصحّ به. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه والمرجع والمآب. (المسألة الرابعة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف، وهو اتّباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، وأن اتباع سنّتهم -رضي الله عنهم- عينُ اتّباع سنته -صلى الله عليه وسلم-. ¬

_ (¬1) أي "التاريخ الكبير" 8/ 306 رقم (3111) وفيه: يحيى بن أبي المطاع القرشيّ يُعَدّ في الشاميين، سمع عرباض بن سارية، روى عنه العلاء بن زبر. انتهى. (¬2) "جامع العلوم والحكم" 2/ 85 - 86.

2 - (ومنها): ما كان عليه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من وعظ أصحابه في غير الخطب الراتبة، كخطب الجمع والأعياد. 3 - (ومنها): ما أعطى الله سبحانه وتعالى نبيّه -صلى الله عليه وسلم- من بلاغة الكلام، وفصاحة اللسان، وجوامع الكلم، كما أوضح ذلك بقوله -فيما أخرجه الشيخان وغيرهما-: "بُعثتُ بجوامع الكلم"، وفي لفظ: "أعطيت جوامع الكلم ... " الحديث. 4 - (ومنها): وجوب تقوى الله تعالى، والسمع والطاعة لولاة الأمور، ما لم يأمروا بمعصية، كما ثبت ذلك في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف" متّفق عليه، واللفظ لمسلم. 5 - (ومنها): أن فيه علمًا من أعلام النبوّة، فقد أخبر -صلى الله عليه وسلم- بما يقع في أمته بعده من الاختلاف الشديد، وقد وقع كما أخبر كما تشهد بذلك كتب التواريخ التي تصدّت لبيان الوقائع والحوادث. 6 - (ومنها): الأمر بملازمة سنّته -صلى الله عليه وسلم-، وسنة خلفائه الراشدين والعضّ عليها عند وقوع الاختلاف في الأمة، كما يَعَضّ الإنسان على الأشياء الثمينة التي يَخاف عليها التفلّت والخروج من يده. 7 - (ومنها): أن سنّة خلفائه الراشدين هي سنته -صلى الله عليه وسلم- حيث أمر بالتمسّك بها؛ لأنها إما سنته الصريحة القوليّة، أو الفعليّة، أو هي مستنبطة من كتاب الله سبحانه وتعالى، أو سنته -صلى الله عليه وسلم-. 8 - (ومنها): وجوب الابتعاد عن البِدَع، ومحدثات الأمور التي لا يؤيّدها كتاب، ولا سنّة، ولا إجماع؛ لأنها ضلالة، وكلُّ ضلالة في النار، أعاذنا الله تعالى من عذاب النار، وجعلنا من أهل الجنّة دار الأبرار، إنه سميع قريبٌ مجيب الدعوات. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الخامسة): أنه -صلى الله عليه وسلم- كان كثيرًا ما يَعِظُ أصحابه في غير الخطب الراتبة، كخطب الجمع والأعياد، وقد أمره الله عز وجل بذلك، فقال تعالى: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63]، وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ

بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. ولكنه كان لا يُديم وعظهم، بل يَتَخَوَّلهم بها أحيانا، كما في "الصحيحين" عن أبي وائل، قال: كان عبد الله بن مسعود يُذَكِّرُنا كل يوم خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن إنا نحب حديثك، ونشتهيه، ولَوَدِدنَا أنك تحدثنا كل يوم، فقال: ما يمنعني أن أحدثكم كل يوم إلا كراهةُ أن أملكم، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يتخولنا بالموعظة كراهة السآمة علينا. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يَقصُرُ الخطبة، ولا يطيلها، بل كان يُبلِغُ ويُوجِز. وفي "صحيح مسلم" عن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: كنت أصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكانت صلاته قَصْدًا، وخطبته قصدًا. وأخرجه أبو داود، ولفظه: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يطيل الموعظة يوم الجمعة، إنما هي كلمات يسيرات. وأخرجه مسلم من حديث أبي وائل قال: خطبنا عمار -رضي الله عنه-، فأوجز وأبلغ، فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان، لقد أبلغت وأوجزت، فلو كنت تنفست، قال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن طُولَ صلاة الرجل، وقِصَرَ خطبته مَئِنّةٌ من فقهه، فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة، فإن من البيان سحرًا". وأخرج الإمام أحمد، وأبو داود، من حديث الحكم بن حزن -رضي الله عنه- قال: شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجمعة، فقام متوكئا على عصا أو قوس، فحمد الله، وأثنى عليه، كلمات خفيفات طيبات مباركات. وأخرج أبو داود (¬1) عن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلا قام يومًا، فأكثر القول، فقال عمرو: فلو قصد في قوله لكان خيرًا له، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لقد رأيتُ أو أمرتُ أن أتجوّز في القول، فإن الجواز هو خير" (¬2). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في "سننه" رقم (5008) قال الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى: حسن الإسناد. (¬2) راجع "جامع العلوم والحكم" 2/ 86 - 87.

(المسألة السادسة): قوله: "ذَرَفَت منها العيون، ووَجِلَت منها القلوب": فيه أن هذين الوصفين بهما مدح الله المؤمنين، عند سماع الذكر، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} الآية [الأنفال: 2]، وقال عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} الآية [الحديد: 16]، وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} الآية [الزمر: 23]، وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} الآية [المائدة: 83]، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتغير حاله عند الموعظة، كما قال جابر -رضي الله عنه-: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب، وذكر الساعة اشتد غضبه، وعلا صوته، واحمرت عيناه، كأنه منذر جيش يقول: صَبَّحَكم ومساكم"، أخرجه مسلم بمعناه. وفي "الصحيحين" عن أنس -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج حين زاغت الشمس، فصلى الظهر، فلما سلم قام على المنبر، فذكر الساعة، وذكر أن بين يديها أمورًا عظامًا، ثم قال: "من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه، فوالله ما تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به في مقامي هذا"، قال أنس: فأكثر الناس البكاء، وأكثر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقول: "سلوني"، فقام إليه رجل، فقال: أين مدخلي يا رسول الله قال: "النار" ... وذكر الحديث. وفي "مسند الإمام أحمد" عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أنه خطب، فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب، يقول: "أنذرتكم النار، أنذرتكم النار"، حتى لو أن رجلا كان بالسوق لسمعه من مقامي هذا، قال: حتى وقعت خميصةٌ كانت على عاتقه عند رجليه. وفي "الصحيحين" عن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا النار"، قال: ثم أشاح، ثم قال: "اتقوا النار"، قال: ثم أعرض وأشاح ثلاثًا، حتى ظننا أنه ينظر إليها، ثم قال: "اتقوا النار، ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة". وأخرجه الإمام أحمد من حديث عبد الله بن سَلِمة، عن على، أو عن الزبير بن العوام -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطبنا، فيُذكِّرنا بأيام الله، حتى

يُعْرَف ذلك في وجهه، وكأنه نَذِير قوم يُصَبِّحهم الأمر غدوةً، وكان إذا كان حديث عهد بجبرائيل لم يتبسم ضاحكًا، حتى يرتفع عنه. وأخرج الطبراني والبزار من حديث جابر -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أتاه الوحيُ، أو وَعَظَ قلتُ: نذير قوم أتاهم العذاب، فإذا ذهب عنه ذلك رأيته أطلق الناس وجهًا، وأكثرهم ضحكًا، وأحسنهم بِشْرًا -صلى الله عليه وسلم- (¬1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة السابعة): قوله: "فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مُوَدِّع فأوصنا" يدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- كان قد أبلغ في تلك الموعظة ما لم يُبْلِغ في غيرها، فلذلك فَهِمُوا أنها موعظة مُوَدِّع، فإن المُوَدِّع يَستقصِي ما لا يَستقصي غيره في القول والفعل، ولذلك أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يصلي صلاة مودع (¬2)؛ لأنه مَن استشعر أنه مُوَدِّع بصلاته أتقنها على أكمل وجوهها، وربما كان قد وقع منه -صلى الله عليه وسلم- تعريض في تلك الخطبة بالتوديع، كما عَرَّض بذلك في خطبته في حجة الوداع، وقال: "لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا"، وطَفِقَ يُوَدِّع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع، ولمّا رجع من حجه إلى المدينة جمع الناس بماء بين مكة والمدينة، يُسَمَّى "خُمّا"، وخطبهم وقال: "يا أيها الناس إنما أنا بشر مثلكم، يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيبه"، ثم حَضَّ على التمسك بكتاب الله، ووَصَّى بأهل بيته خيرًا، أخرجه مسلم. وفي "الصحيحين"، ولفظه لمسلم عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قتلى أُحُد، ثم صَعِدَ المنبر كالمُوَدِّع للأحياء والأموات، فقال: "إني فَرَطُكُم على الحوض، فإن عَرْضه كما بين أَيْلَة إلى الْجُحْفة، وإني لست أخشى عليكم أن تُشركوا بعدي، ولكن أخشى عليكم الدنيا تتنافسوا فيها، فتقتتلون فتهلكوا كما هلك ¬

_ (¬1) المصدر السابق 2/ 87 - 88. (¬2) هو حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: "صَلِّ صلاةَ مُوَدِّع كأنك تراه، فإن كنت لا تراه فإنه يراك، وايأسْ مما في أيدي الناس تَعِشْ غنيًّا، وإياك وما يُعتَذر منه". وهو حديث حسن. انظر "السلسلة الصحيحة" للشيخ الألباني رحمه الله تعالى رقم 14.

من كان قبلكم"، قال عقبة - رضي الله عنه -: فكان آخر ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر. وأخرج الإمام أحمد، ولفظه: صَلَّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قتلى أحد بعد ثمان سنين، كالمودع للأحياء والأموات، ثم طَلَعَ المنبر، فقال: "أيها الناس إني فَرَطُكم، وأنا شهيد عليكم، وإِنَّ مَوْعِدكم الحوض، وإني لأنظر إليه، ولست أخشى عليكم الفقر، ولكن الدينا أن تنافسوها". وأخرج الإمام أحمد أيضا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا كالمُوَدِّع، فقال: "أنا محمدٌ النبي الأمي" -قال ذلك ثلاث مرات- "ولا نبي بعدي، أوتيت فَوَاتح الكلم، وخواتمه، وجوامعه، وعلمتُ كم خزنة النار وحملة العرش؟ وتجَوَّزَ لي ربي، وعُوفيتْ أمتي، فاسمعوا وأطيعوا ما دُمتُ فيكم، فإذا ذُهِب بي فعليكم بكتاب الله، أَحِلُّوا حلاله، وحرموا حرامه". قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: فلعل في الخطبة التي أشار إليها العرباض ابن سارية -رضي الله عنه- في حديثه كانت بعض هذه الْخُطَبِ، أو شبيه بها مِمّا يُشعر بالتوديع (¬1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الثامنة): أن قوله -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بتقوى الله والسمع والطاعة"، ولفظ أبي داود: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة" متضمّنٌ لأمرين مهمّين جدًّا، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: هاتان الكلمتان تجمعان سعادة الدنيا والآخرة. أما التقوى فهي كافلة سعادة الدنيا والآخرة لمن تمسك بها، وهي وصية الله للأولين والآخرين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131]. وسيأتي تفسيرها، وشرح معناها مفصّلًا في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-. وأما الطاعة لولاة أمور المسلمين، ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معاشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم، وطاعة ربهم، كما قال علي بن أبي طالب ¬

_ (¬1) "المصدر السابق" 2/ 89 - 90.

-رضي الله عنه-: إن الناس لا يُصلحهم إلا إِمامٌ بَرٌّ أو فاجرٌ، إن كان فاجرًا عبد المؤمن فيه ربه، وحَمَل الفاجر فيها إلى أجله. وقال الحسن في الأمراء: هم يَلُون من أمورنا خمسًا: الجمعة، والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود، والله ما يستقيم الدين إلا بهم، وإن جاروا أو ظلموا، والله لمَا يُصلِح الله بهم أكثرُ مما يفسدَون مع أن -والله- إن طاعتهم لَغَيظٌ، وإن فُرْقتهم لكُفْر (¬1). وأخرج الخلال في "كتاب الإمارة" من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه حين صَلَّوُا العشاء أَنِ احْشُدُوا فإن لي إليكم حاجة، فلما فرغوا من صلاة الصبح، قال: "هل حشدتم كما أمرتكم؟ "، قالوا: نعم، قال: "اعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئًا، هل عقلتم هذه؟ " -ثلاثا- قلنا: نعم، قال: "فأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، هل عقلتم هذه؟ " -ثلاثًا- قلنا: نعم، قال: "اسمعوا وأطيعوا، هل عقلتم هذه؟ " -ثلاثًا- قلنا: نعم، قال: فكنا نُرَى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيتكلم كلامًا طويلًا، ثم نظرنا في كلامه، فإذا هو قد جمع لنا الأمر كله (¬2). وبهذين الأصلين وَصَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع في خطبته أيضًا، كما أخرجه الإمام أحمد، والترمذي من رواية أم الحُصَين الأحمسية رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب في حجة الوداع، فسمعته يقول: "يا أيها الناس اتقوا الله، وإن تأمر عليكم عبد حبشيّ، مُجَدَّعٌ فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام فيكم كتابَ الله". قال الترمذيّ: حديث حسن صحيح. وأخرج مسلم منه ذكرَ السمع والطاعة. وأخرج الإمام أحمد والترمذي أيضًا من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب في حجة الوداع يقول: "اتقوا الله، وصَلُّوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأَدُّوا زكاة مالكم، ¬

_ (¬1) أراد به كفر النعم. (¬2) أخرجه الطبرانيّ في "الكبير" 8/ 179 رقم 8678 قال الهيثميّ في "المجمع" 1/ 51: رواه الطبرانيّ في "الكبير" وفي إسناده إسحاق بن إبراهيم بن زُريق الحمصيّ وثّقه يحيى بن معين، وأبو حاتم، وضعّفه النسائيّ، وأبو داود. انتهى.

وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم"، وفي رواية أخرى قال: "يا أيها الناس إنه لا نبي بعدي، ولا أُمّة بعدكم"، وذكر الحديث بمعناه. وقال الترمذيّ: حديث حسنٌ صحيح. وفي "المسند" (¬1) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من لَقِي الله لا يُشرك به شيئًا، وأَدَّى زكاة ماله طَيِّبةً بها نفسه، محُتسبًا، وسَمِعَ وأطاع، فله الجنة، أو دخل الجنّة" (¬2). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة التاسعة): في شرح معنى "التقوى"، وتفصيل ما ورد من النصوص وأقوال أهل العلم المتعلّقة بذلك: قال الإمام ابن رجب رحمه الله: أصل التقوى أن يجَعَل العبد بينه وبين ما يخافه ويَحذره وقايةً تقيه منه، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقايةً تقيه من ذلك، وهو فعل طاعته، واجتناب معاصيه. وتارة تضاف التقوى إلى اسم الله عز وجل كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة:96]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18]. فإذا أضيفت التقوى إليه سبحانه فالمعنى: اتقوا سخطه وغضبه، وهو أعظم ما يُتَّقَى، وعن ذلك ينشأ عقابه الدنيوي والأخروي، قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ} الآية [آل عمران: 35]، وقال تعالى: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56]، فهو سبحانه أهل أن يُخشَى، ويُهابَ، ويُجَلَّ ويُعَظَّم في صدور عباده، حتى يعبدوه ويطيعوه؛ لما يستحقه من الإجلال والإكرام، وصفات الكبرياء والعظمة، وقوة البطش وشدة البأس. وفي الترمذي (¬3) وابن ماجه عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه ¬

_ (¬1) في سنده بقيّة بن الوليد، وقد عنعنعه، وهو مدلّس. (¬2) "جامع العلوم والحكم" 2/ 90 - 91. (¬3) ضعيف في سنده سهيل بن عبد الله البصريّ ضعيف. أخرجه 5/ 430 في "كتاب التفسير"، =

الآية: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} قال: "قال الله تعالى: أنا أهلٌ أُتَّقَى، فمن اتَّقاني، فلم يجعل معي إلها آخر، فأنا أهل أن أغفر له". وتارة تُضاف التقوى إلى عقاب الله، وإلى مكانه كالنار، أو إلى زمانه كيوم القيامة، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131]، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24]، وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} الآية [البقرة: 281]، وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} الآية [البقرة:48]. ويَدخُل في التقوى الكاملةِ فعلُ الواجبات، وترك المحرمات والشبهات، وربما دخل فيها بعد ذلك فعلُ الندوبات، وترك المكروهات، وهيِ أعلى درجات التقوى، قال الله تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)} [البقرة: 1 - 4]، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ في الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]. قال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: يُنادَى يوم القيامة أين المتقون؟ فيقومون في كَنَف من الرحمن، لا يحتجب منهم ولا يستتر، قالوا له: مَنِ المتقون؟ قال: قوم اتَّقَوُا الشركَ ¬

_ = وسيأتي للمصنّف في "كتاب الزهد" 2/ 1437 رقم 4299. قال الترمذيّ: حديث غريب، وسهيل ليس بالقويّ في الحديث، وقد تفرّد بهذا الحديث عن ثابت. انتهى.

وعبادةَ الأوثان، وأخلصوا لله بالعبادة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: المتقون الذين يَحذَرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به. وقال الحسن: المتقون اتَّقَوا ما حرم الله عليهم، وأَدَّوا ما افترض الله عليهم. وقال عمر بن عبد العزيز: ليس تقوى الله بصيام النهار، ولا بقيام الليل، والتخليطِ فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله تركُ ما حرم الله، وأداءُ ما افترض الله، فمن رُزق بعد ذلك خيرًا فهو خير إلى خير. وقال طلق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله. وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: تَمام التقوى أن يتقي الله العبدُ حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يَرَى أنه حلال خشيةَ أن يكون حرامًا، يكون حجابا بينه وبين الحرام، فإن الله قد بَيَّن للعباد الذي يُصَيِّرُهم إليه فقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة:7، 8]، فلا تَحقِرَنَّ شيئا من الخير أن تفعله، ولا شيئا من الشر أن تتقيه. وقال الحسن: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافةَ الحرام. وقال الثوري: إنما سُمُّوا متقين؛ لأنهم اتقوا ما لا يُتَقَى. وقال موسى بن أَعْيَن: المتقون تَنَزَّهُوا عن أشياء من الحلال مخافةَ أن يَقَعُوا في الحرام، فسماهم الله متقين. وأخرج الشيخان من حديث النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما مرفوعًا: "ومن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه". وقد أخرج الترمذيّ، والمصنّف من حديث عطيّة السعديّ -رضي الله عنه- مرفوعًا: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتيى يَدَع ما لا بأس به حَذرًا مما به بأس" (¬1). وقال ميمون بن مِهْرَان: المتقي أشد مُحَاسبةً لنفسه من الشريك الشحيح لشريكه. ¬

_ (¬1) حديث ضعيف، في سنده عبد الله بن يزيد الدمشقيّ ضعيف، أخرجه الترمذيّ برقم 2375 وسيأتي للمصنّف في "كتاب الزهد" برقم 4205.

وقال ابن مسعود -رضي الله عنه- قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102]، قال: "أن يُطاعَ فلا يُعْصَى ويُذكَر فلا يُنسَى، وأن يُشكَر فلا يُكفَر". وأخرجه الحاكم مرفوعًا، والموقوف أصحّ. وشُكرُه يدخل فيه جميع فعل الطاعات. ومعنى ذكره "فلا يُنسَى" ذكرُ العبدِ بقلبه لأوامر الله في حركاته وسكناته وكلماته فيمتثلها، ولنواهيه في ذلك كله فيجتنبها. وقد يغلب استعمالُ التقوى على اجتناب المحرمات، كما قال أبو هريرة -رضي الله عنه- وسُئل عن التقوى -فقال: هل أخذت طريقًا ذا شوك؟ قال: نعم، قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيت الشوك عدلتُ عنه، أو جاوزتُهُ، أو قصرتُ عنه، قال: ذاك التقوى. وأخذ هذا المعنى ابنُ المعتزّ، فقال [من مجزُوّ الكامل]: خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرَهَا ... وَكَبِيرَهَا فَهُوَ التُّقَى وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْقَ أَر ... ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرَ مَا يَرَى لَا تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً ... إِنَّ الجِبَالَ مِنَ الحصَى وأصل التقوى: أن يعلم العبد ما يُتَّقَى، ثم يَتَّقِي. قال عون بن عبد الله: تمام التقوى أن تبتغي علمَ ما لم تَعْلَم منها إلى ما عَلِمتَ منها. وذَكَر معروف الكرخي عن بكر بن خنيس قال: كيف يكون متقيًّا من لا يدري ما يَتَّقِي؟، ثم قال معروف الكرخي: إذا كنت لا تحسن تَتَّقِي أكلتَ الربا، وإذا كنت لا تحسن تتقي لقيتْكَ امرأةٌ، فلم تَغُضَّ بصرك، وإذا كنت لا تحسن تتقي وضعت سيفك على عاتقك، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمحمد بن مسلمة: "إذا رأيت أمتي قد اختَلَفَتْ فاعْمِدْ إلى سيفك، فاضرب به أُحُدًا" (¬1). ثم قال معروف: ومجلسي هذا لعله كان ينبغي لنا أن ¬

_ (¬1) حديث صحيحٌ، أخرجه أحمد 3/ 493. وسيأتي للمصنّف في "كتاب الفتن" 2/ 1310 رقم (3962).

نتقيه، ثم قال: مجيئكم معي من المسجد إلى هاهنا كان ينبغي لنا أن نتقيه، أليس جاء في الحديث أنه فتنة للمتبوع، مَذَلَّةٌ للتابع (¬1). يعني مشي الناس خلف الرجل. وبالجملة: فالتقوى هي وصية الله لجميع خلقه، ووصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأمته. وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا بعث أميرا على سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرًا. أخرجه مسلم. ولمّا خطب -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع يوم النحر وَصَّى الناسَ بتقوى الله، وبالسمع والطاعة لأئمتهم. أخرجه الترمذيّ، وقال: حسنٌ صحيحٌ. ولمّا وَعَظَ الناسَ قالوا له: كأنها موعظة مُوَدِّع فأوصنا، قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة" (¬2). وفي حديث أبي ذر الطويل الذي أخرجه ابن حبان وغيره قلت: يا رسول الله أوصني، قال: "أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس الأمر كله" (¬3). وأخرج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله أوصني، قال: "أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد، فإنه رَهْبانية الإسلام" (¬4). وخرجه غيره، ولفظه: قال: "عليك بتقوى الله، فإنه جماع كل خير". وفي الترمذي عن يزيد بن سلمة أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يا رسول الله إني سمعت منك حديثًا كثيرًا، فأخاف أن يُنسيني أوله آخره، فحدثني بكلمة تكون جَمّاعًا، قال: "اتق الله فيما تعلم" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نُعيم في "الحلية" 8/ 364 في ترجمة معروف الكرخيّ. (¬2) هو حديث الباب، وهو صحيح. (¬3) أخرجه ابن حبّان في "صحيحه" 2/ 76 - 79. (¬4) أخرجه أحمد 3/ 82 بإسناد ضعيف. (¬5) أخرجه الترمذيّ برقم (2683) وقال: ليس إسناده بمتّصل، وهو عندي مرسل، ولم يُدرك عندي ابن أشوع يزيد بن سلمة.

ولم يزل السلف الصالح يتواصون بها. وكان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يقول في خطبه: أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله، وأن تُثنُوا عليه بما هو أهله، وأن تَخلِطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة، فإن الله عز وجل أثني على زكريا وأهل بيته، فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ في الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] (¬1). ولمّا حضرته الوفاة، وعَهِد إلى عمر -رضي الله عنه- دعاه، فوصّاه بوصيته، وأول ما قال له: اتق الله يا عمر. وكتب عمر إلى ابنه عبد الله: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل، فإنه من اتقاه وقاه، ومن أقرضه جزاه، ومن شكره زاده، واجعل التقوى نُصْبَ عينيك، وجَلاءَ قلبك. واستعمل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- رجلا على سرية، فقال له: أوصيك بتقوى الله عز وجل الذي لا بُدّ لك من لقائه، ولا مُنتهَى لك دونه، وهو يملك الدنيا والآخرة. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى رجل: أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يَقبَل غيرها، ولا يَرحَم إلا أهلها، ولا يُثيب إلا عليها، فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل، جعلنا الله وإياك من المتقين. ولما وُلِّي خطب، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أوصيكم بتقوى الله عز وجل، فإن تقوى الله عز وجل خَلَفٌ من كل شيء، وليس من تقوى الله خَلَف. وقال رجل ليونس بن عبيد: أوصني فقال: أوصيك بتقوى الله والإحسان، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. وقال له رجل يريد الحج: أوصني، فقال له: اتق الله فمن اتقى الله فلا وحشة عليه. وقيل لرجل من التابعين عند موته: أوصنا، فقال: أوصيكم بخاتمة سورة النحل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]. وكتب رجل من السلف إلى أخ له: أوصيك بتقوى الله، فإنها من أكرم ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 384 وأبو نعيم في "الحلية" 1/ 35 قال الحاكم: هذا صحيح الإسناد، وتعقّبه الذهبيّ، فقال: عبد الرحمن بن إسحاق كوفيّ ضعيف.

ما أسررتَ، وأزين ما أظهرت، وأفضل ما ادّخرتَ، أعاننا الله وإياك عليها، وأوجب لنا ولك ثوابها. وكتب رجل منهم إلى أخ له: أوصيك وأنفسنا بالتقوى؛ فإنها خير زاد الآخرة والأولى، واجعلها إلى كل خير سبيلك، ومن كل شر مَهْرَبك، فقد تكفل الله عز وجل لأهلها بالنجاة مما يَحذَرون، والرزقَ من حيث لا يحتسبون. وقال شعبة: كنت إذا أردت الخروج قلت للحكم: ألك حاجة؟ فقال: أوصيك بما أوصى به النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذَ ابن جبل: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن". وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول في دعائه: "اللهم إني أسألك الهدي والتقى والعِفّة والغنى". رواه مسلم. وقال أبو ذر -رضي الله عنه-: قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، ثم قال: "يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم" (¬1). وقال -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ -رضي الله عنه-: "اتق الله حيثما كنت" (¬2)، يعني في السر والعلانية، حيث يراه الناس وحيث لا يرونه، وفي حديث أبي ذر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: "أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته" (¬3). وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه: "أسألك خشيتك في الغيب والشهادة" (¬4). وخشيةُ الله في الغيب والشهادة هي من المنجيات. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ -رضي الله عنه-: "استح من الله استحياء رجل ذي هيبة من أهلك" (¬5). وهذا هو السبب الموجب لخشية الله في السر، فإن مَن عَلِم أن الله يراه حيث كان، وأنه مُطّلع على باطنه وظاهره وسره وعلانيته، واستحضر ذلك في خلواته أوجب له ¬

_ (¬1) راجع "جامع العلوم والحكم" 2/ 309 - 317. (¬2) رواه الترمذيّ رقم 1987 وقال: حديث حسن صحيح. (¬3) رواه أحمد 5/ 181 من طريق درّاج عن أبي الهيثم، عن أبي ذرّ -رضي الله عنه-، ودرّاج ضعيف في أبي الهيثم. (¬4) حديث صحيح أخرجه أحمد 4/ 264 والنسائيّ 3/ 54 - 55. (¬5) أخرجه البزار رقم 1972 وفي سنده ابن لهيعة متكلّم فيه.

ذلك ترك المعاصي في السر، وإلى هذا المعنى الإشارة في القرآن بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. كان بعض السلف يقول لأصحابه: زهَّدَنا الله وإياكم في الحرام زُهْدَ مَن قدر عليه في الخلوة، فعَلِم أن الله يراه فتركه من خشيته، أو كما قال. وقال الشافعي رحمه الله: أعز الأشياء ثلاثة: الجود من قلة، والورع في خلوة، وكلمة الحق عند من يُرجَى أو يخاف. وكتب ابن السَّمّاك الواعظ إلى أخ له: أما بعدُ أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيك في سريرتك، ورقيبك في علانيتك، فاجعل الله مِنْ بالِك على كل حال، في ليلك ونهارك، وخَفْ الله بقدر قربه منك، وقدرته عليك، واعلم أنك بعينه، ليست تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره، ولا من ملكه إلى ملك غيره، فليعظُم منه حذرك، وليكْثُر منه وَجَلُك، والسلام. قال أبو الجلد: أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء قل لقومك: ما بالكم تسترون الذنوب من خلقي، وتظهرونها لي، إن كنتم ترون أني لا أراكم فأنتم مشركون بي، وإن كنتم ترون أني أراكم، فلم تجعلوني أهون الناظرين إليكم. وكان وهب بن الورد يقول: خَفِ الله على قدر قدرته عليك، واستحي منه على قدر قربه منك. وقال له رجل: عِظْني، فقال له: اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك. وكان بعض السلف يقول: أتراك تَرْحَم من لم تُقِرَّ عينيه بمعصيتك، حتى علم أن لا عين تراه غيرك. وقال بعضهم: ابنَ آدم إن كنت حيث ركبت المعصية لم تَصْفُ لك من عَيْنٍ ناظرة إليك، فَلَمّا خلوت بالله وحده صَفَتْ لك معصيته، ولم تستحي منه حياءك من بعض خلقه، ما أنت إلا أحد رجلين، إن كنت ظننت أنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت علمت أنه يراك فلم يمنعك منه ما منعك من أضعف خلقه، لقد اجترأت. دخل بعضهم غَيضَة ذات شجر، فقال: لو خلوت ها هنا بمعصيةٍ مَن كان يراني، فسمع هاتفا بصوت ملأ الغيضة: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]. راود بعضهم أعرابية، وقال لها: ما يرانا إلا الكواكب، قالت: أين مُكَوْكِبُها؟.

رأى محمد بن المنكدر رجلا واقفا مع امرأة يكلمها، فقال: إن الله يراكما، سترنا الله وإياكما. وقال الحارث المحاسبي: المراقبة علم القلب بقرب الرب. وسئل الجنيد بم يُستعان على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى ما تنظره. وكان الإمام أحمد ينشد [من الطويل]: إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرُ يَوْمًا فَلَا تَقُلْ ... خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ يَغْفُلُ سَاعَةً ... وَلَا أَنَّ مَا يَخْفَى عَلَيْهِ يَغِيبُ وَكَانَ ابْن السَّمّاك ينشد: يَا مُدْمِنَ الذَّنْبِ أَمَا تَسْتَحِي ... وَاللهُ في الخلْوَةِ ثَانِيكَا غَرَّكَ مِنْ رَبِّكَ إِمْهَالُهُ ... وَسَتْرُهُ طُولَ مَسَاوِيكَا والمقصود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لمّا وَصَّى معاذًا بتقوى الله سرا وعلانية، أرشده إلى ما يُعينه على ذلك، وهو أن يستحيى من الله كما يستحي من رجل ذي هيبة من قومه. ومعنى ذلك: أن يستشعر دائما بقلبه قرب الله منه، واطلاعه عليه، فيستحيى من نظره إليه، وقد امتثل معاذ ما وصاه به النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان عمر -رضي الله عنه- قد بعثه على عمل، فَقَدِم وليس معه شيء، فعاتبته امرأته، فقال: كان معي ضاغط، يعني من يُضَيِّق عليّ، ويمنعني من أخذ شيء، وإنما أراد معاذ ربه عز وجل، فظنت امرأته أن عمر بعث معه رقيبا، فقامت تشكوه إلى الناس. ومَنْ صار له هذا المقام حالًا دائمًا أو غالبًا، فهو من المحسنين الذين يعبدون الله كأنهم يرونه، ومن المحسنين الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم. وبالجملة فتقوى الله في السر هو علامة كمال الإيمان، وله تأثير عظيم في إلقاء الله لصاحبه الثناء في قلوب المؤمنين. وفي الحديث: "ما أَسَرَّ عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية، إن خيرًا فخيرٌ،

وإن شرّا فشرّ" (¬1)، رُوي هذا مرفوعا، ورُوي عن ابن مسعود من قوله. وقال أبو الدرداء: لِيَتّق أحدكم أن تلعنه قلوب المؤمنين، وهو لا يشعر، يخلو بمعاصي الله فيُلقِي الله له البغض في قلوب المؤمنين. وقال سليمان التيمي: إن الرجل ليصيب الذنب في السر، فيصبح وعليه مذلته. وقال غيره: إن العبد ليُذنب الذنب فيما بينه وبين الله، ثم يجيء إلى إخوانه، فيرون أثر ذلك عليه، وهذا من أعظم الأدلة على وجود الإله الحق المجازي بِذَرّات الأعمال في الدنيا قبل الآخرة، ولا يَضِيع عنده عَمَلُ عاملٍ، ولا ينفع من قدرته حجاب ولا استتار، فالسعيد مَن أصلح ما بينه وبين الله، فإنه مَنْ أصلح ما بينه وبين الله، أصلح الله ما بينه وبين الخلق، ومَن التمس محامد الناس بسخط الله عاد حامِدُه من الناس ذامّا له. قال أبو سليمان: إن الخاسرَ مَن أبدى للناس صالح عمله، وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الوريد. ومن أعجب ما رُوي في هذا ما رُوي عن أبي جعفر السائح قال: كان حبيب أبو محمد تاجرًا يكري الدراهم، فَمَرّ ذات يوم بصبيان، فإذا هم يلعبون، فقال بعضهم لبعض: قد جاء آكل الربا، فَنكّس رأسه، وقال: يا رب أفشيت سري، فرجع فجمع ماله كله، وقال: يا رب إني أسيرٌ، وإني قد اشتريت نفسي منك بهذا المال فأعتقني، فلما أصبح تصدق بالمال كله، وأخذ في العبادة، ثم مَرّ ذات يوم، فلما رأوه قال بعضهم لبعض: اسكتوا فقد جاء حبيب العابد، فبكى، وقال: يا رب أنت تَذُمّ مَرّة، وتَحْمَدُ مَرّة، وكله من عندك. وبالجملة فما جاء عن السلف في هذا الباب كثير، وهذا غيضٌ فيض، وفيه ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 3/ 28 وأبو يعلى في "مسنده" 2/ 521. قال الهيثمي في "المجمع" 10/ 228: رواه أحمد وأبو يعلى، وإسناده حسن.

الكفاية لمن وفّقه الله تعالى وهدهُ، اللهم اجعلنا من أوليائك المتّقين سرّا وعلانيةً، {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:63، 64] بمنك وكرمك وجودك، إنك أكرم الأكرمين، وأجود المسؤولين، آمين آمين آمين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة العاشرة): قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ". هذا إخبار منه -صلى الله عليه وسلم- بما يقع في أمته بعده من كثرة الاختلاف في أصول الدين وفروعه، وفي الأعمال والأقوال والاعتقادات، وهذا موافق لما رُوي عنه من افتراق أمته على بضع وسبعين فرقة، وأنها كلها في النار، إلا فرقة واحدة، وهي ما كان عليه هو وأصحابه. وكذلك في هذا الحديث أمر عند الافتراق والاختلاف بالتمسك بسنته، وسنة الخلفاء الراشدين من بعده. والسنة هي الطريق المسلوك، فيَشمَل ذلك التمسك بما كان عليه هو وخلفاؤه الراشدون، من الاعتقادات والأعمال والأقوال، وهذه هي السنة الكاملة، ولهذا كان السلف قديمًا لا يطلقون اسم السنة إلا على ما يشمل ذلك كله، ورُوي معنى ذلك عن الحسن، والأوزاعي، والفضيل بن عياض. وكثيرٌ من العلماء المتأخرين يَخُصّ اسم السنة بما يتعلق بالاعتقاد، لأنها أصل الدين، والمخالف فيها على خطر عظيم. وفي ذكر هذا الكلام بعد الأمر بالسمع والطاعة لأولي الأمر إشارةٌ إلى أنه لا طاعة لأولي الأمر إلا في طاعة الله، كما صح عنه -رضي الله عنه- أنه قال: "إنما الطاعة في المعروف"، متّفقٌ عليه. وفي "المسند" عن أنس أن معاذ بن جبل رضي الله عنهما قال: "يا رسول الله

أرأيت إن كان علينا أمراء لا يستنون بسنتك، ولا يأخذون بأمرك، فما تأمر في أمرهم؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا طاعة لمن لم يُطع الله عز وجل" (¬1)، وأخرج ابن ماجه من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سيلي أموركم بعدي رجال يُطفئون السنة بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها"، فقلت: يا رسول الله إن أدركتهم كيف أفعل؟ قال: "لا طاعة لمن عصى الله" (¬2). وفي أمره -صلى الله عليه وسلم- باتباع سنته، وسنة الخلفاء الراشدين بعد أمره بالسمع والطاعة لولاة الأمور عمومًا دليل على أن سنة الخلفاء الراشدين مُتَّبَعَة كاتباع السنة، بخلاف غيرهم من ولاة الأمور. وفي "مسند الإمام أحمد"، و"جامع الترمذي"، و"سنن ابن ماجه" عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- جلوسًا، فقال: إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم، فاقتدوا بالذين من بعدي -وأشار إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما- وتمسكوا بعهد عمار، وما حدثكم به ابن مسعود فصدقوه"، وفي رواية: "فتمسكوا بعهد ابن أم عبد، واهتدوا بهدي عمار" (¬3). فنص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في آخر عمره على من يُقتَدَى به مِن بعده. وقد اختلف العلماء في إجماع الخلفاء الأربعة هل هو إجماع، أو حجة مع مخالفة غيرهم من الصحابة أم لا، وفيه روايتان عن الإمام أحمد، وحكم أبو خازم الحنفي في زمن المعتضد بتوريث ذوي الأرحام، ولم يَعتَدّ بمن خالف الخلفاء، ونفذ حكمه بذلك في الآفاق. ولو قال بعض الخلفاء الأربعة قولًا، ولم يخالفه منهم أحد، بل خالفه غيره من الصحابة، فهل يُقَدَّم قوله على قول غيره؟ فيه قولان أيضا للعلماء، والمنصوصُ عن ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 3/ 213 وحسّن بعضهم إسناده، وفيه عمرو بن زنيب، وثقه ابن حبّان. (¬2) حديث صحيح سيأتي للمصنّف برقم 2865. (¬3) حديث صحيح، أخرجه أحمد 5/ 382 - 399 و400 والترمذيّ برقم 3663 ويأتي للمصنّف مختصرًا برقم 97.

أحمد أنه يُقَدَّم قوله على قول غيره من الصحابة، وكذا ذكره الخطابي وغيره، وكلام أكثر السلف يدل على ذلك، خصوصًا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فإنه رُوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من وجوه أنه قال: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" (¬1). وكان عمر بن عبد العزيز يتبع أحكامه، ويستدل بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه". وقال مالك: قال عمر بن عبد العزيز: سَنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وولاة الأمر من بعده سننا، الأخذ بها اعتصامٌ بكتاب الله، وقوةٌ على دين الله، وليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر في أمر خالفها، من اهتدى بها فهو المهتدي، ومن استنصر بها فهو المنصور، ومن تركها، واتّبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم، وساءت مصيرا. وحَكَى عبد الله بن عبد الحكم عن مالك أنه قال: أعجبني عزم عمر على ذلك -يعني هذا الكلام-. وروى عبد الرحمن بن مهدي هذا الكلام عن مالك، ولم يَحكِه عن عمر. وقال خلف بن خليفة: شَهِدتُ عمر بن عبد العزيز يخطب الناس، وهو خليفة، فقال في خطبته: ألا إن ما سَنَّ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، وصاحباه فهو وظيفةُ دينٍ، نأخذ به، وننتهي إليه. ورَوَى أبو نعيم من حديث عَرْزَب الكنديّ: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنه سيحدُث بعدي أشياء، فأحبّها إليّ أن تلزموا ما أحدث عمر" (¬2). وكان عليّ -رضي الله عنه- يَتَّبع قضاياه وأحكامه، ويقول: إن عمر كان رشيد الأمر. ورَوَى الأشعث عن الشعبي قال: إذا اختلف الناس في شيء، فانظروا فيه كيف قَضَى عمر، فإنه لم يكن يقضي في أمر لم يُقْضَ فيه قبله حتى يُشاور. وقال مجاهد: إذا اختلف الناس في شيء، فانظروا ما صنع عمر فخذوا به. وقال أيوب عن الشعبي: انظروا ما اجتمعت عليه أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فإن الله لم يكن يجمعها على ضلالة، فإذا اختلفت فانظروا ما صنع ¬

_ (¬1) صحيح، أخرجه أحمد 2/ 401 والترمذيّ رقم 3682 وصححه ابن حبان. (¬2) ذكره في "أُسد الغابة" 4/ 20 وقال: أخرجه ابن منده. ويحتاج إلى النظر في إسناده.

عمر بن الخطاب فخذوا به. وسئل عكرمة عن أم الولد، فقال: تَعتِق بموت سيدها، قل له: بأيّ شيء تقول؟ قال بالقرآن، قال: بأيّ القرآن؟ قال: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، وعمر -رضي الله عنه- من أولي الأمر. وقال وكيع: إذا اجتمع عمر وعلي على شيء فهو الأمر. ورُوي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه كان يحلف أن الصراط المستقيم هو الذي ثَبَتَ عليه عمر -رضي الله عنه- حتى دخل الجنّة. قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وبكل حال فما جَمَع عمر عليه الصحابة، فاجتمعوا عليه في عصره، فلا شك أنه الحق، ولو خالفه مِنْ بعد ذلك مَن خالفه، كقضائه في مسائل من الفرائض كالعول، وفي زوج وأبوين، وزوجة وأبوين أن للأم ثلث الباقي، وكقضائه فيمن جامع في إحرامه أنه يمضي في نسكه، وعليه القضاء والهدي، ومثل ما قضى به في امرأة المفقود، ووافقه غيره من الخلفاء أيضًا، ومثل ما جَمَع عليه الناس في الطلاق الثلاث، وفي تحريم متعة النساء، ومثل ما فعله من وضع الدِّيوان، ووضع الخراج على أرض الْعَنْوة، وعقد الذمة لأهل الذمة بالشروط التي شرطها عليهم، ونحو ذلك (¬1). ويَشهَد لصحته ما جَمَع عليه عمر أصحابه، فاجتمعوا عليه لون، ولم يُخالَف في وقته قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رأيتني في المنام أَنزع على قليب، فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، ثم جاء عمر بن الخطاب، فاستحالت غَرْبًا، فلم أر أحدا يَفْرِي فَرْيَه، حتى رَوِيَ الناسُ، وضربوا بعطن" (¬2). وفي رواية: "فلم أر عَبْقَرِيّا من الناس يَنْزع نزع ابن الخطاب"، وفي رواية أخرى: "حتى تَوَلَّى، والحوضُ يتفجر" (¬3). ¬

_ (¬1) قال "الجامع" في بعض ما قاله نظرٌ لا يخفى، كمثل ما قاله في الطلاق الثلاث، وقد بينته في شرح النسائيّ، فليُراجع في مَحَلِّه من كتاب الطلاق. (¬2) "الْعَطَنُ" بفتحتين: مبارك الإبل حول الماء. (¬3) متّفقٌ عليه.

وهذا إشارة إلى أن عمر لم يَمُت حتى وضع الأمور في مواضعها، واستقامت الأمور، وذلك لطول مدته، وتفرغه للحوادث، واهتمامه بها، بخلاف مدة أبي بكر، فإنها كانت قصيرة، وكان مشغولا فيها بالفتوح، وبَعْثِ البعوث للقتال، فلم يتفرغ لكثير من الحوادث، وربما كان يقع في زمنه ما لا يبلغه، ولا يُرفَع إليه حتى رفعت تلك الحوادث إلى عمر، فرد الناس فيها إلى الحقّ، وحملهم على الصواب. وأما ما لم يَجمَع عمر الناس عليه، بل كان له فيه رأي، وهو يُسَوِّغ لغيره أن يرى رأيا يخالف رأيه، كمسائل الجد مع الإخوة، ومسألة طلاق البتة، فلا يكون قول عمر فيه حجة على غيره من الصحابة -رضي الله عنهم-. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الحافظ ابن رجب تحقيق نفيس، إلا أن في بعض ما مَثَّل به لما جَمَع عمر الناس عليه، كالطلاق الثلاث نظرًا لا يخفى، وقد ذكرت تحقيقه في شرح النسائيّ، فليُراجع في محلّه من "كتاب الطلاق"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال: 43 - (حَدَّثَنَا إِسماعِيلُ بْنُ بِشْرِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ السَّوَّاقُ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو السُّلَمِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ، يَقُولُ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّه، إِنَّ هَذه لمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ: "قَدْ تَرَكْتكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بَما عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي، وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّمَا المُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ، حَيْثُمَا قِيدَ انْقَادَ"). رجال هذا الإسناد: سبعة: 1 - (إِسماعِيلُ بْنُ بِشْرِ بْنِ مَنْصُورٍ) السَّلِيميُّ -بفتح المهملة، وبعد اللام ياء

تحتانيّة- أبو بِشْر البصري، صدوقٌ تُكُلّم فيه للقدر [10]. رَوَى عن أبيه، وفضيل بن سليمان النميري، وابن مهدي، وعمر بن عليّ المُقَدَّميّ، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى، وغيرهم. ورَوَى عنه أبو داود، وابن ماجه، والنسائي بواسطة، وزكرياء السِّجْزي، وإبراهيم بن أبي طالب، والبخاري في "التاريخ الصغير"، وابن خزيمة، وجماعة. قال الآجري: سألت أبا داود عنه، فقال: صدوق، وكان قدريّا. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال البخاري في "التاريخ الصغير": حدثني إسماعيل بن بِشْر بن منصور قال: مات أبي سنة (80) يعني ومائة، وأنا ابن ست عشرة سنة. وقال ابن أبي عاصم: مات سنة (255). روى عنه أبو داود، والنسائيّ في "عمل اليوم والليلة"، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (43) وحديث رقم (2294). 2 - (وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ السَّوَّاقُ) بن داود السَّوّاق البصري، صدوقٌ [11]. رَوَى عن ابن مهديّ، والقطان، وأبي عاصم. وروى عنه ابن ماجه، وعبد الرحمن ابن محمد بن حماد الطِّهْرَاني، والفضل بن الحسن بن محمد الأَهْوَزايّ، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مستقيم الحديث. تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (43) وحديث رقم (494). 3 - (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) البصريّ الإمام الحافظ الحجة الثبت [9] 3/ 25. 4 - (معاوية بن صالح) بن حُدير الحضرميّ الحمصيّ، صدوقٌ له أوهام [7] 2/ 12. 5 - (ضمرة بن حبيب) بن صُهَيب الزُّبَيديّ -بضم الزاي- أبو عُتْبة الحِمْصيّ، ثقة [4]. رَوَى عن شداد بن أوس، وأبي أُمامة الباهليّ، وعوف بن مالك، وعبد الرحمن بن عمرو السَّلَميّ، وعبد الله بن زغب الإيادي، وغيرهم. وروى عنه ابنه عُتبة، ومعاوية ابن صالح الحضرمي، وأبو بكر بن أبي مريم، وأرطاة بن المنذر، وعبد الرحمن بن يزيد ابن جابر، وهلال بن يساف. قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله.

وقال أبو حاتم: لا بأس به. وقال العجلي: شامي تابعيّ. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة ثلاثين ومائة، وكان مؤذن المسجد الجامع بدمشق. أخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (43) وحديث رقم (4250). 6 - (عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو السُّلَمِيِّ) بن عَبَسَةَ السَّلَمي، الشامي، لا بأس به (¬1) [3]. رَوَى عن العرباض بن سارية، وعُتبة بن عبد السَّلَمي. ورَوَى عنه ابنه جابر، وخالد بن معدان، وضمرة بن حبيب، ومحمد بن زياد الألهاني، وغيرهم. ذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سعد: مات سنة عشر ومائة، وذكره مسلمة في الطبقة الأولى من التابعين. تفرّد به أبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله عندهم، حديث الباب، صححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم، في "المستدرك"، وزعم القطان الفاسيّ أنه لا يصح؛ لجهالة حاله. والصحابيّ تقدّم في السند الماضي، وكذا شرح الحديث، ولكن نشير هنا إلى حَلّ بعض ما يُستَشكَل فقط، فنقول: قوله: (فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟) "ما" اسم استفهام مبتدأ، و"ذا" اسم موصول بمعنى الذي خبر "ما"، و"تعهد" -بفتح الهاء من باب عَلِم- صلة الموصول، والتقدير ما الذي تعهد إليه: أي تأمرنا به، ويحتمل أن تُجعل "ما" مع "ذا" كلمة واحدة للاستفهام، وهي مبتدأ، والجملة خبره، وإلى ما ذُكر أشار ابن مالك رحمه الله تعالى في "الخلاصة" بقوله: وَمِثْلُ "مَا" "ذَا" بَعْدَ "مَا" اسْتِفْهَامِ ... أَوْ "مَنْ" إِذَا لَمْ تُلْغَ في الْكَلَامِ وقوله: "قَدْ تَرَكْتكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ": أي على الملّة الواضحة، والحجة الساطعة التي لا تَقبل الشُّبَه، فإيراد الشُّبَه عليها كحال كشف الشُّبَه عنها ودفعِهَا، كما أوضح ذلك بقوله: "لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا". ¬

_ (¬1) قال في "ت": مقبول، وما قلته أولى -كما قاله بعض المحققين-؛ لأنه روى عن جماعة، وروى عنه جماعة، ووثقه ابن حبّان، وصحح حديثه الترمذيّ، وابن حبّان، والحاكم، فمن كان بهذه المنزلة لا يقلّ عن درجة الحسن. فتأمل. والله تعالى أعلم.

وقوله: "لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلا هَالِكٌ": "يَزِيغ" بفتح أوله، من باب باع: أي يَمِيل، يقال: زاغت الشمس تزيغ زيغًا: إذا مالت، وزاغت تزوغ زَوغًا من باب قال لغة فيه، ويتعَدّى بالهمزة، فيقال: أزاغه إزاغة. أفاده الفيّوميّ (¬1). والمعنى: لا يميل، ولا يخرُج عن الملّة، ويعمل بخلافها متعمّدًا إلا الهالك الذي مأواه جهنم وبئس المصير. وقوله: "فَإِنَّمَا المُؤْمِنُ كَالجمَلِ" بفتحتين "الْأَنِفِ" بفتح الهمزة، وكسر النون: أي المأنوف، وهو الذي عَقَرَ الْخِشَاشُ (¬2) أنفه، فهو لا يمتنع على قائده للوَجَع الذي به. وقيل: الأَنِفُ: الذَّلُول، يقال: أَنِفَ البعيرُ يَأْنْف أَنفًا، فهو آنفٌ: إذا اشتكى أنفَهُ من الْخِشَاش، وكان الأصل أن يقال: مأنوفٌ، لأنه مفعول به، كما يقال: مصدُورٌ، ومَبْطُونٌ للذي يشتكي صدره وبطنه، وإنما جاء هذا شاذّا. ويُروَى كالجمل الآنف بالمدّ، وهو بمعناه. قاله ابن الأثير (¬3). وقال في "اللسان" بعد ذكره كلام ابن الأثير: وقال أبو سعيد: الجمل الأنِف: الذلول المؤاتي الذي يَأْنَف من الزجر، ومن الضرب، ويُعطي ما عنده من السَّيْر عَفْوًا سَهْلًا، كذلك المؤمن لا يَحتاج إلى زجر، ولا عِتَاب، وما لزمه من حقّ صَبَر عليه، وقام به. انتهى (¬4). يعني أن المؤمن كالجمل الذي جُعل الزمام في أنفه، فيجُرّه من شاء من صغير وكبير، ورجال ونساء إلى حيث يشاء، كما أوضحه بقوله: "حَيْثُمَا قِيدَ انْقَادَ". و"حيثما" اسم شرط جازمة تجزم شرطها وجوابها، و"قيد" بكسر القاف مبنيّا للمفعول فعل شرطها، و"انقاد" مطاوع قاد جوابها: أي إلى أيّ مكان جُرّ انجرّ إليه، ولا يستعصي على ¬

_ (¬1) "المصباح" 1/ 261. (¬2) "الْخِشَاش" بالكسر: عُودٌ يُجعل في عظم أنف البعير، والجمع أَخِشَّةٌ، مثلُ سِنَانٍ وأَسِنَّة. قاله في "المصباح" 1/ 169. (¬3) "النهاية" 1/ 75. (¬4) "لسان العرب" 9/ 13.

من أراد قيادته. والمعنى: أن من شأن المؤمن تركَ التكبّر، ولزومَ التواضع، فلا يَأْنَف عن قبول الحقّ، من أي شخص كان، بل يخضع له، ويستجيب، ويقول: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه- هذا صحيح. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (6/ 43 و44) و (أبو داود) رقم (4607) و (الترمذيّ) (2676) و (أحمد) في "مسنده" (4/ 126 - 127) و (الدارميّ) في "سننه" (96) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (5) و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار" (1185 و1186) و (الطبرانيّ) في "المعجم الكبير" (18/ 245 رقم 617) و (الحاكم) في "المستدرك" (1/ 95) و (البيهقيّ) في "الكبرى" (6/ 541) و (البغويّ) في "شرح السنة" رقم (102)، والله تعالى أعلم. [تنبيه]: قوله: " فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قِيد انقاد" قد تقدّم أنه قد أنكر طائفة من الحفّاظ هذه الزيادة في آخر الحديث، وقالوا: هي مُدرجة فيه، وليست منه، قاله أحمد بن صالح المصريّ وغيره، وقد أخرجه الحاكم في "المستدرك" 1/ 96 وقال في آخره: وكان أَسَدُ بن وَدَاعة يزيد في هذا الحديث: "فإنما المؤمن كالجمل الأنف، حيثما قِيد انقاد". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال: 44 - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الصَّبَّاحِ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا ثَوْرُ ابْنُ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَوَعَظنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ... "، فَذَكَرَ نَحْوَهُ) *. رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ) المُقَوِّم -بتشديد الواو المكسورة- ويقال: المُقَوِّميّ، أبو سعيد البصريّ، ثقة حافظٌ عابدٌ مصنّف [10]. رَوَى عن عبد الوهاب الثقفي، وابن عيينة، ويحيى القطان، وأبي بكر الحنفي، وابن مهدي، وغندر، وعبد الملك بن الصباح، وغيرهم. ورَوى عنه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وروى النسائي أيضا في "مسند علي" عن زكريا السِّجْزيّ عنه، وعبد الله بن عروة الهرويّ، وغيرهم. قال أبو داود: كان حافظا متقنًا. وقال النسائي: ثقة حافظ. وقال أبو عروبة: ما رأيت بالبصرة أثبت من أبي موسى، ومن يحيى بن حكيم، وكان يحيى بن حكيم ورِعًا مُتَعَبِّدًا. وقال مسلمة بصري ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان ممن جَمَع وصَنَّف، مات سنة ست وخمسين ومائتين. وله في هذا الكتاب (39) حديثًا. 2 - (عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الصَّبَّاحِ الْمِسْمَعِيُّ (¬1)) أبو محمد الصنعانيّ، ثم البصريّ، صدوقٌ [9]. رَوَى عن أبيه، وابن عون، والأوزاعي، وهشام بن حسان، وثور بن يزيد الحمصي، وغيرهم. ورَوى عنه إسحاق بن راهويه، وبندار، وأبو موسى، وأبو غسان ¬

_ (¬1) بكسر الميم الأولى، وفتح الثانية، بينهما مهملة ساكنة-: نسبة إلى المسامعة محلّة بالبصرة، نزلها المسْمَعُونَ، فنسبت إليهم. قاله في "اللباب" 3/ 212.

المسمعي، ويحيى بن حكيم المقوِّم، والذُّهْلي، وغيرهم. قال أبو حاتم: صالح. وقال ابن قانع: كان ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة تسع وتسعين ومائة في ذي القعدة. وقال ابن أبي عاصم: مات سنة مائتين. أخرج له البخاريّ، ومسلم، والنسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا (43) وحديث (332) و (3489). [تنبيه]: قال الخليليّ: عبد الملك بن الصبّاح عن مالك مُتَّهَمٌ بِسَرِقة الحديث. قال الحافظ: كذا قال، ولم أَرَ في الرواة عن مالك للخطيب، ولا للدارقطني أحدًا، يقال له: عبد الملك بن الصبّاح، فإن كان محفوظًا، فهو غير المسمعيّ. انتهى (¬1). 3 - (ثور بن يزيد) بن زياد الْكَلاعيُّ ويقال: الرَّحَبِيّ، أبو خالد الحمصيّ، ثقة ثبتٌ، إلا أنه يرى القدر [7]. رَوَى عن مكحول، ورجاء بن حيوة، وصالح بن يحيى بن المقدام، وعطاء، وعكرمة، وأبي الزبير، وابن جريج، وأبي الزناد، وخالد بن معدان، وغيرهم. ورَوَى عنه بَقِيّة، وصفوان بن عيسى، والسفيانان، وعيسى بن يونس، وابن إسحاق، ومالك، والوليد بن مسلم، ويحيى بن حمزة الحضرمي، وابن المبارك، ويحيى بن سعيد القطان، وأبو عاصم النبيل، وعبد الملك بن الصباح، وجماعة. قال ابن سعد: كان ثقة في الحديث، ويقال: إنه كان قدريا، وكان جده قُتل يوم صفين مع معاوية، فكان ثور إذا ذَكَر عليا قال: لا أحب رجلا قتل جدي. وقال أحمد: ثنا سعد بن إبراهيم، ثنا إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق قال: حدثني ثور بن يزيد الكلاعي، وكان ثقة. وكان أبو أسامة يحسن الثناء عليه. وعده دُحَيم في أثبات أهل الشام، مع أَرْطاة، وحَرِيز، وبَحِير بن سَعْد. وفي رواية يعقوب بن سفيان عنه: ثور بن يزيد أكبرهم، وكل هؤلاء ثقة. وقال عثمان الدارمي عن دُحيم: ثور بن يزيد ثقة، وما ¬

_ (¬1) راجع "تهذيب التهذيب" 2/ 614 - 615.

رأيت أحدا يَشُكّ أنه قدريّ، وهو صحيح الحديث حمصي. وقال يعقوب بن سفيان: سمعت أحمد بن صالح، وذَكَر رجال الشام، فقال: وثور بن يزيد ثقة، إلا أنه كان يرى القدر. وقال عمرو بن علي عن يحيى بن سعيد: ما رأيت شاميا أوثق من ثور بن يزيد. وقال ابن المديني عن يحيى بن سعيد: ليس في نفسي منه شيء أتَتَبَّعُه. وقال علي عن يحيى أيضًا: كان ثور عندي ثقة. وقال وكيع: ثور كان صحيح الحديث. وقال أيضا: رأيت ثور بن يزيد، وكان أعبدَ مَنْ رأيت. وقال عيسى بن يونس: كان ثور من أثبتهم. وقال أيضًا: جيد الحديث. وقال الوليد بن مسلم: ثور يحفظ حديث خالد بن معدان. وقال سفيان الثوري: خذوا عن ثور، واتقوا قرنيه. قال عبد الرزاق: ثم أخذ الثوري بيد ثور، وخلا به في حانوت يحدثه. وقال الثوري بعد ذلك لرجل رَأَى عليه صوفًا: ارم بهذا عنك فإنه بدعة، فقال له الرجل: ودخولك مع ثور الحانوت، وإغلاقك الباب عليكما بدعة. وقال أبو عاصم: قال لنا ابن أبي رَوّاد: اتقوا لا يَنْطَحَنَّكم بقرنيه. وقال أبو مسهر وغيره: كان الأوزاعي يتكلم فيه ويهجوه. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثور بن يزيد الكلاعي كان يرى القدر، كان أهل حمص نفوه لأجل ذلك، ولم يكن به بأس. وقال أبو مسهر عن عبد الله بن سالم: أدركت أهل حمص، وقد أخرجوا ثور بن يزيد، وأحرقوا داره لكلامه في القدر. وقال ابن معين: كان مكحول قدريا ثم رجع، وثور بن يزيد قدري. وقال أبو زرعة الدمشقي عن مُنَبِّه بن عثمان: قال رجل لثور بن يزيد: يا قدريُّ، قال: لئن كنتُ كما قلتَ إني لَرَجُلٌ سَوْء، وإن كنتُ على خلاف ما قلتَ، فأنت في حِلّ. وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين: ثور بن يزيد ثقة. وقال في موضع آخر: أزهر الحَرَازي، وأسد بن وَدَاعة كانوا يجلسون، ويسبون علي بن أبي طالب، وكان ثور لا يسبه، فإذا لم يسب جَرُّوا برجله. وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه، عن يحيى القطان: كان ثور إذا حدثني عن رجل لا أعرفه، قلت: أنت أكبر أم هذا، فإذا قال: هو أكبر مني كتبته، وإذا قال: هو أصغر مني لم أكتبه. وقال محمد بن عوف، والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق حافظ. وقال نعيم بن حماد: قال عبد الله بن المبارك [من مجزوّ الرمل]:

أَيُّهَا الطَّالِبُ عِلْمًا ... ائتِ حَمَّادَ بْنَ زَيْدِ فَاطْلُبَنَّ الْعِلْمَ مِنْه ... ثُمَّ قَيِّدْهُ بِقَيْدِ لَا كَثَوْرٍ وَكَجَهْمِ ... وَكعَمْرِو بْنِ عُبَيْدِ وقال ابن عديّ بعد أن رَوَى له أحاديث: وقد رَوَى عنه الثوريّ، ويحيى القطان، وغيرهما من الثقات، ووثّقوه، ولا أرى بحديثه بأسا إذا رَوى عنه ثقة، أو صدوق، ولم أر في أحاديثه أنكر من هذا الذي ذكرته، وهو مستقيم الحديث، صالح في الشاميين. وقال الآجري عن أبي داود: ثقة، قلت: أكان قدريا؟ قال: اتُّهِم بالقدر، وأخرجوه من حمص سَحْبًا. وقال ابن حبان في "الثقات": كان قدريا، ومات وله سبعون سنة. وقال العجلي: شامي ثقة، وكان يرى القدر. وقال الساجي: صدوق قدري، قال فيه أحمد: ليس به بأس، قَدِمَ المدينة، فَنَهَى مالك عن مجالسته. قال الحافظ: وليس لمالك عنه رواية لا في "الموطإ"، ولا في الكتب الستة، ولا في غرائب مالك للدارقطني، فما أدرى أين وقعت روايته عنه مع ذمه له؟. وقال ابن خزيمة في "صحيحه": هو أصغر سنا من المدني. يعني ثور بن زيد الديليّ. قال أبو عيسى الترمذي: مات سنة (150). وقال ابن سعد وخليفة وجماعة: مات سنة (53) ببيت المقدس. وقال يحيى بن بكير: سنة (55). أخرج له الجماعة، إلا مسلمًا، وله في هذا الكتاب (15) حديثًا. 4 - (خالد بن معدان) بن أبي كريب الْكَلاعِيّ، أبو عبد الله الشاميّ الحمصيّ، ثقةٌ عابدٌ، يرسل كثيرًا [3]. رَوَى عن ثوبان، وابن عَمْرو، وابن عُمَر، وعتبة بن عبد السُّلَميّ، ومعاوية بن أبي سفيان، والمقدام بن معد يكرب، وأبي أمامة، وعبد الرحمن بن عمرو السَّلَميّ، وغيرهم. ورَوى عنه بَحِير بن سَعْد، ومحمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، وثور بن يزيد،

وحَرِيز بن عثمان، وحسان بن عطية، وفضيل بن فَضالة، وجماعة. قال يعقوب بن شيبة: لم يلق أبا عُبيدة، وهو كَلَاعيّ يُعَدُّ من الطبقة الثالثة من فقهاء الشام بعد الصحابة. وقال العجلي: شامي تابعيّ ثقة. وقال يعقوب بن شيبة، ومحمد بن سعد، وابن خِرَاش، والنسائي: ثقة. وقال أبو مسهر، عن إسماعيل بن عياش: حدثتنا عبدة بنت خالد بن معدان، وأم الضحاك بنت راشد أن خالد بن معدان قال: أدركت سبعين رجلا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقال بَقِيّة عن بَحِير بن سَعْد: ما رأيت أحدا ألزم للعلم منه، كان علمه في مصحف، له أَزرارٌ وعُرًى، قال بقية: وكان الأوزاعي يُعَظِّم خالدًا، فقال لنا: أله عقب؟ فقلنا: له ابنة، فقال: ائتوها فسلوها عن هدي أبيها، قال: فكان ذلك سبب إتياننا عَبْدة. وقال إسماعيل بن عياش، عن صفوان ابن عمرو: رأيت خالد بن معدان إذا كبرت حلقته قام؟ مخافة الشهرة. وقال يزيد بن هارون: مات وهو صائم. وقال ابن سعد: أجمعوا على أنه توفي سنة (103). وقال دُحَيم وغيره: مات سنة (4). وقال يحيى بن صالح عن إسماعيل بن عياش: مات سنة (5). وقيل عن إسماعيل: سنة ست. وقال أبو عبيد وخليفة: سنة (108). وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من خيار عباد الله، مات سنة (4) وقيل: سنة (8)، وقيل: سنة (103). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (19) حديثًا. والباقيان تقدّما في السند الماضي. وقوله: "فذكر نحوه" ببناء للفعل للفاعل، والضمير يعود لخالد بن معدان: أي ذكر خالد متن الحديث بنحو رواية ضمرة بن حبيب. والله تعالى أعلم. [فائدة]: الفرق بين قولهم: "فذكر مثله"، وقولهم: "فذكر نحوه"، أن "مثله" يقال: فيما إذا اتّحد الحديثان لفظًا ومعنى، بخلاف "نحوه"، فإنه يقال فيما إذا اتحدا معنى فقط. قال الحاكم أبو عبد الله الحافظ، صاحب "المستدرك": إن مما يلزم الحديثيّ من الضبط والإتقان أن يُفرّق بين "مثله" و"نحوه"، فلا يَحِلّ أن يقول: "مثله" إلا إذا علم

أنهما اتفقا في اللفظ، ويحلّ أن يقول: نحوه إذا كان بمعناه (¬1). وإلى هذا أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث" بقوله: الْحَاكِمُ اخْصُصْ "نَحْوَهُ بِالْمَعْنَى ... "وَمِثْلَهُ" بِاللَّفْظِ فَرْقٌ يُعْنَى والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. قال الجامع الفقير إلى رحمة ربه القدير محمد ابن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الإتيوبيّ عفا الله تعالى عنه، وعن والدين آمين: انتهى الجزء الأول من شرح "سنن الإمام الحافظ الحجة أبي عبد الله محمد بن يزيد ابن ماجه رحمه الله تعالى المسمّى" مشارق الأنوار الوهّاجة، ومطالع الأسرار البهّاجة، في شرح سنن الإمام ابن ماجه" وذلك يوم السبت المبارك بتاريخ 19/ 11/ 1422 هـ الموافق 2 (فبراير) 2002 م. وآخر دعوانا {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد". "السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته". ويليه الجزء الثاني مفتتحًا بـ (7) (بَابُ اجْتِناَبِ البِدَعِ وَالجَدَلِ) رقم (45). "سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، أستغفرك، وأتوب إليك". ¬

_ (¬1) انظر "التدريب" 2/ 120.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مَشَارِقُ الْأَنْوَارِ الوهَّاجَة وَمَطَالع الْأَسْرَار البهَّاجَة فِي شَرح سُنَن الإِمَام ابْن مَاجَه

حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة الطَّبعة الأولى 1427 هـ - 2006 م (ح) دَار الْمُغنِي للنشر والتوزيع، 1426 هـ فهرسة مكتبة الْملك فَهد الوطنية أثْنَاء النشر الأثيوبي، مُحَمَّد عَليّ آدم مَشَارِق الْأَنْوَار الوهاجة ومطالع الْأَسْرَار البهاجة فِي شرح سنَن الإِمَام ابْن مَاجَه ... / مُحَمَّد عَليّ آدم الأثيوبي. - الرياض، 1426 هـ 4 مج. 595 ص، 17.5 × 25 سم ردمك: 8 - 54 - 762 - 9960 (مَجْمُوعَة) 4 - 56 - 762 - 9660 (جـ 2) 1 - الحَدِيث - سنَن أ. العنوان ديوي 235.6 - 7404/ 1426 رقم الْإِيدَاع: 7404/ 1426 ردمك: 8 - 54 - 762 - 9960 (مَجْمُوعَة) 4 - 56 - 762 - 9660 (جـ 2) دَار الْمُغنِي للنشر والتوزيع 238 شَارِع الْمَدِينَة المنورة - ظهرة البديعة ص. ب: 154041 الرياض: 11748 هَاتِف ناسوخ: 0096614257019

7 - باب اجتناب البدع والجدل

7 - (بَابُ اجْتِنَابِ الْبِدَعِ وَالْجَدَلِ) " الاجتناب": مصدر "اجتنب، مزيد جَنَبَ، يقال: جَنَبْتُ الرجلَ الشرَّ جُنُوبًا، من باب قَعَد: إذا أبعدته، وجَنَّبْتُهُ بالتثقيل مبالغة (¬1)، فالاجتناب معناه: الابتعاد. و"الْبِدَعُ" -بكسر الموحّدة، وفتح الدال المهملة-: جمع بدعة -بكسر، فسكون- قال في "القاموس": "البِدْعة" -بالكسر-: الْحَدَث في الدين بعد الإكمال، أو ما استُحدث بعد النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من الأهواء والأعمال، جمعه بِدَعٌ، كعِنَبٍ. انتهى. وقال في "المصباح": أبدعت الشيءَ، وابتدعتُهُ: استخرجته، وأحدثته، ومنه قيل للحالة المخالفة بِدْعَة، وهي اسمٌ من الابتداع، كالرفْعة من الارتفاع، ثم غلب استعماله فيما هو نقصٌ في الدين أو زيادة، لكن قد يكون بعضها غير مكروه، فيُسمّى بِدْعةً مباحة، وهو مصلحة يندفع بها مفسدة كاحتجاب الخليفة عن أَخْلاط الناس. انتهى (¬2). وسيأتي تمام البحث في البدعة في المسألة الرابعة -إن شاء الله تعالى-. وأما "الجدَلُ" -بفتح الجيم، والدال المهملة-: فهو مصدرٌ، بمعنى شدّة الخصومة، يقال: جَدِلَ الرجلُ جَدَلًا، فهو جَدِلٌ، من باب تَعِبَ: إذا اشتدّت خُصومته، وجادل مجادلةً، وجِدَالًا: إذا خاصم بما يَشْغَلُ عن ظهور الحقّ، ووضُوح الصواب، هذا أصله، ثم استُعمل على لسان حَمَلَة الشرع في مقابلة الأدلّة لظهور أرجحها، وهو محمود إن كان للوقوف على الحقّ، وإلا فمذموم. ويقال: أوّلُ من دَوَّن الجدَل أبو عليّ الطبريّ. قاله الفيّوميّ. وقال النوويّ رحمه الله في "تهذيب الأسماء واللغات": "الجدَلُ"، و"الِجدال"، و"المجادلة": مقابلة الحجة بالحجة، وتكون بحقّ وباطل، فإن كان للوقوف على الحقّ كان محمودًا، قال الله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الآية [النحل: 125]، ¬

_ (¬1) راجع "المصباح" 1/ 111. (¬2) "المصباح" 1/ 38.

وإن كان في مرافعة، أو كان جدالًا بغير علم كان مذمومًا، قال الله تعالى: {مَا يُجَادِلُ في آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية [غافر: 4]. وأصله الخصومة الشديدة، وسُمّي جَدَلًا؛ لأن كلّ واحد منهما يُحْكِم خصومته، وحجته إحكامًا بليغًا على قدر طاقته، تشبيهًا بجَدْلِ الحَبْلِ، وهو إحكام فَتْله (¬1)، يقال: جادله يجادله مجادلةً وجِدَالًا. وعلى هذا الذي ذكرته يُنَزّل ما جاء في الجدل من الذّمّ والإباحة. وقد ذكر الخطيب البغداديّ في كتابه "كتاب الفقيه والمتفقّه" جميع ما جاء في الجدل، ونزّله على هذا التفصيل، وبيّن ذلك أحسن بيان، وكذلك ذكره غيره. وقد صار الجدل علمًا مستقلا، وصُنّفت فيه كتُبٌ لا تُحصى، وممن صنّف فيه أبو إسحاق الشيرازيّ، والغزاليّ، وكتاباهما معروفان. وأول من صنّف فيه أبو عليّ الطبريّ. انتهى كلام النوويّ (¬2). وقال ابن الأثير رحمه الله: "الجدَلُ": مقابلة الحجة بالحجة، والمجادلة: المناظرة والمخاصمة. والمراد به في الحديث الجَدَلُ على الباطل، وطلب المغالبة به، فأما الْجَدَل لإظهار الحقّ فإن ذلك محمود؛ لقوله عز وجل: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. انتهى (¬3). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عطف الجَدَل على البدع من عطف الخاصّ على العامّ؛ لأن الجدل في الدين بالباطل من جملة البدع، وسيأتي تمام البحث في الجدل في مسائل الحديث الرابع من أحاديث الباب -إن شاء الله تعالى-. والله تعالى أعلم بالصواب. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال: 45 - (حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ الجحْدَرِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَ ¬

_ (¬1) يقال: جدله يجدله جَدْلًا، من بابي نصر، وضرب: إذا أحكم فتله. أفاده في "القاموس". (¬2) "تهذيب الأسماء واللغات" 3/ 48. (¬3) "النهاية" 1/ 247 - 248.

رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ، يَقُولُ: صَبَّحَكُمْ مَسَّاكُمْ، وَيَقُولُ: "بُعِثْتُ أَنا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ"، وَيَقْرُنُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ: السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَيَقُوُل: "أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْأُمُورِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ"، وَكَانَ يَقُولُ: "مَنْ تركَ مَالًا فِلأَهْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا، فَعَلَيَّ وَإِلَيَّ". رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ) بن سهل الْهَرويّ الأصل، ثم الْحَدَثانيّ، ويقال له: الأنباريّ، صدوق في نفسه، إلا أنه عمي، فصار يتلقّن ما ليس من حديثه، من قدماء [10] 4/ 30. 2 - (أَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ الْجَحْدَرِيُّ) أبو بكر البصريّ، صدوقٌ [10] 2/ 17. 3 - (عبد الوهّاب الثقفيّ) هو: عبد الوهّاب بن عبد المجيد بن الصَّلْت، أبو محمد البصريّ، ثقة تغيّر قبل موته بثلاث سنين [8] 2/ 17. 4 - (جعفر بن محمد) بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي العلويّ، أبو عبد الله المدني الصادق، وأمه أم فَرْوة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، فلذلك كان يقول: وَلَدَني أبو بكر مرتين، صدوقٌ فقيهٌ إمامٌ [6]. رَوَى عن أبيه، ومحمد بن المنكدر، وعبيد الله بن أبي رافع، وعطاء، وعروة، وجده لأمه القاسم بن محمد، ونافع، والزهري، وغيرهم. ورَوَى عنه شعبة، والسفيانان، ومالك، وابن جريج، وأبو حنيفة، وابنه موسى، ووُهيبٌ، والقطان، وأبو عاصم، وخلق كثير. وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، وهو من أقرانه، ويزيد بن الهاد، ومات قبله. قال الدَّرَاوَرْدِيُّ: لم يرو مالك عن جعفر حتى ظهر أمر بني العباس. وقال مصعب الزبيري: كان مالك لا يروي عنه حتى يضمه إلى آخر. وقال ابن المديني: سئل يحيى بن سعيد عنه، فقال في نفسي منه شيء، ومجالد أحب إلي منه، قال: وأملَى عليّ

جعفر الحديث الطويل -يعني في الحج-. وقال إسحاق بن حَكِيم عن يحيى بن سعيد: ما كان كذوبًا. وقال سعيد ابن أبي مريم: قيل لأبي بكر بن عياش: ما لك لم تسمع من جعفر، وقد أدركته؟ قال: سألناه عما يتحدث به من الأحاديث أشيء سمعته؟ قال: لا، ولكنها رواية رويناها عن آبائنا. وقال إسحاق بن راهويه: قلت للشافعيّ: كيف جعفر ابن محمد عندك؟ فقال: ثقة -في مناظرة جرت بينهما-. وقال الدُّوريّ عن يحيى بن معين: ثقة مأمون. وقال ابن أبي خيثمة وغيره عنه: ثقة. وقال أحمد بن سعد بن أبي مريم عن يحيى: كنتُ لا أسأل يحيى بن سعيد عن حديثه، فقال لي: لِمَ لا تسألني عن حديث جعفر بن محمد؟ قلت: لا أريده، فقال لي: إنه كان يحفظ. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: ثقة لا يُسأل عن مثله. وقال ابن عَدِيّ: ولجعفر أحاديث ونُسَخٌ، وهو من ثقات الناس، كما قال يحيى بن معين. وقال عمرو بن أبي المقدام: كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد، علمت أنه من سُلالة النبيين. وقال علي بن الجعد عن زهير بن معاوية: قال أبي لجعفر ابن محمد: إن لي جارا يزعُم أنّك تَبْرأُ من أبي بكر وعمر، فقال جعفر: برىء الله من جارك، والله إني لأرجو أن ينفعني الله بقرابتي من أبي بكر. وقال حفص بن غياث: سمعت جعفر بن محمد يقول: ما أرجو من شفاعة علي شيئًا إلا وأنا أرجو من شفاعة أبي بكر مثله. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، ولا يُحتَجّ به، ويُستَضعف، سئل مرة: سمعتَ هذه الأحاديث من أبيك؟ فقال: نعم، وسئل مرة، فقال: إنما وجدتها في كتبه. قال الحافظ: يحتمل أن يكون السؤالان وقعا عن أحاديث مختلفة، فذكر فيما سمعه أنه سمعه، وفيما لم يسمعه أنه وجده، وهذا يدل على تثبته. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من سادات أهل البيت فقهًا وعلمًا وفضلًا، يُحتجّ بحديثه من غير رواية أولاده عنه، وقد اعتبرتُ حديث الثقات عنه، فرأيت أحاديث مستقيمة، ليس فيها شيء يخالف حديث الأثبات، ومن المحال أن يُلصَق به ما جناه غيره. وقال الساجيّ: كان صدوقًا مأمونًا إذا حَدّث عنه الثقات، فحديثه مستقيم. وقال أبو موسى: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث عن سفيان عنه،

وكان يحيى بن سعيد يحدث عنه. وقال النسائي في "الجرح والتعديل": ثقة. وقال مالك: اختلفت إليه زمانًا، فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مُصَلٍّ، وإما صائمٌ، وإما يقرأ القرآن، وما رأيته يحدث إلا على طهارة. قال الجعابي وغيره: وُلِد سنة ثمانين. وقال خليفة وغير واحد: مات سنة (148). أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب (19) حديثًا. 5 - (أبوه) محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب الهاشميّ، أبو جعفر المدنيّ المعروف بالباقر، ثقة فاضلٌ [4] تقدّم في 1/ 4. 6 - (جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام الأنصاريّ، ثم السَّلَميّ الصحابي ابن الصحابيّ رضي الله عنهما غزا تسع عشرة غزوة، ومات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن (94) سنة، تقدّم في 1/ 11. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه أحمد بن ثابت، فإنه من أفراده. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من جعفر، وشيخه سويدُ، هرويّ، ثم حَدَثانيّ (¬1)، والباقيان بصريان. 4 - (ومنها): أن فيه التحديث، والعنعنة، وكلاهما من صيغ الاتّصال على الأصحّ في "عن" من غير المدلّس. 5 - (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه. ¬

_ (¬1) "الْحَدَثَانيّ" -بفتحتين: نسبة إلى الحَدِيثة، وهي بلدة على الفرات فوق هيت والأنبار، وينسب إليها أيضًا حَدَثيّ، وحَدِيثيّ. قاله في "الأنساب" 2/ 188 و"اللباب" 1/ 349.

6 - (ومنها): أن فيه جابرًا -رضي الله عنه- من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) رضي الله عنهما، وفي رواية مسلم تصريح أبي جعفر بالسماع، فقد أخرجه من طريق سليمان بن بلال، عن جعفر، عن أبيه، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: كانت خطبة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة، يحمد الله، ويُثني عليه، ثم يقول على إثر ذلك، وقد علا صوته، ثم ساق الحديث. أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا خَطَبَ) أي يوم الجمعة، كما بيّنته رواية مسلم المذكورة (احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ) بالرفع على الفاعليّة، أي ارتفع صوته (وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ) أي من آثار الغضب الناشيء مما تفعله الأمة من قلّة الأدب في معصية الربّ. قاله في "المرقاة" (¬1). وقال في "المرعاة": إنما يفعل -صلى الله عليه وسلم- ذلك لإزالة الغفلة من قلوب الناس؛ ليتمكّن فيها كلامه فضلَ تمكّن، أو لأنه يتوجّه فكره إلى الموعظة، فيظهر عليه آثار الهيبة الإلهيّة (¬2). وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: كونه -صلى الله عليه وسلم- تحمرّ عيناه، ويعلو صوته، ويشتدّ غضبه في حال خطبته كان هذا منه في أحوال، وهذا مُشعرٌ بأن الواعظ حقّه أن يكون منه في وعظه بحسب الفصل الذي يتكلّم فيه ما يطابقه، حتّى لا يأتي بالشيء وضدُّه ظاهرٌ عليه، وأما اشتداد غضبه، فيَحتَمِل أن يكون عند نهيه عن أمر خُولف فيه، أو يريد أنّ صفتَه صفة الغضبان. انتهى (¬3). ¬

_ (¬1) "المرقاة" 3/ 501. (¬2) "المرعاة" 4/ 496 - 467. (¬3) "المفهم" 2/ 506.

وقال النوويّ رحمه الله تعالى: لعل اشتداد غضبه كان عند إنذاره أمرًا عظيمًا، وتهديده خَطْبًا جسيمًا. انتهى (¬1). (كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ) هو الذي يجيء مخُبرًا للقوم بما قد دَهَمَهم من جيش عدُوّهم الذي يخافون بأسه، أي كمن يُنذر قومًا بقرب جيش عظيم قصد الإغارة عليهم، فإضافة "منذر" إلى "جيش" من إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله الثاني، والأصل: منذر قوم جيشًا، وهو اسم فاعل من "أنذر"، يقال: أنذرتُ الرجلَ كذا إنذارًا: إذا أبلغته، يتعدّى إلى مفعولين، فهو مُنذرٌ، ونَذيرٌ، والجمع نُذُرٌ بضمّتين، وأكثر ما يُستعمل في التخويف، كقوله عز وجل: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} الآية، أفاده في "المصباح" (¬2). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وما هنا من الثاني. والله تعالى أعلم. (يَقُولُ) أي ذلك المنذر، فالضمير عائد على "منذر"، والجملة صفة له، أو حال منه. وقال الطيبيّ: يجوز أن يكون قوله: "يقول" صفة لـ "منذر جيش"، وأن يكون حالًا من اسم "كان"، والعامل معنى التشبيه، فالقائل إذًا الرسول -صلى الله عليه وسلم-، و"يقول" الثاني عطف على الأول، وعلى الوجه الأول عطف على جملة "كأنه" انتهى. وتعقّبه القاري، فأحسن في ذلك، قال: الصحيح، بل الصواب الوجه الأول؛ إذ لا معنى لقوله في المنبر: "صبّحكم، ومسّاكم"، ويدلّ عليه إعادة الصحابيّ لفظ "يقول" إشارةً إلى أن قول المنذر تَمّ قبله، ثم الصحيح أنه عطف على "احمرّت"؛ لأن الرواية في "يقول" الرفع، فارتفع احتمال أن يكون معطوفًا على مدخول "حتّى". انتهى (¬3). (صَبَّحَكُمْ) بتشديد الموحّدة، وفاعله ضمير يعود إلى "جيش"، وهو العدوّ المنذر به، والضمير المنصوب يعود على المنذَرِين: أي سيصبّحكم العدوّ يعني سيأتيكم وقت ¬

_ (¬1) "شرح مسلم" 6/ 156. (¬2) "المصباح المنير" 2/ 599. (¬3) "المرقاة" 3/ 501.

الصباح، فصيغة الماضي للتحقّق. شَبّه حال الرسول -صلى الله عليه وسلم- في خطبته، وإنذاره بمجيء يوم القيامة، وقرب وقوعها، وتهالك الناس فيما يُرْديهم أي يُهلكهم بحال من يُنذر قومه عند غفلتهم بجيش قريب منهم يَقصِدُ الإحاطة بهم بغتةً من كلّ جانب، فكما أن المنذر يرفع صوته، وتحمرّ عيناه، ويشتدّ غضبه على تغافلهم، كذلك حال الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولذا أشار إلى قرب المجيء بإصبعيه. ونظيره ما رُوي أنه لمّا نزل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صعِد على الصفا، فجعل ينادي: "يا بني فهر، يا بني عديّ ... " الحديث (¬1). (مَسَّاكُمْ) هكذا رواية المصنّف بدون عاطف، وفي رواية مسلم: "ومسّاكم" بالواو، وهو بتشديد السين المهملة مثلُ "صبّحكم": أي نزل بكم العدوّ مساءً. (وَيَقُولُ) الضمير للرسول -صلى الله عليه وسلم-، فهو عطفٌ على "احمرّت": أي يقول -صلى الله عليه وسلم- (بُعِثْتُ) بالبناء للمفعول: أي أرسلني الله تعالى (أَنَا وَالسَّاعَةَ) رُوي برفعها، ونصبها، والمشهور النصب على المفعولية معه، كما قال في "الخلاصة": يُنْصَبُ تَالِي الْوَاوِ مَفْعُولًا مَعَهْ ... في نَحْوِ سِيرِي وَالطَّرِيقَ مُسْرِعَهْ بِمَا مِنَ الْفِعْلِ وَشِبْهِهِ سَبَقْ ... ذَا النَّصْبُ لَا بِالْوَاوِ في الْقَوْلِ الأَحَقْ وأما الرفع فعلى العطف على الضمير المرفوع في "بُعِثْتُ"؛ لوجود التوكيد بالضمير المنفصل، كما قال في "الخلاصة": وَإِنْ عَلَى ضمِيرِ رَفْعِ مُتَّصِلْ ... عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ أَوْ فَاصِلٍ مَا وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ ... والنَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "والساعة" قَيَّدناه بالنصب، والرفع (¬2)، فأما النصب، فهو على المفعول معه، والرفع على أنه معطوف على التاء في "بُعثتُ"، وفُصل ¬

_ (¬1) "المرعاة" 4/ 497. (¬2) عبارة القرطبيّ: "بالفتح، والضمّ"، فغيّرته إلى العبارة المشهورة، فتنبّه.

بينهما بـ "أنا" توكيدًا للضمير على ما هو الأحسن عند النحويين، وقد اختار بعضهم النصب بناءً على أن التشبيه وقع بملاصقة الإصبعين، واتّصالهما، واختار آخرون الرفعَ بناءً على أن التشبيه وقع بالتفاوت الذي بين رءوسهما (¬1). (كَهَاتَيْنِ) أي مثل تقارب هاتين الإصبعين (وَيَقْرُنُ) بضم الراء على المشهور الفصيح، وحُكي كسرُها، قاله النوويّ (¬2): أي جمع -صلى الله عليه وسلم- (بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ) بكسر الهمزة أفصح من غيرها، إذ فيها عشر لغات: تثليث الهمز، مع تثليث الموحّدة، فتلك تسع لغات، والعاشر أُصبوع، بالضمّ، كعُصْفُور (¬3) (السَّبَّابَةِ) بالجرّ على البدليّة من "إصبعيه"، ويجوز الرفع على أنه خبر لحذوف: أي إحداهما، والنصب، على أنه مفعول لفعل مقدّر: أي أعني. و"السّبابة" -بفتح السين المهملة، وتشديد الموحّدة الأولى: هي الأصبع التي تلي الإبهام، سُمّيت بذلك؛ لأنه يُشار بها عند السبّ (¬4) (وَالْوُسْطَى) بضمّ الواو، فُعْلى تأنيث الأوسط، ويُجمع الْوُسطى على الْوُسَط -بضم، ففتح- كالْفُضْلى وفُضَل، ويُجمع الأوسط على الأواسط، مثل الأفضل والأفاضل. والمعنى: أنّ ما بين زمان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وقيام الساعة قريبٌ، كقرب السبّابة من الوسطى. وورد من حديث المستورد بن شدّاد -رضي الله عنه- مرفوعًا: "سبقتها بما سبقت هذه هذه" (¬5). وقال القاضي رحمه الله تعالى: قوله: "بُعثت أنا والساعة كهاتين" يحتمل أنه تمثيل ¬

_ (¬1) "المفهم" 2/ 506. (¬2) "شرح مسلم" 6/ 392. (¬3) راجع "المصباح". (¬4) "المصباح" 1/ 262. (¬5) حديث ضعيف أخرجه الترمذيّ برقم (2139) من حديث المستورد بن شداد الفهري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بُعثتُ في نفس الساعة، فسبقتها كما سبقت هذه هذه"، لأصبعيه السبابة والوسطى. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، من حديث المستورد بن شداد، لا نعرفه إلا من هذ الوجه. انتهى. وفي سنده مجالد بن سعيد ضعيف.

لمقاربتهما، وأنه ليس بينهما إصبع أخرى، كما أنه لا نبي بينه وبين الساعة، ويحتمل أنه لتقريب ما بينهما من المدة، وأن التفاوت بينهما كنسبة التفاوت بين الإصبعين تقريبًا، لا تحديدًا. انتهى (¬1). (وَيَقُولُ) -صلى الله عليه وسلم- (أَمَّا بَعْدُ) هي من الظروف المبنيّة على الضمّ؛ لقطعها عن الإضافة، ونيّة معناها: أي بعد ما تقدّم من الحمد لله عز وجل، والثناء عليه بما هو أهله. وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "أما": كلمة تَفْصِلُ ما بعدها عما قبلها، وهي حرف متضمّن للشرط، ولذلك تدخل الفاء في جوابها، وقدّرها النحويون بـ "مهما"، و"بعد" ظرف زمانيّ قُطع عن الإضافة مع كونها مرادةً، فبُني على الضمّ، وخُصّ بالضمّ؛ لأنه حركةٌ ليست له في حال إعرابه، والعامل فيه ما تضمّنه "أمّا" من معنى الشرط، فإن معناه: مهما يكن من شيء بعد حمد الله فكذا. وقال بعض المفسّرين في قوله عز وجل: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20] أنه قول "أما بعد". انتهى (¬2). وقال الطيبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "أما بعدُ" هاتان الكلمتان يقال لهما فصل الخطاب، وأكثر استعمالهما بعد تقدّم قصّة، أو حمد لله تعالى، والصلاة على النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، والأصل أن يقال: أما بعدَ حمد الله تعالى، و"بعد" إذا أُضيف إلى شيء، ولم يقدّم عليه حرف جرّ فهو منصوب على الظرفيّة، وإذا قُطع عنه المضاف إليه يُبنَى على الضمّ، والمفهوم منهما أنه -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك في أثناء خطبته ووعظه، وأنشد التوربشتيّ لسحبان [من الطويل]: لَقَدْ عَلِمَ الحيُّ الْيَمانُونَ أَنَّنِي ... إِذَا قُلْتُ أَمَّا بَعْدُ أَنِّي خَطِيبهَا قال: والفاء لازمة لما بعد "أما" من الكلام، لما فيها من معنى الشرط. قال الطيبيّ: "أما" وُضع للتفصيل، فلا بدّ من التعدّد، رَوَى صاحب "المرشد" عن أبي حاتم أنه لا يكاد يوجد في التنزيل "أما" وما بعدها إلا وتُثنّى، أو تُثلّث، كقوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ}، ¬

_ (¬1) انظر "شرح مسلم للنوويّ" 6/ 155. (¬2) "المفهم" 2/ 507.

{وَأَمَّا الْغُلَامُ}، {وَأَمَّا الْجِدَارُ} الآية [الكهف:79 - 82]، وعامله مقدّر: أي مهما يكن من شيء بعد تلك القصّة، فإن خير الحديث كتاب الله. انتهى (¬1). قال الجامع: قد استوفيت البحث في "أما بعد" في شرح "مقدمة صحيح مسلم" عند قوله: "أما بعد"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق. (فَإِنَّ خَيْرَ الْأُمُورِ) الفاء رابطة لجواب "أما"، لتضمّنها معنى الشرط؛ إذ هي بمعنى "مهما يكن من شيء بعد ما تقدّم، فإن خير الأمور الخ"، ولفظ مسلم: "خير الحديث" (كِتَابُ اللَّه) إشارة إلى قوله عز وجل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} الآية [الزمر:23] (وَخَيْرَ الْهَدْيِ) بنصب "خير" عطفًا على اسم "إنّ"، ويروى برفعه عطفا على محل "إن" واسمها، أو هو مبتدأ خبره ما بعده، وإلى هذا أشار ابن مالك في "الخلاصة" بقوله: وَجَائِزٌ رَفْعُكَ مَعْطُوفًا عَلَى ... مَنْصُوبِ "إِنَّ" بَعْدَ أَنْ تَسْتكْمِلَا (هَدْيُ مُحَمَّدٍ) -صلى الله عليه وسلم-، وهو بضم الهاء، وفتح الدال فيهما، وبفتح الهاء وإسكان الدال أيضًا، قال النوويّ رحمه الله تعالى: ضبطناه بالوجهين، وكذا ذكره جماعة بالوجهين، وقال القاضي عياض: رَوَيْناه في مسلم بالضم، وفي غيره بالفتح، وبالفتح ذكره الهرويّ، وفسره الهرويّ على رواية الفتح بالطريق: أي أحسن الطُّرُق طريق محمد -صلى الله عليه وسلم-، يقال: فلان حسن الْهَدْي: أي الطريقة والمذهب. "اهتَدُوا بهدي عمار" (¬2). وأما على رواية الضم، فمعناه: الدلالة والإرشاد. انتهى (¬3). وقال الطيبيّ رحمه الله تعالى: الهدي: السيرة، يقال: هدى هديَ زيد: إذا سار ¬

_ (¬1) "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 604. (¬2) أخرجه أحمد 5/ 399 والترمذيّ رقم 3807 من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- وتقدّم أنه حديث صحيح. (¬3) راجع "شرح مسلم" للنوويّ 6/ 154.

سِيرته، من تهادت المرأة في مشيها: إذا تبخترت، ولا يكاد يُطلق إلا على طريقة حسنة، وسنّة مرضيّة، ولذلك حسُن إضافة الخير إليه، والشرّ إلى الأمور. واللام في "الهدي" للاستغراق؛ لأن "أفعل التفضيل" لا يُضاف إلا إلى متعدّد، هو داخل فيه، ولأنه لو لم تكن للاستغراق لم تُفد المعنى المقصود، وهو تفضيل دينه وسنته على سائر الأديان والسنن. انتهى (¬1). وقال النوويّ رحمه الله تعالى: قال العلماء: لفظ "الهدى" له معنيان: (أحدهما): بمعنى الدلالة والإرشاد، وهو الذي يضاف إلى الرسل، والقرآن، والعباد، وقال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، و {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، ومنه قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فُصلت: 17]: أي بَيَّنّا لهم الطريق، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الإنسان: 3]، {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]. (والثاني): بمعنى اللطف، والتوفيق، والعصمة والتأييد، وهو الذي تفرد الله به، ومنه قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]. وقالت القدرية: حيث جاء الهدى فهو للبيان؛ بناءً على أصلهم الفاسد في إنكار القدر، ورَدّ عليهم أهلُ الحق مثبتو القدر لله تعالى بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25]، ففرق بين الدعاء والهداية (¬2). (وَشَرَّ الْأُمُورِ) إعرابه كسابقه (مُحْدَثَاتُهَا) بفتح الدال جمع محدثة، وهي التي ليس ¬

_ (¬1) "الكاشف" 2/ 604. (¬2) راجع "شرح مسلم" للنوويّ 6/ 154.

لها في الشريعة أصل، يشهد لها بالصحّة والجواز، وهي المسمّاة بالبِدَع، ولذلك حُكم عليها بأن كلّ بدعة ضلالة، وحقيقة البدعة: ما ابتُدىء، وافتُتح من غير أصل شرعيّ، وهي التي قال فيها -صلى الله عليه وسلم-: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردّ". متّفقٌ عليه. قاله القرطبيّ (¬1). (وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) هذه الجملة معطوفة على محذوف كما بُيِّن في رواية أخرى: تقديره: فكلُّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعند النسائيّ بإسناد صحيح من حديث جابر -رضي الله عنه- مرفوعًا: "إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلُّ محدثة بدعة، وكلُّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار". قال النوويّ رحمه الله تعالى: قوله: "وكل بدعة ضلالة" هذا عام مخصوص، والمراد غالب الْبِدَع، قال أهل اللغة: هي كلُّ شيء عُمِل على غير مثال سابق. قال العلماء: البدعة خمسة أقسام: واجبة، ومندوبة، ومُحَرَّمة، ومكروهة، ومباحة، فمن الواجبة نظم أدلة المتكلمين للردّ على الملاحدة والمبتدعين، وشبه ذلك، ومن المندوبة تصنيف كتب العلم، وبناء المدارس والربط، وغير ذلك، ومن المباح التبسط في ألوان الأطعمة، وغير ذلك، والحرام والمكروه ظاهران. فإذا عُرِف ما ذكرته عُلِم أن الحديث من العام المخصوص، وكذا ما أشبهه من الأحاديث الواردة، ويؤيد ما قلناه قول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في التراويح، نعمت البدعة، ولا يَمنَع من كون الحديث عاما مخصوصا قوله: "كل بدعة" مؤكدا بـ "كل" بل يدخله التخصيص مع ذلك، كقوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} (¬2). قال الجامع عفا الله تعالى: قول النوويّ: "هذا عامّ مخصوص" فيه نظرٌ؛ إذ ليس كذلك، بل هو على عمومه، فإن كلّ بدعة شرعيّة ضلالة من دون استثناء شيء منها، ¬

_ (¬1) "المفهم" 2/ 508. (¬2) "شرح مسلم" 6/ 155.

وأما ما ظنّه أنه مخصوص من العموم فإنما هو في البدع اللغويّة، فإن البدعة قسمان: [إحداهما]: شرعيّة، وهي التي أُحدثت بعد كمال الدين، وليس لها أصل في الكتاب، والسنة، والإجماع، فهذه ضلالة دون استثناء. [والثانية]: لغويةٌ وهي أعمّ من الشرعيّة، إذ هي تشمل كل ما أُحدثت بعد النبيّ -صلى الله عليه وسلم- سواء كان له أصل في الشرع أم لا، فكلما أورده النوويّ من الأمثلة، وظن أنه مخصوص من عموم هذا الحديث، فإنه من اللغويّة، لا من الشرعية. والحاصل أن البدع التي ليس لها مستند من الأدلة الشرعية، فإنها بدعة شرعية ضلالة، وأن البدع التي لها أصل من الأدلة الشرعيّة، فهي من البدع اللغويّة، وليست من الضلالة في شيء، ويدلّ على هذا التقسيم الحديث المتّفق عليه: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه، فهو ردّ"، فقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما ليس منه" يدلّ على أن من المحدث ما هو من الشرع، وهو الذي تدلّ عليه الأدلة الشرعيّة، ومن ذلك قول عمر -رضي الله عنه-: "نعمت البدعة"، فإنه أراد به كونها بدعة لغويّة، وذلك لأن قيام رمضان رغّب فيه النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، بل صلى بعض الليالي بأصحابه، ثم اعتذر إليهم بخشية أن يُفرَض عليهم، فلا يقومون به، فلما تُوفّي -صلى الله عليه وسلم-، رأى عمر -رضي الله عنه- أن الخشية ارتفعت، فجمعهم على إمام واحد، واستحسن منه ذلك معظم الصحابة -رضي الله عنهم-، ومنهم عثمان وعليّ رضي الله عنهما، فقد كان الناس يصلون جماعة في خلافتهما، وكذلك ما نقل عن الإمام الشافعيّ رحمه الله تعالى وغيره من تقسيم البدع إلى محمودة ومذمومة، فإنما أرادوا البدعة اللغوية، لا الشرعيّة، فافهم الفرق، ولا تكن أسير التقليد، فإنه حجة البليد، وملجأ العنيد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. (وَكَانَ يَقُولُ) وفي رواية مسلم: "وكان يقول: أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه". قال النوويّ رحمه الله: هو موافقٌ لقول الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] أي أحقّ، قال أصحابنا -يعني الشافعيّة-: لو كان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مضطرًا إلى طعام غيره، وهو مضطرّ إليه لنفسه كان للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- أخذه من مالكه المضطرّ، ووجب على مالكه بذله له -صلى الله عليه وسلم-، قالوا: ولكن هذا -وإن كان جائزًا- فما وقع. انتهى.

(مَنْ تركَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ) أي فهو ميراث لأهله (وَمَنْ تركَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا، فَعَلَيَّ وَإِلَيَّ) أي فعليّ وفاء دينه، وإلَيّ كفالة عياله، فالأول راجع إلى الدين، والثاني راجع إلى الضياع. قال النوويّ رحمه الله: هذا تفسير لقوله: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه"، قال أهل اللغة: "الضَّيَاع" -بفتح الضاد-: العيال، قال ابن قتيبة: أصله مصدر ضاع يَضيع ضَيَاعًا، والمراد من ترك أطفالا وعيالا ذوي ضَياع، فأوقع المصدر موضع الاسم. انتهى. وقال القرطبيّ: الضَّيَاع: العيال، قاله النضر بن شُميل. وقال ابن قتيبة: هو مصدر ضَاعَ يَضيع ضَيَاعًا، ومثله مضى يمضي مضاءً، وقضى يقضي قضاءً: أراد من ترك عيالًا، أو أطفالًا، فجاء بالمصدر موضع الاسم، كما تقول: ترك فقرًا: أي فقراء. و"الضِّيَاع" بالكسر: جمع ضائع، مثل جائع وجياع، وضيعة الرجل أيضًا ما يكون منه معاشه، من صناعة، أو غلّة. قاله الأزهريّ. وقال شَمِر: ويدخل فيه التجارة، والحِرفة، يقال: ما ضيعتك؟ فتقول: كذا. انتهى (¬1). قال النوويّ: قال أصحابنا: وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يُصلي على من مات وعليه دين، لم يَخلُف به وفاء؛ لئلا يتساهل الناس في الاستدانة، ويُهمِلوا الوفاء، فزجرهم عن ذلك بترك الصلاة عليهم، فلما فتح الله على المسلمين مبادىء الفتوح قال -صلى الله عليه وسلم-: "من ترك دينا فعليّ": أي قضاؤه، فكان يقضيه. واختلف أصحابنا هل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يَجِب عليه قضاء ذلك الدين، أم كان يقضيه تَكَرُّمًا، والأصح عندهم أنه كان واجبا عليه -صلى الله عليه وسلم-. واختلفوا هل هذه من الخصائص أم لا؟، فقال بعضهم: هو من خصائص رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقيل: لا، بل يلزم الإمام أن يقضي من بيت المال دين من مات، وعليه دين إذا لم يَخلُف وفاءً، وكان في بيت المال سعة، ولم يكن هناك أهم منه. انتهى كلام النوويّ (¬2). ¬

_ (¬1) "المفهم" 2/ 509. (¬2) "شرح مسلم" 6/ 155.

وقال أبو العبّاس القرطبي رحمه الله تعالى: قوله "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه": أي أقرب له من نفسه، أو أحقّ به منها، ثم فسّر وجهه بقوله: "من ترك مالًا فلأهله، ومن ترك دينًا، أو ضَيَاعًا فإليّ، وعليّ". وبيانه أنه إذا ترك دينًا، أو ضَيَاعًا، ولم يَقدِر على أن يُخَلِّصَ نفسه منه؛ إذ لم يترك شيئًا يَسُدُّ به ذلك، ثم يُخلّصه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بقيامه به عنه، أو سدّ ضَيْعته كان أولى به من نفسه؛ إذ قد فعل معه ما لم يَفعَل هو بنفسه. والله تعالى أعلم. وأما رواية من رواه: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم" في "غير صحيح مسلم"، فيحتمل أن يُحمل على ذلك، ويَحتمِل أن يكون معناه: أنا أولى بالمؤمنين من بعضهم لبعض، كما قال تعالى: {أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 66] أي ليقتل بعضكم بعضًا في أشهر أقوال المفسّرين. قال: وهذا الكلام إنما قاله النبيّ -صلى الله عليه وسلم- حين رَفَعَ ما كان قرّر من امتناعه من الصلاة على من مات وعليه دينٌ لم يترك له وفاءً، كما قاله أبو هريرة -رضي الله عنه-: كان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يُؤتى بالميت عليه الدين، فيَسْأل: "هل ترك لدينه وفاءً؟ " فإن قيل: إنه ترك وفاءً صلّى عليه، وإن قالوا: لا، قال: "صلُّوا على صاحبكم"، قال: فلما فتح الله عليه الفتوحَ قال: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من تُوفّي فترك دينًا، فعليّ، ومن ترك مالًا فلورثته". متّفقٌ عليه. قال القاضي: وهذا مما يلزم الأئمة من الفرض في مال الله تعالى للذرّيّة، وأهل الحاجة، والقيام بهم، وقضاء ديون محتاجيهم. انتهى (¬1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما هذا أخرجه مسلم. ¬

_ (¬1) "المفهم" 2/ 508 - 510.

(المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (7/ 45) وفي "كتاب الأحكام" برقم (2407) من حديث أبي قتادة -رضي الله عنه- مختصرًا. و (مسلم) (3/ 11) و (أبو داود) (2954) و (النسائيّ) (3/ 58 و 188) و (ابن خزيمة) في "صحيحه" رقم (1785) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (10) و (البيهقيّ) في "الكبرى" (3/ 214) و (البغويّ) في "شرح السنّة" (4295) والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو وجوب اجتناب البدع، وسأستوفي البحث عن البدعة في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-. 2 - (ومنها): ما كان عليه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من شدّة الاهتمام في التحذير عن المعاصي، والحث على الطاعات، ومن أجل شدّة الاهتمام بذلك ينشأ غضبه، بحيث تحمرّ عيناه، ويتغيّر حاله، فكأن من سمع خطبته في تلك الحال يتصوّره كأنه منذر جيش جرّار، قد دنا اجتياحه لقومه، وهم في غفلتهم ساهون، وفي مستلذّاتهم لاهون، وذلك نتيجة حرصه على هداية أمته، ورحمته ورأفته بهم، فكان كما وصفه الله عز وجل بقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]. 3 - (ومنها): أنه ينبغي للخطيب أن يفخم أمر الخطبة، فيرفع صوته، ويُجْزِل كلامه؛ حتى يكون مطابقًا للفصل الذي يتكلّم فيه، من ترغيب، أو ترهيب. 4 - (ومنها): بيان قرب الساعة، فإن بعثته -صلى الله عليه وسلم- إحدى علاماتها. 5 - (ومنها): مشروعيّة ضرب المثل للإيضاح. 6 - (ومنها): استحبابُ قولِ: "أما بعدُ" في خُطَب الوعظ، والجمعة، والعيد، وغيرها، وكذا في خُطَب الكتب المصنفة، وقد عقد الإمام البخاري رحمه الله تعالى بابا في استحبابه، وذكر فيه جملةً من الأحاديث، واختلف العلماء في أول من تكلم به، فقيل:

داود عليه السلام، وقيل: يعرب بن قحطان، وقيل: قُسّ بن ساعدة. وقال بعض المفسرين، أو كثير منهم: إنه فصل الخطاب الذي أوتيه داود. وقال المحققون: فصلُ الخطاب الفصل بين الحق والباطل (¬1). 7 - (ومنها): كون كلام الله عز وجل خير الكلام، كما قال سبحانه وتعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} الآية [الزمر:23]. 8 - (ومنها): أن هدي النبيّ -صلى الله عليه وسلم- خير الهدي، وأكمله، وأحسنه وأفضله. 9 - (ومنها): أن البدع التي لا أصل لها من الكتاب والسنة شرُّ الأمور، وأنها هي الضلالة بعينها، فيجب اجتنابها، والحذر منها، والبعد عن أهلها، حتى لا يقع العاقل في مهواتها، فيكون مأواه نار جهنم وبئس المصير. 10 - (ومنها): كون النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أولى بكلّ مؤمن من نفسه، كما قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]. 11 - (ومنها): من مات وعليه دينٌ، ولم يترك وفاءً، أو ترك عيالًا لا كافل لهم، فعلى الإمام أن يتولّى ذلك من بيت المال. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الرابعة): فيما نُقل عن أهل العلم فيما يتعلّق بالبدعة: قال الإمام الْهُمام شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى: البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ورسوله، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب، ولا استحباب، فأما ما أمر به أمر إيجاب، أو استحباب، وعُلم الأمر بالأدلة الشرعية، فهو من الدين الذي شرعه الله، وإن تنازع أولو الأمر في بعض ذلك، وسواءٌ كان هذا مفعولًا على النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، أو لم يكن، فما فُعل بعده بأمره -من قتال المرتدّين، والخوارج المارقين، وفارس والروم والترك، وإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وغير ذلك- فهو سنته (¬2). ¬

_ (¬1) "شرح مسلم للنوويّ" 6/ 156. (¬2) "مجموع الفتاوى" 4/ 107 - 108.

وقال أيضًا: البدعة ما خالفت الكتاب، والسنّة، أو إجماع سلف الأمة من الاعتقادات، والعبادات، كأقوال الخوارج، والروافض، والقدريّة، والجهميّة، وكالذين يتعبّدون بالرقْصِ، والغناء في المساجد، والذين يتعبّدون بحلق اللحى، وأكل الحشيشة، وأنواع ذلك من البدع التي يتعبّد بها طوائف من المخالفين للكتاب والسنّة (¬1). وقال أيضًا: فمن ندب إلى شيء يُتقرّب به إلى الله، أو أوجبه بقوله، أو فعله من غير أن يشرعه الله، فقد شرع من الدين مما لم يأذن به الله (¬2). وقال أيضًا: السنّة هي ما قام الدليل الشرعيّ عليه بأنه طاعة لله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، سواء فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو فُعل في زمانه، أولم يفعله، ولم يُفعل في زمانه؛ لعدم المقتضي حينئذ لفعله، أو وجود المانع منه. فإذا ثبت أنه أمر به، أو استحبّه فهو سنّة، كما أمر بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وكما جمع الصحابةُ القرآن في المصحف، وكما داوموا على قيام رمضان في المسجد جماعةً، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه"، فشرَع كتابة القرآن، وأما كتابة الحديث فنهى عنه أولًا، وذلك منسوخٌ عند جمهور العلماء بإذنه لعبد الله بن عمرو أن يكتب عنه ما سمعه في الغضب والرضا، وبإذنه لأبي شاهٍ أن تُكتب له خطبته عام الفتح، وبما كتبه لعمرو بن حزم من الكتاب الكبير الذي كتبه له لمّا استعمله على نجران، وبغير ذلك. والمقصود هنا أن كتابة القرآن مشروعةٌ، لكن لم يجمعه في مصحف واحد؛ لأن نزوله لم يكن تمّ، وكانت الآية قد تُنسخ بعد نزولها، فلوجود الزيادة والنقص لم يمكن جمعه في مصحف واحد حتى مات -صلى الله عليه وسلم-، وكذا قيام رمضان، قد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة"، وقام في أول الشهر بهم ليلتين، وقام في ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" 3/ 195. (¬2) "المصدر السابق" 3/ 195.

آخر الشهر ليالي، وكان الناس يُصلّون على عهده -صلى الله عليه وسلم- المسجد فرادى وجماعات، لكن لم يُدَاوم بهم على الجماعة؛ خشية أن تُفرض عليهم، وقد أُمن ذلك بموته. وقد قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه أهل السنن، وصححه الترمذيّ وغيره: "عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسّكوا بها، وعضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كلّ بدعة ضلالة"، فما سنّه الخلفاء الراشدون ليس بدعةً شرعيّةً يُنهى عنها، وإن كان يُسمّى في اللغة بدعة، لكونه ابتُدىء، كما قال عمر -رضي الله عنه-: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل. انتهى (¬1). وقال العلامة أبو إسحاق الشاطبيّ (¬2) رحمه الله: أصل مادّة "بدع" للاختراع على غير مثال سابق، ومنه قول الله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 117، الأنعام: 101]: أي مخترعهما من غير مثال سابق متقدّم، وقوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9]: أي ما كنت أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد، بل تقدّمني كثير من الرسل، ويقال: ابتدع فلان بدعة، يعني ابتدأ طريقة لم يسبقه إليها سابق. وهذا أمر بديع، يقال في الشيء المستحسن الذي لا مثال له في الحسن، فكأنه لم يتقدّمه ما هو مثله وما لا يُشبهه. ومن هذا المعنى سمّيت البدعة بدعة، فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع وهيئتها هي البدعة، وقد يُسمّى العمل المعمول على ذلك الوجه بدعة. فمن هذا المعنى سمي العمل الذي لا دليل عليه في الشرع بدعة، وهو إطلاق أخصّ منه في اللغة. قال: ثبت في علم الأصول أن الأحكام المتعلّقة بأفعال العباد، وأقوالهم ثلاثة: ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" 21/ 317 - 319. (¬2) هو العلامة الأصوليّ أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الغرناطيّ الشاطبيّ صاحب المصنفات النافعة كـ "الاعتصام" و"الموافقات" المتوفى سنة (790 هـ).

حكم يقتضيه معنى الأمر، كان للإيجاب، أو الندب، وحكم يقتضيه معنى النهي، كان للكراهة، أو التحريم، وحكم يقتضيه معنى التخيير، وهو الإباحة. فأفعال العباد وأقوالهم لا تعدو هذه الأقسام الثلاثة: مطلوب فعله، ومطلوب تركه، ومأذون في فعله وتركه، والمطلوب تركه لم يُطلَب تركه إلا لكونه مخالفًا للقسمين الأخيرين، لكنه على ضربين: (أحدهما): أن يُطلَب تركه، ويُنهى عنه؛ لكونه مخالفة خاصّة مع مجرّد النظر عن غير ذلك، وهو إن كان محرّمًا سمّي فعله معصية وإثمًا وسمي فاعله عاصيًا وآثمًا، وإلا لم يسمّ بذلك، ودخل في حكم العفو حسبما هو مبيّن في غير هذا الموضع، ولا يُسمّى بحسب الفعل جائزًا ولا مباحًا؛ لأن الجمع بين الجواز والنهي جمع بين متنافيين. (والثاني): أن يطلب تركه، ويُنهى عنه لكونه مخالفةً لظاهر التشريع من جهة ضرب الحدود، وتعيين الكيفيّات، والتزم الهيئات المعينة، أو الأزمنة المعينة مع الدوام، ونحو ذلك، وهذا هو الابتداع والبدعة، ويُسمّى فاعله مبتدعًا. فالبدعة إذن عبارة عن "طريقة في الدين مخترعة تُضاهي الشرعيّة يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبّد لله سبحانه". وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة، وإنما يخصّها بالعبادات، وأما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة، فيقول: "البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية". ولا بدّ من بيان ألفاظ هذا الحدّ: فـ "الطريقة، والطريق"، والسبيل والسنن هي بمعنى واحد، وهو ما رسم للسلوك عليه، وإنما قُيّدت بـ "الدين"؛ لأنها فيه تُختَرع، وإليه يُضيفها صاحبها، وأيضًا فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على الخصوص لم تسمّ بدعة كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدّم.

ولما كانت الطرائق في الدين تنقسم -فمنها ما له أصلٌ في الشريعة، ومنها: ما ليس له أصلٌ فيها- خُصّ منها ما هو المقصود بالحدّ، وهو القسم المخترع، أي طريقة ابتُدِعَت على غير مثال تقدّمها من الشارع، إذ البدعة إنما خاصّتها أنها خارجة عما رسمه الشارع. وبهذا القيد انفصلت عن كلّ ما ظهر لبادي الرأي أنه مخترع مما هو متعلّق بالدين، كعلم النحو والتصريف، ومفردات اللغة، وأصول الفقه، وأصول الدين، وسائر العلوم الخادمة للشريعة، فإنها وإن لم توجد في الزمان الأول فأصولها موجودة في الشرع: إذ الأمر بإعراب القرآن منقول، وعلوم اللسان هادية للصواب في الكتاب والسنّة، فحقيقتها إذًا أنها فقه التعبّد بالألفاظ الشرعيّة الدالّة على معانيها، كيف تؤخذ وتؤدّي؟، وأصول الفقه إنما معناها استقراء كلّيّات الأدلّة حتى تكون عند المجتهد نُصب عينيه، وعند الطالب سهلة الملتمس، وكذلك أصول الدين، إنما حاصله تقرير لأدلّة القرآن والسنة، أو ما ينشأ عنها في التوحيد، وما يتعلّق به، كما كان الفقه تقريرًا لأدلتها في الفروع العباديّة. [فإن قيل]: فإن تضمينها على ذلك الوجه مخترع. [فالجواب]: أن له أصلًا في الشرع، ففي الحديث ما يدلّ عليه، ولو سُلّم أنه ليس في ذلك دليلٌ على الخصوص، فالشرع بجملته يدلّ على اعتباره، وهو مستمدّ من قاعدة المصالح المرسلة. فعلى القول بإثباتها أصلًا شرعيًّا لا إشكال في أن كلّ علم خادم للشريعة داخل تحت أدلّته التي ليست بمأخوذ من جزئيّ واحد، فليست ببدعة البتة. وعلى القول بنفيها لا بدّ أن تكون تلك العلوم مبتدعات، وإذا دخلت في علم البدع كانت قبيحة؛ لأن كلّ بدعة ضلالة من غير إشكال. ويلزم من ذلك أن يكون كَتْبُ المصحف، وجمع القرآن قبيحًا، وهو باطل بالإجماع، فليس إذًا بدعةً.

ويلزم أن يكون دليل شرعيّ، وليس إلا هذا النوع من الاستدلال، وهو المأخوذ من جملة الشريعة، وإذا ثبت جزئيّ في المصالح المرسلة ثبت مطلق المصالح المرسلة. فعلى هذا لا ينبغي أن يُسمّى علم النحو أو غيره من علوم اللسان، أو علم الأصول، أو ما أشبه ذلك من العلوم الخادمة للشريعة بدعةً أصلًا، ومن سمّاه بدعةً، فإما على المجاز، كما سَمَّى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قيام الناس في رمضان بدعةً، وإما جهلًا بمواقع السنّة والبدعة، فلا يكون قول من قال ذلك معتدّا به، ولا معتمدًا عليه. وقوله في الحدّ: "تضاهي الشرعيّة" يعني أنها تشابه الطريقة الشرعيّة من غير أن تكون في الحقيقة كذلك، بل هي مضادّة لها من أوجه: (منها): وضع الحدود، كالناذر للصيام قائمًا لا يقعد، ضاحيًا لا يَستظلّ، والاختصاص في الانقطاع للعبادة، والاقتصار من المأكل والملبس على صنف واحد دون صنف، من غير علّة. (ومنها): التزام الكيفيّات والهيئات المعيّنة، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد، واتخاذ يوم ولادة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عيدًا، وما أشبه ذلك. (ومنها): التزام العبادات المعيّنة في أوقات معيّنة، لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة، كالتزام صيام يوم النصف من شعبان، وقيام ليلته. وثَمَّ أوجهٌ تُضاهي بها البدعةُ الأمورَ المشروعةَ، فلو كانت لا تضاهي الأمور المشروعة لم تكن بدعةً؛ لأنها تصير من باب الأفعال العادية. وأيضًا فإن صاحب البدعة إنما يَخترعها ليضاهي بها السنّة حتى يكون مُلبِّسًا بها على غيره، أو تكون هي مما تلتبس عليه بالسنة؛ إذ الإنسان لا يقصد الاستتباع بأمر لا يُشابه المشروع؛ لأنه إذ ذاك لا يستجلب به في ذلك الابتداع نفعًا، ولا يدفع به ضررًا، ولا يُجيبه غيره إليه. ولذلك تجد المبتدع ينتصر لبدعته بأمور تخيّل التشريع، ولو بدعوى الاقتداء بفلان المعروف منصبه في أهل الخير.

فأنت ترى العرب الجاهليّة في تغيير ملّة إبراهيم عليه السلام كيف تأوّلوا فيما أحدثوه احتجاجًا منهم، كقولهم في أصل الإشراك: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} الآية [الزمر: 3]، وكترك الْحُمْس الوقوف بعرفةَ؛ لقولهم: لا نخرُج من الحرم اعتدادًا بحرمته، وطواف من طاف بالبيت عُريانًا قائلين: لا نطوف بثياب عصينا الله فيها، وما أشبه ذلك مما وجّهوه ليُصَيِّروه بالتوجيه كالمشروع. فما ظنك بمن عَدّ، أو عُدّ نفسه من خواصّ أهل الملّة؟ فهم أحرى بذلك، وهم المخطئون، وظنّهم الإصابة، وإذا تبيّن هذا ظهر أن مضاهاة الأمور الشرعيّة ضروريّة الأخذ في أجزاء الحدّ. وقوله: "يُقصَد بالسلوك عليها المبالغة في التعبّد لله تعالى" هو تمام معنى البدعة، إذ هو المقصود بتشريعها. وذلك أن أصل الدخول فيها يحثّ على الانقطاع إلى العبادة والترغيب في ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. فكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى، ولم يتبيّن له أن ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحدود كاف، فرأى من نفسه أنه لا بدّ لما أُطلق الأمر فيه من قوانين منضبطة، وأحوال مرتبطة، مع ما يداخل النفوس من حبّ الظهور أو عدم مظنته، فدخلت في هذا الضبط شائبة البدعة. وأيضًا فإن النفوس قد تَمَلُّ وتسأم من الدوام على العبادات المرتّبة، فإذا جُدّد لها أمر لا تَعْهَده حصل لها نشاط آخر لا يكون لها مع البقاء على الأمر الأول، ولذلك قالوا: لكلّ جديد لذّة، بحكم هذا المعنى، كمن قال: كما تُحْدَثُ للناس أقضية بغدر ما أحدثوا من الفجور، فكذلك تُحدَث لهم مرغِّبات في الخير بقدر ما حَدَثَ لهم من الفتور. وفي حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: "فيوشك قائل أن يقول: ما هم بِمُتَّبِعيّ فيتبعوني، وقد

قرأت القرآن، فلا يتّبعوني حتى أُحدث لهم غيره، فإياكم وما ابتُدِع، فإن ما ابتُدع ضلالة" (¬1). وقد تبيّن بهذا القيد أن البدع لا تدخل في العادات، فكلُّ ما اختُرع من الطرق في الدين مما يُضاهي المشروع، ولم يُقصد به التعبّد، فقد خرج عن هذه التسمية، كالمغارم الْمُلزِمة على الأموال وغيرها نسبة مخصوصةً وقَدْر مخصوص مما يُشبه فرض الزكاة، ولم يكن إليها ضرورة، وكذلك اتخاذ المناخل، وغسل اليد بالأشنان، وما أشبه ذلك من الأمور التي لم تكن قبلُ، فإنها لا تُسمّى بدَعًا على إحدى الطريقتين. وأما الحدّ على الطريقة الأخرى (¬2)، فقد تبيّن معناه إلا قوله: "يُقصد بها ما يُقصد بالطريقة الشرعية". ومعناه أن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد في عاجلتهم وآجلتهم لتأتيهم في الدارين على أكمل وجوهها، فهو الذي يقصده المبتدع ببدعته؛ لأن البدعة إما أن تتعلّق ¬

_ (¬1) هو ما أخرجه أبو داود (3995) بإسناد صحيح، عن يزيد بن عَمِيرة وكان من أصحاب معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: كان لا يجلس مجلسا للذكار حين يجلس إلا قال: الله حكم قسط، هَلَك المرتابون، فقال معاذ بن جبل يومًا: إن من ورائكم فتنًا يَكثُر فيها المال، ويُفتَح فيها القرآن، حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، والعبد والحر، فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يَتَّبِعُوني، وقد قرأت القرآن، ما هم بِمُتَّبِعِيَّ حتى أَبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابْتُدع، فإن ما ابتُدِع ضلالة، وأُحَذِّركم زَيْغَة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق، قال: قلت لمعاذ: ما يُدريني -رحمك الله- أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: بلى اجتَنِب من كلام الحكيم الْمُشتَهِرات التي يقال لها: ما هذه؟ ولا يَثْنِيَنّك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع، وتَلَقَّ الحق إذا سمعته، فإن على الحق نورا. (¬2) وهي طريقة من يُدخل العادات في معنى البدع.

بالعادات، أو العبادات، فإن تعلّقت بالعبادات فإنما أراد بها أن يأتي تعبّده على أبلغ ما يكون في زعمه ليفوز بأتمّ المراتب في الآخرة في ظنّه، وإن تعلّقت بالعادات فكذلك؛ لأنه إنما وضعها لتأتي أمور دنياه على تمام المصلحة فيها. فمن جعل المناخل في قسم البدع، فظاهر أن التمتّع عنده بلذّة الدقيق المنخول أتمّ منه بغير المنخول، وكذلك البناءات المشيّدة المختلفة التمتّع بها أبلغ منه بالحشوش والخرب، ومثله المصادرات في الأموال بالنسبة إلى أولي الأمر، وقد أباحت الشريعة التوسّع في التصرّفات، فيعُدُّ المبتدع هذا من ذلك. وقد ظهر بهذا معنى البدعة، وما هي في الشرع -والحمد لله-. انتهى كلام الشاطبّي رحمه الله تعالى، ولقد أجاد وأفاد (¬1). وقال الإمام ابن رجب رحمه الله عند شرح قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وإياكم والأمور المحدثات، فإن كل بدعة ضلالة": فيه تحذير للأمة من اتباع الأمور المحدثة المبتدعة، وأكّد ذلك بقوله: "كلُّ بدعة ضلالة". والمراد بالبدعة ما أُحدِث مما لا أصل له في الشريعة يَدُلُّ عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعًا، وإن كان بدعة لغة. وفي "صحيح مسلم" عن جابر -رضي الله عنه- أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في خطبته: "إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة". وأخرجه الترمذي والمصنّف (¬2) من حديث كثير بن عبد الله المزني، وفيه ضعف، عن أبيه، عن جده، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من ابتدع بدعة ضلالة، لا يرضاها الله ولا رسوله، كان عليه مثل آثام من عمل بها، لا يَنقُص ذلك من أوزارهم شيئا". وأخرج الإمام أحمد من رواية غُضَيف بن الحارث الثُّمَالي، قال: بعث إليّ ¬

_ (¬1) "الاعتصام" 1/ 49 - 57. (¬2) أخرجه الترمذيّ 5/ 45 رقم 2677 وسيأتي للمصنف رقم 209.

عبد الملك بن مروان، فقال: إنا قد جمعنا الناس على أمرين: رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة، والقصص بعد صلاة الصبح والعصر، فقال: أما إنهما أمثلُ بدعتكم عندي، ولست بمجيبكم إلى شيء منها؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أحدث قومٌ بدعةً إلا رُفِع مثلها من السنة"، فتمسك بسنّة خير من إحداث بدعة (¬1). وقد رُوْي عن ابن عمر رضي الله عنهما من قوله نحوُ هذا. فقوله -صلى الله عليه وسلم-: "كل بدعة ضلالة" من جوامع الكلم، لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد" (¬2). فكل من أحدث شيئًا، ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين يَرجِع إليه، فهو بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة. وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع، فإنما ذلك في البدع اللغوية، لا الشرعية. فمن ذلك قول عمر -رضي الله عنه- لمّا جَمَع الناسَ في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك، فقال: نعمت البدعة هذه. ورُوِيَ عنه أنه قال: إن كانت هذه بدعةً فنعمت البدعة. ورُوِيَ عن أُبَيّ بن كعب -رضي الله عنه- قال له: إن هذا لم يكن، فقال عمر -رضي الله عنه-: قد عَلِمتُ، ولكنه حسن. ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن له أصولٌ في الشريعة يَرجِعُ إليها: ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 4/ 105 والبزّار رقم 131 وذكره الهيثميّ في "مجمع الزوائد" 1/ 193 وقال: رواه أحمد والبزّار، وفيه أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم، وهو منكر الحديث. (¬2) متّفقٌ عليه.

فمنها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يَحُثُّ على قيام رمضان، ويُرَغِّب فيه، وكان الناس في زمنه يقومون في المسجد جماعاتٍ متفرقةً ووُحْدانًا، وهو -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى بأصحابه في رمضان ليلةً، ثم امتنع من ذلك مُعَلِّلا بأنه خَشِيَ أن يُكتَب عليهم، فيَعجَزُوا عن القيام به، وهذا قد أُمِن بعده -صلى الله عليه وسلم- (¬1). ورُوِي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقوم بأصحابه ليالي الأفراد في العشر الأواخر (¬2). ومنها: أنه -صلى الله عليه وسلم- أمر باتباع سنة خلفائه الراشدين، وهذا قد صار من سنة خلفائه الراشدين، فإن الناس اجتمعوا عليه في زمن عمر، وعثمان، وعليّ -رضي الله عنهم-. ومن ذلك أذان الجمعة الأول زاده عثمان -رضي الله عنه- لحاجة الناس إليه، وأقرّه عليّ، واستمر عمل المسلمين عليه. ورُوِيَ عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: هو بدعة. قال ابن رجب: ولعله أراد ما أراد أبوه في قيام شهر رمضان. ومن ذلك جَمْعُ المصحف في كتاب واحد، توقف فيه زيد بن ثابت -رضي الله عنه-، وقال لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: كيف تفعلان ما لم يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم عَلِمَ أنه مصلحة، فوافق على جَمْعه (¬3)، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمر بكتابة الوحي، ولا فرق بين أن يُكتَب مُفَرقًا أو مجموعا، بل جَمْعُهُ صار أصلح. وكذلك جَمْعُ عثمان -رضي الله عنه- الأمة على مصحف واحد، وإعدامه لِمَا خالفه؛ خشيةَ تفرق الأمة، وقد استحسنه عليّ، وأكثر الصحابة -رضي الله عنهم-، وكان ذلك عينَ المصلحة. وكذلك قتال مَن مَنَعَ الزكاةَ توقف فيه عمر وغيره، حتى بَيَّن له أبو بكر أصله الذي يَرجِع إليه من الشريعة، فوافقه الناس على ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ 4/ 779 رقم 2012 من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) صحيح أخرجه أبو داود رقم 1375 والترمذيّ 806 والنسائيّ 1605. (¬3) أخرجه البخاريّ في "كتاب فضائل القرآن" رقم 4986.

ومن ذلك القَصَصُ، وقد سبق قول غُضَيف بَن الحارث: إنه بدعة، وقال الحسن: إنه بدعة، ونعمت البدعة، كم من دَعْوة مستجابةٍ، وحاجةٍ مَقْضِيّةٍ، وأخٍ مُستفاد. وإنما عَنَى هؤلاء بقولهم: إنه بدعةٌ الهيئةَ الاجتماعيةَ عليه في وقت معين، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن له وقت معين يَقُصُّ على أصحابه فيه، غير خُطَبه الراتبة في الْجُمَع والأعياد، وإنما كان يُذَكِّرهم أحيانًا أو عند حدوث أمر يَحتاج إلى التذكير عنده، ثم إن الصحابة -رضي الله عنهم- اجتمعوا على تعيين وقت له، كما سبق عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه كان يُذَكِّر أصحابه كل يوم خميس. وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: حَدِّثِ الناسَ في كل جمعة مرة، فإن أبيتَ فمرتين، فإن أكثرت فثلاثًا، ولا تُمِلُّ الناسَ. وفي "المسند" عن عائشة رضي الله عنها أنها وَصَّتْ قاصَّ أهل المدينة بمثل ذلك (¬1). ¬

_ (¬1) هو ما أخرجه في "المسند" 6/ 217 ونصّه: 24636 - حدثنا إسماعيل، قال: حدثنا داود، عن الشعبي قال: قالت عائشة لابن أبي السائب، قاصِّ أهل المدينة ثلاثًا لَتُبَايعُنِّي عليهن، أو لأُناجِزَنَّك، فقال: ما هنّ، بل أنا أبايعك يا أم المؤمنين، قالت: اجتنب السجع من الدعاء، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كانوا لا يفعلون ذلك، وقال إسماعيل مرة: فقالت: إني عهدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وهم لا يفعلون ذاك. وقُصَّ على الناس في كل جمعة مرة، فإن أبيت فثنتين، فإن أبيت فثلاثًا، فلا تُمِلَّ الناسَ، هذا الكتابَ، ولا أَلْقَيَنَّك تأتي القوم، وهم في حديث من حديثهم، فتقطع عليهم حديثهم، ولكن اتركهم فإذا جَرَّءُوك عليه، وأمروك به فحدثهم. وهذا إسناد صحيح، وإسماعيل هو ابن عليّة، وداود هو ابن أبي هند، ويقال: إن الشعبيّ لم يسمع من عائشة رضي الله عنها، انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" 2/ 265. إلا أن إرساله لا يضرّ؛ لأنه لا يرسل إلا صحيحًا، قال العجليّ: مرسل الشعبيّ صحيح، لا يكاد يرسل إلا صحيحًا. انظر "شرح علل ابن رجب" ص 181 تحقيق صبحي السامرّائي.

ورُوِي عنها أنها قالت لسعيد بن عمير: حَدِّث الناسَ يومًا، ودع الناس يومًا. ورُوي عن عمر بن عبد العزيز أنه أمر القاصّ أن يقص كل ثلاثة أيام مرة. ورُوي عنه أنه قال: رَوِّحِ الناسَ، ولا تُثْقِل عليهم، ودَعِ القَصَصَ يوم السبت ويوم الثلاثاء. وقد رَوَى الحافظ أبو نعيم بإسناده عن إبراهيم بن الْجُنيد قال: سمعت الشافعي يقول: البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم، واحتج بقول عمر -رضي الله عنه-: نعمت البدعة هي. ومراد الشافعي رحمه الله ما ذكرناه من قبلُ أن البدعة المذمومة ما ليس لها أصلٌ في الشريعة تَرجِع إليه، وهي البدعة في إطلاق الشرع، وأما البدعة المحمودة فما وافق السنة يعني: ما كان لها أصل من السنة تَرجِع إليه، وإنما هي بدعة لغة لا شرعًا؛ لموافقتها السنة. وقد رُوي عن الشافعي كلام آخر يُفَسِّر هذا، وأنه قال: المحدثات ضربان: ما أُحدث مما يخالف كتابًا، أو سنةً، أو أثرًا، أو إجماعًا، فهذه البدعة الضلالة، وما أُحدث فيه من الخير، لا خِلاف فيه لواحد من هذا، فهذه مُحْدَثةٌ غير مذمومة. وكثيرٌ من الأمور التي أُحدثت، ولم يكن (¬1) قد اختَلَف العلماء في أنها هل هي بدعة حسنة حتى (¬2) ترجع إلى السنة أم لا؟. (فمنها): كتابة الحديث، نَهَى عنه عمر، وطائفة من الصحابة -رضي الله عنهم-، وَرَخَّص فيها الأكثرون، واستدلوا له بأحاديث من السنة. (ومنها): كتابة تفسير الحديث والقرآن، كَرِهه قوم من العلماء، ورخص فيه كثير منهم، وكذلك اختلافهم في كتابة الرأي في الحلال والحرام ونحوه، وفي توسعة الكلام في المعاملات، وأعمال القلوب التي لم تُنقَل عن الصحابة والتابعين، وكان الإمام أحمد ¬

_ (¬1) هكذا نسخة "جامع العلوم والحكم" "ولم يكن"، ولعل المعنى: ولم يكن موجودًا"، والله تعالى أعلم. (¬2) هكذا نسخة "جامع العلوم" ولعل الأولى: "حيث"، والله أعلم.

يَكرَه أكثر ذلك. وفي هذه الأزمان التي بَعُدَ العهد فيها بعلوم السلف يَتَعيَّن ضبط ما نُقِل عنهم من ذلك كله؛ ليتميز به ما كان من العلم موجودا في زمانهم، وما أُحدِث في ذلك بعدهم، فيُعلمَ بذلك السنة من البدعة. وقد صَحَّ عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: إنكم قد أصبحتم اليوم على الفطرة، وإنكم ستُحدِثون، ويُحدَث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالعهد الأول. وابن مسعود -رضي الله عنه- قال هذا في زمن الخلفاء الراشدين. وروى ابنُ مَهديّ عن مالك قال: لم يكن شيء من هذه الأهواء في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأبي بكر وعمر وعثمان، وكان مالك يُشير بالأهواء إلى ما حدث من التفرق في أصول الديانات، من أمور الخوارج، والروافض، والمرجئة ونحوهم، ممن تَكَلَّم في تكفير المسلمين، واستباحة دمائهم وأموالهم، أو في تخليدهم في النار، أو في تفسيق خواص هذه الأمة، أو عَكَسَ ذلك، فزعم أن المعاصي لا تضر أهلها، وأنه لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد. وأصعب من ذلك ما أُحدث من الكلام في أفعال الله تعالى في قضائه وقدره، فكَذّب بذلك من كَذَّب، وزَعَم أنه نزه الله بذلك عن الظلم. وأصعب من ذلك ما حَدَث من الكلام في ذات الله وصفاته، مما سكت عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-، والصحابة والتابعون لهم بإحسان، فقومٌ نَفَوا كثيرًا مما وَرَد في الكتاب والسنة من ذلك، وزَعَموا أنهم فعلوا تنزيها لله عما تقتضي العقول تنزيهه عنه، وزعموا أن لازم ذلك مستحيلٌ على الله عز وجل. وقوم لم يكتفوا بإثباته، حتى أثبتوا ما يُظَنّ أنه لازم له بالنسبة إلى المخلوقين، وهذه اللوازم نفيًا وإثباتًا دَرَجَ صدرُ الأمة على السكوت عنها. ومما حَدَث في الأمة بعد عصر الصحابة والتابعين الكلامُ في الحلال والحرام بمجرد الرأي، ورَدُّ كثير مما وردت به السنة في ذلك؛ لمخالفته الرأي، والأقيسة العقلية. ومما حَدَث بعد ذلك الكلام في الحقيقة بالذَّوْق والكشف، وزَعْمُ أن الحقيقة تنافي

الشريعة، وأن المعرفة وحدها تكفي مع المحبة، وأنه لا حاجة إلى الأعمال، وأنها حجاب، أو أن الشريعة إنما يَحتاج إليها العوامُّ، وربما انضم إلى ذلك الكلام في الذات والصفات بما يُعلَمُ قطعًا مخالفته للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. انتهى. (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا البحث الذي حقّقه الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه النفيس "جامع العلوم والحكم" بحثٌ نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيس، فعليك بمطالعته، وتدبّره، حتى ينجلي لك الفرق بين البدعة الشرعية المذمومة بكل أشكالها وألوانها التي عناها النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "فكل بدعة ضلالة"، وبين البدعة اللغويّة التي يُستحسَن بعض أفرادها، وهي التي تستند إلى أصل من الكتاب والسنة، أو إجماع الأمة. قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: البدعة كل ما فُعل ابتداء من غير مثال سابق، وأما البدعة الشرعيّة فما لم يدلّ عليه دليل شرعيّ -إلى أن قال-: ثم ذلك العمل الذي دلّ عليه الكتاب والسنّة ليس بدعةً في الشريعة، وإن سُمّي في اللغة، فلفظ البدعة في اللغة أعمّ من لفظ البدعة في الشريعة، وقد عُلم أن قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "كلُّ بدعة ضلالة" لم يُرد به كلّ عمل مبتدإ، فإن دين الإسلام، بل كلّ دين جاء به الرسل فهو عملٌ مبتدأ، وإنما أراد ما ابتُدىء من الأعمال التي لم يشرعها النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. انتهى (¬2). والحاصل أن المراد بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "كل بدعة ضلالة" هي البدعة الشرعيّة، لا اللغويّة. ومن أقوى الأدلة على التفريق بين البدعة الشرعيّة واللغويّة ما أخرجه الشيخان في "صحيحيهما، من حديث عائشة رضي الله عنها، مرفوعًا: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردّ"، ففي قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما ليس منه" إشارةٌ واضحةٌ إلى أن من المحدثات ¬

_ (¬1) "جامع العلوم والحكم" 2/ 97 - 102. (¬2) راجع "الصراط المستقيم" 2/ 589 - 590.

ما يكون من الشرع، وهو ما له أصل يستند إليه من الأدلة الشرعيّة. وقد غلا بعض الناس في هذا الباب، حيث تمسّك بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فكل بدعة ضلالة" فاعتقد أن كلّ ما أُحدث فهو من البدع الضلالة، وهذا غلوّ، وجفاء، وتفريط في عدم الجمع بين أطراف النصوص في هذا الباب، وتدبّرها، وتفهّمها حقّ تدبّر وتفهّم، كما فعل هؤلاء المحقّقون الذين تقدمت أقوالهم، فإياك، ثم إياك أن تكون من هذا الصنف، أو تقلّد منهم أحدًا. اللهم أرنا الحقّ حقّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين، آمين آمين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الخامسة): أنه قد تبيّن بما سبق من أقوال أهل العلم في تعريف البدعة أنها هي التي تفعل بقصد القربة، وهذا أصل أصيلٌ يفرّقُ به بين الفعل الذي يكون بدعةً، والفعل الذي يكون معصيةً فقط، وإن كانت البدعة معصيةً لله سبحانه وتعالى إلا أنها تفوق المعصية في الإثم والحكم. فالمعصية في أصل وقوعها من حيث العمل والاعتقاد تختلف عن البدعة من جهة ما يقترن بكلّ منهما، فالعاصي لا يعتقد أنه بمعصيته يُرضي الله، بخلاف المبتدع، فإنه يعتقد في عمله المحدّث القربةَ إلى الله تعالى، وهذا هو وجه المفارقة. ووجه آخر هو ما تؤول إليه البدعة من مفاسد حاليّة مآليّة في الدنيا والآخرة، وذلك باعتقاد المشروعيّة أو الجواز فيما ليس له أصل، وما يترتّب على هذا الاعتقاد من شيوع وانتشار، حتى ينشأ عليها الصغير، ويموت عليها الكبير، بخلاف المعصية، أو المخالفة. وهذا هو معنى ما قاله سفيان الثوريّ رحمه الله: البدعة أحبّ إلى إبليس من المعصية، فإن المعصية يُتاب منها، والبدعة لا يُتاب منها (¬1). ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "الحلية" 7/ 26.

والسبب في عدم توبة المبتدع أنه يرجو بعمله، أو قوله، أو اعتقاده المحدث القرب من الله، فلا ينفكّ من ملازمة هذا العمل. وبسبب كون البدع أشرّ من المعاصي، وأهلها أضرّ من أهل الذنوب أمر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بقتال الخوارج، ونهى عن قتال الولاة الظلمة (¬1). ومما جاء عن السلف في اعتبار أن البدعة أشدّ ضررًا من المعاصي ما رواه ابن وضّاح بسنده عن أبي بكر بن عيّاش، قال: كان عندنا فتًى يقاتل، ويشرب، وذَكَر أشياءَ من الفسق، ثم إنه تقرّأ فدخل في التشيّع، فسمعت حبيب بن أبي ثابت، وهو يقول: لأنت يوم كنتَ تقاتل وتفعل وتفعل خيرٌ منك اليوم. وقصد القربة يراد به إلحاق حكم شرعيّ بعمل محدَث، كالندب والاستحباب والإيجاب، أو الكراهة والتحريم، قال شيخ الإسلام: فمن ندب إلما شيء يتقرّب به إلى الله، أو أوجبه بقوله، أو فعله، من غير أن يشرعه الله فقد شرع ما لم يأذن به الله (¬2). وقصد القربة يتوجّه إلى العمل الذي لا يتصوّر فيه غير إرادة القربة كالعبادات المحضة، وهي حق خالصٌ لله سبحانه وتعالى، فلا بدّ من مطابقة فعل العبد لأمر الشرع (¬3). فالعبادة التي هي حق الله تعالى لا يُتصوّر فيها غير إرادة القربة، فالإحداث فيها يسمّى ابتداعًا، سواء قصد القربة، أو افتُرض أنه لم يقصدها، فلو أحيا ليلة النصف من شعبان بعبادة مخصوصة، كالصلاة والذكر فهو مبتدع، حتى مع افتراض عدم قصده للقربة. ويتوجّه قصد القربة أيضًا إلى العمل الذي يَحمِل أوجهًا متعدّدة، مثل الأمور الدنيويّة، فيُنظر إلى الفعل باعتبار الوجه الغالب عليه، أو باعتبار وجه القربة إذا اتّحدت ¬

_ (¬1) انظر "مجموع الفتاوى" 7/ 284. (¬2) "مجموع الفتاوى" 3/ 195. (¬3) انظر "الموافقات" للشاطبيّ 2/ 308.

أوجه الفعل الواحد، فمن لبس ثوبًا بلون معيّن، ولم يُرد بذلك القربة فلا يوصف هذا العمل بالبدعة؛ لأنه مباح، إلا إذا لحقته أمور منهيّ عنها، كالإسبال والاشتهار، فإنه يكون معصيةً. أما إذا أراد بذلك الثوب المعيّن القربة فإنه ييهون بدعة، كما يفعله بعض الصوفيّة من اشتراط لون معيّن لمريدهم. والحاصل أن كلّ فعل، أو ترك قُصد به القربة، مما ليس له أصل في الشرع فهو بدعة. فخرج بذلك ما فُعل أو تُرك لا بقصد القربة، فإنه يكون معصيةً، أو مخالفة، أو عفوًا، ولا يُطلق عليه بدعة. مثال ما فُعل لا بقصد القربة، ويكون معصيةً جميع المنهيات الشرعية، كالنظر إلى النساء، وسماع الغناء، فإذا كان هذا الفعل بقصد القربة فهو بدعة. ومثال ما تُرك لا بقصد القربة ترك المأمور به شرعًا، كترك النكاح للقادر عليه، وكترك الدعوة إلى الله ممن وجبت عليه، فإذا كان هذا الترك بقصد القربة فهو بدعة. ومثال ما فُعل لا بقصد القربة ويكون عفوًا حلقُ الرأس في غير نسُك، فإن فُعل بقصد القربة فهو بدعة. ومثال ما تُرك لا بقصد القربة، ويكون عفوًا الامتناع عن أكل اللحم للتطبّب ونحوه، فإن كان الترك تديّنًا فهو بدعة. وللاستزادة في هذا الموضوع راجع "اقتضاء الصراط المستقيم"، و"مجموع الفتاوى" لابن تيميّة رحمه الله تعالى (¬1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. ¬

_ (¬1) "اقتضاء الصراط المستقيم" 1/ 326 - 327 و 2/ 630 و 633 و 637. "مجموع الفتاوى" 21/ 317 - 319 و 18/ 346 "درء التعارض" 1/ 244. وراجع "حقيقة البدعة وأحكامها" تأليف سعيد بن ناصر الغامدي 1/ 291 - 296.

(المسألة السادسة): في تقسيم البدعة إلى حقيقيّة وإضافيّة: قال أبو إسحاق الشاطبيّ رحمه الله تعالى: البدعة الحقيقيّة هي التي لم يدلّ عليها دليلٌ شرعيّ، لا من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا استدلال معتبر عند أهل العلم، لا في الجملة، ولا في التفصيل، ولذلك سمّيت بدعةً؛ لأنها شيء مُخترع على غير مثال سابق. والبدعة الإضافيّة هي التي لها شائبتان: [إحداهما]: لها من الأدلّة مُتَعلّقٌ، فلا تكون من تلك الجهات بدعة. [والأخرى]: ليس لها مُتعلَّقٌ إلا مثل ما للبدعة الحقيقيّة. أي إنها بالنسبة إلى إحدى الجهتين سنة؛ لأنها مستندة إلى دليل، وبالنسبة إلى الجهة الأخرى بدعة؛ لأنها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل، أو غير مستندة إلى شيء. والفرق بينهما من جهة المعنى: أن الدليل عليها من جهة الأصل قائم، ومن جهة الكيفيّات، أو الأحوال، أو التفاصيل لم يقُم عليها، مع أنها محتاجة إليه؛ لأن الغالب وقوعها في التعبّديّات، لا في العاديات المحضة. قال: قد يكون أصل العمل مشروعًا، ولكنه يصير جاريًا مجرى البدعة من باب الذرائع، وبيانه أن العمل يكون مندوبًا إليه مثلًا. فيَعمَل العامل خاصّة نفسه على وضعه الأول من الندبيّة، فلو اقتصر العامل على هذا المقدار لم يكن به بأس، ويجري مجراه إذا دام عليه في خاصيّته غير مظهر له دائمًا، بل إذا أظهره لم يظهره على حكم المتزمات من السنن الرواتب والفرائض اللوازم، فهذا صحيحٌ لا إشكال فيه، وأصله ندب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لإخفاء النوافل، والعمل بها في البيوت، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة"، متّفقٌ عليه. فاقتصر في الإظهار على المكتوبات كما ترى، وإن كان ذلك في مسجده -صلى الله عليه وسلم-، أو في المسجد الحرام، أو في مسجد بيت المقدس، حتى قالوا: إن النافلة في البيت أفضل منها في أحد هذه المساجد الثلاثة بما اقتضاه ظاهر هذا الحديث، وجرى مجرى الفرائض في الإظهار بعض السنن، كالعيدين، والخسوف،

والاستسقاء، وشبه ذلك، فبقي ما سوى ذلك حكمه الإخفاء، فإذا اجتمع في النافلة أن تُلْتَزَمَ التزام السنن الرواتب إما دائمًا، وإما في أوقات محدودة، وعلى وجه محدود، وأُقيمت في الجماعة في المساجد التي تقام فيها الفرائض، أو المواضع التي تقام فيها السنن الرواتب، فذلك ابتداع. والدليل عليه أنه لم يأت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن أصحابه، ولا عن التابعين لهم بإحسان فعلُ هذا المجموع هكذا مجموعًا، وإن أتى مطلقًا، من غير تلك التقييدات، فالتقييد في المطلقات التي لم يثبت بدليل الشرع تقييدها رأي في التشريع، فكيف إذا عارضه الدليل، وهو الأمر بإخفاء النوافل مثلًا؟. ووجه دخول الابتداع هنا أن كلّ ما واظب عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من النوافل وأظهره في الجماعات فهو سنة، فالعمل بالنافلة التي ليست بسنّة على طريق العمل بالسنّة إخراج للنافلة عن مكانها المخصوص بها شرعًا، ثم يلزم من ذلك اعتقادا العوامّ فيها، ومن لا علم عنده أنها سنّة، وهذا فساد عظيم؛ لأن اعتقاد ما ليس بسنة، والعمل بها على حدّ العمل بالسنّة نحوٌ من تبديل الشريعة، كما لو اعتقد في الفرض أنه ليس بفرض، أو فيما ليس بفرض أنه فرضٌ، ثم عمل على وفق اعتقاده، فإنه فاسدٌ، فهب العملُ في الأصل صحيحًا، فإخراجه عن بابه اعتقادًا وعملًا من باب إفساد الأحكام الشرعيّة، ومن هنا ظهر عذر السلف الصالح في تركهم سننًا لئلا يعتقد الجاهل أنها من الفرائض. فهذه أمورٌ جائزة، أو مندوب إليها، ولكنهم كرهوا فعلها خوفًا من البدعة؛ لأن اتخاذها سنةً إنما هو بأن يواظب الناس عليها مظهرين لها، وهذا شأن السنة، وإذا جرت مجرى السنن صارت من البدع بلا شكّ. قال الجامع عفا الله تعالى: هذا الذي قالة الشاطبيّ فيه نظرٌ لا يخفى؛ لأنه إن أراد أن ترك السنة مخافة أن يعتقد الجاهل أنها من الفرائض فهذا مما لا معنى له؛ لأن السنة لا تُترك لمثل هذا الخوف، بل الواجب أن يُبيّن للجاهل ما هو الفرض، وما هي السنة، ولا أظنّه يُثبت النقل بذلك عن أحد من السلف أنهم تركوا السنن لأجل هذا الخوف.

وإن أراد بتركها ترك فعل بصفة خاصّة، لم تثبت في السنة، فهذا أمر مسلمٌ، ولكن سياق كلامه يأبى هذا التأويل. وبالجملة: فلا تترك السنة على الوجه الذي ثبتت به لأجل مثل هذا الخوف، بل ينبه الجاهل، ويبين له ذلك. والله تعالى أعلم. قال: ومن البدع الإضافيّة التي تقرب من الحقيقيّة أن يكون أصل العبادة مشروعًا إلا أنها تخرج عن أصل مشروعيّتها بغير دليل توهمًا أنها باقية على أصلها تحت مقتضى الدليل، وذلك بأن يقيّد إطلاقها بالرأي، أو يُطلق تقييدها، وبالجملة فتخرج عن حدّها الذي حُدّ لها. ومثال ذلك أن يقال: إن الصوم في الجملة مندوب إليه لم يخصّه الشارع بوقت دون وقت، ولا حد فيه زمانًا دون زمان، ما عدا ما نهى عن صيامه على الخصوص كالعيدين، أو ندب إليه على الخصوص كعرفة وعاشوراء بقول، فإذا خصّ منه يومًا من الجمعة بعينه، أو أياما من الشهر بأعيانها، لا من جهة ما عيّنه الشارع، فلا شكّ أنه رأي محض بغير دليل، ضاهى به تخصيص الشارع أيامًا بأعيانها دون غيرها، فصار التخصيص من المكلّف بدعةً، إذ هي تشريع بغير مستند. ومن ذلك تخصيص الأيام الفاضلة بأنواع من العبادات التي لم تُشرع لها تخصيصًا، كتخصيص اليوم الفلانيّ بكذا وكذا من الركعات، أو بصدقة كذا وكذا، أو الليلة الفلانيّة بقيام كذا وكذا ركعةً، أو بختم القرآن فيها، أو ما أشبه ذلك، فإن ذلك التخصيص والعمل به إذا لم يكن بحكم الوفاق، أو بقصد يَقصِد مثله أهل العقل والفراغ والنشاط، كان تشريعًا زائدًا، وهذا كله إن فرضنا أصل العبادة مشروعًا، فإن كان أصلها غير مشروع فهي بدعة حقيّقية مركبة. انتهى كلام الشاطبيّ (¬1)، وهو بحث نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيسٌ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. ¬

_ (¬1) راجع "مختصر الاعتصام" ص 71 - 78.

(المسألة السابعة): في ذكر بعض ما جاء عن السلف في ذمّ البدعة: ذكر الإمام الطبري رحمه الله تعالى في كتاب "آداب النفوس": حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أبان، أن رجلًا قال لابن مسعود: "ما الصراط المستقيم، قال: تركنا محمد -صلى الله عليه وسلم- في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جوادّ، وعن يساره جوادّ، وثَمّ رجال يدعون من مَرَّ بهم، فمن أخذ في تلك الجوادّ انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} الآية [الأنعام: 153]. وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: تعلموا العلم قبل أن يُقبَض، وقبضه أن يذهب أهله، ألا وإياكم والتنطع والتعمق والبدع، وعليكم بالعتيق. أخرجه الدارمي. وقال مجاهد في قوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} قال: البدع. قال ابن شهاب: وهذا كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} الآية [الأنعام: 159]، فالْهَرَب الْهَرَبَ، والنجاة النجاةَ، والتمسك بالطريق المستقيم، والسنن القويم، الذي سلكه السلف الصالح، وفيه المتجر الرابح. وعن أبي هريرة: قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أمرتكم به فخذوه، وما نهيتكم عنه فانتهوا". متّفق عليه. وروى ابن ماجة وغيره عن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موعظة ذَرَفَت منها العيون، ووَجِلَت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله إن هذه لموعظة مودع فما تعهد إلينا؟ فقال قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرًا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم والأمور المحدثات، فإن كل بدعة ضلالة، وعليكم بالطاعة، وإن عبدًا حبشيا، فإنما المؤمن كالْجَمَل الأَنِفِ حيثما قيد انقاد". وأخرجه الترمذي بمعناه، وصححه. ورَوى أبو داود قال: حدثنا ابن كثير قال: أخبرنا سفيان، قال: كتب رجلٌ إلى عمر بن عبد العزيز، يسأله عن القدر، فكتب إليه: "أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله،

والاقتصاد في أمره، واتباع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وترك ما أحدث المُحْدِثون بعدَ ما جرت به سنته، وكُفُوا مُؤْنته، فعليك بلزوم الجماعة، فإنها لك -بإذن الله- عِصْمَة، ثم اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعةً إلا قد مضى قبلها ما هو دليلٌ عليها، أو عبرةٌ فيها، فإن السنة إنما سَنَّها من قد علم ما في خلافها من الخطإ والزَّلَلِ، والْحُمْق والتعمّق، فارضَ لنفسك ما رَضِي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وَقَفُوا، وببصر نافذ كَفُّوا، وإنهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أَوْلَى، فإن كان الهدى ما أنتم عليه، فقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم: إنما حَدَثَ بعدَهم، فما أحدثه إلا مَن اتّبع غير سبيلهم، ورَغِبَ بنفسه عنهم، فإنهم هم السابقون، قد تكلموا فيه بما يَكفِي، ووَصَفُوا ما يَشفِي، فما دونهم من مَقْصَر، وما فوقهم من مَحْسَر، وقد قَصَّر قوم دونهم فجَفَوا، وطَمَحَ عنهم أقوام فَغَلَوْا، وإنهم مع ذلك لَعَلَى هُدًى مستقيم. كتبت تسأل عن الإقرار بالقدر، فعلى الخبير -بإذن الله- وقعتَ، ما أعلم ما أحدث الناس من مُحدَثة، ولا ابتدعوا من بدعة، هي أبين أثرًا، ولا أثبت أمرًا، من الإقرار بالقدر، لقد كان ذكره في الجاهلية الْجُهَلاء، يتكلمون به في كلامهم، وفي شِعْرهم، يُعَزُّون به أنفسهم على ما فاتهم، ثم لم يَزِده الإسلام بعدُ إلا شِدَّةً، ولقد ذكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غير حديث ولا حديثين، وقد سمعه منه المسلمون، فتكلموا به في حياته، وبعد وفاته، يقينًا وتسليمًا لربهم، وتضعيفًا لأنفسهم أن يكون شيء لم يُحِط به علمه، ولم يُحصِه كتابه، ولم يَمضِ فيه قَدَرُه، وإنه مع ذلك لفي محكم كتابه، منه اقتبسوه، ومنه تعلموه، ولئن قلتم: لِمَ أَنزل الله آية كذا؟ لم قال كذا؟ لقد قرءوا منه ما قرأتم، وعَلِمُوا من تأويله ما جهلتم، وقالوا بعد ذلك كله بكتاب وقدر، وكُتِبت الشقاوة، وما يُقدَّر يكن، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا نملك لأنفسنا ضرا ولا نفعًا، ثم رَغِبوا بعد ذلك ورهبوا" (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح أخرجه أبو داود في "سننه" 4/ 202 - 203 رقم 4612.

وقال سهل بن عبد الله التستريّ: عليكم بالاقتداء بالأثر والسنة، فإني أخاف أنه سيأتي عن قليلٍ زمانٌ إذا ذَكَر إنسانٌ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- والاقتداء به في جميع أحواله ذَمُّوه، ونَفَرُوا عنه، وتبرءوا منه، وأَذَلّوه، وأهانوه، قال سهل: إنما ظهرت البدعة على أيدي أهل السنة؛ لأنهم ظاهروهم، وقاولوهم، فظهرت أقاويلهم، وفَشَت في العامة، فسمعه من لم يكن يسمعه (¬1)، فلو تركوهم، ولم يكلموهم لمَات كل واحد منهم على ما في صدره، ولم يَظهَر منه شيء، وحمله معه إلى قبره. وقال سهل: لا يُحدِث أحدكم بدعةً حتى يُحدث له إبليس عبادةً، فيتعبد بها، ثم يُحدث له بدعة، فإذا نطق بالبدعة، ودعا الناس إليها نُزِع منه تلك الخدمة. قال سهل: لا أعلم حديثًا جاء في المبتدعة أشدّ من هذا الحديث: "حجب الله الجنة عن صاحب البدعة" (¬2)، قال: فاليهودي والنصراني أرجى منهم. قال سهل: من أراد أن يُكرِم دينه، فلا يدخل على السلطان، ولا يَخلُوَنَّ بالنسوان، ولا يخاصمنّ أهل الأهواء. وقال أيضا: اتّبِعوا ولا تبتدعوا، فقد كُفيتم. وفي "مسند الدارمي" أن أبا موسى الأشعري جاء إلى عبد الله بن مسعود، فقال: يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد آنفًا شيئًا أنكرته، ولم أر -والحمد لله- إلا خيرًا، قال: فما هو؟ قال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قومًا حِلَقًا حِلَقًا جلوسًا ينتظرون الصلاة، وفي كل حَلْقة رجل، وفي أيديهم حصًى، فيقول لهم: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئًا انتظارَ رأيك، وانتظارَ أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يَعُدُّوا سيئاتهم، وضَمِنتَ لهم ألا يضيع من حسناتهم، ثم مَضَى ومضينا معه، حتى أتى حلقة من تلك الحِلَق، فوقف عليهم، فقال: ماهذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصًى نَعُدّ به التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فَعُدُّوا سيئاتكم، وأنا ضامن لكم ألا ¬

_ (¬1) هكذا النسخة، ولعلّ الأولى: فسمعها من لم يكن يسمعها، والله تعالى أعلم. (¬2) حديث صحيح أخرجه الطبراني في "الأوسط" بلفظ: "إن الله حجب التوبة عن كلّ صاحب بدعة حتى يَدَع بدعته".

يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، أو مُفْتَتَحِي بابِ ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا خيرًا، فقال: وكم من مريد للخير لن يصيبه. وعن عمر بن عبد العزيز، وسأله رجل عن شيء من أهل الأهواء والبدع، فقال: عليك بدين الأعراب، والغلام في الْكُتّاب، والْهَ عمّا سوى ذلك. وقال الأوزاعي: قال إبليس لأوليائه: من أيّ شيء تأتون بني آدم؟ فقالوا: من كل شيء، قال: فهل تأتونهم من قِبَل الاستغفار، قالوا: هيهات ذلك شيء قُرِن بالتوحيد، قال: لأَبُثَّنّ فيهم شيئًا لا يستغفرون الله منه، قال: فَبَثَّ فيهم الأهواء. وقال مجاهد: ولا أدري أَيُّ النعمتين علي أعظم؟: أن هداني للإسلام، أو عافاني من هذه الأهواء. وقال الشعبيّ: إنما سُمُّوا أصحاب الأهواء؛ لأنهم يَهْوُون في النار. كله عن الدارمي. وسئل سهل بن عبد الله عن الصلاة خلف المعتزلة، والنكاح منهم وتزويجهم، فقال: لا ولا كرامة، هم كُفّار كيف يؤمن مَن يقول: القرآن مخلوق، ولا جنة مخلوقة، ولا نار مخلوقة، ولا لله صراط ولا شفاعة، ولا أحد من المؤمنين يدخل النار، ولا يخرج من النار من مذنبي أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولا عذاب القبر، ولا منكر ولا نكير، ولا رؤية لربنا في الآخرة، ولا زيادة، وأن علم الله مخلوق، ولا يرون السلطان ولا جمعة، ويُكَفِّرون من يؤمن بهذا. وقال الفضيل بن عياض: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه. وقال سفيان الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يُتاب منها، والبدعة لا يتاب منها. وقال ابن عباس: النظر إلى الرجل من أهل السنة يدعو إلى السنة، ويَنهَى عن البدعة عبادةٌ. وقال أبو العالية: عليكم بالأمر الأَوَّل الذي كانوا عليه قبل أن يتفرقوا، قال عاصم الأحول: فحدثتُ به الحسن، فقال: قد نصحك والله وصدقك. وقد قال بعض العلماء العارفين في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "تفرقت بنو إسرائيل عن ثنتين وسبعين فرقة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ... " الحديث:

هذه الفرقة التي زادت في فرقة أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- هم قوم يُعادون العلماء، ويُبغضون الفقهاء، ولم يكن ذلك قط في الأمم السالفة. وقد رَوَى رافع بن خديج أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يكون في أمتي قوم يَكفُرون بالله وبالقرآن، وهم لا يشعرون، كما كفرت اليهود والنصارى"، قال: فقلت -جُعِلتُ فداك با رسول الله-: "كيف ذاك؟ قال: يُقِرُّون ببعض، ويكفرون ببعض"، قال: قلت -جُعلتُ فداك يا رسول الله-: وكيف يقولون؟ قال: "يجعلون إبليس عَدلًا لله في خلقه وقوته ورزقه، ويقولون: الخير من الله، والشر من إبليس" -قال-: "فيكفرون بالله، ثم يقرءون على ذلك كتابَ الله، فيكفرون بالقرآن بعد الإيمان والمعرفة"، قال: "فما تَلقَى منهم من العداوة والبغضاء والجدال، أولئك زنادقة هذه الأمة ... " وذكر الحديث. وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن مجالسة أهل البِدَع والأهواء، وأن من جالسهم حكمه حكمهم، فقال عز وجل: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا} الآية [الأنعام: 68]، ثم بَيّن في "سورة النساء"، وهي مدنية عقوبةَ مَن فَعَل ذلك، وخالف، ما أمر الله به فقال: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ في الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} الآية [االنساء: 140]، فألحق من جالسهم بهم، وقد ذهب إلى هذا جماعة من أئمة هذه الأمة، وحكم بموجب هذه الآيات، في مجالس أهل البِدَع على المعاشرة والمخالطة، منهم: أحمد بن حنبل، والأوزاعي، وابن المبارك، فإنهم قالوا في رجل شأنه مجالسة أهل البدع، قالوا: يُنهَى عن مجالستهم، فإن انتهى وإلا أُلحق بهم، يعنون في الحكم. وقد حمل عمر بن عبد العزيز الحدّ على مجالس شَرَبةِ الخمر، وتلا: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ}، قيل له: فإنه يقول: إني أجالسهم لأباينهم، وأرُدّ عليهم، قال: يُنهَى عن مجالستهم، فإن لم ينته أُلحق بهم. انتهى (¬1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. ¬

_ (¬1) راجع "الجامع لأحكام القرآن" 7/ 138 - 142.

[تنبيه]: من أسباب ظهور البدع: اتباعُ الهوى، وقلّةُ العلم بالأدلة الشرعية، واتباعُ الآباء والمشايخ، واتباعُ المذاهب والطائفة، وأخذ أهل السلطة بها، أو سكوتهم عنها، وكون المبتدع من ذوي الفصاحة والبيان، واحتفاء المبتدعة ببعضهم، وتعاونهم فيما بينهم (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال: 46 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ الْمَدنِيُّ أَبو عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ ابْنِ أَبِي كثيرٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "إِنَّمَا هُمَا اثْنَتَانِ: الْكَلَامُ، وَالْهَدْيُ، فَأَحْسَنُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّه، وَأَحْسَنُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، أَلا وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدِثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ شَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، أَلا لَا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمُ الأَمَدُ، فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ، أَلا إِنَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وَإِنَّمَا الْبَعِيدُ مَا لَيْسَ بِآتٍ، أَلا أَنَّمَا الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ في بَطْنِ أُمِّهِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، أَلا إِنَّ قِتَالَ الْمُؤْمِنِ كُفْرٌ، وَسِبَابهُ فُسُوقٌ، وَلَا يَحِلُّ لمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، أَلا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ لَا يَصْلُحُ بِالجدِّ، وَلَا بِالْهَزْلِ، وَلَا يَعِدُ الرَّجُلُ صَبِيَّهُ، ثُمَّ لَا يَفِي لَهُ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارَ، وَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِن الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الجنَّةِ، وَإِنَّهُ يُقَالُ لِلصَّادِقِ: صَدَقَ وَبَرَّ، وَيُقَالُ لِلْكَاذِبِ: كَذَبَ وَفَجَرَ، أَلَا وَإِنَّ الْعَبْدَ يَكْذِبُ حَتَى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا"). رجال هذا الإسناد: سبعة: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ الْمَدنِيُّ أَبو عُبَيْدٍ) المدنيّ التَّبَّان -بفتح المثنّاة، وتشديد الموحّدة- التيميّ مولاهم، يقال: مولى ابن جُدْعان، صدوقٌ يُخطئ [10]. ¬

_ (¬1) انظر تفاصيل هذه الأسباب في كتاب "حقيقة البدعة وأحكامها" تأليف سعيد بن ناصر الغامديّ 1/ 173 - 183.

رَوَى عن أبيه، وعيسى بن يونس، والداروردي، ومسكين بن بكير، ومحمد بن سلمة الْحَرّانيّ، وغيرهم. ورَوَى عنه البخاري، وابن ماجه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ومحمد بن عبد الله الحضرميّ، وأبو إسماعيل الترمذي، وغيرهم. قال أبو حاتم: شيخ. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أخطأ. وفي "الزهرة": روى عنه البخاريّ ثلاثة عشر حديثًا. انتهى. وروى عنه المصنّف في هذا الكتاب (6) أحاديث فقط برقم 45 و102 و698 و1351 و1486 و2595. 2 - (أَبوه) عُبيد بن ميمون القرشيّ التيميّ مولاهم، أبو عبّاد المدنيّ المقرىء، مولى هارون بن زيد بن المهاجر بن قُنْفُذ، مستورٌ [7]. رَوَى عن محمد بن جعفر بن أبي كثير، ومحمد بن هلال، ونافع بن أبي نعيم القاريء، ورَوَى عنه ابنه محمد، وإبراهيم بن محمد بن إسحاق المدني، قال أبو حاتم: مجهول. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يروي المقاطيع، قال: مات سنة أربع ومائتين. تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم 45 و 1351. 3 - (مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ) الأنصاريّ الزُّرَقيّ مولاهم المدنيّ، أخو إسماعيل، وهو الأكبر، ثقة [7]. روى عن زيد بن أسلم، وحميد الطويل، وإبراهيم، وموسى ابني عقبة، وهشام ابن عروة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعمرو بن أبي عمرو، وجماعة. وروى عنه عبد الله بن نافع الصائغ، وزياد بن يونس، وسعيد بن أبي مريم، وعبد العزيز بن عبد الله الأويسي، وعبيد بن ميمون، وجماعة. قال الدوري عن ابن معين: ثقة. وقال ابن المديني: معروف. وقال النسائي: صالح، وقال أيضًا: مستقيم الحديث. وقال العجلي: مدني ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم 45 و1351.

4 - (مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش -بتحتانيّة ومعجمة- الأسديّ مولى آل الزبير، ويقال: مولى أم خالد بنمت سعيد بن العاص، زوج الزبير، ثقة فقيه، إمام في المغازي [5]. أدرك ابن عمر وغيره، ورَوَى عن أم خالد، ولها صحبة، وجدّه لأمه أبي حَبِيبة مولى الزبير، وحمزة وسالم ابني عبد الله بن عمر، وسالم أبي الغيث، والأعرج، ونافع بن جبير بن مُطعم، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، ونافع مولى ابن عمر، وكريب، وعكرمة، وغيرهم. ورَوى عنه ابن أخيه إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، وبكير بن الأشجّ، وهو من أقرانه، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، ومالك، ومحمد وإسماعيل ابنا جعفر، ووهيب بن خالد، والسفيانان، وسليمان بن بلال، وابن جريج، والداروردي، وجماعة. قال ابن سعد: كان ثقة ثبتا كثير الحديث. وقال في موضع آخر: كان ثقة قليل الحديث. وقال إبراهيم بن المنذر عن مَعْن بن عيسى: كان مالك يقول: عليكم بمغازي موسى بن عقبة، فإنه ثقة. وفي رواية أخرى عنه: عليكم بمغازي الرجل الصالح، موسى بن عقبة، فإنها أصح المغازي. وفي رواية: فإنه رجل ثقة، طلبها على كِبَر السن، ولم يُكَثِّر كما كَثَّر غيره. وفي رواية: من كان في كتاب موسى قد شَهِد بدرًا فقد شهدها، ومن لم يكن فيه فلم يشهدها. وقال إبراهيم بن المنذر أيضًا عن محمد بن طلحة بن الطويل قال: ولم يكن بالمدينة أعلم بالمغازي منه، قال: كان شُرَحبيل أبو سَعْد عالما بالمغازي، فاتهموه أنه يُدخِل فيهم من لم يَشهَد بدرًا، وفيمن قُتل يوم أحد من لم يكن منهم، وكان قد احتاج فسقط عند الناس، فسَمِع بذلك موسى بن عقبة، فقال: وإن الناس قد اجترؤوا على هذا، فَدَبّ على كِبَر السنّ، وقَيَّد من شهد بدرًا، وأُحُدًا، ومن هاجر إلى الحبشة والمدينة، وكَتَب ذلك. وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: كان ابن معين يقول: كتاب موسى بن عقبة عن الزهري من أصح هذه الكتب. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة، وكذا قال الدُّوري

وغير واحد عن ابن معين. وكذا قال العجلي والنسائي. وقال المفضل الغَلّابي عن ابن معين: ثقة، كانوا يقولون في روايته عن نافع شيء. قال: وسمعت ابن معين يضعفه بعض شيء. وقال إبراهيم بن الجنيد عن ابن معين: ليس موسى بن عقبة في نافع مثل مالك، وعبيد الله بن عمر. وقال الواقدي: كان لإبراهيم وموسى ومحمد بني عقبة حلقة في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانوا كلهم فقهاء ومحدثين، وكان موسى يُفتي. وقال مصعب الزبيري: كان لهم هيئة وعلم. وقال الدوري عن ابن معين: أقدمهم محمد، ثم إبراهيم، ثم موسى، وكان موسى أكثرهم حديثًا. وقال أبو حاتم: ثقة صالح. وروى ابن أبي خيثمة عن موسى أنه قال: لم أُدرك أحدا يقول قال النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أم خالد. قال: وقال مَخْلَد بن الحسين: سمعت موسى بن عقبة، وقيل له: رأيت أحدًا من الصحابة؟ قال: حججت وابن عمر بمكة، عام حج نَجْدَة الْحَرُوريّ، ورأيت سهل بن سعد متخطيًا عليّ، فتوكأ على المنبر فسارّ الإمامَ بشيء. وقال إبراهيم بن طهمان: ثنا موسى بن عقبة، وكان من الثقات. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة إحدى، وقيل: سنة خمس. وقال عمرو ابن عليّ عن يحيى القطان: مات قبل أن نَدْخُل المدينة بسنة، سنةَ إحدى وأربعين ومائة، وفيها أرخه جماعة. وقال نوح بن حبيب: مات سنة اثنتين. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا. 5 - (أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله بن عبيد ويقال: علي، ويقال: ابن أبي شَعِيرة الْهَمْدانيّ السَّبِيعيّ -بفتح المهملة، وكسر الموحّدة- والسَّبِيع من هَمْدَان، ثقة عابدٌ مكثرٌ، اختلط بآخره، ويدلّس [3]. وُلِد لسنتين من خلافة عثمان، قاله شريك عنه. رَوَى عن علي بن أبي طالب، والمغيرة بن شعبة، وقد رآهما، وقيل: لم يسمع منهما، وعن سليمان بن صُرَد، وزيد بن أرقم، والبراء ابن عازب، وجابر بن سَمُرة، وحارثة بن وهب الْخُزاعيّ، وحُبَيش بن جُنَادة، وذي الْجَوْشن، وعبد الله بن يزيد الْخَطْمي، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابنه يونس، وابن ابنه إسرائيل بن يونس، وابن ابنه الآخر يوسف بن إسحاق، وقتادة، وسليمان التيمي، وإسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، وفِطْر بن خليفه، وجرير بن حازم، ومحمد بن عجلان، وشعبة، ومسعر، والثوري، وهو أثبت الناس فيه، وزهير بن معاوية، وزائدة بن قُدامة، وزكرياء بن أبي زائدة، وجماعة. قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: أيما أحب إليك أبو إسحاق أو السُّدّي؟ فقال: أبو إسحاق ثقة، ولكن هؤلاء الذين حملوا عنه بأَخَرة. وقال ابن معين والنسائي: ثقة. وقال ابن المديني: أحصينا مشيخته نحوا من ثلاثمائة شيخ، وقال مرة: أربعمائة. وقد روى عن سبعين أو ثمانين لم يرو عنهم غيره. وقال العجليّ: كوفي تابعيّ ثقة، والشعبي أكبر منه بسنتين، ولم يسمع أبو إسحاق من علقمة، ولم يسمع من حارث الأعور إلا أربعة أحاديث، والباقي كتاب. وقال أبو حاتم: ثقة، وهو أحفظ من أبي إسحاق الشيباني، وشِبْهُ الزهريِّ في كثرة الرواية، واتساعه في الرجال. وقال له رجل: إن شعبة يقول: إنك لم تسمع من علقمة، قال: صدق. وقال أبو داود الطيالسيّ: قال رجل لشعبة: سمع أبو إسحاق من مجاهد؟ قال: ما كان يصنع بمجاهد؟ كان هو أحسن حديثا من مجاهد، ومن الحسن، وابن سيرين. وعن الأعمش قال: كان أصحاب عبد الله إذا رأوا أبا إسحاق قالوا: هذا عمرو القارىء. وقال له عون بن عبد الله: ما بَقِي منك؟ قال: أصلي البقرة في ركعة، قال ذهب شَرُّك، وبقي خيرك. وعن أبي بكر بن عياش قال: قال أبو إسحاق: ذهبت الصلاة مني، وضَعُفتُ، فما أُصلِّي إلا بالبقرة وآل عمران. وقال العلاء بن سالم: كان الأعمش يتعجب من حفظ أبي إسحاق لرجاله الذين يروي عنهم. وقال حفص بن غياث عن الأعمش: كنت إذا خَلَوتُ بأبي إسحاق جئنا بحديث عبد الله غَضًّا. وقال ابن حبان في "كتاب الثقات": كان أبو إسحاق مُدَلِّسًا. وكذا ذكره في المدلسين حسين الكرابيسي، وأبو جعفر الطبري. وقال ابن المديني في "العلل": قال شعبة: سمعت أبا إسحاق يُحدِّث عن الحارث بن الأَزْمع بحديث، فقلت له: سمعت منه؟ فقال: حدثني

به مجُالد عن الشعبي عنه. قال شعبة: وكان أبو إسحاق إذا أخبرني عن رجل قلت، له: هذا أكبر منك؟ فإن قال: نعم علمت أنه لَقِي، وإن قال: أنا أكبر منه تركته. وقال أبو إسحاق الجوزجاني: كان قوم من أهل الكوفة لا تُحمَد مذاهبهم -يعني التشيع- هم رؤوس محدثي الكوفة، مثل أبي إسحاق، والأعمش، ومنصور، وزُبيد، وغيرهم من أقرانه، احتملهم الناس على صدق ألسنتهم في الحديث، ووُقِّفُوا عندما أرسلوا لمّا خافوا أن لا تكون مخارجها صحيحة، فأما أبو إسحاق فروى عن قوم لا يُعرَفون، ولم ينتشر عنهم عند أهل العلم إلا ما حَكَى أبو إسحاق عنهم، فإذا رَوَى تلك الأشياء عنهم كان التوقيف في ذلك عندي الصواب. وحدثنا إسحاق، ثنا جرير، عن مَعْن قال: أفسد حديث أهل الكوفة الأعمش وأبو إسحاق -يعني للتدليس-. قال يحيى بن معين: سمع منه ابن عيينة بعدما تغير. قال الحافظ: ووجدت في "التاريخ المظفري" أن يوسف بن عمر لمّا وَلِي الكوفة، أخرج بنو أبي إسحاق أبا إسحاق على بِرْذَون ليأخذ صِلَةَ يوسف، فأُخِذَت، وهو راكب، فرجعوا به، ومات يوم دخول الضحاك الخارجي الكوفة. وقال ابن حبّان في "الثقات": وُلد أبو إسحاق، سنة (29)، ويقال: سنة (32). وقال أبو بكر بن عياش: مات أبو إسحاق، وهو ابن مائة سنة أو نحوها. وقال الحميدي عن سفيان: مات سنة ست وعشرين ومائة. وقال أحمد عن يحيى ابن سعيد: مات سنة سبع، وكذا قال غير واحد. وقال أبو نعيم: مات سنة (8). وقال عمرو بن علي: مات سنة (29). وقال أبو بكر بن أبي شيبة: مات وهو ابن (96). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (106) أحاديث. 6 - (أَبُو الْأَحْوَصِ) عوف بن مالك بن نَضْلَة -بفتح النون، وسكون الضاد المعجمة- الْجُشَميّ -بضم الجيم، وفتح المعجمة- من بني جُشم بن معاوية بن بَكْر بن هَوَازن، الكوفيّ، مشهورٌ بكنيته، ثقة [3]. رَوَى عن أبيه، وله صحبةٌ، وعن علي، وقيل: إنه لم يسمع منه، وابن مسعود،

وأبي مسعود الأنصاري، وأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة، وعروة بن المغيرة بن شعبة، ومسروق بن الأجدع، ومسلم بن يزيد، وغيرهم. ورَوَى عنه بن أخيه أبو الزَّعْرَاء الجُشَميّ، وأبو إسحاق السبيعي، ومالك بن الحارث السُّلَميّ، وعبد الله بن مُرّة، وغيرهم. قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: قتلته الخوارج أيام الحجاج بن يوسف. وقال ابن سعد: روى عن حُذيفة، وزيد ابن صُوحان، قال: وكان ثقة، له أحاديث. أنا عفان، أنا حماد بن زيد، أنا عاصم قال: كنا نأتي أبا عبد الرحمن السُّلَميَّ، فكان يقول لنا: لا تجالسوا الْقُصّاص غير أبي الأحوص. وقال النسائي في "الكنى": كوفي ثقة. أخبرنا أحمد بن سليمان، ثنا يحيى بن آدم، ثنا أبو بكر بن عياش، سمعت أبا إسحاق يقول: خرج أبو الأحوص إلى الخوارج، فقاتلهم فقتلوه. وذكر الخطيب في "تاريخه" أنه شهد مع علي قتال الخوارج بالنَّهْروان. قال الحافظ: فإن ثبت ذلك فلا يُدفَع سماعه منه، انتهى (¬1). أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا. 7 - (عَبْدُ اللَّه بْنُ مَسْعُودٍ) الصحابي الشهير -رضي الله عنه- تقدّم في 2/ 19، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ مَسْعُودٍ) -رضي الله عنه- (أَنَّ رَسُولَ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "إِنَّمَا هُمَا اثْنَتَانِ) قال العلامة السنديّ رحمه الله تعالى: ضمير "هما" مبهمٌ مفسَّر بالكلام والهدي: أي إنما الكتاب والسنة اللذان وقع التكليف بهما اثنتان، لا ثالث معهما حتى يَثقُل عليكم الأمر، ويتفرّقَ، وفائدةُ الإخبار نفي أن يكون معهما ثالثٌ لما ذكرنا. ويحتمل أن يكون المقصود النهي عن ضمّ المحدثات إليهما، كأنه قيل: المقصود بقاؤهما اثنتين ويحتمل أن يكون ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" 3/ 337.

ضمير "هما" لما وقع به التكليف مع قطع النظر عن العدد، وإنما ثُنّي نظرًا إلى كون ذلك في الواقع اثنتين، فحصلت الفائدة في الإخبار باسم العدد، وهذا مثل ما قالوا في قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} الآية [النساء: 176]. ويحتمل أن يقال: "اثنتان" تمهيد لما هو الخبر، والخبر في الواقع ما هو المبدل من "اثنتان"، وهما الكلام والهدي، وعلى الوجوه تأنيث "اثنتان" نظرًا إلى أنهما حُجّتان. انتهى كلام السنديّ (¬1). (الْكَلَامُ) بالرفع على البدليّة، أو على خبر لمحذف: أي أحدهما الكلام والهدي، ويحتمل النصب على أنه مفعول لفعل مقدّر: أي أعني الكلامَ وَالْهَدْيَ. (فَأَحْسَنُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ) الفاء فصيحيّة: أي إذا عرفت أن الأمر لا يتعديّ اثنتين، وأردت تفصيلهما فأقول لك: أحسن الكلام كلام الله سبحانه وتعالى، وهو معنى قوله عز وجل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} الآية [الزمر: 23] (وَأَحْسَنُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ) -صلى الله عليه وسلم-، وقد سبق قريبًا أن "الهدي" ضُبط بوجهين: بفتح، فسكون آخره ياء، أو بضم، ففتح مقصورًا، و (أَلا) أداة استفتاح، وتنبيه على تأكيد مضمون الكلام عند المتكلّم (¬2) (وَإِيَّاكُم وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ) من إضافة الصفة إلى الموصوف: أي الأمور المحدثة (فَإِنَّ) الفاء للتعليل: أي لأن (شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا) هو بتقدير "من" التبعيضيّة: أي إنها من شرّ الأمور، وإلا فإن بعض الأمور مثلُ الشرك شرّ من كثير من المحدثات (وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) تقدم شرح هاتين الجملتين (أَلا لا) ناهية (يَطُولَنَّ عَلَيْكُمُ الْأَمَدُ) أي الأجل، أي لا يُلقِيَنَّ الشيطان في قلوبكم طول البقاء، فتقسو قلوبكم. وفي بعض النسخ "الأمل"، وطوله تابع لطول الأجل، وفي طولهما، ونسيان الموت تأثير يتبع في قسوة القلوب. وقوله: (فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ) بالنصب على أنه جواب النهي، كما قال في "الخلاصة": ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 34 - 35. (¬2) انظر "حاشية الخضري على شرح ابن عقيل" في باب "إن" 1/ 191.

وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْي أَوْ طَلَبْ ... مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ (أَلَا إِنَّ مَا) بكسر همزة "إنّ"؛ لوقوعها بعد "ألا" الاستفتاحيّة التي تدخل على الجملة المستأنفة، كما قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13]، و"ما" موصولة مبتدأٌ: أي إن الذي (هُوَ آتٍ قَرِيبٌ) هذا فيه تعليم، وإرشاد لما ينتفع به طويل الأمد (وَإِنَّمَا الْبَعِيدُ مَا لَيْسَ بِآتٍ) أي إن الأمر الذي لا يأتي هو البعيد (أَلا إِنَّمَا الشَّقِيُّ) -بفتح، فكسر- فعيلٌ بمعنى فاعل، من شَقي يَشقَى من باب رَضِي شَقَا بالفتح: ضدّ سَعِدَ، والاسم الشِّقْوة بالكسر، والشَّقَاوة بالفتح (مَنْ شَقِيَ في بَطْنِ أُمِّهِ) أي من كُتب عليه أنه شقيّ حينما كان حملًا في بطن أمه، يعني أن الشقيّ الكامل هو شقيّ الآخرة، وهو من كُتب عليه الشقاء، قبل أن يولد، وأما الشقاء الدنْيويّ فأمره هيّنٌ، وهو بمعنى حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- الآخر المتّفق عليه الآتي للمصنّف برقم (76) قال: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو الصادق المصدوق قال: "إن أحدكم يُجمَع في بطن أمه أربعين يومًا، ثم علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكًا فيُؤمَر بأربع: برزقه، وأجله، وشقي أو سعيد ... " الحديث. وسيأتي تمام البحث فيه في محلّه -إن شاء الله تعالى-. وقال السنديّ رحمه الله: قوله: "ألا إنما الشقيّ الخ" أي فعليكم بالتفكّر في ذلك، والبكاء له، وكيف القسوة والضحك مع سبق التقدير في النهاية. والمعنى أن ما قدّر الله تعالى عليه في أصل خلقته أن يكون شقيّا فهو الشقيّ في الحقيقة، لا من عَرَضَ له الشقاء بعد ذلك، وهو إشارة على شقاء الآخرة، لا شقاء الدنيا. انتهى (¬1). (وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ) ببناء الفعل للمفعول: أي من وفّقه الله تعالى للاتّعاظ فرأى ما جرى على غيره بسبب المعاصي من العقاب، فتركه خوفًا من أن يناله مثل ما نال غيره. (أَلَا إِنَّ قِتَالَ الْمُؤْمِنِ كُفْرٌ) قيل: أطلق عليه الكفر مبالغة في التحذير، معتمِدًا على ما تقرّر من القواعد أن مثل ذلك لا يُخرج عن الملَّة، مثل حديث الشفاعة، ومثل قوله ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 35.

تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية [النساء: 48]، وقيل: أطلق عليه الكفر؛ لشبهه به؛ لأن قتال المؤمن من شأن الكافر. وقيل: المراد الكفر اللغويّ، وهو التغطية؛ لأن حقّ المسلم على المسلم أن يُعينه وينصره، ويكفّ عنه أذاه، فلما قاتله كان كأنه غطّى على هذا الحقّ. وسيأتي تمام البحث فيه عند شرح حديث رقم (68) -إن شاء الله تعالى-. (وَسِبَابُه فُسُوقٌ) يحتمل أن يكون بنصب "سبابه" عطفًا على اسم "إن"، وفسوق عطف على خبرها، ورفع الأول أيضًا عطفا على محلّ اسم "إن"، ويحتمل أن يكون مبتدأ وخبرًا، وإلى ما ذُكر أشار في "الخلاصة" بقوله: وَجَائِزٌ رَفْعُكَ مَعْطُوفًا عَلَى ... مَنْصُوبِ "إنَّ" بَعْدَ أَنْ تَسْتكْمِلَا و"السباب" -بكسر السين المهملة، وتخفيف الموحّدة-: وهو السبّ، وقيل: السباب أشدّ من السبّ، إذ هو أن يقول في الرجل ما فيه، وما ليس فيه، يريد بذلك عيبه. و"الفسوق" -بالضمّ- في اللغة الخروج، وفي الشرع الخروج عن طاعة الله عز وجل ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهو في عرف الشرع أشدّ من العصيان، قال الله عز وجل: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} الآية [الحجرات: 7]. (وَلَا يَحِلُّ) بكسر الحاء المهملة، من باب ضرب (لمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ) بضم الجيم، من باب نصر (أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ): أي فوق ثلاث ليال، وظاهره إباحة ذلك في الثلاث، وهو من الرفق؛ لأن الآدميّ في طبعه الغضب، وسوء الخلق، ونحو ذلك، والغالب أن يزول، أو يَقِلَّ في الثلاث. قال النووي: قال العلماء: تحرم الهجرة بين المسلمين أكثر من ثلاث ليال بالنص، وتُباح في الثلاث بالمفهوم، وإنما عُفِي عنه في ذلك؛ لأن الآدمي مجبول على الغضب، فسومح بذلك القدر؛ ليرجع ويزول ذلك العارض. وقال أبو العباس القرطبي: المعتبر ثلاث ليال، حتى لو بدأ بالهجرة في أثناء النهار

أُلغي البعض، وتُعتبر ليلة ذلك اليوم، وينقضي العفو بانقضاء الليلة الثالثة. قال الحافظ: وفي الجزم باعتبار الليالي دون الأيام جمود، فقد أخرج البخاريّ من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- بلفظ: "ولا يحلُ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام"، فالمعتمد أن المرخص فيه ثلاثة أيام بلياليها، فحيث أُطلقت الليالي أريد بأيامها، وحيث أطلقت الأيام أريد بلياليها، ويكون الاعتبار مُضِيُّ ثلاثة أيام بلياليها، مُلَفّقةً إذا ابتدئت مثلًا من الظهر يوم السبت كان آخرها الظهر يوم الثلاثاء. ويَحتَمِل أن يُلغَى الكسرُ، ويكون أول العدد من ابتداء اليوم أو الليلة، والأول أحوط. (أَلَا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ) -بفتح الكاف، وكسر الذال المعجمة، مصدر كَذَبَ يكذِبُ من باب ضرب، ويجوز التخفيف بكسر الكاف، وسكون الذال (¬1)، وهو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو، سواء فيه العمدُ والخطأُ، ولا واسطة بين الصدق والكَذِب على مذهب أهل السنّة، والإثم يَتْبَع العمد. قاله الفيّوميّ. (فَإِنَّ الْكَذِبَ) الفاء للتعليل: أي لأن الكذب (لَا يَصْلُحُ) بضم اللام، من بابي نصر وكرُم، ويجوز فتحها، من باب فتح: أي لا يحلّ، أو لا يوافق شأن المؤمن (بِالْجِدِّ) أي بطريق الجدّ وهو -بكسر الجيم- اسم من جَدَّ في كلامه جَدّا بالفتح، من باب ضَرَب: ضدّ هَزَلَ (¬2) (وَلَا بِالْهَزْلِ) بفتح، فسكون، مصدر هزل في كلامه، من باب ¬

_ (¬1) قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا اقتصر في "المصباح" على هذا الوجه، والصواب أنه يجوز تخفيفه أيضًا بسكون الذال مع فتح الكاف؛ لأن القاعدة أن كلّ جاء على وزن فَعِل بفتح، فكسر يجوز فيه ثلاثة أوجه: فَعلٌ بفتح، فسكون، وهو الأصل، وفَعْل بفتح فسكون العين للتخفيف، وفِعْلٌ بكسر الفاء بنقل حركة العين إليها، وهذا فيما إذا لم يكن الوسط حرف حلق، وإلا زاد رابعًا، وهو إتباع الفاء لحركة العين، وذلك كفخذ، وليست هذه القاعدة خاصّة بالاسم، بل الفعل كذلك، كشهد، وعَلِم. راجع شروح "شافية ابن الحاجب" في مبحث الأوزان. والله تعالى أعلم. (¬2) راجع "المصباح" 1/ 92.

ضرب: إذا مَزَحَ، يعني أن الكذب لا يجوز في حال الجدّ ولا في حال الهزل، إلا فيما استثناه الشارع، وسيأتي بيانها في المسألة الخامسة -إن شاء الله تعالى-. (وَلَا يَعِدُ) بكسر العين المهملة مضارع وَعَدَ، ثم يحتمل أن تكون "لا" نافيةً، والفعل بعدها مرفوع، والمراد من النفي النهي، ويحتمل أن تكون ناهيةً، والفعل بعدها مجزم كُسِر للالتقاء الساكنين، وقوله: (الرَّجُلُ) مرفوع على الفاعليّة، وقوله: (صَبِيَّهُ) -أي ولده الصغير- منصوب على المفعولية. وقوله: (ثُمَّ لَا يَفِي لَهُ) مرفوعٌ عطفًا على "لا يَعِدُ"، أو على الاستئناف، ويحتمل نصبه إجراء لـ"ثُمَّ" مجُرى الواو كما هو مذهب الكوفيين، فهو منصوب بـ "أن" مضمرة وجوبًا بعد العاطف الواقع في جواب النفي المحض، كما قال في "الخلاصة": وَبَعْدَ "فَا" جَوَابِ نَفْي أَوْ طَلَبْ ... مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ والمعنى أنه لا يجوز للرجل أن يَعِدَ الصغيرَ بأن يفعل له شيئًا، ثم لا يفي له بذلك، كأن تقول الأمّ، أو الأب لولدهما الصغير إذا بكا: سأذهب الآن إلى السوق، وأشتري لك الحلواء، ولا يفي بذلك، هذا هو المفهوم من الحديث. (وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي) بفتح أوله، من الهداية، وهي الدلالة الموصلة إلى المطلوب (إِلَى الْفُجُورِ) بالضمّ مصدر فَجَر يفجُر من باب قعد، يقال: فجر العبد فُجُورًا: إذا فسق، وزنى، وفَجَر الحالف فُجوارًا: إذا كذب. قاله الفيّوميّ (¬1). وقال الراغب الأصفهانيّ: أصل الفجر: الشقّ، فالفجور شَقُّ سَتْر الديانة، ويُطلق على الميل إلى الفساد، وعلى الانبعاث في المعاصي، وهو اسم جامع للشرّ. انتهى بتصرّف (¬2). وقال السنديّ: قيل: لعلّ الكذب بخاصيّته يُفضي بالإنسان إلى القبائح، ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" 2/ 462. (¬2) "مفردات ألفاظ القرآن" ص 626.

والصدق بخلافه. ويحتمل أن يكون المراد بالفجور هو نفس ذلك الكذب، وكذلك البرّ نفس ذلك الصدق، والهداية إليه باعتبار الغايرة الاعتباريّة في المفهوم والعنوان، كما يقال: العلم يؤدّي إلى الكمال، وإليه يشير آخر الحديث. انتهى (¬1) (وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ) أي يوصل إليها، ومصداق هذا في كتاب الله تعالى قوله عز وجل: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14]. (وَإِنَّ الصِّدْقَ) -بكسر، فسكون-: خلاف الكذب. قال الراغب الأصفهانيّ: الصدق والكذب أصلهما في القول، ماضيا كان أو مستقبلًا، وعدًا كان أو غيره، ولا يكونان بالقصد الأول إلا في القول، ولا يكونان في القول إلا في الخبر دون غيره من أصناف الكلام، وقد يكونان بالْعَرَض في غيره من أنواع الكلام، كالاستفهام، والأمر، والدعاء، وذلك نحو قول القائل: أزيد في الدار؟ فإن في ضمنه إخبارًا بكونه جاهلًا بحال زيد، وكذا إذا قال: واسني في ضمنه أنه محتاج إلى المواساة، وإذا قال: لا تؤذني ففي ضمنه أنه يؤذيه. والصدق: مطابقة القول الضميرَ والمُخْبَرَ عنه معًا، ومتى انخرم شرط من ذلك لم يكن صدقًا، بل إما أن لا يوصف بالصدق، وإما أن يوصف تارة بالصدق، وتارة بالكذب على نظرين مختلفين، كقول الكافر: من غير اعتقاد: محمد رسول الله، فإن هذا يصحّ أن يقال: صدقٌ لكون المُخْبَر عنه كذلك، ويصحّ أن يقال: كَذِبٌ لمخالفة قوله ضميره، وبالوجه الثاني إكذابُ الله تعالى المنافقين حيث قالوا: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} الآية [المنافقون: 1]. والصِّديق من كَثُر منه الصدق. وقيل: بل يقال لمن لا يكذب قطّ لتعوّده الصدق. وقيل: لمن لا يتأتّى منه الكذب لتعوّده الصدق. وقيل: بل لمن صَدَقَ بقوله واعتقاده، وحَقَّقَ صدقه بفعله. ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 36.

وقد يستعمل الصدق والكذب في كل ما يَحِقُّ ويَحْصُل في الاعتقاد، نحو صَدَقَ ظَنِّي، ويُستعملان في أفعال الجوارج، فيقال: صَدَقَ في القتال إذا وفّى حقّه، وفعلَ ما يجب كما يجبُ، وكَذَبَ في القتال إذا كان بخلاف ذلك، قال الله عز وجل: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} الآية [الأحزاب: 23]: أي حقّقوا العهد بما أظهروه من أفعالهم، وقال عز وجل: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} الآية [الأحزاب: 8]: أي يسأل من صدق بلسانه عن صدق فعله تنبيهًا أنه لا يكفي الاعتراف بالحقّ دون تحرّيه بالفعل، وقال عز وجل: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} الآية [الفتح: 27]: فهذا صدق بالفعل، وهو التحقيق: أي حقَّقَ رؤيته، وعلى ذلك قوله عز وجل: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33]: أي حقّق ما أورده قولًا بما تحرّاه فعلًا. ويُعبّر عن كلّ فعل فاضل ظاهرًا وباطنًا بالصدق، فيُضاف إليه ذلك الفعل الذي يوصف به، نحو قوله عز وجل: {في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55]، وعلى هذا قوله عز وجل: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} الآية [يونس: 2]، وقوله عز وجل: {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} الآية [الإسراء: 80]، وقوله عز وجل: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ في الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84]، فإن ذلك سؤال أن يجعله الله تعالى صالحًا، بحيث إذا أثنى عليه مَنْ بَعدَهُ لم يكن ذلك الثناء كذبًا، بل يكون كما قال الشاعر [من الطويل]: إِذَا نَحْنُ أثنَيْنَا عَلَيْكَ بِصَالِح ... فَأَنْتَ الَّذِي نُثْنِي وَفَوْقَ الَّذِي نُثْنِي انتهى المقصود من كلام الراغب (¬1). (يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ) -بكسر الموحّدة-: أصله التوسّع في فعل الخير، وهو اسم جامعٌ للخيرات كلّها، ويُطلق على العمل الخالص الدائم (¬2). وقيل: هو العمل الصالح ¬

_ (¬1) "مفردات ألفاظ القرآن" ص 478 - 479. (¬2) "فتح" 10/ 524.

الخالص من كلّ مذموم. قال ابن العربيّ: إذا تحرّى الصدق لم يَعص الله، لأنه إن أراد أن يفعل شيئًا من المعاصي خاف أن يقال: أفعلت كذا؟، فإن سكت لم يَأمن الريبة، وإن قال: لا كَذَب، وإن قال: نعم فسق، وسقطت منزلته، وانتُهكت حرمته. انتهى (¬1). (وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ) مصداقه في كتاب الله تعالى قوله عز وجل: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13] (وَإِنَّهُ) الضمير للشأن، أي إن الشأن والحال (يُقَالُ لِلصَّادِقِ: صَدَقَ وَبَرَّ) أي إذا كان صدق العبد في قوله، وفعله، وُصف بالصدق والبِرّ الذين هما من أشرف الخصال، وأكمل الخِلال، ونعم الوصف وصفه (وَيُقَالُ لِلْكَاذِبِ: كَذَبَ وَفَجَرَ) أي إنه يوصف بما هو من أسوء الأحوال، وأقبح الفعال، وهما الكذب والفجور، وبئس الوصف وصفه (أَلا وَإِنَّ الْعَبْدَ يَكْذِبُ) وفي رواية الشيخين: "وإن الرجل ليكذب"، وفي رواية مسلم: "وما يزال الرجل يكذب، ويتحرّى الكذب". والمراد أنه يتكرّر منه الكذب حتى يستحقّ اسم المبالغة في الكذب، وكذا يقال في الصدق. (حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا) زاد في رواية "الصحيح" قبل جملة الكذب: "وإن الرجل ليصدُق، ويتحرّى الصدق، حتى يُكتب عند الله صِدِّيقا". قال القرطبيّ: معنى "يتحرّى الصدق" يقصد إليه، ويتوخّاه، ويجتنب نقيضه الذي هو الكذب حتى يكون الصدق غالب حاله، فيكتب من جملة الصدِّيقين، ويُثبتُ في ديوانهم، وكذلك القول في الكذب، وأصل الكتب: الضمّ والجمع، ومنه كَتَبْتُ البغلةَ إذا جمعت بين شفريها (¬2) بحلقة. انتهى (¬3). وقال في "الفتح": المراد بالكتابة الحكم عليه بذلك، وإظهاره للمخلوقين من الملأ الأعلى، وإلقاء ذلك في قلوب أهل الأرض، وقد ذكره مالك بلاغًا عن ابن ¬

_ (¬1) راجع "شرح السنديّ" على ابن ماجه 1/ 36. (¬2) أي جانب فرجها، وهو بالضمّ جمعه أشفار، كقُفْل وأقفال. (¬3) "المفهم" 6/ 592.

مسعود -رضي الله عنه-، وزاد فيه زيادة مفيدة، ولفظه: "لا يزال العبد يَكذِب، ويتحرى الكذب، فيُنْكَتُ في قلبه نُكْتَةٌ سوداءُ، حتى يَسْوَدَّ قلبه، فيكتب عند الله من الكاذبين". قال النووي: قال العلماء: في هذا الحديث حَثّ على تحري الصدق، وهو قصدُهُ، والاعتناءُ به، وعلى التحذير من الكذب، والتساهل فيه، فإنه إذا تساهل فيه كَثُرَ منه، فَيُعرَف به. قال الحافظ: والتقييد بالتحري وقع في رواية أبي الأحوص، عن منصور عند مسلم، ولفظه: "وإن العبد لَيَتَحَرَّى الصدق"، وكذا قال في الكذب، وعنده أيضا في رواية الأعمش، عن شقيق، وهو أبو وائل، وأوله عنده: "عليكم بالصدق"، وفيه: "وما يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق"، وقال فيه: "ما يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب ... "، فذكره. قال: وفي هذه الزيادة إشارة إلى أن من تَوَقَّى الكذب بالقصد الصحيح إلى الصدق، صار له الصدق سَجِيّةً حتى يَستحقَّ الوصف به، وكذلك عكسه، وليس المراد أن الحمد والذمّ فيهما يختص بمن يقصد إليهما فقط، وإن كان الصادق في الأصل ممدوحًا، والكاذب مذمومًا. ثم قال النووي: واعلَم أن الموجود في نسخ البخاري ومسلم في بلادنا وغيرها، أنه ليس في متن الحديث إلا ما ذكرناه، قاله القاضي عياض، وكذا نقله الحميدي، ونقل أبو مسعود عن كتاب مسلم في حديث ابن المثنى وابن بشار زيادة، وهي: إن شر الرَّوَايا رَوَايا الكذب؛ لأن الكذب لا يصلح منه جِدّ ولا هزل، ولا يَعِدُ الرجل صبيه، ثم يُخلِفه". فذكر أبو مسعود أن مسلما رَوَى هذه الزيادة في كتابه، وذكرها أيضا أبو بكر الْبَرْقاني في هذا الحديث، قال الحميدي: وليست عندنا في كتاب مسلم. والرَّوَايا جمع رَوِيّة بالتشديد، وهو ما يَتَرَوَّى فيه الإنسان قبل قوله أو فعله، وقيل: هو جمع رَاوية أي للكذب، والهاء للمبالغة (¬1). ¬

_ (¬1) وقال القرطبيّ: الروايا: جمع راوية -يعني به حامل الكذب، وراويَهُ، والهاء فيه =

قال الحافظ: لم أر شيئًا من هذا في "الأطراف" لأبي مسعود، ولا في "الجمع بين الصحيحين" للحميدي، فلعلهما ذكراه في غير هذين الكتابين. انتهى (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- هذا بهذا الإسناد ضعيف، قال الحافظ البوصيريّ رحمه الله تعالى: هذا إسناد ضعيفٌ، عُبيد بن ميمون أبو عبّاد قال فيه أبو حاتم: مجهول انتهى. وقد سبق هذا في ترجمته، لكن الحديث صحيح من رواية شعبة ومعمر، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- بغير هذا اللفظ، فقد أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، فقال: 3701 - حدثنا عفان، حدثنا شعبة، قال: أبو إسحاق أخبرنا، عن أبي الأحوص، قال: كان عبد الله يقول: "إن الكذب لا يصلح منه جِدٌّ ولا هزل، وقال عفان مرةً: "جِدٌّ، ولا يَعِدُ الرجل صبيا، ثم لا ينجز له، قال: "وإن محمدا قال لنا: "لا يزال الرجل يصدق حتى يكتب عند الله صديقا، ولا يزال الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذابًا". وهذا إسناد صحيح، لكن جعل أوله موقوفًا. وأخرجه الدارميّ في "مسنده" من طريق إدريس الأوديّ، فرفعه كله، ولفظه: 2599 - أخبرنا عثمان بن محمد، حدثنا جرير، عن إدريس الأوديّ، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، أن عبد الله يرفع الحديث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن شر الرَّوَايا ¬

_ = للمبالغة، كعلّامة، ونسّابة، أو يكون استعارةً، شبّه حامل الكتاب لحمله إياه بالراوية الحاملة للماء. انتهى "المفهم" 6/ 593. (¬1) "فتح" 10/ 524 - 525.

رَوَايا الكذب، ولا يصلح من الكذب جِدّ ولا هزل، ولا يَعِدُ الرجل ابنه ثم لا ينجز له، إن الصدق يَهدِي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإنه يقال للصادق: صَدَقَ وبَرَّ، ويقال للكاذب: كَذَب وفَجَرَ، وإن الرجل ليصدق حتى يُكتَب عند الله صديقًا، ويكذب حتى يكتب عند الله كذابًا"، وإنه قال لنا: "هل أنبئكم ما الْعَضْهُ؟، وإن الْعَضْهَ هي النميمة التي تفسد بين الناس" (¬1). وهذا إسناد صحيحٌ. وأخرجه أحمد مطوّلًا، فقال: 3652 - حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن عابس، قال: حدثنا رجل من همدان، من أصحاب عبد الله، وما سماه لنا، قال: لما أراد عبد الله أن يأتي المدينة جمع أصحابه، فقال: والله إني لأرجو أن يكون قد أصبح اليوم فيكم من أفضل ما أصبح في أجناد المسلمين، من الدين والفقه والعلم بالقرآن، إن هذا القرآن أُنزل على حروف، والله إن كان الرجلان ليختصمان أشدّ ما اختصما في شيء قطّ، فإذا قال القارىء هذا: أقرأني، قال: أحسنت، وإذا قال الآخر، قال: كلاكما محسن، فأقرَأنا: "إن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، والكذب بهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار"، واعتبروا ذاك بقول أحدكم لصاحبه: كَذَبَ وفَجَر، وبقوله إذا صَدَقَه: صدقت وبررت، إن هذا القرآن لا يَختَلف ولا يُستَثنُّ (¬2) ولا يَتْفَه (¬3) لكثرة الرد، فمن قرأه على ¬

_ (¬1) قال القرطبيّ: هو مصدر عضهه يعضَهه عَضْهًا: إذا رماه بكذب وبهتان، وقد رواه أكثر الشيوخ ما الْعِضَة؟ بكسر العين، وفتح الضاد، والتاء المنقلبة في الوقف هاء، وهي أصوب؛ لأن العضة اسم، والنميمة اسم، فصحّ تفسير الاسم بالاسم، والْعَضْهُ مصدرٌ، ولا يحسن تفسير المصدر بالاسم، فالرواية الثانية أولى. والذي يبيّن لك ان الْعِضَة اسم ما قاله الكسائيّ: قال: الْعِضَة الكذب والبهان، وجمعها عِضُون، مثلُ عِزة وعِزين، وقد بيّنّا أن الْعَضْهَ المصدر، فصحّ ما قلناه. انتهى "المفهم" 6/ 590. (¬2) أي لا يخلُق على كثرة الردّ. (¬3) من باب فَرِحَ: أي لا يَخْلُقُ، فهو بمعنى ما قبله.

حرف فلا يدعه رغبةً عنه، ومن قرأه على شيء من تلك الحروف التي عَلَّمَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلا يَدَعْه رغبةً عنه، فإنه من يَجحَد بآية منه يجحد به كُلِّه، فإنما هو كقول أحدكم لصاحبه: اعجَلْ، وحَيّ هلًا، والله لو أعلم رجلًا أعلم بما أُنزل الله على محمد -صلى الله عليه وسلم- مني لطلبته حتى أزداد علمه إلى علمي، إنه سيكون قوم يُميتون الصلاة، فصلّوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معقم تطوعًا، وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كان يُعارَض بالقرآن في كل رمضان، وإني عَرَضتُ في العام الذي قُبِض فيه مرتين، فأنبأني أني محسن، وقد قرأت من في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبعين سورة. وهذا الإسناد فيه مجهول. والحاصل أن الحديث لمعظمه شواهد، ولذا ذكرت فوائده، وقد قدّمت في مقدّمة هذا الشرح أنه إذا كان الحديث ضعيفًا، لا أعتني ببسط شرحه، ولا بذكر فوائده، إلا أن يكون صحيحًا بطريق آخر، أو يوجد له شواهد، كهذا الحديث، فتنبّه. والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف رحمه الله) هنا (7/ 46) فقط، و (أحمد) في "مسنده" (1/ 410 و 423 و 437) و (الدارميّ) في "سننه" رقم (2718). والله تعالى أعلم. (المسألة الرابعة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو اجتناب البدع. 2 - (ومنها): مجامع الصلاح والفلاح أمران: كتاب الله عز وجل، وهدي النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، أي سنته. 3 - (ومنها): التحذير عن محدثات الأمور؛ لأنها كلّها شرّ، وأيُّ شرّ. 4 - (ومنها): أن كلّ ما أُحدث على غير أصل من الأدلّة الشرعيّة، فإنه بدعة، وهو عين الضلالة، والهلاك والخسران. 5 - (ومنها): أنه لا ينبغي لمسلم أن يكون طويل الأمل؛ لأنه سبب لقسوة القلوب، ويورث الغفلة، فتأتيه منيّته، وهو لاهٍ ساهٍ، فيخسر الخسران الأبديّ، أخرج

البخاريّ في "صحيحه" رقم (6417) من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "خط النبي -صلى الله عليه وسلم- خطا مُرَبَّعًا، وخَطَّ خَطًّا في الوسط خارجا منه، وخَطَّ خِطَطًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط، من جانبه الذي في الوسط، وقال: "هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به"، أو "قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الْخِطَط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نَهَشَه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا". وسيأتي هذا الحديث للمصنّف في "كتاب الزهد" برقم (4221). وأخرج برقم (6418) من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: خط النبي -صلى الله عليه وسلم- خُطُوطًا، فقال: "هذا الأمل، وهذا أجله، فبينما هو كذلك إذ جاءه الخط الأقرب". وسيأتي للمصنّف في "الزهد" (422) ولفظ أحمد في "مسنده" (11791) عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جمع أصابعه فوضعها على الأرض، فقال: "هذا ابن آدم"، ثم رفعها خلف ذلك قليلًا، وقال: "هذا أجله"، ثم رمى بيده أمامه قال: "وثَمَّ أمله". 5 - (ومنها): أن ما وُعد به الإنسان آتٍ لا مَحالةَ، فلا ينبغي له التفريط في الاستعداد له. 6 - (ومنها): أن السعيد الكامل هو الذي يعتبر بغيره، ولا ينتظر وقوع العقاب عليه، بل يرتدع عن هواه، وينكفّ عن شهواته، ويشمّر بالتوبة والاستقامة للدار الآخرة. 7 - (ومنها): أنه قتال المؤمن من الأمور الموبقات، فيجب الحذر منه، فإن الشارع الحكيم أوجب على المؤمن أن ينصر أخاه، ويعضده، ويحترمه، ويكرمه، فإذا سلك مسلكًا معاكسا لهذا، فقد تعرّض للكفر؛ لأن هذا من أخلاق الكفرة اللئام. 8 - (ومنها): أن سباب المؤمن فسوقٌ يُخرج عن العدالة والاستقامة؛ لأن فيه انتهاك حرمة أخيه، والاستخفاف بواجب حقّه، وهذا من أخلاق الفسقة الطَّغام. 9 - (ومنها): أنه لا يحلّ لمسلم هجر أخيه المسلم لأمر دنيويّ فوق ثلاثة أيام، وأما الثلاثة، فيُرخّص فيها؛ لكون الإنسان مجبولًا على الغضب، فأمهل هذه المدّة حتى

تذهب عنه سورة الغضب، ويراجع نفسه. 10 - (ومنها): التحذير عن الكذب، وأنه لا يجوز لا بجدّ، ولا بهزل. قال القرطبيّ: وفيه حجة للطبريّ في تحريمه الكذب مطلقًا وعمومًا. 11 - (ومنها): أنه لا يجوز لرجل أن يَعِد صبيّه بشيء، ثم لا يفي به؛ لأنه من الكذب المحرّم، قال القرطبيّ: وفيه ما يدلّ على وجوب الوفاء بالوعد، ولو كان بالشيء الحقير مع الصبيّ الصغير. 12 - (ومنها): أن الكذب باب الفجور، وأن الفجور باب النار، أعاذنا الله سبحانه وتعالى منها بمنه وكرمه آمين. 13 - (ومنها): أن الصدق باب البرّ، وأن البرّ باب الجنّة، جعلنا الله سبحانه وتعالى من أهلها آمين. 14 - (ومنها): أن الصادق يستحقّ أن يوصف بالصدق والبرّ، والكاذب يوصف بالكذب والفجور. 15 - (ومنها): أن العبد إذا تحرّى الكذب، ولازمه كتبه الله سبحانه وتعالى من الكذابين، وبغّضه إلى خلقه أجمعين، وكذلك الصادق إذا تحرّى الصدق، ولازمه كتبه الله تعالى من الصادقين، وحببه إلى خلقه أجمعين، وهذا هو معنى الحديث الآخر الذي أخرجه الشيخان، وغيرهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أحب الله عبدا نادى جبريل: إن الله يحب فلانا فأَحِبّه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في أهل الأرض". هذا لفظ البخاريّ، ولفظ مسلم من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل، فقال: إني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء، فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء -قال:- ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدًا، دعا جبريل فيقول: إني أُبغض فلانا فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانا فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض". والله

تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الخامسة): فيما يُستثنى من الكذب: قال الغزالي رحمه الله: الكذب من قبائح الذنوب، وليس حراما لعينه، بل لما فيه من الضرر، ولذلك يؤذن فيه حيث يتعين طريقًا إلى المصلحة. وتُعُقّب بأنه يلزم أن يكون الكذب إذا لم ينشأ عنه ضرر مباحًا، وليس كذلك. ويمكن الجواب بأنه يُمنَع من ذلك حسما للمادة، فلا يباح منه إلا ما يترتب عليه مصلحة، فقد أخرج البيهقي في "الشعب" بسند صحيح، عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- قال: "الكذب يُجانب الإيمان". وأخرجه عنه مرفوعًا، وقال: الصحيح موقوف. وأخرج البزار من حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- رفعه، قال: "يُطبَع المؤمن على كل شيء إلا الخيانة والكذب". وسنده قويّ. وذكر الدارقطني في "العلل" أن الأشبه أنه موقوف، وشاهد المرفوع من مرسل صفوان بن سليم في "الموطإ". قال ابن التين: ظاهره يعارض حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- (¬1)، والجمع بينهما حمل حديث صفوان على المؤمن الكامل (¬2). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: من الأحاديث التي تدلّ على استثناء بعض أنواع الكذب ما أخرجه الشيخان، واللفظ لمسلم، من طريق حميد بن عبد الرحمن بن عوف، أن أمه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها -وكانت من المهاجرات الأُوَل، اللاتي بايعن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرته أنها سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو يقول: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، ويقول خيرًا، وينمي خيرًا". قال ابن شهاب: ولم أسمع يُرَخَّص في شيء مما يقول الناس كذب، إلا في ثلاث: الحربِ، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها. وقد جاء من ذلك صريحًا، وهو ما أخرجه الترمذي من حديث أسماء بنت يزيد ¬

_ (¬1) يعني الحديث المذكور في هذا الباب. (¬2) "فتح" 10/ 524.

مرفوعًا، لا يحل الكذب إلا في ثلاث: تحديثُ الرجل امرأته ليُرضِيها، والكذب في الحرب، وفي الإصلاح بين الناس" (¬1). قال في "الفتح" عند قوله: "أو يقول خيرًا": قال العلماء: المراد هنا أنه يخبر بما عمله من الخير، ويسكت عما عمله من الشر، ولا يكون ذلك كذبًا؛ لأن الكذب الأخبار بالشيء على خلاف ما هو به، وهذا ساكت، ولا يُنسَب لساكت قول. ولا حجة فيه لمن قال: يشترط في الكذب القصد إليه؛ لأن هذا ساكت. وما زاده مسلم والنسائي من رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه في آخره: "ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث"، فذكرها، وهي الحرب، وحديث الرجل لامرأته، والإصلاح بين الناس. وأورد النسائي أيضا هذه الزيادة من طريق الزبيديّ، عن ابن شهاب، وهذه الزيادة مدرجة بَيَّن ذلك مسلم في روايته من طريق يونس، عن الزهري، فذكر الحديث، قال: وقال الزهري ... وكذا أخرجها النسائي مفردةً من رواية يونس، وقال: يونس أثبت في الزهري من غيره. وجزم موسى بن هارون وغيره بادراجها. قال: ورويناه في فوائد ابن أبي ميسرة من طريق عبد الوهاب بن رُفيع، عن ابن شهاب، فساقه بسنده مقتصرًا على الزيادة، وهو وَهَمٌ شديد. قال الطبري: ذهبت طائفة إلى جواز الكذب لقصد الإصلاح، وقالوا: إن الثلاث المذكورة كالمثال، وقالوا: الكذب المذموم إنما هو فيما فيه مضرة، أو ليس فيه مصلحة. وقال آخرون: لا يجوز الكذب في شيء مطلقًا، وحملوا الكذب المراد هنا على التورية والتعريض، كمن يقول للظالم: دعوت لك أمسِ، وهو يريد قوله: اللهم اغفر ¬

_ (¬1) حديث صحيحٌ.

للمسلمين، ويَعِدُ امرأته بعطية شيء، ويريد إن قَدّر الله ذلك، وأن يُظهِر من نفسه قوة. وبالأول جزم الخطابي وغيره، وبالثاني جزم المهلب والأصيلي وغيرهما. واتفقوا على أن المراد بالكذب في حق المرأة والرجل، إنما هو فيما لا يُسقط حقا عليه أو عليها، أو أخذَ ما ليس له أو لها، وكذا في الحرب في غير التأمين. واتفقوا على جواز الكذب عند الاضطرار، كما لو قصد ظالم قتل رجل، وهو مختف عنده، فله أن يَنفِي كونه عنده، ويَحلِفَ على ذلك، ولا يأثم. انتهى ما في "الفتح" (¬1). وقال في موضع آخر: قال النووي: الظاهر إباحة حقيقة الكذب في الأمور الثلاثة، لكن التعريض أولى. وقال ابن العربي: الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنص؛ رفقًا بالمسلمين لحاجتهم إليه، وليس للعقل فيه مجال، ولو كان تحريم الكذب بالعقل ما انقلب حلالًا. انتهى. قال الحافظ: ويقويه ما أخرجه أحمد وابن حبان من حديث أنس -رضي الله عنه- في قصة الحجاج بن عِلَاط الذي أخرجه النسائي، وصححه الحاكم، في استئذانه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقول عنه ما شاء، لمصلحته في استخلاص ماله من أهل مكة، وأَذِنَ له النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإخباره لأهل مكة أن أهل خيبر هزموا المسلمين، وغير ذلك مما هو مشهور فيه. ولا يعارض ذلك ما أخرجه النسائي، من طريق مصعب بن سعد، عن أبيه، في قصة عبد الله بن أبي سَرْح، وقول الأنصاري للنبي -صلى الله عليه وسلم- لمّا كَفّ عن بيعته-: هلا أومأت إلينا بعينك؟ قال: "ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين"؛ لأن طريق الجمع بينهما أن المأذون فيه بالخداع والكذب في الحرب حالة الحرب خاصة، وأما حالُ المبايعة فليست بحال حرب. قال الحافظ: كذا قال، وفيه نظر؛ لأن قصة الحجاج بن عِلاط أيضًا لم تكن في ¬

_ (¬1) "فتح" 5/ 369.

حال حرب، والجواب المستقيم أن نقول: المنعُ مطلقًا من خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلا يتعاطى شيئًا من ذلك، وإن كان مباحًا لغيره، ولا يُعارض ذلك ما ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد غَزوةً وَرَّى بغيرها، فإن المراد أنه كان يريد أمرًا فلا يُظهره، كأن يريد أن يغزو وجهة الشرق، فيسأل عن أمر في جهة الغرب، ويتجهز للسفر فيظن من يراه ويسمعه أنه يريد جهة الغرب، وأما أن يُصَرح بإرادته الغرب، وإنما مراده الشرق فلا. والله أعلم. وقال ابن بطال رحمه الله: سألت بعض شيوخي عن معنى هذا الحديث، فقال: الكذب المباح في الحرب ما يكون من المعاريض، لا التصريح بالتأمين مثلًا. انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الصوابُ أن الكذب في هذه المواضع التي استثناها الشارع لا يدخل في الوعيد المذكور لمن تعمّد الكذب؛ لأن الشارع استثناها، فلا تدخل في مسمّى الكذب الشرعيّ، وإن كانت تسمّى كذبًا من حيث اللغة، فليُفهم الفرقُ بينهما. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة السادسة): أخرج الشيخان من حديث أبي أيوب الأنصاريّ -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يحل لرجل أن يَهجُر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان، فيُعرض هذا، ويُعرِض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام". زاد الطبري من طريق أخرى: "يسبِق إلى الجنة"، ولأبي داود بسند صحيح، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "فإن مَرَّت به ثلاث، فلقيه فليسلم عليه، فإن رَدّ عليه فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم، وخَرَجَ المُسَلِّمُ من الْهِجْرَة". ولأحمد والبخاريّ في "الأدب المفرد"، وصححه ابن حبان من حديث هشام بن عامر: "فإنهما ناكثان عن الحقّ، ما داما على صِرَامهما، وأَوَّلُهُما فيئًا يكون سَبْقُهُ كفارةَ"، فذكر نحو حديث أبي هريرة، وزاد في آخره: "فإن ماتا على صِرَامهما، لم يدخلا الجنة جميعًا". قال أكثر أهل العلم: تَزُول الهجرة بمجرد السلام ورَدِّه. وقال أحمد: لا يبرأ من ¬

_ (¬1) "فتح" 6/ 192.

الهجرة إلا بعوده إلى الحال التي كان عليها أَوّلًا. وقاك أيضا: تركُ الكلام إن كان يؤذيه لم تنقطع الهجرة بالسلام، وكذا قال ابن القاسم. وقال عياض: إذا اعتزل كلامه لم تُقبَل شهادته عليه عندنا، ولو سَلَّمَ عليه -يعني وهذا يؤيد قول ابن القاسم-. قال الحافظ: ويمكن الفرق بأن الشهادة يُتَوَّقى فيها، وتركُ المكالمة يُشعر بأن في باطنه عليه شيئًا فلا تقبل شهادته عليه، وأما زوال الهجرة بالسلام عليه بعد تركه ذلك في الثلاث فليس بممتنع. واستُدِلَّ للجمهور بما رواه الطبراني من طريق زيد بن وهب، عن ابن مسعود -رضي الله عنه- في أثناء حديث موقوف، وفيه: "ورجوعُهُ أن يأتي فيسلم عليه". واستُدِلّ بقوله: "أخاه" على أن الحكم يَختَصُّ بالمؤمنين. وقال النووي: لا حجة في قوله: "لا يحل لمسلم" لمن يقول: الكفّار غير مخاطبين بفروع الشريعة؛ لأن التقييد بالمسلم لكونه الذي يَقبَل خطاب الشرع، وينتفع به، وأما التقييد بالأُخُوّة فدال على أن للمسلم أن يهجر الكافر من غير تقييد. واستدل بهذه الأحاديث على أن من أعرض عن أخيه المسلم، وامتنع من مكالمته، والسلام عليه أثم بذلك؛ لأن نفي الحل يستلزم التحريم، ومرتكب الحرام آثم. قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه لا يجوز الهجران فوق ثلاث، إلا لمن خاف من مكالمته ما يُفسد عليه دينه، أو يُدخِل منه على نفسه أو دنياه مضرةً، فإن كان كذلك جاز، ورُبَّ هجر جميل خير من مخالطة مؤذية. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة السابعة): أنه استُشكل على حديث "لا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال" ما صدر عن عائشة رضي الله عنها، أنها هجرت ابن الزبير رضي الله عنهما أكثر من ثلاث ليال: وحاصل قصّتها هو ما أخرجه الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى من طريق الزهريّ، قال: حدثني عوف بن مالك بن الطُّفيل -هو ابن الحارث، وهو ابن أخي عائشة، زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمها أن عائشة حُدِّثت أن عبد الله بن الزبير قال في بيع أو عطاء،

أعطته عائشة: والله لتنتهين عائشة أو لأَحْجُرَنّ عليها، فقالت: أهو قال هذا؟ قالوا: نعم، قالت: هو لله علي نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبدًا، فاستشفع ابن الزبير إليها، حين طالت الهجرة، فقالت: لا والله لا أُشَفِّعُ فيه أبدًا، ولا أتحنث إلى نَذْري، فلما طال ذلك على ابن الزبير، كَلَّم المسورَ بنَ مَخْرَمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وهما من بني زهرة، وقال لهما: أنشُدُكما بالله لمّا أدخلتماني على عائشة، فإنها لا يحل لها أن تنذُر قطيعتي، فأقبل به المسور وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما، حتى استأذنا على عائشة، فقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، أندخل؟ قالت عائشة: ادخلوا، قالوا: كلنا، قالت: نعم ادخلوا كلكم، ولا تعلم أن معهما ابن الزبير، فلما دخلوا دخل ابن الزبير الحجاب، فاعتنق عائشة، وطَفِقَ يناشدها ويبكي، وطفق المسور وعبد الرحمن يناشدانها إلا ما كلمته، وقبلت منه، ويقولان: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عما قد علمتِ من الهجرة، فإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج، طَفِقت تُذَكِّرهما نذرها وتبكي، وتقول: إني نذرت، والنذر شديد، فلم يزالا بها حتى كَلَّمت ابن الزبير، وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة، وكانت تَذكُر نذرها بعد ذلك، فتبكي حتى تَبَلَّ دموعها خمارها. قال في "الفتح": قد استُشكل على هذا ما صدر من عائشة رضي الله عنها في حق ابن الزبير -رضي الله عنهم-. قال ابن التين إنما ينعقد النذر إذا كان في طاعة، كَلِلَّه عليَّ أن أعتق، أو أن أصلي، وأما إذا كان في حرام أو مكروه أو مباح فلا نذر، وتركُ الكلام يفضي إلى التهاجر، وهو حرام أو مكروه. وأجاب الطبري بأن المحرَّم إنما هو ترك السلام فقط، وأن الذي صدر من عائشة رضي الله عنها ليس فيه أنها امتنعت من السلام على ابن الزبير، ولا من رَدّ السلام عليه لمّا بدأها بالسلام، وأطال في تقرير ذلك، وجعله نظير من كانا في بلدين لا يجتمعان، ولا يكلم أحدهما الآخر، وليسا مع ذلك متهاجرين، قال: وكانت عائشة لا تأذن لأحد من

الرجال أن يدخل عليها إلا بإذن، ومن دخل كان بينه وبينها حجاب، إلا إن كان ذا محرم منها، ومع ذلك لا يدخل عليها حجابها إلا بإذنها، فكانت في تلك المدة منعت ابن الزبير من الدخول عليها. قال الحافظ: كذا قال، ولا يخفى ضعف المأخذ الذي سلكه من أوجه، لا فائدة للإطالة بها، والصواب ما أجاب به غيره أن عائشة رضي الله عنها رأت أن ابن الزبير ارتكب بما قال أمرًا عظيمًا، وهو قوله: لأحجُرَنَّ عليها فإن فيه تنقيصا لقدرها، ونسبة لها إلى ارتكاب ما لا يجوز، من التبذير الموجب لمنعها من التصرف فيما رزقها الله تعالى، مع ما انضاف إلى ذلك من كونها أم المؤمنين، وخالته أخت أمه، ولم يكن أحد عندها في منزلته، فكأنها رأت أن في ذلك الذي وقع منه نوع عقوق، والشخص يَستَعظِم ممن يَلُوذ به ما لا يستعظمه من الغريب، فرأت أن مجازاته على ذلك بترك مكالمته، كما نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن كلام كعب بن مالك وصاحبيه عقوبةً لهم، لتخلفهم عن غزوة تبوك بغير عذر، ولم يمنع من كلام من تخلف عنها من المنافقين مؤاخذةً الثلاثة؛ لعظيم منزلتهم، وازدراءً بالمنافقين؛ لحقارتهم، فعلى هذا يُحمَل ما صدر من عائشة رضي الله عنها. وقد ذكر الخطابي أن هجر الوالد ولده، والزوج زوجته، ونحو ذلك لا يتضيق بالثلاث، واستَدَلّ بأنه -صلى الله عليه وسلم- هَجَر نساءه شهرًا، وكذلك ما صدر من كثير من السلف في استجازتهم ترك مكالمة بعضهم بعضًا مع علمهم بالنهي عن المهاجرة. ولا يخفى أن هنا مقامين أعلى وأدنى فالأعلى اجتناب، الإعراض جملة، فيبذل السلام، والكلام والمواددة بكل طريق، والأدنى الاقتصار على السلام دون غيره، والوعيد الشديد إنما هو لمن يترك المقام الأدنى، وأما الأعلى فمن تركه من الأجانب فلا يلحقه اللوم، بخلاف الأقارب، فإنه يدخل فيه قطيعة الرحم. انتهى المقصود من "الفتح"، وهو تحقيق نفيسٌ (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب، وهو ¬

_ (¬1) "فتح" 10/ 511 - 512.

حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجة رحمة الله في أول الكتاب قال: 46 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ خِدَاشٍ، حَدَّثَنَا إِسْماَعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ ح وحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ الْجَحْدَرِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- هَذِهِ الْآيَةَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} إِلَى قَوْلهِ {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ، فَهُمِ الَّذِينَ عَنَاهُمُ الله، فَاحْذَرُوهُمْ"). رجال هذا الإسناد: ثمانية: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ خِدَاشٍ) بن عجلان المُهَلَّبيّ مولاهم، أبو بكر الضرير البصريّ، نزيل بغداد، صدوقٌ (¬1)، من صغار [10]. رَوَى عن أبيه، وإسماعيل ابن عُلَيّة، وابن مهدي، وعُبيد بن واقد، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وجماعة. ورَوَى عنه ابن ماجه، وإبراهيم الحربي، وابن خزيمة، وابن بُجَير، وإسحاق بن داود الصَّوّاف، والحسن بن محمد بن شعبة، ومحمد بن نُوح بن حرب العسكري، وأبو عروبة الحرّانيّ، وأبو بكر بن أبي داود، وغيرهم. ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أغرب عن أبيه. تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب (7) أحاديث فقط برقم 47 و836 و1931 و 1976 و2031 و 2245 و 4278. 2 - (أَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ الْجَحْدَرِيُّ) أبو بكر البصريّ، صدوقٌ [10] تقدم في 2/ 17. ¬

_ (¬1) زاد في "التقريب": "يُغرِب"، وتعقّبه بعض المحققين، وأحسن في ذلك، فإن هذه العبارة مأخوذة من كلام ابن حبان الآتي، وعبارته ألطف، إذْ قال ربما أغرب عن أبيه، فَعَبَّرَ بربما، وقيده بأبيه، فتنبّه للفرق الكبير بين العبارتين، وأيضًا فإنه ممن انفرد به ابن ماجه، وهو لم يخرج له عن أبيه، فتفطّن، ولا تكن أسير التقليد. والله تعالى أعلم.

3 - (يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ) المُقَوِّم، أبو سعيد البصريّ، ثقة حافظ [10] تقدّم في الباب الماضي. 4 - (إِسْماَعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: إسماعيل بن إبراهيم بن مِقسَم الأسديّ أسد خُزيمة، مولاهم، أبو بِشْر البصريّ، كوفيّ الأصل، المعروف بابن عليّة، وهي أمه (¬1)، وكان يَكره النسبة إليها، ثقة ثبت حافظ [8]. رَوَى عن عبد العزيز بن صهيب، وسليمان التيمي، وحميد الطويل، وعاصم الأحول، وأيوب، وابن عون، وغيرهم. ورَوَى عنه شعبة، وابن جريج، وهما من شيوخه، وبقية، وحماد بن زيد، وهما من أقرانه، وإبراهيم بن طهمان، وهو أكبر منه، وابن وهب، والشافعي، وأحمد، ويحيى، وعليّ، وإسحاق، والفلاس، وأبو معمر الهذلي، وأبو خيثمة، وابنا أبي شيبة، وعلي بن حجر، وابن نمير، وخلق، آخرهم أبو عمران موسى بن سهيل بن كثير الْوَشَّاءُ. قال علي بن الجعد، عن شعبة: إسماعيل ابن علية ريحانة الفقهاء. وقال يونس بن بكير عنه: ابن علية سيد المحدثين. وقال ابن مهدي: ابن علية أثبت من هشيم. وقال القطان: ابن علية أثبت من وُهيب. وقال حماد بن سلمة: كنا نشبهه بيونس بن عبيد. وقال عفان: كنا عند حماد بن سلمة، فأخطأ في حديث، وكان لا يرجع إلى قول أحد، فقيل له: قد خولفت فيه، فقال: من؟ قالوا: حماد بن زيد، فلم يلتفت، فقال له إنسان: إن ابن عليّة يخالفك، فقام، فدخل، ثم خرج، فقال: القول ما قال إسماعيل. وقال أحمد: إليه المنتهى في التثبت بالبصرة، وقال أيضا: فاتني مالك، فأخلف الله علي سفيان، وفاتني حماد بن زيد، فأخلف الله علي إسماعيل ابن علية، وقال أيضا: كان حماد بن زيد ¬

_ (¬1) قال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه" 1/ 66: وهي عليّة بنت حسّان، مولاة لبني شيبان، وكانت امرأة نبيلة عاقلة، وكان صالح المرّيّ، وغيره من وجوه البصرة، وفقهائها يدخلون عليها، فتبرُزُ، فتحادثهم، وتُسائلهم. انتهى.

لا يعبأ إذا خالفه الثقفي، ووهيب، وكان يَفْرَق من إسماعيل ابن علية إذا خالفه. وقال غندر: نشأت في الحديث يوم نشأت، وليس أحد يقدم على إسماعيل ابن علية. وقال ابن مُحْرِز عن يحيى بن معين: كان ثقة مأمونا صدوقا مسلما ورعا تقيا. وقال قتيبة: كانوا يقولون: الحفاظ أربعة: إسماعيل ابن علية، وعبد الوارث، ويزيد بن زريع، ووهيب. وقال الهيثم بن خالد: اجتمع حفاظ أهل البصرة، فقال أهل الكوفة لأهل البصرة: نَحُّوا عنا إسماعيل، وهاتوا من شئتم. وقال زياد بن أيوب: ما رأيت لابن علية كتابا قط، وكان يقال: ابن علية يَعُدُّ الحروف. وقال أبو داود السجستاني: ما أحد من المحدثين إلا قد أخطأ، إلا إسماعيل ابن علية، وبشر بن المفضل. وقال النسائي: ثقة ثبت. وقال ابن سعيد: كان ثقة ثبتا في الحديث حجة، وقد ولي صدقات البصرة، وولي ببغداد المظالم في آخر خلافة هارون، وعلية أمه. وقال الخطيب: زعم علي بن حُجْر أن علية جدته، أم أمه. وكان يقول: من قال: ابن علية فقد اغتابني. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (3) أو سنة (194)، وقاله في (4) أبو موسى العنزي في "تاريخه"، ونقله عنه البخاري في "تاريخه"، وخليفة، وابن أبي عاصم، وإسحاق القراب الحافظ، والكلاباذي، وغيرهم. وقال أحمد، وعمرو بن علي: وُلد سنة عشر ومائة، ومات سنة (93)، وكذا قال زياد بن أيوب، وغير واحد في تاريخ وفاته، وقال يعقوب بن شيبة: إسماعيل ثبت جدا، توفي يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من ذي القعدة. روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب (53) حديثًا. 5 - (عبد الوهّاب) بن عبد المجيد بن الصَّلْت الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقة تغيّر قبل موته بثلاث سنين [8] تقدّم في 2/ 17. 6 - (أيوب) بن أبي تمية كيسان السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت حجة، من كبار الفقهاء العبّاد [5] تقدّم في 2/ 17. 7 - (عبد الله بن أبي مُليكة) هو: عبد الله بن عبيد الله بن أبي مُليكة زُهير بن عبد الله بن جُدْعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، أبو بكر، ويقال: أبو

محمد التيمي المكي، كان قاضيا لابن الزبير، ومؤذنا له، ثقة فقيه [3]. روى عن العبادلة الأربعة، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن السائب المخزومي، وغيرهم. ورَوَى عنه ابنه يحيى، وابن أخته عبد الرحمن بن أبي بكر، وعطاء بن أبي رباح، ونافع بن عمر الجمحي، وغيرهم. قال أبو زرعة، وأبو حاتم: ثقة. وفي "صحيح البخاري": قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. وقال ابن سعد: ولاه ابن الزبير قضاء الطائف، وكان ثقة، كثير الحديث، وهو عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله ابن أبي ملكية زهير، وكذا نسبه الزبير، وابن الكلبي، وغيرهما. وقال البخاري: يكنى أبا محمد، وله أخ يقال له: أبو بكر. وقال العجلي: مكي تابعيّ ثقة. وقال ابن حبان في "الثقات": رأى ثمانين من الصحابة. وقال البخاري وغير واحد: مات سنة سبع عشرة ومائة. وقيل: سنة (118) وكذا أرخه ابن قانع. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (22) حديثًا. 8 - (عائشة) رضي الله عنها، تقدّمت، في 2/ 14، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين إلى أيوب، وابن أبي مليكة مكيّ، وعائشة مدنيّة. 3 - (ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيوخه الثلاثة، فالأولان تفرّد بهما، والثاني تفرد به هو وأبو داود، والنسائيّ. 4 - (ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ: أيوب عن ابن أبي مليكة. 5 - (ومنها): أن فيه كتابةَ (ح) إشارة إلى تحويل السند إلى سند آخر، فللمصنف في هذا الحديث سندان: أحدهما محمد بن خالد، عن ابن عليّة، عن أيوب، والثاني: أحمد ابن ثابت، ويحيى بن حكيم، كلاهما عن عبد الوهّاب الثقفيّ، عن أيوب، فأيوب مُلتقَى

الإسنادين، وإلى هذه الحاء أشار في "ألفية المصطلح" حيث قال: وَكَتَبُوا (ح) عِنْدَ تَكْرِيرِ سَنَدْ ... فَقِيلَ مِنْ "صَحَّ" وَقِيلَ ذَا انْفَرَدْ مِنَ "الحدِيثِ" أَوْ لِتَحْوِيلٍ وَرَدْ ... أَوْ "حَائِلٍ" وَقَوْلهُا لَفْظًا أَسَدْ 6 - (ومنها): أن عائشة رضي الله تعالى عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث، وقد تقدّم بيان المكثرين السبعة في شرح الحديث الأول من الكتاب. 7 - (ومنها): أن من طُرَف ما يتعلق بـ "إسماعيل ابن علية" ما ذكره الخطيب البغدادي، قال: حَدّث عن إسماعيل ابن علية ابنُ جريج، وموسى بن سهل الْوَشّا، وبين وفاتيهما مائة وتسع وعشرون سنة، وقيل: سبع وعشرون، قال: وحَدّث عن ابن علية إبراهيم بن طهمان، وبين وفاته ووفاة الوشّا مائة وعشر سنين، وقيل: مائة وخمس وعشرون سنة، قال: وحدَّث عن ابن علية شعبة، وبين وفاته ووفاة الوشا مائة وثماني عشر سنة، وحَدَّث عن ابن علية عبدُ الله بن وهب، وبين وفاته ووفاة الوشّا إحدى وثمانون سنة، مات الوَشّا يوم الجمعة، أولي ذى القعدة سنة ثمان وتسعين ومائتين. ذكره النوويّ في "شرحه على صحيح مسلم" (¬1). والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها، أنها (قَالَتْ: تَلَا) أي قرأ (رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- هَذ الْآيَةَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: يُخبر الله سبحانه وتعالى أن في القرآن آيات محكمات، هُنّ أم الكتاب: أي بيناتٌ واضحاتُ الدلالة، لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أُخَر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس، أو بعضهم، فمَن رَدَّ ما اشتبه إلى الواضح منه، وحَكَّمَ مُحْكَمه على متشابهة عنده، فقد اهتدى، ومن عكس انعكس، ولهذا قال تعالى: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} ¬

_ (¬1) "شرح صحيح مسلم" 1/ 66 - 67.

أي أصله الذي يُرْجَع إليه عند الاشتباه. وقال الطيبيّ رحمه الله: سُمّيت أم الكتاب لأنها بيّنة في نفسها، مبيّنة لما عداها من المتشابهات، فهي كالأصل لهما، كما سُمّيت مكة أم القرى لدحو الأرض منها. انتهى (¬1) {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} أي تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تَحتَمِل شيئا آخر من حيث اللفظ والتركيب، لا من حيث المراد. وقد اختَلَفوا في المحكم والمتشابه على أقوال، سيأتي بيانها في المسائل إن شاء الله تعالى. [فائدة]: قوله: إنما تُصرَف "أُخَرُ" لكونها عُدِلت عن الألف واللام؛ لأن أصلها أن تكون صفة بالألف واللام، كالكُبَر والصُّغَر، فلما عُدلت عن مجرى الألف واللام، مُنِعت الصرف. وقال أبو عبيد: لم يَصرفوها؛ لأن واحدها لا يَنصرف في معرفة ولا نكرة. وأنكر ذلك المبرد، وقال: يجب على هذا ألا يَنصرِف غِضَاب وعِطاشٌ. وقال الكسائيّ: لم تنصرف؛ لأنها صفة. وأنكر ذلك المبرد أيضًا، وقال: إن لُبَدًا وحُطَمًا صفتان، وهما منصرفان. وقال سيبويه: لا يجوز أن تكون "أُخَر" معدولة عن الألف واللام؛ لأنها لو كانت معدولة عن الألف واللام لكانت معرفة، ألا ترى أن "سَحَرَ" معرفة في جميع الأقاويل لمَّا كانت معدولةً عن "السَّحَر"، و"أَمْسِ" في قول من قال: ذهب أَمْسِ معدولًا عن "الأمس" فلو كان "أُخَر" معدولا أيضًا عن الألف واللام، لكان معرفةً، وقد وصفه الله تعالى بالنكرة. ذكره القرطبيّ (¬2). وقال أبو البقاء: أصل المتشابه أن يكون بين اثنين، فإذا اجتمعت الأشياء المتشابهة، كان كل منها مشابها للآخر، فصح وصفها بأنها متشابهة، وليس المراد أن الآية وحدها متشابهة في نفسها. ¬

_ (¬1) "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 618. (¬2) "الجامع لأحكام القرآن" 4/ 13.

وحاصله أنه ليس من شرط صحة الوصف في الجمع، صحة انبساط مفردات الأوصاف على مفردات الوصوفات، وإن كان الأصل ذلك. ذكره في "الفتح" (¬1). وقال البخاريّ في "صحيحه": {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7] قال مجاهد: ما فيه من الحلال والحرام {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] يُصدق بعضه بعضًا، هو مثل قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26] إلى آخر ما ذكره. وقوله: {زَيْغٌ} شك {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [آل عمران: 7] المشتبهات هو تفسير مجاهد أيضًا وصله عبد بن حميد، ولفظه: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} قال: شك {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} المشتبهات: الباب الذي ضلوا منه، وبه هلكوا. قاله في "الفتح". وقال أيضًا: قوله: {الرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ} [النساء: 162] يعلمون، و {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] وصله عبد بن حميد أيضًا عن مجاهد في قوله: {وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ} يعلمون تأويله {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} وعن قتادة قال الراسخون كما يسمعون: آمنا به، كل من عند ربنا، المتشابه والمحكم، فآمنوا بمتشابهه، وعملوا بمحكمه فأصابوا". قال الحافظ: وهذا الذي ذهب إليه مجاهد من تفسير الآية، يقتضي أن تكون الواو في {الرَّاسِخُونَ} عاطفة على معمول الاستثناء. وقد رَوَى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه كان يقرأ: "وما يعلم تأويله إلا الله، ويقول الراسخون في العلم آمنا به"، فهذا يدل على أن الواو للاستئناف؛ لأن هذه الرواية، وإن لم تثبت بها القراءة، لكن أقل درجاتها أن تكون خبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن، فيقدم كلامه في ذلك على من دونه، ويؤيد ذلك أن الآية دلت على ذم متبعي المتشابه؛ لوصفهم بالزيغ، وابتغاء الفتنة، وصرَّح بوفق ذلك حديثُ الباب، ودلت الآية على مدح الذين فَوّضوا العلم إلى الله، ¬

_ (¬1) جـ 9/ ص 73.

وسَلّموا إليه، كما مدح الله المؤمنين بالغيب. وحَكَى الفراء أن في قراءة أبي بن كعب مثل ذلك، أعني "ويقول الراسخون في العلم آمنا به" (¬1). (إِلَى قَوْلهِ) متعلّق بـ "تلا": أي قرأ الآية، وأتمّها بقراءة قوله {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7])، وتمام الآية: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]. تفسير تمام الآية: قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي ضلال، وخروج عن الحق إلى الباطل. وقال القرطبيّ: {الَّذِينَ} رفع بالابتداء، والخبر {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} والزيغ الميل، ومنه زاغت الشمس، وزاغت الأبصار، ويقال: زاغ يزيغ: إذا ترك القصد، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وهذه الآية تَعُمُّ كل طائفة من كافر، وزنديق، وجاهل، وصاحب بدعة، وإن كانت الإشارة بها في ذلك الوقت إلى نصارى نجران. وقال قتادة في تفسير قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} إن لم يكونوا الحرورية، وأنواع الخوارج فلا أدري من هم؟. انتهى (¬2). ({فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} أي إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يُمكنُهم أن يُحرِّفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، ويُنْزِلوه عليها؛ لاحتمال لفظه لِمَا يصرفونه، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه؛ لأنه دافع لهم، وحجة عليهم، ولهذا قال الله تعالى: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} أي الإضلال لأتباعهم إيهاما لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهو حجة عليهم لا لهم، كما لو احتجّ النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله وكلمته، ألقاها إلى ¬

_ (¬1) "فتح" 9/ 72 - 73. (¬2) "الجامع لأحكام القرآن" 4/ 13.

مريم، وتركوا الاحتجاج بقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف: 59]، وبقوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]، وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خلق من مخلوقات الله، وعبد، ورسول من رُسُل الله. قال الطبريّ: قيل: إن هذه الآية نزلت في الذين جادلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أمر عيسى. وقيل: في أمر مدة هذه الأمة، والثاني أولى؛ لأن أمر عيسى عليه السلام قد بينه الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، فهو معلوم لأمته، بخلاف أمر هذه الأمة، فإن علمه خفي عن العباد. ذكره في "الفتح" (¬1). وقوله تعالى: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] أي تحريفه على ما يريدون، وقال مقاتل بن حيان والسديّ: يبتغون أن يعلموا ما يكون، وما عواقب الأشياء من القرآن (¬2). وقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} جملة في محل نصب على الحال: أي والحال أنه لا يعلم تأويل: أي ما هو الحقّ، أو حقيقته إلا الله سبحانه وتعالى. وقد اختلف القرّاء في الوقف هاهنا، وسيأتي البحث عنه مستوفى في المسائل، إن شاء الله تعالى. وقوله: ({وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ} مبتدأ: أي الثابتون في علم الدين الكاملون فيه. قال القرطبيّ: "الرسوخ": الثبوت في شيء، وكلُّ ثابت راسخ، وأصله في الأَجرام أن يَرسَخ الجبل والشجر في الأرض، قال الشاعر [من الطويل]: لَقَدْ رَسَخَتْ في الصَّدْرِ مِنِّي مَوَدةٌ ... لِلَيْلَى أَبَتْ آيَاتُهَا أَنْ تَغَيَّرَا ورَسَخ الإيمانُ في قلب فلان يَرْسَخ رُسوخًا. وحَكَى بعضهم رَسَخَ الغَديرُ: ¬

_ (¬1) "فتح" 9/ 73. (¬2) راجع "تفسير ابن كثير" 1/ 352 - 353.

نَضَبَ ماؤه. حكاه ابن فارس، فهو من الأضداد، ورَسَخَ، ورَضَخَ، ورَصُنَ، ورَسَبَ كُلُّه ثَبَتَ فيه. وسئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الراسخين في العلم، فقال: "هو مَن بَرَّت يمينه، وصَدَق لسانُه، واستقام قلبه". [فإن قيل]: كيف كان في القرآن متشابه؟، والله يقول: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]؟، فكيف لم يجعله كله واضحا؟. [قيل له]: الحكمة في ذلك -والله أعلم- أن يَظهَر فضلُ العلماء؛ لأنه لو كان كله واضحًا لم يظهر فضل بعضهم على البعض، وهكذا يفعل من يُصَنِّف تصنيفًا، يجعل بعضه واضحًا، وبعضه مشكلًا، ويترك لِلْجُثْوَة (¬1) موضعًا؛ لأنّ ما هان وجودُه، قَلَّ بهاؤه. انتهى كلام القرطبيّ (¬2). وقال في "المرعاة": وحكمة وقوع المتشابه فيه إعلام للعقول بقصورها؛ لتستسلم لبارئها، وتعترف بعجزها، وتَسلَم من العجب والغرور والتكبر والتعزّز. انتهى. وقوله: ({يَقُولُونَ} خبر المبتدأ {آمَنَّا بِهِ} أي بالمتشابه، ووكلنا علمه إلى عالمه (كلّ) من المتشابه والمحكم {مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} أي نزل من عنده، وهو حقّ وصواب. وقال القرطبيّ: فيه ضمير عائد على كتاب الله محكمه ومتشابهه، والتقدير كله من عند ربنا، وحذف الضمير لدلالة "كلّ" عليه، إذ هي لفظة تقتضي الإضافة. قاله القرطبيّ (¬3). ¬

_ (¬1) مثلثة الجيم، بعدها ثاء مثلّثة: أصلها الحجارة المجموعة، لكن المراد هنا: الجماعة. (¬2) "الجامع لأحكام القرآن" 4/ 19. (¬3) "الجامع لأحكام القرآن" 4/ 19.

{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} أي ذوو العقول الخالصة، وهم الراسخون في العلم، الواقفون عند متشابهه، العاملون بمحكمه بما أرشدهم الله تعالى إليه في هذه الآية الكريمة. وقال القرطبيّ: أي ما يقول هذا، ويؤمن، ويقف حيث وقف، ويدَع اتّباع المتشابه إلا ذو لُبّ، وهو العقل، ولبّ كل شيء خالِصُهُ، فلذلك قيل للعقل: لبّ، و"أولو" جمع "ذو" من غير لفظه. انتهى. وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: قوله إخبارا عنهم: إنهم {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} أي المتشابه، {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} أي الجميع من المحكم والمتشابه حقّ وصدق، وكل واحد منهما يُصَدِّق الآخرَ، ويشهد له؛ لأن الجميع من عند الله، وليس شيء من عند الله بمختلف، ولا متضاد، كقوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}، ولهذا قال تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}: أي إنما يَفْهَم، ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة، والفُهوم المستقيمة. انتهى (¬1). (فَقَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (يَا عَائِشَةُ) نادى عائشة لحضورها في ذلك الوقت (إِذَا رَأَيْتُمُ) بضمير المخاطبين، وإنما عدل إلى الجمع للتنبيه على أن معرفة هذا لا يخُصّ عائشة رضي الله عنها، بل يعمّها وغيرها، وخاطب الغائبين، وذكّر الضمير للتغليب، ففيه تغليبان متعاكسان، فليُتَأَمّل. قاله السنديّ. وفي رواية البخاريّ: "فإذا رأيتِ" بتاء المخاطب، والخطاب لكل من يَتَأتّى له الخطاب، ولذا أتى بضمير الجمع في قوله: "فاحذروهم"، ويحتمل أن يكون بتاء المخاطبة، والخطاب لعائشة رضي الله تعالى عنها، ويكون قوله: "فاحذروهم" على أسلوب قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية [الطلاق: 1]. لأنها أم المؤمنين؛ بيانًا لشرفها، وغزارة علمها، كما يقال لرئيس القوم ¬

_ (¬1) "تفسير ابن كثير" 1/ 355.

وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت؛ إظهارًا لتقدّمه، واعتبارًا لترؤسه. قاله الطيبيّ. (¬1). (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ) أي في المتشابه، وفي رواية البخاريّ: "فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه" (فَهُم الَّذِينَ عَنَاهُمُ الله) أي أرادهم بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}، وفي رواية الشيخين: "فأولئك الذين سماهم الله" (فَاحْذَرُوهُمْ) أي لا تجالسوهم، ولا تكالموهم أيها المسلمون، فإنهم أهل البدعة، فيحقّ لهم الإهانة. وقيل: أمر بالحذر منهم احترازًا عن الوقوع في عقيدتهم، فالمقصود التحذير من الإصغاء إليهم. وقال في "الفتح": قوله: "فاحذروهم" في رواية الكشميهني: "فاحذرهم" بالإفراد، والأولى أولى، والمراد التحذير من الإصغاء إلى الذين يتبعون المتشابه من القرآن، وأول ما ظهر ذلك من اليهود -كما ذكره ابن إسحاق- في تأويلهم الحروف المقطعة، وأنّ عَدَدَها بالْجُمَّل مقدار مدة هذه الأمة، ثم أول ما ظهر في الإسلام من الخوارج، حتى جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسّر بهم الآية، وقصة عمر في إنكاره على صَبِيغ (¬2) لمّا بلغه أنه يتبع المتشابه، فضربه على رأسه حتى أدماه. أخرجها الدارمي وغيره. وقال الخطابيّ: المتشابه على ضربين: أحدهما: ما إذا رُدَّ إلى الْمُحْكَم، واعتُبِر به عُرِف معناه، والآخر: ما لا سبيل إلى الوقوف على حقيقته، وهو الذي يتبعه أهل الزيغ، فيطلبون تأويله، ولا يبلغون كنهه، فيرتابون فيه، فيُفْتَنون. انتهى (¬3). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. ¬

_ (¬1) "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 619. (¬2) "صَبيغ" بوزن أمير، كما ضبطه في "القاموس" وهو ابن عِسْل بكسر العين، وسكون السين المهملتين، كان يُعنّتُ الناس بالغوامض والسؤالات، فنفاه عمر إلى البصرة. انتهى "القاموس". (¬3) "فتح" 9/ 74 - 75.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هذا متّفقٌ عليه. [تنبيه]: قد اختُلف في إسناد هذا الحديث، قال فأخرجه المصنّف من طريق أيوب السختيانيّ، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة رضي الله عنها، وأخرجه الشيخان من طريق يزيد بن إبراهيم التستريّ، عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد، عنها. قال في "الفتح": قد سمع ابن أبي مليكة من عائشة كثيرًا وكثيرًا أيضا ما يُدخل بينها وبينه واسطة، وقد اختُلف عليه في هذا الحديث، فأخرجه الترمذي من طريق أبي عامر الجزّار عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، ومن طريق يزيد بن إبراهيم، كما في الباب -يعني رواية البخاريّ- بزيادة القاسم، ثم قال: روى غير واحد هذا الحديث عن ابن أبي مليكة عن عائشة، ولم يذكروا القاسم، وإنما ذكره يزيد بن إبراهيم. انتهى. وقد أخرجه ابن أبي حاتم من طريق أبي الوليد الطيالسي، عن يزيد بن إبراهيم، وحماد بن سلمة جميعًا، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم، فلم ينفرد يزيد بزيادة القاسم، وممن رواه عن ابن أبي مليكة بغير ذكر القاسم أيوبُ أخرجه ابن ماجه من طريقه، ونافعُ بن عمر، وابن جريج، وغيرهما. انتهى (¬1). والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (7/ 47) فقط، و (البخاريّ) في "التفسير" (6/ 42) (4547) و (مسلم) في "العلم" (2665) و (أبو داود) (4598) و (الترمذيّ) (2993) و (أحمد) في "مسنده" (6/ 48) و (البخاريّ) في "خلق أفعال العباد" (30) و (الدارميّ) في "سننه" (147) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (73) و (76) و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار" 2515 و 2516 و 2517 و 2518 و (البيهقيّ) في ¬

_ (¬1) "فتح" 9/ 73.

"دلائل النبوة" (6/ 5545)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو وجوب اجتناب الْجَدَل. 2 - (ومنها): بيان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لمعنى هذه الآية الكريمة؟ لأن الله سبحانه وتعالى وكَلَ إليه بيان معاني القرآن لأمته، حيث قال عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية. 3 - (ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: في الحديث التحذير من مخالطة أهل الزيغ، وأهل البِدَع، ومن يتبع المشكلات للفتنة، فأما من سأل عما أشكل عليه للاسترشاد، وتلطّف في ذلك، فلا بأس به، وجوابه واجب، وأما الأول فلا يُجاب، بل يُزجرُ، ويُعزّر كما عزّر عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- صَبِيغَ بن عِسْل حين كان يتبع التشابه. انتهى. 4 - (ومنها): أن في ختم الآية بقوله تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} تعريض بالزائغين، ومدح للراسخين -يعني من لم يتذكّر، ويَتّعِظ، ويتبع هواه، ليس من أولى الألباب، ومن ثَمَّ قال الراسخون: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8] خَضَعوا لباريهم؛ لاستنزال العلم اللدني، واستعاذوا به من الزيغ النفساني. قاله الطيبيّ (¬1). 5 - (ومنها): ما قال بعضهم: دلت الآية على أن بعض القرآن محكم، وبعضه متشابه، ولا يعارض ذلك قوله عز وجل: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1]، ولا قوله: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 2] حتى زعم بعضهم أن كله محكم، وعكس آخرون؛ لأنّ المراد بالإحكام في قوله: {أُحْكِمَتْ} الإتقان في النظم، وأن كلها حقٌّ من عند الله، والمراد بالتشابه كونه يُشبه بعضه بعضًا في حسن السياق والنظم أيضًا، وليس المراد اشتباه معناه على سامعه. ¬

_ (¬1) "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 620.

وحاصل الجواب أن المحكم وَرَدَ بإزاء معنيين، والمتشابه ورد بإزاء معنيين. انتهى (¬1). 6 - (ومنها): ما قال بعضهم: العقل مُبْتَلىً باعتقاد حقيقة المتشابه، كابتلاء البدن بأداء العبادة، فالحكيم إذا صَنّف كتابًا أجمل فيه أحيانًا، ليكون موضع خضوع المتعلم لأُستاذه، وكالملك يتخذ علامة يمتاز بها من يُطلِعه على سر. وقيل: لو لم يُبْتَلَ العقلُ الذي هو أشرف البدن لاستمر العَالِم في أُبَّهَة العلم على التمرد، فبذلك يَستأنس إلى التذلل بعز العبودية، والمتشابه هو موضع خضوع العقول لباريها؛ استسلامًا واعترافًا بقصورها. ذكره في "الفتح" (¬2). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في المراد بالمحكم والمتشابه: قال العلامة أبو عبد الله القرطبيّ: اختَلَف العلماء في المحكمات والمتشابهات على أقوال عديدة، فقال جابر بن عبد الله -وهو مقتضى قول الشعبي وسفيان الثورى وغيرهم-: المحكمات من آي القرآن ما عُرِف تأويله، وفُهِم معناه وتفسيره، والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل، مما استاثر الله تعالى بعلمه دون خلقه. قال بعضهم: ذلك مثلُ وقت قيام الساعة، وخروج يأجوج ومأجوج، والدجال، ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور. قال القرطبيّ: هذا أحسن ما قيل في المتشابه. وقال الربيع بن خُثَيم: إن الله تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر منه بعلم ما شاء. وقال أبو عثمان: المحكم فاتحة الكتاب التي لا تجزيء الصلاة إلا بها. وقال محمد ابن الفضل: سورة الإخلاص؛ لأنه ليس فيها إلا التوحيد فقط. وقد قيل: القرآن كله محكم؛ لقوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}. وقيل: كلّه متشابه؛ لقوله: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا} ¬

_ (¬1) "فتح" 9/ 74. (¬2) جـ 9/ 74.

وهذا -كما قال القرطبيّ- وليس في معنى الآية في شيء، فإن قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}: أي في النظم والرَّصف، وأنه حقّ من عند الله. ومعنى {كِتَابًا مُتَشَابِهًا}: أي يُشبه بعضه بعضًا، ويُصَدِّق بعضه بعضًا، وليس المراد بقوله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} هذا المعنى، وإنما المتشابه في هذه الآية من باب الاحتمال والاشتباه، من قوله: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة: 70] أي التبس علينا، أي يحتمل أنواعا كثيرة من البقر. والمراد بالمحكم ما في مقابلة هذا، وهو ما لا التباس فيه، ولا مجتمل إلا وجهًا واحدًا. وقيل: إن المتشابه ما يحتمل وجوهًا، ثُمّ إذا ردت الوجوه إلى وجه واحد، وأُبطل الباقي صار المتشابه محكمًا، فالمحكم أبدًا أصلٌ تُرَدُّ إليه الفروع، والمتشابه هو الفرع. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: المحكمات هو قوله في "سورة الأنعام": {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] إلى ثلاث، آيات وقوله في "بني إسرائيل": {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، قال ابنُ عطية: وهذا عندي مثال أَعطاه في المحكمات. وقال ابن عباس أيضًا: المحكمات ناسخه وحرامه وفرائضه وما يُؤمَن به ويعمل به، والمتشابه: المنسوخات ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه، وما يؤمن به، ولا يعمل به. وقال ابن مسعود وغيره: المحكمات الناسخات، والمتشابهات المنسوخات، وقاله قتادة والربيع والضحاك. وقال محمد بن جعفر بن الزبير: المحكمات هي التي فيها حُجّة الرب، وعِصْمَةُ العباد، ودفع الْخُصُوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وُضِعْنَ عليه، والمتشابهات لهنّ تصريف وتحريف وتأويل، ابْتَلَى اللهُ فيهن العباد. وقاله مجاهد، وابنُ إسحاق. قال ابن عطية: وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية. قال النحاس: أحسنُ ما قيل في المحكمات والمتشابهات: أن المحكمات ما كان قائمًا بنفسه، لا يَحتاج أن يُرجَع فيه إلى

غيره، نحوُ {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه: 82] والمتشابهات نحو: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] يُرجَع فيه إلى قوله جل وعلا: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ}، وإلى قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ} [النساء: 48]. قال القرطبيّ: ما قاله النحاس يُبَيِّن ما اختاره ابن عطية، وهو الجاري على وضع اللسان، وذلك أن المحكم اسم مفعول من أُحكِم، والإحكامُ: الإتقانُ، ولا شك في أنّ ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ولا تردد، إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته، وإتقان تركيبه، ومتى اختل أحد الأمرين جاء التشابه والإشكال. والله أعلم. وقال ابن خويزِ مَنْدَاد: للمتشابه وجوه، والذي يه يتعلق به الحكم ما اختَلَفَ فيه العلماء أيُّ الآيتين نسخت الأخرى، كقول علي وابن عباس -رضي الله عنهم- في الحامل المتوفى عنها زوجها: تَعْتَدُّ أقصى الأجلين، فكان عمر وزيد بن ثابت وابن مسعود وغيرهم -رضي الله عنهم- يقولون: وضع الحمل، ويقولون: سورة النساء القُصْرَى نَسَخت أربعةَ أشهُر وعشرًا، وكان علي وابن عباس يقولان: لم تُنسخ. وكاختلافهم في الوصية للوارث، هل نُسخت أم لم تنسخ. وكتعارض الآيتين أيُّهما أولى أن تُقَدَّم إذا لم يُعرَف النسخ، ولم توجد شرائطه، كقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] يَقتضِي الجمع بين الأقارب من ملك اليمين، وقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] يمنع ذلك. ومنه أيضًا تعارض الأخبار عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتعارض الأقيسة، فذلك المتشابه، وليس من المتشابه أن تقرأ الآية بقراءتين، ويكون الاسم مُحْتَمِلًا أو مُجملًا يَحتاج إلى تفسير؛ لأن الواجب منه قدر ما يتناوله الاسم أو جميعه، والقراءتان كالآيتين يجب العمل بموجبهما جميعًا، كما قريء: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] بالفتح والكسر. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى (¬1). ¬

_ (¬1) "الجامع لأحكام القرآن" 4/ 9 - 12.

[تنبيه]: قد اقتصر في "الفتح" على ذكر قولين من هذه، فقال: المحكم من القرآن ما وَضَح معناه، والمتشابة نقيضه، وسُمّي المحكم بذلك؛ لوضوح مفردات كلامه، وإتقان تركيبه، بخلاف المتشابه. وهذا هو معنى القول الذي رجحه ابن عطيّة. قال: وقيل: المحكم ما عُرِف المراد منه، إما بالظهور، وإما بالتأويل، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه، كقيام الساعة، وخروج الدجال، والحروفِ المقطعة في أوائل السور. وهذا هو القول الأول الذي استحسنه القرطبيّ. قال: وقيل في تفسير المحكم والمتشابه أقوال غير هذه نحوُ العشرة، ليس هذا موضع بسطها، وما ذكرته أشهرها، وأقربها إلى الصواب. وذكر الأستاذ أبو منصور البغدادي: أن الأخير هو الصَّحيح عندنا، وابن السمعاني أنه أحسن الأقوال، والمختار على طريقة أهل السنة، وعلى القول الأول جرى المتأخرون. انتهى ما في "الفتح" (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قال أبو منصور، وابن السمعاني هو الأرجح. وهو الذي استحسنه العلامة القرطبيّ، والحافظ ابن كثير (¬2)، والله تعالى أعلم. وقال الطيبيّ رحمه الله تعالى في "شرح المشكاة": قد افتقرنا في بيان هذا الحديث إلى الكشف عن المراد بالمحكم والمتشابه، فيتّضح المحِقُّ من المبطِل من أبواب التأويل، فنقول -وبالله التوفيق-: المراد بالمحكم ما اتضح معناه، والمتشابه بخلافه؛ لأن اللفظ الذي يفيد معنًى، إما أن يحتمل غيره أو لا، الثاني: النص، والأول إما أن تكون دلالته على ذلك المعنى راجحة أو لا، والأول هو الظاهر، والثاني إما أن يكون مساويه أو لا، والأول هو المجمل، والثاني المؤول، فالمشترك بين النص والظاهر هو المحكم، والمشترك بين المجمل والمؤول هو ¬

_ (¬1) "فتح" 9/ 73. (¬2) راجع "تفسير ابن كثير" 1/ 353.

المتشابه، هكذا ينبغي أن يقسّم؛ لأنه سبحانه وتعالى أوقع المحكم مقابلا للمتشابه في قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]، وهو ما لم يتّضح معناه، فالواجب أن يُفَسَّر المحكم بما يقابله مما يتّضح معناه. ويعضِد ما ذكرنا أسلوبُ الآية، وهو الجمع بين التفريق والتقسيم، وذلك أنه تعالى لمّا فَرّق ما جَمَع في معنى الكتاب بأن قال: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] أراد أن يُضِيف إلى كُلٍّ منهما ما يناسبهما من الحكم، فقال أوّلًا: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7]، وثانيًا قال: {وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] وكان يُمكن أن يقال: وأما الذين في قلوبهم استقامة فيتبعون المحكم، لكنه وضع موضع ذلك {وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا}، وإنما وضع {يَقُولُونَ آمَنَّا} موضع "يتبعون المحكم" لإيثار لفظ الرسوخ في الابتداء؛ لأن الرسوخ في العلم لا يحصل إلا بعد التتبع التام، والاجتهاد البليغ، فإذا استقام القلب على طريق الرشاد، ورَسَخَ القدمُ في العلم، أفصح صاحبه النطق بالقول الحق؛ إرشادًا للخلق، وكفى بدعاء الراسخين في العلم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] شاهدًا على أن {وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ} مقابِلٌ لقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}، وفيه إشارة إلى أنّ الوقف على قوله: {إِلَّا اللَّهُ}، والابتداءُ بقوله: {وَالرَّاسِخُونَ} وقفٌ تامّ، وإلى أن علم بعض المتشابه مختص بالله تعالى، وأنّ من حاول معرفته، هو الذي أشار إليه في الحديث بقوله: "فاحذروهم". انتهى (¬1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [تنبيه]: ذكر الإمام البخاري في "صحيحه" عن سعيد بن جبير قال رجل (¬2) ¬

_ (¬1) "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 618 - 619. (¬2) قال في "الفتح" 9/ 523: كأنّ هذا الرجل هو نافع بن الأزرق الذي صار بعد ذلك رأس الأزارقة من الخوارج، وكان يُجالس ابن عبّاس بمكة، ويسأله، ويُعارضه. انتهى.

لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ، قال: {فَإِذَا نُفِخَ في الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101] وقال: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27]، {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42] {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، فقد كتموا في هذه الآية، وقال: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات: 27] إلى قوله: {دَحَاهَا} [النازعات: 30]، فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ في يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت: 9]، إلى {طَائِعِينَ} [فصلت: 11] فذكر في هذا خلق الأرض قبل خلق السماء، قال: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا - عَزِيزًا حَكِيمًا - سَمِيعًا بَصِيرًا}، فكأنه كان ثم مضى. فقال -يعني ابن عباس-: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} [المؤمنون: 101] في النفخة الأولى، ثم ينفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم عند ذلك، ولا يتساءلون، ثم في النفخة الآخرة: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27)} [الصافات: 27]، وأما قوله: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42]، فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، وقال المشركون: تعالَوا نقول: لم نكن مشركين، فخُتِم على أفواههم، فتنطق جوارحهم بأعمالهم، فعند ذلك عُرِفَ أن الله لا يُكتَم حديثًا، وعنده {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية. وخلق الله الأرض في يومين، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين، ثم دحا الأرض -أي بسطها- ودَحْوُها أن أخرج منها الماء والمرعى، وخلق فيها الجبال والأشجار والآكام وما بينها في يومين آخرين، فذلك قوله: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] فجُعِلت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام، وخُلِقت السماء في يومين. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} سَمَّى نفسه ذلك، أي لم يزل ولا يزال كذلك، فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد، فلا يختلف عليك القرآن، فإن كلا من عند الله. انتهى (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. ¬

_ (¬1) راجع "صحيح البخاريّ" في "تفسير حم السجدة".

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في قوله عز وجل: {وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ}: قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى: اختَلَف العلماء في {وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ} هل هو كلام مقطوع مما قبله، أو هو معطوف على ما قبله، فتكون الواو للجمع، فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع مما قبله، وأن الكلام تم عند قوله: {إِلَّا اللَّهُ} هذا قول ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وعروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهم، وهو مذهب الكسائيّ، والأخفش، والفراء، وأبي عبيد، وغيرهم. قال أبو نَهِيك الأسدي: إنكم تَصِلُون هذه الآية، وإنها مقطوعة، وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}، وقال مثل هذا عمر بن عبد العزيز، وحكى الطبري نحوه عن يونس، عن أشهب، عن مالك بن أنس. و {يَقُولُونَ} على هذا خبرُ {وَالرَّاسِخُونَ}. قال الخطابيّ: وقد جعل الله تعالى آيات كتابه الذي أَمَرنا بالإيمان به، والتصديق بما فيه قسمين: محكمًا ومتشابهًا، فقال عز من قائل: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] إلى قوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، فأَعلَمَ أن المتشابه من الكتاب قد استأثر الله بعلمه، فلا يَعلَم تأويله أحد غيره، ثم أثنى الله عز وجل على الراسخين في العلم بأنهم {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}، ولولا صحة الإيمان منهم لم يستحقوا الثناء عليه، ومذهب أكثر العلماء أن الوقف التام في هذه الآية إنما هو عند قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}، وأن ما بعده استئناف كلام آخر، وهو قوله: {وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}. ورُوي ذلك عن ابن مسعود، وأبي بن كعب، وابن عباس، وعائشة -رضي الله عنهم-. وإنما رُوي عن مجاهد أنه نَسَقَ {وَالرَّاسِخُونَ} على ما قبله، وزَعَم أنهم يعلمونه، واحتج له بعض أهل اللغة، فقال: معناه: {وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ} يعلمونه قائلين آمنا، وزعم أن موضع {يَقُولُونَ} نَصْبٌ على الحال، وعامة أهل اللغة ينكرونه، ويستبعدونه؛ لأن العرب لا تُضمِر الفعل والمفعول معًا، ولا تَذكُر حالا إلا مع ظهور الفعل، فإذا لم يظهر

فعل فلا يكون حالٌ، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال: عبد الله راكبا، بمعنى أقبل عبد الله راكبا، وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل، كقوله: عبد الله يتكلم، يصلح بين الناس، فكان يصلح حالًا، كقول الشاعر -أنشدنيه أبو عمر قال: أنشدنا أبو عباس ثعلب-: أَرْسَلْتُ فِيهَا قَطِمًا (¬1) لُكَالِكَا ... يَقْصُرُ يَمْشِي وَيَطُولُ بَارِكَا أي يقصر ماشيًا. فكان قولُ عامة العلماء، مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده. وأيضًا فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه شيئًا عن الخلق، ويُثبِته لنفسه، ثم يكون له في ذلك شريك، ألا ترى قوله عز وجل: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، وقوله: {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187]، وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه بعلمه (¬2)، لا يَشركه فيه غيره، كذلك قوله تبارك وتعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]، ولو كانت الواو في قوله: {وَالرَّاسِخُونَ} للنَّسَقِ لم يكن لقوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] فائدة. والله أعلم. قال القرطبيّ: ما حكاه الخطابي من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره، فقد رُوي عن ابن عباس أن الراسخين معطوف على اسم الله عز وجل، وأنهم داخلون في علم المتشابه، وأنهم مع علمهم به يقولون: آمنا به. وقاله الربيع، ومحمد بن جعفر بن الزبير، والقاسم بن محمد، وغيرهم. و {يَقُولُونَ} على هذا التأويل نَصْبٌ على الحال من الراسخين، كما قال: الرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَهَا ... وَالْبَرْقُ يَلْمَعُ في الْغَمَامَه وهذ البيت يحتمل المعنيين، فيجوز أن يكون "البرق" مبتدأ، والخبر "يلمع" على ¬

_ (¬1) "القطم": الغضبان، والمشتهي اللحم وغيره. و"اللكالك" -بضم اللام الأولى وكسر الثانية: الجمل الضخم. (¬2) هكذا نسخة تفسير القرطبيّ "بعلمه"، والظاهر أن الصواب "به"، والله تعالى أعلم.

التأويل الأول، فيكون مقطوعا مما قبله، ويجوز أن يكون معطوفا على "الريح"، و"يلمع" في موضع الحال على التأويل الثاني، أي لامعًا. واحتج قائلوا هذه المقالة أيضًا بأن الله سبحانه مدحهم بالرسوخ في العلم، فكيف يَمدحهم، وهم جُهّال، وقد قال ابن عباس: أنا ممن يَعلَم تأويله. وقرأ مجاهد هذه الآية، وقال: أنا ممن يعلم تأويله، حكاه عنه إمام الحرمين أبو المعالي. قال القرطبيّ: وقد رَدّ بعضُ العلماء هذا القول إلى القول الأول، فقال: وتقدير تمام الكلام عند (الله) أن معناه: وما يعلم تأويله إلا الله -يعني تأويل المتشابهات، والراسخوان في العلم يعلمون بعضه، قائلين: آمنا به، كلٌّ من عند ربنا بما نُصِبَ من الدلائل في المحكم، ومكّن من رَدِّه إليه، فإذا علموا تأويل بعضه، ولم يعلموا البعض قالوا: آمنا بالجميع، كلٌّ من عند ربنا، وما لم يُحط به علمنا من الخفايا، مما في شرعه الصالح، فعلمه عند ربنا. [فإن قال قائل]: قد أشكل على الراسخين بعضُ تفسيره، حتى قال ابن عباس: لا أدري ما الأوّاه، ولا ما غِسْلِين؟. [قيل له]: هذا لا يلزم؛ لأن ابن عباس قد عَلِم بعد ذلك، ففسر ما وقف عليه. وجواب أقطع من هذا، وهو أنه سبحانه لم يقل: وكل راسخ، فيجبَ هذا، فإذا لم يعلمه أحد علمه الآخر. ورجح ابن فُورَك أن الراسخين يعلمون التأويل، وأطنب في ذلك، وفى قوله -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل" ما يبين لك ذلك: أي علمه معانيَ كتابك، والوقف على هذا يكون عند قوله: {وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ}، قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر (¬1): وهو الصحيح، فإن تسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوى في علمه جميع من يَفهَم كلام العرب، وفي أيّ شيء هو رسوخهم ¬

_ (¬1) هو شيخه القرطبيّ، صاحب كتاب "المفهم" المتوفّى سنة 656 هـ.

إذا لم يعلموا إلا ما يَعلم الجميع، لكن المتشابه يتنوع، فمنه ما لا يُعلَم البتة، كأمر الروح والساعة، مما استأثر الله بغيبه، وهذا لا يتعاطى علمه أحد، لا ابن عباس ولا غيره. فمن قال من العلماء الْحُذّاق بأن الراسخين لا يعلمون علم التشابه، فإنما أراد هذا النوع، وأما ما يمكن حمله على وجوه في اللغة، ومَنَاحٍ في كلام العرب فيُتَأوّل، ويُعلَم تأويله المسقيم، ويُزال ما فيه مما عسى أن يتعلق من تأويل غير مستقيم، كقوله في عيسى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] إلى غير ذلك، فلا يُسمّى أحدٌ راسخًا إلا بأن يعلم من هذا النوع كثيرًا بحسب ما قدر له، وأما من يقول: إن التشابه هو المنسوخ، فيستقيم على قوله إدخال الراسخين في علم التأويل، لكن تخصيصه المتشابهات بهذا غير صحيح. انتهى (¬1). وذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى بعد ذكر القولين المتقدّمين: ما نصّه: من العلماء من فَصّلَ هذا المقام، قال التأويل يُطلَق، ويراد به في القرآن معنيان: أحدهما: التأويل بمعنى حقيقة الشيء، وما يؤول أمره إليه، ومنه قوله تعالى: {وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 100]، وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف: 53] أي حقيقة ما أُخبِروا به من أمر المعاد، فإن أريد بالتأويل هذا، فالوقف على الجلالة؛ لأن حقائق الأمور، وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله عز وجل، ويكون قوله: {وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] مبتدأ، و {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] خبره. وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر، وهو التفسير والبيان، والتعبير عن الشيء، كقوله: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 36] أي بتفسيره، فإن أريد به هذا المعنى، فالوقف على {وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ} [آل عمران: 7]، لأنهم يعلمون، ويَفهَمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علمًا بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، وعلى ¬

_ (¬1) "الجامع لأحكام القرآن" 4/ 16 - 18.

هذا فيكون قوله: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] حالًا منهم، وساغ هذا، وإن كان من المعطوف دون المعطوف عليه، كقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] إلى قوله: {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا} الآية [الحشر: 10]، وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] أي وجاء الملائكة صفوفًا صفوفًا. انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما تقدّم عن أبي العباس القرطبيّ ترجيحه هو الأرجح، فتأمّله بتأنٍّ وإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة السادسة): قال أبو عبد الله القرطبيّ: قال شيخنا أبو العبّاس -يعني القرطبيّ، صاحب المفهم"-: متبعوا المتشابه لا يخلو أن يتبعوه، ويجمعوه طلبًا للتشكيك في القرآن، وإضلال العوام، كما فعلته الزنادقة، والقرامطة (¬2) الطاعنون في القرآن، أو طلبًا لاعتقاد ظواهر المتشابه، كما فعلته المجسمة، الذين جمعوا ما في الكتاب والسنة، مما ظاهره الجسمية، حتى اعتقدوا أن البارىء تعالى جسم مُجَسم، وصورة مصورة، ذات وجه وعين ويد وجنب ورجل وإصبع، تعالى الله عن ذلك، أو يَتَّبِعوه على جهة إبداء تأويلاتها، وإيضاح معانيها، أو كما فعل صَبِيغ حين أكثر على عمر فيه السؤال، فهذه أربعة اقسام: (الأول): لا شك في كفرهم، وأن حكم الله فيهم القتل، من غير استتابة. (الثاني): الصحيح القول بتكفيرهم؛ إذ لا فرق بينهم وبين عُبّاد الأصنام والصور، ويستتابون، فإن تابوا، وإلا قتلوا، كما يُفعل بمن ارتد. ¬

_ (¬1) "تفسير ابن كثير" 1/ 355. (¬2) "القرامطة": فرقة من الزنادقة الملاحدة أتباع الفلاسفة من الفُرْس الذين يعتقدون نبوّة زرادشت ومزدك وماتي، وكانوا يُبيحون المحرّمات. راجع "عقد الجمان" للعينيّ في حوادث سنة (278).

(الثالث): اختلفوا في جواز ذلك؛ بناءً على الخلاف في جواز تأويلها، وقد عُرِف أن مذهب السلف ترك التعرض لتأويلها، مع قطعهم باستحالة ظواهرها، فيقولون: أَمِرُّوها كما جاءت. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: إن أراد أن السلف يقولون باستحالة ظواهر الصفات، وأنه لا يجوز إثباتها لله تعالى، فهذا غلطٌ عليهم؛ لأن مذهبهم إثباتها لله تعالى على ظواهرها كما يليق بجلاله، وإن أراد أنهم يقولون باستحالة ثبوتها على الكيفية التي ثبتت بها للمخلوق، فهذا مسلمٌ، ولكن ظاهر عبارته فيها إيهام، فليُتنبّه. والله تعالى أعلم. قال: وذهب بعضهم إلى إبداء تأويلاتها، وحملها على ما يصح حمله في اللسان عليها من غير قطع بتعيين مجمل منها. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذهب هو الذهب الذي سلكه الخلف، وخالفوا فيه السلف، وهو مذهب فاسد، وقد بينّا ذلك في غير هذا الموضع، فتبصّر. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. قال: (الرابع): الحكم فيه الأدبُ البليغ، كما فعله عمر بصَبِيغ. وقال أبو بكر الأنباريّ: وقد كان الأئمة من السلف، يُعاقبون من يَسأل عن تفسير الحروف المشكلات في القرآن؛ لأن السائل إن كان يَبْغِي بسؤاله تخليد البدعة، وإثارة الفتنة، فهو حقيق بالنكير، وأعظم التعزير، وإن لم يكن ذلك مقصده، فقد استحق العَتْبَ بما اجترم من الذنب؛ إذ أوجد للمنافقين الملحدين في ذلك الوقت سبيلًا إلى أن يَقصِدوا ضَعَفَة المسلمين بالتشكيك والتضليل، في تحريف القرآن عن مناهج التنزيل، وحقائق التأويل، فمن ذلك: ما حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، أنبأنا سليمان بن حماد بن زيد، عن يزيد بن حازم، عن سليمان بن يسار، أن صَبِيغ بن عِسْل (¬1) قَدِم المدينه، فجعل يسأل ¬

_ (¬1) هو صبيغ بوزن أمير ابن شريك بن المنذر بن قطن بن قشع بن عِسل بكسر العين ابن عمرو بن يربوع التميميّ، وقد يُنسب إلى جده الأعلى، فيقال: صَبيغ بن عسل. =

عن متشابه القرآن، وعن أشياء، فبلغ ذلك عمرَ -رضي الله عنه-، فبعث إليه عمر فأحضره، وقد أَعَدَّ له عَرِاجين من عراجين النخل، فلما حَضَر قال له عمر: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صَبِيغ، فقال عمر -رضي الله عنه-: وأنا عبد الله عمر، ثم قام إليه فضرب رأسه بعرجون فشجه، ثم تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، فقد والله ذهب ما كنت أجد في رأسي. ثم إن الله تعالى ألهمه التوبة، وقذفها في قلبه، فتاب وحسنت توبته. انتهى (¬1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال: 48 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ ح وحَدَّثَنَا حَوْثَرَةُ (¬2) بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي غَالِبٍ (¬3)، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ، إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ"، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} الْآيَةَ [الزخرف: 58]). رجال هذا الإسناد: سبعة: 1 - (عَليُّ بْنُ الْمُنْذِرِ) الطَّرِيقيّ الكوفيّ، صدوقٌ يتشيّع [10] 2/ 21. 2 - (مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ) بن غَزْوان الضّبّيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوق، رُمي بالتشيّع [9] 2/ 21. 3 - (حَوْثَرَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ) -بفتح الحاء المهملة، وسكون الواو، بعدها مُثَلّثةٌ مفتوحة- ابن قديد الْمِنْقَريّ، أبو الأزهر البصريّ الورّاق، صدوقٌ من صغار [10]. ¬

_ = راجع "القاموس"، وشرحه في مادّة "صبغ" و"عسل". (¬1) تفسير القرطبي جـ 4 ص 14 - 15. (¬2) وقع في بعض النسخ "جوثرة" بالجيم بدل الحاء، وهو غلط، فتنبّه. (¬3) وقع في نسخة محمد فؤاد عبد الباقي: "أبو طالب" بالطاء المهملة بدل الغين المعجمة، وهو غلط.

رَوَى عن ابن عيينة، والقطان، وابن مهدي، ومحمد بن بشر العبدي، وأبي أسامة، وغيرهم. وروى عنه ابن ماجه، وابن خزيمة، وزكرياء الساجي، وابن جرير الطبري، وأبو حامد الحضرمي، وابن صاعد، وغيرهم. ذكره ابن حبان في "الثقات". وقال هو وإبراهيم بن محمد سنان: مات سنة (256). تفرّد به المصنّف (¬1)، وله في هذا الكتاب (4) أحاديث فقط برقم 48 و 518 و 1087 و 1266. 4 - (مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) الْعَبْديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة حافظٌ [9] 4/ 34. 5 - (حَجَّاجُ بْنُ دِينَارٍ) الأشجعيّ، وقيل: السَّلَمِيّ، مولاهم الواسطيّ، صدوقٌ (¬2) [7]. رَوَى عن الحكم بن عتيبة، ومنصور، وأبي بشر، ومعاوية بن قرة، وأبي جعفر الباقر، وأبي غالب صاحب أبي أمامة، وغيرهم. وروى عنه إسرائيل، وشعبة، وإسماعيل بن زكريا، وعيسى بن يونس، ومحمد بن بشر العبدي، ويعلى بن عبيد، وغيرهم. قال ابن المبارك: ثقة. وقال أحمد: ليس به بأس. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: صدوق ليس به بأس. وقال زهير بن حرب، ويعقوب بن شيبة، والعجلي: ثقة. وقال أبو زرعة: صالح صدوق مستقيم الحديث لا بأس به. وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، ولا يحتج به. وقال الترمذي: ثقة، مقارب الحديث. وذكره مسلم في "مقدمة كتابه" (¬3). وقال ابن خزيمة: في القلب منه. وقال ¬

_ (¬1) لكن ذكره بعضهم في "شيوخ أبي داود"، وقال: رَوَى عنه في "كتاب بدء الوحي"، وعندي أن هذا غير صحيح. والله أعلم. (¬2) وقال في "التقريب": لا بأس به، وما قلته أولى، لأن الجمهور على توثيقه، كما هو ظاهر من ترجمته، والذين جرحوه ليس جرحهم مفسّرًا، حتى يعارض قول الجمهور، فتنبّه. (¬3) ذكره أبو القاسم اللالكائي في رجال مسلم، وعندي أن هذا غير صحيح.

الدارقطني: ليس بالقوي. وقال أبو داود، وابن عمار: ثقة. وكذا قال ابن المديني. وقال عبدة بن سليمان: ثنا حجاج بن دينار، وكان ثَبْتًا. وذكره ابن حبان في "الثقات". أخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب (4) أحاديث فقط برقم 48 و1785 و 2784 و 3024. 6 - (أَبُو غَالِبٍ) -بالغين المعجمة- صاحب أبي إمامة البصريّ، نزيل أصبهان، قيل: اسمه الحَزَوَّر، وقيل: سعيد بن الحْزَوَّر، وقيل: نافع مولى خالد بن عبد الله الْقَسْريُّ، وقيل: الأمويّ، وقيل: مولى بني أسيد، وقيل: مولى عبد الرحمن الْحَضْرَميّ، وقيل: مولى بني راسب، وقيل: مولى بني ضُبيعة، وقيل: مولى باهلة، صدوقٌ يُخطىء [5]. رَوَى عن أبي إمامة الباهلي، وأنس بن مالك، وأم الدرداء. وروى عنه الأعمش، وحسين بن واقد المروزي، وحسين بن المنذر الخراسانيّ، وأبو خَلْدة خالد بن دينار، وحجاج بن دينار، والربيع بن صَبِيح، وعبد العزيز بن صُهيب، وصفوان بن سليم، ومالك بن دينار، وأبو مرزوق، ومبارك بن فَضَالة، وحماد بن سلمة، وسفيان بن عيينة، وآخرون. قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: صالح الحديث. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. وقال النسائيّ: ضعيف. وقال الدارقطنيّ: ثقة. وقال ابن عديّ: قد رُوي عن أبي غالب حديثُ الخوارج بطوله، وهو معروف به، ولم أر في أحاديثه حديثًا منكرًا، وأرجو أنه لا بأس به. وحسن الترمذي بعض أحاديثه، وصحّح بعضها. وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به، إلا فيما وافق الثقات. وقال ابن سعد: كان ضعيفًا. وقال الْبَرْقانيّ عن الدارقطنيّ: أبو غالب حَزَوَّر بصري يُعتَبر به. ووثقه موسى بن هارون. أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه. وله في هذا الكتاب (4) أحاديث فقط برقم 48 و172 و 1483 و 4002. 7 - (أَبُو أُمَامَةَ) صُدَيّ -بالتصغير- ابن عَجْلان بن الحارث، ويقال: ابن وهب،

ويقال: ابن عمرو بن وهب بن عريب بن وهب بن رِياح بن الحارث بن معن بن مالك ابن أَعْصُر الباهليّ الصحابيّ مشهور بكنيته، رَوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن عمر، وعثمان، وعلي، وأبي عبيدة بن الجراح، وعبادة بن الصامت، وعمرو بن عَبَسَة، وغيرهم. ورَوَى عنه سليمان ابن حبيب المحاربي، ومحمد بن زياد الألهانيّ، وأبو سَلّام الأسود، ومكحول الشامي، وشهر بن حوشب، والقاسم بن عبد الرحمن ورجاء بن حَيْوة، وسالم بن أبي الجعد، وخالد بن معدان، وأبو غالب الراسبي، وسليم بن عامر، وجماعة. قال ابن سعد: سكن الشام. وروى أبو يعلى من طريق أبي غالب، عن أبي أمامة، قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى قوم فانتهيت إليهم، وأنا طَاوٍ، وهم يأكلون الدم، فقالوا: هَلُمّ، قلت: إنما جئتُ أنهاكم عن هذا، فنمت وأنا مغلوب، فأتاني آت بإناء فيه شراب، فأخذته وشربته، فكَظَّني بطني (¬1)، فشَبِعتُ ورَوِيتُ، ثم قال لهم رجل منهم: أتاكم رجل من سَرَاة قومكم، فلم تُتحفوه، فأتوني بلبن، فقلت: لا حاجة لي به، وأريتهم بطني فأسلموا عن آخرهم. ورواه البيهقي في "الدلائل"، وزاد فيه: أنه أرسله إلى قومه باهلة. وقال ابن حبان كان مع علي بصفين، مات أبو أمامة الباهلي سنة ست وثمانين. قال ابن الْبَرقيّ بغير خلاف، وأثبت غيره الخلاف، فقيل: سنة إحدى، قاله محمد بن سعد. وقال عبد الصمد بن سعيد: ولما مات خَلَف ابنا يقال له: المغلس، وله -يعني صاحب الترجمة- مائة وست سنين، فقد صح عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مات، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وأخرج البخاري في "تاريخه" من طريق حُميد بن ربيعة: رأيت أبا أمامة خرج من عند الوليد بن عبد الملك في ولايته سنة ست وثمانين، ومات ابنه الوليد سنة ست وتسعين، قال: وقال الحسن -يعني ابن رافع عن ضمرة في "فضائل الصحابة" لخيثمة من طريق وهب بن صدقة، سمعت جدي يوسف بن حزن الباهلي، سمعت أبا أمامة ¬

_ (¬1) يقال: كَظّه الطعامُ: ملأه حتى لا يُطيق النّفَسَ اهـ "ق".

الباهلي يقول: لما نزلت: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الآية [الفتح: 18] قلت: يا رسول الله أنا ممن بايعك تحت الشجرة، قال: "أنت مني وأنا منك". وأخرج أبو يعلى من طريق رجاء بن حيوة، عن أبي أمامة: أنشأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غَزْوًا، فأتيته، فقلت: ادع الله لي بالشهادة، فقال: "اللهم سَلِّمْهم، وغنمهم ... " الحديث (¬1). وأخرج البيهقيّ من طريق سُلَيم بن عامر: جاء رجل إلى أبي أمامة، فقال: إني رأيت في منامي الملائكة تصلّي عليك كلما دخلت، وكلما خرجت، وكلما قمت، وكلما جلست. الحديث سنده صحيح. ذكره في "الإصابة" (¬2). وقال في "تهذيب التهذيب": وقال سليم بن عامر: قلت له: مثلُ مَن أنت يومئذ -يعني يوم حجة الوداع-؟ قال: أنا يومئذ ابن ثلاثين سنة. قال ابن عيينة: هو آخر من مات من الصحابة بالشام. وقال إسماعيل بن عياش، وأبو اليمان، وأحمد بن محمد بن عيسى، صاحب "تاريخ حمص": مات سنة إحدى وثمانين بحمص. وقال عمرو بن عليّ، وخليفة، وأبو عبيد، وغير واحد: مات سنة (86)، زاد بعضهم: وهو ابن (91) سنة. قال الحافظ: لا يستقيم هذا القدر من سِنِّه مع قوله: إنه كان يوم حجة الوداع ابن ثلاثين، بل مقتضاه أن يكون جاوز المائة بست سنين، أو أكثر. وقال ابن حبان: كان مع عليّ بصِفِّين. وقال البخاري: قال خالد بن خَلِيّ عن محمد بن حرب، عن حميد بن ربيعة: رأيت أبا أُمامة خارجا من عند الوليد في ولايته. وقال ضمرة: مات عبد الملك سنة (86) وهذا يُقَوّي قول مَن قال: إن أبا إمامة مات سنة (6). وفي الطبراني من طريق راشد بن سعد وغيره، عن أبي أُمامة ما يدل على أنه شَهِدَ أُحُدًا، لكن إسناده ضعيف (¬3). ¬

_ (¬1) رواه أحمد في "مسنده" 5/ 204 والطبراني في "الكبير" 19/ 89 والبيهقيّ في "دلائل النبوّة" 2/ 186، قال الحافظ الهيثميّ: رجال أحمد رجال الصحيح. (¬2) "الإصابة" 3/ 339 - 340. (¬3) "تهذيب التهذيب" 2/ 209 - 210.

أخرج له الجماعة، وله (250) حديثًا، أخرج البخاريّ منها خمسة، ومسلم ثلاثة، وله في هذا الكتاب (44) حديثًا. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله موثّقون. 3 - (ومنها): أن صحابيّه آخر من مات من الصحابة -رضي الله عنهم- بالشام. 4 - (ومنها): أن جملة ما رواه المصنّف لأبي أمامة -رضي الله عنه- (44) حديثًا، ولكلٍّ من حَوْثَرة، وحجاج بن دينار أربعة أحاديث، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ) صُدَيّ بن عجلان الباهليّ -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ، إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ) أي أُعطوه، فجملة "أوتوا" حال، وقد مقدّرة على رأي، والمستثنى منه أعمّ الأحوال، وصاحبها الضمير المستتر في خبر "كان". هكذا قال الطيبيّ، وتعقّبه السنديّ، وعبارته: وذو الحال فاعل "ما ضلّ"، لا الضمير المستتر في خبر "كان" كما توهّمه الطيبيّ، فإنه معنى فاسد، وإن كان الضمير المذكور راجعًا إلى فاعل "ما ضلّ"، فليُفهم. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن دعوى السنديّ فساد المعنى على ما قاله الطيبيّ مما لا وجه له، كما يدلّ عليه آخر كلامه، فافهم. والله تعالى أعلم. والمعنى: ما ضلّ قوم مَهديّون كائنين على حال من الأحوال إلا على إيتاء الجدل، يعني أن من ترك سبيل الهدى، وركب متن الضلال عارفًا بذلك لا بُدّ أن يسلُك طريق العناد واللَّجَاج، ولا يتمشّى له ذلك إلا بالجدل. قاله الطيبيّ. وقال في "المرعاة": والمعنى: ما كان وقوعهم في الضلالة إلا بسبب الجدال، وهو الخصام بالباطل، وضرب الحقّ به، وضرب الحقّ بعضه ببعض بإبداء التعارض والتدافع والتنافي بينهما، لا المناظرة لطلب الصواب، مع التفويض إلى الله عند العجز

عن معرفة الكنه. انتهى (¬1). (ثُمَّ تَلَا) أي قرأ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- توضيحًا لا ذكره بذكر مثال له، لا للاستدلال به على الخصم المذكور، فإنه لا يدلّ عليه. (هَذِهِ الْآيَةَ: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]) هكذا في رواية المصنّف، وفي رواية أحمد، والترمذيّ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]. وقوله: {مَا ضَرَبُوهُ} أي هذا المثل {لَكَ إِلَّا جَدَلًا} أي إلا لمخاصمتك، وإيذائك بالباطل، لا لطلب الحقّ. [فإن قلت]: قريشٌ ما كانوا على الهدى، فلا يصلح ذكرهم مثالًا. [قلت]: نُزّل تمكّنهم منه بواسطة البراهين الساطعة منزلة كونهم عليه، فحيث دفعوا بعد ذلك الحقّ بالباطل، وقرّروا الباطل بقولهم: {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} يريدون أنهم يعبدون الملائكة، وهم خير من عيسى، وقد عبده النصارى، فحيث صحّ لهم عبادته صحّ لنا عبادتهم بالأولى، فصاروا مثالًا لما فيه الكلام. وقيل: الأصحّ في معنى الآية أن عبد الله بن الزِّبَعرى قبل إسلامه جادل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} الآية [الأنبياء: 98]، آالهتنا أي الأصنام خير عندك أم عيسى؟، فإن كان في النار، فلتكن آلهتنا معه. والجواب عن هذه الشبهة بوجهين: الأول: أن "ما" لغير ذوي العقول، فالإشكال نشأ عن الجهل باللغة العربية. والثاني: أن عيسى والملائكة خُصّوا عن هؤلاء بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]. [تنبيه]: قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وكأن السبب في ذلك ما ذكره محمد بن ¬

_ (¬1) "المرعاة" 1/ 284.

إسحاق في "السيرة" -1440 - حيث قال: وجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما بلغني يومًا مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} الآية [الأنبياء: 98] ثم قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأقبل عبد الله بن الزِّبَعْري التميمي حتى جلس، فقال الوليد بن الغيرة له: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب وما قعد، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال عبد الله بن الزبعري: أما والله لو وجدته لخصمته، سلوا محمدًا أكلُّ ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرًا، والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم، فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعري، ورأوا أنه قد احتج وخاصم، فذُكِر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "كلُّ من أحب أن يُعبَد من دون الله فهو مع عبده"، فإنهم إنما يعبدون الشيطان، ومن أمرهم بعبادته، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]: أي عيسى وعزير ومن عُبد معهما من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله عز وجل، فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلالة أربابًا من دون الله، ونزل فيما يُذكر من أنهم يعبدون الملائكة، وأنهم بنات الله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} الآيات [الأنبياء: 26]، ونزل فيما يُذكر من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، وأنه يُعبد من دون الله، وعَجِب الوليد ومن حضره من حجته وخصومته: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57]: أي يصدون عن أمرك بذلك من قوله، ثم ذُكر عيسى عليه الصلاة والسلام، فقال: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً في الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف: 59، 61] أي ما وضع على يديه من الآيات من إحياء

الموتى، وإبراء الأسقام، فكفى به دليلًا على علم الساعة، يقول: {فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف: 61] انتهى (¬1). وقوله: {بَلْ هُمْ} أي الكفار {قَوْمٌ خَصِمُونَ} أي كثيرو الخصومة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي أمامة الباهليّ -رضي الله عنه- هذا حسنٌ (¬2). [فإن قلت]: ضعفه بعضهم؛ لأجل الكلام في أبي غالب. [قلت]: أبو غالب هذا رجل معروف، رَوَى عن جماعة، وروى عنه جماعة، ووثّقه موسى بن هارون، والدارقطنيّ، وقال ابن معين: صالح الحديث، وقال ابن عديّ: لا بأس به، وتكلم فيه غيرهم كما سبق في ترجمته، وصحح الترمذيّ حديثه هذا، وكذا صححه الحاكم في "المستدرك" (2/ 448)، ووافقه الذهبيّ، فمن كان بهذه الحالة، فأقلّ أحواله أن يكون حسن الحديث، فتبصّر بالإنصاف، ولا تَتَهَوَّر بالاعتساف. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (7/ 48) بهذا السند فقط، وأخرجه (الترمذيّ) في "التفسير" (3273) و (أحمد) في "مسنده" 5/ 252 و 256. و (الحاكم) في "المستدرك" 2/ 448 وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبيّ، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) "تفسير ابن كثير" 4/ 141 - 142. (¬2) حسّنه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى، وأحسن في ذلك، انظر "صحيح الترغيب والترهيب" حديث رقم (137). وأما قول الدكتور بشار: إسناد ضعيف بسبب أبي غالب، فليس بصواب، فتنبّه، ولا تكن أسير التقليد.

(المسألة الثالثة): في البحث عما يتعلّق بالجدل: قد تكلّمتُ فيما سبق في نبذة من معنى الجدل، ووعدت أن أتمّم البحث فيه هنا، فوفاءً بما وعدت أقول: قال الحافظ أبو بكر الخطيب رحمه الله: أما الجدل، فهو تردّد الكلام بين الخصمين إذا قصد كل واحد منهما إحكام قوله، ليدفع به قول خصمه، وهو مأخوذ من الإحكام، يقال: دِرْعٌ مجدولةٌ، إذا كانت محكمةَ النسج، وحبلٌ مجدُولٌ: إذا كان محُكم الْفَتْل، والجدالة: وجه الأرض إذا كان صلبًا، ولا يصحّ الجدل إلا من اثنين، ويصحّ النظر من واحد، والجدَل كلّه سؤال وجواب، فالسؤال هو الاستخبار، والجواب هو الإخبار. قال: احتجّ من ذهب إلى إبطال الجدال بقول الله تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ في آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [الشورى: 35]، وبقوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} الآية [آل عمران: 20]. ومن السنّة بحديث أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما ضلّ قوم ... " الحديث (¬1). وعن الخليل بن أحمد قال: "ما كان جدَلٌ قطّ إلا أتى بعده جدَلٌ يُبطله" (¬2). وعن إسحاق بن عيسى الطبّاع قال: رأيت مالك بن أنس يَعيب الجدال والمراء في الدين، قال: أفكلما كان رجلٌ أجدل من رجل أردنا أن يردّ ما جاء به جبريل إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- (¬3). وعن إسحاق بن عيسى بن الطباع قال: رأيت رجلًا من أهل المغرب جاء مالكًا، فقال: إن هذه الأهواء كثُرت قِبَلنا، فجعلت على نفسي إن أنا رأيتك أن آخذ بما تأمرني، فوصف له مالك شرائع الإسلام: الزكاة، والصلاة، والصوم، والحجّ، ثم قال: خذ ¬

_ (¬1) هو حديث حسنٌ كما أسلفناه قريبًا. (¬2) إسناده صحيح. (¬3) إسناده صحيح.

بهذا، ولا تُخاصم أحدًا في شيء. وعن عبد الله الأزديّ قال: حدّثني عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون بهذه الرسالة، وقرأها عليّ: "أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره، واتّباع سنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتركِ ما أحدث المُحدِثون في دينهم مما قد كُفُوا مؤونته، وجَرَت فيهم سنته، ثم اعلم أنه لم تكن بدعة قطّ إلا وقد مضى قبلها دليلٌ عليها، فعليك بتقوى الله، ولزوم السنّة، فإنها لك -بإذن الله- عِصمةٌ، وإنما جُعلت السنّة يُستنّ بها، ويُعتمد عليها، وإنما سنّها من علم ما في خلافها من الزلل والخلاف والتعمّق، فارض لنفسك ما رَضُوا لأنفسهم، فإنهم بعلم وقَفُوا، وببصرٍ ما كفّوا، ولهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضلٍ لو كان فيها أحرى، وإنهم لهم السابقون، فإن كان الهدى ما أحدثتم، وما أنتم عليه لقد سبقتموهم، ولئن قلتم: حَدَثَ حَدَثٌ بعدهم فما أحدثه إلا من اتّبع غير سبيلهم، ورَغِب بنفسه عنهم، وقد وضعوا ما يَكفِي، وتكلّموا بما يَشفِي، فما دونهم مُقَصِّر، ولا فوقهم محسنٌ، وإنهم من ذلك لعلى هدى مستقيم، فارجعوا إلى معالم الهدى، وقولوا كما قالوا، ولا تُفرّقوا بين ما جَمَعوا، ولا تَجمعوا بين ما فرّقوا، فإنهم جُعلوا لكم أئمة وقادة، هم حَمَلُوا إليكم كتاب الله، وسنّة نبيّه -صلى الله عليه وسلم-، فهم على ما حَمَلوا إليكم من ذلك أُمناءُ، وعليكم فيه شُهداء، واحذروا الجدل، فإنه يُقرّبكم إلى كلّ موبقة، ولا يُسْلِمكم إلى ثقة. فنظرنا في كتاب الله تعالى، وإذا فيه ما يدلّ على الجدال والحِجَاج، فمن ذلك قوله تبارك وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الآية [النحل: 125]، فأمر الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية بالجدال، وعلّمه فيها جميع آدابه، من الرفق والبيان والتزام الحقّ والرجوع إلى ما أوجبته الحجة. وقال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الآية [العنكبوت: 46]. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ في رَبِّهِ} الآية [البقرة: 258]. وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123]، وكتاب الله تعالى لا

يتعارض، ولا يَختلف، فتضمّن الكتاب ذمّ الجدال، والأمرَ به، فعلمنا علمًا يقينًا أن الذي ذمّه غير الذي أمر به، وأن من الجدال ما هو محمود مأمورٌ به، ومنه مذمومٌ منهيّ عنه، فطلبنا البيان لكلّ واحد من الأمرين، فوجدناه تعالى قد قال: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر: 5]، وقال: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ في آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 35]، فبيّن الله في هاتين الآيتين الجدال المذموم، وأعلمنا أنه الجدال بغير حجة، والجدال في الباطل. فالجدال المذموم وجهان: أحدهما: الجدال بغير علم. والثاني: الجدال بالشَّغَب والتمويه؛ نُصرةً للباطل بعد ظهور الحقّ وبيانه، قال الله تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر: 5]. وأما الجدال المحقّ، فمن النصيحة في الدين، ألا ترى إلى قوم نوح عليه السلام حيث قالوا: {يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32]، وجوابه لهم: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34]، وعلى هذا جرت سُننٌ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأخرج بسنده عن أنس -رضي الله عنه- أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" (¬1). فأوجب المناظرة للمشركين، كما أوجب النفقة والجهاد في سبيل الله، وعلّمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وَضَع السؤال موضعه، وكيفيّةَ المحاجّة في الحديث الذي ذَكَر فيه محاجّة آدم موسى عليهما السلام. ثم أخرج بسنده عن طاوس، قال: سمعت أبا هريرة -رضي الله عنه- يُحدّث عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "احتجّ آدم وموسى، فقال موسى يا آدم أنت أبونا خَيّبتنا، وأخرجتنا من الجنّة، فقال له آدم: يا موسى اصطفاك الله برسالته، وكتب لك التوراة بيده، لم تلومني على أمر قدّره الله عليّ قبل أن يخلقني ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه أبو داود 2504، والنسائي 6/ 7، والدارميّ 2/ 213، والحاكم 2/ 81، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبيّ.

بأربعين سنة؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فحجّ آدم موسى" (¬1). يعني آدم هو حجّ موسى. قال الخطيب: وَضَع موسى الملامة في غير موضعها، فصار محجوجًا، وذلك أنه لام آدم على أمر لم يفعله، وهو خروج الناس من الجنّة، وإنما هو فعل الله تعالى، ولو أن موسى لام آدم على خطيئته الوجبة لذلك لكان واضعًا للملامة موضعها، ولكان آدم محجوجًا، وليس أحدٌ ملومًا إلا على ما يفعله، لا على ما تولّد من فعله مما فعله غير، والكافر إنما يُلام على فعل الكفر، لا على دخول النار، والقاتل إنما يُلام على فعله لا على موت مقتوله، ولا على أخذ القصاص منه. فعلّمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث كيف نسأل عند المحاجّة، وبين لنا أن المحاجة جائزة، وأن من أخطأ موضع السؤال كان محجوجًا، وظهر بذلك قول الله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151]. وليس هذا الحديث الذي ذكرناه من باب إثبات القَدَر في شيء، وإنما هو وارد فيما وصفْنَاه من محاجّة آدم وموسى، وإثبات القدر إنما صحّ في آيات وأحاديث أُخَر. وعن الشعبيّ، قال: قال عمر لزياد بن حُدير: أتدري ما يَهدِم الإسلام؟. فلا أدري ما أجابه، قال: فقال عمر: زَلّة عالمٍ، وجدالُ منافقٍ، وأئمة مُضلّون". وقد تَحاجّ المهاجرون والأنصار، وحاجّ عبد الله بن عبّاس الخوارج بأمر عليّ بن أبي طالب، وما أَنكَر أحدٌ من الصحابة قطّ الجدال في طلب الحقّ. وأما التابعون ومن بعدهم، فتوسّعوا في ذلك، فثبت أن الجدال المحمود هو طلب الحقّ ونصره، وإظهار الباطل، وبيان فساده، وأن الخصام بالباطل هو اللدد الذي قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "أبعض الرجال إلى الله الألدّ الخصم (¬2). ¬

_ (¬1) "إسناده صحيح". (¬2) متّفقٌ عليه.

وعن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخَصْم" (¬1). قال: وجميع ما حكينا أنه تعلّق به من أنكر المجادلة، محمولٌ على أنه أريد به الجدال المذموم الذي وصفناه، على أن مالك بن أنس قد بيّنه، وأنه الجدَلُ الذي يُقصد به ردّ ما جاء جبريل إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك قولُ الخليل: "ما كان جدَلٌ قطّ إلا أتى بعده جدَلٌ يُبطله"، أراد به الجدال الذي ينصر به الباطل؛ لأن ما تقدّم وكان حقّا لا يأتي بعده شيء يُبطله، وهو في معنى قولِ عمر بن عبد العزيز: "من جَعَل دينه غَرَضًا للخصومات أكثر التنقّل" (¬2). انتهى كلام الحافظ الخطيب رحمه الله تعالى (¬3)، وهو كلام نفيس، وبحثٌ أنيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال: 48 - (حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِليٍّ، أَبُو هَاشِمِ بْنِ أَبِي خِدَاشٍ الْمُوْصِليُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِحْصَنٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَقْبَلُ اللَّهُ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ صَوْمًا، وَلَا صَلَاةً، وَلَا صَدَقَةً، وَلَا حَجًّا، وَلَا عُمْرَةً، وَلَا جِهَادًا، وَلَا صَرْفًا، وَلَا عَدْلًا، يَخْرُجُ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا تَخْرُجُ الشَّعَرَةُ مِنَ الْعَجِينِ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (دَاوُدُ بْنُ سُلَيْمَانَ) بن حفص الْعَسْكَرِيُّ، أبو سهل الدّقّاقُ السَّامَرِيّ، مولى بني هاشم، لقبه بُنَان، صدوقٌ [10]. رَوَى عن أبي معاوية الضرير، وحسين بن علي الجعفي، وكثير بن هشام، ومحمد ¬

_ (¬1) متّفقٌ عليه. (¬2) حديث صحيح رواه الآجريّ في "الشريعة" ص 56 واللالكائيّ في "أصول الاعتقاد" (216). (¬3) راجع "الفقيه والمتفقّه" 1/ 551 - 562.

ابن خِداش، ومحمد الدولابي، وغيرهم. وروى عنه النسائي، وابن ماجه، وابن أبي داود، وعلي بن سعيد العسكري، والخرائطي، ومحمد بن العباس الأخرم، وغيرهم. قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه مع أبي، وهو صدوق. وقال الخطيب: كان ثقة. وذكره النسائي في "أسماء شيوخه"، وقال: شويخ كتبنا عنه بالثغر صدوق. تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم 49 و3342. 2 - (مُحَمَّدُ بْنُ عِليٍّ، أَبُو هَاشِمِ بْنِ أَبِي خِدَاشٍ) -بكسر المعجمة، وتخفيف الدال- الْمُوْصِليُّ، ثقة عابد [10]. رَوَى عن الْمُعَافَى بن عمران، وعيسى بن يونس، وابن عيينة، وعفيف بن سالم، والقاسم بن يزيد الجرمي، ومحمد بن محصن الْعُكَاشي، وغيرهم. ورَوَى عنه ابن أخيه عبد الله بن عبد الصمد بن أبي خداش، ومحمد بن عبد الله بن عمار الموصلي، وداود بن سليمان العسكري، وعلي بن حرب، ومحمد بن مسلم بن وَارَة، وغيرهم. قال العجلي: ثقة رجل صالح. وقال تمتام: قلت لابن معين: كتبتُ "جامع الثوري" عن أبي هاشم، عن المعافى، فقال: إن هذا الرجل نظير المعافى، أو أفضل منه. وعن بشر بن الحارث أنه كان يقول: وددت أني ألقى الله تعالى بمثل عمل أبي هاشم. وقال أحمد بن دباس الأزدي: كنا عند المعافى، فأقبل أبو هاشم، فقال: من القوم -يعني الأبدال-. وقال العجلي: كلُّ شيء رُوي عن أبي هاشم حديثان. وقال إدريس بن سُليم: كنا عند غسان ابن الرَّبيع، أو يعلى بن مهدي، فجاء نَعْيُ أبي هاشم، وقال قائل: مات شيخ الموصل، فقال: نعم، وشيخ الجزيرة ومصر والشام. قال أبو زكريا في "تاريخ المُوْصِل": من أهل الصلاح والفضل والجهاد، قُتل في سبيل الله تعالى بشِمْشَاط مُقبلًا غير مُدْبر سنة اثنتين وعشرين ومائتين. تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط (¬1). ¬

_ (¬1) وله عند النسائيّ حديث واحد أيضًا، وهو حديث عائشة رضي الله عنها رقم =

3 - (مُحَمَّدُ بْنُ مِحْصَنٍ) نُسِبَ إلى جدّه الأعلى، هو: محمد بن إسحاق بن إبراهيم ابن محمد بن عُكاشَة بن مِحْصَن الأسديّ الْعُكَاشيّ، كذّبوه [8]. رَوَى عن إبراهيم بن أبي عَبْلة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والأعمش، وغيرهم. ورَوَى عنه أبو هاشم محمد بن خِداش الوصلي، ومُصعَب بن سعيد، وسليمان ابن سلمة الخبائري، وغيرهم. قال البخاري عن يحيى بن معين: كذّاب. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبو حاتم: كذاب، وقال في موضع آخر: مجهول. وقال ابن حبان: شيخ يضع الحديث على الثقات، لا يحل ذكره إلا على سبيل القدح فيه. وقال الدارقطنيّ: متروك يَضَعُ. ورَوَى له أبو أحمد أحاديث، ثم قال: وهذه الأحاديث مع غيرها لمحمد بن إسحاق كلها مناكير، موضوعة. وقال ابن حبان أيضا: يروي المقلوبات عن الثقات، لا يكتب حديثه إلا للاعتبار، وقال ابن أبي حاتم: رأى أبي معي أحاديث من حديثه، فقال: هذه الأحاديث كذب موضوعة. وقال العقيليّ: الغالب على حديثه الوهم والنكارة، وأورد له بسند صحيح إلى أبي بكر الصديق حديث: "من أكرم مؤمنا فكأنما أكرم الله تعالى"، وقال: حديث باطل لا أصل له. وقال الأزدي: منكر الحديث. تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط. 4 - (إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَةَ) -بسكون الموحّدة- واسمه شِمْر -بكسر المعجمة- ابن يقظان بن عبد الله الْمُرْتحل، أبو إسماعيل، ويقال: أبو سعيد الرمليّ، وقيل: الدمشقيّ، ثقة [5]. أرسل عن عتبة بن غَزْوان، ورَوَى عن أَبِي أُبَيّ بن أم حَرَام امرأة عبادة، وأنس بن مالك، وأم الدرداء الصغرى، وبلال بن أبي الدرداء، وعقبة بن وَسّاج، وعبد الله ¬

_ = (2656) "وقّت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأهل المدينة ذا الحليفة".

الدَّيْلميّ من وجه ضعيف، بل موضوع، وغيرهم. ورَوى عنه مالك، والليث، وابن المبارك، وابن إسحاق، وآخرون. قال ابن معين ودحيم ويعقوب بن سفيان والنسائي: ثقة، وقال ابن المديني: كان أحد الثقات، وقال أبو حاتم: صدوق. وقال الذُّهْليّ: يا لَكَ من رجل. وقال الدارقطني: الطرُق إليه ليست تصفو، وهو ثقة، لا يخالف الثقات، إذا روى عنه ثقة. وفي كتاب ابن أبي حاتم عن أبيه: رأى ابن عمر، وروى عن واثلة بن الأسقع، وهو صدوق ثقة. وقال البخاري في "التاريخ": سمع ابن عمر. وأخرج الطبراني في "مسند الشاميين" من طريق إبراهيم قال: رأيت ابن عمر يَحْتَبي يوم الجمعة. انتهى. وقال الذهبي في "مختصر المستدرك": أرسل عن ابن عمر، وتبعه العلائي في "المراسيل"، فقال: لم يدرك ابن عمر، وهو متعقب بما تقدّم آنفًا. وقال النسائي في "التمييز": ليس به بأس. وقال الخطيب: ثقة من تابعيّ أهل الشام، يُجمَع حديثه. وقال ابن عبد البر في "التمهيد": كان ثقة فاضلا له أدبٌ، ومعرفة، وكان يقول الشعر الحسن. انتهى. وأغرب يحيى بن يحيى الليثي، فقال في "الموطإ" عن إبراهيم بن عبد الله بن أبي عبلة، و"عبد الله" زيادة لا حاجة إليها. وقال ضمرة بن ربيعة: ما رأيت أفصح منه، مات سنة إحدى أو اثنين وخمسين ومائة، كذا قال محمد بن أبي أسامة، وأبو مسلم المستملي، عن ضمرة. وقال غير واحد عن ضمرة: مات سنة (52) من غير شكّ، وكذا قال ابن يونس، وقال حيوة بن شُريح عن ضمرة: مات سنة اثنتين أو ثلاث وخمسين. أخرج له الجماعة، سوى الترمذيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم 49 و 3448. 5 - (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الدَّيْلَمِيِّ) هو: عبد الله بن فَيْروز، أبو بِشْر، ويقال: أبو بُسْر، أخو الضحاك بن فيروز، وعَمّ الْعَرِيف بن عَيّاش بن فيروز، كان يسكن بيت المقدس، من كبار التابعين، ومنهم من ذكره في الصحابة [2]. رَوَى عن أبيه، وأُبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وحذيفة بن اليمان،

وعبد الله بن عمرو بن العاص، ويعلى بن أمية، وغيرهم. ورَوى عنه ربيعة بن يزيد على خلاف فيه، وأبو إدريس الْخَوْلانيّ، وعروة بن رُويم، ووهيب بن خالد الحمصيّ، ويحيى ابن أبي عمرو الشيباني، وإبراهيم بن أبي عَبْلة، إن كان محفوظًا، وغيرهم. قال ابن معين: ثقة. وقال العجلي: شامي تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وذكره ابن قانع "في معجم الصحابة"، وأبو زرعة الدمشقي في تابعي أهل الشام، وأما ابن حبان فقال: هو عبد الله بن دَيْلَم بن هَوْشَع الحميري، عِداده في أهل مصر، كذا قال. وقال أبو أحمد الحاكم في "الكنى": قال مسلم: أبو بشر -يعني بالمعجمة- قال: وقد بَيّنّا أن ذلك خطأ أخطأ فيه مسلم وغيره، وخليق أن يكون محمد -يعني البخاري- قد اشتبه عليه مع جلالته، فلما نقله مسلم من كتابه تابعه عليه، ومن تأمل كتاب مسلم في "الكنى" عَلِم أنه منقول لمن كتاب محمد حَذْوَ الْقُذَّة بالْقُذّة، وتَجَلّد في نقله حَقّ الجلادة؛ إذ لم ينسبه إلى قائله، والله يغفر لنا وله. انتهى. أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب (4) أحاديث فقط برقم 49 و 74 و 1398 و 3368. 6 - (حُذَيْفَةُ) بن الْيَمَان، واسم اليمان: حُسَيل -مصغّرًا- ويقال: حِسْل بكسر، فسكون- بن جابر بن ربيعة بن فَرْوة بن الحارث بن مازن بن قطيعة بن عَبْس الْعَبْسيّ -بفتح المهملة، وسكون الموحّدة- حليف بني عبد الأشهل، كان أبوه أصاب دمًا، فهَرَب إلى المدينة، فحالف بني عبد الأشهل، فسماه قومه اليمان؛ لأنه حالف اليمانية، وتزوّج والدة حذيفة من بني عبد الأشهل، وأسلم هو وأبوه، وأرادا حضور بدر، فأخذهما المشركون، فاستحلفوهما فحلفا لهم أن لا يشهدا، فقال لهما النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نَفِي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم"، وشهدا أُحُدًا، فقتل اليمان بها. رَوَى حذيفة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن عمر، وروى عنه جابر بن عبد الله، وجندب بن عبد الله البجلي، وعبد الله بن يزيد الخطمي، وأبو الطفيل، وغيرهم من الصحابة -رضي الله عنهم-، وحُصين بن جندب أبو ظَبْيان، ورِبْعي بن حِرَاش، وزِرّ بن حُبيش، وزيد بن وهب،

وأبو وائل، وصِلَةُ بن زُفَر، وأبو إدريس الخولاني، وعبد الله بن عُكيم، والأسود بن يزيد النخعي، وأخوه عبد الرحمن بن يزيد، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وهَمّام بن الحارث، ويزيد بن شريك التيمي، وجماعة. قال العجلي: استعمله عمر على المدائن، ومات بعد قتل عثمان بأربعين يومًا، سكن الكوفة، وكان صاحب سر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومناقبه كثيرة مشهورة. وقال علي بن زيد بن جُدْعان عن ابن المسيب، عن حذيفة: خَيَّرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين الهجرة والنُّصْرة، فاخترت النُّصرة. وقال عبد الله بن يزيد الخطمي عن حذيفة: لقد حدثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما كان وما يكون حتى تقوم الساعة. رواه مسلم. وكانت له فتوحات سنة (22) في الدِّينَوَر، وماسَبَذَان، وهَمَذَان، والرَّيّ، وغيرها. وقال ابن نُمير وغيره: مات سنة (36) -رضي الله عنه-. أخرج له الجماعة، وله أكثر من (100) حديث، اتفق الشيخان على (12) وانفرد البخاريّ بـ (8) ومسلم بـ (17) حديثًا، وله في هذا الكتاب (35) حديثًا. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَن حُذَيْفَةَ) -رضي الله عنه- أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَقْبَلُ اللَّهُ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ صَوْمًا، وَلَا صَلَاةً، وَلَا صَدَقَةً، وَلَا حَجًّا، وَلَا عُمْرَةً، وَلَا جِهَادًا، وَلَا صَرْفًا، وَلَا عَدْلًا) قيل: هما التوبة والفدية، وكأن المراد التوبة من غير البدعة. قاله السنديّ. وقال في "النهاية": قد تكرّرت هاتان اللفظتان في الحديث، فالصرف: التوبة، وقيل: النافلة، والعدل: الفِدية، وقيل: الفريضة. انتهى (¬1). (يَخْرُجُ مِنَ الْإِسْلَامِ كَما تَخْرُجُ الشَّعَرَةُ) واحدة الشعر، وهو بفتح، فسكون، ويُجمع على شُعور، كفلس وفلوس، بفتحتين، ويُجمع على أشعار، كسبب وأسباب، وهو من الإنسان وغيره مذكّر. قاله الفيّوميّ (¬2) (مِنَ الْعَجِينِ) بفتح، فكسر، فَعِيل بمعنى مفعول، يقال: عجنَت المرأة العجين عَجْنًا من ¬

_ (¬1) "النهاية" 3/ 24. (¬2) "المصباح المنير" 1/ 314 - 315.

باب ضرب. والكلام على التشبيه، شبّه سُرعة خروجه من الإسلام بسهولة، وانسلاخه منه دون أن يبقى له منه أثرٌ بخروج الشعرة من خلال العجين دون أن يبقى عليها شيء من آثار العجين. وهذا على تقدير صحّة الحديث محمول على البدع التي يحكم على صاحبها بالرّدّة، لا على جميع أنواع البدع، وهو معنى قول الله عز وجل في حقّ الكفّار: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]. والله تعالى أعلم بالصواب. [تنبيه]: حديث حُذيفة -رضي الله عنه- هذا مما تفرّد به المصنّف، لم يُخرجه غيره، وهو موضوعٌ؛ لأنه من رواية محمد بن محِصن، وهو كذّاب، كما تقدّم في ترجمته، والله تعالى أعلم بالصواب. [تنبيه]: قال الإمام الحافظ الطبرانيّ رحمه الله في "المعجم الأوسط" 4/ 463 الحديث رقم (4202): حدّثنا عليّ بن عبد الله الفرغانيّ، قال: ثنا هارون بن موسى الْفَرْويّ، قال: حدّثنا أبو ضمرة أنس بن عياض، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله حجب التوبة عن صاحب كلّ بدعة". وهذا إسناد صحيح، رجاله رجال الشيخين، غير هارون بن موسى الْفَرْويّ، وقد روى عنه جماعة، ووثقه الدارقطنيّ، وابن حبّان، ومسلمة بن القاسم، وقال النسائيّ: لا بأس به. وقال أبو حاتم: شيخ. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث الصحيح يُغني عن الحديث الموضوع الذي أورده المصنّف، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال: 50 - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مَنْصُورٍ الْحَنَّاطُ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْمُغِيرةِ، عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَبَى اللَّه أَنْ يَقْبَلَ عَمَلَ

صَاحِبِ بِدْعَةٍ حَتَّى يَدَعَ بِدْعَتُه"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ) بن حُصين الكنديّ، أبو سعيد الأشجّ الكوفيّ، أحد مشايخ الأئمة الستةَ دون واسطة، ثقة، من صغار [10] 1/ 11. 2 - (بِشْرُ بْنُ مَنْصُورٍ الحُنَّاطُ) -بالحاء المهملة والنون (¬1) - صدوقٌ [8]. وقال في "تهذيب التهذيب": جـ: 1 ص: 40 بشر بن منصور الحناط عن أبي زيد، عن أبي المغيرة، عن ابن عباس بحديث: "أبَى الله أن يَقبَل عمل صاحب بدعة ... " الحديث، وعنه به أبو سعيد الأشجّ قال: وكان ثقة. وقال أبو زرعة: لا أعرفه، ولا أعرف أبا زيد. وقال ابن أبي حاتم: رَوَى عبد الرحمن بن مهدي، عن بِشْر بن منصور الحناط، عن شعيب بن عمرو، قاله في ترجمة شعيب، فإن كان ابن مهدي رَوَى عنه فقد ثبتت عدالته، ويحتمل أن يكون هو السليمي. انتهى. تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط. 3 - (أَبُو زَيْدٍ) مجهول [7] وقيل: هو عبد الملك بن ميسرة. قاله في "التقريب". وقال في "تهذيب التهذيب": "أبو زيد" عن أبي المغيرة، عن ابن عبّاس بحديث: "أبي الله أن يَقبَل عمل صاحب بدعة"، وعنه بشر بن منصور الحنّاط، قال أبو زرعة: لا أعرف أبا زيد، ولا أبا المغيرة. وقال أبو القاسم الطبرانيّ: أبو زيد عندي هو عبد الملك ابن ميسرة الزّرّاد، كذا قال، وفيه نظر. انتهى. تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط. 4 - (أبو المغيرة) مجهول [4] قاله في "التقريب". وقال في "تهذيب التهذيب": أبو المغيرة عن ابن عباس في ذمّ البدعة، روى بشر ¬

_ (¬1) وقع في بعض النسخ "الخيّاط" بالخاء المعجمة، والتحتانية، بدل الحاء المهملة، والنون، وهو تصحيف، فتنبّه.

بن منصور عن أبي زيد عنه، قال أبو زرعة: لا أعرفهم. انتهى. تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط. 5 - (عَبْدُ اللَّه بْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما 3/ 27. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أبَى اللَّهُ) أي امتنع (أَنْ يَقْبَلَ عَمَلَ صَاحِبِ بِدْعَةٍ) أي أنه لا يقبل صالح عملهم، ولو شفع لهم شفيع في قبولهم فرضًا، ولإفادة هذا المعنى قيل: "أبي الله"، وإلا فلو قيل: لا يقبل الله لكفى. قاله السنديّ (حَتَّى يَدَعَ بِدْعَته) غاية لعدم القبول، فيدُلّ على أنه إن تاب عن بدعته يُقبل عمله الذي عمله في حال البدعة، ولو جُعل غاية للعمل لدلّ على أنه لا يقبل عمله الذي عمله حال البدعة وإن تاب، وهو بعيد لفظًا ومعنًى، ولعلّ المراد بالبدعة الاعتقاد الفاسد، دون العمل الفاسد كما عليه الاصطلاح اليوم. قاله السنديّ. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لو صحّ الحديث لما كان للتخصيص وجه، فإنه يدل على عموم البدع الاعتقاديّة والأعمالية، فتفطّن. والله تعالى أعلم. [تنبيه]: حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف، وهو ضعيفٌ؛ لجهالة رجال إسناده، كما سبق في تراجمهم آنفًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال: 51 - (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدِّمَشْقِي، وَهَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَرْدَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ، وَهُوَ بَاطِلٌ بُنِيَ لَهُ قَصْرٌ في رَبَضِ الجَنَّةِ، وَمَنْ تَرَكَ المِرَاءَ، وَهُوَ مُحِقٌّ بُنِيَ لَهُ في وَسَطِهَا، وَمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ بُنِيَ لَهُ في أَعْلَاهَا") * رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدِّمَشْقِيُّ) هو: عبد الرحمن بن إبراهيم بن عمرو بن

ميمون القرشي الأموي مولى آل عثمان، أبو سعيد الدمشقي القاضي المعروف بدُحيم ابن اليتيم، ثقة حافظٌ متقنٌ [10]. رَوَى عن الوليد بن مسلم، وسفيان بن عيينة، ومروان بن معاوية، وعُمر بن عبد الواحد، وابن أبي فُديك، وأبي ضمرة، وبشر بن بكر التِّنِّيسيّ، وحبيب بن إسحاق، وأيوب بن سُويد الرَّمْليّ، ومحمد بن شعيب بن شابور، ومعروف الخياط التابعي، وجماعة. ورَوى عنه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وروى النسائي أيضًا عن أحمد بن المُعَلَّى القاضي، وزكرياء بن يحيى السِّجزي عنه، وابناه: إبراهيم، وعمرو، وبَقِيّ بن مَخْلَد، والحسن بن محمد الزعفرانيّ، وهو من أقرانه، وأبوا زرعة: الرازيُّ، والدمشقيّ، وأبو حاتم، ويعقوب بن سفيان، وإبراهيم الحربي، وأحمد ابن منصور الرَّمَاديّ، وجعفر بن محمد الفِرْيابيّ، وعبد الله بن محمد بن يسار الفرهيانيّ، ومحمد بن الحسن بن قتيبة، ومحمد بن خُرَيم الْعُقيليّ، وجماعة. قال عبدان الأهوازي: سمعت الحسن بن علي بن بَحْر يقول: قَدِمَ دُحَيم بغداد، فرأيت أبي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وخلف بن سالم قعودا بين يديه. وقال الخطيب: كان ينتحل في الفقه مذهب الأوزاعي. وقال ابن يونس: قدم مصر، وهو ثقة ثبت. وقال أبو بكر المَرُّوذِيُّ: وسمعته -يعني أحمد- يثني علي دُحيم، ويقول: هو عاقل رَكِين. وقال العجلي وأبو حاتم والنسائي والدارقطني: ثقة، زاد النسائي: مأمون لا بأس به. وقال أبو داود: حجة لم يكن بدمشق في زمنه مثله، وأبو الجماهر أسند منه، وهو ثقة. وقال أبو حاتم: كان دُحيم يُمَيِّز ويَضبِط حديثَ نفسه. وقال الإسماعيلي: سئل عبد الله بن محمد بن سيار الفرهياني مَنْ أوثق أهل الشام ممن لقيت؟ فقال: أعلاهم دُحيم. وقال أيضًا: هو أحب إليّ من هشام بن عمار، وهشام مُسِنّ. وقال ابن عدي: هو أثبت من حرملة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان يَكرَه أن يقال له: دُحيم، وكان من المتقنين الذين يحفظون علم بلدهم وشيوخهم وأنسابهم، ومات بطبرية. وقال

ابن حبان في موضع آخر: دُحيم تصغير دَحمان، ودحمان بلغتهم خبيث. وقال مسلمة: ثقة وقال الخليلي في "الإرشاد": كان أحد حفاظ الأئمة، متفق عليه، ويعتمد عليه في تعديل شيوخ الشام وجرحهم، وآخرُ من رَوَى عنه بالشام سعيد بن هاشم بن مَرْثَد. قال ابنه عمرو: وُلد في شوال سنة (17)، قال: ومات في رمضان سنة خمس وأربعين ومائتين، وفيها أرّخه غير واحد، زاد: أبو سعيد بن يونس: بالرملة. أخرج له الجماعة، سوى مسلم، والترمذيّ، وفي "الزهرة": أخرج عنه البخاري ثلاثة أحاديث (¬1). وله في هذا الكتاب (91) حديثًا. 2 - (هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ) بن محمد بن مالك بن زُبيد الهَمْدانيّ، أبو القاسم الكوفيّ، صدوق من صغار [10]. رَوَى عن أبيه، وحفص بن غياث، وابن عيينة، والمحاربي، ومعتمر بن سليمان، وأبي خالد الأحمر، وعبدة بن سليمان، وابن أبي فديك، وغيرهم. ورَوى عنه البخاري في "جزء القراءة خلف الإمام"، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابنه موسى بن هارون، وأبو بكر الأثرم، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وأحمد بن هارون الْبَرْدِيجيّ، وغيرهم. قال أبو حاتم: صدوق. وقال علي بن الحسين بن الجنيد: كان محمد بن عبد الله ابن نمير يُبَجِّله. وقال النسائي: ثقة. وقال ابن خزيمة: كان من خيار عباد الله. وقال النسائي في "أسماء شيوخه": نِعْمَ الشيخُ كان، وهو أحب إليّ من أبي سعيد الأشجّ، وكان قليل الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". قال مطين: مات سنة ثمان وخمسين ومائتين. أخرج له البخاري في "جزء القراءة"، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه. وله في هذا الكتاب (12) حديثًا. 3 - (ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ) هو: محمد بن إسماعيل بن مسلم ابن أبي فُديك، واسمه ¬

_ (¬1) الذي في برنامج الحديث (صخر) أن البخاريّ روى عنه في "صحيحه" حديثين حديث رقم (3920) و (6163).

دينار الدِّيليّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، صدوقٌ، من صغار [8]. رَوَى عن أبيه، ومحمد بن عمرو بن علقمة حديثًا واحدًا، وهشام بن سعد، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، وكثير بن زيد الأسلمي، وموسى بن يعقوب الزَّمْعيّ، وعبد الرحمن بن عبد المجيد السهمي، وعبد الرحمن بن أبي الزناد، وسَلَمَة بن وَرْدان، والضحاك بن عثمان، وعبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، وغيرهم. ورَوى عنه الشافعي، وأحمد، والحميدي، وقتيبة، وأحمد بن صالح، وحاجب بن سليمان المُنبِجِيّ، والحسن بن داود المنكدري، وإبراهيم بن المنذر الحزامي، ودحيم، وهارون الحمال، وغيرهم. قال النسائي: ليس به بأس. قال ابن معين: ثقة. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، وليس بحجة. وذكره ابن حبان في "الثقات". قال البخاريّ: مات سنة مائتين. وقال ابن سعد: مات سنة (99)، وقال مرّة: مات سنة إحدى ومائتين. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (28) حديثًا. 4 - (سَلَمَةُ بْنُ وَرْدَانَ) الليثي الْجُنْدعيّ مولاهم، أبو يعلى المدنيّ، ضعيفٌ [5]. رأى جابر بن عبد الله، وسلمة بن الأكوع، وعبد الرحمن بن أشيم، ورَوى عن أنس بن مالك، ومالك بن أوس بن الحَدَثان، وأبي سعيد بن أبي المعلى، وسالم بن عبد الله بن عمر، وغيرهم. ورَوى عنه وكيع، والفضل بن موسى، والدراورديّ، وسفيان الثوري، وابن أبي فديك، والقعنبيّ، وغيرهم. قال أبو موسى: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عنه. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: منكر الحديث، ضعيف الحديث. وقال الدُّوريّ عن ابن معين: ليس بشيء. وقال ابن أبي حاتم: ليس بقويّ، وتدبرت حديثه، فوجدت عامتها منكرة، لا يوافق حديثه، عن أنس حديث الثقات، إلا في حديث واحد يُكتب حديثه. وقال أبو داود، والنسائيّ: ضعيف. وقال النسائي في موضع آخر: ليس بثقة. وقال ابن عديّ: وفي مُتون بعض ما يرويه أشياء منكرة، خالف سائر الناس. وقال ابن سعد: قد رَأى عِدّة

من الصحابة، وكانت عنده أحاديث يسيرة، وكان ثبتًا فيها، ولا يُحتجّ بحديثه، وبعضهم يستضعفه، مات في خلافة أبي جعفر. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن صالح، هو عندي ثقة، حسن الحديث. وقال الحاكم: حديثه عن أنس مناكير أكثرها. وقال العجلي، والدارقطنيّ: ضعيف. وقال ابن حبان: كان يَروِي عن أنس أشياء لا تُشبه حديثه، وعن غيره من الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات، كأنه كان قد حَطَمَه السنّ، فكان يأتي بالشيء على التوهم، حتى خرج عن حدّ الاحتجاج، مات سنة (106). وأرّخه بن قانع سنة (7). أخرجه له البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم (50) و (3838). 5 - (أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) الصحابيّ الشهير -رضي الله عنه-، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ) أي وقت مرائه، كما يدلّ عليه القرينة الآتية، ويحتمل الإطلاق (وَهُوَ بَاطِلٌ) جملة معترضة بين الشرط والجزاء للتنفير عن الكذب، فإن الأصل فيه أنه باطلٌ، أو جملة حاليةٌ من المفعول: أي والحال أنه باطلٌ، لا مصلحة فيه من مرخّصات الكذب، كما في الحرب، أو إصلاح ذات البين، والمعاريض، أو حال من الفاعل: أي وهو ذو باطل بمعنى صاحب بطلان. قاله القاريّ (¬1). وقال السنديّ في "شرحه": قوله: "من ترك الكذب، وهو باطل" يحتمل أن المراد بالكذب المراء بالباطل، وجملة "وَهُوَ بَاطِلٌ" بتقدير "ذو باطل" حالٌ من ضمير "تَرَكَ": أي وهو مبطلٌ، وعَبّر بالكذب للتنبيه من أوّل الأمر على البطلان، وإلى هذا يشير كلام ابن العربيّ في "شرح الترمذيّ". ويحتمل أنه على ظاهره، وجملة "وهو ¬

_ (¬1) "المرقاة" 8/ 576 - 577.

باطلٌ" حال من الكذب، وهو الذي ذكره ابن رجب في شرح الكتاب، قال: هي جملة حاليّةٌ: أي حال كونه باطلًا، فقد أخرج الشيخان واللفظ لمسلم من حديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو يقول: "ليس الكذاب الذي يُصلح بين الناس، ويقول خيرًا، ويَنمِي خيرًا"، قال ابن شهاب: ولم أسمع يُرَخَّصُ في شيء مما يقول الناس كذب، إلا في ثلاث: الحربِ، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها. قال: وروى أبو داود عن أبي أُمامة مرفوعًا: "أنا زعيم ببيت في رَبَض الجنّة لمن ترك المراء، وإن كان مُحِقّا، وببيت في وسط الجنّة لمن ترك الكذب، وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنّة لمن حسّن خلقه". وهذا يقتضي أن يُراد بـ "باطل" مازح بتقدير ذو باطل، وتُجعل الجملة حالًا من فاعل "ترك"، لا من مفعوله، وجعله حالًا من الفاعل هو الموافق لقرينه -أعني: وهو محقّ. بقي أن بين الحديثين تعارضًا، والظاهر أنه وقع من تغيير بعض الرواة. انتهى (¬1). (بُنِيَ) بالبناء للمفعول (لَهُ قَصْرٌ) مرفوع على أنه نائب فاعل "بُني": أي بنى الله سبحانه وتعالى له بيتًا (في رَبَضِ الجَنَّةِ) بفتحتين: أي نواحيها، وجوانبها، لا في وسطها، وليس المراد خارجًا عن الجنّة كما قيل. قال القاريّ رحمه الله تعالى: وأما قول الشارح: هو ما حولها خارجًا عنها تشبيهًا بالأبنية التي حول المُدُن، وتحت القلاع، فهو صريح اللغة، لكنه غير صحيح المعنى، فإنه خلاف المنقول، ويؤدّي إلى المنزلة بين المنزلتين حسّا كما قاله المعتزلة معنًى، فالصواب أن المراد به أدناها كما يدلّ عليه قوله: (وَمَنْ تَرَكَ المِرَاءَ) بكسر الميم والمدّ: أي الجدال خوفًا من أن يقع صاحبه في اللَّجَاج الموقع في الباطل (وَهُوَ مُحِقٌّ) في ذلك الجدال، فتركه كسرًا لنفسه، كيلا يرتفع على خصمه، وأن لا يظهر فضله عليه، فتواضع في ذلك مع كونه مُحِقّا فيه. ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 39.

قال الطيبيّ رحمه الله تعالى: لا شكّ أن قوله: "وهو محقّ" حال من فاعل "ترك" وقع تتميمًا للمعنى، ومبالغةً. وقوله: "من ترك الكذب، وهو باطلٌ" قرينة له، فينبغي مراعاة هذه الدقيقة. فالمعنى: من ترك الكذب، والحال أنه عالمٌ ببطلانه في أمور الدين، لكن سنح له فيه منفعة دنيويّة، فتركها كسرًا لهواه، وإيثارًا لرضي الله تعالى على رضاه، بُني له بيتٌ في ربض الجنّة. ولمّا كانت مكارم الأخلاق متضمّنةً لترك رذائلها، وللإتيان بمحاسنها عقّبهما بقوله: "ومن حسّن خلقه" تحليةً بعد التخلية. قال الشيخ أبو حامد الغزاليّ رحمه الله تعالى: حدّ المراء: الاعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه، إما لفظًا، أو معنًى، أو في قصد المتكلّم، وترك المراء بترك الإنكار والاعتراض، فكلّ كلام سمعته، فإن كان حقّا فصدّق به، وإن كان باطلًا، ولم يكن متعلّقًا بأمور الدين، فاسكت عنه. انتهى. (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "فاسكت" أراد فيما إذا كان ذلك الباطل متعلّقًا بشخصيّته مثلًا، كأن يسبّه، ويَعيبه، فيتجاوز عنه، ولا يردّ عليه بالمثل، وإن كان له الحقّ في ذلك، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41]، بل صفح، وعفا إيثارًا لما هو الأفضل كما قال عز وجل: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43]، وقال عز وجل: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]، لا أنه يسكت على ما يسمعه من الباطل مطلقًا، يدلّ على ذلك قوله: "ولم يكن متعلّقا بأمور الدين". والله تعالى أعلم. (بُنِيَ لَهُ في وَسَطِهَا) بفتحتين، قال في "القاموس": وَسَط الشيءِ محرّكةً: ما بين طرفيه، كأوسطه، فإذا سُكِّنَت كانت ظرفًا، أو هما فيما هو مُصْمَتٌ كالحلْقَة، فإذا كانت أجزاؤه مُتباينةً فبالإسكان فقط، أو كلُّ موضع صلح فيه "بَيْنَ" فهو بالتسكين، وإلا فبالتحريك. انتهى. والمعنى: بُني له بيتٌ في وسط الجنّة؛ لتركه كسر قلب من يُجادله، ¬

_ (¬1) "الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 320.

ودفعه رفعة نفسه، وإظهار نفاسة فضله، وهذا يُشعر بأن معنى صدر الحديث: أن من ترك المراء، وهو مُبطلٌ، فوضع الكذب موضع المراء؛ لأنه الغالب فيه، أو المعنى: أن من ترك الكذب، ولو لم يترك المراء بُني له في ربَض الجنة؛ لأنه حفظ نفسه عن الكذب، لكن ما صانها عن مطلق المراء، فلهذا يكون أحطّ مرتبةً منه. قاله القاري (¬1). (وَمَنْ حَسَّنَ) بتشديد السين المهملة، من التحسين (خُلُقَه) بضمتين، ويجوز التخفيف بتسكين اللام: أي حسّن بالرياضة جميع أخلاقه التي من جملتها المراء والكذب (بُنِيَ لَهُ في أَعْلَاهَا) أي في أعلى الجنّة حسًّا ومعنًى. وهذا يدلّ على أن الخلُق مكتسبٌ، وإن كان أصله غريزيًّا، ويقوّيه ما أخرجه أحمد في "مسنده" بإسناد صحيح عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "اللهم أحسنت خَلْقِي فأَحسِن خُلُقِي". وما أخرجه مسلم وغيره من حديث عليّ -رضي الله عنه- مرفوعًا: "اللهم اهدني لأحسن الأخلاق، لا يَهدي لأحسنها إلا أنت ... " الحديث. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. (مسألة): حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- هذا مما تفرّد به المصنّف، وهو ضعيف؛ لضعف سلمة بن وردان عند الجمهور، كما سلف في ترجمته، وأيضًا في متنه نكارة، فإنه جاء من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- في "سنن أبي داود"، وغيره، ولفظه: 4800 - حدثنا محمد بن عثمان الدمشقي أبو الجماهر، قال: حدثنا أبو كعب أيوب بن محمد السعدي، قال: حدثني سليمان بن حبيب المحاربيّ، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنا زعيم ببيت في رَبَضِ الجنة لمن ترك المراء، وإن كان مُحِقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب، وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه". وهو حديث حسنٌ، وأيوب بن موسى روى عنه أبو الجماهر، وقال: كان ثقةً، ¬

_ (¬1) "المرقاة" 8/ 577.

وقال في "التقريب": صدوقٌ، وباقي رجاله كلهم ثقات، وقد أورد الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى للحديث شواهد في "سلسلة الأحاديث الصحيحة"، فراجعها 1/ 491 - 495 رقم (273). والحاصل أن الحديث بهذا اللفظ من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه-، لا باللفظ الذي ساقه المصنّف من حديث أنس -رضي الله عنه-، فتفطّن. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

8 - باب اجتناب الرأي والقياس

8 - (بابُ اجتنابِ الرّأي والقياس) قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن عطف القياس على الرأي من عطف المرادف، إذ المراد هنا هو الرأي، أو القياس الذي يعارِض النصوص، وهو الذي جاء ذمّه عن السلف، كما سيأتي بيانه قريبًا. فأما "الرّأي" -بفتح، فسكون- في اللغة فهو: العقل والتدبير، يقال: رجلٌ ذو رَأْيٍ: أي بصيرة وحِذْق في الأمور. قاله في "المصباح" (¬1). وقال أبو بكر الخطيب رحمه الله تعالى: وأما "الرأي" فهو استخراج صواب العاقبة، فمن وضع الرأي في حقّه، واستعمل النظر في موضعه سُدّد إلى الحقّ والصواب، وكمن قصد المسجد الجامع، فسلك طريقه، ولم يَعدِل عنه أدّاه إليه، وأورده عليه. انتهى (¬2). وقال ابن الأثير عند تفسير قوله: "وفينا رجلٌ له رأيٌ": يقال: فلانٌ من أهل الرأي: أي أنه يَرى رأيَ الخوارج، ويقول بمذهبهم، وهو المراد هاهنا، والمحدّثون يُسَمُّون أصحاب القياس أصحاب الرأي، يعنون أنهم يأخذون برأيهم فيما يُشكل من الحديث، أو ما لم يأت فيه حديثٌ ولا أَثَر. انتهى (¬3). وقال الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى: الرأي في الأصل مصدر رأى الشيءَ يراه رأيًا، ثم غَلَبَ استعماله على المرئيّ نفسِهِ، من باب استعمال المصدر في المفعول، كالهَوَى في الأصل مصدر هَوِيَه يَهْوَاهُ هَوًى، ثم استُعمل في الشيء الذي يَهْوَاه، فيقال: هذا هَوَى فلان، والعرب تُفَرّق بين مصادر فعل الرؤية بحسب محالّها، فتقول: رأى كذا في النوم رُؤيا، ورآه في اليقَظَة رُؤيةً، ورأى كذا -لما يُعلَمُ بالقلب، ولا يُرَى بالعين- رَأْيًا، ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" 1/ 247. (¬2) "الفقيه والمتفقّه" 1/ 551. (¬3) "النهاية" 2/ 179.

ولكنهم خَصّوهُ بما يراه القلب بعد فكر وتأمّل وطلب، لمعرفة وجه الصواب مما تتعارض فيه الأمارات، فلا يقال لمن رأى بقلبه أمرًا غائبًا عنه مما يحسُّ به: إنه رأيه، ولا يقال أيضًا للأمر المعقول الذي لا تختلف فيه العقول، ولا تتعارض فيه الأمارات: إنه رأيٌ، وإن احتاج إلى فكر وتأمّل كدقائق الحساب ونحوها. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله تعالى. (¬1). وأما "القياس" في اللغة فهو: التقدير، قال في "المصباح": قِستُه على الشيء، وبه أَقِيسه قَيْسًا، من باب باع، وأَقُوسُه قَوْسًا، من باب قال لغةٌ، وقايسته بالشيء مُقايسةً، وقِيَاسًا، من باب قاتل، وهو تقديره به، والْمِقياس: المقدار. انتهى (¬2). وقال الحافظ أبو بكر الخطيب رحمه الله تعالى: اعلم أن القياس فِعْلُ القائس، وهو حمل فرع على أصل في بعض أحكامه؛ لمعنًى يَجمَع بينهما. وقيل: هو الاجتهاد. والأول أجمع لحدّه؛ لأن الاجتهاد، هو بذل المجهود في طلب العلم، فيخل فيه حمل المطلق على المقيّد، وترتيب الخاصّ على العامّ، وجميع الوجوه التي يُطلب منها الحكم، وليس شيء من ذلك بقياس. والقياس مثاله مثال الميزان أن يوزن به الشيء من الفروع ليُعلَم ما يُوازنه من الأصول، فيُعلم أنه نظيره، أو لا يوازنه، فيُعلم أنه مخالفه، والاجتهاد أعمّ من القياس، والقياس داخل فيه. انتهى كلام الخطيب (¬3). وعرّفوه في كتب الأصول بأنه حمل معلوم على معلوم لمساواته في علّة حكمه. وإليه أشار في "الكوكب الساطع" حيث قال: وَحَمْلُ مَعلُومِ عَلَى ذِي عِلْمِ ... سَاوَاهُ في عِلَّتِهِ في الحُكْمِ ¬

_ (¬1) "إعلام الموقّعين" 1/ 69. (¬2) "المصباح المنير" 2/ 521. (¬3) "الفقيه والمتفقّه".

هُوَ الْقِيَاسُ وَمُرِيدُ الشَّامِلِ ... غَيْرَ الصَّحِيح زَادَ "عِنْدَ الْحَامِلِ" ولكن المراد هنا هو القياس المذموم الذي يعارض به النصّ، فليس كلّ قياس مذمومًا، كما سيأتي تفصيل ذلك قريبًا -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال: 51 - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، وَعَبْدَةُ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ ح وحَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُسْهِرٍ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَحَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، وَشُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ اللَّه لَا يَقْبضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ اَلْعُلَمَاءِ، فَإِذَا لَمْ يُبْقِ عَالمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا"). رجال هذا الإسناد: أربعة عشر: 1 - (أَبُو كُرَيْبٍ) هو: محمد بن العلاء بن كُريب الْهَمْدانيّ، أبو كُريب الكوفيّ، مشهور بكنيته، ثقة حافظ [10]. رَوَى عن عبد الله بن إدريس، وحفص بن غياث، وأبي بكر بن عياش، وهشيم، ومعتمر، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، ويونس بن بكير، وابن المبارك، وأبي خالد الأحمر، وأبي معاوية الضرير، وخلق كثير. ورَوَى عنه الجماعة، ورَوَى النسائي عن أبي بكر بن علي المروزي، عن زكريا بن يحيى السِّجْزي عنه، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وعثمان بن خُرَّزاذ، والذهلي، وابن أبي الدنيا، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وبقي بن مخلد، وخلق كثير. قال حجاج بن الشاعر: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لو حَدَّثتُ عن أحد ممن أجاب في المحنة لحدثت عن أبي معمر، وأبي كريب. وقال الحسن بن سفيان: سمعت ابن نُمير يقول: ما بالعراق أكثر حديثا من أبي كريب، ولا أَعْرَف بحديث بلدنا منه. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي عنه، فقال: صدوق. وقال أبو علي النيسابوري: سمعت

أبا العباس ابن عُقْدة يُقَدِّمه في الحفظ والمعرفة على جميع مشايخهم، ويقول: ظهر لأبي كريب بالكوفة ثلاثمائة ألف حديث. وقال موسى بن إسحاق الأنصاري: سمعت من أبي كريب مائة ألف حديث. وقال النسائي: لا بأس به. وقال مرة: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال أبو عَمْرو الْخَفّاف: ما رأيت من الشايخ بعد إسحاق بن إبراهيم أحفظ منه. وقال إبراهيم بن أبي طالب: قلت لمحمد بن يحيى: لم أر بعد أحمد بن حنبل بالعراق أحفظ من أبي كريب. وقال صالح جَزَرة غَلَبَت اليبوسة مَرّةَّ عَلى رأس أبي كريب، فغَلَّف الطبيبُ رأسه بالفالوذج، فأخذه من رأسه فوضعه في فيه، وقال: بطني أحوج إلى هذا. وقال مسلمة بن قاسم: كوفي ثقة. قال البخاري وغير واحد: مات في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين ومائتين، زاد بعضهم: وهو ابن سبع وثمانين سنة. وقيل: مات سنة سبع، وهو وَهَمٌ. وفي "الزهرة": رَوَى عنه البخاري خمسة وسبعين حديثًا، ومسلم خمسمائة وستة وخمسين حديثًا (¬1). وله في هذا الكتاب (105) حديثًا. 2 - (سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ) بن سهل، أبو محمد الْحَدَثانيّ، هرويّ الأصل، صدوق في نفسه، إلا أنه عَمِيَ، فصار يتلقّن ما ليس من حديثه، من قُدماء [10] 4/ 30. 3 - (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ) بن يزيد بن عبد الرحمن بن الأسود الأوديّ -بسكون الواو- الزَّعَافريُّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقة فقيهٌ عابدٌ [8]. رَوَى عن أبيه، وعمه داود، والأعمش، ومنصور، وعبيد الله بن عمر، وإسماعيل ابن أبي خالد، وأبي مالك الأشجعي، وداود بن أبي هند، وعاصم بن كليب، وابن ¬

_ (¬1) الذي في برنامج الحديث (صخر) أن البخاريّ روى عنه (54) حديثًا، وأن مسلمًا روى عنه (488) حديثًا. وهذا فرق كبير، والذي يظهر لي أن ما في البرنامج أقرب إلى الصواب، فليُحرّر.

جريج، وهشام بن عروة، وخلق كثير. ورَوي عنه مالك بن أنس، وهو من شيوخه، وابن المبارك ومات قبله، ويحيى بن آدم، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وإسحاق بن راهويه، وأبو كريب، وخلق كثير. قال أحمد: كان نسيج وحده. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: ابن إدريس أحب إليك أو بن نمير؟ فقال: ثقتان إلا أن ابن إدريس أرفع منه، وهو ثقة في كل شيء. وقال يعقوب بن شيبة: كان عابدًا فاضلًا، وكان يسلك في كثير من فتياه ومذاهبه مسلك أهل المدينة، وكان بينه وبين مالك صداقة، وقيل: إن بلاغات مالك سمعها من ابن إدريس. وقال الحسن بن عَرَفة: ما رأيت بالكوفة أفضل منه. وقال ابن المديني: عبد الله بن إدريس فوق أبيه في الحديث. وقال جعفر الفريابي: سألت ابن نُمير عن عبد الله بن إدريس وحفص، فقال: حفص أكثر حديثًا، ولكن ابن إدريس ما خرج عنه فإنه فيه أثبت وأتقن، فقلت: أليس عبد الله آخذٌ في السنة؟ قال: ما أقربهما في السنة. وقال ابن عمار: كان من عباد الله الصالحين الزهاد، وكان إذا لحن رجل عنده في كلامه لم يحدثه. وقال أبو حاتم: هو حجة يُحتجّ بها، وهو إمام من أئمة المسلمين ثقة. وقال النسائي: ثقة ثبت. وقال أحمد بن جَوّاس: سمعته يقول: وُلدت سنة (115)، وكذا قال غير واحد. وقيل: سنة (20). وقال أحمد بن حنبل وغير واحد: مات سنة اثنتين وتسعين ومائة، زاد ابن سعد في عشر ذي الحجة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (42) حديثًا. 4 - (عَبْدَةُ) بن سليمان الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، يقال: اسمه عبد الرحمن، ثقة ثبتٌ، من صغار [8] 2/ 22. 5 - (أَبُو مُعَاوِيَة) هو: محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، عَمِيَ وهو صغير، ثقة أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِمُ في حديث غيره، من كبار [9] 1/ 3. 6 - (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ) مصغّرًا الهمدانيّ الخارِفِيّ، أبو هشام الكوفيّ، صاحب حديث، من أهل السنّة، من كبار [9].

رَوَى عن إسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، ويحيى بن سعيد، وهشام بن عروة، وعبيد الله بن عمر، وموسى الْجُهَنيّ، وزكرياء بن أبي زائدة، وسعد بن سعيد الأنصاريّ، وحنظلة بن أبي سفيان، وسيف بن سليمان، والأوزاعيّ، وعثمان بن حكيم الأَوْديّ، والثوري، وعمرو بن عثمان بن موهب، وجماعة. ورَوَى عنه ابنه محمد، وأحمد، وأبو خيثمة، ويحيى بن يحيى، وعلي بن المديني، وأبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة، وأبو قُدَامة السرخسي، وأبو كريب، وأبو موسى، وأبو سعيد الأشجّ، وهناد بن السريّ، وجماعة. قال أبو نعيم: سئل سفيان عن أبي خالد الأحمر، فقال: نعم الرجل عبد الله بن نمير. وقال عثمان الدارمي: قلت ليحيى بن معين: ابن إدريس أحب إليك في الأعمش أو ابن نمير؟ فقال: كلاهما ثقة. وقال أبو حاتم: كان مستقيم الأمر. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال العجليّ: ثقة، صالح الحديث، صاحب سنة. وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث، صدوق. قال ابنه محمد وغيره: مات سنة تسع وتسعين ومائة. وقيل: إنه ولد في سنة (115). وله في هذا الكتاب (107) أحاديث. 7 - (مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) العبْديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة حافظ [9] 7/ 48. 8 - (عَليُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ قاضي الموصل، ثقة له غرائب بعد ما أضرّ [8] 4/ 37. 9 - (مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن عثمان بن خُثيل بن عمرو بن الحارث، وهو ذو أصبح، الأصبحي الْحِمْيري، أبو عبد الله المدني الفقيه، أحد أعلام الإسلام، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7]. رَوَى عن عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام، ونعيم بن عبد الله المُجْمر، وزيد ابن أسلم، ونافع مولى ابن عمر، وحميد الطويل، وسعيد المقبريّ، وأبي حازم سلمة بن دينار، وسُلَيم، وخلق كثير.

ورَوَى عنه الزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ويزيد بن عبد الله بن الهاد، وغيرهم من شيوخه، والأوزاعي، والثوري، ووَرْقاء بن عُمر، وشعبة بن الحجاج، وابن جريج، وخلق كثير. قال محمد بن إسحاق الثقفي: سئل محمد بن إسماعيل البخاري، عن أصح الأسانيد؟ فقال: مالك، عن نافع، عن ابن عمر. وقال علي بن المديني، عن ابن عيينة: ما كان أشد انتقاء مالك للرجال، وأعلمه بشأنهم، قال: وقيل لسفيان: أيما كان أحفظ سُمَيّ، أو سالم أبو النضر؟، قال: قد روى مالك عنهما. وقال علي، عن بشر بن عمر الزهراني: سألت مالكا عن رجل؟ فقال: رأيته في كتبي؟ قلت: لا، قال: لو كان ثقة لرأيته في كتبي. قال: علي لا أعلم مالكا ترك إنسانا إلا إنسانا في حديثه شيء. وقال الدوري، عن ابن معين: كل من روى عنه مالك فهو ثقة، إلا عبد الكريم. وقال علي بن المديني: سمعت يحيى بن سعيد: يقول: أصحاب نافع الذين رووا عنه: أيوب، وعبد الله، ومالك، قال علي: هؤلاء أثبت أصحاب نافع، قال: وسمعت يحيى بن سعيد يقول: ما في القوم أصح حديثا من مالك -يعني السفيانين- ومالكا، قال: ومالك أحب إلي من معمر، قال: وأصحاب الزهري مالك، فبدأ به، ثم فلان، وفلان، وكان ابن مهدي لا يقدم على مالك أحدا، ومناقبه رحمه الله جمةٌ. وقال إسماعيل بن أبي أويس: توفي صبيحة أربع عشرة من شهر ربيع الأول، سنة تسع وسبعين، وكان ابن خمس وثمانين سنة. وقال الواقدي: كان ابن تسعين سنة. ومناقبه كثيرة جدا لا يمكن استيعابها في مثل هذه العُجَالة، وقد أُفرِدت بالتصنيف. روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب (71) حديثًا. 10 - (حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ) الْعُقَيليُّ، أبو عُمَر الصَّنعانيُّ، سكن عَسْقَلان، ثقةٌ رُبّما وَهِمَ [8]. رَوَى عن زيد بن أسلم، وموسى بن عقبة، وهشام بن عروة، وسهيل بن أبي صالح، والعلاء بن عبد الرحمن، وغيرهم.

ورَوَى عنه عمرو بن أبي سَلِمَة التِّنّيسيُّ، وابن وهب، والهيثم بن خارجة، وآدم ابن أبي إياس، وسعيد بن منصور، وسويد بن سعيد، وغيرهم، ورَوَى عنه الثوري، وهو أكبر منه. قال عبد الله بن أحمد: قال أبي: ليس به بأس، قلت: إنهم يقولون: عَرَضَ على زيد ابن أسلم، فقال: ثقة. وقال ابن معين: ثقة إنما يَطعَن عليه أنه عرض. وقال أيضًا: قد رَوَى الثورى عن أبي عمر الصنعاني، وهو حفص بن ميسرة. وقال مرة: ليس به بأس. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال في موضع آخر: يُكتب حديثه، ومحله الصدق، وفي حديثه بعض الوهم. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة لا بأس به. وقال الآجري عن أبي داود: يُضَعّف في السماع. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الساجيّ: في حديثه ضُعْفٌ. وقال الأزديّ: رَوَى عن العلاء مناكير، يتكلمون فيه. قال قال الحافظ: وقرأت بخط الذهبي: لا يُلتَفت إلى قول الأزديّ. قال أحمد، وابن يونس، وغيرهما: توفي سنة (181). أخرج له البخاريّ، ومسلم، وأبو داود في "المراسيل"، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (52) و (278) و (4322). [تنبيه]: اختُلف في نسبة حفص بن ميسرة هذا هل هو إلى صنعاء الشام، أم صنعاء اليمن، فقال الأكثرون: إنه من صنعاء الشام، وممن قال بهذا: أحمد، والبخاريّ، والنسائيّ، والفلاس، ومحمد بن المثنى، ويعقوب بن سفيان، وغيرهم. وقال أبو حاتم: إنه من صنعاء اليمن، وعليه يدلّ صنيع بن أبي داود، قال أبو القاسم: وهو أشبه (¬1). والله تعالى أعلم. 11 - (شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ) بن عبد الرحمن بن عبد الله بن راشد الدِّمَشقيّ الأمويّ مولى رَملة بنت عثمان، أصله من البصرة، ثقةُ رُمي بالإرجاء، من كبار [9]. ¬

_ (¬1) راجع "تهذيب التهذيب" 1/ 460.

رَوَى عن أبيه، وأبي حنيفة، وتمَذهب له، وابن جريج، والأوزاعيّ، وسعيد بن أبي عروبة، وعبيد الله بن عُمَر، وهشام بن عروة، والثوريّ، وغيرهم. ورَوَى عنه ابن ابنه عبد الرحمن بن عبد الصمد بن شعيب، وداود بن رُشيد، والحكم بن موسى، وأبو النضر الفراديسي، وعَمرو بن عون، وإبراهيم بن موسى الرازي، وإسحاق بن راهويه، وسُويد بن سعيد، وأبو كريب محمد بن العلاء، وهشام ابن عمار، وغيرهم، وحدث عنه الليث بن سعد، وهو في عداد شيوخه. قال أبو طالب عن أحمد: ثقة ما أصح حديثه وأوثقه. وقال أبو داود: ثقة، وهو مرجىء، سمعت أحمد يقول: سمع من سعيد بن أبي عروبة بآخر رَمَقٍ. وقال هشام بن عمار عن شعيب: سمعت من سعيد سنة (144). وقال ابن معين، ودحيم، والنسائيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال الوليد بن مسلم: رأيت الأوزاعي يقربه ويدنيه. ونقل أبو الوليد الباجيّ عن أبي حاتم قال: شعيب بن إسحاق ثقة مأمون. قال دُحيم: وُلد سنة (18)، ومات سنة (189). وفيها أرّخه ابن حبان في "الثقات"، وكذا أرّخه ابن مُصَفَّى، وزاد: في رجب، وفيها أرّخه غير واحد. ووقع في "الكمال" سنة (98) وهو وَهَم. أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط برقم (52) و (2425) و (2563) و (2891) و (3156). 12 - (هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير بن العوّام الأسدي، أبو المنذر، وقيل: أبو عبد الله، ثقة فقيهٌ ربّما دلّس [5]. رَأَى ابن عمر، ومسح رأسه، ودعا له، وسهلَ بن سعد، وجابرًا، وأنسا، وروى عن أبيه، وعمه عبد الله بن الزبير، وأخويه: عبدِ الله وعثمان، وابن عمه عبّاد بن عبد الله ابن الزبير، وخلق كثير. وروى عنه أيوب السختيانيّ، ومات قبله، وعبيد الله بن عمر، ومعمر، وابن جريج، وابن إسحاق، وابن عجلان، وخلق كثير.

قال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: هشام أحب إليك عن أبيه أو الزهريُّ؟ قال: كلاهما ولم يفضّل. وقال علي بن المديني: قال يحيى بن سعيد: رأيت مالك ابن أنس في النوم، فسألته عن هشام بن عروة؟ فقال: أما ما حدث به، وهو عندنا فهو أي كأنه يصححه، وما حدث به بعدما خرج من عندنا، فكأنه يوهنه. وقال ابن سعد، والعجلي: كان ثقة، زاد ابن سعد: ثبتا كثير الحديث، حجة. وقال أبو حاتم: ثقة، إمام في الحديث. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة ثبت، لم ينكر عليه شيء إلا بعدما صار إلى العراق، فإنه انبسط في الرواية عن أبيه، فأنكر ذلك عليه أهل بلده، والذي نرى أن هشاما تسهل لأهل العراق، أنه كان لايحدث عن أبيه إلا بما سمعه منه، فكان تسهله أنه أرسل عن أبيه مما كان يسمعه من غير أبيه عن أبيه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان متقنا ورعا فاضلا حافظا. قال عمرو بن علي الفلاس عن عبد الله بن داود: ولد هشام، والأعمش، وسَمَّى غيرهما سنة مقتل الحسين -يعني سنة إحدى وستين- قال الحربي: مات سنة ست وأربعين ومائة، وأرخه أبو نعيم وغيره: سنة خمس. وقال أبو حاتم: يقال: إنه توفي بعد الهزيمة سنة خمس، وقد بلغ سبعا وثمانين. وقال عمرو بن علي: مات سنة سبع وأربعين. روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب (101). 13 - (أبوه) عروة بن الزبير، بن العوّام بن خُوَيلد بن أسد بن عبد العزي بن قصي الأسدي، أبو عبد الله المدني، ثقة فقيه مشهور [3] (ت 94) (ع) تقدّم في 2/ 15. 14 - (عبدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سَعْد بن سَهْم بن عمرو بن هُصَيص بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي، أبو محمد، وقيل: أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو نُصَير. وأمه رائطة بنت مُنَبّه بن الحجاج بن عامر بن حذيفة السهمية، ويقال: حذافة بن سعد بن سهل، وقال فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نعم أهل البيت: عبد الله، وأبو عبد الله، وأم عبد الله". وقيل: كان اسمه العاص، فلما أسلم سُمّي عبد الله، ولم يكن بينه وبين أبيه في السن سوى إحدى عشرة سنة، وأسلم قبل أبيه، وكان

مجتهدا في العبادة، غزير العلم. قال أبو هريرة: ما كان أحد أكثر حديثا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مني، إلا عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب، وكنت لا أكتب. رَوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن أبي بكر، وعمر، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي الدرداء، وسراقة بن مالك بن جُعشُم، وغيرهم. وروى عنه أنس بن مالك، وأبو أمامة بن سهل بن حُنيف، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، ومسروق بن الأجدع، وسعيد بن المسيب، وغيرهم. قال أحمد بن حنبل: مات ليالي الحرة، وكانت في ذي الحجة، سنة (63). وقال في موضع آخر: مات سنة (65)، وكذا قال ابن بكير. وقال في رواية: مات سنة (68)، وكذا قال الليث. وقيل: مات سنة (73). وقيل: سنة (77). وقيل: غير ذلك، وكان موته بمكة، وقيل: بالطائف، وقيل: بمصر، وقيل: بفلسطين. وذكر العسكري أنه عاش قريبا من مائة سنة. قال الحافظ: وهو بعيد من الصحة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (116) حديثًا. والله تعالى أعلم. [تنبيه]: قال في "الفتح": ما حاصله: قال الدارقطنيّ: لم يرو عن مالك هذا الحديث في "الموطإ" إلا مَعْن بن عيسى، وراه أصحاب مالك، كابن وهب وغيره عن مالك خارج "الموطإ"، وأفاد ابن عبد البر أن سليمان بن يزيد رواه أيضًا في "الموطإ"، والله أعلم. قال الحافظ: وقد اشتهر هذا الحديث من رواية هشام بن عروة، فوقع لنا من رواية أكثر من سبعين نفسًا عنه، من أهل الحرمين، والعراقين، والشام، وخُرَاسان، ومصر، وغيرها، ووافقه على روايته عن أبيه عروةَ أبو الأسود المدني، وحديثه في "الصحيحين"، والزهري وحديثه في النسائيّ، ويحيى بن أبي كثير وحديثه في "صحيح أبي عوانة"، ووافق أباه على روايته عن عبد الله بن عمرو، عُمَر بن الحكم بن ثوبان، وحديثه في مسلم انتهى (¬1). ¬

_ (¬1) "فتح" 1/ 257 "كتاب العلم".

لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، والصحابيّ، فمدنيّ، ثم مصريّ، ثم طائفيّ. 4 - (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه. 5 - (ومنها): أن صحابيّه -رضي الله عنه- أحد العبادلة الأربعة المجموعين في قول السيوطيّ رحمه الله تعالى في "ألفية الأثر": وَالْبَحْرُ وَابْنَا عُمَرٍ وَعَمْرِو ... وَابْنُ الزُّبَيْرِ في اشْتِهَارٍ يَجْرِي دُونَ ابْنِ مَسْعُودٍ لهُمْ عَبَادِلَهْ ... وَغَلَّطُوا مَنْ غَيْرَ هَذا مَالَ لَهْ 6 - (ومنها): أنه ليس بينه وبين أبيه إلا إحدى عشرة سنة، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رضي الله تعالى عنهما. [تنبيه]: قوله: "ابن العاص": أكثر ما يأتي في كتب الحديث والفقه، ونحوهما بحذف الياء، وهي لغة، والفصيح الصحيح "العاصي" بإثبات الياء، وكذلك شدّاد بن الهادي، وابن أبي الموالي، فالفصيح الصحيح في كلّ ذلك، وما أشبهه إثبات الياء، ولا اغترار بوجوده في كتب الحديث، أو أكثرها بحذفها. قاله النوويّ (¬1). وإلى القاعدة المذكورة أشار في "الخلاصة" حيث قال: وَحَذْفُ يَا الْمَنْقُوصِ ذِي التَّنْوِينِ مَا ... لَمْ يُنْصَبَ أوْلَى مِنْ ثُبُوتٍ فَاعْلَمَا وَغَيْرُ ذِي التَّنْوِينِ بِالْعَكْسِ وَفِي ... نَحْوِ "مُرٍ" لُزُومُ رَدِّ الْيَا اقتُفِي (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ اللَّه لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ) جملة في محلّ رفع؛ لأنها خبر ¬

_ (¬1) "شرح مسلم" 1/ 78 - 79.

"إنّ" (انْتِزَاعًا) يحتمل أن يكون نصبه على أنه مفعول مطلقٌ لـ "يَقبضُ"، مثلُ رجع القهقرى، وقعد جلوسًا، ويحتمل أن يكون مفعولا مطلقًا مقدّمًا على فعله، وهو "ينتزعه"، والجملة حال من الضمير في "يقبضه"، ويحتمل أن يكون حالًا من "العلم" بمعنى مُنتَزعًا (¬1). والمراد بالعلم هو العلم الشرعيّ الذي هو علم الكتاب والسنّة؛ لأنه المراد عند الإطلاق، لا العلم الدنيويّ؛ لأنه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لم يُبعث من أجله بدليل ما أخرجه مسلم رحمه الله تعالى في "صحيحه" رقم (2363) من حديث عائشة، وأنس رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مَرّ بقوم يُلَقِّحُون فقال: "لو لم تفعلوا لَصَلَحَ"، قال: " فخرج شِيصًا (¬2)، فَمَرّ بهم، فقال: "ما لنخلكم؟ "، قالوا: "قلت: كذا وكذا، قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم". وأخرجه المصنّف في "كتاب الأحكام": (2462): وأحمد رقم (23773) من حديثهما بلفظ: "أَن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمع أصواتا، فقال: ما هذا الصوتُ؟ "، قالوا: النخل يُؤبّرونها، فقال: "لو لم يفعلوا لصلح، فلم يؤبروا عامئذٍ، فصار شيصًا، فذكروا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "إن كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنُكُم به، وإن كان من أمور دينكم فإليّ". وأخرجه أحمد في "مسنده" رقم (12086) من حديث أنس -رضي الله عنه- وحده، ولفظه: قال: سمع رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أصواتا، فقال: "ما هذا؟ "، قالوا: يُلَقِّحون النخل، فقال: "لو تركوه، فلم يُلَقِّحوه لصلح"، فتركوه، فلم يُلَقِّحوه، فخرج شِيصًا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما لكم؟ "، قالوا: تركوه لمّا قلت، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كان شيء من أمر دنياكم، فأنتم أعلم به، فإذا كان من أمر دينكم فإليّ". (يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ) أي مَحْوًا من الصدور. قال ابن بطّال رحمه الله تعالى: معناه ¬

_ (¬1) راجع "عمدة القاري" 2/ 89. (¬2) هو التمر الذي لا يشتدّ نواه، ويقوى.

إن الله لا ينزع العلم من العباد بعد أن يتفضّل به عليهم، ولا يسترجع ما وَهَبَ لهم من العلم المؤدّي إلى معرفته، وبَثّ شريعته، وإنما يكون انتزاعه بتضييعهم العلم، فلا يوجد من يَخلُف من مضى، فأنذر -صلى الله عليه وسلم- بقبض الخير كله. وكان تحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك في حجة الوداع، كما رواه أحمد والطبراني من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه-، قال: لما كان في حجة الوداع قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خُذُوا العلم قبل أن يُقبَض، أو يرفع"، فقال أعرابي: كيف يُرفَع فقال: "ألا إنّ ذَهَاب العلم ذَهابُ حملته"، ثلاث مرات. وقال ابن المُنَيِّر: مَحْوُ العلم من الصدور جائز في القدرة، إلا أن هذا الحديث دَلَّ على عدم وقوعه. انتهى. (وَلَكِنْ) للاستدراك (يَقْبِضُ الْعِلْمَ) بكسر الموحّدة، من باب ضرب، والفعل مبنيّ للفاعل، والفاعل ضمير يعود إلى الله تعالى. وهو من قبيل إقامة الظاهر موضع المضمر؛ لزيادة تعظيم المضمر؛ إذ مقتضى الظاهر أن يقال: "ولكن يقبضه"، كما في قوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] بعد قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. قاله العينيّ (¬1) (بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ) أي بسبب توفّيهم. [تنبيه]: هذا الحديث صريحٌ في أن المقبوض هو العلم لا العمل به، ويعارضه ما أخرجه الترمذيّ في "جامعه" من طريق جُبير بن نُفير، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- مما يدلّ على أن الذي يُرفع هو العمل، ونصّه: قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: كنا مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال: "هذا أوانٌ يُخْتَلَسُ فيه العلم من الناس حتى لا يَقدِروا منه على شيء"، فقال زياد بن لبيد الأنصاريّ، وكيف يُختلس منّا، وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنُقرأنّه، ولنقرأنه نساءنا وأبناءنا، فقال: "ثكِلتك أمّك يا زياد إن كنت لأعدّك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل ¬

_ (¬1) "عمدة القاري" 2/ 89.

عند اليهود والنصارى، فماذا تُغني عنهم؟ "، قال: فلقيتُ عُبَادة بن الصامت -رضي الله عنه-، فقلتُ: ألا تسمع إلى ما يقول أخوك أبو الدرداء؟ فأخبرته بالذي قال أبو الدرداء، قال: صدَقَ أبو الدرداء، إن شئتَ لأُحدّثنّك بأول علم يُرفع: الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد الجامع فلا ترى فيه رجلًا خاشعًا. قال الترمذيّ: هذا حديث حسنٌ غريبٌ (¬1)، وقد خرّجه النسائيّ من حديث جبير بن نُفير أيضًا عن عوف بن مالك الأشجعيّ -رضي الله عنه- من طرق صحيحة. فهذا الحديث ظاهر في أن الذي يُرفع إنما هو العمل بالعلم، لا نفسُ العلم، وهو بخلاف ما دلّ عليه حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، فإنه صريحٌ في أنّ المرفوع هو العلم. وأجاب أبو العبّاس القرطبيّ، فقال: لا تباعد بينهما، فإنه إذا ذهب العلم بموت العلماء، خَلَفهم الْجُهّال، فأفتوا بالجهل، فعُمل به، فذهب العلم والعمل، وإن كانت المصاحف والكتب بأيدي الناس، كما اتّفقَ لأهل الكتابين من قَبْلنا، ولذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لزياد على ما نصّ عليه النسائيّ: "ثَكِلتك أمك يا زيادُ، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى؟ "، وذلك أن علماءهم لمّا انقرضوا خَلَفَهم جُهّالهم، فحرّفوا الكتاب، وجَهِلوا المعاني، فعملوا بالجهل، وأفتوا به، فارتفع العلم والعمل، وبقيت أشخاص الكتب لا تُغني شيئًا. انتهى كلام القرطبيّ (¬2). (فَإِذَا لَمْ يُبْقِ عَالمًا) -بضم أوله، وكسر القاف- من الإبقاء، والفاعل ضمير "الله تعالى"، و"عالمًا": أي لم يُبقِ الله عالمًا. ولفظ البخاريّ: "حتى إذا لم يَبْقَ عالِمٌ"، وهو -بفتح أوله، وإسكان ثانيه- من البقاء. ¬

_ (¬1) حديثٌ صحيحٌ أخرجه الترمذيّ برقم (2653). (¬2) "المفهم" 6/ 705 - 708.

[فإن قلت]: "إذا" للاستقبال، و"لم" لقلب المضارع ماضيًا، فكيف يَجتمعان؟. [أجيب]: بأنهما لما تعارضا تساقطا، فبقي على أصله، وهو المضارع، أو تعادلا، فيفيد الاستمرار. [فإن قلت]: إذا كانت "إذا" شرطيّة يلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط، ومن وجود المشروط وجود الشرط، لكنه ليس كذلك هنا؛ لجواز حصول الاتخاذ مع وجود العالم. [أجيب]: بأن ذلك في الشروط العقليّة، أما في غيرها فلا نُسلّم اطّراد هذه القاعدة، ثم الاستلزام إنما هو في موضع لم يكن للشرط فيه بدلٌ، فقد يكون لمشروط واحد شروط متعاقبة، كصحّة الصلاة بدون الوضوء عند التيمّم، أو المراد بالناس جميعهم، فلا يصحّ أن الكلّ اتخذوا رءوسًا جُهّالًا إلا عند عدم بقاء العالم مطلقًا، وذلك ظاهر. قاله العينيّ رحمه الله تعالى (¬1). (اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا) قال النووي: رحمه الله تعالى: ضبطنا "رءوسًا" -بضم الهمزة والتنوين- جمع رأس. قال في "الفتح": وفي رواية أبي ذر أيضًا: "رؤساء" -بفتح الهمزة، وفي آخره همزة أخرى مفتوحة، جمع رئيس، وكلاهما صحيح، والأول أشهر. (جُهَّالًا) -بضم الجيم، وتشديد الهاء-: جمع جاهل، صفة لـ "رءوسًا". [فإن قلت]: المراد بالجهل هنا الجهل البسيط، وهو عدم العلم بالشيء، لا مع اعتقاد العلم به، أم الجهل المركّب، وهو عدم العلم بالشيء مع اعتقاد العلم به؟. [أجيب]: بأن المراد هو القدر المشترك بينهما المتناول لهما. [فإن قلت]: أهذا مختصّ بالمفتين، أم عامّ للقضاة الجاهلين؟. [أجيب]: بأنه عامّ؛ إذ الحكم بالشيء يستلزم الفتوى به. قاله العينيّ رحمه الله تعالى (¬2). ¬

_ (¬1) المصدر السابق 2/ 89. (¬2) "عمدة القاري" 2/ 90.

وفيه التحذير عن اتخاذ الجهّال رءوسًا. (فَسُئِلُوا) بضم السين المهملة: أي سألهم السائلون (فَأَفْتَوْا) بفتح الهمزة، والتاء: أي بيّنوا الحكم للسائلين (بِغَيْرِ عِلْمٍ) وفي رواية أبي الأسود عند البخاريّ في "الاعتصام": "فيُفتُون برأيهم"، وفي هذا الحديث: الحثُّ على حفظ العلم، والتحذير من ترئيس الجهَلَة. وفيه أن الفتوى هي الرياسة الحقيقية، وذَمُّ من يُقْدِم عليها بغير علم. واستدل به الجمهور على القول بخلوّ الزمان عن مجتهد، ولله الأمر يفعل ما يشاء. (فَضَلُّوا) أي في أنفسهم، من الضلال (وَأَضَلُّوا) أي غيرهم ممن يقلّدهم رأيهم الفاسد، وهو من الإضلال. [فإن قلت]: الضلال متقدّم على الإفتاء، فما معنى الفاء؟. [أجيب]: بأن المجموع من الضلال والإضلال هو متعقّب على الإفتاء، وإن كان الجزء الأول مقدّمًا عليه؛ إذ الإضلال الذي بعد الإفتاء غير الضلال الذي قبله. [فإن قلت]: الإضلال ظاهر، وأما الضلال فإنما يلزم أن لو عَمِل بما أفتى، وقد لا يَعمَل به. [أجيب]: بأن إضلاله لغيره ضلال له، عَمِل بما أفتى أو لم يَعمَل. قاله العينيّ (¬1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (8/ 52) فقط، و (البخاريّ) (1/ 36 و 9/ 123) وفي "خلق أفعال العباد" (47) و (مسلم) (8/ 60) و (الترمذيّ) (2652) و (النسائيّ) في ¬

_ (¬1) المصدر السابق 2/ 90.

"الكبرى" 3/ 455 رقم (5907) (والطيالسيّ) في "مسنده" (2292) و (الحميديّ) في "مسنده" (581) و (أحمد) في "مسنده" 2/ 162 و190 و 203 و (الدارميّ) في "سننه" (245) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (4571) و (البغويّ) في "شرح السنّة" (147)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو وجوب اجتناب الرأي والقياس، وهو محمول على الرأي المذموم، كما سيأتي بيانه في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-. 2 - (ومنها): أن فيه الحثَّ على حفظ العلم والاشتغال به. 3 - (ومنها): أن الفتوى هي الرئاسة الحقيقيّة، وذمّ من يُقْدِم عليها بغير علم. 4 - (ومنها): التحذير عن اتّخاذ الجهّال رؤوسًا. 5 - (ومنها): أن فيه دلالةً للقائلين بجواز خلوّ الزمان عن المجتهد، على ما هو مذهب الجمهور، خلافًا للحنابلة. ومسألة خلوّ الزمان عن المجتهد مشهورة في كتب الأصول، وحاصلها أن الجمهور يرون جوازه، وخالف في ذلك الحنابلة، وذهب العلامة ابن دقيق العيد إلى أنه لا يجوز ما لم تأت أشراط الساعة الكبرى، كطلوع الشمس من مغربها، فإذا أتت جاز الخلوّ عنه. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قاله ابن دقيق العيد هو الأرجح؛ للحديث الآتي. ثم على القول بالجواز أنه لم يثبُت وقوعه، وقيل: يقع؛ لحديث "الصحيحين": "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ حتى يأتي أمر الله"، أي الساعة، والمراد به إتيان الأشراط المذكورة. ودليل الوقوع حديث الباب المتّفق عليه، وحديث البخاريّ: "إن من أشراط

الساعة أن يُرفع العلم، ويَثبُت الجهل"، والمراد برفع العلم قبض أهله. قال الجامع: لا خلاف بين الأحاديث، إذ هي على معنى واحد، وهو أن المراد بالحديثين الأخيرين عند قرب الساعة، فيكونان بمعنى الحديث الأول، أي أن قبض العلم ورفعه يكون عند قرب الساعة بظهور أشراطها المذكورة. والله تعالى أعلم. وإلى ما ذُكر أشار السيوطيّ رحمه الله تعالى: جَازَ خُلُوُّ الْعَصْرِ عَنْ مُجْتَهِدِ ... وَمُطْلَقًا يَمْنَعُ قَوْمُ أَحْمَدِ وَابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ لَا إِنْ أَتَتِ ... أَشْرَاطُهَا وَالْمُرْتَضَى لَمْ يَثْبُتِ (¬1) 6 - (ومنها): أن الداوديّ قال: هذا الحديث خرج مخرج العموم، والمراد به الخصوص؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ حتى يأتي أمر الله"، ويقال: هذا بعد إتيان أمر الله تعالى، إن لم يُفسّر إتيان الأمر بإتيان القيامة، أو عدم بقاء العلماء إنما هو في بعض المواضع كما في بيت المقدس مثلًا، إن فسرناه به، فيكون محمولًا على التخصيص جمعًا بين الأدلّة. 7 - (ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى: هذا الحديث بيّن كيفيةَ رفع العلم، وظهور الجهل، وهو نصّ في أن رفع العلم لا يكون بمحوه من الصدور، بل بموت العلماء، وبقاء الجهّال الذين يتعاطون مناصب العلماء في الفتيا والتعليم، يُفتون بالجهل، ويُعلّمونه، فينتشر الجهل، ويظهر، وقد ظهر ذلك، ووُجد على نحو ما أخبر -صلى الله عليه وسلم-، فكان ذلك دليلًا من أدلّة نبوّته، وخصوصًا في هذه الأزمان، إذ قد ولي المدارس والفتيا كثيرٌ من الجهّال والصبيان، وحُرِمها أهل ذلك الشأن. انتهى (¬2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. ¬

_ (¬1) راجع ما كتبته على "الكوكب الساطع" ص 556 - 557. (¬2) "المفهم" 6/ 705.

(المسألة الرابعة): في تقسيم الرأي على ثلاثة أقسام: قال الإمام ابن القيّم رحمه الله في كتابه القيّم "إعلام الموقّعين عن ربّ العالمين": الرأي ثلاثة أقسام: رأي باطل بلا ريب، ورأي صحيح، ورأي هو موضع الاشتباه، والأقسام الثلاثة قد أشار إليها السلف، فاستعملوا الرأي الصحيح، وعملوا به، وأفتَوْا به، وسوّغوا القول به، وذمّوا الباطل، ومنعوا من العمل والفتيا والقضاء به، وأطلقوا ألسنتهم بذمّه وذمّ أهله. والقسم الثالث سوّغوا العمل والفتيا والقضاء به عند الاضطرار إليه، حيث لا يُوجد منه بدٌّ، ولم يُلزموا أحدًا العمل به، ولم يُحرّموا مخالفته، ولا جعلوا مخالفه مخالفًا للدين، بل غايته أنهم خَيَّروا بين قبوله وردّه، فهو بمنزلة ما أُبيح للمضطرّ من الطعام والشراب الذي يَحرُم عند عدم الضرورة إليه، كما قال الإمام أحمد: سألت الشافعيّ عن القياس، فقال لي: عند الضرورة. وكان استعمالهم لهذا النوع بقدر الضرورة، لم يُفْرِطُوا فيه، ويُفَرّعوه، ويولّدوه، ويوسّعوه كما صنع المتأخّرون بحيث اعتاضوا به عن النصوص والآثار، وكان أسهل عليهم من حفظها، كما يوجد كثير من الناس يَضبط قواعد الإفتاء لصعوبة النقل عليه، وتعسّر حفظه، فلم يَتَعَدَّوا في استعماله قدر الضرورة، ولم يَبْغُوا العدول إليه مع تمكّنهم من النصوص والآثار، كما قال تعالى في المضطرّ إلى الطعام المحرّم: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173]، فالباغي: الذي يبتغي الميتة مع قدرته على التوصّل إلى المذكّى، والعادي: الذي يتعدّى قدرَ الحاجة بأكملها. فالرأي الباطل أنواع: [أحدها]: الرأي المخالف للنّصّ، وهذا مما يُعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه، ولا تحلّ الفُتيا به ولا القضاء، وإن وقع فيه مَن وقع بنوع تأويل وتقليد. [النوع الثاني]: هو الكلام في الدين بالْخَرْص والظنّ، مع التفريط والتقصير في معرفة النصوص، وفهمِها، واستنباط الأحكام منها، فإن مَن جهلها، وقاس برأيه فيما

سُئل عنه بغير علم، بل لمجرّد قدر جامع بين الشيئين أُلحق أحدهما بالآخر، أو لمجرّد قدر فارقٍ يراه بينهما يُفرّق بينهما في الحكم، من غير نظر إلى النصوص والآثار، فقد وقع في الرأي المذموم الباطل فضلّ وأضلّ. [النوع الثالث]: الرأي المتضمّن تعطيل أسماء الربّ وصفاته وأفعاله بالمقاييس الباطلة التي وضعها أهلُ البدع والضلال، من الجَهْميّة، والمعتزلة، والقدريّة، ومن ضاهاهم، حيث استعمل أهله قياساتهم الفاسدة، وآرائهم الباطلة، وشُبَههم الداحضة في ردّ النصوص الصحيحة الصريحة، فردّوا لأجلها ألفاظ النصوص التي وجدوا السبيل إلى تكذيب رُواتها وتخطئتهم، ومعاني النصوص التي لم يجدوا إلى ردّ ألفاظها سبيلًا، فقابلوا النوع الأول بالتكذيب، والنوع الثاني بالتحريف والتأويل، فأنكروا لذلك رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة، وأنكروا كلامه، وتكليمه لعباده، وأنكروا مُباينته للعالم، واستواءه على عرشه، وعُلُوّه على المخلوقات، وعموم قدرته على كلّ شيء، بل أخرجوا أفعال عباده من الملائكة والأنبياء والجنّ والإنس عن تعلّق قدرته ومشيئته وتكوينه لها، ونَفَوا لأجلها حقائق ما أخبر به سبحانه وتعالى عن نفسه، وأخبر به رسوله -صلى الله عليه وسلم- من صفات كماله، ونعوت جلاله، وحَرَّفوا لأجلها النصوص عن مواضعها، وأخرجوها عن معانيها وحقائقها بالرأي المجرّد الذي حقيقته أنه ذُبالة (¬1) الأذهان، ونُخالة الأفكار، وعُفارة الآراء، ووساوس الصدور، فملؤوا به الأوراق سوادًا، والقلوب شكوكًا، والعالم فسادًا. وكلُّ من له مُسكة من عقل يَعلَم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استَحكَم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استَحكَم هلاكه، ولا أمّة إلا فسد أمرُها أتمّ فساد، فلا إله إلا الله كم نُفي بهذه الآراء من حقّ، وأُثبت بها من باطل، وأُميت بها من هُدى، وأُحيي بها من ضلالة؟ وكم هُدم ¬

_ (¬1) الذُّبالة بالضم: فتيلة السراج. قاله في "اللسان".

بها من مَعْقِل الإيمان، وعمّر بها من دين الشيطان؟ وأكثر أصحاب الجحيم هم أهل هذه الآراء الذين لا سمع لهم ولا عقل، بل هم شرّ من الْحُمُر، وهم الذين يقولون يوم القيامة: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]. [النوع الرابع]: الرأي الذي أُحدثت به البدع، وغُيّرت به السنن، وعَمَّ البلاء، وتربّى عليه الصغير، وهَرِمَ فيه الكبير. فهذه الأنواع الأربعة من الرأي الذي اتّفق سلف الأمة، وأئمتها على ذمّه، وإخراجه من الدين. (النوع الخامس): ما ذكره أبو عمر بن عبد البرّ عن جمهور أهل العلم، أن الرأي المذموم. في هذه الآثار عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وعن أصحابه والتابعين -رضي الله عنهم- أنه القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون، والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات، وردّ الفروع والنوازل بعضها على بعض قياسًا، دون ردّها على أصولها، والنظر في عللها واعتبارها، فاستعمل فيها الرأي قبل أن ينزل، وفُرِّعت، وشُقِّقت قبل أن تقع، وتكلّم فيها قبل أن تكون بالرأي المضارع للظنّ، قالوا: وفي الاشتغال بهذا، والاستغراق فيه تعطيل السنن، والحثّ على جهلها، وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها، ومن كتاب الله عز وجل ومعانيه، واحتجّوا على ما ذهبوا إليه بأشياء (¬1). ثم ذكر من طريق أسد بن موسى، ثنا شريك، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عمر، قال: "لا تسألوا عما لم يكن، فإني سمعت عمر يَلعَن مَن يسأل عما لم يكن" (¬2). ثم ذكر من طريق أبي داود، ثنا إبراهيم بن موسى الرازيّ، ثنا عيسى بن يونس، ¬

_ (¬1) راجع "جامع بيان العلم" 2/ 1054. (¬2) "جامع بيان العلم" (2036) وهو ضعيف؛ لأن في سنده ليث بن أبي سليم، متروك، وشريك متكلّم فيه.

عن الأوزاعيّ، عن عبد الله بن سعد، عن الصُّنابحيّ، عن معاوية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "نهى عن الأُغلوطات" (¬1). وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعيّ بإسناده مثله، وقال: فسّره -يعني صعاب المسائل-. وقال الوليد بن مسلم عن الأوزاعيّ، عن عبد الله بن سعد، عن عبادة بن نُسيّ، عن الصنابحيّ، عن معاوية بن أبي سفيان أنهم ذكروا المسائل عنده، فقال: أما تعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن عُضَل المسائل (¬2). واحتجّوا أيضًا بحديث سهل بن سعد رضي الله عنهما وغيره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كره المسائل وعابها (¬3). وأنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله عز وجل كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال" (¬4). وأخرج بسنده عن عبد الرحمن بن مهديّ، عن مالك، عن الزهريّ، عن سهل بن سعد قال: "لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسائل وعابها" (¬5). وأخرج أيضًا عن الأوزاعيّ، عن عبدة بن أبي لبابة قال: "وددتُ أن أحظى من أهل الزمان أن لا أسألهم عن شيء، ولا يسألوني عن شيء، يتكاثرون بالمسائل كما يتكاثر أهل الدراهم بالدراهم" (¬6). وأخرج أيضًا عن إسماعيل بن عيّاش، ثنا شُرحبيل بن مسلم، أنه سمع الحجاج ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 5/ 435 وأبو داود رقم (3656) وهو ضعيف؛ لأن في سنده عبد الله ابن سعد بن فروة البجليّ مجهول. (¬2) إسناده ضعيف جدًّا في سنده سليمان بن أحمد الواسطيّ متروك الحديث، بل كذبه بعضهم، وعنعنة الوليد، وهو مدلّس، وجهالة عبد الله بن سعد. (¬3) متّفقٌ عليه. (¬4) حديث متّفق عليه من حديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-. (¬5) حديث صحيح. (¬6) إسناده حسن.

ابن عامر الثُّماليّ -وكان من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إياكم وكثرة السؤال" (¬1). قال: وفي سماع أشهب سئل مالك عن قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنهاكم عن قيل وقال، وكثرة السؤال"، فقال: أما كثرة السؤال فلا أدري أهو ما أنتم فيه مما أنهاكم عنه من كثرة المسائل، فقد كره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسائل وعابها، وقال الله عز وجل: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، فلا أدري أهو هذا أم السؤال في مسألة الناس في الاستعطاف؟. واحتجّوا أيضًا بما رواه ابن شهاب، عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص، أنه سمع أباه يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أعظم المسلمين في المسلمين جُرمًا من سأل عن شيء لم يُحرّم على المسلمين، فحرّم عليهم من أجل مسألته" (¬2). وقد جاء ذمّ الرأي في كلام السلف رحمهم الله، فقد سئل الشعبيّ -وهو من كبار التابعين، وقد أدرك مائة وعشرين من الصحابة، وأخذ عن معظمهم- عن مسألة من النكاح، فقال للسائل: إن أخبرتك برأي، فبُلْ عليه. وعنه قال: ما جاءكم به هؤلاء من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخذوه، وما كان من رأيهم فاطرحوه في الْحُشّ (¬3). وعن عمرو ابن دينار، قال: قيل لجابر بن زيد: إنهم يكتبون ما يسمعون منك، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، يكتبونه وأنا أرجع عنه غدًا. وعن ابن عيينة قال: اجتهاد الرأي هو مشاورة أهل العلم، لا أن يقوله هو برأيه. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الناس أنه لا رأي لأحد مع سنة سنّها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وعن أبي نضرة قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول للحسن البصريّ: بلغني أنك تفتي برأيك، فلا تُفت برأيك إلا أن يكون ¬

_ (¬1) إسناده حسن. (¬2) حديث متّفقٌ عليه. (¬3) أي الكنيف.

سنّة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وعن أبي وائل قال: إياك ومجالسة من يقول: أرأيت أرأيت. وعن ابن شهاب قال: دَعُوا السنّة تمضي، لا تَعَرَّضُوا لها بالرأي. وعنه قال -وهو يذكر ما وقع فيه الناس من هذا الرأي، وتركهم السنن-: إن اليهود والنصارى إنما انسلخوا من العلم الذي بأيديهم حين اتّبعوا الرأي، وأخذوا فيه. وسأل رجل سالم بن عبد الله بن عمر عن شيء، فقال: لم أسمع في هذا شيئًا، فقال له الرجل: فأخبرني -أصلحك الله- برأيك، فقال: لا، ثم أعاد عليه، فقال: إني أرضى برأيك، فقال سالم: إني لعلي إن أخبرتك برأي، ثم تذهب فأرى بعد ذلك رأيًا غيره، فلا أجدك. وقال البخاريّ: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسيّ، ثنا مالك بن أنس، قال: كان ربيعة يقول لابن شهاب: إن حالي ليس يشبه حالك، أنا أقول برأيي، من شاء أخذه، وعمل به، ومن شاء تركه. وقال الفريابيّ: ثنا أحمد بن إبراهيم الدَّورقيّ قال: سمعت عبد الرحمن بن مهديّ يقول: سمعت حماد بن زيد يقول: قيل لأيوب السختيانيّ: ما لك لا تنظر في الرأي؟ فقال أيوب: قيل للحمار: ما لك لا تَجْتَرُّ؟ قال: أكره مَضْغ الباطل. وقال الفريابيّ: ثنا العباس بن الوليد بن مَزْيَد، أخبرني أبي قال: سمعت الأوزاعيّ يقول: عليك بآثار من سلف، وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال، وإن زخرفوا لك القول. وقال أبو زرعة: ثنا أبو مسهر، قال: كان سعيد بن عبد العزيز إذا سئل لا يُجيب حتى يقول: لا حول ولا قوّة إلا بالله هذا الرأي، والرأي يُخطىء ويُصيب. وقد روى أبو يوسف والحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال: علمنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، ومن جاءنا بأحسن منه قبلناه منه. وقال الطحاويّ: ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، ثنا أشهب بن عبد العزيز، قال: كنت عند مالك، فسئل عن الْبَتّة، فأخذت ألواحي لأكتب ما قال، فقال لي مالك: لا تفعل، فعسى في العشيّ أقول: إنها واحدة. وقال معن بن عيسى القزّاز: سمعت

مالكًا يقول: إنما أنا بشرٌ أُخطىء وأُصيب، فانظروا في قولي، فكلُّ ما وافق الكتاب والسنّة فخذوا به، وما لم يوافق الكتاب والسنّة فاتركوه. قال ابن القيّم رحمه الله: فرضي الله عن أئمة الإسلام، وجزاهم عن نصيحتهم خيرًا، ولقد امتثل وصيّتهم وسلك سبيلهم أهل العلم والدين من أتباعهم. وأما المتعصّبون فإنهم عكسوا القضيّة، ونفروا في السنّة، فما وافق أقوالهم منها قبِلُوه، وما خالفها تحيّلوا في ردّه، أو ردّ دلالته، وإذا جاء نظير ذلك، أو أضعف منه سندًا ودلالةً، وكان يوافق قولهم قبِلوه، ولم يستجيزوا ردّه، واعترضوا به على منازعهم، وأشاحوا، وقرّروا الاحتجاج بذلك السند ودلالته، فإذا جاء ذلك السند بعينه، أو أقوى منه، ودلالته كدلالة ذلك، أو أقوى منه في خلاف قولهم دفعوه، ولم يقبلوه. وقال بقيّ بن مخلد: ثنا سحنون والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك أنه كان يكثر أن يقول: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32]. وقال القعنبيّ: دخلت على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه، فسلّمت عليه، ثم جلست، فرأيته يبكي، فقلت له: يا أبا عبد الله ما الذي يبكيك؟ فقال لي: يا ابن قعنب وما لي لا أبكي؟ ومن أحقّ بالبكاء منّي؟ والله لوددتُ أني ضُربت بكل مسألة أفتيت فيها بالرأي سَوْطًا، وقد كانت لي السعة فيما قد سُبقتُ إليه، وليتني لم أُفت بالرأي. وقال ابن أبي داود: ثنا أحمد بن سنان قال: سمعت الشافعي يقول: مَثلُ الذي ينظر في الرأي، ثم يتوب منه مثل المجنون الذي عُولج حتى برىء، فأُعقل ما يكون قد هاج به. وقال ابن أبي داود: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول: لا تكاد ترى أحدًا نظر في الرأي إلا وفي قلبه دَغَل (¬1). وقال عبد الله بن أحمد أيضًا: سمعت أبي يقول: الحديث الضعيف أحبّ إليّ من الرأي، فقال عبد الله: سألت أبي عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيه إلا صاحب حديث ¬

_ (¬1) "الدَّغَل" بفتحتين، والغين المعجمة، و"الدَّخَل" بالخاء المعجمة بوزنه: الفساد.

لا يَعرِف صحيحه من سقيمه، وأصحاب رأي، فتنزل به النازلة، فقال أبي: يسأل أصحاب الحديث، ولا يسأل أصحاب الرأي، ضعيف الحديث أقوى من الرأي. قال ابن القيّم: وأصحاب أبي حنيفة رحمه الله مُجمِعون على أن مذهب أبي حنيفة أن ضعيف الحديث عنده أولى من القياس والرأي، وعلى ذلك بَنَى مذهبه، كما قدّم حديث القهقهة مع ضعفه على القياس والرأي، وقدّم حديث الوضوء بنبيذ التمر في السفر (¬1) مع ضعفه على الرأي والقياس، ومنع قطع السارق بسرقة أقلّ من عشرة دراهم، والحديث فيه ضعيف، وجعل أكثر الحيض عشرة أيام، والحديث فيه ضعيف، وشرط في إقامة الجمعة المصرَ، والحديث فيه كذلك، وترك القياس المحض في مسائل الآبار؛ لآثار فيها غير مرفوعة، فتقديم الحديث الضعيف، وآثار الصحابة على القياس والرأي قوله، وقول الإمام أحمد، وليس المراد بالحديث الضعيف في اصطلاح السلف هو الضعيف في اصطلاح المتأخرين، بل ما يسمّيه المتأخّرون حسنًا قد يسميه المتقدّمون ضعيفًا. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قول ابن القيّم رحمه الله: إن مذهب أبي حنيفة تقديم الحديث الضعيف على القياس، ثم ذكر أمثلة على ذلك، محلّ نظر، فإنهم إذ قد فعلوا ذلك في الأمثلة المذكورة، فيا ليتهم وقفوا عليه، لكنهم يردّون الأحاديث الصحيحة بالقياس، كما فعلوا في حديث المصرّاة المتّفق عليه، وكالحديث المتفق عليه أيضًا: "لا صلاة إلا بأم القرآن"، وكحديث بيع العرايا، وكحديث تحريم الرجوع في الهبة إلا للوالد، وكحديث: "لا زكاة في حبّ ولا ثمر حتى يبلغ خمسة أوسق"، وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة التي ردّوها بأنها تخالف القياس، وقد أجاد ابن القيّم حيث أورد نيّفا وخمسين مثالا لما خالف فيه الحنفيّة وغيرهم الأحاديث الصحيحة، فراجعه تستفد (¬2)، وبالله تعالى التوفيق. ¬

_ (¬1) القيد بالسفر محل نظر، وما أظنه شرطا عندهم، فليُنظر. (¬2) راجع "إعلام الموقّعين عن ربّ العالمين" 1/ 617 - 699.

وأيضًا قوله: وليس المراد بالحديث الضعيف هو الضعيف في اصطلاح المتأخرين محلّ نظر، فإنه لا ينطبق على مذهب الحنفيّة، كما تشهد به الأحاديث التي أوردها ابن القيّم أمثلة لذلك، فإنها ضعيفة على اصطلاحهم، فتأملها بإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. قال: والمقصود أن السلف جميعهم على ذمّ الرأي والقياس المخالف للكتاب والسنّة، وأنه لا يحلّ العمل به، لا فُتيا، ولا قضاءً، وأن الرأي الذي لا يُعلم مخالفته للكتاب والسنة ولا موافقته فغايته أن يسوغ العمل به عند الحاجة إليه، من غير إلزام، ولا إنكار على من خالفه. وأخرج الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ بسنده عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه قال [من الكامل]: دِينُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ آثَارُ ... نِعْمَ المطِيّةُ لِلْفَتَى الأَخْبَارُ لَا تُخْدَعَنَّ عَنِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ ... فَالرَّأْيُ لَيْلٌ وَالْحَدِيثُ نَهَارُ وَلَرُبَّمَا جَهِلَ الْفَتَى طُرُقَ الهُدَى ... وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ لهَا أَنْوَارُ ولبعض أهل العلم [من البسيط]: الْعِلْمُ قَالَ اللهُ قَالَ رَسُولُه ... قَالَ الصَّحَابَةُ لَيْسَ خُلْفٌ فِيهِ مَا الْعِلْمُ نَصْبُكَ لِلْخِلَافِ سَفَاهَةً ... بَيْنَ النُّصُوصِ وَبَيْنَ رَأْيِ سَفِيهِ كَلَّا وَلَا نَصْبُ الْخِلَافِ جَهَالَةً ... بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَ رَأْيِ فَقِيهِ كَلَّا وَلَا رَدُّ النُّصُوصِ تَعَمُّدًا ... حَذَرًا مِنَ التَّجْسِيم وَالتَّشْبِيهِ حَاشَا النُّصُوصَ مِنَ الَّذِي رُمِيَتْ بِه ... مِنْ فِرْقَةِ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْوِيهِ (¬1) والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. ¬

_ (¬1) راجع "إعلام الموقعين" 1/ 75 - 81.

(المسألة الخامسة): في بيان الرأي المحمود: (اعلم): أن الرأي المحمود أنواع: (الأول): رأي أفقه الأمة، وأبرّهم قلوبًا، وأعمقهم علمًا، وأقلّهم تكلّفًا، وأصحّهم قُصُودًا، وأكملهم فطرةً، وأتمّهم إدراكًا، وأصفاهم أذهانًا، الذين شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وفهموا مقاصد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فنسبة آرائهم وقُصُودهم إلى ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- كنسبتهم إلى صحبته، والفرق بينهم وبين من بعدهم في ذلك كالفرق بينهم وبينهم في الفضل، فنسبة رأي من بعدهم إلى رأيهم كنسبة قدرهم إلى قدرهم. قال الشافعيّ رحمه الله في "رسالته البغداديّة" التي رواها عنه الحسن بن محمد الزعفرانيّ، وهذا لفظه: وقد أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في القرآن، والتوراة، والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الفضل ما ليس لأحد بعدهم، فرحمهم الله، وهنّأهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصدّيقين والشهداء والصالحين، أدَّوا إلينا سُنَن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وشاهدوه، والوحي يَنزِل عليه، فعلِموا ما أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عامّا وخاصّا، وعزمًا وإرشادًا، وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كلّ علم، واجتهاد، وورَعٍ، وعقلٍ، وأمر استُدرك به علم، واستُنبط به، وآراؤهم لنا أحمد، وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا، ومن أدركنا ممن يُرضَى، أو حُكي لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه سنة إلى قولهم إن اجتمعوا، أو قول بعضهم إن تفرّقوا، وهكذا نقول، ولم نخرج عن أقاويلهم، وإن قال أحدهم ولم يُخالفه غيره أخذنا بقوله. ولمّا كان رأي الصحابة -رضي الله عنهم- عند الشافعيّ بهذه المثابة، قال في الجديد في "كتاب الفرائض" في ميراث الجدّ والإخوة: وهذا مذهبٌ تلقّيناه عن زيد بن ثابت، وعنه أخذنا أكثر الفرائض. وقال: والقياس عندي قتل الراهب لولا ما جاء عن أبي بكر -رضي الله عنه-، فترك صريح

القياس لقول الصديق -رضي الله عنه-. وقال في رواية الربيع عنه: والبدعة ما خالف كتابًا، أو سنّةً، أو أثرًا عن بعض أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجعل ما خالف قول الصحابيّ بدعة. والمقصود أن أحدًا ممن بعدهم لا يساويهم في رأيهم، وكيف يساويهم، وقد كان أحدهم يرى الرأي، فينزل القرآن بموافقته؟ كما رأى عمر -رضي الله عنه- في أسارى بدر أن تُضرب أعناقهم، فنزل القرآن بموافقته، ورأى أن تُحجب نساء النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فنزل القرآن بموافقته، ورأى أن يُتّخذ مقام إبراهيم مُصلّى، فنزل القرآن بموافقته، إلى غير ذلك من موافقاته. وقد قال سعد بن معاذ -رضي الله عنه- لمّا حكمه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في بني قريظة: إني أرى أن تقتل مقاتلهم، وتَسبي ذرياتهم، وتغنم أموالهم، فقال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "لقد حكمت بحكم الله من فوق سبع سماواته. متّفقٌ عليه. ولمّا اختلفوا إلى ابن مسعود -رضي الله عنه- شهرًا في المُفَوِّضة قال: أقول فيها برأي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمنّي ومن الشيطان، والله ورسوله بريء منه، أرى أن لها مهر نسائها، لا وكس ولا شَطَط، ولها الميراث، وعليها العدّة، فقام ناس من أشجع فقالوا: نشهد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى في امرأة منّا، يقال لها: بَرْوَع بنت واشق مثلَ ما قضيت به، فما فرِحَ ابن مسعود -رضي الله عنه- بشيء بعد الإسلام فَرَحه بذلك. حديث صحيح، أخرجه أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ وابن ماجه، وغيرهم. وحقيقٌ بمن كانت آراؤهم بهذه المنزلة أن يكون رأيهم خيرًا لنا من رأينا لأنفسنا، وكيف لا؟ وهو الرأي الصادر من قلوب ممتلئة نورًا وإيمانًا وحكمةً وعلمًا ومعرفة وفهمًا عن الله تعالى، ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ونصيحةً للأمة، وقلوبهم على قلب نبيّهم، ولا واسطة بينهم وبينه، وهم يتلقّون العلم والإيمان من مشكاة النبوّة غَضًّا طريًّا لم يَشُبْهُ إشكال، ولم يشبه خلاف، ولم تدنّسه معارضة، فقياس رأي غيرهم بآرائهم من أفسد القياس. (النوع الثاني من الرأي المحمود): الرأي الذي يُفسّر النصوص، ويُبيّن وجه الدلالة منها، ويقرّرها، ويوضّح محاسنها، ويُسهّل طريق الاستنباط منها، كما قال عبدان: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: ليكن الذي تعتمد عليه الأثر، وخذ من الرأي

ما يُفسّر لك الحديث، وهذا هو الفهم الذي يختصّ الله سبحانه وتعالى به من يشاء من عباده. ومثال هذا رأي الصحابة -رضي الله عنهم- في العول في الفرائض عند تزاحم الفروض، ورأيهم في مسألة زوج وأبوين، وامرأة وأبوين أن للأم ثلث ما بقي بعد فرض الزوجين، ورأيهم في توريث المبتوتة في مرض الموت، ورأيهم في مسألة جرّ الولاء، ورأيهم في المحرم يقع على أهله بفساد حجه، ووجوب المضيّ فيه، والقضاء، والهدي من قابل، ورأيهم في الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أفطرتا، وقضتا، وأطعمتا لكلّ يوم مسكينًا، ورأيهم في الحائض تطهر قبل طلوع الفجر تصلّي المغرب والعشاء، وإن طهرت قبل الغروب صلّت الظهر والعصر، ورأيهم في الكلالة، وغير ذلك. قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أنا عاصم الأحول، عن الشعبيّ قال: سئل أبو بكر عن الكلالة، فقال: إني سأقول فيها برأي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمنّي ومن الشيطان، أراه ما خلا الوالد والولد (¬1). (النوع الثالث من الرأي المحمود): هو الرأي الذي تواطأت عليه الأمّة، وتلقّاه خلفهم عن سلفهم، فإن ما تواطؤوا عليه من الرأي لا يكون إلا صوابًا، كما تواطؤوا عليه من الرواية والرؤيا، وقد قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه، وقد تعدّدت منهم رؤيا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان: "أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، متّفقٌ عليه، فاعتبر -صلى الله عليه وسلم- تواطؤ رؤيا المؤمنين، فالأمة معصومة فيما تواطأت عليه من روايتها ورؤياها، ولهذا كان من سَدَاد الرأي وإصابته أن يكون شورى بين أهله، ولا ينفرد به واحد، وقد مدح الله سبحانه وتعالى المؤمنين بكون أمرهم شورى بينهم، وكانت النازلة إذا نزلت بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ليس عنده فيها نصّ عن الله سبحانه وتعالى، ولا عن رسوله -صلى الله عليه وسلم- جمع لها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم جعلها شُورى بينهم. ¬

_ (¬1) رواه الدارميّ في "مسنده" (2976) وعبد الرزاق في "مصنفه" (19191) والبيهقيّ في "سننه" 6/ 224. وفيه انقطاع؛ لأن الشعبيّ لم يسمع من أبي بكر -رضي الله عنه-.

قال البخاريّ: حدّثنا سُنيد، ثنا يزيد، عن العوّام بن حَوْشَب، عن المسيّب بن رافع قال: كان إذا جاء الشيء من القضاء ليس في الكتاب، ولا في السنّة، سُمَّي صوافي الأمراء (¬1)، فيرفع إليهم، فجُمع له أهل العلم، فما اجتمع عليه رأيهم فهو الحقّ (¬2). (الرابع من الرأي المحمود): الاجتهاد بالرأي على ضوء الكتاب والسنة، ورأي الصحابة، وذلك يكون بعد طلب علم الواقعة من القرآن، فإن لم يجدها ففي السنة، فإن لم يجدها في السنة، فبما قضى به الخلفاء الراشدون، أو اثنان منهم، أو واحد، فإن لم يجده فبما قاله واحد من الصحابة -رضي الله عنهم-، فإن لم يجده اجتهد رأيه، ونظر إلى أقرب ذلك من كتاب الله، وسنّة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأقضية أصحابه -رضي الله عنهم-، فهذا هو الرأي الذي سوّغه الصحابة، واستعملوه، وأقرّ بعضهم بعضًا عليه. قال عليّ بن الجعد: أنبأنا شعبة عن سيّار، قال: أخذ عمر -رضي الله عنه- فرسًا من رجل على سوم، فحَمَل عليه، فعطِبَ، فخاصمه الرجل، فقال عمر: اجعل بيني وبينك رجلًا، فقال الرجل: إني أرضى بشُريح العراقيّ، فقال شريح: أخذته صحيحًا سليمًا، فأنت ضامنٌ حتّى تردّه صحيحًا سليمًا، قال: فكأنه أعجبه، فبعثه قاضيًا، وقال: ما استبان لك من كتاب الله فلا تسأل عنه، فإن لم تستبن في كتاب الله فمن السنّة، فإن لم تجده في السنّة فاجتهد رأيك. وقال أبو عبيد: ثنا كثير بن هشام، عن جعفر بن بُرْقان، وقال أبو نُعيم: عن جعفر بن بُرقان، عن معمر البصريّ، عن أبي الْعَوّام، وقال سفيان بن عيينة: ثنا إدريس أبو عبد الله بن إدريس، قال: أتيت سعيد بن أبي بُردة، فسألته عن رُسُل عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- التي كان يكتب بها إلى أبي موسى الأشعريّ -رضي الله عنه-، وكان أبو موسى قد أوصى إلى أبي بُردة، فأخرج إليه كتُبًا، فرأيت في كتاب منها. ¬

_ (¬1) صوافي الأمراء: ما اختارهم الأمراء للفتيا من أهل العلم. (¬2) ضعيف؛ لأن سنيدًا ضعيف مع إمامته ومعرفته، راجع "التقريب" ص 138.

رجعنا إلى حديث أبي العوّام، قال: كتب عمر إلى أبي موسى: "أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة، وسُنّةٌ متّبعة، فافهم إذا أُدْلِي إليك، فإنه لا ينفع تكلّم بحقّ لا نفاذ له، آسِ الناسَ في مجلسك، وفي وجهك، وقضائك، حتى لا يطمع شريفٌ في حَيْفك، ولا يَيْئس ضعيف من عَدْلك، البيّنة على المدّعي، واليمين على من أنكر، والصلح جائزٌ بين المسلمين، إلا صُلحًا أحلّ حرامًا، أو حرّم حلالًا، ومن ادّعى غائبًا، أو بيّنةً فاضرب له أمدًا ينتهي إليه، فإن بيّنه أعطيته بحقّه، وإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضيّة، فإن ذلك هو أبلغ في العذر، وأجلى للعماء، ولا يمنعنّك قضاءٌ قضيتَ فيه اليومَ، فراجعت فيه رأيك، فهُديتَ فيه لرُشدك أن تراجع فيه الحقّ، فإن الحقّ قديم لا يُبطله شيء، ومراجعة الحقّ خيرٌ من التمادي في الباطل، والمسلمون عُدُولٌ بعضهم على بعض، إلا مجرّبًا عليه شهادة زور، أو مجلودًا في حدّ، أو ظَنينًا في ولاء، أو قرابة، فإن الله تعالى تولّى من العباد السرائر، وستر عليهم الحدود إلا بالبيّنات والأيمان، ثم الفَهْمَ الْفَهْمَ فيما أدلى إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن، ولا سنّة، ثم قايس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثالَ، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبّها إلى الله، وأشبهها بالحقّ، وإياك والغضبَ، والْقَلَقَ، والضجَرَ، والتأذّي بالناس، والتنكّر عند الخصومة، أو الخصوم -شكّ أبو عبيد- فإن القضاء في مواطن الحقّ مما يوجب الله به الأجر، ويُحسن به الذكر، فمن خلصت نيّته في الحقّ ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزيّن بما ليس في نفسه شأنه الله، فإن الله تعالى لا يَقبَلُ من العباد إلا ما كان خالصًا، فما ظنّك بثواب عند الله في عاجل رزقه، وخزائن رحمته. والسلام عليك ورحمة الله". قال أبو عبيد: فقلت لكثير: هل أسنده جعفر؟ قال: لا (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البيهقيّ 10/ 135 من حديث سعيد بن أبي بردة وجادةً، قال الشيخ الألبانيّ رحمه الله: وهي وجادة صحيحة من أصحّ الوجادات، وهي حجة. انظر تخريجه مفصّلًا في "إرواء الغليل" جـ 8 / ص 241 - 242 رقم 2619.

قال ابن القيّم رحمه الله: وهذا كتاب جليلٌ تلقّاه العلماء بالقبول، وبَنَوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوجُ شيء إليه، وإلى تأمّله، والتفقّه فيه. انتهى (¬1). وهو بحثٌ نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال: 52 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، حَدَّثَنِي أَبُو هَانِىءٍ، حُمَيْدُ بْنُ هَانِىءٍ الخوْلانِيُّ، عَنْ أبِي عُثْمَانَ، مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أُفْتِيَ بِفُتْيَا غَيْرِ ثَبَتٍ، فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد الحافظ الثبت [10] 1/ 1. 2 - (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ) العدويّ، مولى آل عمر، أبو عبد الرحمن المقري القصير، أصله من ناحية البصرة، وقيل: من ناحية الأهواز، سكن مكة، ثقة فاضلٌ، أقرأ القرآن نيّفًا وسبعين سنة [9]. رَوَى عن كَهْمَس بن الحسن، وموسى بن عُلَيّ بن رَبَاح، وأبي حنيفة، وابن عون، وسعيد بن أبي أيوب، وغيرهم. ورَوَى عنه البخاري، وروى له هو والباقون بواسطة أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعلي بن المديني، وأبي خيثمة، وأبي بكر بن أبي شيبة، وأبي قُدَامة، وعبد بن حميد، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وابنه محمد بن عبد الله ابن يزيد، وغيرهم، وآخر من رَوى عنه بشر بن موسى بن صالح الأسديّ. قال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: ثقة. وقال الخليلي: ثقة، حديثه في الثقات، يُحتج به، ويتفرد بأحاديث. وقال أبو سعد الصفّار، عن جده، عن محمد بن ¬

_ (¬1) راجع "إعلام الموقّعين" 1/ 69 - 87.

عبد الله بن يزيد المقري: كان ابن المبارك إذا سئل عن أبي، قال: زَرْزَدَهْ -يعني ذهبا مضروبا خالصًا. وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن قانع: مكي ثقة. وقال محمد بن عاصم الأصبهاني: سمعت المقري يقول: أنا ما بين التسعين إلى المائة، وأقرأت القرآن بالبصرة ستا وثلاثين سنة، وهاهنا بمكة خمسا وثلاثين سنة. وقال البخاري: مات بمكة سنة (12) أو ثلاث عشرة ومائتين. وقال محمد بن عبد الله الحضرمي، وابن سعد: مات سنة (13)، زاد ابن سعد: في رجب. قال الحافظ: وذكر أبو العرب الحافظ أن ابن وهب رَوَى عنه مع تقدمه، فلئن كان كذلك فبين وفاته ووفاة بشر بن موسى نيف وتسعون سنة. وفي الزهرة روى عنه البخاري اثنى عشر حديثًا. انتهى. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث برقم (53) و (505) و (738) و (2221) و (2775). 3 - (سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ) واسمه مِقْلاص الْخُزاعيّ مولاهم، أبو يحيى المصريّ، ثقة ثبتٌ [7]. رَوَى عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، وأبي مرحوم عبد الرحيم بن ميمون، وعبد الله بن أبي جعفر، وكعب بن علقمة، وعُقيل بن خالد، وأبي هانىء حميد بن هانىء، وجعفر بن ربيعة، وغيرهم. ورَوَى عنه ابن جريج، وهو أكبر منه، وابن المبارك، وابن وهب، ونافع بن يزيد، وأبو عبد الرحمن المقري، وغيرهم. قال أحمد: لا بأس به. وقال ابن معين، والنسائيّ: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة ثبتًا. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن حِبَّانَ في موضع آخر: ليس له عن تابعيّ سماع صحيح، وروايته عن زيد بن أسلم، وأبي حازم إنما هي كتاب. وقال ابن يونس: كان فقيهًا. وقال ابن وهب: كان فَهِمًا حُلْوًا، فقيل له: كان فقيهًا؟ فقال: نعم. وقال الساجيّ: صدوق. ونقل ابن خلفون، عن يحيى بن بُكير أنه وَثّقَه. وقال ابن معين: مات زمن أبي جعفر. وقال ابن يونس: وُلد سنة مائة، وتوفي سنة (161)، وقيل: سنة (66)،

وسنة إحدى أصح. وقال البخاريّ: يقال: مات سنة (49). وقال ابن حبان في "الثقات": يروي عن زيد بن أسلم، وأهل المدينة، وعنه خالد بن يزيد، وأهل مصر، مات سنة (149)، وقد قيل: في آخر سنة (61)، أو أول سنة (62). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث برقم (53) و (2435) و (3276) و (3669) و (4176). 4 - (أَبُو هَانِىءٍ، حُمَيْدُ بْنُ هَانِىءٍ الْخَوْلانِيُّ) المصريّ، لا بأس به [5]. أدرك سُلَيم بن عِتْر، ورَوَى عن عمرو بن حريث، وأبي عبد الرحمن الْحُبُليّ، وعُلَيّ ابن رَبَاح، وعباس بن جُلَيد الحَجْريّ، وأبي عثمان الطُّنْبُذيّ، وغيرهم. وروى عنه سعيد ابن أبي أيوب، وحَيْوَة، وعبد الرحمن بن شُريح، والليث، وابن وهب، وغيرهم من أهل مصر. قال أبو حاتم: صالح. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن شاهين في "الثقات": هو أكبر شيخ لابن وهب، رُفِع به أحمد بن صالح المصريّ. وقال الدارقطنيّ: لا بأس به ثقة. وقال ابن عبد البر: هو عندهم صالح الحديث، لا بأس به. وذكره ابن حبان في "الثقات" في التابعين. وقال ابن يونس: توفي سنة (142). أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث برقم (52) و (2775) و (3924) و (4128). 5 - (أَبُو عُثْمَانَ، مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ) المصريّ الطُّنْبُذيّ (¬1)، ويقال: الإفريقيّ، مولى الأنصار، كان رَضِيع عبد الملك بن مروان، صدوق (¬2) [4]. ¬

_ (¬1) "الطُّنْبُذيّ" بضم الطاء، والموحّدة، بينهما نون ساكنة، آخره معجمة: نسبة إلى طُنْبُذة قرية بمصر. قاله في "لبّ اللباب" 2/ 94. (¬2) قال في "التقريب": مقبول، والأولى أنه صدوق، لأنه روى عن جماعة، وروى عنه جماعة، كما يُعلم من ترجمته، ووثقه ابن حبّان، وقال الدارقطنيّ: يُعتبر به، وقال الذهبيّ في "الميزان" 4/ 107: لا يبلغ حديثه درجة الصحّة، وهو في نفسه صدوق. انتهى.

رَوَى عن أبي هريرة، وابن عمر، وسفيان بن وهب الخولانيّ. وروى عنه حميد بن هانىء، وبكر بن عمرو، وشَرَاحيل بن يزيد، وعمرو بن أبي نُعَيمَة الْمُعَافريان، وسهل ابن علقمة السبائيّ، وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم. قال الدارقطنيّ: يُعتَبَر به. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الذهبيّ: لا يبلغ حديثه درجة الصحّة، وهو في نفسه صدوق. وقال ابن يونس: قال يحيى ابن عثمان بن صالح: تُوفي مسلم بن يسار بإفريقية زمنَ هشام بن عبد الملك. أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم في "المقدّمة"، وأبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 6 - (أَبو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله ثقات، غير حميد، فلا بأس به، ومسلم، فصدوقٌ، وهم من رجال الجماعة، غير حميد بن هانيء، فما أخرج له البخاريّ، وغير مسلم، فما أخرج له البخاريّ، وأخرج له مسلم في "المقدّمة" حديثًا واحدًا. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالمصريين، غير شيخه، فكوفيّ، والصحابيّ، فمدنيّ. 4 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. 5 - (ومنها): أن فيه التحديث، والعنعنعة من صيغ الاتصال، على الأصحّ في "عن" من غير المدلّس، إن ثبت السماع، على الراجح، ويكتفي مسلم بالمعاصرة. 6 - (ومنها): أن صحابيّه أكثر الصحابة رواية للحديث، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَن أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ) شرطيّة مبتدأ (أُفْتِيَ) بالبناء للمفعول، قال ابن الأثير رحمه الله: يقال: أَفتاه في المسألة يُفتيه: إذا أجابه،

والاسم الفتوى. انتهى (¬1). وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الفتوى": بالواو بفتح الفاء، وبالياء، فتُضمّ، وهي اسم من أفتى العالم: إذا بيّن الحكم، واستفتيته: سألته أن يُفتي، ويقال: أصله من الفَتِيّ، وهو الشابّ القويّ، والفَتَاوِي بكسر الواو على الأصل، وقيل: يجوز الفتح للتخفيف. انتهى (¬2). (بِفُتْيَا) بضم الفاء، وسكون المثنّاة الفوقيّة، وبالياء، مقصورًا: اسم مصدر لـ "أفتى"، ويقال فيه "الفتوى" بالواو كما سبق بيانه آنفًا، و"فُتْيَا" مضافٌ إلى قوله: (غَيْرِ ثَبَتٍ) بفتحتين، وفتح، فسكون: أي بفُتْيَا رجلٍ غيرِ مُتثبِّتٍ في فتواه؛ لعدم موافقتها للأدلة الشرعيّة من الكتاب، والسنّة، والإجماع. قال الفيّوميّ: ثَبَتَ الأمرُ: صَحّ، ويتعدّى بالهمزة والتضعيف، وقال أيضًا: ورجلٌ ثبتٌ ساكن الباء: مُتثبّتٌ في أموره، وثَبْتُ الجنان: أي ثابتُ القلب، وثَبُتَ في الحرب فهو ثبيتٌ، مثالُ قرُبَ فهو قريبٌ، والاسم ثَبَت بفتحتين، ومنه قيل للحجّة: ثَبْتٌ، ورجلٌ ثَبَتٌ بفتحتين أيضًا: إذا كان عدلًا ضابطًا، والجمع أثبات، مثلُ سبب وأسباب. انتهى (¬3). وفي رواية أبي داود: "من أفتي بغير علم". وفي لفظ لأحمد: "ومن أفتي بفتيا بغير علم"، ولفظ الدارميّ: "من أفتي بفتيا بغير ثَبْتٍ". (فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ) أي على الشخص الذي أفتى السائل. وقال في "المرقاة": قال الأشرف، وتبعه زين العرب: يجوز أن يكون "أفتى" الثاني بمعنى استفتى، و"أفتى" الأول معروفًا: أي كان إثمه على من استفتاه، فإنه جعله ¬

_ (¬1) "النهاية" 3/ 411. (¬2) "المصباح" 2/ 462. (¬3) "المصباح المنير" 1/ 80.

في معرض الإفتاء بغير علم، ويجوز أن يكون مجهولًا: أي فإثم إفتائه على من أفتاه: أي الإثم على المفتي دون المستفتي. اهـ والأظهر الثاني، وهو الأصحّ من النُّسَخ، يعني أن كلّ جاهل سأل عالمًا عن مسألة، فأفتاه العالم بجواب باطل، فَعَمِل السائلُ بها، ولم يعلم بطلانها، فإثمه على المفتي إن قصّر في اجتهاده. انتهى (¬1). والحاصل أنه من وقع في خطإ بفتوى عالم، فالإثم على ذلك العالم، لا على متّبعه، وهذا إذا لم يكن الخطأ في محلّ الاجتهاد، أو كان إلا أنه وقع لعدم بلوغه في الاجتهاد حقّه، وفيه زجرٌ عن الإفتاء بغير علم (¬2). وزاد في رواية أبي داود: "ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره، فقد خانه". ومعناه: "أن من أشار على أخيه بأمر: أي أمر أخاه المستشير بأمر "يعلم" المراد بالعلم ما يشمل الظنّ "أن الرشد" أي المصلحة "في غيره" أي غير ما أشار إليه "فقد خانه": أي خان المستشارُ المستشيرَ؛ لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: "المستشار مؤتمن" (¬3)، وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وغيره مرفوعًا: "من غشّنا فليس منّا" (¬4). وأخرجه أحمد في "مسنده"، ولفظه: "من تقول عليّ ما لم أقل، فليتبوأ مقعده من النار، ومن استشاره أخوه المسلم، فأشار عليه بغير رَشَدٍ، فقد خانه، ومن أُفتي بفتيا غيرِ ثَبْتٍ، فإنما إثمه على من أفتاه". وقد تقدّم شرح قوله: "من تقوّل عليّ إلخ" في الحديث ¬

_ (¬1) راجع "المرقاة" 1/ 503. (¬2) راجع "المرعاة" 1/ 237. (¬3) حديث صحيح أخرجه المصنّف بإسناد صحيح في "كتاب الأدب" برقم (3735). وانظر "صحيح الجامع" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 2/ 1136 رقم (6700). (¬4) حديث صحيح يأتي للمصنّف برقم (2225) وانظر "صحيح الجامع" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 2/ 1094 رقم (6407).

رقم (34)، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا حسنٌ؛ لأجل الكلام في مسلم بن يسار، وقد سبق أنه لا ينزل حديثه عن درجة الحسن، كما أشار إليه الذهبيّ رحمه الله، والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) (8/ 53) بهذا الإسناد فقط، و (أبو داود) رقم (3657) عن سليمان بن داود، عن ابن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن بكر بن عمرو، عن عمرو بن أبي نُعيمة، عن أبي عثمان مسلم بن يسار، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- و (أحمد) في "مسنده" (2/ 321) عن عبد الله بن يزيد، عن سعيد بن أبي أيوب، عن بكر بن عمرو به و (الدارميّ) في "سننه" (161) و (البخاريّ) في "الأدب المفرد" (259) كلاهما عن عبد الله بن يزيد بسند أحمد، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو وجوب اجتناب الرأي والقياس، ووجهه أن المراد بفتيا غير ثبت الفتاوى التي تصدر من غير حجة شرعيّة، من كتاب، أو سنّة، أو إجماع، ولا تكون هذه الفتيا إلا مجرّد هوى، وهو الرأي المذموم الذي بوّب له المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أنه لا إثم على المستفتي إذا عمل بالخطإ، وإنما الإثم على المفتي الذي تجرّأ على الله، فأفتى بغير علم. 3 - (ومنها): تحريم الفتوى بغير علم، وقال الله عز وجل: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ

هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} الآية [النحل: 116]، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} الآية [الأنعام: 21]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 53 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الهُمْدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَني رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ، وَجَعْفَرُ ابْنُ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ أَنْعُمٍ، هُوَ الْإِفْرِيقِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ، فَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ فَضْلٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، أَوْ فَرِيضَةٌ عَادَلَةٌ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الهُمْدَانِيُّ) هو: أبو كريب الحافظ الثبت المذكور أول الباب. 2 - (رِشْدِينُ -بكسر الراء، وسكون المعجمة- ابْنُ سَعْدٍ) -بفتح، فسكون- ابن مُفلح المُهْريّ -بفتح الميم، وسكون الهاء- أبو الحجّاج المصريّ، وهو رِشدين بن أبي رِشْدين، ضعيف [7]. رَوَى عن زَبّان بن فائد، وأبي هانىء حميد بن هانىء، وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم، والأوزاعي، وعمرو بن الحارث، وغيرهم. ورَوَى عنه بقية، وهو من أقرانه، وابن المبارك، ومروان بن محمد، وابنه عبد القاهر بن رشدين، وضمرة بن ربيعة، وأبو كريب، وهشام بن عمار، وغيرهم. قال الميمونيّ: سمعت أبا عبد الله يقول: رِشْدين بن سعد ليس يُبَالي عن من رَوَى، لكنه رجل صالح، قال: فوثقه الهيثم بن خارجة، وكان في المجلس، فتبسم أبو عبد الله، ثم قال: ليس به بأس في أحاديث الرِّقَاق. وقال حرب: سألت أحمد عنه، فضعفه، وقَدَّم ابن لَهيعة عليه. وقال البغوي: سئل أحمد عنه، فقال: أرجو أنه صالح الحديث. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: لا يُكتَب حديثه. وقال محمد بن أحمد بن الجنيد عن ابن معين: ليس من حُمَّال المَحَامل. وقال أحمد بن محمد بن حرب عن ابن

معين: رِشدِينَين ليسا برَشِيدَين: رشدين بن كريب، ورشدين بن سعد. وقال عثمان الدارمي وغيره عن ابن معين: ليس بشيء. وقال عمرو بن عليّ، وأبو زرعة: ضعيف الحديث. وقال أبو حاتم: منكر الحديث، وفيه غفلة، ويحدث بالمناكير عن الثقات، ضعيف الحديث، ما أقربه من داود بن المحبر، وابنُ لهيعة أَسْتَر، ورشدين أضعف. وقال الجوزقاني: عنده معاضيل ومناكير كثيرة. وقال أيضا: سمعت ابن أبي مريم: يُثني عليه في دينه. وقال قتيبة: كان لا يبالي، ما دُفع إليه قرأه. وقال النسائيّ: متروك الحديث. وقال في موضع آخر: ضعيف الحديث، لا يُكتَب حديثه. وقال ابن عدي: أحاديثه ما أقل من يتابعه عليها، وهو مع ضعفه يُكتب حديثه. وقال ابن يونس: وُلد سنة عشر ومائة، ومات سنة (188)، وكان رجلا صالحًا، لا يُشَكّ في صلاحه وفضله، فأدركته غفلة الصالحين، فخلّط في الحديث، أساء فيه يحيى بن معين القول، ولم يكن النسائي يرضاه، ولا يُخرّج له. وقال ابن سعد: كان ضعيفًا. وقال الساجي: قال عبد الله -يعني ابن أحمد-: قال أبي: رِشْدين كذا وكذا، وسمعت ابن مثنى يقول: مات رشدين، فذكر وفاته، قال: وكان عنه مناكير. وقال ابن شاهين في "الثقات": ثنا البغوي، عن الإمام أحمد قال: أرجو أنه صالح الحديث. وقال ابن قانع، والدارقطني: ضعيف الحديث. وقال الآجري، عن أبي داود: ضعيف الحديث. وقال ابن حبان: كان ممن يجيب في كل ما يُسأل، ويَقرَأُ كلما دُفِع إليه، سواء كان من حديثه أم من غير حديثه، فغلبت المناكير في أخباره. وقال ابن بكير: رأيت الليث أخرجه من المسجد، وقال له: لا تقنت في النوازل. وقال يعقوب بن سليمان: ورشدين أضعف وأضعف. تفرّد به الترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث برقم 54 و412 و521 و802 و1116 و 2435 و 2637. 3 - (جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ) بن جعفر بن عمرو بن حُريث المخزوميّ، أبو عون الكوفيّ، صدوقٌ [9]. رَوَى عن إسماعيل بن أبي خالد، وإبراهيم بن مسلم الهَجَريّ، والأعمش،

وهشام بن عروة، ويحيى بن سعيد، والمسعوديّ، وأبي الْعُمَيس، وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم، وجماعة. ورَوَى عنه أحمد بن حنبل، والحسن بن علي الْحُلْواني، وإسحاق بن راهويه، وعبد بن حميد، وبُندار، وهارون الْحَمّال، وابنا أبي شيبة، وأبو خيثمة، وجماعة. قال أحمد: رجل صالح، ليس به بأس. وقال أبو أحمد الفراء: قال لي أحمد: عليك بجعفر بن عون. وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق. وذكره ابن حبان، وابن شاهين في "الثقات". وقال ابن قانع في "الوفيات": كان ثقة. وقال البخاري: مات سنة (206). وقال أبو داود: سنة (7)، قيل: مات وهو ابن (87)، وقيل: (97) سنة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث برقم 54 و 970 و 1586 و 1859 و 1900 و 2435 و 2952 و 3312 و 3748. 4 - (ابْنُ أَنْعُمٍ، هُوَ الْإِفْرِيقِيُّ) هو: عبد الرحمن بن زياد بن أَنْعُم -بفتح أوله، وسكون النون، وضمّ المهملة- الشعبانيّ، أبو أيوب، ويقال: أبو خالد الإفريقي القاضي، عِدَاده في أهل مصر قاضي إِفريقية، ضعيف في حفظه [7]. رَوَى عن أبيه، وأبي عبد الرحمن الحُبُليّ، وعبد الرحمن بن رافع التَّنُوخيّ، وزياد ابن نعيم الحضرمي، وعمران بن عبد المعافري، وغيرهم. ورَوَى عنه الثوري، وابن لَهِيعة، وابن المبارك، وعيسى بن يونس، ورشدين بن سعد، وغيرهم. قال عبد الله بن إدريس: ولي قضاء إفريقية لمروان. وقال المقري عنه: أنا أوّل مَن وُلد في الإسلام بعد فتح إفريقية -يعني بها-. وقال أبو موسى: ما سمعت يحيى، ولا عبد الرحمن يحدثان عن سفيان عنه. وقال عمرو بن علي: كان يحيى لا يحدث عنه، وما سمعت عبد الرحمن ذكره إلا مرة، قال: ثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، وهو مليح الحديث، ليس مثله غيره في الضعف. وقال ابن قهزاذ، عن إسحاق بن راهويه: سمعت يحيى بن سعيد يقول: عبد الرحمن بن زياد ثقة. وقال ابن المديني: سألت يحيى بن سعيد عنه، فقال: سألت هشام بن عروة، فقال: دعنا منه. وقال في موضع آخر: ضعَّف يحيى الإفريقي. وقال محمد بن يزيد المستملي، عن ابن مهدي: أما

الإفريقي فما ينبغي أن يُروَى حديث عنه. وقال أبو طالب عن أحمد: ليس بشيء. وقال أحمد بن الحسن الترمذي وغيره عن أحمد: لا أكتب حديثه. وقال الْمرُّوذيّ عن أحمد: منكر الحديث. وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن يحيى بن معين: ضعيف يكتب حديثه، وإنما أُنكر عليه الأحاديث الغرائب التي يحدثها. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ضعيف. وقال الدُّوريّ عن ابن معين: ليس به بأس، وهو ضعيف، وهو أحب إلي من أبي بكر بن أبي مريم. وقال يعقوب بن شيبة: ضعيف الحديث، وهو ثقة صدوق رجل صالح. وقال يعقوب بن سفيان: لا بأس به، وفي حديثه ضعف. وقال صالح بن محمد: منكر الحديث، ولكن كان رجلا صالحًا. وقال الترمذي: ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه يحيى القطان وغيره، ورأيت محمد بن إسماعيل يُقَوّي أمره، ويقول هو مقارب الحديث. وقال النسائي ضعيف. وقال ابن خزيمة: لا يحتج به. وقال ابن خِرَاش: متروك. وقال الساجي فيه ضعف وكان ابن وهب يُطريه. وكان أحمد بن صالح يُنكر على من يتكلم فيه، ويقول: هو ثقة. وقال ابن رشدين عن أحمد بن صالح: من تكلم في ابن أنعُم فليس بمقبول، ابن أنعُم من الثقات. وقال ابن عديّ: عامة حديثه لا يُتابَع عليه. قال الهيثم وخليفة: مات في خلافة أبي جعفر. وقال البخاري عن المقريء: مات سنة ست وخمسين ومائة. وقال ابن يونس: مات بإفريقية سنة ست وخمسين. وقال المقريء: جاز المائة. وذكر أبو العرب أنه مات سنة إحدى وستين ومائة، وقال: كان مولده سنة أربع أو خمس وسبعين. وقال أبو العرب القيراني: كان ابن أنعم من أجلة التابعين عدلًا في قضائه صَلْبًا أنكروا عليه أحاديث ذكرها البهلول بن راشد، سمعت الثوري يقول: جاءنا عبد الرحمن بستة أحاديث، يرفعها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لم أسمع أحدًا من أهل العلم يرفعها، حديث: "أمهات الأولاد"، وحديث: "إذا رفع رأسه من آخر السجدة، فقد تمت صلاته"، وحديث: "لا خير فيمن لم يكن عالما أو متعلما"، وحديث: اغدُ عالما أو متعلمًا"، وحديث: "العلم

ثلاثة"، وحديث: "من أذّن فهو يقيم". قال أبو العرب: فلهذه الغرائب ضعف ابن معين حديثه. وقال الغلابي: يُضعفونه، ويكتب حديثه. وقال سحنون: عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ثقة. وقال الحربي: غيره أوثق منه. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالقوي عندهم. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات، ويدلّس عن محمد بن سعيد المصلوب. وقال الْبَرْقاني: قال أبو بكر بن أبي داود: إنما تكلم الناس في الإفريقي، وضعفوه لأنه رَوَى عن مسلم ابن يسار، ولم يدخل مسلم إفريقية قط، يَعنون البصري، ولم يعلموا أن مسلم بن يسار آخر يقال له: أبو عثمان الطُّنْبُذيّ، وكان الإفريقي رجلا صالحًا. وقال أبو الحسن بن القطان: كان من أهل العلم والزهد بلا خلاف بين الناس، ومن الناس من يوثقه، ويربأ به عن حَضيض رد الرواية، والحقّ فيه أنه ضعيف، لكثرة روايته المنكرات، وهو أمر يعتري الصالحين. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن القطّان رحمه الله هو القول الفصل في ابن أنعُم. والله تعالى أعلم. أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا برقم 54 و 229 و 512 و 717 و970 و 1855 و 1859 و 2435 و 2694 و 3597 و 3748. 5 - (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَافِعٍ) التّنُوخيّ، أبو الْجَهْم، ويقال: أبو الحجر المصريّ قاضي إفريقية، ضعيف [4]. رَوَى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وغَزِيّة، ويقال: عقبة بن الحارث. وروى عنه ابنه إبراهيم، وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وسليمان بن عوسجة، وبكر بن سَوَادة، وغيرهم. قال البخاري: في حديثه مناكير. وقال أبو حاتم: شيخ مغربي حديثه منكر. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: لا يحتج بخبره إذا كان من رواية ابن أنعم، وإنما

وقع المناكير في حديثه من أجله. وقال أبو العرب: كان أحد الفقهاء العشرة الذين أرسلهم عُمر بن عبد العزيز ليفقهوا أهل إفريقية. وقال الساجي: فيه نظر. وقال النّبَاتيّ: فيه نظر، وهو غير مشهور. قال ابن يونس: تُوفي في وسط خلافة هشام بن عبد الملك، قال الحسن ابن علي العَدّاس: سنة ثلاث عشرة ومائة. أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وله عنده في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم 54 و 3597 و 3748. 6 - (عَبْدُ اللَّه بْنُ عَمْرٍو) بن العاص رضي الله عنهما، تقدّم أول الباب، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "الْعِلْمُ) أي العلم الذي هو أصل علوم الدين، واللام للعهد الذهنيّ (ثَلَاثَةٌ) أي معرفة ثلاثة أشياء (فَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ) أي ما سوى ما ذُكر من العلوم، يعني أن كلّ علم سوى هذه العلوم الثلاثة، وما يتعلّق بها مما تتوقّف هذه الثلاثة عليه، وتُستخرَج منه (فَهُوَ فَضْلٌ) أي فهو زائد على الحاجة، لا ضرورة إلى معرفته. قال الطيبيّ رحمه الله: العلم إدراك الشيء بحقيقته، وذلك ضربان: [أحدهما]: إدراك ذات الشيء. [والثاني]: الحكم على الشيء بوجود شيء هو موجود له، أو نفي شيء هو منفيّ عنه، فالأول هو المتعدّي إلى مفعول واحد، نحو قوله تعالى: {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101]. والثاني إلى مفعولين، نحو قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10]. والتعريف في العلم للعهد، وهو ما عُلم من الشارع أنه ما هو، وهو العلم النافع في الدين، فإن العلم مطلقٌ يجب أن يقيّد بما يُفهم منه المقصود، فيقال: علم الشريعة معرفة ثلاثة أشياء، والتقسيم حاصر، وبيانه أن قوله: "آيَةٌ مُحْكَمَةٌ" يشتمل على معرفة كتاب الله تعالى، وما يتوقّف عليه معرفته؛ لأن المحكمة هي التي

أُحكمت عبارتها، بأن حُفظت من الاحتمالات والاشتباه، وكانت أمّ الكتاب، أي أصله، فتُحمل المتشابهات عليها، أو تردّ إليها، ولا يتمّ ذلك إلا للماهر الحاذق في علم التفسير والتأويل الحاوي لمقدّمات يفتقر إليها من الأصولين، وأقسام العربيّة. وقوله: "أو سنّة قائمة" معنى قيام السنّة ثباتها، ودوامها بالحافظة عليها، من قامت السوق إذا نفقت؛ لأنها إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجّه إليه الرغبات، ويتنافس فيه المخلصون، وإذا عُطّلت، وأُضيعت كانت كالشيء الكاسد الذي لا يُرغب فيه، ودوامها إما أن يكون بحفظ أسانيدها من معرفة أسماء الرجال، والجرح والتعديل، ومعرفة الأقسام من الصحيح والحسن والضعيف المتشعّب منه أنواع كثيرة، وما يتّصل بها من المتمّمات، وإما أن يكون بحفظ متونها من التغيير والتبديل بالإتقان والتيقّظ، وبتفهّم معانيها، واستنباط العلوم الجمّة منها؛ لأن جلّها، بل كلّها من جوامع الكلم التي أوتي، وخصّ بها هذا النبيّ الأميّ المكتوب في التوراة والإنجيل، لا سيّما هذه الكلمة الفاذّة الجامعة مع قصر متنها، وقرب طرقها علوم الأولين والآخرين -صلى الله عليه وسلم- (¬1). وقوله: "أو فريضة عادلة" إذا فُسّر بما أسلفناه في قوله: "طلب العلم فريضة" على ما تكلّم فيه العلماء من الفرائض المتكاثرة، كانت شاملة لجميع أنواعها، وإذا ذهب إلى أن "العادلة" هي المستقيمة المستنبطة من الكتاب، والسنّة، والإجماع، والقياس، رجع المعنى إليه، وسُمّيت عادلةً لأنها معادلة، أي مساوية لما أخذ منها، ونقف من هذا على أن المراد بقوله: "وما سوى ذلك فهو فضل" أن الفضل واحد الفضول الذي لا مدخل له في أصل علوم الدين، وما يُستعاذ منه حينًا بقوله: "أعوذ بالله من علم لا ينفع"، قال صاحب "المغرب": الفضل الزيادة، وقد غلب، جمعه على ما لا خير فيه، حتى قيل: فضول بلا فضل، وطول بلا طول، ثم قيل: لمن يشتغل بما لا يعنيه فضولي، ¬

_ (¬1) هذا لو صحّ الحديث بهذا اللفظ، ولكن الحال ما عرفته، فتفطّن.

وأما الطبّ فليس بفضول؛ لما ثبت بنصوص السنة الافتقار إليه. والله أعلم. انتهى كلام الطيبيّ (¬1). وقال الشاه وليّ الله: قوله: "العلم ثلاثة إلخ" هذا ضبط وتحديد لما يجب عليهم بالكفاية، فيجب معرفة القرآن لفظًا، ومعرفة مُحْكمِهِ بالبحث عن شرح غريبه، وأسباب نزوله، وتوجيه معضله، وناسخه ومنسوخه، فأما التشابه فحكمه التوقّف، أو الإرجاع إلى المحكم، والسنّة القائمة ما ثبت في العبادات، والاتفاقات من الشرائع، والسنن مما يشمل عليه علم الفقه، والقائمة ما لم ينسخ، ولم يهجر، ولم يشذّ راويه، وجرى عليه جمهور الصحابة والتابعين، والفريضة العادلة الأنصباء للورثة، ويُلحق به أبواب القضاء مما سبيله قطع المنازعة بين المسلمين بالعدل، فهذه الثلاثة يحرم خلوّ البلد عن عالمها لتوقّف الدين عليه، وما سوى ذلك من باب الفضل والزيادة. انتهى باختصار (¬2). (آيَةٌ مُحْكَمَةٌ) أي علمها، فالنكرة عامّ في الإثبات، كقوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ}، والمضاف مقدّر قبلها، وكذا قوله: "أو سنة قائمة"، والمراد بالحكمة غير المنسوخة، أو ما لا يحتمل إلا تأويلًا واحدًا، وهي إشارة إلى كتاب الله، وخصّ المحكم بالذكر؛ لأن المحكمات هنّ أم الكتاب وأصله، ومحفوظة من الاحتمال والاشتباه. (أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ) أي ثابتة إسنادًا بأن تكون صحيحة منقولة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو حكما بأن لا تكون منسوخة، و"أو" للتنويع، كقوله (أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ) قيل: المراد بالفريضة ما يجب العمل به، وبالعادلة المساوية لما يؤخذ من القرآن والسنة في وجوب العمل، فهو إشارة إلى الإجماع والقياس. والظاهر أن المراد بالعادلة، أي في القسم، والفريضة كلّ حكم من أحكام ¬

_ (¬1) "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 694 - 695. (¬2) راجع "المرعاة" 1/ 366.

الفرائض يحصل به العدل في قسمة التركات بين الورثة، ففيه حثّ على تعلم الفرائض، وتحريض عليه، ويدلّ صنيع أبي داود في "سننه" أنه اختار هذا المعنى حيث أورد هذا الحديث في الفرائض، وكذا أشار إليه ابن ماجه، فإنه ذكر الحديث في "باب اجتناب الرأي، والقياس" من كتاب السنّة، فكأنه قصد بذلك الردّ على من حمل قوله: "فريضة عادلة" على الأحكام المستنبطة بالرأي والقياس، يعني أراد إبطال الرأي المصطلح عليه بين الفقهاء. وقيل: بل أراد إبطال الرأي بمعنى الحكم بمجرد الهوى. قاله في "المرعاة" (¬1). وقال في "المرقاة": قوله: أو فريضة عادلة": أي مستقيمة، قيل: المراد بها الحكم المستنبط من الكتاب والسنة بالقياس لمعادلته الحكم المنصوص فيهما، ومساواته لهما في وجوب العمل، وكونه صدقًا وصوابًا. وقيل: فريضة معدلة بالكتاب والسنّة، أي مزكاة بهما. وقيل: الفريضة العادلة ما اتّفق عليها المسلمون، وهو إشارة إلى الحكم الثابت بالإجماع. وقيل: علم الفرائض. والحاصل أن أدلّة الشرع أربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، ويسمّى الإجماع والقياس فريضة عادلة. ذكره زين العرب (¬2). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما هذا ضعيف؛ لضعف رِشدين، وابن أنعُم، وعبد الرحمن بن رافع، كما سبق بيان ذلك في تراجمهم، لكنّ رِشدين توبع عليه، فقد تابعه جعفر بن عون، كما في هذا السند، وعبد الله بن وهب كما هو عند أبي داود، ¬

_ (¬1) راجع "المرعاة" 1/ 335 - 336. (¬2) "المرقاة" 1/ 501.

والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (8/ 54) بهذا السند فقط، و (أبو داود) (2885) عن أحمد بن عمرو بن السرح، عن ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعُم بسند المصنّف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال: 55 - (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ سَجَّادَةُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ سَعِيدِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْم، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، قَالَ: لَمَّا بَعَثَني رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ: "لَا تَقْضِيَنَّ، وَلَا تَفْصِلَنَّ إِلَّا بِمَا تَعْلَمُ، فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْكَ أَمْرٌ فَقِفْ حَتَّى تَبَيَّنَهُ، أَوْ تَكْتُبَ إِلَيّ فِيهِ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (الحسَنُ بْنُ حَمَّادٍ سَجَّادَةُ) هو: الحسن بن حماد بن كُسَيب بالسين المهملة، آخره باء موحّدة، مصغّرًا- الحضْرميّ، أبو علي البغدادي المعروف بسَجّادة، صدوق [10]. رَوَى عن أبي بكر بن عياش، وحفص بن غياث، ويحيى بن سعيد الأُمويّ، وأبي خالد الأحمر، وأبي مالك الجنبي، ووكيع، وجماعة. وروى عنه أبو داود، وابن ماجه، وروى له النسائي بواسطة عثمان بن خُرَّزاذ، وأبو زرعة، وعلي بن الحسين بن الْجُنيد، وعبد الله بن أحمد، وغيرهم. قال أحمد: صاحب سنة، ما بلغني عنه إلا خيرٌ. وقال الخطيب: كان ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال البخاري: مات يوم السبت لثمان بقين من رجب سنة (241). وروى عنه المصنّف في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (55) و (4135) "تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم ... " الحديث. 2 - (يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ) هو: يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص بن

أمية الأموي، أبو أيوب الكوفي، الحافظ نزل بغداد، لقبه الجَمَل، صدوق يُغْربُ، من كبار [9]. رَوَى عن أبيه، ويحيى بن سعيد، وسعيد بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، وعبيد الله بن عمر، وابن جريح، والأعمش، ومسعر، وغيرهم. ورَوَى عنه ابنه سعيد، وأحمد بن إسحاق، والحكم بن هشام الثقفي، وهو من أقرانه، ومَخْلَد بن مالك الجمال، وداود بن رُشيد، وسريج بن يونس، وآخرون. قال الأثرم عن أحمد: ما كنت أظن عنده الحديث الكثير، وقد كتبنا عنه، وكان له أخ له قَدْرٌ وعِلْمٌ يقال له: عبد الله، ولم يبين أمر يحيى، كأنه يقول: كان يصدق، وليس بصاحب حديث. وقال المروذي عن أحمد: لم تكن له حركة في الحديث. وقال أبو داود عن أحمد: ليس به بأس، عنده عن الأعمش غرائب. وقال أبو داود: ليس به بأس ثقة. وقال يزيد بن الهيثم عن ابن معين: هو من أهل الصدق، ليس به بأس. وقال الدُّوريُّ وغيره عن ابن معين: ثقة. وكذا قال محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي، والدارقطني. وقال النسائيّ: ليس به بأس. وقال ابن سعد: كان ثقةً، قليل الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". أورده العُقَيليّ في "الضعفاء"، واستنكر له عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله: "لا يزال المسروق متغيظا، حتى يكون أعظم إثما من السارق". وقال سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي: مات أبي سنة أربع وتسعين ومائة في النصف من شوال، وبلغ ثمانين سنة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (55) برقم (55) و (1054) و (4101). 3 - (محمد بن سعيد بن حسّان) بن قيس الأسدي المصلوب، ويقال: محمد بن سعيد ابن عبد العزيز، ويقال: ابن أبي عُتْبة، ويقال: ابن أبي قيس، ويقال: ابن أبي حسان، ويقال: ابن الطبري، ويقال: غير ذلك في نسبه، أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو عبد الله، ويقال: أبو قيس الشامي الدمشقي، ويقال: الأزديّ، كذّاب يضع الحديث، وقتل في الزندقة [6].

رَوَى عن عبد الرحمن بن غَنْم من وجه ضعيف، وعُبَادة بن نُسَيّ، وربيعة بن يزيد، وصالح بن جبير الشامي، ونافع مولى ابن عمر، وغيرهم. ورَوَى عنه ابن عجلان، والثوري، وسعيد بن أبي هلال، ويحيى بن سعيد الأموي، وغيرهم. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: قتله أبو جعفر المنصور في الزندقة، حديثه حديث موضوع. وقال أبو داود عن أحمد: عمدًا كان يضع. وقال الدُّوريّ عن ابن معين: منكر الحديث، وليس كما قالوا: إنه صُلب في الزندقة. وقال البخاري: تُرك حديثه. وقال النسائي: الكذابون المعروفون بوضع الحديث أربعة: إبراهيم بن أبي يحيى بالمدينة، والواقدي ببغداد، ومقاتل بخراسان، ومحمد بن سعيد بالشام. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: نظمت هؤلاء الأربعة بقولي: مَنْ عُرِفُوا بِالْوَضعِ قُلْ أَرْبَعَةُ ... ابْنُ أَبِي يَحْيَى حَوَتْهُ طَيْبَةُ وَالْوَاقِدِيُّ قُلْ بِبَغْدَادَ افْتَرَى ... وَبِخُرَاسَانَ مُقَاتِلٌ فَرَى مُحَمَّدُ الْمَصْلُوبُ بِالشِّامِ اعْتَدَى ... لِذَا النَّسَائِيُّ الْبَصِيرُ أَرْشَدَا وقال دُحيم: سمعت خالد بن يزيد الأزرق يقول: سمعت محمد بن سعيد الأُرْدُنّيّ يقول: إذا كان الكلام حسنًا لم أُبالِ أن أجعل له إسنادًا. وقال الْعُقَيليّ: يُغَيِّرون اسمه إذا حدثوا عنه، مروان بن معاوية يقول: محمد بن حسان، ومحمد بن أبي قيس، ومحمد بن أبي زينب، وابن زكريا، وابن أبي الحسن، وبعضهم يقول: عن أبي عبد الرحمن الشامي، ويقولون: محمد بن حسان الطبري، وربما قالوا: عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الكريم، وغير ذلك على معنى التعبيد لله، ويَنسُبونه إلى جده، ويَكْنُون الجد حتى يتسمع الأمر جِدّا في هذا، وبلغني عن بعض أصحاب الحديث أنه قال: يُقلب اسمه على نحو مائة اسم، وما أبعد أن يكون كما قال. وقال عبد الغني بن سعيد المصري نحو ذلك، وزاد: وهو محمد الذي نسبه المحاربي إلى ولاء بني هاشم، وهو محمد الطبري، وهو محمد الأردني، وهو محمد بن سعيد السُّدّيّ الذي رَوَى عنه سعيد بن أبي هلال، ولو قال

قائل: إنه أبو عبد الله محمد الأسديّ الذي يروي عن وابصة بن مَعْبَد، وعنه محمد بن صالح لما دفعت ذلك. وقال عبد الغني: وقال الْعُقَيليّ: إنه عبد الرحمن بن أبي شُمَيلة، وهو محمد بن سعيد المصلوب، وإنّ قولهم: عبد الرحمن بن أبي شُميلة أحد الأسامي غُيّر بها اسمه، وما صنع شيئًا، وأنا أقول: إن عبد الرحمن بن أبي شُميلة غيره، وإنه رجل من الأنصار من أهل قباء، حدّث عنه مروان بن معاوية، وحماد بن زيد، وحماد بن زيد لا يُدَلِّس، ولا ينقل اسمًا إلى اسم. وقال ابن نُمير، وذكرت له رواية الكوفيين عنه، فقال: لم يعرفوه، وإنما العيب على الشاميين الذي عرفوه، ثم رووا عن هذا العدو لله، كذَابٌ يَضَعُ الحديث. وقال ابن عُقْدَة: سمعت أبا طالب بن سَوَادة يقول: قَلَبَ أهلُ الشام اسمه على مائة وكذا وكذا اسمًا قد جمعتها في كتاب. وقال ابن القطان: من جملة ما قلبوه محمد بن أبي سهل، ونقل ذلك عن أبي حاتم. وقال أبو مسهر: هو من كذابي الأُرْدُنّ. وقال عمرو بن علي: حَدّث بأحاديث موضوعة. وقال ابن رِشْدِين: سألت أحمد بن صالح المصري عنه، فقال: زنديق ضُرِبت عنقه، وَضَعَ أربعة آلاف حديث، عند هؤلاء الحمقى فاحذروها. وقال النسائي أيضا، والدارقطنيّ: متروك. وقال ابن حبان: كان يضع الحديث، لا يحل ذكره إلا على وجه القدح فيه. وقال أبو أحمد الحاكم: كان يضع الحديث، صُلِب على الزندقة. وقال الجوزجانيّ: هو مكشوف الأمر هالك. وقال الحاكم: هو ساقط لا خلاف بين أهل النقل فيه. انفرد به الترمذيّ وله عنده حديث واحد، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 4 - (عُبَادَةُ بْنُ نُسَيٍّ) بن سِنَان، أبو عُمَر الشامي الأردني، قاضي طبرية، ثقة فاضلٌ [3]. رَوَى عن أوس بن أوس الثقفيّ، وشداد بن أوس، وعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، وعبد الرحمن بن غَنْم، وخَبّاب بن الأرت، والأسود بن ثعلبة، وأبي بن عمارة،

وله صحبة، وجُنَادة بن أبي أمية، وكعب بن عجرة، وغيرهم. وروى عنه بُرْد بن سِنَان، والمغيرة بن زياد الموصليّ، وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم، وأيوب بن قَطَن، وحاتم بن نصر، والحسن بن ذكوان، وعتبة بن حميد، وغيرهم. قال ابن سعد في تابعيّ أهل الشام: كان ثقة. وقال أحمد، وابن معين، والعجليّ، والنسائي: ثقة. وقال أحمد في رواية: ليس به بأس. وقال البخاري: عبادة بن نسي بن سنان الكِنْديّ سيدهم. وقال أبو داود: سألت ابن معين عنه، فقال: لا يسأل عنه من النُّبَل. وقال أبو حاتم، وابن خراش: لا بأس به. وقال مغيرة بن زياد: قال مسلمة بن عبد الملك: إن كندة لثلاثةَ نفر، إن الله لَيُنْزِل بهم الغيث، وينصر بهم على الأعداء: عُبادة ابن نُسَيّ، ورجاء بن حيوة، وعدي بن عدي. وقال ابن حبان في "الثقات": مات وهو شاب. وقال ابن صَفْوَان: وثقة ابن نُمَير. قال عمرو بن علي وغير واحد: مات سنة ثماني عشرة ومائة. أخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث، برقم 55 و 557 و 1354 و 1473 و 1637 و 2157 و 2694 و 3372 و4205. 5 - (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ) -بفتح الغين المعجمة، وسكون النون- ابن كُريب بن هانىء بن ربيعة الأشعري مختلف في صحبته. رَوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن عمر، وعثمان، وعليّ، ومعاذ، وأبي ذر، وأبي الدرداء، وأبي عُبيدة بن الجَرّاح، وأبي مالك الأشعري، وأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة، وعمرو ابن خارجة، وشداد بن أوس، وعبادة بن الصامت، وثوبان، ومعاوية، وغيرهم. ورَوَى عنه ابنه محمد، وعطية بن قيس، وأبو سلام الأسود، ومكحول الشامي، وشَهْر بن حوشب، ورجاء بن حيوة، وعبادة بن نسي، وغيرهم. ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعيّ أهل الشام، وقال: كان ثقة -إن شاء الله- بعثه عمر بن الخطاب يُفَقِّه الناس، وكان أبوه ممن قَدِمَ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صُحْبة أبي موسى، وقال ابن يونس: عبدُ الرحمن بنُ غَنْم بن كُريب بن هاني بن ربيعة، وساق نسبه إلى أشعر، ممن قَدِم على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقَدِمَ مصر مع مروان سنة (65). وقال ابن

مندهْ: ذكر يحيى بن بكير عن الليث وابن لهيعة، أنهما كانا يقولان: إن لعبد الرحمن بن غَنْم صُحْبةً. وقال أبو زرعة الدمشقي: ناظرت عبد الرحمن بن إبراهيم قلت: أرأيت الطبقة التي أدركت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم تره، وأدركت أبا بكر وعمر ومَنْ بعدهما من أهل الشام مَنِ المقدَّم منهم: الصنابحي، أو عبد الرحمن بن غنم؟ قال: ابن غنم المقدم عندي، وهو رجل من أهل الشام. وقال العجلي: شامي تابعيّ ثقة، من كبار التابعين. وقال يعقوب بن شيبة: مشهور من ثقات الشاميين، وقد حَدّث عن غير واحد من الصحابة، وأدرك عمر، وسمع منه. وقال البخاري في "التاريخ" قال محمد -من شيوخ البخاري-: ثنا محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الحارث، حُدِّثتُ عن عبد الرحمن بن ضباب الأشعريّ، عن عبد الرحمن بن غنم، وكانت له صحبة، قال كنا جُلُوسا عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، فذكر حديثًا وقال أبو القاسم البغوي: لا أدري أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- أم لا؟ وقيل: إنه وُلد على عهده. وقال حرب بن إسماعيل عن أحمد: عبد الرحمن بن غنم قد أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يسمع منه. وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وقال: زعموا أن له صحبةً، وليس ذلك بصحيح عندي. وقال ابن عبد البر: كان مسلما على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يره، ولازم معاذ بن جبل إلى أن مات، وسمع من عمر، وكان أفقه أهل الشام، وهو الذي فَقَّه عامة التابعين بالشام، وكانت له جلالة وقدر. قال خليفة وغيره: مات سنة (78). أخرج له البخاري في التعاليق، والأربعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث برقم 55 و 72 و 280 و 2694 و 2712 و 4020 و 4257. 6 - (معاذ بن جبل) بن عَمْرو بن أوس بن عائذ بن عَدِيّ بن كعب بن عَمرو بن أُدَيّ بن سَعْد بن عليّ بن أسد بن ساردة بن يزيد بن جُشَم بن الْخَزْرج الأنصاري الخزرجي، أبو عبد الرحمن المدنيُّ، صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة، وشَهِدَ بدرًا والعقبة والمشاهد كلها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورَوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعنه ابن عباس، وأبو موسى الأشعري، وابن عُمَر، وابن عَمْرو، وعبد الرحمن بن سَمُرة،

وابن أبي أَوْفَى، وأنس، وجابر، وأبو الطفيل، وعبد الرحمن بن غنم، وأبو مسلم الخولاني، وأبو عبد الله الصنابحي، وأبو وائل، ومسروق، وغيرهم. قال قتادة عن الحسن: جمع القرآن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعة، كلهم من الأنصار: أُبَيّ، ومعاذ، وزيد بن ثابت، وأبو زيد (¬1). وقال مسروق، عن عبد الله بن عمرو: أربعة رهط لا أزال أحبهم بعدما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "استقرءوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأُبَي بن كعب، ومعاذ ابن جبل" (¬2). وعن أبي قلابة، عن أنس، مرفوعًا: "وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ... " الحديث (¬3) ويُرْوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلا ومتصلًا: "يأتي معاذ يوم القيامة أمام العلماء بِرَتْوَةٍ" (¬4). وقال الأعمش عن أبي سفيان: حدثني أشياخ لنا فذكر قصة فيها، فقال عمر: عَجَزت النساء أن تَلِد مثل معاذ، لولا معاذ هلك عمر. ومناقبه كثيرة جِدّا. قال أبو مسهر: مات سنة سبع عشرة، قال أبو مسهر قرأت مثله في كتاب ابن عَبِيدة بن أبي المهاجر: وكان سعيد بن عبد العزيز يقول: إنه صحيح. وقال يحيى بن معين: مات سنة سبع عشرة، أو ثماني عشرة، زاد يحيى: وهو ابن أربع وثلاثين. وقال الواقدي عن رجاله: مات سنة ثماني عشرة، وهو ابن ثمان وثلاثين. قال الواقدي: وكان من أجمل الناس، وفيها أرّخه غير واحد وقيل: في سنّه غير ذلك. أخرج له الجماعة، روى من الأحاديث (157) حديثًا، وله في هذا الكتاب (22) حديثًا، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) متّفقٌ عليه. (¬2) متّفقٌ عليه. (¬3) حديث صحيح، أخرجه أحمد 3/ 184 والترمذيّ (3791) وابن ماجه (154). (¬4) "الرَّتْوَة" بفتح الراء، وسكون التاء، وفتح الواو: أي برمية سهم، وقيل: يميل، وقيل: مدى البصر. اهـ "النهاية" 2/ 195.

شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ) بفتح، فسكون الأشعريّ، أنه قال (حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ) -رضي الله عنه- (قَالَ: لمَّا بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْيَمَنِ) قال أهل المغازي كان بعث معاذ -رضي الله عنه- إلى اليمن في ربيع الآخر سنة تسع من الهجرة. قاله في "الفتح" (¬1). (قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (لَا) ناهية (تَقْضِيَنَّ) مؤكد بالنون الثقيلة، وقوله (وَلَا تَفْصِلَنَّ) من الفصل بالفاء والصاد، والعطف للتفسير (إِلَّا بَما تَعْلَمُ) أي إلا بما تتأكّد حكم الشرع فيه (فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْكَ أَمْرٌ) أي اشتبه عليك حكم أمر بأن لم تتبيّن لك الأدلة حتى تعمل بمقتضاها (فَقِفْ) أمر من وقف يقف، من باب ضرب (حَتَّى تَبَيَّنَهُ) بحذف إحدى التاءين، وكان أصله تتبيّنه، فحذفت إحداهما تخفيفًا، كما قال في "الخلاصة": وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ ... فِيهِ عَلَى تَا كـ "تَبَيَّنُ الْعِبَرْ" (أَوْ تَكْتُبَ إِلَيَّ فِيهِ) أي لأبيّن لك حكمه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه- هذا موضوع؛ لأن في سنده محمد بن سعيد بن حسّان، وهو المصلوب في الزندقة، كان كذّابًا يضع الحديث، كما سبق في ترجمته، وهو من أفراد المصنّف رحمه الله، أخرجه هنا بهذا السند فقط، والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية) في الكلام على حديث معاذ -رضي الله عنه- المشهور على الألسنة، وهو الحديث الذي أخرجه أبو داود الطيالسيّ في "مسنده" (1/ 282) وأحمد في "مسنده" (5/ 230 و 242) وأبو داود في "سننه" (2/ 116) والترمذيّ في "جامعه" (2/ 275) والبيهقيّ في "سننه" (10/ 114) وغيرهم من طرق، عن شعبة، عن أبي عون الثقفيّ، ¬

_ (¬1) "كتاب المغازي" جـ 8/ ص 61.

عن الحارث بن عمرو -ابن أخي المغيرة بن شعبة-، عن أناس من أهل حمص، من أصحاب معاذ بن جبل، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمّا أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ " قال: أقضي بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟ "، قال: فبسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: "فإن لم تجد في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا في كتاب الله؟، قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صدره، وقال: "الحمد لله الذي وَفّق رسول رسول الله لِمَا يُرضي رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-". قال الإمام البخاريّ في "التاريخ" (2/ 1/ 275): لا يصحّ، ولا يُعرف إلا بهذا، مرسل. انتهى. وقال الترمذيّ: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتّصل. وأقرّه الحافظ العراقي في "تخريج أحاديث منهاج الأصول" للبيضاويّ 1/ 76. وقال ابن حزم: هذا حديث ساقط لم يروه أحد من غير هذا الطريق، وأول سقوطه أنه عن قوم مجهولين لم يُسمّوا، فلا حجة فيمن لا يُعرف من هو؟ وفيه الحارث ابن عمرو، وهو مجهول، لا يعرف من هو؟ ولم يأت هذا الحديث قط من غير طريقه. وقال في موضع آخر: هذا حديث باطلٌ لا أصل له. (¬1). وقال في "التلخيص الحبير": وقال الدارقطنيّ في "العلل": رواه شعبة عن أبي عون هكذا، وأرسله ابن مهديّ، وجماعات عنه، والمرسل أصحّ. وقال أبو داود -يعني الطيالسيّ-: وأكثر ما كان يُحدّثنا شعبة عن أصحاب معاذ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال مرّةً: عن معاذ. وقال ابن حزم: لا يصحّ؛ لأن الحارث مجهول، وشيوخه لا يُعرفون، قال: وادّعى بعضهم فيه التواتر، وهذا كذبٌ، بل هو ضدّ التواتر؛ لأنه ما رواه أحد غير ابن عون، عن الحارث، فكيف يكون متواترًا. وقال عبد الحقّ: لا يُسْنَد، ولا يوجد من وجه صحيح. وقال ابن الجوزيّ في "العلل المتناهية": لا يصحّ، وإن كان الفقهاء كلهم ¬

_ (¬1) "الإحكام" 6/ 26 - 35 و7/ 111 - 112.

يذكرونه في كتبهم، ويَعتمدون عليه، وإن كان معناه صحيحًا، وقال ابن طاهر في تصنيف له مفرد في الكلام على هذا الحديث: (اعلم): أنني فحصتُ عن هذا الحديث في المسانيد الكبار والصغار، وسألت عنه من لقيته من أهل العلم بالنقل، فلم أجد له غير طريقين: [إحداهما]: طريق شعبة. [والأخرى]: عن محمد بن جابر، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن رجل من ثقيف، عن معاذ، وكلاهما لا يصحّ، قال: وأقبح ما رأيت فيه قول إمام الحرمين في كتاب أصول الفقه: والعمدةُ في هذا الباب على حديث معاذ، قال: وهذه زلّة منه، ولو كان عالمًا بالنقل لما ارتكب هذه الجهالة. قال الحافظ رحمه الله: قلت: أساء الأدب على إمام الحرمين، وكان يُمكنه أن يُعبّر بألين من هذه العبارة، مع أن كلام إمام الحرمين أشدّ مما نقله، فإنه قال: والحديث مدوّن في الصحاح، متّفقٌ على صحّته، لا يتطرّق إليه التأويل، كذا قال رحمه الله. وقد أخرجه الخطيب في كتاب "الفقيه والمتفقّه" من رواية عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ بن جبل، فلو كان الإسناد إلى عبد الرحمن ثابتًا لكان كافيًا في صحة الحديث. انتهى كلام الحافظ في "التلخيص" (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في كلام الحافظ المذكور لي نظر من وجهين: [أحدهما]: قوله: "أساء الأدب إلخ" ليس فيه إساءة أدب؛ لأنه ما قال هذا الكلام إلا غضبًا للشرع حيث نسب إليه ما ليس منه، فإنه -كما اعترف به الحافظ نفسه- قال بصحّة الحديث، وأنه متّفقٌ على صحته، فكيف لا يَغْضَب من هذا مَن علم درجة الحديث، وقد ثبت في "الصحيح" أن ابن ابن عبّاس رضي الله عنهما لمّا سمع أن نوفا البكاليّ يقول: إن موسى صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل قال: "كذب ¬

_ (¬1) راجع "التلخيص الحبير" 4/ 182 - 183.

عدوّ الله"، مع أن نوفًا كان أحد العلماء، وكان إمامًا لأهل دمشق، ولئن كان ذلك إساءة، فقد أساء نفسه إلى ابن طاهر، حيث رماه بهذا الكلام، والله الهادي إلى سواء السبيل. [الثاني]: قوله: "فلو كان الإسناد إلخ"، كيف يكون الإسناد إلى عبد الرحمن ثابتًا؟، وقد تفرّد به محمد بن سعيد المصلوب في الزندقة، وهو كذّاب، وضّاع، قيل: وضع أربعة آلاف حديث، فهيهات هيهات. والحاصل أن حديثي معاذ -رضي الله عنه- هذان لا يصحّان، أما حديث الباب، فموضوع، وأما الحديث الآخر ففي سنده مجاهيل، فتأمل بالإنصاف، ولا تسلك سبيل الاعتساف. ولقد أجاد الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى في الكلام على هذا الحديث في "السلسلة الضعيفة" 2/ 273 - 286 وطوّل البحث فيه بما لا تجده مجموعًا عند غيره، فاستفد، والله تعالى أعلم. [تنبيه]: قول ابن الجوزيّ المتقدّم بعد أن حكم بعدم ثبوت الحديث: ما نصّه: "وإن كان معناه صحيحًا"، إن أراد أنه صحيح المعنى فيما يتعلّق بالاجتهاد عند فقدان النصّ، فهذا مما لا خلاف فيه، وإن أراد كلّ ما تضمّنه الحديث فغير صحيح؛ لأنه تضمّن تصنيف السنّة مع القرآن، وإنزالها معه منزلة الاجتهاد منهما، فكما أنه لا يجوز الاجتهاد مع وجود النصّ في الكتاب والسنّة، فكذلك لا يأخذ بالسنّة إلا إذا لم يجد في الكتاب، وهذا التفريق مما لا دليل عليه، بل مضادّ لقوله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}، فالسنّة تُبيّن مجمل القرآن، وتقيّد مطلقه، وتُخصّص عمومه، فالواجب النظر في الكتاب والسنّة معًا، وعدم التفريق بينهما (¬1). والله تعالى أعلم يالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. ¬

_ (¬1) راجع ما كتبه الشيخ الألبانيّ رحمه الله في "السلسلة الضعيفة" 2/ 286.

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال: 55 - (حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الرِّجَالِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَبْدةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "لَمْ يَزَلْ أَمْرُ بَنِي إسْرَائِيلَ مُعْتَدِلًا، حَتَّى نَشَأَ فِيهِمُ الْمُوَلَّدُونَ أَبْنَاءُ سَبَايَا الْأُمَمِ، فَقَالُوا بِالرَّأْيِ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (سُويد بن سعيد) الْحَدَثانيّ الهرويّ الأصل، صدوق في نفسه، عمي، فصار يتلقّن، من قدماء [10] تقدّم في 4/ 30. 2 - (ابن أبي الرجال) هو: عبد الرحمن بن أبي الرجال -بكسر الراء، ثم جيم- واسمه محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حارثة بن النعمان بن نُفيع بن زيد بن عُبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاريّ المدنيّ، كان ينزل بعض ثُغُور الشام، صدوقٌ ربّما أخطأ [8]. رَوَى عن أبيه، وأخيه، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والأوزاعي، وابن أبي ذئب، وربيعة، وعمر بن نافع، وغيرهم. ورَوَى عنه أبو نعيم، وعبد الله بن يوسف، وقتيبة، وهشام بن عمار، وسويد بن سعيد، وآخرون. قال أحمد، وابن معين، والمفضل الغلابي، والدارقطني: ثقة. وقال ابن معين أيضا، وأبو داود: ليس به بأس. وقال الْبَرْذَعي: سألت أبا زرعة، عن عبد الرحمن، وحارثة، فقال: عبد الرحمن أشبه، وحارثة واهٍ، وعبد الرحمن أيضا يرفع أشياء لا يرفعها غيره. وقال الآجري عن أبي داود: أحاديث عمرة يجعلها كلها عن عائشة. وقال أبو حاتم: صالح هو مثل عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أخطأ. أخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (56) وحديث (2059) "الشهر هكذا يرسل أصابعه فيها ثلاث مرّات ... ". [تنبيه]: كون ابن أبي الرجال هنا هو عبد الرحمن بن أبي الرجال هو الصواب، وقد أخطأ البوصيريّ -وتبعه الدكتور بشّار، والشيخ علي حسن في تحقيقيهما لهذا الكتاب-

فقال: هو حارثة بن أبي الرجال، والحقّ أنه عبد الرحمن، فقد نصّ عليه الحافظ أبو الحجّاج المزّيّ في "تحفة الأشراف" 6/ 360، فتنبّه. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. 3 - (عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعيّ) هو: عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، واسمه يُحْمِد الشامي، أبو عمرو الأوزاعي الفقيه، نزل بيروت في آخر عمره، فمات بها مرابطا، فقيه ثقة جليل [7]. رَوَى عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، وشداد بن عمار، وعبدة بن أبي لبابة، وعطاء بن أبي رباح، والزهري، ومحمد بن إبراهيم التيمي، وغيرهم. ورَوَى عنه مالك، وشعبة، والثوري، وابن المبارك، وابن أبي الزناد، وعبد الرزاق، وابن أبي الرجال، وخلق كثير. قال الحاكم أبو أحمد في "الكنى": الأوزاعي من حمير، وقد قيل: إن الأوزاع قرية بدمشق، وعَرَضت هذا القول على أحمد بن عمير فلم يرضه، وقال: إنما قيل: الأوزاعي لأنه من أوزاع القبائل. وقال أبو سليمان بن زَبْر: هو اسم وقع على موضع مشهور بدمشق، يُعرف بالأوزاع، سكنه في صدر الإسلام بقايا من قبائل شتى. وقال أبو زرعة الدمشقي: كان اسم الأوزاعي عبدَ العزيز، فسَمَّى نفسه عبدَ الرحمن، وكان أصله من سِبَاءِ السند، وكان ينزل الأوزاع، فغلب ذلك عليه، وإليه فتوى الفقه لأهل الشام لفضله فيهم، وكثرة روايته، وبلغ سبعين سنة، وكان فصيحًا، ورسائله تُؤثر. وقال عمرو بن علي عن ابن مهدي: الأئمة في الحديث أربعة: الأوزاعي، ومالك، والثوري، وحماد بن زيد. وقال أبو عبيد عن ابن مهدي: ما كان بالشام أعلم بالسنة منه. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة، ما أقل ما رَوَى عن الزهري. وقال أبو حاتم: إمام مُتَّبعٌ لما سمع. وقال أبو مسهر، عن هِقْل بن زياد: أجاب الأوزاعي في سبعين ألف مسألة أو نحوها. وقال ابن عيينة: كان إمام أهل زمانه. وقال أمية بن يزيد بن أبي عثمان: كان عندنا أرفع من مكحول، جمع العبادة، والورع، والقول بالحق. وقال عيسى ابن يونس: كان الأوزاعي حافظًا. وقال ابن حبان في "الثقات": كان من فقهاء أهل

الشام وقرائهم وزهادهم، وكان السبب في موته أنه كان مرابطًا ببيروت، فدخل الحمّام، فزَلَق فسقط، وغُشِي عليه، ولم يُعلَم به حتى مات. وقال الخليلي في "الإرشاد": أجاب عن ثمانين ألف مسألة في الفقه من حفظه، وقال ابن سعد: وُلد سنة (88)، وكان ثقة مأمونًا صدوقًا فاضلًا خيرًا، كثير الحديث والعلم والفقه، وكان مكتبه باليمامة، ومات ببيروت سنة (158). وقال الآجري عن أبي داود: مات الأوزاعي في الحمام. وقيل: مات سنة (55)، وقيل: سنة (51)، وقيل: سنة (56). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (79) حديثًا. 4 - (عبدة بن أبي لبابة) الأسدي الغَاضِريّ مولاهم، يقال: مولى قريش، أبو القاسم البزاز الكوفي الفقيه، نزيل دمشق، ثقة [4]. رَوَى عن ابن عمر، وابن عمرو، وزِرّ بن حُبيش، وأبي وائل، ومجاهد، وهلال بن يساف، وورّاد كاتب المغيرة، وغيرهم، وأرسل عن عمر. ورَوَى عنه ابن أخته الحسن بن الْحُرّ، وحبيب بن أبي ثابت، ومات قبله، والأعمش، وابن جريج، والأوزاعي، وشعبة، والثوري، وغيرهم. قال الميموني عن أحمد: لقي ابن عمر بالشام. وقال ابن سعد: كان من فقهاء أهل الكوفة. وقال سعيد بن عبد العزيز: كان يُكنى أبا القاسم كناه مكحول. وقال الأوزاعي: لم يَقْدَم علينا من العراق أحد أفضل من عبدة بن أبي لبابة، والحسن بن الحر، وكانا شريكين. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة من ثقات أهل الكوفة. وقال أبو حاتم، والنسائي، وابن خراش: ثقة. وقال علي بن المديني، عن ابن عيينة: جالست عبدة بن أبي لبابة سنة ثلاث وعشرين ومائة. وقال العجلي: كوفي ثقة. وقال يعقوب بن سفيان: من ثقات أهل الكوفة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال: جالسه ابن عيينة ثلاثا وعشرين سنة كذا قال، والصواب ما تقدّم أنه جالسه سنة ثلاث وعشرين ومائة. أخرج له البخاريّ، ومسلم، وأبو داود في "المسائل"، والترمذيّ، والنسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط برقم 56 و 413 و 1344 و 2970. 5 - (عبد الله بن عمرو بن العاص) الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدّم

في 8/ 52، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "لَمْ يَزَلْ أمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُعْتَدِلًا) أي مستقيما على منهج الأنبياء (حَتَّى نَشَأَ) مهموزًا، من باب نفع: أي حدَثَ وتجدّد (فِيهِمُ الْمَوَلَّدُونَ) بفتح اللام المشدّدة، بصيغة اسم المفعول، قال الجوهريّ: رجلّ مولّد: إذا كان عربيّا غير محض. وقال ابن الأثير: المولَّدة: هي التي بين العرب، ونشأت مع أولادهم، وتأدّبت بآدابهم، والتَّلِيدة: هي التي وُلدت ببلاد العجم، وحُمِلت، فنشأت ببلاد العرب. انتهى (¬1). والمراد هنا من ليس من بني إسرائيل من سائر الناس. وقوله: (أَبْنَاءُ سَبَايَا الْأمَمِ) بدلٌ من "المولّدون"، و"السبايا" بالفتح: جمع سَبِيّة، قال ابن الأثير: السَّبِيّة: المرأة الْمَنْهُوبة، فَعِيلة بمعنى مفعولة (فَقَالُوا بِالرَّأْيِ) أي أَفْتَوا، وحكموا برأيهم، معرضين عن الحكم الذي أنزله الله عز وجل في التوراة والإنجيل (فَضَلُّوا) في أنفسهم (وَأَضَلُّوا) غيرهم، قال الفيّوميّ: ضلّ الرجل الطريقَ، وضلّ عنه يَضِلّ، من باب ضرب ضلالًا، وضلالةً: زلّ عنه، فلم يَهتد إليه، فهو ضالّ، هذه لغة نَجْد، وهي الفصحى، وبها جاء القرآن في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} [سبأ: 50]، وفي لغة لأهل العالية من باب تَعِب، والأصل في الضلال: الغيبة. انتهى (¬2). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما هذا ضعيفٌ؛ للانقطاع بين عبدة بن أبي لبابة وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، فإن عبدة لم يلقَ عبد الله -رضي الله عنه-، كما ¬

_ (¬1) "النهاية" 5/ 225. (¬2) "المصباح الْمُنِير" 2/ 363.

بيّن ذلك الحافظ أبو الحجّاج المزّيّ رحمه الله في "تحفة الأشراف" 6/ 360. [فإن قلت]: أخرج هذا الحديث البزار في "مسنده"، من طريق قيس بن الربيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، مرفوعًا، وقال: لا نعلم أحدًا قال: عن هشام، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو إلا قيس، ورواه غيره مرسلًا انتهى. فهلا تكون رواية قيس مقوية لرواية عبدة بن أبي لبابة، فتصحّ؟. [قلت]: قيس بن الربيع ضعيف؛ لسوء حفظه، والمحفوظ كما نقل الحافظ 13/ 285 عن البزّار: عن هشام بن عروة بهذا الإسناد مرفوعًا إنما هو بلفظ: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس ... " الحديث المذكور أول الباب، فرواية قيس منكرة لا تصلح للتقوية، فتبصّر. والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (8/ 56) بهذا الإسناد فقط، وهو من أفراده، لم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره. وأخرجه أيضًا يعقوب الْفَسَويّ في "المعرفة والتاريخ" (3/ 20) بسند صحيح عن عروة مرفوعًا. وأخرجه أيضًا الدارميّ في "مسنده" (1/ 50) والبيهقيّ في "المعرفة" وابن عبد البرّ في "جامع بيان العلم" (2/ 1047 و 1052) بإسناد صحيح، عن عروة موقوفا عليه (¬1). [تنبيه]: ذكر الحافظ المزّيّ رحمه الله في "تحفة الأشراف" 13/ 223 أن ابن ماجه أخرج بعد حديث عبد الله بن عمرو المذكور عن محمد بن أبي عُمر العَدَنيّ، عن سفيان ابن عُيينة أنه قال: "لم يزل أمر الناس مُعتدلًا حتى نشأ فلانٌ بالكوفة، وربيعة الرأي بالمدينة، وعثمان الْبَتّيّ بالبصرة، فوجدناهم من أبناء سبايا الأمم". ¬

_ (¬1) راجع "السلسلة الضعيفة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 9/ 320 - 322.

وهذا الأثر لا يوجد في النسخ المطبوعة، وذكر بعضهم (¬1) أنها ثابتة في نسخة البوصيريّ التي عليها كتاب "مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه". قلت: أخرج هذا الأثر الحافظ أبو بكر الخطيب في "تاريخه" 13/ 413 من طريق أخرى، ولفظه: قال سفيان -هو ابن عيينة-: لم يزل أمر الناس معتدلًا حتّى غيّر أبو حنيفة بالكوفة، وعثمان الْبَتّيّ بالبصرة، وربيعة بن أبي عبد الرحمن بالمدينة، فنظرنا، فوجدناهم من أبناء سبايا الأمم" (¬2). وأخرجه الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ في "جامع بيان العلم" من طريق موسى ابن هارون بن إسحاق الهمدانيّ، عن الحميديّ، عن ابن عيينة قال: "لم يزل أمر أهل الكوفة معتدلًا حتى نشأ فيهم أبو حنيفة". قال موسى: "وهو -يعني أبا حنيفة- من أبناء سبايا الأمم، أمه سِنْديّة، وأبوه نَبَطيّ، قال: والذين ابتدعوا الرأي ثلاثة، وكلّهم من أبناء سبايا الأمم، وهم: ربيعة بالدينة، وعثمان البتّي بالبصرة، وأبو حنيفة بالكوفة. انتهى (¬3). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الإمام أبو حنيفة رحمه الله إمام جليل مشهور، وإنما عِيب عليه إغراقه في الرأي، ولقد أنصف فيه الحافظ أبو عمر رحمه الله حيث قال -بعد أن ذكر أقوال الذامين له-: ما نصّه: وأفرط أصحاب الحديث في ذمّ أبي حنيفة رحمه الله، وتجاوزوا الحدّ في ذلك، والسبب الوجب له عندهم إدخاله الرأي والقياس على الآثار، واعتبارهما، وأكثر أهل العلم يقولون: إذا صحّ الأثر من جهة الإسناد بطل القياس والنظر، وكان ردّه لما ردّ من الأحاديث بتأويل محتمل، وكثير منه قد تقدّمه إليه غيره، وتابعه عليه مثله ممن قال ¬

_ (¬1) هو الشيخ عليّ حسن في تخريجه لهذا الكتاب 1/ 41 قال: فلعله تعمّد حذفها من السنن المطبوعة اليوم بعض المتعصّبة لأبي حنيفة، فإنه المراد بقوله: "فلان"، كما صرّحت به رواية ابن عبد البرّ، كما هو مخرّج في "الضعيفة". انتهى. (¬2) راجع "السلسلة الضعيفة" للشيخ الألبانيّ 9/ 321 - 322. (¬3) راجع "جامع بيان العلم وفضله" 2/ 1079.

بالرأي، وجُلُّ ما يوجد له من ذلك ما كان منه اتّباعًا لأهل بلده، كإبراهيم النخعيّ، وأصحاب ابن مسعود -رضي الله عنه-، إلا أنه أغرق وأفرط في تنزيل النوازل هو وأصحابه، والجواب فيها برأيهم، واستحسانهم، فيأتي منهم في ذلك خلاف كثير للسلف وشنع هي عند مخالفيهم بدع، وما أعلم أحدًا من أهل العلم إلا وله تأويل في آية، أو مذهب في سنّة، رَدّ من أجل ذلك المذهب سنة أخرى بتأويل سائغ، أو ادّعاء نسخ، إلا أن لأبي حنيفة من ذلك كثيرًا، وهو يوجد لغيره قليل. قال: ونَقَموا أيضًا على أبي حنيفة الإرجاء، ومن أهل العلم من يُنسَب إلى الإرجاء كثير، لم يُعنَ أحدٌ بنقل قبيح ما قيل فيه كما عُنُوا بذلك في أبي حنيفة لإمامته، وكان أيضًا مع هذا يُحسَد، ويُنسَب إليه ما ليس فيه، ويُختلقُ عليه ما لا يليق به، وقد أثنى عليه جماعة من العلماء وفضلوه، ولعلّنا إن وجدنا نشطةً نجمع من فضائله، وفضائل مالك، والشافعيّ، والثوريّ، والأوزاعيّ رحمهم الله كتابًا أمّلنا جمعه قديمًا في أخبار أئمة الأمصار -إن شاء الله تعالى- انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله، وهو كلام نفيس. لكن نقول عن العلماء الذين تكلّموا في هذا الإمام: إنما حملهم على ذلك نصرة السنة المطهّرة، والذبّ عنها، والدفاع عن حريمها، كما قال ابن عبّاس رضي الله عنهما لنوف البكاليّ: "كذب عدوّ الله"، غضبًا لمخالفته ما ثبت في السنّة، وذلك لئلا يتلاعب بها أهل الأهواء بآراهم الفاسدة، وأهوائهم الكاسدة، فنشأ من شدّة غضبهم ما سمعته في حقّ هذا الإمام فنراهم كلهم على خير وهُدى بحسب نيتهم الصالحة، والقيام بما وجب عليهم نحو السنّة المطهّرة، فجزى الله تعالى الجميع خير الجزاء، فنحن نحبّهم كلهم، ونرجو من الله سبحانه وتعالى أن يحشرنا معهم، ويُسكننا الفردوس الأعلى برحمته، إنه بعباده عليم، وبالمؤمنين رءوف رحيم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

9 - باب في الإيمان

9 - (بابٌ في الإيمان) قال الجامع عفا الله تعالى عنه: غرض المصنّف بعقد هذا الباب بيان أن الإيمان قول وفعلٌ، وأن له شعبًا كثيرة، وأنه يتفاوت، وأنه يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، كما يتبيّن ذلك فيما يورده من الأحاديث الآتية، إن شاء الله تعالى. ومناسبة الباب للباب السابق كون الإيمان يبعث صاحبه على التخلّي عن الهوى الموجب لاتّباع الرأي والقياس الباطل، والتحلّي بتحكيم شرع من آمن به؛ لأنّ من أعظم شُعَبِه الحياءَ، فإذا كان العبد يستحيي من الله سبحانه وتعالى لا يتجاسر بأن يتقدّم بين يدي الله سبحانه وتعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- بشيء من الأحكام؛ لأن ذلك ينافي مقضى إيمانه، بل يجعل الكتاب والسنة حاكمين عليه، قال الله عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وقال عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} الآية [الأحزاب: 36]. وبالجملة فالإيمان هو الذي يَحْمِل العبد على التخلّي عن الرذائل، والتحلّي بالفضائل، اللهم ارزقنا إيمانًا كاملًا، واملأ به قلوبنا، آمين. وأحسن ما نُقل عن أهل اللغة في تفسير "الإيمان" ما ذكره ابن منظور، فقال: وحَدّ الزَّجّاج الإيمانَ، فقال: الإيمان: إظهار الخضوع، والقبول للشريعة، ولِمَا أَتَى به النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، واعتقاده، وتصديقه بالقلب، فمن كان على هذه الصفة، فهو مؤمنٌ مسلمٌ، غير مُرتاب، ولا شاكّ، وهو الذي يرى أن أداء الفرائض واجب عليه، لا يدخله في ذلك ريبٌ، وفي التنزيل العزيز: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17]: أي بمصدّق، فالإيمان: التصديق. وقال في "التهذيب": وأما الإيمان، فهو مصدر آمن يؤمن إيمانًا، فهو مؤمنٌ، واتّفق أهل العلم من اللغويين، وغيرهم أن الإيمان: معناه التصديق، قال الله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} الآية [الحجرات: 14]، قال: وهذا موضع يحتاج إلى تفهيمه، وأين ينفصل المؤمن من المسلم،

وأين يستويان، والإسلام: إظهار الخضوع، والقبول لما أتى به النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وبه يُحْقَن الدم، فإن كان مع ذلك الإظهارِ اعتقادٌ، وتصديقٌ بالقلب، فذلك الإيمانُ الذي يقال للموصوف به هو مؤمنٌ مسلمٌ، وهو المؤمن بالله تعالى، ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، غير مرتاب، ولا شاكّ، وهو الذي يرى أن أداء الفرائض واجبٌ عليه، وأن الجهاد بنفسه وماله واجب عليه، لا يدخله في ذلك ريبٌ، فهو المؤمن، وهو المسلم حقّا، كما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]: أي أولئك الذين قالوا إنا مؤمنون، فهم الصادقون، فأما من أظهر قبول الشريعة، واستسلم لدفع المكروه، فهو في الظاهر مسلم، وباطنه غير مصدّق، فذلك الذي يقول: أسلمت؛ لأن الإيمان لا بدّ من أن يكون صاحبه صِدِّيقًا؛ لأن قولك: آمنت بالله، أو قال قائل: آمنت بكذا وكذا، فمعناه: صدّقت، فأخرج الله هؤلاء من الإيمان، فقال {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ في قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]: أي لم تُصدّقوا، إنما أسلمتم تعوّذًا من القتل، فالمؤمن مُبطنٌ من التصديق مثل ما يُظهر، والمسلم التامّ الإسلامِ، مظهر للطاعة، مؤمن بها، والمسلم الذي أظهر الإسلام تعوّذًا غير مؤمن في الحقيقة، إلا أن حكمه في الظاهر حكم المسلمين. وقال الله تعالى حكايةً عن قول إخوة يوسف عليه السلام لأبيهم: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17]: لم يختلف أهل التفسير أن معناه: ما أنت بمصدّق لنا، والأصل في الإيمان الدخول في صدق الأمانة التي ائتمنه الله عليها، فإذا اعتقد التصديق بقلبه، كما صدّق بلسانه، فقد أدّى الأمانة، وهو مؤمنٌ، ومن لم يعتقد التصديق بقلبه، فهو غير مؤدٍّ للأمانة التي ائتمنه الله عليها، وهو منافقٌ، ومن زعم أن الإيمان هو إظهار القول، دون التصديق بالقلب، فإنه لا يخلو من وجهين: [أحدهما]: أن يكون منافقًا يَنضَح عن المنافقين، تأييدًا لهم، أو يكون جاهلًا، لا يعلم ما يقول، وما يُقال له، أخرجه الجهل، واللَّجَاج إلى عناد الحقّ، وترك قبول

الصواب، أعاذنا الله من هذه الصفة، وجعلنا ممن علم، فاستعمل ما علم، أو جهل، فتعلّم ممن علم، وسلّمنا من آفات أهل الزيغ، والبدع بمنّه، وكرمه. وفي قوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] ما يُبيّن لك أن المؤمن هو المتضمّن لهذه الصفة، وأن من لم يتضمّن هذه الصفة، فليس بمؤمن؛ لأن "إنما" في كلام العرب تجيء لتثبيت شيء، ونفي ما خالفه، ولا قوّة إلا بالله. انتهى ما ذكره ابن منظور (¬1). وقد ذكرت في "شرح صحيح مسلم" في هذا الموضع مسائل جامعة، وفوائد نافعة، فراجعها تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 57 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيُّ، حَدَّثَنَا وَكيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُهَيْلِ ابْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الْإِيمَانُ بِضْع وَسِتُّونَ، أَوْ سَبْعُونَ بَابًا، أَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَأَرْفَعُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيْمَانِ). رجال هذا الإسناد: سبعة: 1 - (عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيُّ) -بفتح الطاء المهملة، وتخفيف النون، وبعد الألف فاء- هو: علي بن محمد بن إسحاق بن أبي شدّاد، ويقال: بإسقاط إسحاق، ويقال: اسم جده شروى، ويقال: عبد الرحمن، ويقال: نُباتة أبو الحسن الطنافسي الكوفي، مولى آل الخطاب، سَكَن الرَّيَّ، وقَزْوِين، ثقة عابدٌ [10]. رَوَى عن خاليه: محمد، ويعلى ابني عبيد الطنافسي، وابن إدريس، وحفص بن غياث، وأبي معاوية، ووكيع، وغيرهم. ورَوَى عنه ابن ماجه، وروى النسائي في "مسند ¬

_ (¬1) راجع "لسان العرب" 13/ 23 - 24.

علي" عن زياد بن أيوب الطُّوسي عنه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وابن وَارَةَ، وابنه الحسين ابن علي بن محمد الطنافسي، قاضي قزوين، وغيرهم. قال أبو حاتم: كان ثقة صدوقًا، وهو أحب إلي من أبي بكر بن أبي شيبة في الفضل والصلاح، وأبو بكر أكثر حديثًا وأفهم. وقال الخليلي: إمام هو وأخوه الحسن بقزوين، ولهما مَحَلّ عظيم، وارتحل إليهما الكبار، وتوفي الحسن سنة (222) وعلي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (35) أو قبلها بقليل، أو بعدها بقليل. وله في هذا الكتاب (507) حديث. 2 - (وَكِيعٌ) بن الْجَرّاح الرؤاسيّ الكوفيّ الثقة الحافظ العابد [9] تقدم في 1/ 3. 3 - (سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ الإمام الثقة الحجة [7] تقدّم في 5/ 41. 4 - (سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان السمّان، أبو يزيد المدنيّ، صدوقٌ تغيّر حفظه بآخره، روى له البخاريّ مقرونًا وتعليقًا [6]. رَوَى عن أبيه، وسعيد بن المسيب، والحارث بن مخلد الأنصاري، وأبي الحباب سعيد بن يسار، وعبد الله بن دينار، وعطاء بن يزيد الليثي، وخلق كثير. وروى عنه ربيعة، والأعمش، ويحيى بن سعيد الأنصار، وموسى بن عقبة، ويزيد بن الهاد، ومالك، وشعبة، وابن جريج، والسفيانان، وخلق كثير. قال ابن عيينة: كنا نَعُدّ سهلا ثبتا في الحديث. وقال حرب عن أحمد: ما أصلح حديثه. وقال أبو طالب عن أحمد: قال يحيى بن سعيد: محمد -يعني بن عمرو- أحب إلينا، وما صنع شيئًا، سهيل أثبت عندهم. وقال الدُّوري عن ابن معين: سهيل بن أبي صالح، والعلاء بن عبد الرحمن حديثهما قريب من السواء، وليس حديثهما بحجة. وقال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: سهيل أشبه وأشهر -يعني من العلاء-. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، ولا يحتج به، وهو أحب إلي من العلاء. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عدي: لسهيل نُسَخ، وقد رَوَى عنه الأئمة، وحدث عن أبيه، وعن جماعة عن أبيه، وهذا يدل على تمييزه، كونُهُ مَيَّزَ ما سمع من أبيه، وما سمع من غير أبيه،

وهو عندي ثبت، لا بأس به، مقبول الأخبار. روى له البخاري مقرونا بغيره. وعاب ذلك عليه النسائي، فقال السُّلَمي: سألت الدارقطني: لِمَ ترك البخاري حديث سهيل في كتاب "الصحيح"؟ فقال: لا أعرف له فيه عذرًا، فقد كان النسائي إذا مَرّ بحديث سهيل، قال: سهيل والله خير من أبي اليمان، ويحيى بن بكير، وغيرهما. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطىء، مات في ولاية أبي جعفر، وكذا أرّخه ابن سعد، وقال: كان سهيل ثقة كثير الحديث. وأرّخه ابن قانع سنة (138). أخرج له البخاريّ مقرونًا بغيره، وتعليقًا، والباقون، وله في هذا الكتاب (36) حديثًا. 5 - (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ) العدويّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، مولى ابن عمر، ثقة [4]. رَوَى عن ابن عمر، وأنس، وسليمان بن يسار، ونافع مولى ابن عمر، وأبي صالح السمان، وغيرهم. وروى عنه ابنه عبد الرحمن، ومالك، وسليمان بن بلال، وشعبة، وصفوان بن سليم، وعبد العزيز بن الماجشون، وابن عجلان، وموسى بن عقبة، وسهيل بن أبي صالح، والسفيانان، وجماعة. قال صالح بن أحمد عن أبيه: ثقة مستقيم الحديث. وقال ابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ومحمد بن سعد، والنسائي: ثقة، زاد ابن سعد: كثير الحديث، وقال العجلي: ثقة. وقال ابن عيينة: لم يكن بذاك ثم صار. وقال الليث عن ربيعة: حدثني عبد الله بن دينار، وكان من صالحي التابعين، صدوقًا ديّنًا. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الساجي: سئل عنه أحمد، فقال: نافع أكبر منه، وهو ثبت في نفسه، ولكن نافع أقوى منه. وقال الْعُقيليّ: في رواية المشايخ عنه اضطراب. وفي "العلل" للخلال أن أحمد سئل عن عبد الله بن دينار الذي رَوَى عنه موسى بن عُبيدة النهي عن بيع الكالىء بالكالىء، فقال: ما هو الذي رَوَى عنه الثوري، قيل: فمن هو؟ قال: لا أدري. وجزم

الْعُقيليّ بأنه هو، فقال في ترجمته: رَوَى عنه موسى بن عُبيدة، ونظراؤه أحاديث مناكير، الحمل فيها عليهم، ورَوَى عنه الأثبات حديثه عن ابن عمر في النهي عن بيع الولاء وعن هبته، ومما انفرد به حديثُ شعب الإيمان، رواه عنه ابنه، وسهيل، وابن عجلان، وابن الهاد، ولم يروه شعبة، ولا الثوريّ، ولا غيرهما من الأثبات. وفي "رجال الموطإ" لابن الْحَذَاء: قيل: لا نعلم له رواية عن أحد إلا عن ابن عمر. انتهى. وهذا قصور شديد ممن قاله، فقد سبق آنفًا أنه روى عن غيره. قال ابن سعد، وعمرو بن علي: مات سنة سبع وعشرين ومائة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا. 6 - (أبو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزيّات الثقة الثبت [3] تقدّم في 1/ 1. 7 - (أَبِو هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- تقدّم في 1/ 1، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو، والنسائيّ في "مسند عليّ -رضي الله عنه-". 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين إلى سفيان، وبالمدنيين بعده. 4 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: عبد الله بن دينار عن أبي صالح، وهي من رواية الأقران، فإن وُجدت رواية أبي صالح عن عبد الله صار من المدبّج. قاله في "الفتح" (¬1). 5 - (ومنها): أن صحابيّه رأس المكثرين من الرواية، فقد روى (5374) حديثًا. [تنبيه مهمّ جدّا]: علي بن محمد في شيوخ المصنّف اثنان، وكلاهما يرويان عن ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 1/ 69.

وكيع، وغيره: [أحدهما]: الطنافسيّ هذا، وقد أكثر عنه المصنّف، فروى عنه في هذا الكتاب (507) أحاديث، كما سبق بيان ذلك في ترجمته، ويعبّر المصنّف إذا روى عنه بقوله: حدّثنا عليّ بن محمد، وروى له أيضًا النسائيّ في "مسند عليّ" فقط. والثاني: علي بن محمد بن أبي الْخَصِيب، وإذا روى عنه المصنّف لا يذكر أباه، بل يقول: حدثنا عليّ بن أبي الْخَصِيب، وقد روى عنه في هذا الكتاب في سبعة مواضع برقم 3446 و 3483 و 3494 و 3512 و 3515 و 3531 و 3543 وفي كلّ هذه المواضع يقول: حدثنا عليّ بن أبي الخصيب، ولم ينسبه إلى أبيه، فتنبّه لهذا الفرق المهمّ، فقد رأيت كثيرًا من طلاب العلم يستشكلونه، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الْإِيمَانُ") قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: الإيمان في هذا الحديث يُراد به الأعمال، بدليل أنه ذكر فيه أعلى الأعمال، وهو قول: "لا إله إلا الله"، وأدناها: أي أقربها، وهو إماطة الأذى، وهما عملان، فما بينهما من قبيل الأعمال، وقد قدّمنا القول في حقيقة الإيمان شرعًا ولغةً، وأن الأعمال الشرعيّة تسمّى إيمانا مجازًا، وتوسّعًا؛ لأنها عن الإيمان تكون غالبًا. انتهى. "المفهم" 1/ 216. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "مجازًا" فيه نظر؛ بل الحقّ أنها تسمّى إيمانًا حقيقة، لا مجازًا؛ حيث إن الشرع سمّى الكلّ إيمانًا، فلا مجال لدعوى المجاز، فتبصّر. والله تعالى أعلم. (بِضْعٌ) بكسر أوله، وحُكِي الفتح لغةً، وهو عدد مبهم، مقيد بما بين الثلاث إلى التسع، كما جزم به القزاز، وقال ابن سِيدَهْ: إلى العشر، وقيل: من واحد إلى تسعة، وقيل: من اثنين إلى عشرة، وقيل: من أربعة إلى تسعة، وعن الخليل: البضع: السبع، ويرجح ما قاله القزاز ما اتفق عليه المفسرون في قوله تعالى: {فَلَبِثَ في السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 41]، وما رواه الترمذي بسند صحيح: أن قريشا قالوا ذلك لأبي

بكر، وكذا رواه الطبري مرفوعا، ونقل الصغاني في "العباب": أنه خاص بما دون العشرة، وبما دون العشرين، فإذا جاوز العشرين امتنع، قال: وأجازه أبو زيد، فقال: يقال: بضعة وعشرون رجلا، وبضع وعشرون امرأة، وقال الفراء: وهو خاص بالعشرات إلى التسعين، ولا يقال: بضع ومائة، ولا بضع وألف، ووقع في بعض الروايات بضعة بتاء التأنيث، ويحتاج إلى تأويله. وقال القرطبيّ: البضع، والبضعة واحدٌ، وهو من العدد بكسر الباء، وقد تُفتح، وهو قليلٌ، فأما من بضع اللحم، فبفتح الباء لا غير، والْبَضْعة من اللحم بالفتح: القطعة منه. واستعملت العرب البضع في المشهور من كلامها فيما بين الثلاث إلى العشر. وقيل: إلى التسع. وقال الخليل: البضع سبع. وقيل: هو ما بين اثنين إلى عشر، وما بين عشر إلى عشرين، ولا يقال في أحد عشر، ولا في اثني عشر. وقال الخليل أيضًا: هو ما بين نصف العقد، يريد من واحد إلى أربع. انتهى. (وَسِتُّونَ، أَوْ سَبْعُونَ) هكذا في رواية سهيل بن أبي صالح، عن عبد الله بن دينار بالشكّ، في رواية "سبعون شعبة" بدون شكّ، ووقع في رواية البخاريّ: "بضع وستّون"، بدون شكّ أيضًا. قال في "الفتح": لم تختلف الطرق عن أبي عامر، شيخ شيخ البخاريّ في ذلك، وتابعه يحيى الحِمّاني -بكسر المهملة، وتشديد الميم- عن سليمان بن بلال، أخرجه أبو عوانة، من طريق بشر بن عمرو، عن سليمان بن بلال، فقال: "بضع وستون، أو بضع وسبعون"، وكذا وقع التردد في رواية مسلم، من طريق سهيل بن أبي صالح، عن عبد الله بن دينار، ورواه أصحاب السنن الثلاثة (¬1)، من طريقه، فقالوا: "بضع وسبعون"، من غير شك، ولأبي عوانة في "صحيحه" من طريق: "ست وسبعون، أو سبع وسبعون"، ورجح البيهقي رواية البخاري، لأن سليمان لم يشك، وفيه نظر؛ لما ¬

_ (¬1) هم أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ.

ذكرنا من رواية بشر بن عمرو عنه، فتردد أيضا، لكن يرجح بأنه المتيقن، وما عداه مشكوك فيه، وأما رواية الترمذي بلفظ: "أربع وستون"، فمعلولة، وعلى صحتها لا تخالف رواية البخاري، وترجيحُ روايةِ: "بضع وسبعون"؛ لكونها زيادة ثقة؛ كما ذكره الحلِيمِيّ، ثم عياض، لا يستقيم، إذ الذي زادها لم يستمر على الجزم بها، لا سيما مع اتحاد المُخرَج، وبهذا يتبين شفوف نظر البخاري، وقد رجح ابن الصلاح الأقل؛ لكونه المتيقن. انتهى ما ذكره في "الفتح" (¬1). (بَابًا) أي نوعًا، وهكذا وقع عند المصنّف، والترمذيّ بلفظ "بابًا"، ووقع في رواية الشيخين وغيرهما بلفظ: "شعبةً"، وهي بمعناه، و"الشعبة" -بضم، فسكون-: القطعة، والمراد الخصلة، أو الجزء. قاله في "الفتح". وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى في "المفهم": والشعبة في أصلها واحدة الشُّعَب، وهي أغصان الشجرة، وهي بضمّ الشين، فأما شَعب القبائل، فواحدها شَعْب بفتحها. وقال الخليل: الشعب: الاجتماع، والافتراق. وفي "الصحاح": هو من الأضداد، فيراد بالشّعبة في الحديث الخصلة، ويعني أن الإيمان ذو خصال معدودة. قال: ومقصود هذا الحديث أن الأعمال الشرعيّة تُسمّى إيمانًا على ما ذكرناه آنفًا، وأنها منحصرة في ذلك العدد، غير أن الشرع لم يُعيّن ذلك العدد لنا، ولا فصّله، وقد تكلّف بعض المتأخّرين تعديد ذلك، فتصفّح خصال الشريعة، وعدّدها، حتى انتهى بها في زعمه إلى ذلك العدد، ولا يصحّ له ذلك؛ لأنه يمكن الزيادة على ما ذكر، والنقصان مما ذكر ببيان التداخل، والصحيح ما صار إليه أبو سليمان الصخّابيّ وغيره: أنها منحصرة في علم الله تعالى، وعلم رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وموجودة في الشريعة مفصّلة فيها، غير أن الشرع لم يوقفنا على أشخاص تلك الأبواب، ولا عيّن لنا عددها، ولا كيفيّة انقسامها، وذلك لا يضرّنا في علمنا بتفاصيل ما كُلّفنا به من شريعتنا، ولا في عملنا، إذ ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 1/ 75.

كلّ ذلك مفصّلٌ مبيّنٌ في جملة الشريعة، فما أُمرنا بالعمل به عملناه، وما نُهينا عنه انتهينا، وإن لم نُحط بحصر أعداد ذلك. والله تعالى أعلم. انتهى قول القرطبيّ رحمه الله (¬1). وسيأتي البحث في أقوال أهل العلم في عدد الشعب مستوفًى في المسألة الخامسة -إن شاء الله تعالى-. (أَدْنَاهَا) أي أقلّ هذه الشعب الستين، أو السبعين رتبة، وفي رواية النسائيّ: "وأوضعها" وهي بمعنى الأولى (إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ) أي إزالة الأذى، و"الإماطة" -بكسر الهمزة-: مصدر أماط الشيء: إذا أزاله، قال في "القاموس": ماطَ يَميط مَيْطا -أي من باب باع-: جارَ، وزَجَرَ، وعنّي ميطًا وميَطانًا: تنحّى، وبَعُدَ، ونَحّى، وأبعد، كأماط فيهما. انتهى. فأد أن ماط يتعدّى ويلزم كأماط. و"الأذى": بالفتح: مصدر أَذِيَ به، كبقِي بالكسر، وتأذّى، والاسم الأَذِيّةُ، والأَذَاةُ، وهي المكروه اليسير. قاله في "القاموس". والمعنى هنا: تنحية ما يؤذي المسلمين، كالشوك، والحجر، والشجر، والنجاسة، ونحوها عن طريقهم؛ رفقًا بهم، وعطفًا عليهم. (وَأَرْفَعُهَا) أي أرفع الشعب المذكورة قدرًا، ودرجةً (قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلا اللَّه) فيه أن كلمة التوحيد أفضل أنواع الإيمان، كما أن الإيمان أفضل أنواع العمل، كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل "أي العمل أفضل؟ "، فقال: "إيمان بالله ورسوله ... " الحديث، متّفق عليه. (وَالحيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ") "الحياء" -بالمد- هو في اللغة: تغير، وانكسار، يَعتَرِي الإنسانَ من خوف ما يعاب به، وقد يطلق على مجرد ترك الشيء بسبب، والترك إنما هو من لوازمه، وفي الشرع: خُلُق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، ولهذا جاء في الحديث الآخر: "الحياء خير كله". انتهى "فتح" 1/ 76. ¬

_ (¬1) راجع "المفهم" 1/ 216 - 217.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: الحياء: انقباض، وحشمة يجدها الإنسان من نفسه عند ما يُطّلع منه على ما يُستقبح، ويُذمّ عليه، وأصله غريزيّ في الفطرة، ومنه مكتسبٌ للإنسان، كما قال بعض الحكماء في العقل: رَأَيْتُ الْعَقْلَ عَقْلَيْنِ ... فَمَطْبُوعٌ وَمَصْنُوعُ وَلَا يَنْفَعُ مَصْنُوعٌ ... إِذَا لَمْ يَكُ مَطْبُوعُ كمَا لَا تَنْفَعُ الْعَيْنُ ... وَضَوْءُ الشَّمْس مَمْنُوعُ وهذا المكتسب هو الذي جعله الشرع من الإيمان، وهو الذي يُكلّف به، وأما الغريزيّ، فلا يُكلّف به، إذ ليس ذلك من كسبنا، ولا في وُسعنا، ولم يُكلّف الله نفسًا إلا وسعها، غير أن هذا الغريزيّ يَحمل على المكتسب، ويُعين عليه، ولذلك قال -رضي الله عنه-: "الحياء لا يأتي إلا بخير"، "والحياء خير كلّه". وأول الحياء، وأولاه: الحياء من الله تعالى، وهو أن لا يراك حيث نهاك، وذلك لا يكون إلا عن معرفة بالله تعالى كاملة، ومراقبة له حاصلة، وهي المعبّر عنها بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك". وقد روى الترمذيّ من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "استحيوا من الله حقَّ الحياء"، فقالوا: إنا نستحيي، والحمد لله، فقال: "ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حقّ الحياء أن تحفظ الرأس، وما حوى، والبطن وما وعى، وتذكر الموت والبِلَى، فمن فعل ذلك، فقد استحى من الله حقّ الحياء" (¬1). قال: وأهل المعرفة في هذا الحياء منقسمون، كما أنهم في أحوالهم متفاوتون، وقد كان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- جُمع له كمال نوعي الحياء، فكان في الحياء الغريزيّ أشدّ حياء من العذراء في خِدرها، وفي حيائه الكسبيّ في ذِرْوتها. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى (¬2). [فإن قيل]: الحياء من الغرائز، فكيف جعل شعبة من الإيمان؟. [أجيب]: بأنه قد يكون غريزة، وقد يكون تخلقا، ولكن استعماله على وفق ¬

_ (¬1) حديث حسن أخرجه أحمد، 1/ 387 والترمذيّ 2460. (¬2) راجع "المفهم" 1/ 217 - 219.

الشرع، يحتاج إلى اكتساب، وعلم، ونية، فهو من الإيمان لهذا، ولكونه باعثا على فعل الطاعة، وحاجزا عن فعل العصية، ولا يقال: رُبَّ حياء يمنع عن قول الحق، أو فعل الخير؛ لأن ذاك ليس شرعيا. [فإن قيل]: لِمَ أفرده بالذكر هنا؟. [أجيب]: بأنه كالداعي إلى باقي الشعب، إذ الْحَيِيُّ يخاف فضيحة الدنيا والآخرة، فيأتمر، وينزجر. ذكره في "الفتح" (¬1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- متّفقٌ عليه. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا بهذا السند، والسند الذي يليه، و (البخاريّ) من طريق سليمان بن بلال، عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، و (مسلم) (1/ 46) و (النسائيّ) (8/ 110) و (ابن منده) في "الإيمان" (144) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (167) و (190). وأخرجه (مسلم) (1/ 46) بسند المصنّف، و (ابن حبّان) (166) و (ابن منده) في "الإيمان" (147) و (البغويّ) في "شرح السنّة" (17) والآجرّيّ في "الشريعة" (110). وأخرجه (أحمد) 2/ 445 و (البخاريّ) في "الأدب المفرد" (598) و (الترمذيّ) (2614) و (النسائيّ) 8/ 110 و (ابن حبّان) (191) من طريق الثوريّ، عن سهيل بسند المصنّف. ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 1/ 68.

وأخرجه (ابن أبي شيبة) في "مصنفه" 11/ 40 و (النسائيّ) 8/ 110 و (ابن منده) (147) و (171) و (172) من طريق ابن عجلان، عن عبد الله بن دينار المذكور عند المصنّف في السند التالي. وأخرجه (الطيالسيّ) (2402) من طريق وُهيب، عن سهيل به. وأخرجه (أحمد) 2/ 379 و (الترمذيّ) (2614) من طريق عمارة بن غَزِيّة، عن أبي صالح. (الترمذيّ) (2614) و (النسائيّ) 8/ 110 و (أحمد) 2/ 445 و (ابن حبّان) (191). وأخرجه (مسلم) 1/ 46 و (ابن حبّان) (166) و (ابن منده) في "الإيمان" (147) و (البغويّ) في "السنة" (17) من طريق جرير التالية. وأخرجه (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة" (665) عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة موقوفًا، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان الإيمان. 2 - (ومنها): أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وهو الحقّ الذي عليه أهل السنة والجماعة، وخالف فيه بعضهم، ولا اعتداد به، كما بينت ذلك مفصَّلا في شرح "صحيح مسلم". 3 - (ومنها): بيان عظم شأن الحياء، وأنه من أفضل الشعب إذ يدعو إلى بقية الشعب، فمن كان حييّا فإن حياءه يدعوه إلى أن يعمل بمقتضى إيمانه، ويتجنب ما يناقضه. 4 - (ومنها): ما قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: في قوله: "أعلاها قول إلى إلا الله": ما يَستدلّ به من يقول: إن هذه الكلمة أفضل الكلام مطلقًا، وإنها أفضل من كلمة الحمد، وفي ذلك اختلاف، ذكره ابن عبد البرّ، وغيره. انتهى. 5 - (ومنها): أن في قوله: "أعلاها لا إله الا الله، وأدناها إماطة الأذي عن

الطريق": إشارةً إلى أن مراتبها متفاوتة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الرابعة): في اختلاف الحفّاظ في إسناد هذا الحديث: قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى بعد أن أورد رواية البخاريّ بلفظ: "الإيمان بضع وستون شعبة": ما نصه: وخرّجه مسلم من هذا الوجه، ولفظه: "بضع وسبعون". وخرّجه مسلم أيضًا من رواية جرير، عن سُهيل، عن عبد الله بن دينار به، وقال في حديثه: "بضع وسبعون، أو بضع وستون" بالشكّ، وهذا الشكّ من سُهيل، كذا جاء مصرّحًا به في "صحيح ابن حبّان"، وغيره. وخرّجه مسلم أيضًا من حديث ابن الهاد، عن عبد الله بن دينار به، وقال في حديثه: "الإيمان سبعون، أو اثنان وسبعون بابًا" (¬1). ورواه ابن عجلان، عن عبد الله بن دينار، وقال: "ستون، أو سبعون". ورُوي عنه أنه قال في حديثه: "ستون، أو سبعون، أو بضع وأحد من العددين"، أخرجه ابن أبي شيبة في "الإيمان" 67 ومن طريقه ابن ماجه 57. ورُوي عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه بهذا اللفظ أيضًا. أخرجه ابن منده في "الإيمان" 1/ 296. وروي عنه بلفظ آخر، وهو: "الإيمان تسعة، أو سبعة وسبعون شعبة". وخرجه الترمذيّ من رواية عُمارة بن غَزِيّة، وقال فيه: "الإيمان أربعة وسبعون بابًا". وقد رُوي عن عمارة بن غزيّة، عن سُهيل، عن أبيه، وسهيل لم يسمعه من أبيه، إنما رواه عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح. فمدار الحديث على عبد الله بن دينار، لا يصحّ عن غيره. وقد ذكر العيقليّ أن أصحاب عبد الله بن دينار على ثلاث طبقات: أثبات، كمالك، وشعبة، وسفيان بن عيينة. ومشايخ: كسهيل، ويزيد بن الهاد، وابن عجلان. ¬

_ (¬1) هكذا نصّ ابن رجب، وعلق عليه المحقق، فقال: بهذا الطريق أخرجه ابن منده في "الإيمان" 1/ 296 ولم نجده في مسلم من المطبوع، ولا عزاه في "التحفة" إليه من هذا الطريق، فإن لم يكن في بعض نسخ "صحيح مسلم"، فلعله وهم من المصنّف رحمه الله تعالى. انتهى. (1/ 30).

قال: وفي رواياتهم عن عبد الله بن دينار اضطراب، وقال: إن هذا الحديث لم يُتابع هؤلاء المشايخ عليه أحد من الأثبات عن عبد الله بن دينار، ولا تابع عبد الله بن دينار، عن أبي صالح عليه أحد. والطبقة الثالثة: الضعفاء، فيروون عن عبد الله بن دينار المناكير، إلا أن الحمل فيها عليهم. قال ابن رجب: قد رواه عن عبد الله بن دينار سليمان بن بلال، وهو ثقة ثبتٌ، قد خُرّج حديثه في "الصحيحين"، انتهى كلام ابن رجب رحمه الله تعالى (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الخامسة): في الاختلاف الواقع في لفظ الحديث، واختلاف أهل العلم في تعداد شُعب الإيمان: قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وأما الاختلاف في لفظ الحديث فالأظهر أنه من الرواة، كما جاء التصريح في بعضه بأنه شكّ من سُهيل بن أبي صالح، وزعم بعض الناس أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كان يذكر هذا العدد بحسب ما ينزل من خصال الإيمان، فكلما نزلت خصلة منها ضمّها إلى ما تقدّم، وزادها عليها. وفي ذلك نظر. وقد ورد في بعض روايات "صحيح مسلم" عدد بعض هذه الخصال، ولفظه: "أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" (¬2). فأشار إلى أن خصال الإيمان منها ما هو قولٌ باللسان، ومنها ما هو عملٌ بالجوارح، ومنها ما هو قائم بالقلب، ولم يزد في شيء من هذه الروايات على هذه الخصال. ¬

_ (¬1) راجع "شرح البخاري" للحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى 1/ 30/ 32. (¬2) هو الرواية التالية للنسائي، ولكن بلفظ: "أفضلها لا إله إلا الله، وأوضعها إماطة الأذى عن الطريق".

وقد انتدب لعدّها طائفة من العلماء، كالْحَلِيميّ (¬1)، والبيهقيّ، وابن شاهين، وغيرهم، فذكروا كلّ ما ورد تسميته إيمانًا في الكتاب والسنّة من الأقوال والأعمال، وبلغ بها بعضهم سبعا وسبعين، وبعضهم تسعًا وسبعين. وفي القطع على أن ذلك هو مراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- من هذه الخصال عسر، كذا قاله ابن الصلاح، وهو كما قال. انتهى كلام ابن رجب (¬2)، وقد أشبعت الكلام في نقل ما ذكره العلماء فيما يتعلّق في عدد شعب الإيمان في "شرح مسلم"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق. [تنبيه]: قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: [فإن قيل]: فأهل الحديث والسنة عندهم أن كلّ طاعة، فهي داخلة في الإيمان، سواء كانت من أعمال الجوارح، أو القلوب، أو من الأقوال، وسواء في ذلك الفرائض، والنوافل، هذا قول الجمهور الأعظم منهم، وحينئذ، فهذا لا ينحصر في بضع وسبعين، بل يزيد على ذلك زيادة كثيرةً، بل هي غير منحصرة. [قيل]: يمكن أن يجاب عن هذا بأجوبة: [أحدها]: أن يقال: إن عدد خصال الإيمان عند قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كان منحصرًا في هذا العدد، ثم حدثت الزيادة فيه بعد ذلك، حتى كملت خصال الإيمان في آخر حياة النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. وفي هذا نظر. [والثاني]: أن تكون خصال الإيمان كلّها تنحصر في بضع وسبعين نوعًا، وإن كانت أفراد كل نوع تتعدّد تعدّدًا كثيرًا، وربّما كان بعضها لا ينحصر. وهذا أشبه، وإن كان الوقوف على ذلك يعسر، أو يتعذّر. [والثالث]: أن ذكر السبعين على وجه التكثير للعدد، لا على وجه الحصر، كما في ¬

_ (¬1) هو أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم البخاريّ الشافعيّ، المولود سنة (338 هـ) في شهر ربيع الأول، والمتوفى سنة (403 هـ). (¬2) راجع "فتح الباري شرح البخاريّ" للحافظ ابن رجب 1/ 32 - 34.

قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]، والمراد تكثير التعداد من غير حَصْرٍ لَهُ في هذا العدد، ويكون ذكره للبضع يُشعر بذلك، كأنه يقول: هو يزيد على السبعين المقتضية لتكثير العدد، وتضعيفه. وهذا ذكره بعض أهل الحديث من المتقدّمين، وفيه نظر. [والرابع]: أن هذه البضع وسبعين هي أشرف خصال الإيمان وأعلاها، وهو الذي تدعو إليه الحاجة منها. قاله ابن حامد من الحنابلة. انتهى كلام ابن رجب (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول الثاني أظهر الأقوال، وأقربها إلى الفهم، كما سبق ميل ابن رجب إليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 57 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ ح وحَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ جَمِيعًا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- نَحْوَهُ). رجال هذا الإسناد: تسعة: 1 - (أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة المذكور في الباب الماضي. 2 - (أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ) هو سليمان بن حيّان الأزديّ الكوفيّ، صدوقٌ يُخطىء [8] تقدّم في 1/ 11. 3 - (ابْنُ عَجْلَانَ) هو: محمد بن عجلان، مولى فاطمة بنت الوليد، أبو عبد الله المدنيّ، صدوقٌ، اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة -رضي الله عنه-[5] تقدّم في 2/ 19. 4 - (عَمْرُو بْنُ رَافِعٍ) بن الفُرات بن رافع البجليُّ، أبو حُجْر -بضمّ المهملة، ¬

_ (¬1) راجع "شرح البخاريّ" 1/ 34 - 35.

وسكون الجيم- الحافظ الْقَزْوينيّ الْبجليّ، ثقة ثبتٌ [10]. رَوَى عن جرير بن عبد الحميد، والفضل بن موسى، وابن عيينة، وابن المبارك، ومروان بن معاوية، وهشيم، وعُمَرَ بن هارون الْبَلْخيّ، وابن عليّة، ويحيى بن زكريّا ابن أبي زائدة، وسليمان بن عامر الكِنْديّ، وأبي يحيى الزَّمقيّ، ونُعيم بن ميسرة، ومحمد ابن عُبيد، وعليّ بن عاصم الواسطيّ، وعِدَّة. ورَوَى عنه ابن ماجه، وأبو زرعة، وابن الضُّرَيس، ومحمد بن عبد الله بن رُسْتة، وأبو العباس أحمد بن جعفر بن نصر الْحَمّال، وعلي بن سعيد بن بَشِير الرازي، وأبو السريّ منصور بن محمد بن عبد الله الأسديّ الملقّب أسد السنّة، ويعقوب بن يوسف القزوينيّ، ومحمد بن إبراهيم بن زياد الطيالسيّ، ومحمد بن مسعود بن الحارث الأسديّ القزوينيّ وآخرون. قال أبو حاتم: سمعت إبراهيم بن موسى يقول: ما بقي أحدٌ ممن كان يطلُب معنا العلم غير عَمرو بن رافع. قال أبو حاتم: قَلَّ من كتبنا عنه أصدق لهجةً، وأصحّ حديثًا منه، حدثنا عليّ الطَّنَافسيّ عنه. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مستقيم الحديث جدّا. قال الخليليّ: تُوفي سنة سبع وثلاثين ومائتين. تفرّد به المصنّف، وروى عنه في هذا الكتاب (39) حديثًا. [تنبيه]: عمرو بن رافع هذا ثقة بلا خلاف، وهو من أفراد المصنّف، وهذا يفَنِّد قول من زعم أن كلّ من انفرد به ابن ماجه من الرجال ضعيف، وكذا قول من قال: كل ما انفرد به ابن ماجه عن الكتب الخمسة من الأحاديث ضعيف أيضًا، فقد تفرّد بأحاديث صحيحة، وحسان، سننبّه عليها في مواضعها، إن شاء الله تعالى، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. 5 - (جرير) بن عبد الحميد الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة صحيح الكتاب [8] تقدّم في 1/ 2. والباقون تقدّموا في السند السابق، وكذا شرح الحديث، والمسائل المتعلّقة به في الحديث الماضي.

[تنبيه]: وقع في هذا الإسناد كتابة (ح) وهو إشارة إلى الانتقال إلى سند آخر، وهي مأخوذة من "صحّ"، وقيل: من "التحويل"، وقيل: من "الحائل"، وقيل: من "الحديث"، ويَنطِق بها القارىء كما كُتبت، ويستمرّ في قراءة ما بعدها، وإلى هذا أشار الحافظ السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث" بقوله: وَكَتبُوا (ح) عِنْدَ تَكرِيرِ سَنَدْ ... فَقِيلَ مِنْ "صَحَّ" وَقِيلَ ذَا انْفَرَدْ مِنَ الْحَدِيثِ أَوْ لِتَحْوِيلٍ وَرَدْ ... أَوْ "حَائِلٍ" وَقَوْلهُا لَفْظًا أَسَدْ وقد تقدّم البحث بأتمّ مما هنا في 2/ 22 فراجعه تزدد علمًا، والله تعالى أعلم. [تنبيه آخر]: قوله: "نحوه" أي نحو حديث سفيان عن سهيل، يعني أن رواية ابن عجلان، وجرير بن عبد الحميد عن سهيل بمعنى رواية سفيان الثوريّ، عن سهيل، فيه أن لفظ روايتهما ليس كلفظه، وقد تقدّم بيان الفرق بين قوله: "نحوه"، وقوله: "مثله" مستوفًى فيما سبق، فلا تغفل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 58 - (حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّه بْنِ يَزِيدَ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالم، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلًا يَعِظُ أَخَاهُ في الْحَيَاءِ، فَقَالَ: "إِنَّ الْحَيَاءَ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (سَهْلُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ) واسمه زَنْجَلة ابن أبي الصّغْديّ، وابن أبي السُّفْديّ، أبو عمرو الرازيّ الخيّاط الأشتر الحافظ، صدوق [10]. رَوَى عن حفص بن غياث، وأبي أسامة، وابن عيينة، وابن نمير، والدَّرَاورديّ، والوليد بن مسلم، ووكيع، ويحيى بن سعيد القطان، وغيرهم. ورَوَى عنه ابن ماجه، وأبو حاتم، وموسى بن هارون، ومحمد بن عبد الله الحضرمي، وإبراهيم بن إسحاق الحربي، وعلي بن سعيد بن بشير الرازي، وأبو يعلى

أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي، وغيرهم. قال أبو حاتم: صدوق. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وكناه أبا عثمان. وقال مسلمة: رازيّ ثقة. وسئل أبو إسحاق الحربي عن حديث رواه سهل بن زنجلة، عن مكي بن إبراهيم، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- صَلّى على النجاشي، فأنكره، قال الخطيب: وقد قال مكي: حدثتهم بالبصرة عن مالك، عن نافع -يعني بهذا الحديث- وهو خطأ، إنما حدثنا مالك، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة. انتهى. قال أبو بكر الخطيب: قدم بغداد سنة (231). تفرّد به المصنّف روى عنه في هذا الكتاب (43) حديثًا. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد عرفت مما سبق آنفًا أن سهلًا ثقة، وهو أيضًا من أفراد المصنّف، وبه أيضًا يردّ على الزعم الذي ذكرناه، من أن من تفرّد بهم ابن ماجه كلهم ضعاف. ولا ينافي هذا إنكار أبي إسحاق الحربيّ لحديثه المتقدّم؛ لأن الخطأ ليس منه، وإنما هو من شيخه مكيّ بن إبراهيم، كما بينه كلامه المتقدّم، فسهل حدّث به كما سمعه من شيخه مكيّ، فلا يُلحق به اللوم. فتنبّه، والله تعالى أعلم. 2 - (مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ) القرشي العدوي مولى آل عمر، أبو يحيى بن أبي عبد الرحمن المقريء المكيّ، ثقة [10]. رَوَى عن أبيه، وابن عيينة، ومروان بن معاوية، وأيوب بن النجار اليمامي، وسعيد بن سالم القَدّاح، وعبد الله بن رَجاء المكي، وعبد الله بن الوليد العدني، وعثمان ابن عبد الرحمن الطرائفي، وغيرهم. ورَوَى عنه النسائيّ، وابن ماجه، وابن ابنه عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد، وأبو حاتم الرازي، وإبراهيم بن أبي طالب، وحرمي بن أبي العلاء المكي، نزيل بغداد، وإسحاق بن إبراهيم البستي، وأبو عروبة، وعبد الله بن زيدان، ومحمد بن علي الحكيم الترمذي، والمفضل بن محمد الْجَنَديّ، ويحيى بن محمد بن صاعد، وأبو قريش محمد بن

جُمْعَة الحافظ، ومحمد بن عبد الله بن عبد السلام مكحول البيروتيّ، وعبد الرحمن بن أبي حاتم، وإبراهيم بن عبد الصمد الهاشميّ، وأحمد بن عمير بن جَوْصاء، وأحمد بن سليمان بن داود الطوسيّ، وآخرون. قال ابن أبي حاتم: سمعت منه مع أبي سنة (255)، وهو صدوق ثقة، سئل عنه أبي، فقال: صدوق. وقال النسائيّ: ثقة. وقال الخليليّ: ثقة متفق عليه. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال مسلمة بن قاسم: ثقة حَجّ سبعين حجة. قال أبو بشر الدولابيّ وغيره: مات سنة ست وخمسين ومائتين. تفرّد به النسائيّ، والمصنّف، روى عنه في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا 58 و 2473 حديث: "ثلاث لا يُمنعنَ الماء والكلأ ... " الحديث، و4209 حديث: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل ... " الحديث. 3 - (سُفْيَانُ) بن عيينة، أبو محمد المكي الإمام الحجة الثبت [8] تقدّم في 2/ 13. 4 - (الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، أبو بكر المدنيّ الإمام الحجة الحافظ [4] تقدّم في 2/ 15. 5 - (سَالِمٌ) بن عبد الله العدويّ المدنيّ الثقة الثبت الفقيه [3] تقدّم في 2/ 16. 6 - (أبوه) عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، تقدّم في 1/ 4. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخيه، فالأول من أفراده، والثاني تفرّد به هو والنسائيّ. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من الزهريّ، وسهل رازيّ، والباقيان مكيّان. 4 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه. 5 - (ومنها): أن فيه سالمًا أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وقد سبق ذكرهم.

6 - (ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد المكثرين السبعة، وأحد العبادلة الأربعة، وأحد المشهورين بالفتوى من الصحابة -رضي الله عنهم-. وقد تقدّم هذا كلّه، وإنما أعدته تذكيرًا. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عِن سَالمٍ) بن عبد الله (عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلًا) وفي رواية الشيخين: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، مَرَّ عَلَى رَجُلٍ"، ولمسلم من طريق معمر عن الزهريّ: "مر برجل"، و"مر" بمعنى: اجتاز يُعَدى بـ "على"، وبالباء، قال الحافظ: ولم أعرف اسم هذين الرجلين: الواعظ، وأخيه (يَعِظُ أَخَاهُ) من الوعظ: وهو النصح، والتذكير بالعواقب، وقال ابن فارس: هو التخويف، والإنذار. وقال الخليل بن أحمد: هو التذكير بالخير فيما يُرقّ القلب. قاله في "عمدة القاري" 1/ 200 - 201. وقال في "الفتح": أي يَنصَح، أو يُخَوِّف، أو يُذَكِّر، كذا شرحوه، والأولى أن يُشرح بما جاء عند البخاريّ في "الأدب" من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة، عن ابن شهاب، ولفظه: "يُعاتِب أخاه في الحياء، يقول: إنك لتستحي، حتى كأنه يقول -قد أضَرّ بك". انتهى. ويحتمل أن يكون جمع له العِتاب، والوعظ، فذكر بعض الرواة ما لم يذكره الآخر، لكن الْمُخْرَج مُتَّحِد، فالظاهر أنه من تصرف الراوي، بحسب ما اعتقد أن كل لفظ منهما يقوم مقام الآخر. قاله في "الفتح" 1/ 105. وجملة "يعظ أخاه" في محلّ جرّ صفة لـ "رجل". وقوله: (في الْحَيَاءِ) متعلّق بـ "يعِظ"، و"في" سببية، فكأن الرجل كان كثير الحياء، فكان ذلك يمنعه من استيفاء حقوقه، فعاتبه أخوه على ذلك. (فَقَالَ) له النبيّ -صلى الله عليه وسلم- "فَإِنَّ الْحَيَاءَ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ" أي جزء من أجزاء الإيمان، ولفظ الشيخين: "دَعْهُ، فإن الحياء من الإيمان": أي اتركه على هذا الخلق السَّنِيّ، ثم

علّل أمره بالترك بما ذكره بالفاء التعليليّة، فقال: "فإن الحياء إلخ". أي وإذا كان الحياء، يمنع صاحبه من استيفاء حق نفسه، جر له ذلك تحصيلَ أجر ذلك الحقّ، لا سيما إذا كان المتروك له مستحقا. وقال ابن قتيبة: معناه إن الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصي، كما يمنع الإيمان، فسُمّي إيمانا، كما يُسَمَّى الشيءُ باسم ما قام مقامه. وحاصله أن إطلاق كونه من الإيمان مجاز (¬1)، والظاهر أن الناهي ما كان يعرف أن الحياء من مكملات الإيمان، فلهذا وقع التأكيد، وقد يكون التأكيد من جهة أن القضية في نفسها مما يهتم به، وإن لم يكن هناك منكر. قال الراغب: الحياء انقباض النفس عن القبيح، وهو من خصائص الإنسان؛ ليرتدع عن ارتكاب كل ما يَشتهي، فلا يكون كالبهيمة، وهو مركب من جُبن وعفة، فلذلك لا يكون المستحي فاسقا، وقَلَّما يكون الشجاع مُسْتَحِيًا، وقد يكون لمطلق الانقباض، كما في بعض الصبيان. انتهى ملخصا. وقال غيره: هو انقباض النفس، خشية ارتكاب ما يُكرَه، أعم من أن يكون شرعيا، أو عقليا، أو عرفيا، ومقابل الأول فاسق، والثاني مجنون، والثالث أَبْلَهُ، قالط: وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "الحياء شعبة من الإيمان": أي أثر من آثار الإيمان. وقال الحليمي: حقيقة الحياء: خوف الذم بنسبة الشر إليه. وقال غيره: إن كان في مُحَرَّم فهو واجب، وإن كان في مكروه، فهو مندوب، وإن كان في مباح، فهو العرفي، وهو المراد بقوله: "الحياء لا يأتي إلا بخير"، ويجمع كل ذلك أن المباح إنما هو ما يقع على وفق الشرع، إثباتا ونفيا. وحُكِي عن بعض السلف: رأيت المعاصي مَذَلَّةً، فتركتها مروءة، فصارت ديانةً. وقد يتولد الحياء من الله تعالى من التقلب في نعمه، فيستحي ¬

_ (¬1) كونه مجازًا فيه نظر؛ لأنه جزء من أجزاء الإيمان، وجزء الشيء لا يسمى مجازًا، وإنما هو جزء حقيقة، فتنبّه.

العاقل أن يستعين بها على معصيته. وقد قال بعض السلف: خَفِ اللَّهَ على قَدْرِ قُدْرَته عليك، واستحي منه على قَدْر قُرْبه منك. قاله في "الفتح" (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا بهذا الإسناد فقط، و (البخاريّ) (1/ 12 و 8/ 35) و (مسلم) في "الإيمان" (1/ 46) و (مالك) في "الموطإ" (565) و (أحمد) 2/ 9 و 2/ 56 و 2/ 147 و (البخاريّ) في "الأدب المفرد" (602) و (أبو داود) (4795) و (الترمذيّ) (2615) و (النسائيّ) 8/ 121 و (عبد الرزاق) في "مصنّفه" (20146) و (ابن منده) في "الإيمان" (174) و (عبد بن حميد) في "مسنده" (725) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (610)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان كون الحياء شعبة من شعب الإيمان. 2 - (ومنها): أن فيه بيان عظم شأن الحياء، وأنه من أعلى الصفات الحميدة التي يتحلّى بها المؤمن، وقد ورد في مدحه أحاديث كثيرة، منها هذا الحديث، وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- الماضي: "والحياء شعبة من الإيمان"، وحديث عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، أنه قال: "الحياء لا يأتي إلا بخير"، وفي رواية عنه: "الحياء ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 105 - 106.

خير كلّه"، رواه مسلم. 3 - (ومنها): ما قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث: والحياء نوعان: [أحدهما]: غريزيّ، وهو خُلُقٌ يمنحه الله تعالى العبد، ويَجبُلُهُ عليه، فيكُفّه عن ارتكاب القبائح، والرذائل، ويحثّه على فعل الجميل، وهو من أعلى مواهب الله تعالى للعبد، فهذا من الإيمان باعتبار أنه يؤثّر ما يؤثّره الإيمان من فعل الجميل، والكفّ عن القبيح، وربما ارتقى صاحبه بعده إلى درجة الإيمان، فهو وسيلة إليه، كما قال عمر -رضي الله عنه-: من استحيى اختفَى، ومن اختفى اتّقَى، ومن اتّقى وُقي. وقال بعض التابعين: تركت الذنوب حياءً أربعين سنةً، ثم أدركني الورع. وقال ابن سَمْعُون: رأيت المعاصي نَذَالةً، فتركتها مروءة، فاستحالت ديانةً. [والنوع الثاني]: أن يكون مُكتسبًا، إما من مقام الإيمان، كحياء العبد من مقامه بين يدي الله تعالى يوم القيامة، فيوجب له ذلك الاستعداد للقائه، أو من مقام الإحسان، كحياء العبد من اطّلاع الله تعالى عليه، وقربه منه، فهذا من أعلى خصال الإيمان. وفي حديث مرسل: "استحي من الله، كما تستحي من رجلين من صالحي عشيرتك، لا يفارقانك"، ورُوي موصولًا (¬1). وسُئل النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن كشف العورة خاليًا؟ فقال: "الله أحقّ أن يُستحيى منه من الناس" (¬2). وفي حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- المرفوع: "الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس، وما وعَى، والبطن، وما حوى، وأن تذكر الموت، والبِلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، ¬

_ (¬1) رواه الطبرانيّ في "الكبير" 8/ 229 من طريق أبي عبد الملك علي بن يزيد الألهانيّ، عن القاسم، عن أبي أمامة -رضي الله عنه- مرفوعًا، وفيه عليّ بن يزيد ضعيف. (¬2) علقه البخاريّ في "كتاب الغسل" 278 وأخرجه أحمد 5/ 4 وأبو داود 4017 والترمذيّ 2794 والحاكم 4/ 179.

فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حقّ الحياء". رواه الترمذيّ، وغيره (¬1). وأخرج البخاريّ في "التفسير" عن ابن عباس في قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} الآية [هود: 5] إنها نزلت في قوم كانوا يُجامعون نساءهم، ويتخلّون، فيستحيون من الله، فنزلت الآية. وكان الصّدّيق -رضي الله عنه- يقول: استحيوا من الله، فإني أذهب إلى الغائط، فأظلّ متقنّعًا بثوبي حياء من ربّي عز وجل. وكان موسى عليه السلام إذا اغتسل في بيت مظلم لا يُقيم صلبه حياء من الله عز وجل. قال بعض السلف: خَفِ الله على قدر قدرته عليك، واستحي منه على قدر قُربه منك. وقد يتولّد الحياء من الله من مطالعة النعم، فيستحيي العبد من الله أن يستعين بنعمته على معاصيه، فهذا كله من أعلى خصال الإيمان. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله تعالى في "شرح البخاري" (¬2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 59 - "حَدَّثَنَا سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَينُ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ. (ح) وحَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مَيْمُونٍ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ، وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ". رجال هذا الإسناد: ثمانية: 1 - (سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ) الحدثانيّ، صدوقٌ، عمي، فصار يتلقّن، من قدماء ¬

_ (¬1) رواه الترمذي 2458 وأحمد 1/ 387 من طريق الصباح بن محمد، عن مرة الهمدانيّ، عن ابن مسعود -رضي الله عنه-، والصباح ضعيف، واستنكروا عليه هذا الحديث، وصوّبوا وقفه على ابن مسعود -رضي الله عنه-، ولكن الشيخ الألباني رحمه الله تعالى حسّنه، انظر "صحيح الجامع الصغير" 1/ 222 رقم 935. (¬2) راجع "شرح البخاريّ" للحافظ ابن رجب 1/ 102 - 104.

[10] 4/ 30. 2 - (عِليُّ بْنُ مَيْمُونٍ الرَّقِّيُّ) أبو الحسن العطّار، ثقة [10]. رَوَى عن ابن عيينة، وحفص بن غياث، وخالد بن حيان الرَّقّيّ، وعبد المجيد بن أبي رَوّاد، وأبي معاوية الضرير، ومخلد بن يزيد الرقي، ومعن بن عيسى القزاز، وعثمان بن عبد الرحمن الطرائفي، وغيرهم. وروى عنه النسائي، وابن ماجه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ومحمد بن عبد الملك الدقيقي، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وابن أبي عاصم، وعبدان الأهوازي، والمعمري، والحسن بن أحمد بن إبراهيم بن فِيل، وأبو عروبة الحرانيّ، وآخرون. قال أبو حاتم: ثقة. وقال النسائي: لا بأس به. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (45) وقال أبو علي الحراني: مات سنة ست وأربعين ومائتين، وقال غيره: مات سنة (47). تفرّد به النسائيّ، والمصنّف، روى عنه في هذا الكتاب (17) حديثًا. 3 - (عَليُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصِل، ثقة له غرائب بعد ما أضرّ [8] 4/ 34. 4 - (سَعِيدُ بْنُ مَسْلَمَةَ) بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأمويّ، ويقال: مسلمة بن أُمية بن هشام، كان ينزل الجزيرة، ضعيف [8]. رَوَى عن إسماعيل بن أمية، وجفر الصادق، ومحمد بن عجلان، وهشام بن عروة، والأعمش، وغيرهم. ورَوى عنه الشافعي، ومحمد الجرجرائي، وعمر بن إسماعيل بن مجالد، وعلي بن ميمون العطار، وغيرهم. قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ليس بشيء. وقال الدُّوري عن ابن معين: كان عنده كتاب عن منصور، فقيل له: سمعت هذا من منصور، فقال حتى يجيء ابني فأسأل. وقال البخاريّ: منكر الحديث، فيه نظر. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن

عديّ: أرجو أنه ممن لا يُترَك حديثه. وقال الدارقطني: ضعيف يُعتَبر به. وقال ابن حبان في "الثقات": يُخطىء، وذكره في "الضعفاء"، فقال: فاحش الخطإ، منكر الحديث جدًّا. وقال الساجي: صدوق، منكر الحديث. تفرّد به الترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا 59، وأعاده في "كتاب الزهد" برقم 4173، و 99 حديث: "هكذا نُبعث"، و 3453 حديث: "الكمأة من المنّ ... " الحديث، و 3712 حديث: "إذا أتاكم كريم قوم، فأكرموه"، و 4173 حديث:". 5 - (الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الكوفيّ الإمام الحجة الحافظ [5] تقدّم في 1/ 1. 6 - (إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس بن الأسود بن عمرو بن ربيعة بن ذُهْل النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ الفقيه، ثقة يرسل كثيرًا [5]. رَوَى عن خاليه: الأسود، وعبد الرحمن ابني يزيد، ومسروق، وعلقمة، وأبي معمر، وهمام ابن الحارث، وشريح القاضي، وسهم بن منجاب، وجماعة. ورَوَى عنه الأعمش، ومنصور، وابن عون، وزبيد اليامي، وحماد بن سليمان، ومغيرة بن مقسم الضبي، وخلق. قال العجليّ: رأى عائشة رؤيا، وكان مفتي أهل الكوفة، وكان رجلًا صالحًا فقيهًا متوقيًّا قليل التكلف، ومات وهو مختف من الحجاج. وقال الأعمش: كان إبراهيم صَيْرَفِيّ الحديث. وقال الشعبي: ما ترك أحدًا أعلم منه. وقال ابن معين: مراسيل إبراهيم أحب إلي من مراسيل الشعبي. وقال الأعمش: قلت لإبراهيم أَسْنِد لي عن ابن مسعود، فقال إبراهيم: إذا حدثتكم عن رجل عن عبد الله، فهو الذي سمعت، وإذا قلت: قال عبد الله، فهو عن غير واحد عن عبد الله. وقال أحمد عن حماد بن خالد، عن شعبة: لم يسمع النخعي من أبي عبد الله الْجَدَليّ حديث خزيمة بن ثابت في المسح. وفي "العلل الكبير" للترمذي: سمع إبراهيم النخعي حديث أبي عبد الله الجدلي من إبراهيم التيمي، والتيمي لم يسمعه منه. وقال ابن المديني: لم يلق النخعي أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت له: فعائشة؟، قال: هذا لم يروه غير سعيد بن أبي عروبة،

عن أبي معشر، عن إبراهيم، وهو ضعيف. وقد رأى أبا جحيفة، وزيد بن أرقم، وابن أبي أوفى، ولم يسمع من ابن عباس. وقال ابن المديني أيضًا: لم يسمع من الحارث بن قيس، ولا من عمرو بن شُرَحبيل. انتهى. ورواية سعيد عن أبي معشر ذكرها ابن حبان بسند صحيح إلى سعيد، عن أبي معشر أن إبراهيم حدثهم أنه دخل على عائشة رضي الله عنها، فرأى عليها ثوبًا أحمر. وقال الحافظ أبو سعيد العلائي: هو مكثر من الإرسال، وجماعةٌ من الأئمة صححوا مراسيله، وخَصَّ البيهقي ذلك بما أرسله عن ابن مسعود -رضي الله عنه-. قال أبو نعيم: مات سنة (96)، وقال غيره: وهو ابن (49) سنة، وقيل: ابن (58). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (59) حديثًا. 7 - (عَلْقَمَةُ) بن قيس بن عبد الله بن مالك بن علقمة بن سلامان بن كهل، ويقال: ابن كُهيل بن بكر بن عوف، ويقال: ابن المنتشر بن النخع، أبو شِبْل النخعيّ الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه عابدٌ [2]. ولد في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورَوَى عن عمر، وعثمان، وعليّ، وسعد، وحذيفة، وأبي الدَّرداء، وابن مسعود، وأبي مسعود، وأبي موسى، وغيرهم. ورَوى عنه ابن أخيه عبد الرحمن بن يزيد بن قيس، وابن أخته إبراهيم بن يزيد النخعي، وإبراهيم بن سُويد النخعي، وعامر الشعبي، وأبو الرُّقَاد النخعي، وجماعة. قال مغيرة عن إبراهيم: كان علقمة عقيمًا. وقال أبو طالب عن أحمد: ثقة من أهل الخير. وقال عثمان بن سعيد: قلت لابن معين: علقمة أحب إليك، أو عبيدة؟ فلم يُخَيِّر. قال عثمان: كلاهما ثقة، وعلقمة أعلم بعبد الله. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وقال ابن المديني: أعلم الناس بعبد الله علقمة، والأسود، وعَبِيدة، والحارث. وقال أبو المُثَنَّى رِيَاح: إذا رأيت علقمة فلا يضرك أن لا ترى عبد الله، أشبه الناس به سمتًا وهديًا، وإذا رأيت إبراهيم فلا يضرك أن لا ترى علقمة. وقال الأعمش عن عمارة بن عمير: قال لنا أبو معمر: قوموا بنا إلى أشبه الناس هديًا وسمتًا ودلًّا بابن

مسعود، فقمنا معه حتى جلس إلى علقمة. وقال داود بن أبي هند: قلت لشعبة: أخبرني عن أصحاب عبد الله، قال: كان علقمة أبطنَ القومِ به. وقال ابن سيرين: أدركت الناس بالكوفة، وهم يُقَدِّمون خمسة، من بدأ بالحارث ثَنَى بعَبِيدة، ومن بدأ بعبيدة ثنى بالحارث، ثم علقمة الثالث، لا شك فيه. قال أبو نعيم: مات سنة إحدى وستين. وقال ابن معين وغير واحد: مات سنة (62). وقيل: سنة (3)، وقيل: سنة (5)، وقيل: سنة (72)، وقيل: سنة (73). وقال هارون بن حاتم عن عبد الرحمن بن هانىء: مات وله تسعون سنة. وكان الأسود وعبد الرحمن ابنا يزيد بن قيس ولدا أخي علقمة أسن منه. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (22) حديثًا. 8 - (عَبْدُ اللَّه) تقدّم 2/ 19. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى شيخيه، وابن مسلمة. 3 - (ومنها): أن فيه ثلاثة من ثقات التابعين يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة. 4 - (ومنها): أن فيه عبد الله غير منسوب، فهو ابن مسعود -رضي الله عنه-؛ لأن الراوي عنه كوفيّ، وذلك أنه إذا أُطلق في الصحابة عبد الله يُنظر إلى الراوي عنه، فإن كان مدنيا فهو ابن عمر، وإن كان مكيّا فهو ابن الزبير، وإن كان بصريّا فهو ابن عبّاس، وإن كان مصريّا، أو شاميّا فهو ابن عمرو بن العاص -رضي الله عنهم-، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ اللَّه) بن مسعود -رضي الله عنه-، أنه "قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ" مِثْقَالُ الشيء بالكسر: ميزانُهُ من مثله، ويقال: أعطِهِ ثِقْله وزانُ

حِمْلٍ: أي وزنه. قاله الفيّوميّ (¬1). وقال القرطبيّ: المثقال مِفْعالٌ من الثقل، ومثقالُ الشيء: وزنه، يقال: هذا على مثقال هذا: أي على وزنه. انتهى (¬2). "والذرّة": واحد الذّرّ، وهي صغار النمل، ومائة منها زِنَة حبّة شعير. قاله في "القاموس" (مِن خَرْدَلٍ) بفتح، فسكون: حَبّ شجر معروف. قاله في "القاموس" أيضًا (مِنْ كِبْرٍ) قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: الِكِبْر والكبرياء في اللغة: هو العظمة، يقال فيه: كَبُر الشيء بضمّ الباء، أي عَظُم، فهو كبير وكِبَار، فإذا أفرط قيل: كبّار بالتشديد، وعلى هذا فيكون الكبر والعظمة اسمين لمسمّى واحد. وقد جاء في الحديث ما يُشْعِر بالفرق بينهما، وذلك أن الله تعالى قال: "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما قصمته" (¬3)، فقد فرّق بينهما، بأن عبّر عن أحدهما بالإزار، وعن الآخر بالرداء، وهما مختلفان، ويدلّ أيضًا على ذلك قوله: "فمن نازعني واحدًا منهما"، إذ لو كانا واحدًا لقال: فمن نازعنيه، فالصحيح إذن الفرق، ووجهه أن جهة الكبرياء يستدعي متكبّرًا عليه، ولذلك لمّا فسّر الكبر قال: "الكبر: بطر الحقّ، وغمط الناس" (¬4)، وهو احتقارهم، فذكر المتكبّر عليه، وهو الحقّ أو الخلق، والعظمة لا تقتضي ذلك، فالمتكبّر يلاحظ ترفّع نفسه على غيره بسبب مزيّة كمالها، فيما يراه، والمعظم يلاحظ كمال نفسه من غير ترفّع لها على غيره. وهذا التعظيم هو المعبّر عنه بالعجب في حقّنا إذا انضاف إليه نسيانُ منّة الله تعالى علينا فيما خصّنا به من ذلك الكمال، وإذا تقرّر هذا، فالكبرياء والعظمة من أوصاف ¬

_ (¬1) "المصباح" 1/ 83. "ق" ص 875. (¬2) "المفهم" 1/ 289. (¬3) رواه مسلم (2620) وأبو داود (4090) من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه-، وأبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬4) رواه مسلم في "صحيحه" (91).

كمال الله تعالى، واجبان له، إذ ليست أوصاف كمال الله وجلاله مستفادة من غيره، بل هي واجبة الوجود لذواتها بحيث لا يجوز عليه العدم، ولا النقص، ولا يجوز عليه تعالى نقيض شيء من ذلك، فكماله وجلاله حقيقة له بخلاف كمالنا، فإنه مستفاد من الله تعالى، ويجوز عليه العدم، وطروء النقيض والنقص، وإذا كان هذا فالتكبّر والتعاظم خَرَقٌ منّا، ومستحيلٌ في حقّنا، ولذا حرّمهما الشرع، وجعلهما من الكبائر؛ لأن من لاحظ كمالَ نفسه ناسيًا منّة الله تعالى عليه فيما خصه به كان جاهلًا بنفسه وبربّه، مغترّا بما لا أصل له، وهي صفة إبليس الحاملة له على قوله: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12]، وصفة فرعون الحاملة له على قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، ولا أقبح مما صارا إليه، فلا جَرَمَ كان فرعون وإبليس أشدّ أهل النار عذابًا، نعوذ بالله من الكبر والكفر. وأما من لاحظ من نفسه كمالًا، وكان ذاكرًا فيه منّة الله تعالى عليه به، وأن ذلك من تفضّله تعالى ولطفه، فليس من الكبر المذموم في شيء، ولا من التعاظم المذموم، بل هو اعترافٌ بالنعمة، وشكرٌ على المنّة. والتحقيق في هذا أن الخلق كلهم قوالَب وأشباح، تجري عليهم أحكام القدرة، فمن خصّه الله تعالى بكمال، فذلك الكمال يرجع للمكمّل الجاعل، لا للقالب القابل، ومع ذلك فقد كمل الله الكمال بالجزاء، والثناء عليه، كما قد نقص النقص بالذمّ والعقوبة عليه، فهو المعطي، والمثني، والمبتلي، والمعافي، كيف لا وقد قال العليّ الأعلى: "أنا الله خالق الخير والشرّ، فطوبى لمن خلقته للخير، وقدّرته عليه، والويل لمن خلقته للشرّ، وقدّرته عليه" (¬1). فلا حيلة تعمل مع قهر، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]. ولمّا تقرّر أن الكبر يستدعي متبَّرًا عليه، فالمتكبَّرُ عليه إن كان هو اللَّهَ تعالى، أو رسوله -صلى الله عليه وسلم-، أو الحقّ الذي جاءت به رسله، فذلك الكبر كفرٌ، وإن كان غير ذلك، فذلك الكبر معصيةٌ وكبيرة، يُخاف على المتلبّس بها المصرّ عليها أن تُفضي به إلى الكفر، فلا ¬

_ (¬1) أخرجه ابن شاهين في "شرح السنّة" عن أبي أمامة بإسناد ضعيف.

يدخل الجنّة أبدًا، فإن سلم من ذلك، ونفذ عليه الوعيد عوقب بالإذلال والصَّغَار، أو بما شاء الله من عذاب النار، حتى لا يبقى في قلبه من ذلك الكبر مثقال ذرّة، وخلص من خُبْث كبره حتى يصير كالذرّة، فحينئذ يتداركه الله برحمته، ويُخلّصه بإيمانه وبركته، وقد نصّ على هذا المعنى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في المحبوسين على الصراط لمّا قال: "حتى إذا هُذِّبُوا، ونُقّوا أُذن لهم في دخول الجنّة" (¬1). والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ (¬2). وقال النوويّ رحمه الله: وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر"، فقد اختُلِف في تأويله، فذكر الخطابي فيه وجهين: [أحدهما]: أن المراد التكبر عن الإيمان، فصاحبه لا يدخل الجنة أصلًا إذا مات عليه. [والثاني]: أنه لا يكون في قلبه كبر حال دخوله الجنة، كما قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الحجر: 47]، وهذان التأويلان فيهما بُعْدٌ، فإن هذا الحديث ورد في سياق النهي عن الكبر المعروف، وهو الارتفاع على الناس، واحتقارهم، ودفع الحقّ، فلا ينبغي أن يُحمَل على هذين التأويلين المُخرِجين له عن المطلوب، بل الظاهر ما اختاره القاضي عياض وغيره من المحققين، أنه لا يدخل الجنة دون مجازاة إن جازاه. وقيل: هذا جزاؤه لو جازاه، وقد يتكرم بأنه لا يجازيه، بل لا بُدّ أن يدخل كل الموحدين الجنة إمّا أوّلًا وإمّا ثانيًا بعد تعذيب بعض أصحاب الكبائر الذين ماتوا مُصِرّين عليها، وقيل: لا يدخلها مع المتقين أَوّلَ وَهْلَة. انتهى (¬3). [تنبيه]: زاد في رواية مسلم من طريق فضيل الْفُقَيميّ، عن إبراهيم النخعيّ: قال رجل: إن الرجل يُحِبّ أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنةً، قال: "إن الله جميل يحب ¬

_ (¬1) رواه البخاريّ في "صحيحه" (6535) وأحمد في "مسنده" 3/ 13 و63 و 74. (¬2) "المفهم" 1/ 286 - 288. (¬3) راجع "شرح مسلم" 2/ 91.

الجمال، الكِبْرُ بَطَرُ الحقِّ، وغَمْطُ الناس"، وسيأتي شرح هذه الزيادة في المسألة الرابعة، إن شاء الله تعالى. "وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ" المراد به دخولَ الكفّار، وهو دخولُ الخلود. قاله النوويّ رحمه اللَّه. وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: المراد بالإيمان في هذا الحديث التصديق القلبيّ المذكور في حديث جبريل عليه السلام، ويُستفاد منه أن التصديق القلبيّ على مراتب، ويزيد وينقص. وهذه النار المذكورة هنا هي النار المعدّة للكفّار التي لا يَخرُج منها من دخلها؛ لأنه قد جاء في أحاديث الشفاعة أن خلقًا كثيرًا ممن في قلبه ذرّات كثيرة من الإيمان يدخلون النارَ، ثم يخرجون منها بالشفاعة، أو بالقَبْضة ووجه التلفيق أن النار دركات كما قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ في الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]، وأهلها في العذاب على مراتب ودركات كما قال الله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]، وأن نار من يُعذّب من الموحّدين أخفّها عذابًا، وأقربها خروجًا، فمن أُدخل النار من الموحّدين لم يدخل نار الكفّار، بل نارًا أخرى يموتون فيها، ثم يُخرجون منها، كما جاء في الأحاديث الصحيحة. انتهى كلام القرطبيّ (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- هذا أخرجه مسلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (59) وفي "كتاب الزهد" (4173) بهذا السند فقط، ¬

_ (¬1) "المفهم" 1/ 289.

وأخرجه (مسلم) في "الإيمان" (1/ 65) و (أبو داود) (4091) و (الترمذيّ) (1998) و (1999) و (أحمد) في "مسنده" 1/ 412 و 416 و 451، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده (¬1): 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان الإيمان، أي بيان فضله، وأنه سبب لدخول صاحبه الجنة، وتحريمه على النار. 2 - (ومنها): بيان زيادة الإيمان ونقصانه. 3 - (ومنها): تحريم الكبر، وأنه من الكبائر التي توجب لصاحبها دخول النار. 4 - (ومنها): أن الله سبحانه وتعالى لا يظلم أحدًا، وإن كان عمله قليلًا، كما قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40]. (ومنها): أنه يدلّ على أن الجميل اسم من أسماء الله تعالى، وقال به جماعة، وهو الحقّ، وسيأتي تحقيق الخلاف قريبًا إن شاء الله تعالى. 5 - (ومنها): إباحة التجمّل بلبس الثياب الجميلة، والنعال الجميلة، لكن بشرط أن يخلو ذلك من المخيلة، والإسراف؛ لما أخرجه أحمد، والنسائيّ، والمصنّف بإسناد صحيح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كلوا، وتصدقوا، والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الرابعة): في شرح الزيادة التي تقدّمت عن "صحيح مسلم" رحمه الله في روايته من طريق فُضَيل الْفُقَيميّ، عن إبراهيم النخعيّ، ولفظها: قال رجل: إن الرجل يُحِبّ أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنةً، قال: "إن الله جميل يحب الجمال، الكِبْرُ بَطَرُ الحقِّ، وغَمْطُ الناس". فقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله جَمِيل يُحِبُّ الجمال" قال القرطبيّ رحمه الله: الجمال لغةً هو ¬

_ (¬1) المراد الفوائد التي اشتمل عليها الحديث برواياته، لا بخصوص سياق المصنّف، فتنبّه.

الحسن، يقال: جَمُل الرجل يَجمُلُ بالضمّ جَمَالًا فهو جميلٌ، والمرأة جميلة، ويقال: جَمْلاءُ عن الكسائيّ. وهذا الحديث يدلّ على أن الجميل من أسماء الله تعالى، وقال بذلك جماعة من أهل العلم، إلا أنهم اختلفوا في معناه، فقيل: معناه معنى الجليل، قاله القشيريّ. وقيل: معناه ذو النور والبهجة: أي مالكهما، قاله الخطابيّ. وقيل: جميل الأفعال بكم، والنظر إليكم، فهو يُحبّ التجمّل منكم في قلّة إظهار الحاجة إلى غيره، قاله الصيرفيّ. وقال: الجميل: المنزّه عن النقائص الموصوف بصفات الكمال الآمر بالتجمّل له بنظافة الثياب والأبدان، والنزاهة عن الرذائل والطغيان. انتهى (¬1). وقال النوويّ في "شرحه": اختلفوا في معناه، فقيل: إن معناه أن كل أمره سبحانه وتعالى حسن جميل، وله الأسماء الحسنى، وصفات الجمال والكمال. وقيل: جميل بمعنى مُجْمِل، ككريم وسميع، بمعنى مُكْرِم، ومُسْمِع. وقال الإمام أبو القاسم القشيرى رحمه الله: معناه جليل. وحَكَى الإمام أبو سليمان الخطابيّ أنه بمعنى ذي النور والبهجة، أي مالكهما. وقيل: معناه جميل الأفعال بكم، باللطف والنظر إليكم، يُكَلِّفكم اليسير من العمل، ويُعين عليه، ويثيب عليه الجزيل، ويشكر عليه. انتهى (¬2). وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "وغَمط الناس" هو بفتح الغين المعجمة، وإسكان الميم، وبالطاء المهملة، هكذا هو في نسخ "صحيح مسلم" رحمه الله، قال القاضي عياض رحمه الله: لم نرو هذا الحديث عن جميع شيوخنا هنا، وفي البخاريّ إلا بطاء، قال: وبالطاء ذكره أبو داود في "مصنفه"، وذكره أبو عيسى الترمذي وغيره "غمص" بالصاد، وهما بمعنى واحد، ومعناه: احتقارهم واستصغارهم لما يَرَى من رفعته عليهم، يقال في الفعل منه: غَمَطَهُ بفتح الميم يَغْمِطه بكسرها، وغَمِطَهُ بكسر الميم يَغْمَطُهُ بفتحها. أما "بَطَرُ الحقّ" ¬

_ (¬1) "المفهم" 1/ 288. (¬2) "شرح مسلم" 2/ 90.

فهو دفعه، وإنكاره ترفعًا وتجبرًا. (¬1). [تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: (اعلم): أن هذا الاسم ورد في هذا الحديث الصحيح ولكنه من أخبار الآحاد، وورد أيضا في حديث الأسماء الحسنى، وفي إسناده مقال، والمختار جواز إطلاقه على الله تعالى، ومن العلماء من منعه، قال الإمام أبو المعالي إمام الحرمين رحمه الله تعالى: ما ورد الشرع بإطلاقه في أسماء الله تعالى وصفاته أطلقناه، وما منع الشرع من إطلاقه منعناه، وما لم يرد فيه إذن ولا منع لم نَقْضِ فيه بتحليل ولا تحريم، فإن الأحكام الشرعية تُتَلَقَّى من موارد الشرع، ولو قضينا بتحليل أو تحريم، لكنا مُثبتين حكما بغير الشرع، قال: ثم لا يُشترط في جواز الإطلاق وُرود ما يُقطَع به في الشرع، ولكن ما يقتضي العملَ، وإن لم يوجب العلم، فإنه كاف، إلا أن الأقيسة الشرعية من مقتضيات العمل، ولا يجوز التمسك بهن في تسميه الله تعالى ووصفه. قال النوويّ: هذا كلام إمام الحرمين ومحله من الإتقان والتحقق بالعلم مطلقًا، وبهذا الفن خصوصًا معروف بالغاية العليا. وأما قوله: لم نقض فيه بتحليل ولا تحريم؛ لأن ذلك لا يكون إلا بالشرع، فهذا مبنيّ على المذهب المختار في حكم الأشياء قبل ورود الشرع، فإن المذهب الصحيح عند المحققين من الشافعيّة أنه لا حكم فيها لا بتحليل ولا تحريم ولا إباحة، ولا غير ذلك؛ لأن الحكم عند أهل السنة لا يكون إلا بالشرع. وقال بعض الشافعيّة: إنها على الإباحة. وقال بعضهم: على التحريم. وقال بعضهم: على الوقف لا يُعلم ما يقال فيها، والمختار الأول. والله أعلم. وقد اختَلَفَ أهل السنة في تسمية الله تعالى، ووصفه من أوصاف الكمال والجلال والمدح بما لم يَرِد به الشرع، ولا مَنَعَه، فأجازه طائفةٌ، ومنعه آخرون، إلا أن يرد به شرع مقطوع به، من نَصِّ كتاب الله، أو سنة متواترة، أو إجماع على إطلاقه، فإن ورد خبر ¬

_ (¬1) "شرح مسلم" 2/ 90. و"المفهم" 1/ 289.

واحد فقد اختلفوا فيه، فأجازه طائفة، وقالوا: الدعاء به والثناء من باب العمل، وذلك جائز بخبر الواحد، ومنعه آخرون؛ لكونه راجعا إلى اعتقاد ما يجوز أو يستحيل على الله تعالى، وطريق هذا القطع، قال القاضي: والصواب جوازه؛ لاشتماله على العمل، ولقوله الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]. والله أعلم. انتهى كلام النوويّ (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ جواز تسمية الله تعالى ووصفه بما ورد في خبر الآحاد، مثل هذا الحديث، وأن خبر الآحاد الصحيح الثابت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما يوجب العلم والعمل معًا، والقول بأنه لا يوجب العلم قول ضعيف، وإن كان كثُر القائلون به، وقد ذكرتُ تحقيقه في "التحفة المرضيّة" و"شرحها"، فراجعه تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق. [تنبيه]: اختُلِف في الرجل الذي قال: "إنّ الرجل يُحب أن يكون ثوبه حسنًا": قيل: هو مالك بن مُرارة الرّهَاويُّ، قاله القاضي عياض، وأشار إليه أبو عمر بن عبد البر رحمهما الله، وقد جمع أبو القاسم خَلَف بن عبد الملك بن بشكوال الحافظ في اسمه أقوالا من جهات، فقال: هو أبو رَيحانة، واسمه شمعون، ذكره ابن الأعرابيّ، وقال عليّ ابن المدينيّ في الطبقات: اسمه ربيعة بن عامر. وقيل: سَوَاد -بالتخفيف- ابن عمرو، ذكره ابن السكن. وقيل: معاذ بن جبل، ذكره ابن أبي الدنيا في "كتاب الخمول والتواضع". وقيل: مالك بن مُرَارة الرّهَاويّ، ذكره أبو عبيد في "غريب الحديث". وقيل: عبد الله بن عمرو بن العاصي، ذكره معمر في "جامعه". "وقيل: خُرَيم بن فاتك. هذا ما ذكره ابن بشكوال. وقولهم: "ابن مُرَارة الرُّهاويّ: هو مُرارة -بضم الميم، وبراء مكررة، وآخره هاء- و"الرّهَاويّ": هنا نسبة إلى قبيلة، ذكره الحافظ عبد الغنيّ بن سعيد المصريّ -بفتح ¬

_ (¬1) "شرح صحيح مسلم" 2/ 90 - 91.

الراء-، ولم يذكره ابن ماكولا، وذكر الجوهريّ في "صحاحه" أن الرّهَاويّ نسبة إلى رُهَا بضم الراء حيّ من مَذْحِج. وأما "شمعون": فبالعين المهملة، وبالمعجمة، والشين معجمة فيهما. انتهى كلام النوويّ رحمه الله (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال: 60 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا خَلَّصَ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّارِ وَأَمِنُوا، فَمَا مُجَادَلَةُ أَحَدِكُمْ لِصاحِبِهِ في الحقِّ يَكُوَنُ لَهُ في الدُّنْيَا، أَشَدَّ مُجَادَلَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ في إِخْوَانِهِمِ الَّذِينَ أُدْخِلُوا النَّارَ، قَالَ: يَقُولُونَ: رَبَّنَا إِخْوَانُنَا كانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَحُجُّونَ مَعَنَا، فَأَدْخَلْتَهُمُ النَّارَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا، فَأَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ مِنْهُمْ، فَيَأْتُونَهُمْ، فَيَعْرِفُونَهُمْ بِصُوَرِهِمْ، لَا تَأْكُلُ النَّارُ صُوَرَهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ النَّارُ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ إِلَى كَعْبَيْهِ، فَيُخْرِجُونَهُمْ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَخْرَجْنَا مَنْ قَدْ أَمَرْتَنَا، ثُمَّ يَقُوُل: أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ وَزْنُ دِينَارٍ مِنَ الْإِيَمانِ، ثُمَّ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ وَزْنُ نِصْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ" قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْ هَذَا، فَلْيَقْرَأْ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى) بن عبد الله خالد الذهليّ النيسابوريّ الثقة الحافظ الحجة الثبت [11] تقدّم في 2/ 16. 2 - (عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن هَمّام الحِمْيريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقة حافظٌ مصنّف، عمي في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9] تقدّم في 2/ 16. ¬

_ (¬1) "شرح مقدّمة مسلم" 2/ 92.

3 - (مَعْمَرٌ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عُرْوة البصريّ، نزيل اليمن، ثقة ثبتٌ فاضل، إلا أن في روايته عن ثابت، والأعمش، وهشام بن عُروة شيئًا، وكذا فيما حدّث به بالبصرة، من كبار [7] تقدّم في 2/ 16. 4 - (زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) العَدَويّ مولى عمر، أبو عبد الله، أو أبو أسامة المدنيّ، ثقة فقيه يرسل [3] تقدّم في 2/ 13. 5 - (عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ القاصّ، مولى ميمونة، زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو أخو سليمان، وعبد الملك، وعبد الله بني يسار، ثقة فاضلٌ صاحب مواعظ وعبادة، من صغار [3]. رَوَى عن معاذ بن جبل، وفي سماعه منه نظر، وعن أبي ذر، وأبي الدرداء، وعبادة ابن الصامت، وزيد بن ثابت، وأبي سعيد الخدريّ، وغيرهم. ورَوَى عنه أبو سلمة بن عبد الرحمن، وهو من أقرانه، ومحمد بن عمر بن عطاء، ومحمد بن عمرو بن حَلْحَلة، وهلال بن عليّ، وزيد بن أسلم، وغيرهم. قال البخاري، وابن سعد: سمع من ابن مسعود. وقال أبو حاتم: لم يسمع منه. وقال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، سمع من أبي عبد الله الصنابحي، وأما مالك فقال: عطاء بن يسار عن عبد الله الصنابحي. رَوَى الواقديّ أنه مات سنة ثلاث أو أربع ومائة، وقال غيره: سنة (94). وقال ابن سعد: وهو أشبه، وقال عمرو بن علي وغيره: مات سنة (103)، وهو ابن (84) سنة، وجَزَم ابن يونس في "تاريخ مصر" بأنه تُوُفّي بالإسكندرية. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: قدم الشام، فكان أهل الشام يَكْنُونه بأبي عبد الله، وقَدِم مصر فكان أهلها يَكنونه بأبي يسار، وكان صاحب قِصَص وعبادة وفضل، كان مولده سنة (19) ومات سنة (103) وكان موته بالإسكندرية. انتهى. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (28) حديثًا. 6 - (أبو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي

الله عنهما، تقدم في 4/ 37، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من زيد، وشيخه نيسابوريّ، والباقيان يمنيّان. 3 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. 4 - (ومنها): أن فيه التحديث، والعنعنة من صيغ الأداء، وهما للاتّصال على الأصحّ في "عن" من غير مدلّس، إن حصل لقاء وسماع، واكتفى مسلم بالعاصرة. 5 - (ومنها): أن صحابيّه أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) -رضي الله عنه-، أنه "قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا خَلَّصَ اللَّه المُؤْمِنينَ مِنَ النَّارِ" أي نجّاهم بإبعادهم منها (وَأَمِنُوا) أي من الدخول فيها (فَمَا) نافية، حجازيّة تعمل عمل "ليس"، واسمها قوله (مُجَادَلَةُ) أي مخاصمة (أَحَدِكُمْ لِصَاحِبِهِ في الحَقِّ) الجارّان متعلّقان بـ "مجادلة" (يَكُونُ لَهُ) أي يثبت ذلك الحقّ لذلك الأحد على صاحبه (في الدُّنْيَا) متعلّق بخبر "يكون"، والجملة صفة لـ "الحقّ"، أو حال منه، وقوله (أَشَدَّ) منصوب على أنه خبر "ما"، وفي رواية: "بأشدّ" بزيادة الباء في خبر "ما"، كما قال في الخلاصة: وَبَعْدَ "مَا" وَ"لَيْسَ" جَرَّ الْبَا الْخَبَرْ ... وَبَعْدَ "لَا" ونَفْي "كَانَ" قَدْ يُجَرْ (مُجَادَلَةً) منصوب على التمييز، قال السنديّ: وفيه مبالغة، حيث جعل المجادلة ذات مجادلة، ولا يجوز جرّ "مجادلة" بإضافة اسم التفضيل إليها؛ لأنه يلزم الجمع بين الإضافة و"من"، واسم التفضيل لا يُستعمل بهما، وأيضًا التنكير يأبى احتمال الإضافة. انتهى. وقوله (مُجَادَلَةً) منصوب على التمييز (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي من مجادلة المؤمنين، وهو

متعلّق بـ "أشدّ"، وفيه -كما الطيبيّ- وضع المظهر موضع الضمر، إذ الظاهر أن يقول: "منكم". أي بأشدّ مجادلة منكم (لِرَبِّهِمْ) متعلّقٌ بـ "مجادلة"، وكذا قوله (في إِخْوَانِهِمِ الَّذِينَ أُدْخِلُوا النَّارَ) ببناء الفعل للمفعول: أي الذين أدخلهم الله تعالى النار بسبب أعمالهم السيّئة. والمعنى إنّ مجادلةَ المؤمنين بعضِهم لبعضٍ في الدنيا بسبب حقّ يثبت لهم، لا تكون أشدّ من مجادلة المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى في الآخرة، حين يؤذن لهم بدخول الجنة، وقد أُدخِل إخوانهم النار بسبب سيّئاتهم، فيناشدون الله سبحانه وتعالى أن يُخرِج إخوانهم من النار، فيدخلوا معهم الجنة، كما يشير إلى هذا قوله: "يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلّون معنا إلخ". وهذا المعنى واضح. ووقع عند مسلم في "صحيحه بلفظ": "فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشدّ مناشدةً لله في استقصاء الحقّ من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار". قال النوويّ في "شرحه": [اعلم]: أن هذه اللفظة -يعني استقصاء- ضُبِطت على أوجه: أحدها: "استيضاء" بتاء مثناة من فوقُ، ثم ياء مثناة من تحتُ، ثم ضاد معجمة. والثاني: "استضاء" بحذف المثناة من تحتُ. والثالث: "استيفاء" بإثبات المثناة من تحت، وبالفاء بدل الضاد. والرابع: "استقصاء" بمثناة من فوقُ ثم قاف، ثم صاد مهملة. فالأول: موجود في كثير من الأصول ببلادنا. والثاني: هو الموجود في أكثرها، وهو الموجود في "الجمع بين الصحيحين" للحميدي. والثالث: في بعضها، وهو الموجود في "الجمع بين الصحيحين" لعبد الحق الحافظ. والرابع: في بعضها، ولم يذكر القاضي عياض غيره، وادّعى اتفاق النسخ عليه، وادّعى أنه تصحيف ووهم، وفيه تغيير، وأن صوابه ما وقع في كتاب البخاري، من رواية ابن بُكير "بأشدّ مُناشدةً لي في استقصاء الحق" -يعنى في الدنيا- من المؤمنين لله

يوم القيامة لإخوانهم، وبه يتم الكلام ويتوجه. هذا آخر كلام القاضي رحمه الله (¬1). وليس الأمر على ما قاله، بل جميع الروايات التي ذكرناها صحيحة، لكل منها معنى حسن، وقد جاء في رواية يحيى بن بكير عن الليث: "فما أنتم بأشدّ مناشدةً في الحق، قد تبين لكم، من المؤمنين يومئذ للجبار تعالى وتقدس، إذا رأوا أنهم قد نَجَوا في إخوانهم"، وهذه الرواية التي ذكرها الليث تُوضح المعنى، فمعنى الرواية الأولى والثانية: إنكم إذا عَرَضَ لكم في الدنيا أمر مُهِمّ، والتبس الحال فيه، وسألتم الله تعالى بيانه، وناشدتموه في استيضائه، وبالغتم فيها، لا تكون مناشدةُ أحدكم بأشدّ من مناشدة المؤمنين لله تعالى في الشفاعة لإخوانهم. وأما الرواية الثالثة والرابعة: فمعناهما أيضًا: ما منكم من أحد يناشد الله تعالى في الدنيا في استيفاء حقه، أو استقصائه، وتحصيله من خصمه، والمُعْتَدِي عليه بأشد من مناشدة المؤمنين الله تعالى في الشفاعة لإخوانهم يوم القيامة. والله أعلم. انتهى كلام النوويّ (¬2). (قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (يَقُولُونَ) أي المؤمنون (رَبَّنَا) بتقدير حرف النداء: أي يا ربّنا (إِخْوَانُنَا) خبر لمحذوف، أي هم إخواننا، أو هو مبتدأ، خبره جملة قوله: (كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَحُجُّونَ مَعَنَا) أي كانوا يفعلون هذه العبادات في الدنيا، كما كنّا نفعلها، فليس المراد اجتماعهم على فعلها، فإنه لا يشترط ذلك (فَأَدْخَلْتَهُمُ النَّارَ، قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (فَيَقُولُ) أي الله سبحانه وتعالى (اذْهَبُوا، فَأَخْرِجُوا) هذه الرواية صريحة في كون الإخراج للمؤمنين، وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عند البخاريّ: "أمر الملائكة أن يُخرِجوهم". وفي حديث أنس -رضي الله عنه- عنده قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فَيَحُدّ لي حدّا، فأخرجهم"، ويُجمع بأن الملائكة يُؤمرون على ألسنة الرسل بذلك، فالذين يباشرون الإخراج هم الملائكة. قاله ¬

_ (¬1) "إكمال المعلم" 1/ 560. (¬2) "شرح صحيح مسلم" 3/ 30 - 31.

في "الفتح" 13/ 284. (مَنْ عَرَفْتُمْ مِنْهُمْ) أي من إخوانكم الموصوفين بما ذكرتم (فَيَأْتُونَهُمْ، فَيَعْرِفُونَهُمْ بِصُوَرِهِمْ) وقوله: (لَا تَأْكُلُ النَّارُ صُوَرَهُمْ) جملة في محلّ تعليل: أي لأن النار لا تأكل صورهم، ولا تغيّرهم، والمراد مواضع سجودهم، ففي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عند الشيخين: "حرّم الله تعالى على النار أن تأكل أثر السجود"، وآثار السجود تكون في أعضائه السبعة. (فَمِنْهُمْ) أي من إخوانهم الذين شفعوا لهم (مَنْ) بفتح الميم موصولة (أَخَذَتْهُ النَّارُ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ) بفتح الهمزة: جمع نِصف (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ إِلَى كعْبَيْهِ). [فإن قيل]: هذا نصّ على أن النار قد أخذت بعض أعضاء السجود، وهو يخالف قوله: "لا تأكل النار صُوَرهم"، وقوله: "حرّم الله تعالى على النار أن تأكل أثر السجود"، فكيف الجواب؟. [قلت]: أجيب بأنا نقول: تأخذ النار، فتغيّرُ، ولا تأكل، فتذهب، ولا يبعد أن يقال: إن تحريم الصور على النار إنما يكون في حق هذه الطائفة المشفوع لهم أوّلًا لعلوّ رتبتهم على من يخرج بعدهم، فتكون النار لم تقرب صورهم، ولا وجوههم بالتغيير، ولا الأكل. قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى في "المفهم" 1/ 448 - 449. وقال في "الفتح" عند شرح قوله: فيعرفونهم بعلامة آثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود: ما حاصله: هذا جواب عن سؤال مقدر، تقديره: كيف يَعرِفون أثر السجود، مع قوله في حديث أبي سعيد، عند مسلم: "فأماتهم الله إماتة، حتى إذا كانوا فَحْمًا أَذِن الله بالشفاعة"، فإذا صاروا فحما كيف يتميز محل السجود من غيره؟ حتى يُعرف أثره. وحاصل الجواب تخصيص أعضاء السجود، من عموم الأعضاء التي دل عليها هذا الخبر، وأن الله منع النار أن تُحْرِق أثر السجود من المؤمن، وهل المراد بأثر السجود نفس العضو، الذي يَسجُد، أو المراد مَن سَجَد؟ فيه نظر، والثاني أظهر.

قال القاضي عياض: فيه دليل على أن عذاب المؤمنين المذنبين مخالف لعذاب الكفار، وأنها لا تأتي على جميع أعضائهم، إما إكراما لموضع السجود، وعظم مكانهم من الخضوع لله تعالى، أو لكرامة تلك الصورة التي خُلق آدم والبشر عليها، وفُضِّلوا بها على سائر الخلق. قال الحافظ: الأول منصوص، والثاني محتمل، لكن يشكل عليه أن الصورة لا تختص بالمؤمنين، فلو كان الإكرام لأجلها لشاركهم الكفار، وليس كذلك. قال النووي: وظاهر الحديث أن النار لا تأكل جميع أعضاء السجود السبعة، وهي: الجبهة، واليدان، والركبتان، والقدمان، وبهذا جزم بعض العلماء. وقال عياض: ذِكر الصورة، ودارات الوجوه، يدل على أن المراد بأثر السجود الوجه خاصة، خلافا لمن قال: يشمل الأعضاء السبعة، ويؤيد اختصاص الوجه أن في بقية الحديث: "إن منهم من غاب في النار إلى نصف ساقيه"، وفي حديث سمرة عند مسلم: "وإلى ركبتيه"، وفي رواية هشام بن سعد في حديث أبي سعيد: "وإلى حِقْوه". قال النووي: وما أنكره هو المختار، ولا يمنع من ذلك قوله في الحديث الآخر في مسلم: "إن قوما يخرجون من النار، يحترقون فيها إلا دارات وجوهم"، فإنه يُحمل على أن هؤلاء قوم مخصوصون من جملة الخارجين من النار، فيكون الحديث خاصا بهم، وغيره عاما، فيُحمل على عمومه، إلا ما خص منه. قال الحافظ: إن أراد أن هؤلاء يخصون بأن النار لا تأكل وجوههم كلها، وأن غيرهم لا تأكل منهم محل السجود خاصة، وهو الجبهة سَلِمَ من الاعتراض، وإلا يلزمه تسليم ما قال القاضي في حق الجميع، إلا هؤلاء، وإن كانت علامتهم الغُرّة كما تقدم النقل عمن قاله، وما تعقبه بأنها خاصة بهذه الأمة، فيضاف إليها التحجيل، وهو في اليدين والقدمين، مما يصل إليه الوضوء، فيكون أشمل مما قاله النووي، من جهة دخول جميع اليدين والرجلين، لا تخصيص الكفين والقدمين، ولكن ينقص منه الركبتان. وما استدل به القاضي من بقية الحديث، لا يمنع سلامة هذه الأعضاء، مع الانغمار؛ لأن

تلك الأحوال الأخروية خارجة عن قياس أحوال أهل الدنيا. ودل التنصيص على دارات الوجوه أن الوجه كله لا تؤثر فيه النار، إكراما لمحل السجود، ويحمل الاقتصار عليها على التنويه بها لشرفها. وقد استنبط ابن أبي جمرة من هذا أن من كان مسلما، ولكنه كان لا يصلي لا يخرج، إذ لا علامة له، لكن يُحمل على أنه يخرج في القبضة، لعموم قوله: "لم يعملوا خيرا قط"، وهو مذكور في حديث أبي سعيد المذكور عند البخاريّ في "كتاب التوحيد". وهل المراد بمن يَسلَم من الإحراق من كان يسجد، أو أعم من أن يكون بالفعل، أو القوة؟، الثاني أظهر؟ ليدخل فيه من أسلم مثلا وأخلص، فبغته الموت قبل أن يسجد. انتهى "فتح" 13/ 285 - 286. (فَيُخْرِجُونَهُمْ) أي من النار (فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا) أي يا ربّنا (قَدْ أَخْرَجْنَا مَنْ أَمَرْتَنَا) أي بإخراجه ممن له علامة يُعرَف بها، وهو مواضح السجود، كما سبق آنفًا (ثمّ يَقُولُ) أي الله سبحانه وتعالى، (أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ وَزْنُ دِينَارٍ مِنَ الْإِيَمانِ) أي زيادة على التوحيد؛ لما ثبت في حديث آخر: "أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله، وعمل من الخير ما يزن ذرّة" (ثُمَّ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ وَزْنُ نِصْفِ دِينَارٍ، ثمّ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مثقال حَبّة) أي وزنُ حبّة، و"مثقالُ" بالرفع اسم "كان"، وقوله: (من خَرْدل) بيان لـ "مثقال"، و"الْخَرْدَل" -بفتح الخاء المعجمة، وسكون الراء، وفتح الدال المهملة، آخره لام- قال في "اللسان": الْخَرْدَل: ضربٌ من الْحُرْف (¬1) معروف، الواحدة خَرْدَلةٌ. انتهى (¬2). ووقع في رواية مسلم بلفظ: "مثقال ذَرَّةٍ من خير" بفتح المعجمة، وتشديد الراء المفتوحة، قيل: معناها: أقلّ الأشياء الموزونة. وقيل: هي الهباء الذي يظهر في شُعاع الشمس، مثل رءوس الإبر. وقيل: هي النملة الصغيرة. ويُروى عن ابن عبّاس رضي ¬

_ (¬1) "الْحُرْ" بضم، فسكون: حَبُّ كالخردل، قاله الأزهريّ، وقال أبو حنيفة: هو الذي تسميه العامة حبّ الرَّشَاد. أفاده في "اللسان". (¬2) "لسان العرب" 11/ 203.

الله تعالى عنهما، أنه قال: إذا وضعت كفّك في التراب، ثم نفضتها، فالساقط هو الذّرّ. ويقال: إن أربع ذرّات وزن خَرْدلة. وعند البخاريّ في أواخر "كتاب التوحيد" من حديث أنس -رضي الله عنه-، مرفوعًا: "أدخل الجنة من كان في قلبه خردلة، ثم من كان في قلبه أدنى شيء"، قال في "الفتح": وهذا معنى الذّرّة. انتهى 13/ 145. [تنبيه]: ضبط "ذَرَّة" بالذال المعجمة، والراء-: هو الصواب، قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: كذا صحّت روايتنا فيه بفتح الذال المعجمة، وتشديد الراء: وهي الصغيرة من النمل، ولم يُختلف أنه كذلك في هذا الحديث، وقد صحّفه شعبة في حديث أنس -رضي الله عنه-أي عند مسلم- فقال: "ذُرَة" بضم الذال المعجمة، وتخفيف الراء، على ما قيّده أبو عليّ الصدفيّ، والسمرقنديّ، وفيما قيّده الْعُذريّ، والْخُشنيّ "دُرّة" بالدال المهملة، وتشديد الراء: واحدة الدُّرّ، وهو تصحيف التصحيف. انتهى "المفهم" 1/ 449. (قَالَ أَبُو سَعِيدٍ) الخدريّ -رضي الله عنه- (فَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْ هذا) أي بهذا الذي ذُكر في هذا الحديث من خروج الموحّدين الذين عندهم شيء من الإيمان من النار بشفاعة إخوانهم المؤمنين الصالحين. قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: هذا ليس على معنى أنهم اتّهموه، وإنما كان منه على معنى التأكيد، والعَضْد. انتهى. "المفهم" 1/ 449. (فَلْيَقْرَأْ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40]. هكذا الآية عند المصنّف، وهي التي في "الصحيحين"، وهي الظاهرة في استدلال أبي سعيد -رضي الله عنه- على ما قاله. ووقع في رواية النسائيّ بلفظ: فليقرأ هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، إِلَى {عَظِيمًا} [النساء: 48]). ولا يبعُد الاستدلال لأبي سعيد بهذه الآية أيضًا ووجه ذلك أن الله تعالى ذكر أنه يغفر ما دون الشرك، فمن عَرَف أنه سبحانه وتعالى يغفر جميع الذنوب كبيرها، وصغيرها، غير الشرك، لا

يستبعد ما ذُكر في هذا الحديث من شفاعة المؤمنين لإخوانهم، وإخراجهم لهم من النار، وإن كانوا ليست لهم أعمال صالحة، بل هم أصحاب كبائر، بحيث تكون أعمالهم الصالحة لقلّتها بمقدار وزن ذرّة. والله تعالى أعلم. [تنبيه]: حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- هذا اختصره المصنّف، وكذا عند النسائيّ رحمهما الله تعالى، وهو حديث طويل ساقه الشيخان في "صحيحيهما" بطوله، وهذا لفظ البخاريّ رحمه الله تعالى في "كتاب التوحيد" رقم (7440) قال: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، قال: قلنا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس والقمر، إذا كانت صحوا؟، قلنا: لا، قال: "فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ، إلا كما تضارون في رؤيتهما"، ثم قال: ينادي مناد، ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون، فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم، حتى يبقى من كان يعبد الله من بر أو فاجر، وغُبَّرات (¬1) من أهل الكتاب، ثم يؤتى بجهنم، تعرض كأنها سراب، فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيرًا ابن الله، فيقال: كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم، ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم، حتى يبقى من كان يعبد الله، من بَرّ، أو فاجر، فيقال لهم: ما يحبسكم؟ وقد ذهب الناس فيقولون: فارقناهم، ونحن أحوج منا إليه اليوم، وإنا سمعنا مناديا ينادي: ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، وإنما ننتظر ربنا، قال: فيأتيهم الجبار صورة غير صورته التي رأوه فيها ¬

_ (¬1) أي بقاياهم.

أول مرة، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فلا يكلمه إلا الأنبياء، فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟، فيقولون: الساق فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد، فيعود ظهره طبقا واحدا، ثم يؤتى بالجسر، فيجعل بين ظهري جهنم، قلنا: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: "مَدْحَضَة، مَزَلَّة، عليه خَطاطيف (¬1)، وكلاليب، وحَسَكة (¬2) مُفَلطْحَة، لها شوكة عُقَيفاء، تكون بنجد، يقال لها: السعدان، المؤمن عليها كالطرف، وكالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، فناجٍ مسلم، وناج مخدوش، ومكدوس في نار جهنم، حتى يمر آخرهم يُسحَب سحبا، فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق، قد تبين لكم، من المؤمن يومئذ للجبار، وإذا رأوا أنهم قد نجوا، في إخوانهم، يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا، فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان، فأخرجوه، ويُحَرِّم الله صورهم على النار، فيأتونهم، وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه، فيُخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار، فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا. قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوني، فاقرءوا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40]، فيشفع النبيون، والملائكة، والمؤمنون، فيقول الجبار بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار، فيُخرج أقواما قد امتحشوا، فيلقون في نهر بأفواه الجنة، يقال له: ماء الحياة، فينبتون في حافتيه، كما تنبت الحبة في حميل السيل، قد ¬

_ (¬1) جمع خُطّاف بضم الخاء، وتشديد الطاء، وهي الحديدة المعوجّة، كالكلّوب، يُختطف بها الشيء. (¬2) بفتحتين جمع حسكة، وهي شوكة صلبة.

رأيتموها إلى جانب الصخرة، وإلى جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى الظل كان أبيض، فيخرجون كأنهم اللؤلؤ، فيُجعل في رقابهم الخواتيم، فيدخلون الجنة، فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه، فيقال لهم: لكم ما رأيتم، ومثله معه". انتهى. ولفظ مسلم رحمه الله في "كتاب الإيمان" رقم (183): 183 - وحدثني سُوَيد بن سعيد، قال: حدثني حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدريّ، أن ناسا في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نعم"، قال: "هل تضارّون في رؤية الشمس بالظهيرة صَحْوًا ليس معها سحاب؟، وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صَحْوًا ليس فيها سحاب؟ "، قالوا: لا يا رسول الله، قال: "ما تضارون في رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما، إذا كان يومُ القيامة أَذَّنَ مؤذن، لِيَتَّبعْ كلُّ أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله سبحانه من الأصنام والأنصاب، إلا يتساقطون في النار، حتى إذا لم يَبْقَ إلا من كان يعبد الله من بَرٍّ وفاجرٍ وغُبَّرِ (¬1) أهل الكتاب، فَيُدعَى اليهود، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزير ابن الله، فيقال: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فماذا تَبْغُون؟ قالوا: عَطِشنا يا ربنا فاسقنا، فيشار إليهم أَلاَ تَرِدُون؟ فيُحشَرون إلى النار كأنها سَرَابٌ يَحطِم بعضها بعضًا، فيتساقطون في النار، ثم يُدْعَى النصارى، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال لهم: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فيقال لهم: ماذا تبغون؟ فيقولون: عَطِشنا يا ربنا فاسقنا، قال فيشار إليهم ألا تردون، فيُحشَرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضًا، فيتساقطون في النار، حتى إذا لم ¬

_ (¬1) أي بقاياهم.

يَبْقَ إلا من كان يعبد الله تعالى من بَرٍّ وفاجر، أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها، قال: فما تنتظرون؟ تتبع كلُّ أمة ما كانت تعبد، قالوا: يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم، ولم نصاحبهم، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، لا نشرك بالله شيئًا مرتين أو ثلاثا، حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب، فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فَيَكْشِف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أَذِنَ الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتّقاءً ورياءً إلا جعل الله ظهره طبقةً واحدةً كُلَّما أراد أن يسجد خَرَّ على قفاه، ثم يرفعون رءوسهم، وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة، فقال: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، ثم يُضْرَب الجسر على جهنم، وتَحُلُّ الشفاعة، ويقولون: اللهم سَلِّمْ سَلِّمْ، قيل: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: دَحْضٌ مَزَلَّة، فيه خَطاطيف (¬1)، وكَلاليب، وحَسَكٌ (¬2) تكون بنجد فيها شُويكة، يقال لها: السَّعْدَان، فيَمُرُّ المؤمنون كطرف العين، وكالبرق، وكالريح، وكالطير، وكأجاويد الخيل والركاب، فناجٍ مُسَلَّمٌ، ومَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ، ومَكْدُوسٌ في نار جهنم، حتى إذا خَلَصَ المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشَدَّ مناشدةً لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون، فيقال لهم: أَخْرِجوا مَنْ عَرَفتم، فتُحَرَّم صورهم على النار، فَيُخْرِجون خلقًا كثيرًا، قد أخذت النار إلى نصف ساقيه، وإلى ركبتيه، ثم يقولون: ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقالَ دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقولون: ربنا لم نَذَر فيها أحدًا ممن أمرتنا، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف ¬

_ (¬1) جمع خُطّاف بضم الخاء، وتشديد الطاء، وهي الحديدة المعوجّة، كالكلّوب، يُختطف بها الشيء. (¬2) بفتحتين جمع حسكة، وهي شوكة صلبة.

دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقولون: ربنا لم نَذَر فيها ممن أمرتنا أحدًا، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقولون: ربنا لم نَذَر فيها خيرًا، وكان أبو سعيد الخدريّ يقول: إن لم تُصَدِّقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}، فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فَيَقْبِض قَبْضَةً من النار، فيُخرِج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط، قد عادوا حُمَمًا، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة، يقال له: نهر الحياة، فَيَخْرُجون كما تخرج الحبَّة في حَمِيل السيل، ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر، ما يكون إلى الشمس أُصَيفِر وأُخيضر، وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض، فقالوا: يا رسول الله كأنك كنت تَرْعَى بالبادية، قال: فَيَخْرُجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم، يَعْرِفهم أهل الجنة، هؤلاء عُتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قَدَّموه، ثم يقول: ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم، فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحدًا من العالمين، فيقول: لكم عندي أفضل من هذا، فيقولون: يا ربنا أَيُّ شيء أفضل من هذا، فيقول: رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبدًا. قال مسلم: قرأت على عيسى بن حماد زُغْبَةَ المصري هذا الحديث في الشفاعة، وقلت له: أُحَدِّث بهذا الحديث عنك أنك سمعت من الليث بن سعد؟ فقال: نعم. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (9/ 60) بهذا الإسناد فقط، و (البخاريّ) (6/ 56 و 198

و9/ 158) و (مسلم) (1/ 114 و 117) و (الترمذيّ) (2598) و (النسائيّ) (8/ 112) و (أحمد) في "مسنده" (3/ 16 و 94)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تفاوت الإيمان زيادةً ونَقْصًا. ووجه ذلك ظاهر في قوله: "وزن دينار"، و"وزن نصف دينار"، و"وزن حبّة من خردل"، فإنه يدلّ على أن الإيمان يقبل الزيادة والنقص، وقد تقدّم في أول الباب أن مذهب المحدّثين، والمحققين من أهل العلم أن الإيمان قول، وفعل، ويزيد، وينقص. 2 - (ومنها): إثبات الشفاعة للمؤمنين. 3 - (ومنها): فضل المحبّة في الله تعالى، فإن هؤلاء المؤمنين الذي يجادلون عن إخوانهم ما حملهم على ذلك إلا المحبة التي ربطت بينهم، فقد نفعوهم في يوم لا ينفع فيه مال، ولا بنون. 4 - (ومنها): تفاوت أهل النار على قدر تفاوت أعمالهم السيّئة. 5 - (ومنها): سعة رحمة الله تعالى، وواسع جوده وكرمه، حيث إنه لا يُضيع أعمال عباده، وإن قلّت، وكانت مثقال ذرّة، بل يضاعفها، ويؤت من عنده أجرًا عظيمًا {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 61 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ نَجِيحٍ، وَكَانَ ثِقَةً، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّه، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَنَحْنُ فِتْيَانٌ، حَزَاوِرَةٌ، فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ، فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) بن إسحاق الطنافسيّ الثقة العابد المذكور في حديث أول

الباب. 2 - (وَكيعٌ) بن الجرّاح الحافظ الحجة المذكور أول الباب أيضًا. 3 - (حَمَّادُ بْنُ نَجِيحٍ) الإسكاف السدوسيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقة [9]. رَوَى عن أبي رَجَاء الْعُطَارديّ، وأبي عمران الْجَوْنيّ، ومحمد بن سيرين، وأبي التَّيّاح. وروى عنه وكيع، وعثمان بن عمر بن فارس، وعبد الصمد، وزيد بن الْحُبَاب، وأبو داود الطيالسي، وعمرو بن مرزوق، وغيرهم. قال أحمد: ثقة، مقارب الحديث. وقال أبو حاتم: لا بأس به ثقة. وقال إسحاق ابن منصور عن ابن معين: ثقة. وقال علي بن محمد: ثنا وكيع، ثنا حماد بن نَجيح: وكان ثقة. وذكره ابن عديّ في "الكامل"، ثم قَوّاه. وذكره ابن حبان في "الثِّقات". أخرج له البخاري تعليقًا، وله عند النسائي حديثٌ واحدٌ في أكثر أهل الجنة والنار، وعند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. [تنبيه]: قوله: "وكان ثقة" الظاهر أنه من كلام وكيع، والله تعالى أعلم. 4 - (أبو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ) عبد الملك بن حبيب الأزديّ، ويقال: الكنديّ البصريّ، أحد العلماء، مشهور بكنيته، ثقة، من كبار [4]. رَأَى عمران بن حصين، ورَوى عن جندب بن عبد الله البجلي، وأنس، وأبي فِرَاس، ربيعة بن كعب الأسلمي، وغيرهم. وروى عنه ابنه عبيد، وسليمان التيمي، وابن عون، وأبو عامر الخزاز، وشعبة، وأبان، وأبو قُدامة الحارث بن عبيد، وهمام بن يحيى، والحمادان، وغيرهم. قال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال عمرو بن علي: مات سنة ثمان وعشرين ومائة، واسمه عبد الرحمن، كذا قال. وقال غيره: سنة تسع. وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة ثلاث وعشرين، وقد قيل: سنة ثمانية. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث. وقال الحاكم: لم يصح سماعه من عائشة، وصح سماعه من أنس. وفي الطبراني بإسناد صحيح، عن حماد بن سلمة، عن

أبي عمران الجونيّ، قال: بايعت ابن الزبير على أن أقاتل أهل الشام، فاستفتيت جندبا. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط، برقم 61 و186 و 295 و 1256 و 2862 و 3362 و 3958 و 4225. [تنبيه]: قوله: "الجَوْنيّ" -بفتح الجيم، وسكون الواو-: نسبة إلى جَوْن بطن من الأزد. قاله في "لبّ اللباب" 1/ 223. 5 - (جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن سفيان الْبَجَليّ، ثمّ الْعَلَقيّ -بفتحتين، ثم قاف- أبو عبد الله، وربّما نُسِب إلى جدّه، ويقال: جندب بن خالد بن سفيان. رَوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن حذيفة، وروى عنه الأسود بن قيس، وأنس بن سيرين، والحسن البصري، وأبو مجْلَز، وأبو عمران الجوني، وأبو تميمة الْهُجَيميّ، وصفوان بن مُحرِز، وغيرهم. وقال البغوي عن أحمد: جندب ليست له صحبة قديمة. قال البغوي: وهو جندب بن أم جندب. وقال ابن حبان: هو جندب الخير. وقال خليفة: مات في فتنة ابن الزبير، وذكره البخاري في "التاريخ" فيمن توفي من الستين إلى السبعين. أخرج له الجماعة، وله (43) حديثًا، اتفق الشيخان على سبعة، وانفرد مسلم بخمسة أحاديث، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم 61 و 3152 و 4016 و 4207. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، إلا شيخه، فمن أفراده، وحماد بن نَجِيح، فتفرّد به هو والنسائيّ، وعلّق له البخاريّ. 3 - (ومنها): أن فيه التحديث في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضعين. 4 - (ومنها): أن حمادًا، وأبا عمران، والصحابيّ هذا أول محلّ ذكرهم في الكتاب، أما حماد فليس له ذكر في غير هذا المحلّ، وأما أبو عمران، فله في هذا الكتاب ثمانية مواضع، وأما الصحابيّ، فله أربعة مواضع، كما نبّهنا على ذلك في ترجمتهم، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث: (عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) البجليّ -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَنَحْنُ فِتْيَانٌ) جملة في محلّ نصب على الحال من اسم "كان". و"الفتيان" -بكسر، فسكون-: جمع فَتًى -بفتحتين، والقصر- قال في "القاموس": الْفَتَاءُ كسَمَاء: الشَّبَاب، والْفَتَى: الشابُّ والسَّخِيُّ الكريم، وهما فَتيَانِ، وفَتَوَان، والجمع فِتْيَانٌ، وفِتْوَةٌ، وفُتُوٌّ، وفُتِيٌّ، وهي فَتَاةٌ، جمعها فَتيَات، وكغنيّ: الشابّ من كلّ شيء، وهي فتيّةٌ، جمعها فِتَاءٌ. انتهى (¬1). ونحوه في "اللسان"، قال: والفِعلُ فَتُوَ يَفْتُو فَتَاءً، وقد فَتِي -بالكسر- يَفْتِي فَتًى، فهو فَتِيُّ السّنّ بَيِّنُ الفَتَاء. انتهى (¬2). وقال في "المصباح": الفَتَى: العبد، وجمعه في القلّة فِتْيةٌ، وفي الكثرة فِتْيان، والأمة فَتَاةٌ، وجمعها فَتيَاتٌ، والأصل فيه أن يقال للشابّ الحديث فَتًى، ثم استُعير للعبد، وإن كان شيخًا مجازًا باسم ما كان عليه. انتهى (¬3). (حَزَاوِرَةٌ) -بفتح الحاء المهملة، وتخفيف الزاي، وكسر الواو، ويقال: حَزَاورُ بلا هاء، قال ابن الأثير: جمع حَزْوَر، وحَزَوّر، وهو الذي قارب البلوغ، والتاء فيه لتأنيث الجمع. انتهى (¬4). وقال ابن منظور: "الحزْوَرُ -أي كجعفر- و" الحزَوَّر بتشديد الواو: الغلام الذي قد شبّ، وقَوِي، قال الراجز: لَنْ يَعْدَمَ الْمَطِيُّ مِنِّي مِسْفَرَا ... شَيْخًا بَجَالًا وَغُلَامًا حَزْوَرَا وقال: لجَنْ يَبْعَثُوا شَيْخًا وَلَا حَزَوَّرَا ... بِالْفَاسِ إِلَّا الأَرْقَبَ المُصَدَّرَا والجمع حَزَاوِرُ، وحَزَاوِرَةٌ، زادوا الهاء لتأنيث الجمع (¬5). ¬

_ (¬1) راجع "القاموس" ص 1188. (¬2) "لسان العرب" 15/ 145. (¬3) "المصباح" 2/ 462. (¬4) راجع "النهاية" 1/ 380. (¬5) "لسان العرب" 4/ 186.

وقال في "القاموس": "الحَزَوّرُ كعَمَلَّسٍ: هو الغلام القويّ، والرجل القويّ، والضعيف، ضدّ. قاله في "القاموس" (¬1). (فَتَعَلَّمْنَا الْإِيَمانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ) أي تلاوته، ومعناه (ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ، فَازْدَدْنَا بِه) أي بسبب القرن (إِيمَانًا) وهذا معنى قوله عز وجل: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث جندب بن عبد الله -رضي الله عنه- هذا صحيحٌ، قال البوصيريّ: هذا إسناد صحيحٌ، رجاله ثقات، رواه البيهقيّ في "سننه" من طريق الحسين بن حُريث، عن وكيع به. انتهى. وهو من أفراد المصنّف أخرجه هنا (9/ 61) بهذا الإسناد فقط. والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان أن الإيمان يزيد وينقص، كما أسلفت تقريره في أول "باب الإيمان". 2 - (ومنها): أنه يُستفاد منه أن تعلّم علم العقائد قبل تعلّم الفقه والقرآن. 3 - (ومنها): أن القرآن يزيد الإيمان، ويتنوّر به القلب، وينشرح به الصدر، قال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا في الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]، وقال سبحانه وتعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} الآية [الزمر: 23]، وقال سبحانه وتعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ¬

_ (¬1) راجع "القاموس" ص 338.

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال: 62 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ نِزَارٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "صِنْفَانِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، لَيْسَ لُهَما في الْإِسْلَامِ نَصِيبٌ: المُرْجِئَةُ، وَالْقَدَرِيَّةُ"). رجال هذا الإسناد: ستّة: 1 - (عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) المذكور في السند الماضي. 2 - (مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ) بن غَزْوَان الضبّيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ رمي بالتشيّع [9] تقدّم في 2/ 21. 3 - (عَليُّ بْنُ نِزَارٍ) بن حيّان الأسديّ الكوفيّ، مولى بني هاشم، ضعيفٌ [6]. روى عن أبيه، وزياد بن أبي زياد، وعكرمة مولى ابن عباس. وروى عنه يونس ابن أبي يعفور العبدي، والمفضل بن يونس الجعفي، ومحمد بن بشر العبدي، ومحمد بن فضيل، وغيرهم. قال الدُّوريُّ عن ابن معين: ليس حديثه بشيء، وكذا قال ابن عَدِيّ. وقال الأزدي: ضعيف جدّا. وذكره يعقوب بن سفيان في "باب من يُرغَب عن الرواية عنهم"، وسمعتُ أصحابنا يضعفونه. تفرد به الترمذي، والمصنّف بهذا الحديث فقط. 4 - (أَبوه) نِزار بن حيّان الأسديّ مولى بني هاشم، ضعيف [6]. روى عن أبيه، وعكرمة، وعنه ابنه علي، وعبد الله بن محمد الليثي، والقاسم بن حبيب التمار، وعبد الغفار بن القاسم، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى. ذكره ابن حبان في "الضعفاء"، وقال: يأتي عن عكرمة بما ليس من حديثه، حتى يَسبِق إلى القلب أنه المتعمد لذلك، لا يجوز الاحتجاج به. وذكر ابن عديّ في "الكامل" في ترجمة ابنه علي بن نِزَار حديث الباب، ثم قال: هذا الحديث أحد ما أُنكِر على علي بن نزار، وعلى والده. تفرد به الترمذيّ، والمصنّف بهذا الحديث، وأعاده المصنّف برقم (75).

5 - (عِكْرِمَة) مولى ابن عباس، أبو عبد الله المدنيّ، أصله من البربر، كان لِحُصين ابن أبي الْحُرّ العنبريّ، فوهبه لابن عباس لمّا وَلِيَ البصرة لعلي -رضي الله عنه-، ثقة ثبتٌ عالم بالتفسير، ولم يثبت تكذيبه عن ابن عمر، ولا يثبتُ عنه بدعة [3]. روى عن مولاه، وعلي بن أبي طالب، والحسن بن علي، وأبي هريرة، وابن عمر، وابن عمرو، وأبي سعيد، وعقبة بن عامر، وجماعة من الصحابة والتابعين. وروى عنه إبراهيم النخعي، ومات قبله، وأبو الشعثاء جابر بن زيد، والشعبي وهما من أقرانه، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو الزبير، وقتادة، وخلق كثير. قال عباس الدوري عن ابن معين: مات ابن عباس، وعكرمة عبد لم يعتقه فباعه علي بن عبد الله بن عباس، ثم استردّه، وفي رواية غيره واعتقه. وقال عبد الصمد بن معقل: لمّا قَدِم عكرمة الْجَنَدَ أهدى له طاوس نَخِيبًا بستين دينارًا، فقيل له؟ فقال: أتروني لا أشتري علم ابن عباس لعبد الله بن طاوس بستين دينارًا. وقال داود بن أبي هند عن عكرمة: قرأ ابن عباس هذه الآية: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الأعراف: 174] قال ابن عباس: لم أَدْر نجا القوم أو هلكوا؟ قال: فما زلت أبين له حتى عرف أنهم قد نجوا، فكساني حُلّة. وقال عمر بن فضيل عن عثمان بن حكيم: كنت جالسا مع أبي أمامة بن سهل بن حنيف، إذ جاء عكرمة، فقال: يا أبا أمامة أُذَكِّرُك الله هل سمعت ابن عباس يقول: ما حدثكم عكرمة عني فصدقوه، فإنه لم يكذب علي؟ فقال أبو أمامة: نعم. وقال عمرو بن دينار: دَفَع إلَيَّ جابر بن زيد مسائل أسأل عنها عكرمة، وجعل يقول: هذا عكرمة مولى ابن عباس، هذا البحر فسلوه. وقال ابن عيينة: كان عكرمة إذا تكلم في المغازي فسمعه إنسان قال: كأنه مشرف عليهم يراهم. وقال جرير عن مغيرة: قيل لسعيد بن جبير: تعلم أحدا أعلم منك؟ قال: نعم عكرمة. وقال إسماعيل بن أبي خالد: سمعت الشعبي يقول: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة: كان أعلم التابعين أربعةً: عطاء، وسعيد بن جبير، وعكرمة،

والحسن. وقال سلام بن مسكين عن قتادة: أعلمهم بالتفسير عكرمة. وقال أيوب: اجتمع حفّاظ ابن عباس، فيهم سعيد بن جبير، وعطاء، وطاوسٌ على عكرمة، فأقعدوه، فجعلوا يسألونه عن حديث ابن عباس. وقال البخاري ويعقوب بن سفيان عن علي بن المديني: مات بالمدينة سنة (104). وقال عمرو بن علي وغير واحد: مات سنة خمس ومائة. وقال الواقدي: حدثتني ابنته أم داود أنه تُوفي سنة مائة، وهو ابن ثمانين سنة. وقال أبو عمر الضرير والهيثم بن عدي: مات سنة ست ومائة. وقال عثمان بن أبي شيبة وغير واحد: مات سنة (107). وقيل: إنه مات سنة (11) وذلك وَهَمٌ. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (95) حديثًا. 6 - (ابْنُ عَبَّاسٍ) هو: عبد الله بن عباس بن عبد المطّلب رضي الله عنهما، تقدّم في 3/ 27، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "صِنْفَانِ) بكسر، فسكون: أي نوعان، وهو مبتدأ خبره قوله: "ليس لهما إلخ"، وقوله (مِنْ هَذ الْأُمَّةِ) متعلّق بصفة لـ "صنفان": أي من أمة الإجابة (لَيْسَ لُهَما في الْإِسْلَامِ نَصِيبٌ) أي حظّ. (الْمُرْجِئَةُ) بالرفع بدل من "صنفان"، أو خبر لمبتدأ محذوف: أي هما، ويجوز نصبه مفعولًا لفعل مقدّر: أي أعني، وجوّز بعضهم جرّه بدلًا من الضمير المجرور في "لهما". وهو اسم فاعل من الإرجاء، وهو التأخير. قال ابن الأثير رحمه الله: المرجِئة هم فِرْقَةٌ من فِرَق الإسلام، يَعتقِدون أنه لا يضرّ مع الإيمان معصيةٌ، كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة، سُمُّوا مرجِئةً لاعتقادهم أن الله أرجأ تعذيبهم على المعاصي: أي أخّره عنهم، والمرجئة تُهمز ولا تُهمز، وكلاهما بمعنى التأخير، يقال: أرجأت الأمر، وأرجيته: إذا أخّرته، فتقول من الهمز رجلٌ مرجىءٌ، وهم المرجئةُ، وفي النسب مرجئيٌّ، مثلُ مُرْجِع، ومرجعةٍ، ومرجعيّ، وإذا لم تَهْمِز قلتَ: رجلٌ مُرجٍ، ومرجية، ومرجيٌّ،

مثلُ مُعْطٍ ومعطيةٍ، ومُعطيٌّ. انتهى (¬1). وقال الفيّوميّ رحمه الله: أرجأته بالهمز: أخّرته، والمرجئة اسم فاعل من هذا؛ لأنهم لا يَحكُمون على أحد بشيء في الدنيا، بل يؤخّرون الحكم إلى يوم القيامة، وتُخَفَّفُ، فتُقبل الهمزة ياء مع الضمير المتّصل، فيقال: أرجيته، وقرىء بالوجهين في السبعة. انتهى (¬2). وقال السيّد محمد مرتضى في "شرح القاموس": والمرجئة طائفة من المسلمين يقولون: الإيمان قول بلا عمل، كأنهم قدّموا القول، وأرجؤوا العمل: أي أخّروه؛ لأنهم يرون أنهم لو لم يُصلّوا، ولم يصوموا لنجّاهم إيمانهم. انتهى (¬3). وقيل: المرجئة هم الجبريّة القائلون بأن إضافة الفعل إلى العبد كإضافته إلى الجمادات، سُمّوا بذلك لأنهم يؤخّرون أمر الله ونهيه عن الاعتداد بهما، ويرتكبون الكبائر. وقيل: هم الذين يقولون: الإيمان قول وتصديق بلا عمل، فيؤخّرون العمل عن القول والتصديق. وقال الشهرستانيّ: الإرجاء على معنيين: [أحدهما]: التأخير، {قَالُوا أَرْجِهْ}: أي أمهله وأخّره. [والثاني]: إعطاء الرجاء، أما إطلاق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول فصحيح؛ لأنهم كانوا يؤخّرون العمل عن النيّة والقصد. وأما بالمعنى الثاني فظاهر؛ فإنهم كانوا يقولون: لا تضرّ مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة. وقيل: الإرجاء تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى القيامة، فلا يُقضى عليه بحكم ما في الدنيا من كونه من أهل الجنة، أو من أهل النار، قال: والرجئة أصنافٌ أربعة: مرجئة الخوارج، ومرجئة القدريّة، والمرجئة الخالصة، ثم ذكر مقالات المرجئة الخالصة، من شاء الوقوف ¬

_ (¬1) "النهاية في غريب الحديث" 2/ 206. (¬2) "المصباح المنير" 1/ 221 - 222. (¬3) "تاج العروس" 1/ 69.

عليها رجع إلى "الملل والنحل"، والظاهر أن المراد في الحديث مرجئة الجبريّة. قاله في "المرعاة" (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ثم إن حكم المرجئة أنهم لا يُكفّرون، بل يبدّعون، ويضلّلون ببدعتهم. قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: بعد أن ذكر المرجئة، وأقوالهم: ما نصّه: ثم إن السلف والأئمة اشتدّ إنكارهم على هؤلاء، وتبديعهم، وتغليظ القول فيهم، ولم أعلم أحدًا منهم نطق بتكفيرهم، بل هم متّفقون على أنهم لا يُكفّرون في ذلك، وقد نصّ أحمد وغيره من الأئمة على عدم تكفير هؤلاء المرجئة، ومن نقل عن أحمد أو غيره من الأئمة تكفيرًا لهؤلاء، أو جعل هؤلاء من أهل البدع المتنازع في تكفيرهم، فقد غَلِط غلطًا عظيمًا، والمحفوظ عن أحمد وأمثاله من الأئمة إنما تكفير الجهميّة المشبّهة، وأمثال هؤلاء، ولم يكفّر أحمد الخوارج، ولا القدريّة، إذا أقرّوا بالعلم، وأنكروا خلق الأفعال، وعموم المشيئة، لكن حُكي عنه في تكفيرهم روايتان. وأما المرجئة فلا يختلف قوله في عدم تكفيرهم، مع أن أحمد لم يكفّر أعيان الجهميّة، ولا كلّ من قال: إنه جهميّ كفّره، ولا كلّ من وافق الجهميّة في بعض بدعهم، بل صلّى خلف الجهميّة الذين دعوا إلى قولهم، وامتحنوا الناس، وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة، لم يُكفّرهم أحمد وأمثاله، انتهى (¬2). (وَالْقَدَرِيَّةُ") بفتحتين، أو بفتح، فسكون: نسبة إلى القدَر -بفتح القاف، والدال المهملة، وبسكونها- وهم: قوم يَجحدون القدر، مولّدة (¬3). وقال الأزهريّ في "التهذيب": القدريّة قوم يُنسبون إلى التكذيب بما قدّر الله من الأشياء، وقال بعض متكلّميهم: لا يلزمنا هذا اللقب؛ لأنا ننفي القدر عن الله عز وجل، ¬

_ (¬1) "المرعاة شرح المشكاة" 1/ 193. (¬2) راجع "مجموع الفتاوى" 7/ 507 - 508. (¬3) راجع "تاج العروس في شرح القاموس" 3/ 482.

ومن أثبته فهو أولى به، قال: وهذا تمويه منهم؛ لأنهم يُثبتون القدّر لأنفسهم، ولذلك سُمُّوا، وقول أهل السنّة: إن علم الله سبق في البشر، فعلم كُفْرَ من كَفَر منهم، كما علم إيمان من آمن، فأثبتَ علمَهُ السابق وكتبه، وكلّ ميسّر لما خُلق له، وكُتب عليه. انتهى (¬1). وقال في "المرعاة": القدّريّة هم الذين يقولون: إن العبد خالق لأفعاله، والأمر أُنُف من غير سبق قضاء وتقدير، واشتهر بهذا الاسم من لا يقول بالقدر لأجل أنهم تكلّموا في القدر، وأقاموا الأدلّة بزعمهم على نفيه، وتوغّلوا في هذه المسألة حتى اشتهروا بهذا الاسم، وبسبب توغّلهم، وكثرة اشتغالهم صاروا هم أحقّ بهذه النسبة من غيرهم، فلا يَرِدُ أن المثبت أحقّ بهذه النسبة من النافي، على أن الأحاديث صريحة في أن المراد ها هنا النافي، فاندفع توهّم القدريّة أن المراد في هذا الحديث المثبت للقدر لا النافي. وربّما يتمسّك بالحديث من يُكّفّر الفريقين، قال ابن حجر الهيتميّ الشافعيّ: من أطلق تكفير الفريقين أخذًا بظاهر الحديث، فقد استروح، بل الصواب عند الأكثرين من علماء السلف والخلف أنا لا نُكَفِّر أهل البدع والأهواء، إلا إن أتوا بكفر صريح، لا استلزاميّ؛ لأن الأصحّ أن لازم المذهب ليس بلازم، ومن ثَمَّ لم يزل العلماء يعاملونهم معاملة المسلمين في نكاحهم وإنكاحهم، والصلاة على موتاهم، ودفنهم في مقابر المسلمين؛ لأنهم وإن كانوا مخطئين غيرَ معذورين حقّت عليهم كلمة الفسق والضلال، إلا أنهم لم يقصدوا بما قالوه اختيار الكفر، وإنما بذلوا وسعهم في إصابة الحقّ، فلم يحصل لهم، لكن لتقصيرهم بتحكيم عقولهم وأهويتهم وإعراضهم عن صريح السنّة والآيات من غير تأويل سائغ، وبهذا فارقوا مجتهدي الفروع، فإن خطأهم إنما هو لعذرهم بقيام دليل آخر عندهم مقاوم لدليل غيرهم من جنسه، فلم يُقصّروا، ومن ثَمَّ أُثيبوا على اجتهادهم. انتهى. ¬

_ (¬1) "لسان العرب" 5/ 74 - 75.

وهذا أي عدم تكفيرهم قول المحقّقين من علماء الأمة احتياطًا، فيجري قوله: "ليس لهما في الإسلام نصيب" مجرى الاتّساع في بيان سوء حظّهم، وقلّة نصيبهم من الإسلام، نحو قولك: ليس للبخيل من ماله نصيب". انتهى. وقال السنديّ: في صلاحية هذا الحديث للاستدلال به في الفروع نظرٌ كما ستعرف، فضلًا عن الأصول، والمطلوب فيها القطع، فكيف يُتمسّك به في التكفير؟ انتهى (¬1). وقال صاحب "المرعاة": أحاديث الباب ما بين الصحاح والحسان والضعاف غير الساقطات تدلّ بمجموعها على أن الإيمان بالقدر من غير بحث ومنازعة من ضروريّات الدين، وركن من أركان الإسلام، فالظاهر أن إنكار القدر، وتكذيبه من البدع المكفّرة. انتهى (¬2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا ضعيف؛ لضعف عليّ بن نِزار، وأبيه، كما سبق في ترجمتهما. [تنبيه]: حكم الحافظ سراج الدين القزوينيّ على حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا بأنه موضوع، فرد عليه الحافظ ابن حجر رحمه الله، فقال: ما نصّه: قلت: أخرجه الترمذيّ وابن ماجه، ومداره على نزار بن حيّان، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، وقال الترمذيّ: هذا حديث حسنٌ غريبٌ. ونزارٌ هذا بكسر النون، وتخفيف الزاي، وآخره راء ضعيفٌ عندهم، ورواه عنه ابنه عليّ بن نزار، وهو ضعيفٌ، لكن تابعه ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 46 - 47. (¬2) "المرعاة" 1/ 193 - 194.

القاسم بن حبيب، وإذا جاء الخبر من طريقين كلٌّ منهما ضعيفٌ قوي أحد الطريقين بالآخر، ومن ثَمَّ حسّنه الترمذيّ، ووجدنا له شاهدًا من حديث جابر، ومن طريق ابن عمر، ومن طريق معاذ، وغيرهم، وأسانيدها ضعيفة، ولكن لم يوجد فيه علامة الوضع، إذ لا يلزم من نفي الإسلام عن الطائفتين إثبات كفر من قال بهذا الرأي؛ لأنه يُحمل على نفي الإيمان الكامل، أو المعنى أنه اعتقد اعتقاد الكافر لإرادة المبالغة في التنفير من ذلك لا حقيقة الكفر، وينصره أنه وصفهم بأنهم من أمته. انتهى كلام الحافظ (¬1). وهو بحث نفيس جدّا. والله تعالى أعلم. [تنبيه آخر]: هذا الحديث ثبت من حديث أنس -رضي الله عنه- بلفظ آخر، أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط"، ونصّه: حدّثنا عليّ بن عبد الله الفرغانيّ، قال: نا هارون بن موسى الفرويّ، قال: نا أبو ضمرة أنس بن عياض، عن حميد، عن أنس، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "صنفان من أمتي لا يردان الحوض، ولا يدخلان الجنّة: القدريّة، والمرجئة"، وفي لفظ: "القدريّة مجوس هذه الأمة، فإن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم". قال الطبرانيّ: لم يرو هذين الحديثين عن حميد الطويل إلا أنس بن عياض، تفرّد بهما هارون بن موسى الفرويّ. انتهى. ورجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير هارون بن موسى، وهو -كما قال الحافظ أبو بكر الهيثميّ-: ثقة، وقال في "التقريب": لا بأس به، وشيخ الطبرانيّ، وقد وثقه بعضهم، فالحديث حسن، راجع ما كتبه الشيخ الألبانيّ رحمه الله في "السلسلة الصحيحة" 6/ 563 - 565. والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) "أجوبة الحافظ ابن حجر العسقلانيّ عن أحاديث المصابيح" المطبوعة في آخر "كتاب المشكاة" 3/ 1778 - 1779.

(المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا بهذا السند، وأعاده برقم (73) من طريق عبد الله بن محمد الليثيّ، عن نِزار، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، وجابر بن عبد الله -رضي الله عنه-، وأخرجه (الترمذيّ) (2149) وقال: حسن غريب (¬1). و (عبد بن حميد) في "مسنده" (579)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): قد رأيت لشيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله كلامًا حسنًا فيما يتعلّق بالمرجئة والقدريّة، ونحوهم من أهل الأهواء، أحببت إيراده هنا لنفاسته، وتكميلًا للفوائد، ونشرًا للعوائد: سئل رحمه الله عن قوله -صلى الله عليه وسلم-: "تفترق أمتي ثلاثة وسبعين فرقة" ما الفِرَق؟ وما معتقد كلّ فرقة من هذه الصنوف؟. فأجاب رحمه الله: الحمد لله الحديث صحيح مشهور في السنن والمسانيد، كسنن أبي داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وغيرهم، ولفظه: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقةً كلها في النار إلا واحدةً، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدةً، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقةً كلها في النار إلا واحدة"، وفي لفظ: "على ثلاث وسبعين ملّةً". وفي رواية: قالوا: يا رسول الله من الفرقة الناجية؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي"، وفي رواية قال: "هي الجماعة، يد الله على الجماعة". ولهذا وَصَف الفرقةَ الناجيةَ بأنها أهل السنّة والجماعة، وهم الجمهور الأكبر، والسواد الأعظم. وأما الفرق الباقية، فإنهم أهل الشذوذ، والتفرّق، والبدع، والأهواء، ولا تبلغ ¬

_ (¬1) هكذا في "تحفة الأشراف" 5/ 169 الحديث رقم (6222)، ووقع في النسخ المطبوعة: "غريب حسنٌ صحيح".

الفرقة من هؤلاء قريبًا من مبلغ الفرقة الناجية فضلًا عن أن تكون بقدرها، بل قد تكون الفرقة منها في غاية القلّة، وشعار هذه الفِرَق مفارقة الكتاب والسنّة والإجماع، فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة. وأما تعيين هذه الفرق، فقد صنّف الناس فيهم مصنّفات، وذكروهم في كتب المقالات، لكن الجزم بأن هذه الفرقة الموصوفة (¬1) هي إحدى الثنتين والسبعين لا بدّ له من دليل، فإن الله حرّم القول بلا علم عمومًا، وحرّم القول عليه بلا علم خصوصًا، فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا في الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:168 - 169]، وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وأيضًا فكثير من الناس يخبر عن هذه الفرق بحكم الظنّ" والهوى، فيجعل طائفته، والمنتسبة إلى متبوعه الموالية له هم أهل السنّة والجماعة، ويجعل من خالفها أهل البدع، وهذا ضلال مبين، فإن أهل الحقّ والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي لا ينطق عن الهوى، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4]، فهو الذي يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، وليست هذه المنزلة لغيره من الأئمة، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمن جعل شخصًا من الأشخاص غير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أحبه ووافقه كان من أهل السنة والجماعة، ومن خالفه كان من أهل البدعة والفرقة -كما يوجد ذلك في الطوائف من أتباع أئمة في (¬2) الكلام في الدين، وغير ذلك- كان من أهل البدع ¬

_ (¬1) كتب في الهامش: ما نصّه: كلمة لم تظهر. (¬2) هكذا النسخة.

والضلال والتفرّق. وبهذا يتبيّن أن أحقّ الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة الذين ليس لهم متبوع يتعصّبون له إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله، وأعظمهم تمييزًا بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها، وأهل معرفة بمعانيها، واتّباعها، تصديقًا، وعملًا، وحبّا، وموالاةً لمن والاها، ومعاداةً لمن عاداها، الذين يروون (¬1) المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة، فلا ينصبون مقالة، ويجعلونها من أصول دينهم، وجمل كلامهم إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، بل يجعلون ما بُعث به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه، ويعتمدون عليه، وما تنازع فيه الناس من مسائل الصفات والقدر والوعيد والأسماء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك يردّونه إلى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-. ويُفسّرون الألفاظ المجملة التي تنازع فيها أهل الفرق والاختلاف، فما كَانَ معانيها موافقًا للكتاب والسنة أثبتوه، وما كان مخالفا للكتاب والسنة أبطلوه، ولا يتبعون الظنّ، وما تَهوَى الأنفس، فإن اتّباع الظنّ جهل، واتّباع هوى النفس بغير هدى من الله ظلم، وجماعُ الشرّ الجهل والظلم، قال الله تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] إلى آخر السورة، وذكر التوبة لعلمه سبحانه وتعالى، أنه لا بدّ لكل إنسان من أن يكون فيه جهل وظلم، ثم يتوب الله على من يشاء، فلا يزال العبد المؤمن دائمًا يتبيّن له من الحقّ ما كان جاهلًا به، ويرجع عن عمل كان ظالمًا فيه، وأدناه ظلمه لنفسه، كما قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الحديد: 9]، وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم: 1]. ¬

_ (¬1) هكذا النسخة، ولعله "يردّون" بالدال، فليحرر.

ومما ينبغي أيضًا أن يُعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات، منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة. ومن يكون قد ردّ على غيره من الطوائف الذين هو أبعد عن السنة منه فيكون محمودًا فيما ردّه من الباطل، وقاله من الحقّ، لكن يكون قد جاوز العدل في ردّه بحيث جحد بعض الحقّ، وقال بعض الباطل، فيكون قد ردّ بدعةً كبرة ببدعة أخفّ منها، وردّ بالباطل باطلًا بباطل أخفّ منه (¬1)، وهذه حال أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة، ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولا يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه، ويعادون عليه كان من نوع الخطإ، والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك، ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها، لهم مقالات قالوها باجتهاد، وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنّة، بخلاف من والى موافقه، وعادى مخالفه، وفرّق بين جماعة المسلمين، وكفّر، وفسّق مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات، واستحلّ قتال مخالفه دون موافقه، فهؤلاء من أهل التفرّق والاختلاف. ولهذا كان أول من فارق جماعة المسلمين من أهل البدع الخوارج المارقون، وقد صحّ الحديث في الخوارج عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من عشرة أوجه، خرّجها مسلم في "صحيحه"، وخرّج البخاريّ منها غير وجه، وقد قاتلهم أصحاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-، فلم يختلفوا في قتالهم كما اختلفوا في قتال الفتنة يوم الجمل وصفّين؛ إذ كانوا في ذلك ثلاثة أصناف: صنف قاتلوا مع هؤلاء، وصنف قاتلوا مع هؤلاء، وصنف أمسكوا عن القتال وقعدوا، وجاءت النصوص بترجيح هذه الحال. فالخوارج لمّا فارقوا جماعة المسلمين، وكفّروهم، واستحلّوا قتالهم جاءت السنّة بما جاء فيهم، كقول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "يَحقِر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، ¬

_ (¬1) هكذا النسخة، ولعل الصواب: "وردّ باطلًا بباطل أخفّ منه"، فليُحرر.

وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يُجاوز حناجرهم، يَمرُقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمِيّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة". وقد كان أولهم خرج على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما رأى قسمة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: يا محمد اعدِل، فإنك لم تعدل، فقال له النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "لقد خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل"، فقال له بعض أصحابه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال: "إنه يخرُج من ضئضىء هذا أقوامٌ يَحقِر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم ... " الحديث. فكان مبدأ البدع هو الطعن في السنة بالظنّ والهوى، كما طعن إبليس في أمر ربه برأيه وهواه. وأما تعيين الفِرَق الهالكة، فأقدم من بلغنا أنه تكلّم في تضليلهم يوسف بن أسباط، ثم عبد الله بن المبارك، وهما إمامان جليلان من أجلاء أئمة المسلمين قالا: أصول البدع أربعة: الروافض، والخوارج، والقدريّة، والمرجئة، فقيل لابن المبارك: والجهميّة؟ فأجاب بأن أولئك ليسوا من أمة محمد، وكان يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهميّة. وهذا الذي قاله اتّبعه عليه طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم، قالوا: إن الجهميّة كفّار، فلا يدخلون في الاثنين والسبعين فرقة، كما لا يدخل فيهم المنافقون الذين يُبطنون الكفر، ويُظهرون الإسلام، وهم الزنادقة. وقال آخرون من أصحاب أحمد وغيرهم: بل الجهميّة داخلون في الاثنين والسبعين فرقةً، وجعلوا أصول البدع خمسةً، فعلى قول هؤلاء يكون كلّ طائفة من المبتدعة الخمسة اثنتا عشرة فرقةً، وعلى قول الأولين يكون كل طائفة من المبتدعة الأربعة ثمان عشرة فرقة. وهذا ينبني على أصل آخر، وهو تكفير أهل البدع، فمن أخرج الجهميّة منهم لم

يُكفّرهم، فإنه لا يكفر سائر أهل البدع، بل يجعلهم من أهل الوعيد بمنزلة الفسّاق والعُصاة، ويجعل قوله: "هم في النار" مثل ما جاء في سائر الذنوب، مثل أكل مال اليتيم وغيره، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] الآية. ومن أدخلهم فيهم، فهم على قولين: منهم من يكفّرهم كلهم، وهذا إنما قاله بعض المتأخرين المنتسبين إلى الأئمة أو المتكلّمين، وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير المرجئة والشيعة المفضِّلَة، ونحو ذلك، ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفّر هؤلاء، وإن كان من أصحابه من حَكَى في تكفير جميع أهل البدع من هؤلاء وغيرهم خلافًا عنه، أو في مذهبه حتى أطلق بعضهم تخليد هؤلاء وغيرهم، وهذا غلطٌ على مذهبه، وعلى الشريعة. ومنهم من لم يكفّر أحدًا من هؤلاء إلحاقًا لأهل البدع بأهل المعاصي، قالوا: فكما أن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفّرون أحدًا بذنب، فكذلك لا يكفّرون أحدًا ببدعة. والمأثور عن السلف، والأئمة إطلاق أقوال بتكفير الجهميّة المحضة الذين يُنكرون الصفات، وحقيقة قولهم: إن الله لا يتكلم، ولا يُرَى، ولا يباين الخلق، ولا له علم، ولا قدرة، ولا سمعٌ، ولا بصرٌ، ولا حياةٌ، بل القرآن مخلوقٌ، وأهل الجنّة لا يرونه كما لا يراه أهل النار، وأمثال هذه المقالات. وأما الخوارج، والروافض، ففي تكفيرهم نزاعٌ وتردّد عن أحمد وغيره. وأما القدريّة الذين يَنفُون الكتابة والعلم، فكفّروهم، ولم يكفّروا من أثبت العلم، ولم يُثبت خلق الأفعال. وفصل الخطاب في هذا الباب بذكر أصلين: [أحدهما]: أن يعلم أن الكافر في نفس الأمر من أهل الصلاة لا يكون إلا منافقًا، فإن الله منذ بعث محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، وأنزل عليه القرآن، وهاجر إلى المدينة صار الناس ثلاثة

أصناف: مؤمنٌ به، وكافرٌ به مظهر الكفر، ومنافقٌ مستخف بالكفر، ولهذا ذكر الله هذه الأصناف الثلاثة في أول سورة البقرة، ذكر أربع آيات في نعت المؤمنين، وآيتين في الكفّار، وبضع عشرة آيةً في المنافقين، وقد ذكر الله الكفّار والمنافقين في غير موضع من القرآن، كقوله تعالى: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 1]. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ في جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140]، وقوله: {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحديد: 15]، وعطفهم على الكفّار ليميّزهم عنهم بإظهار الإسلام، وإلا فهم في الباطن شرّ من الكفّار، كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ في الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]، وكما قال: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [التوبة: 84]، وكما قال: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 53 - 54]. وإذا كان كذلك فأهل البدع فيهم المنافق الزنديق فهذا كافر، ويكثر هذا في الروافض والجهميّة، فإن رؤساءهم كانوا منافقين زنادقة، وأول من ابتدع الرفض كان منافقًا، وكذلك التجهّم، فإن أصله زندقة ونفاق، ولهذا كان الزنادقة المنافقون من القرامطة الباطنيّة المتفلسفة، وأمثالهم يميلون إلى الرافضة والجهمية لقربهم منهم. ومن أهل البدع من يكون فيه إيمان باطنا وظاهرًا، لكن فيه جهل وظلم حتى أخطأ ما أخطأ من السنة، فهذا ليس بكافر ولا منافق، ثم قد يكون منه عدوان وظلم يكون به فاسقًا أو عاصيًا، وقد يكون مخطئًا متأولًا مغفورًا له خطؤه، وقد يكون مع ذلك معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه، فهذا أحد الأصلين. [والأصل الثاني]: أن المقالة تكون كفرًا، كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحجّ، وتحليل الزنا والخمر والميسر، ونكاح ذوات المحارم، ثم القائل بها قد

يكون بحيث لم يبلغه الخطاب، وكذا (¬1) لا يكفر به جاحده، كمن هو حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه شرائع الإسلام، فهذا لا يُحكم بكفره بجحد شيء مما أنزل على الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذا لم يعلم أنه أُنزل على الرسول -صلى الله عليه وسلم-. ومقالات الجهميّة هي من هذا النوع، فإنها جحد لا هو الربّ تعالى عليه، ولما أنزل الله على رسوله، وتُغلّظ مقالاتهم من ثلاثة أوجه: [أحدها]: أن النصوص المخالفة لقولهم في الكتاب والسنّة والإجماع كثيرة جدّا مشهورة، وإنما يردّونها بالتحريف. [الثاني]: أن حقيقة قولهم تعطيل الصانع، وإن كان منهم من لا يَعلَم أن قولهم مستلزم تعطيل الصانع، فكما أن أصل الإيمان الإقرار بالله، فأصل الكفر الإنكار لله. [الثالث]: أنهم يخالفون ما اتّفقت عليه الملل كلّها، وأهل الفطر السليمة كلها لكن مع هذا قد يخفى كثير من مقالاتهم على كثير من أهل الإيمان حتى يظنّ أن الحقّ معهم؛ لما يوردونه من الشبهات، ويكون أولئك المؤمنون مؤمنين بالله ورسوله باطنا وظاهرًا، وإنما التبس عليهم، واشتبه هذا كما التبس على غيرهم من أصناف المبتدعة، فهؤلاء ليسوا كفّارًا قطعًا، بل قد يكون منهم الفاسق والعاصي، وقد يكون منهم المخطىء المغفور له، وقد يكون معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه به من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه. وأصل قول أهل السنّة الذي فارقوا به الخوارج والجهميّة والمعتزلة والمرجئة أن الإيمان يتفاضل ويتبعّض، كما قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرّة من إيمان"، وحينئذ فتتفاضل ولاية الله، وتتبعّض بحسب ذلك. وإذا عُرف أصل البدع، فأصل قول الخوارج أنهم يكفّرون بالذنب، ويعتقدون ذنبًا ما ليس بذنب، ويرون اتّباع الكتاب دون السنّة التي تخالف ظاهر الكتاب، وإن ¬

_ (¬1) هكذا النسخة، ولعل الصواب: "وهذا"، فليحرّر.

كانت متواترةً، ويكفّرون من خالفهم، ويستحلّون منه لارتداده عندهم ما لا يستحلّونه من الكافر الأصليّ، كما قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فيهم: "يقتلون أهل الإسلام، ويدَعُون أهل الأوثان"، ولهذا كفّروا عثمان وعليّا وشيعتهما، وكفّروا أهل صفّين الطائفتين في نحو ذلك من المقالات الخبيثة. وأصل قول الرافضة أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- نصّ على عليّ نصّا قاطعًا للعذر، وأنه إمام معصوم، ومن خالفه كفر، وأن المهاجرين والأنصار كتموا النصّ، وكفروا بالإمام المعصوم، واتّبعوا أهواءهم، وبدّلوا الدين، وغيّروا الشريعة، وظلموا، واعتدوا، بل كفروا إلا نفرًا قليلًا، إما بضعة عشر، أو أكثر، ثم يقولون: إن أبا بكر وعمر ونحوهما ما زالا منافقين، وقد يقولون: بل آمنوا، ثم كفروا، وأكثرهم يكفّر من خالف قولهم، ويُسمّون أنفسهم المؤمنين، ومن خالفهم كفّارًا، ويجعلون مدائن الإسلام التي لا تُظهَر فيها أقوالهم دار رِدّة أسوأ حالًا من مدائن المشركين والنصارى، ولهذا يوالون اليهود والنصارى والمشركين على بعض جمهور المسلمين، ومعاداتهم، ومحاربتهم، كما عُرف من موالاتهم الكفار المشركين على جمهور المسلمين، ومن موالاتهم الإفرنج النصارى على جمهور المسلمين، ومن موالاتهم اليهود على جمهور المسلمين. ومنهم ظهرت أمهات الزندقة والنفاق، كزندقة القرامطة الباطنة وأمثالهم، ولا ريب أنهم أبعد طوائف المبتدعة عن الكتاب والسنّة، ولهذا كانوا هم المشهورين عند العامة بالمخالفة للسنة، فجمهور العامة لا تعرف ضدّ السنيّ إلا الرافضيّ، فإذا قال أحدهم: أنا سنّيّ، فإنما معناه لست رافضيّا، ولا ريب أنهم شرّ من الخوارج، لكن الخوارج كان لهم في مبدأ الإسلام سيف على أهل الجماعة، وموالاتهم الكفّار أعظم من سيوف الخوارج، فإن القرامطة والإسماعيليّة ونحوهم من أهل المحاربة لأهل الجماعة، وهم منتسبون إليهم، وأما الخوارج فهم معروفون بالصدق، والروافض معروفون بالكذب، والخوارج مَرَقُوا من الإسلام، وهؤلاء نابذوا الإسلام. وأما القدريّة المحضة، فهم خير من هؤلاء بكثير، وأقرب إلى الكتاب والسنّة،

لكن المعتزلة وغيرهم من القدريّة هم جهميّة أيضًا، وقد يكفّرون من خالفهم، ويستحلّون دماء المسلمين، فيقربون من أولئك. وأما المرجئة فليسوا من هذه البدع المغلّظة، بل قد دخل في قولهم طوائف من أهل الفقه والعبادة، وما كانوا يُعَدُّون إلا من أهل السنّة حتى تغلظ أمرهم بما زادوه من الأقوال المغلّظة. ولمّا كان قد نُسب إلى الإرجاء والتفضيل قوم مشاهير متَّبَعون تكلّم أئمة السنة المشاهير في ذمّ المرجئة المفضّلة تنفيرًا عن مقالتهم، كقول سفيان الثوريّ: مَن قدّم عليّا على أبي بكر والشيخين فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وما أدري يصعد له إلى الله عمل مع ذلك، أو نحو هذا القول، قاله لما نُسب إلى تقديم عليّ بعضُ أئمة الكوفيين، وكذلك قول أيوب السختيانيّ: من قدّم عليّا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، قاله لما بلغه ذلك عن بعض أئمة الكوفيين، وقد روي أنه رجع عن ذلك، وكذلك قول الثوريّ ومالك والشافعيّ وغيرهم في ذمّ المرجئة لما نُسب إلى الإرجاء بعض المشهورين. وكلام الإمام أحمد في هذا الباب جارٍ على كلام من تقدّم من أئمة الهدى، ليس له قولٌ ابتدعه، ولكن أظهر السنة وبيّنها، وذبّ عنها، وبيّن حال مخالفيها، وجاهد عليها، وصبر على الأذى فيها لمّا أُظهرت الأهواء والبدع، وقد قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، فالصبر واليقين بهما تنال الإمامة في الدين، فلما قام بذلك قُرنت باسمه الإمامة في السنة ما شُهر به، وصار متبوعًا لمن بعده، كما كان تابعًا لمن قبله. وإلا فالسنّة هي ما تلقاه الصحابة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتلقّاه عنهم التابعون، ثم تابعوهم إلى يوم القيامة، وإن كان بعض الأئمة بها أعلم، وعليها أصبر. والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله (¬1). ¬

_ (¬1) راجع "مجموع الفتاوى" 3/ 345 - 358.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كلام شيخ الإسلام هذا تحقيق نفيس، وبحث أنيس، فتمسّك به، فإنك لا تجده مجموعًا محقّقا عند غيره، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 63 - (حَدَّثَنَا عِليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ كهْمَسِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: كُنَا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَجَاءَ رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ شَعَرِ الرَّأْسِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ سَفَرٍ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، فَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَهُ إِلَى رُكْبَتِهِ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: "شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهِ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَحَجُّ الْبَيْتِ"، فَقَالَ: صَدَقْتَ، فَعَجِبْنَا مِنْهُ، يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَا الْإِيَمانُ؟ قَالَ: "أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَرُسُلِهِ، وَكُتُبِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَير وَشَرِّهِ"، قَالَ: صَدَقْتَ، فَعَجِبْنَا مِنْهُ، يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّه كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنَّكَ إِنْ لَا ترَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ"، قَالَ: فَمَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ"، قَالَ: فَمَا أَمَارَتُهَا؟ قَالَ: "أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا"، قَالَ وَكِيعٌ -يَعْني تَلِدُ الْعَجَمُ الْعَرَبَ- وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ، الْعُرَاةَ، الْعَالَةَ، رِعَاءَ الشَّاءِ، يَتَطَاوَلُونَ في الْبِنَاءِ"، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: فَلَقِيَنِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَقَالَ: "أَتَدْرِي مَنِ الرَّجُلُ؟ "، قُلْتُ: اللَّه وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "ذَاكَ جِبْرِيلُ، أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ مَعَالِمَ دِينِكُمْ"). رجال هذا الإسناد: سبعة: 1 - (عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطنافسيّ المذكور في السند الماضي. 2 - (وَكِيعٌ) بن الجرّاح المذكور في السند الماضي أيضًا. 3 - (كَهْمَسُ بْنُ الْحَسَنِ) التميميّ، أبو الحسن البصريّ، ثقة [5]. رَوَى عن أبي الطفيل، وعبد الله بن بريدة، وعبد الله بن شقيق، وأبي السَّلِيل

ضُريب بن نُقَير، ويزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير، وغيرهم. وروى عنه ابنه عون، والقطان، وابن المبارك، ووكيع، ومعتمر بن سليمان، وسفيان بن حبيب، ومعاذ بن معاذ، وخالد بن الحارث، وغيرهم. قال أبو طالب عن أحمد: ثقة وزيادة. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين، وأبو داود: ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس به. وقال ابن سعد: ثقة. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة ثقة. وقال الساجي: صدوق يَهِم، ونَقَلَ أن ابن معين ضعّفه، وتبعه الأزدي في نقل ذلك. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة تسع وأربعين ومائة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم 63 و1162 و 1874 و3850 و 4220. 4 - (عَبْدِ اللَّه بْنِ بُرَيْدَةَ) بن الحصيب الأسلميّ، أبو سهل المروزيّ، قاضي مرو، أخو سليمان، وكانا توأمين، ثقة [3]. رَوى عن أبيه، وابن عباس، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وابن مسعود، وعبد الله بن مغفل، وأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة، وعائشة، وغيرهم. وروى عنه بشير بن المهاجر، وسهل بن بشير، وحُجير بن عبد الله، وحسين بن ذكوان، وحسين بن واقد المروزي، وداود بن أبي الفرات، وقتادة، وكهمس بن الحسن، ومالك بن مغول، ومحارب بن دثار، وغيرهم. قال الأثرم عن أحمد: أما سليمان فليس في نفسي منه شيء، وأما عبد الله، ثم سكت، ثم قال: كان وكيع يقول: كانوا لسليمان أحمد منهم لعبد الله. وقال في رواية أخرى عن وكيع: كان سليمان أصحهما حديثًا. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: عبد الله ابن بُريدة الذي رَوَى عنه حسين بن واقد ما أنكرهما، وأبو المنيب أيضًا. وقال ابن معين، والعجلي، وأبو حاتم: ثقة. وقال أبو تميلة، عن رُميح الطائي، عن عبد الله بن بريدة: وُلِدتُ لثلاث خلون من خلافة عمر. وقال أحمد بن سيار المروزي: مات بقرية من قرى مرو، وكان بينه وبين موت أخيه سليمان عشر سنين، وتوفي عبد الله في ولاية

أسد بن عبد الله على القضاء. وقال ابن حبان: ولد عبد الله سنة (15) وهو وأخوه سليمان توأم، ومات سليمان وهو على القضاء بمرو سنة (100) وولي أخوه بعده القضاء إلى أن مات سنة خمس وعشرة ومائة، فعلى هذا يكون عمر عبد الله مائة سنة، وقد قيل: إنهما ماتا في يوم واحد، وليس بشيء. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (26) حديثًا. 5 - (يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ) -بفتح التحتانيّة، والميم، بينهما مهملة ساكنة- البصريّ، أبو سليمان، ويقال: أبو سعيد، ويقال: أبو عَدِيّ الْقَيْسِيّ الْجَدَلِيُّ، قاضي مرو، ثقة فصيح، وكان يرسل [3]. روى عن عثمان، وعلي، وعمار، وأبي ذر، وأبي هريرة، وأبي موسى الأشعري، وأبي سعيد، وعائشة، وسليمان بن صُرَد، وابن عباس، وابن عمر، وجابر، وأبي الأسود الديلي، وجماعة. وروى عنه سليمان التيمي، وعبد الله بن بريدة، وقتادة، وعكرمة، وعطاء الخرساني، والرُّكَين بن الرَّبِيع، والأزرق بن قيس، وإسحاق بن سُويد، وغيرهم. قال أبو زرعة، وأبو حاتم، والنسائي: ثقة. وقال الآجري: قلت لأبي داود: سمع من عائشة؟ قال: لا. وقال الحسين بن الوليد، عن هارون بن موسى: أول من نقط المصاحف يحيى بن يعمر. وقال قيس بن الربيع، عن عبد الملك بن عمير: فُصَحاء الناس ثلاثة: موسى بن طلحة، ويحيى بن يعمر، وقَبِيصة بن جابر. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من فصحاء أهل زمانه، وأكثرهم علما باللغة، مع الورع الشديد، وكان على قضاء مرو وَلَّاه قتيبةُ بن مسلم. وقال الدارقطني: لم يَلْقَ عمارًا إلا أنه صحيح الحديث عمن لقيه. وقال أبو داود: بينه وبين عمار رجل. وقال ابن سعد: كان نحويا، صاحب علم بالعربية والقرآن، ولي القضاء بمرو، وكان يقضي باليمين والشاهد، وكان ثقة. وقال الحاكم: يحيى بن يعمر فقيه أديب نحوي مروزي تابعيّ، وأكثر روايته عن التابعين، وأخذ النحو عن أبي الأسود الديلي، نفاه الحجاج إلى مرو، فقبله قتيبة بن

مسلم، وقد قضى في أكبر مدن خراسان، وكان إذا انتقل من بلد استُخلِف على القضاء بها. وقال أبو الحسن علي بن الأثير الجزري في "الكامل": مات سنة تسع وعشرين ومائة، كذا قال، وفيه نظر. وقال غيره: مات في حدود العشرين. وقال أبو الفرج بن الجوزي: مات سنة تسع وثمانين. وقيل: إن قتيبة عزله لما بلغه أنه يشرب المُنَصَّف. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم 63 و 2319 و 3683. 6 - (ابْنِ عُمَرَ) هو: عبد الله رضي الله عنهما 1/ 4. 7 - (عُمَرَ) بن الخطاب -رضي الله عنه- 3/ 28، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سباعيات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، وهو ثقة. 3 - (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: كهمس، عن ابن بُريدة، عن يحيى بن يعمر. 4 - (ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، والابن عن أبيه. 5 - (ومنها): أن ابن عمر هو أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، وأحد المشهورين بالفتوى من الصحابة -رضي الله عنهم-. 6 - (ومنها): أن عمر -رضي الله عنه- أحد الخلفاء الأربعة، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وقد شهد له النبيّ -رضي الله عنه- بأن الحقّ يجري على لسانه، وأنه مُلْهَم، وسماه الفاروق؛ لفرقه بين الحقّ والباطل، وأنه لا يسلك فجّا إلا سلك الشيطان غير فجّه، وهو جمّ المناقب -رضي الله عنه-، والله تعالى أعلى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ) رحمه الله تعالى (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ) (قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ) رضي الله تعالى عنه.

[تنبيهان]: (الأول): حديث عمر -رضي الله عنه- هذا لم يخرجه البخاريّ في "صحيحه"، فذكر في "الفتح" سبب ذلك، فقال: إنما لم يخرجه؛ للاختلاف فيه على بعض رواته، فمشهوره رواية كهمس بن الحسن، عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر، عن عبد الله بن عمر، عن أبيه عمر بن الخطاب، رواه عن كهمس جماعة من الحفاظ، وتابعه مطر الوراق، عن عبد الله بن بريدة، وتابعه سليمان التيمي، عن يحيى بن يعمر، وكذا رواه عثمان بن غياث، عن عبد الله بن بريدة، لكنه قال: عن يحيى بن يعمر، وحميد بن عبد الرحمن معا، عن ابن عمر، عن عمر، زاد فيه حميدا وحميد له في الرواية المشهورة ذكر، لا رواية، وأخرج مسلم هذه الطرق، ولم يسق منها إلا متن الطريق الأولى، وأحال الباقي عليها، وبينها اختلاف كثير، سنشير إلى بعضه، فأما رواية مطر، فأخرجها أبو عوانة في "صحيحه" وغيره، وأما رواية سليمان التيمي، فأخرجها ابن خزيمة في "صحيحه" وغيره، وأما رواية عثمان بن غياث، فأخرجها أحمد في "مسنده"، وقد خالفهم سليمان بن بريدة، أخو عبد الله، فرواه عن يحيى بن يعمر، عن عبد الله بن عمر، قال: بينما نحن عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، فجعله من مسند ابن عمر، لا من روايته عن أبيه، أخرجه أحمد أيضا، وكذا رواه أبو نعيم في "الحلية" من طريق عطاء الخراساني، عن يحيى بن يعمر، وكذا رُوِي من طريق عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن عمر، أخرجه الطبراني. وفي الباب: عن أنس، أخرجه البزار، والبخاري في "خلق أفعال العباد"، وإسناده حسن، وعن جرير البجلي، أخرجه أبو عوانة في "صحيحه"، وفي إسناده خالد ابن يزيد، وهو العمري، ولا يصلح للصحيح، وعن ابن عباس، وأبي عامر الأشعري، أخرجهما أحمد، وإسنادهما حسن، وفي كل من هذه الطرق فوائد، سنذكرها -إن شاء الله تعالى- في أثناء الكلام على حديث الباب، وإنما جمعت طرقها هنا، وعزوتها إلى مخرجيها؛ لتسهيل الحوالة عليها، فرارا من التكرار، المباين لطريق الاختصار. انتهى كلام صاحب "الفتح" 1/ 158 - 159.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وأنا -بعون الله تعالى- سألخّص ما ذكره صاحب "الفتح" وغيره من اختلاف هذه الطرق، وما احتوت عليه من الفوائد في شرح هذا الحديث -إن شاء الله تعالى- والله تعالى وليّ التوفيق. (الثاني): هذا الحديث في أوله قصّة ساقها مسلم في "صحيحه"، فقال: حدثني أبو خيثمة، زهير بن حرب، حدثنا وكيع، عن كهمس، عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر ح وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، وهذا حديثه، حدثنا أبي، حدثنا كهمس، عن ابن بريدة، عن يحيى بن يعمر، قال: كان أولَ من قال في القدر، بالبصرة مَعْبَد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري، حاجين، أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب، داخلا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم، وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أُنُفٌ، قال: فإذا لقيت أولئك، فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر، لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه، ما قبل الله منه، حتى يؤمن بالقدر، ثم قال: حدثني أبي، عمر بن الخطاب، قال: بينما نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر ... " الحديث. (قَالَ) عمر -رضي الله عنه- (كُنَّا جُلُوسًا) بضم الجيم جمع جالس (عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-) وفي رواية مسلم: "قال: بينما نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم، إذ طلع علينا رجلٌ إلخ" (فَجَاءَ رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ شَعَرِ الرَّأْسِ) بفتح العين المهملة، وسكونها، زاد في رواية ابن حبّان: "شديد سواد اللحية" (لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ سَفَرٍ) ببناء الفعل للمفعول، قال النوويّ: ضبطناه بالياء المثنّاة، من تحتُ المضمومة، وكذلك ضبطناه في "الجمع بين الصحيحين"، وغيره، وضبطه الحافظ أبو حازم العُذْريّ هنا بالنون

المفتوحة، وكذا هو في مسند أبي يعلى الموصليّ، وكلاهما صحيح. انتهى. وقال القرطبيّ: هكذا مشهور رواية هذا اللفظ "يُرى" مبنيّا لما لم يُسمّ فاعله بالياء باثنين من تحتها، "ولا يعرفه" بالياء أيضًا، وقد رواه أبو حازم العُذْريّ: "لا نَرى عليه أثر السفر، ولا نعرفه" بالنون فيهما، مبنيّا للفاعل، ونون الجماعة، وكلاهما واضحٌ المعنى. انتهى. وفي البخاريّ في "التفسير": "إذ أتاه رجل يمشي"، وفي حديث أبي هريرة، وأبي ذرّ الآتي: "وإنا لجلوس، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مجلسه، إذ أقبل رجل، أحسن الناس وجهًا، وأطيب الناس ريحًا، كأن ثيابه لم يمسها دنس، حتى سلّم في طرَف البساط، فقال: السلام عليكم يا محمد". (وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، فَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَأَسْنَدَ رُكْبَتهُ إِلَى رُكْبَتِهِ) أي ركبتي النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. وفي رواية لسليمان التيميّ: "ليس عليه سَحْناء السفر، وليس من البلد، فتخطّى، حتى برك بين يدي النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، كما يجلس أحدنا في الصلاة". (وَوَضَعَ يديه عَلَى فَخِذَيْهِ) قال النوويّ: معناه أن الرجل الداخل وضع كفيه على فخذي نفسه، وجلس على هيئة المتعلّم. انتهى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الصحيح أن معناه أنه وضع كفه على فخذي النبيّ -صلى الله عليه وسلم-؛ للتصريح به في حديث أبي هريرة، وأبي ذرّ رضي الله تعالى عنهما، ولفظه: "حتى وضع يده على ركبتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، وقال في "الفتح": وكذا في حديث ابن عبّاس، وأبي عامر الأشعري: "ثم وضع يده على ركبتي النبي -صلى الله عليه وسلم-"، فأفادت هذه الرواية أن الضمير في قوله: "على فخذيه" يعود على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبه جزم البغوي، وإسماعيل التيمي؛ لهذه الرواية، ورجحه الطيبي بحثا؛ لأنه نَسَقُ الكلام، خلافا لما جزم به النووي، ووافقه التوربشتي؛ لأنه حمله على أنه جلس كهيئة المتعلم، بين يدي من يتعلم منه، وهذا وإن كان ظاهرا من السياق، لكن وضعه يديه على فخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- وسلم مُنَبِّه للإصغاء إليه، وفيه إشارة لما ينبغي للمسئول من التواضع، والصَّفْح عما يبدو من جفاء

السائل، والظاهر أنه أراد بذلك المبالغة في تعمية أمره؛ ليقوى الظن بأنه من جُفَاة الأعراب، ولهذا تخطى الناس، حتى انتهى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما تقدم، ولهذا استغرب الصحابة صنيعه، ولأنه ليس من أهل البلد، وجاء ماشيا، ليس عليه أثر سفر. [فإن قيل]: كيف عَرَف عمر -رضي الله عنه- أنه لم يعرفه أحد منهم. [أجيب]: بأنه يحتمل أن يكون استند في ذلك إلى ظنه، أو إلى صريح قول الحاضرين، وهذا الثاني -كما قال الحافظ- أولى، فقد جاء كذلك في رواية عثمان بن غياث، فإن فيها: "فنظر القوم بعضهم إلى بعض، فقالوا: ما نعرف هذا". وأفاد مسلم، في رواية عمارة بن القعقاع، سبب ورود هذا الحديث، فعنده في أوله: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: سلوني، فهابوا أن يسألوه، قال: فجاء رجل ... "، ووقع في رواية ابن منده، من طريق يزيد بن زريع، عن كهمس: بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب، إذ جاءه رجل، فكأن أمره لهم بسؤاله، وقع في خطبته، وظاهره أن مجيء الرجل، كان في حال الخطبة، فإما أن يكون وافق انقضاءها، أو كان ذكر ذلك القدر جالسا، وعبر عنه الراوي بالخطبة. انتهى "فتح" 1/ 159 - 160. (ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ) قيل: كيف بدأ بالسؤال قبل السلام؟. أجيب: بأنه يحتمل أن يكون ذلك مبالغةً في التعمية لأمره، أو ليبين أن ذلك غير واجب، أو سلم فلم ينقله الراوي. وهذا الثالث هو الصواب، فقد ثبت في رواية حديث أبي هريرة، وأبي ذرّ الآتي، ففيه: "حتى سلم من طرف البساط، فقال: السلام عليك يا محمد، فرد عليه السلام، قال: أدنو يا محمد؟ قال: ادن، فما زال يقول: أدنو؟ مرارا، ويقول له: ادن"، ونحوه في رواية عطاء، عن ابن عمر، لكن قال: "السلام عليك يا رسول الله"، وفي رواية مطر الوراق: "فقال: يا رسول الله أدنو منك؟ قال: ادن"، ولم يذكر السلام، فاختلفت الروايات، هل قال له: يا محمد، أو يا رسول الله، وهل سلم، أو لا، فأما السلام فمن ذكره مقدم على من سكت عنه.

وقال القرطبي، بناء على أنه لم يسلم، وقال: يا محمد: إنه أراد بذلك التعمية، فصنع صنيع الأعراب. قال الحافظ: ويجمع بين الروايتين، بأنه بدأ أولا بندائه باسمه، لهذا المعنى، ثم خاطبه بقوله: يا رسول الله. انتهى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأقرب أن يُحْمَل على تصرّف الرواة، فيقال: إنه قال: يا محمد، فعبر بعض الرواة بقوله: يا رسول الله؛ لأن هذا أقرب إلى التعمية المذكورة. والله تعالى أعلم. ووقع عند القرطبي: أنه قال: "السلام عليكم يا محمد"، فاستنبط منه أنه يستحب للداخل أن يعمم بالسلام، ثم يخصص من يريد تخصيصه. انتهى. قال الحافظ: والذي وقفت عليه من الروايات، إنما فيه الإفراد، وهو قوله: "السلام عليك يا محمد". (مَا الْإِسْلَامُ؟) وفي رواية لمسلم: "أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ". وإنما بدأ بالإسلام، لأنه يتعلّق بالأمر الظاهر، وثنى بالإيمان، لأنه يتعلّق بالأمر الباطن، وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عند البخاريّ: "فقال: ما الإيمان"، فبدأ بالإيمان؛ لأنه الأصل، وثَنَّى بالإسلام؛ لأنه يُظهر مِصداق الدعوى، وثَلّث بالإحسان؛ لأنه مُتَعَلِّق بهما. ورجح الطيبي الأول؛ لما فيه من الترقّي، ولا شك أن القصة واحدة، اختلف الرواة في تأديتها، وليس في السياق ترتيب، ويدل عليه رواية مطر الوراق، فإنه بدأ بالإسلام، وثَنَّى بالإحسان، وثَلَّث بالإيمان، فالحق أن الواقع أمر واحد، والتقديم والتأخير وقع من الرواة، والله تعالى أعلم. قاله الحافظ. وقال القرطبيّ: الإسلام في اللغة: هو الاستسلام، والانقياد، ومنه قوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} الآية [الحجرات: 14]: أي انقدنا، وهو في الشرع: الانقياد بالأفعال الظاهرة الشرعيّة، ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أنس -رضي الله عنه- عنه:

"الإسلام علانية، والإيمان في القلب" ذكره ابن أبي شيبة في "مصنّفه" 11/ 11 (¬1). انتهى "المفهم" 1/ 139. (قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- مجيبًا عن سؤاله (شَهَادَةُ) بالرفع على أنه خبر لمحذوف: أي هو شهادة (أَنْ) هي "أن المخفّفة من الثقيلة، واسمها مقدّر، وخبرها جملة "لا إله إلا الله"، والأصل "أنه لا إله إلا الله"، وإلى هذا أشار ابن مالك في "الخلاصة"، حيث قال: وَإِنْ تُخَفَّفْ "أَنَّ" فَاسْمُهَا اسْتكَنْ ... وَالْخَبَرَ اجْعَلْ جُمْلَةً مِنْ بَعْدِ "أَنْ" (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، وَأَنِّي) وفي رواية: "وأن محمدًا" (رَسُولُ اللَّهِ) وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "الإسلام أن تعبد الله، ولا تشرك به". قال النووي في "شرحه": يحتمل أن يكون المراد بالعبادة، معرفة الله، فيكون عطف الصلاة وغيرها عليها؛ لإدخالها في الإسلام، ويحتمل أن يكون المراد بالعبادة الطاعة مطلقا، فيدخل فيه جميع الوظائف، فعلى هذا يكون عطف الصلاة وغيرها، من عطف الخاص على العام. قال الحافظ: أما الاحتمال الأول فبعيد؛ لأن المعرفة من متعلقات الإيمان، وأما الإسلام فهو أعمال قولية وبدنية، وقد عبر في حديث عمر -رضي الله عنه- هنا بقوله: "أن تشهد أن لا إله الا الله وأن محمد رسول الله"، فدل على أن المراد بالعبادة في حديث الباب، النطق بالشهادتين، وبهذا تبين دفع الاحتمال الثاني، ولمّا عبر الراوي بالعبادة، احتاج أن يوضحها بقوله: "ولا تشرك به شيئا"، ولم يحتج إليها في رواية عمر؛ لاستلزامها ذلك. ثم إنه ليس المراد بمخاطبته بالإفراد اختصاصه بذلك، بل المراد تعليم السامعين الحكم في حقهم، وحق من أشبههم من المكلفين، وقد تبين ذلك بقوله في آخره: "يعلم الناس دينهم". ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"، وزاد: "ثم يشير إلى صدره، ويقول: التقوى هاهنا، التقوى هاهنا". وفي سنده علي بن مسعدة، ضعفه البخاريّ وغيره، ووثقه آخرون، وضعف بعضهم هذا الحديث بسببه، وعندي أنه حسن الحديث انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" 3/ 192 .. والله تعالى أعلم.

(وَإِقَامُ الصَّلَاةِ) زاد في حديث أبي هريرة عند مسلم "المكتوبة": أي المفروضة، وإنما عبر بالمكتوبة للتفنن في العبارة، فإنه عبر في الزكاة بالمفروضة، ولا تباع قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]. وقال القرطبيّ: والصلاة في اللغة: الدعاء، ومنه قوله تعالى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103]: أي ادع، وقال الأعشى: عَلَيْكِ مِثْلَ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي ... نَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا وقيل: إنها مأخوذة من الصَّلاَ، والصلا: عِرْقٌ عند أصل الذنب، ومنه قيل للفرس الثاني في الحلبة: مصَلٍّ؛ لأن رأسه عند صلا السابق، قال الشاعر: فَصَلَّى أَبُوهُ لَهُ سَابِقُ ... بِأَنْ قِيلَ فَاتَ الْعِذَارُ الْعِذَارَا (¬1) والأول أولى وأشهر، وهي في الشرع: أفعال مخصوصةٌ، بشروط مخصوصة، الدعاء جزء منها. انتهى. (وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ) زاد في أبي هريرة: "المفروضة". قال القرطبيّ: الزكاة لغة: هي النماء، والزيادة، يقال: زكا الزرع والمالُ، وسُمّي أخذ جزء من مال المسلم الحرّ زكاةً؛ لأنها إنما تؤخذ من الأموال النامية، أو لأنها قد نمت، وبلغت النصاب، أو لأنها تنمي المال بالبركة، وحسنات مؤديها بالتكثير. انتهى. (وَصَوْمُ رَمَضَانَ) الصوم: هو الإمساك مطلقًا، ومنه قوله تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} الآية [مريم: 26]: أي إمساكًا عن الكلام، وقال الشاعر: خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ ... تَحْتَ الْعَجَاج وَأُخْرَى تَعْلِكُ اللُّجُمَا أي ممسكة عن الحركة. وهو في الشرع: إمساك جميع أجزاء اليوم عن أشياء مخصوصة، بشرط مخصوص. قاله القرطبيّ. واستُدل به على جواز قول "رمضان" من غير إضافة "شهر"، إليه. قاله في ¬

_ (¬1) "العذار": هو ما سال على خدّ الفرس من اللجام.

"الفتح". وسيأتي تمام البحث في هذا في "كتاب الصيام" -إن شاء الله تعالى- وبالله تعالى التوفيق. (وَحَجُّ الْبَيْتِ) الحجّ: هو القصد المتكرّر في اللغة، قال الشاعر [من الطويل]: وَأَشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً ... يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ المُزَعْفَرَا وهو في الشرع: القصد إلما بيت الله المعظّم؛ لفعل عبادة مخصوصة، والحجّ بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم، وقُرىء بهما: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} الآية [آل عمران: 97]. [تنبيه]: زاد في رواية مسلم وغيره: "إن استطعت إليه سبيلًا" والاستطاعة: هي القوّة على الشيء، والتمكّن منه، ومنه قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف: 97]. وسيأتي بيان كلّ ذلك مستوفًى في محلّه من "كتاب المناسك " -إن شاء الله تعالى- وبالله تعالى التوفيق. [تنبيه آخر]: قد اختلف الرواة في ذكر الحجّ هنا، فمنهم من ذكره، ومنهم من أسقطه، إما غفلة، أو نسيانًا. قال في "الفتح": [فإن قيل]: لم لم يذكر الحج؟ أجاب بعضهم باحتمال أنه لم يكن فُرِض. وهو مردود بما رواه ابن منده في "كتاب الإيمان" بإسناده الذي على شرط مسلم، من طريق سليمان التيمي، في حديث عمر -رضي الله عنه- أوله: أن رجلا في آخر عمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فذكر الحديث بطوله، وآخر عمره -صلى الله عليه وسلم- يحتمل أن يكون بعد حجة الوداع، فأنها آخر سفراته، ثم بعد قدومه بقليل، دون ثلاثة أشهر مات، وكأنه إنما جاء بعد إنزال جميع الأحكام، لتقرير أمور الدين التي بَلّغها متفرقة، في مجلس واحد؛ لتنضبط. ويُستنبط منه جواز سؤال العالم، ما لا يجهله السائل؛ ليعلمه السامع. وأما الحج فقد ذُكِر لكن بعض الرواة إما ذَهِل عنه، وإما نسيه، والدليل على ذلك اختلافهم في ذكر بعض الأعمال دون بعض، ففي رواية كهمس: "وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا"، وكذا في حديث أنس، وفي رواية عطاء الخراساني لم يذكر

الصوم، وفي حديث أبي عامر ذَكَر الصلاة، والزكاة حسب، ولم يذكر في حديث ابن عباس مزيدا على الشهادتين، وذَكَر سليمان التيمي في روايته الجميع، وزاد بعد قوله: "وتحج": "وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وتتمم الوضوء"، وقال مطر الوراق في روايته: "وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة"، قال: فذكر عُرَى الإسلام، فتبين ما قلناه: إن بعض الرواة ضبط ما لم يضبطه غيره. انتهى "فتح" 1/ 163 - 164. (قَالَ) الرجل السائل (صَدَقْتَ) أي فيما أخبرتني به من أركان الإسلام (فَعَجِبْنَا مِنْهُ) ولفظ مسلم: "له"، وللنسائيّ: "إليه" (يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ) أي يسأل النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن أركان الإسلام كأنه جاهل، ثم يصدّق ما أجاب به كأنه عالم. وفي حديث أبي هريرة، وأبي ذرّ "فلما سمعنا قول الرجل: صدقت أنكرناه"، وفي رواية مطر الوراق: "انظروا إليه كيف يسأله، وانظروا إليه كيف يصدقه"، وفي حديث أنس: "انظروا وهو يسأله، وهو يصدقه، كأنه أعلم منه"، وفي رواية سليمان بن بريدة قال القوم: "ما رأينا رجلًا مثل هذا، كأنه يُعَلِّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقول له: صدقت صدقت". قال القرطبي: إنما عجبوا من ذلك؛ لأن ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا يُعرَف إلا من جهته، وليس هذا السائل ممن عُرف بلقاء النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا بالسماع منه، ثم هو يسأل سؤال عارف، محقّق مصدّق؛ فتعجبوا من ذلك، تعجب المستبعد لأن يكون أحد يعرف تلك الأمور المسؤول عنها من غير جهة النبيّ. انتهى (¬1). (ثُمَّ قَالَ) الرجل (يَا مُحَمَّدُ مَا الْإِيمَانُ؟) وفي رواية: "أخبرني عن الإيمان" (قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّه) قال أبو العباس القرطبيّ رحمه الله: الإيمان بالله: هو التصديق بوجوده، وأنه لا يجوز عليه العدم، وأنه تعالى موصوفٌ بصفات الجلال والكمال، من العلم، والقدرة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصر، والحياة، والرضا، والمحبّة، وغيرها، وأنه منزّه عن صفات النقص التي هي أضداد تلك الصفات، وعن صفات الأجسام، ¬

_ (¬1) راجع "المفهم" 1/ 151.

والمتحيّزات، وأنه واحد، صمد، فردٌ، خالق جميع المخلوقات، متصرّف فيها بما يشاء من التصرّفات، يفعل في ملكه ما يريد، ويحكم في خلقه ما يشاء. انتهى. بزيادة. وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى في "العقيدة الواسطيّة" حينما يصف اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة: ومن الإيمانِ بالله الإيمانُ بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه رسوله -صلى الله عليه وسلم- من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل، بل يؤمنون بأن الله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يُحرّفون الكلم عن مواضعه، ولا يُلحدون في أسمائه، وآياته، ولا يكيّفون، ولا يمثّلون، صفاته بصفات خلقه؛ لأنه سبحانه وتعالى لا سميّ له، ولا كفء له، ولا ندّ له، ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى، فإنه أعلم بنفسه، وبغيره، وأصدق قيلًا، وأحسن حديثًا من خلقه، ثم رسله صادقون، مصدّقون، بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون، ولهذا قال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافّات: 180]، فسبّح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل، وسلّم على المرسلين؛ لسلامة ما قالوه من النقص والعيب، وهو قد جمع فيما وصف، وسمَّى به نفسه بين النفي والإثبات، فلا عدول لأهل السنّة والجماعة عمّا جاء به المرسلون، فإنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، والشهداء، والصالحين. انتهى كلامه مختصرًا. وقال في "الفتح": قوله: "قال: الإيمان: أن تؤمن بالله ... إلخ": دل الجواب على أنه عَلِم أنه سأله عن متعلقات الإيمان، لا عن معنى لفظه، وإلا لكان الجواب الإيمان: التصديق. وقال الطيبي: هذا يوهم التكرار، وليس كذلك، فإن قوله: "أن تؤمن بالله"، مُضَمَّن معنى أن تعترف به، ولهذا عداه بالباء: أي أن تصدق، معترفا بكذا. قال الحافظ: والتصديق أيضا يعدى بالباء، فلا يحتاج إلى دعوى التضمين. وقال الكرماني: ليس هو تعريفا للشيء بنفسه، بل المراد من المحدود الإيمان الشرعي، ومن

الحد الإيمان اللغوي. قال الحافظ: والذي يظهر أنه إنما أعاد لفظ الإيمان؛ للاعتناء بشأنه، تفخيما لأمره، ومنه قوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] في جواب {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78]: يعني أن قوله: "أن تؤمن" ينحل منه الإيمان، فكأنه قال: الإيمان الشرعي: تصديق مخصوص، وإلا لكان الجواب الإيمان: التصديق، والإيمان بالله: هو التصديق بوجوده، وأنه متصف بصفات الكمال، منزه عن صفات النقص. انتهى. (وَمَلَائِكَتِهِ) معنى الإيمان بالملائكة: هو التصديق بوجودهم، وأنهم كما وصفهم الله تعالى: {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:26 - 27] {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] و {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20]، وأنهم سفراء الله بينه وبين رسله، والمتصرّفون كما أذن لهم في خَلْقه. وقَدَّم الملائكة على الكتب والرسل؛ نظرًا للترتيب الواقع؛ لأنه سبحانه وتعالى، أرسل الملك بالكتاب إلى الرسول، وليس فيه مُتَمَسَّك لمن فَضَّل الملك على الرسول. قاله في "الفتح". (وَرُسُلِهِ) هكذا وقع في رواية المصنّف تقديم "ورسله" على "وكتبه"، ووقع في رواية مسلم وغيره بالعكس، ولا تنافي لأن الواو لا ترتيب فيها، ووقع في حديث أبي هريرة، وأبي ذرّ "وملائكته، والكتاب، والنبيين"، وكل من السياقين في القرآن، في البقرة، والتعبير "بالنبيين" يشمل "الرسل"، من غير عكس. ومعنى الإيمان بالرسل: التصديق بأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى، وأن الله تعالى أيّدهم بالمعجزات الدّالّة على صدقهم، وأنهم بلّغوا عن الله تعالى رسالاته، وبيّنوا للمكلّفين ما أمرهم الله تعالى بيانه، وأنه يجب احترامهم، وألا يُفرَّق بين أحد منهم. قاله القرطبيّ.

وقال في "الفتح": ودل الإجمال في الملائكة، والكتب، والرسل على الاكتفاء بذلك، في الإيمان بهم، من غير تفصيل، إلا من ثبت تسميته، فيجب الإيمان به على التعيين انتهى. (وَكُتُبِهِ) معنى الإيمان بكتب الله تعالى: التصديق بأنه كلام الله تعالى غير مخلوق، وأن ما تضمّنته حقّ وصدق. [تنبيه]: زاد في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عند البخاريّ بعد قوله: "وكتبه": قولَهُ: "وبلقائه": قال في "الفتح" كذا وقعت هنا بين الكتب والرسل، وكذا لمسلم من الطريقين، ولم تقع في بقية الروايات، وقد قيل: إنها مكررة، لأنها داخلة في الإيمان بالبعث، والحقّ أنها غير مكررة، فقيل: المراد بالبعث القيامُ من القبور، والمراد باللقاء ما بعد ذلك، وقيل: اللقاء يحصل بالانتقال من دار الدنيا، والبعث بعد ذلك، ويدل على هذا رواية مطر الوراق، فإن فيها: "وبالموت، وبالبعث بعد الموت"، كذا في حديث أنس وابن عباس -رضي الله عنهم-، وقيل: المراد باللقاء رؤية الله، ذكره الخطابي، وتعقبه النووي بأنّ أحدًا لا يقطع لنفسه برؤية الله، فإنها مختصة بمن مات مؤمنا، والمرء لا يدري بم يختم له، فكيف يكون ذلك من شروط الإيمان؟. وأجيب بأن المراد الإيمانُ بأن ذلك حقّ في نفس الأمر، وهذا من الأدلة القوية؛ لأهل السنة في إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة، إذ جعلت من قواعد الإيمان. انتهى (¬1). (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عند البخاريّ: "وتؤمن بالبعث"، زاد في "التفسير": "الآخر"، قال في "الفتح": فأما البعث الآخر، فقيل: ذُكر "الآخر" تأكيدا، كقولهم: أمس الذاهب، وقيل: لأن البعث وقع مرتين: الأولى الإخراج من العدم إلى الوجود، أو من بطون الأمهات بعد النطفة، والْعَلَقَة إلى الحياة الدنيا، والثانية البعث من بطون القبور إلى محل الاستقرار، وأما اليوم الآخر، فقيل له: ذلك؛ لأنه آخر ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 1/ 161.

أيام الدنيا، أو آخر الأزمنة المحدودة. ومعنى الإيمان باليوم الآخر: هو: التصديق بيوم القيامة، وما اشتمل عليه من الإعادة بعد الموت، والنشر، والحشر، والحساب، والميزان، والصراط، والجنة والنار، وأنهما دار ثوابه، وجزائه للمحسنين، والمسيئين، إلى غير ذلك، مما صحّ نصّه، وثبت نقله. قاله القرطبيّ رحمه الله (¬1). (وَالْقَدَرِ) -بفتحتين، أو بفتح، فسكون- هو: القضاء، والحكم. وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: الْقَدَر: مصدر قَدَرتُ الشيء، خفيفة الدال، أقدِره، وأقدُره -من بابي ضرب، ونصر- قَدْرًا -بفتح، فسكون- وقَدَرًا -بفتحتين، وقُدُرًا: إذا أحطت بمقداره، ويقال فيه: قدّرتُ أُقدّر تقديرًا -مشدّد الدال- للتضعيف، فإذا قلنا: إن الله تعالى: قدّر الأشياء، فمعناه: أنه تعالى علم مقاديرها، وأحوالها، وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه، فلا مُحْدَث في العالم العلويّ والسفليّ إلا وهو صادر عن علمه تعالى، وقدرته، وإرادته. انتهى (¬2). وقال في "الفتح" بعد ذكر نحو كلام القرطبيّ هذا: ما نصّه: هذا هو المعلوم من الدين بالبراهين القطعية، وعليه كان السلف من الصحابة، وخيار التابعين، إلى أن حدثت بدعة القدر في أواخر زمن الصحابة -رضي الله عنهم-، وقد رَوَى مسلم القصة في ذلك، من طريق كهمس، عن ابن بريدة، عن يحيى بن يعمر، قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، قال: فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الْحِمْيَري، فذكر اجتماعهما بعبد الله بن عمر، وأنه سأله عن ذلك، فأخبره بأنه بَرِيء ممن يقول ذلك، وأن الله لا يقبل ممن لم يؤمن بالقدر عملا. ¬

_ (¬1) راجع "المفهم" 1/ 145. (¬2) راجع "المفهم" 1/ 132.

وقد حَكَى المصنفون في المقالات، عن طوائف من القدرية إنكار كون البارىء عالما بشيء من أعمال العباد، قبل وقوعها منهم، وإنما يعلمها بعد كونها، قالوا: لأنه لا فائدة لعلمه بها قبل إيجادها، وهو عبثٌ، وهو على الله محالٌ. قال القرطبي وغيره: وقد روي عن مالك رحمه الله تعالى أنه فسّر القدريّة بنحو ذلك، وهذا المذهب هو الذي وقع لأهل البصرة، وهو الذي أنكره ابن عمر، ولا شكّ في تكفير من يذهب إلى ذلك، فإنه جحد معلومٍ من الشرع ضرورةً، ولذلك تبرّأ منهم ابن عمر، وأفتى بأنهم لا تقبل منهم أعمالهم، ولا نفقاتهم، وأنهم كما قال الله تعالى فيهم: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} الآية [التوبة: 54]. وهذا المذهب هو مذهب طائفة منهم تُسمّى السُّكْبيّة، وقد تُرك اليوم، فلا يُعرف من يُنسب إليه من المتأخّرين، من أهل البدع المشهورين. والقدرية اليومَ مطبقون على أن الله عالم بأفعال العباد، قبل وقوعها، وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لهم، وواقعة منهم على جهة الاستقلال، وهو مع كونه مذهبا باطلًا أخفّ من المذهب الأول، وأما المتأخرون منهم، فأنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد؛ فرارًا من تعلق القديم بالمحدث، وهم مخصومون بما قال الشافعي: إن سلم القدري العلمَ خُصِم -يعني يقال له: أيجوز أن يقع في الوجود خلاف ما تضمنه العلم، فإن منع وافق قول أهل السنة، وإن أجاز لزمه نسبة الجهل، تعالى الله عن ذلك (¬1). وقال القرطبيّ أيضًا: والإيمان بالقدر: هو التصديق بما تقدّم ذكره، وحاصله هو ما دلّ عليه قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] وقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] وقوله {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]. وإجماع السلف والخلف على صدق قول القائل: ما شاء الله كان، وما لم ¬

_ (¬1) "المفهم" 1/ 132 - 133 و"الفتح" 1/ 162 - 163.

يشأ لم يكن، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "كلّ شيء بقدر حتى العجز والكيس". رواه مسلم. وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في "العقيدة الواسطيّة": ما نصّه: الإيمان بالقدر على درجتين، كلّ درجة تتضمّن شيئين: فالدرجة الأولى بأن الله تعالى عليم بالخلق، وهم عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلًا وأبدًا، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات، والمعاصي، والأرزاق، والآجال، ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق، فأول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فما أصاب الإنسان، لم يكن ليُخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفّت الأقلام، وطُويت الصحف، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا في السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ في كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70]، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ في الْأَرْضِ وَلَا في أَنْفُسِكُمْ إِلَّا في كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22]، وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه وتعالى يكون في مواضع جملة وتفصيلًا، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكًا، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيّ، أم سعيد، ونحو ذلك، فهذا التقدير قد كان ينكره غُلاة القدريّة قديمًا، ومنكروه اليوم قليل. وأما الدرجة الثانية: فهي مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السموات، وما في الأرض من حركة، ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى، لا يكون ملكه ما لا يُريد، وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من الموجودات، والمعدومات، فما من مخلوق في الأرض، ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه وتعالى، لا خالق غيره، ولا ربّ سواه، ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته، وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته، وهو سبحانه وتعالى يحبّ المتّقين، والمحسنين، والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يُحبّ الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحبّ الفساد. والعباد فاعلون حقيقة، والله

خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن، والكافر، والبرّ، والفاجر، والمصلّي، والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة، والله خالقهم، وقدرَتهم، وإرادَتَهم، كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29]. وهذه الدرجة من القدَر يُكذّب بها عامّة القدريّة الذين سمّاهم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مجوس هذه الأمة، ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته، واختياره، ويُخرجون عن أفعال الله، وأحكامه حكمها، ومصالحها. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وهو تحقيق نفيسٌ جدّا. والله تعالى أعلم. وقوله: (خَير وَشَرِّهِ) بالجرّ بدلًا عن قوله: "القدر". ووقع في رواية غير المصنّف بلفظ: "كلّه خيره وشرّه"، قيل: وإنما أكّده بـ "كله" لكثرة مَن ينكر القدر من الكفّار، ولهذا كثر تكراره في القرآن، وللتنويه بذكره، ليحصل الاهتمام بشأنه، ثم قرّر ذلك بما أبدل منه، بقوله "خَير وَشَرِّهِ"، وزاد في رواية: "حُلْوِه، ومُرِّه"، وزاد في أخرى: "من الله". [تنبيه]: ظاهر السياق يقتضى أن الإيمان، لا يُطلق إلا على من صَدَّق بجميع ما ذُكر، وقد اكتفى الفقهاء بإطلاق الإيمان على من آمن بالله تعالى، ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولا اختلاف أن الإيمان برسول الله -صلى الله عليه وسلم- المراد به الإيمان بوجوده، وبما جاء به عن ربه، فيدخل جميع ما ذكر تحت ذلك (¬1). (قَالَ) الرجل (صَدَقْتَ) قال الصحابة الحاضرون (فَعَجِبْنَا مِنْهُ) أي من حال هذا السائل (يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ) تقدّم معناه قريبًا (ثُمَّ قَالَ) الرجل (يَا مُحَمَّدُ مَا الْإِحْسَانُ؟) قال في "الفتح": هو مصدر أحسن يُحسن إحسانا، ويتعدى بنفسه وبغيره، تقول: أحسنت كذا: إذا أتقنته، وأحسنت إلى فلان: إذا أوصلت إليه النفع، والأول هو المراد؛ لأن المقصود إتقان العبادة، وقد يلحظ الثاني بأن المخلص مثلا محسن بإخلاصه إلى نفسه، وإحسانُ العبادة: ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 1/ 163.

الإخلاص فيها، والخشوع وفراغ البال حالَ التلبس بها، ومراقبة المعبود. وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: الإحسان هو مصدر أحسن يُحسن إحسانًا، ويقال على معنيين: [أحدهما]: متعدّ بنفسه، كقولك: أحسنت كذا، وفي كذا: إذا حسّنته، وكمّلته، وهو منقول بالهمزة من حسُن الشيءُ. [وثانيهما]: متعدّ بحرف جرّ، كقولك: أحسنت إلى كذا: أي أوصلت إليه ما ينتفع به، وهو في هذا الحديث بالمعنى الأول، لا بالمعنى الثاني، إذ حاصله راجع إلى إتقان العبادات، ومراعاة حقوق الله تعالى فيها، ومراقبته، واستحضار عظمته، وجلاله حالةَ الشروع، وحالة الاستمرار فيها. وأرباب القلوب في هذه المراقبة على حالين: [أحدهما]: غالب عليه مشاهدة الحقّ، فكأنه يراه، ولعلّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أشار إلى هذه الحالة بقوله: "وجُعلت قُرّة عيني في الصلاة" (¬1)، رواه أحمد، والنسائيّ. [وثانيهما]: لا ينتمي إلى هذه الحالة، لكن يغلب عليه أن الحقّ سبحانه وتعالى مطّلع عليه، ومشاهد له، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ في السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 218 - 219] وبقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ في شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61]، وهاتان الحالتان ثمرة معرفة الله تعالى، وخشيته، ولذلك فسّر الإحسان في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- بقوله: "أن تخشى الله كأنك تراه"، فعبّر عن المسبب باسم السبب توسّعًا، والألف واللام اللذان في "الإحسان" المسؤول عنه للعهد، وهو الذي ¬

_ (¬1) كان في نسخة القرطبيّ: "وجعلت قرة عيني في عبادة ربي"، والذي في مسند أحمد 3/ 128 و 199 و 285 و"سنن النسائي" 7/ 62 بلفظ: "وجعلت قرة عيني في الصلاة"، فليُتنبّه.

قال الله تعالى فيه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} الآية [يونس: 26]، وقوله: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] وقوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]. ولمّا تكرّر الإحسان في القرآن، وترتّب عليه هذا الثواب العظيم، سأل عنه جبريل النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فأجابه ببيانه؛ ليعمل الناس عليه، فيحصل لهم هذا الحظّ العظيم. انتهى (¬1). (قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (أَنْ تَعْبُدَ اللَّه) "أن" مصدريّة، والجملة في تأويل المصدر خبر لمحذوف: أي هو عبادة الله تعالى (كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنَّكَ إن لا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ) ولفظ مسلم: "فإن لم تكن تراه، فإنه يراك". قال في "الفتح": أشار في الجواب إلى حالتين، أرفعهما أن يغلب عليه مشاهدة الحق بقلبه، حتى أنه يراه بعينه، وهو قوله: "كأنك تراه": أي وهو يراك، والثانية أن يستحضر أن الحق مُطّلِع عليه، يَرَى كل ما يعمل، وهو قوله: "فإنه يراك"، وهاتان الحالتان يثمرهما معرفة الله، وخشيته، وقد عبر في رواية عمارة بن القعقاع بقوله: "أن تخشى الله كأنك تراه"، وكذا في حديث أنس -رضي الله عنه-. وقال النووي: معناه إنك إنما تراعي الآداب المذكورة، إذا كنت تراه ويراك؛ لكونه يراك، لا لكونك تراه، فهو دائما يراك، فأحسن عبادته، وإن لم تره، فتقدير الحديث: فإن لم تكن تراه، فاستمر على إحسان العبادة، فإنه يراك، قال: وهذا القدر من الحديث أصل عظيم، من أصول الدين، وقاعدة مهمة من قواعد المسلمين، وهو عمدة الصديقين، وبغية السالكين، وكنز العارفين، ودأب الصالحين، وهو من جوامع الكلم التي أوتيها -صلى الله عليه وسلم-، وقد ندب أهل التحقيق إلى مجالسة الصالحين؛ ليكون ذلك مانعا من التلبس بشيء من النقائص؛ احتراما، واستحياء منهم، فكيف بمن لا يزال الله مطلعا ¬

_ (¬1) راجع "المفهم" 1/ 143 - 144.

عليه، في سره وعلانيته. انتهى. وقد سبق إلى أصل هذا القاضي عياض وغيره. [تنبيه]: دلّ سياق الحديث على أن رؤية الله في الدنيا بالأبصار غير واقعة، وأما رؤية النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ليلة المعراج فذاك لدليل آخر، وقد صرّح مسلم في روايته من حديث أبي أُمامة -رضي الله عنه- بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "واعلموا أنكم لن تروا ربّكم حتى تموتوا" (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا قيل، ومسألة رؤية النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ربه ليلة المعراج، قد وقع فيها خلاف، فأنكرته عائشة، وجاء مثله عن أبي هريرة، وجماعة -رضي الله عنهم-، وهو المشهور عن ابن مسعود، وإليه ذهب جماعة من المحدثين والمتكلّمين، وروي عن ابن عباس أنه رآه بعينه، ومثله عن أبي ذرّ، وكعب -رضي الله عنهم- والحسن وكان يحلف على ذلك، وحكي مثله عن ابن مسعود، وأبي هريرة، وأحمد بن حنبل، وتوقّف فيه بعضهم، وقال: ليس عليه دليل واضح، ولكنه جائزٌ (¬2)، والاستدلال لهذه الأقوال يحتاج إلى مزيد بسط، والذي يظهر لي أن التوقّف أسلم؛ لعدم ما يُقطع به لأحد الأقوال، ولحديث مسلم المذكور. والله تعالى أعلم. قال في "الفتح": أقدم بعض غلاة الصوفيّة على تأويل الحديث بغير علم، فقال: فيه إشارة إلى مقام المحو والفناء، وتقديره: فإن لم تكن: أي فإن لم تصر شيئًا، وفَنِيتَ عن نفسك حتى كأنك لست بموجود، فإنك حينئذ تراه، وغفل قائل هذا للجهل بالعربيّة عن أنه لو كان المراد ما زعم لكان قوله: "تراه" محذوف الألف؛ لأنه يصير مجزومًا؛ لكونه على زعمه جواب الشرط، ولم يَرِد في شيء من طرق هذا الحديث بحذف الألف، ومن ادّعى إثباتها في الفعل المجزوم على خلاف القياس، فلا يُصار إليه، إذ لا ضرورة هنا. وأيضًا فلو كان ما ادّعاه صحيحًا لكان قوله: "فإنه يراك" ضائعًا؛ لأنه لا ارتباط له بما قبله. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في "كتاب الفتن" في حديث الدجال الطويل، برقم (2931) بلفظ: "تعلّموا أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت". (¬2) راجع "شرح النوويّ لصحيح مسلم" 3/ 4.

ومما يُفسد تأويله رواية كهمس عند مسلم وابن ماجه، فإن لفظها: "فإنك إن لا تراه، فإنه يراك"، وكذلك في رواية سليمان التيميّ، فسلّط النفي على الرؤية، لا على الكون الذي حمل على ارتكاب التأويل المذكور. وفي رواية أبي فروة: "فإن لم تره، فإنه يراك"، ونحوه في حديث أنس، وابن عبّاس -رضي الله عنهم-، وكلّ هذا يُبطل التأويل المتقدّم. انتهى ما في "الفتح" (¬1). وهو بحث نفيسٌ جدّا. والله تعالى أعلم. (قَالَ) الرجل السائل (فَمَتَى السَّاعَةُ؟) أي متى تقوم الساعة؟ وقد صرّح به في رواية عمارة بن القعقاع، واللام للعهد، والمراد يوم القيامة (¬2). وقال القرطبيّ: الساعة: هي في أصل الوضع: مقدارٌ من الزمان، غير معيّن، ولا محدود؛ لقوله تعالى: {مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55] وفي عرف الشرع: عبارة عن يوم القيامة، وفي عرف المعدّلين (¬3): جزء من أربعة وعشرين جزءًا من أوقات الليل والنهار انتهى (¬4). (قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا) "ما" نافيةٌ، وزاد في حديث أبي هريرة، وأبي ذرّ رضي الله عنهما الآتي: "قال: فنكّس، فلم يُجبه شيئًا، ثم أعاد، فلم يُجبه شيئًا، ثم أعاد، فلم يجبه شيئًا، ورفع رأسه، فقال: ما المسؤول ... " (بِأَعْلَمَ) هذا وإن كان مشعرا بالتساوي في العلم، لكن المراد التساوي في العلم بأن الله تعالى استأثر بعلمها؛ لقوله بعدُ: "في خمس لا يعلمها إلا الله". وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فقال: "سبحان الله، خمس من الغيب، لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا الآية". (مِنَ السَّائِلِ) متعلّق بـ "أعلم"، وإنما عدل عن قوله: لست بأعلم منك، إلى لفظٍ يُشعر بالتعميم؛ تعريضا للسامعين: أي أن كل مسئول، وكل سائل، فهو كذلك. ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 1/ 164 - 165. (¬2) راجع "الفتح" 1/ 165. (¬3) "المعدّلون": هم المشتغلون بالحساب، وتقدير الزمن. انتهى من هامش "المفهم" 1/ 147. (¬4) راجع "المفهم" 1/ 147.

[فائدة]: هذا السؤال والجواب، وقع بين عيسى ابن مريم وجبريل عليهم الصلاة والسلام، لكن كان عيسى سائلا، وجبريل مسؤولا، قال الحميدي، في "نوادره": حدثنا سفيان، حدثنا مالك بن مِغْول، عن إسماعيل بن رجاء، عن الشعبي، قال: سأل عيسى ابن مريم جبريل، عن الساعة؟ قال: فانتفض بأجنحته، وقال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل". ذكره في "الفتح" (¬1). (قَالَ) السائل (فَمَا أَمَارَتُهَا؟) هكذا في حديث عمر -رضي الله عنه- أن السائل هو الذي سأله -صلى الله عليه وسلم-: عن أماراتها، لكن وقع في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عند البخاريّ في "الإيمان": "وسأخبرك عن أشراطها"، وفي "التفسير": "ولكن سأحدثك"، وفي رواية للنسائيّ: "ولكن لها علامات، تعرف بها". ويجمع بين هذه الاختلافات بأنه -صلى الله عليه وسلم- ابتدأ بقوله: "وسأخبرك"، فقال له السائل: "فأخبرني"، ويدل على ذلك رواية سليمان التيمي، ولفظها: "ولكن إن شئت، نَبّأتك عن أشراطها، قال: أجل"، ونحوه في حديث ابن عباس، وزاد: "فحدثني". ويُستفاد من اختلاف الروايات: أن التحديث، والإخبار، والإنباء، بمعنى واحد، وإنما غاير بينها أهل الحديث اصطلاحا. و"الأمارات": جمع أمارة بالفتح، كالعلامة وزنًا ومعنًى. و"الأشراط" -بفتح الهمزة- جمع شَرَط -بفتحتين- كقَلَم وأَقْلام: هي الأمارات، والعلامات، ومنه قوله تعالى: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18] وبها سُمّي الشُّرَط؛ لأنهم يُعلّمون أنفسهم بعلامات يُعرفون بها. وإنما اقتصر على هذا النوع من أمارات الساعة، وإن كانت أماراتها كثيرة، كطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدجال، ونزول عيسى عليه السلام، وغير ذلك؛ لأن تلك الأمارات مقارِنة لها، أو مضايقة، والمراد هنا العلامات السابقة على ذلك. ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 1/ 166.

وقال القرطبي: وقد اقتصر في هذا الحديث على ذكر بعض الأشراط التي يكون وقوعها قريبًا من زمانه، وإلا فالشروط كثيرة، وهي أكثر مما ذُكر هنا، كما دلّ عليه الكتاب والسنّة، ثم إنها منقسمة إلى ما يكون من نوع المعتاد، كهذه الأشراط المذكورة في هذا الحديث، وكرفع العلم، وظهور الجهل، وكثرة الزنا، وشرب الخمر إلى غير ذلك، وأما التي ليست من النوع المعتاد، فكخروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم، وخروج يأجوج ومأجوج، ودابة الأرض، وطلوع الشمس من مغربها، والدخان، والنار التي تسوق الناس، وتحشرهم (¬1). قَالَ -صلى الله عليه وسلم- (أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا) هو في تأويل المصدر خبر لمحذوف: أي هي: أي الأمارات ولادة الأمة ربتها. قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: الأمة هنا: هي الجارية المستولدة، وربّها سيّدها، وقد سُمّي بعلًا في الرواية الأخرى، كما سمّاه الله تعالى بعلًا في قوله تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} [الصّافّات: 125] في قول ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، وحُكي عنه أنه قال: لم أدر ما البعل؟ حتى قلت لأعرابيّ: لمن هذه الناقة؟ فقال: أنا بعلها، وقد سُمي الزوج بعلًا، ويُجمع على بُعُولة، كما قال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ} [البقرة: 228]، {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود: 72]. و"ربّتها": تأنيث ربّ. انتهى (¬2). وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عند البخاريّ بلفظ: "إذا ولدت الأمة ربها"، بالتذكير، قال في "الفتح": وفي "التفسير": "ربتها" بتاء التأنيث، وكذا في حديث عمر، ولمحمد بن بشر مثله، وزاد: "يعني السرارى"، وفي رواية عمارة بن القعقاع: "إذا رأيت المرأة تلد ربها"، ونحوه لأبي فَرْوة، وفي رواية عثمان بن غياث: "الإماء أربابهن" بلفظ الجمع، ¬

_ (¬1) راجع "المفهم" 1/ 155. (¬2) راجع "المفهم" 1/ 148.

والمراد بالرب: المالك، أو السيد. وقال أيضًا: "التعبير بـ "إذا" للإشعار بتحقق الوقوع، ووقعت هذه الجملة بيانا للأشراط، نظرًا إلى المعنى، والتقدير: ولادةُ الأمة، وتطاول الرعاة. [فإن قيل]: الأشراط جمع، وأقله ثلاثة على الأصح، والمذكور هنا اثنان، أجاب الكرماني بأنه قد تستقرض القلة للكثرة، وبالعكس، أو لأن الفرق بالقلة والكثرة، إنما هو في النكرات، لا في المعارف، أو لفقد جمع الكثرة للفظ "الشرط". قال الحافظ: وفي جميع هذه الأجوبة نظر، ولو أُجيب بأن هذا دليل القول الصائر إلى أن أقل الجمع اثنان، لمَا بَعُد عن الصواب، والجواب المرضيّ أن المذكور من الأشراط ثلاثة، وإنما بعض الرواة اقتصر على اثنين منها؛ لأنه هنا -يعنى في حديث أبي هريرة عند البخاريّ في "الإيمان"، ومثله في حديث عمر عند النسائيّ هنا- ذكر الولادة، والتطاول، وفي "التفسير" ذكر الولادة، وتَرَؤُّس الحفاة، وفي رواية محمد بن بشر التي أخرج مسلم إسنادها، وساق ابن خزيمة لفظها، عن أبي حيان، ذكر الثلاثة، وكذا في "مستخرج الإسماعيلي"، من طريق ابن علية، وكذا ذكرها عُمارة بن القعقاع، ووقع مثل ذلك في حديث عمر -رضي الله عنه-، ففي رواية كهمس -يعني رواية ابن ماجه هنا- ذكر الولادة والتطاول فقط، ووافقه عثمان بن غياث، وفي رواية سليمان التيمي ذكر الثلاثة، ووافقه عطاء الخراساني، وكذا ذُكِرت في حديث ابن عباس، وأبي عامر -رضي الله عنهم-. انتهى "فتح" 1/ 166 - 167. (قَالَ وَكِيعٌ) هو ابن الجرّاح الراوي عن كهمس مفسّرًا لقوله: "أن تلد الأمة ربتها" (يَعْنِي تَلِدُ الْعَجَمُ الْعَرَبَ) هذا التفسير الذي ذكره المصنّف عن وكيع رحمه الله أحد التفاسير التي ذكرت في هذا الحديث، وهي أربعة أقوال: [الأول]: قال الخطابي: معناه اتساع الإسلام، واستيلاء أهله على بلاد الشرك، وسبي ذراريهم، فإذا ملك الرجل الجارية، واستولدها، كان الولد منها بمنزلة ربها؛ لأنه ولد سيدها. قال النووي، وغيره: إنه قول الأكثرين. قال الحافظ: لكن في كونه المراد

نظر؛ لأن استيلاد الإماء كان موجودا، حين المقالة، والاستيلاء على بلاد الشرك، وسبي ذراريهم، واتخاذهم سراريّ، وقع أكثره في صدر الإسلام، وسياق الكلام يقتضي الإشارة إلى وقوع ما لم يقع، مما سيقع قرب قيام الساعة. قال: وقد فسره وكيع في رواية ابن ماجه، بأخصّ من الأول، قال: أن تلد العجم العرب، ووجهه بعضهم بأن الإماء، يلدن الملوك، فتصير الأم من جملة الرعية، والملك سيد رعيته، وهذا لإبراهيم الحربي، وقَرَّبَهُ بأن الرؤساء في الصدر الأول، كانوا يستنكفون غالبا من وطء الإماء، ويتنافسون في الحرائر، ثم انعكس الأمر، ولا سيما في أثناء دولة بني العباس، ولكن رواية: "ربتها" بتاء التأنيث، قد لا تساعد على ذلك، ووجهه بعضهم بأن إطلاق ربتها على ولدها مجاز؛ لأنه لما كان سببا في عتقها بموت أبيه، أطلق عليه ذلك، وخصه بعضهم بأن السبي إذا كثر، فقد يُسبَى الولد أولا، وهو صغير، ثم يُعتَق، ويكبر، ويصير رئيسا، بل ملكا، ثم تُسبى أمه فيما بعدُ، فيشتريها عارفا بها، أو وهو لا يشعر أنها أمه، فيستخدمها، أو يتخذها موطوءة، أو يُعتقها ويتزوجها، وقد جاء في بعض الروايات: "أن تلد الأمة بَعْلها"، وهي عند مسلم، فتُحمل على هذه الصورة، وقيل: المراد بالبعل المالك، وهو أولى؛ لتتفق الروايات. [الثاني]: أن تبيع السادة أمهات أولادهم، ويكثر ذلك، فيتداول الملاك المستولدة، حتى يشتريها ولدها، ولا يشعر بذلك، وعلى هذا فالذي يكون من الأشراط غلبة الجهل بتحريم بيع أمهات الأولاد، أو الاستهانة بالأحكام الشرعية. [فإن قيل]: هذه المسألة مختلف فيها، فلا يصلح الحمل عليها؛ لأنه لا جهل، ولا استهانة عند القائل بالجواز. [قلنا]: يصلح أن يحمل على صورة اتفاقية، كبيعها في حال حملها، فإنه حرام بالإجماع. [الثالث]: وهو من نمط الذي قبله، قال النووي: لا يختص شراء الولد أمه بأمهات الأولاد، بل يُتصور في غيرهن، بأن تلد الأمة حرا من غير سيدها، بوطء شبهة، أو رقيقا بنكاح، أو زنا، ثم تباع الأمة في الصورتين بيعا صحيحا، وتدور في الأيدي،

حتى يشتريها ابنها، أو ابنتها، ولا يعكُر على هذا تفسير محمد بن بشر، بأن المراد السراري؛ لأنه تخصيص بغير دليل. [الرابع]: أن يكثر العقوق في الأولاد، فيعامل الولد أمه، معاملة السيد أمته، من الإهانة بالسب، والضرب، والاستخدام، فأطلق عليه ربها مجازا لذلك، أو المراد بالرب المربي، فيكون حقيقة. قال الحافظ: وهذا أَوْجَهُ الأَوْجُه عندي؛ لعمومه، ولأن المقام يدل على أن المراد حالة، تكون مع كونها تدل على فساد الأحوال، مستغربةَ. ومُحَصَّله الإشارة إلى أن الساعة، يقرب قيامها عند انعكاس الأمور، بحيث يصير المُرَبَّى مُرَبِّيًا، والسافل عاليا، وهو مناسب لقوله في العلامة الأخرى: "أن تصير الحفاة ملوك الأرض". (وَأَنْ ترَى الْحُفَاةَ) بالضمّ: جمع حاف، وهو الذي لا يلبس في رجله شيئًا (الْعُرَاةَ) بالضمّ أيضًا: جمه عار: وهو الذي لا يلبس على جسده ثوبًا (الْعَالَةَ) بتخفيف اللام: جمع عائل، وهو الفقير، والعَيْلة: الفقر، يقال: عال الرجل يَعِيل عَيْلةً: إذا افتقر، وأعال يُعيل: إذا كثُر عياله (رِعَاءَ الشَّاءِ) بالكسر: جمع راع، وأصل الرعي: الحفظ، و"الشاء": جمع شاة، وهو من الجمع الذي يفرّق بينه وبين واحده بالهاء، وهو كثير فيما كان خِلْقةً لله تعالى، كشجرة وشجر، وثمرة وثمر، وإنما خصّ رعاء الشاء بالذكر؛ لأنهم أضعف أهل البادية. قاله القرطبيّ (¬1). وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- الآتي: "إذا رأيت الرعاء البهم"، وعند البخاريّ: "وإذا تطاول رعاة الإبل البهم". قال في "الفتح": قوله: "تطاول": أي تفاخروا في تطويل البنيان، وتكاثروا به. قوله: "رعاة الإبل": هو بضم الراء جمع راع، كقضاة وقاض. و"البهم": بضم الموحدة، ووقع في رواية الأصيلي بفتحها، ولا يتجه مع ذكر الإبل، وإنما يتجه مع ذكر الشياه، أو ¬

_ (¬1) راجع "المفهم" 1/ 15.

مع عدم الإضافة، كما في رواية مسلم: "رعاء البهم"، وميم "البهم" في رواية البخاري، يجوز ضمها على أنه صفة "الرعاة"، ويجوز الكسر على أنها صفة "الإبل"، يعني الإبل السُّود، وقيل: إنها شر الألوان عندهم، وخيرها الأحمر التي ضرب بها المثل، فقيل: "خير من حمر النعم"، ووصف الرعاة بالبهم: إما لأنهم مجهولو الأنساب، ومنه أُبهِم الأمر، فهو مبهم: إذا لم تعرف حقيقته. انتهى. وقال القرطبي و"البهم" بفتح الباء-: جمع بهيمة، وأصلها صغار الضأن والمعز، وقد يختصّ بالمعز، وأصله من استبهم عن الكلام، ومنه البهيمة. ووقع في البخاريّ: "رعاة الإبل البهم" -بضم الباء-: جمع أبهم، وهو الأسود الذي لا يُخالطه لون آخر، وقُيّدت ميم البهم بالكسر، والضمّ، فمن كسرها جعلها صفة للإبل، ومن رفعها جعلها صفة للرعاء. وقيل: معناه لا شيء لهم، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: "يُحشَر الناس حُفاة، عُراة، بُهما"، قال: وهذا التأويل فيه نظر، لأنه قد نسب له إبلًا، وظاهرها الملك. وقال الخطّابيّ: هو جمع بهيم، وهو المجهول الذي لا يُعرف. قال: والأولى أن يُحمَل على أنهم سُود الألوان؛ لأن الأُدْمة غالبة على ألوانهم. انتهى كلام القرطبيّ. وأجاب الحافظ عن قول القرطبيّ: فيه نظر الخ بأنه يُحمل على أنها إضافة اختصاص، لا ملك، وهذا هو الغالب أن الراعي يرعى لغيره بالأجرة، وأما المالك، فقَلَّ أن يباشر الرعي بنفسه. انتهى. وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: "وإذا رأيت الحفاة العراة الصمّ البكم ملوك الأرض". وقيل لهم: ذلك مبالغةً في وصفهم بالجهل: أي لم يستعملوا أسماعهم، ولا أبصارهم في شيء من أمر دينهم، وإن كانت حواسهم سليمة. والمراد بهؤلاء: هم أهل البادية، كما صرح به في رواية سليمان التيمي وغيره، قال: "ما الحفاة العراة؟ "، قال: "الْعُرَيب"، وهو بالعين المهملة على التصغير، وفي الطبراني من طريق أبي جمرة، عن ابن عباس، مرفوعا: "من انقلاب الدين تَفَصُّح النَّبَط،

واتخاذهم القصور في الأمصار". وقال القرطبيّ: وقد وصفهم في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- بأنهم صمّ بُكم، عُميٌ، ويعني بذلك -والله تعالى أعلم- أنهم جَهَلةٌ رعاع، لم يستعملوا أسماعهم، ولا كلامهم في علم، ولا في شيء من أمر دينهم، وهذا نحو قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171] أطلق ذلك عليهم، مع أنهم كانت لهم أسماع، وأبصارٌ، ولكنهم لمّا لم تحصُل لهم ثمرات تلك الإدراكات، صاروا كأنهم عَدِموا أصلها، وقد أوضح هذا المعنى قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]. قال: ومقصود هذا الحديث: الإخبارُ عن تبدل الحال، وتغيّره، بأن يستولى أهل البادية الذين هذه صفاتهم على أهل الحاضرة، ويتملكوا بالقهر والغلبة، فتكثر أموالهم، وتتسع في حُطام الدنيا آمالهم، فتنصرف هممهم إلى تشييد المباني، وهدم الدين، وشريف المعاني، وأن ذلك إذا وُجد، كان من أشراط الساعة، ويؤيد هذا ما ذُكر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تقوم الساعة، حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لُكَع ابن لُكَع"، ومنه الحديث الآخر، ومنه: "إذا وُسِّد الأمر": أي أُسند- "إلى غير أهله، فانتظروا الساعة"، وهو في الصحيح، وقد شُوهد هذا كلّه عيانًا في هذا الزمان، فكان ذلك على صدق رسول الله، وعلى قرب الساعة، حجةً، وبرهانًا. انتهى كلام القرطبيّ ببعض تصرّف (¬1). (يَتَطَاوَلُونَ في البناء) أي يتفاخرون في تطويل البناء، ويتكاثرون به. (قَالَ) الظاهر أن الضمير لابن عمر رضي الله عنهما (ثم قال) أي عُمَرُ بن الخطّاب -رضي الله عنه- (فَلَقِيَنِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ ثَلَاثٍ) أي بعد ثلاث ليال. وفي رواية النسائيّ: "قال عمر: فلبثت ثلاثًا"، وهو بكسر الباء الموحّدة: أي ¬

_ (¬1) راجع "المفهم" 1/ 150 - 151.

مكثتُ، يقال: لبِث بالمكان لَبَثًا، من باب تعب، وجاء في المصدر السكون للتخفيف، واللَّبْثة بالفتح: المرّة، وبالكسر: الهيئة، والنوع، والاسم: اللُّبْث بالضمّ، واللَّبَاث. قاله في "المصباح" (ثَلَاثًا) أي ثلاث ليال. وفي رواية مسلم: "فلبثت مليّا"، قال النوويّ: معنى: "مليّا" بتشديد الياء: وقتًا طويلًا، وفي رواية أبي داود، والترمذيّ أنه قال ذلك بعد ثلاث، وفي "شرح السنّة" للبغويّ: "بعد ثالثة"، وظاهر هذا أنه بعد ثلاث ليال، وفي ظاهر هذا مخالفة لقوله في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- بعد هذا: "ثم أدبر الرجل، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رُدُّوا عليّ الرجلَ، فأخذوا ليردّوه، فلم يروا شيئًا، فقال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: هذا جبريل ... الحديث. فيحتمل الجمع بينهما أن عمر -رضي الله عنه- لم يحضر قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لهم في الحال، بل كان قد قام من المجلس، فأخبر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- الحاضرين في الحال، وأخبر عمر -رضي الله عنه- بعد ثلاث، إذ لم يكن حاضرًا وقت إخبار الباقين. انتهى كلام النوويّ (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الجمع هو الأحسن، وسيأتي وجه آخر في الجمع في عبارة الفتح" قريبًا، إن شاء الله تعالى. (فَقَالَ: "أَتَدْرِي) أي أتعلم (مَنِ الرَّجُلُ؟) وفي رواية مسلم: "من السائل؟ " (قُلْتُ: اللَّه وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (ذَاكَ جِبْرِيلُ) عليه السلام (أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ مَعَالم دِينِكُمْ) بفتح الميم جمع مَعلَم، قال في "القاموس": مَعْلَم الشيء كمَقْعَد: مَظِنّته، وما يُستدلّ به، كالْعُلَّامَة، كرُمَّانَة. انتهى (¬2). والمراد به هنا أمور الدين، وفي رواية مسلم: "ليعلّمكم دينكم"، وللنسائيّ: "أمر دينكم": أي قواعد دينكم، أو كلّيّات دينكم. وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "هذا جبريل جاء يعلّم الناس دينهم". وللإسماعيلي: "أراد أن تعلموا، إذ لم تسألوا"، وفي رواية للنسائيّ: "والذي بعث ¬

_ (¬1) راجع "شرح مسلم" 1/ 160. (¬2) "القاموس" ص 1028.

محمدا بالحق، ما كنت بأعلم به من رجل منكم، وإنه لجبريل"، وفي حديث أبي عامر: "ثم وَلَّى، فلما لم نر طريقه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: سبحان الله، هذا جبريل، جاء ليعلم الناس دينهم، والذي نفس محمد بيده، ما جاءني قط، إلا وأنا أعرفه إلا أن تكون هذه المرة"، وفي رواية سليمان التيمي: "ثم نَهَض، فوَلَّى، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "علي بالرجل"، فطلبناه كل مطلب، فلم نقدر عليه، فقال: "هل تدرون من هذا؟ هذا جبريل، أتاكم ليعلمكم دينكم، خذوا عنه، فوالذي نفسي بيده، ما شُبِّه عليّ منذ أتاني، قبل مرتي هذه، وما عرفته حتى وَلَّى"، قال ابن حبان تفرد سليمان التيمي بقوله: "خذوا عنه". قال الحافظ: وهو من الثقات الأثبات، وفي قوله: "جاء ليعلم الناس دينهم": إشارة إلى هذه الزيادة، فما تفرد إلا بالتصريح، وإسناد التعليم إلى جبريل مجازيّ؛ لأنه كان السبب في الجواب، فلذلك أمر بالأخذ عنه. واتفقت هذه الروايات على أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أخبر الصحابة بشأنه، بعد أن التمسوه، فلم يجدوه، وأما ما وقع عند مسلم، وغيره، من حديث عُمَر -رضي الله عنه -رواية كهمس: "ثم انطلق، قال عمر: فلبثت، ثم قال: يا عمر، أتدري من السائل؟، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل". فقد جَمَع بين الروايتين بعضُ الشراح بأن قوله: "فلبثت مليّا": أي زمانا بعد انصرافه، فكأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعلمهم بذلك، بعد مضيّ وقت، ولكنه في ذلك المجلس، لكن يَعكُر على هذا الجمع قوله في رواية النسائي، والترمذي: "فلبثت ثلاثا"، لكن ادَّعَى بعضهم فيها التصحيف، وأن "مليا" صُغّرت ميمها، فاشبهت "ثلاثا"، لأنها تكتب بلا ألف، وهذه الدعوى مردودة، فإن في رواية أبي عوانة: فلبثنا ليالي، فلقيني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بعد ثلاث"، ولابن حبان: "بعد ثالثة"، ولابن منده: "بعد ثلاثة أيام". وجمع النووي بين الحديثين بأن عمر، لم يحضر قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، في المجلس، بل كان ممن قام، إما مع الذين توجهوا في طلب الرجل، أو لشغل آخر، ولم يرجع مع من رجع؛ لعارض عَرَض له، فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- الحاضرين في الحال، ولم يتفق الإخبار لعمر، إلا بعد

ثلاثة أيام، ويدل عليه قوله: "فلقيني"، وقوله: فقال لي: "يا عمر"، فوجه الخطاب له وحده، بخلاف إخباره الأول، وهو جمع حسن. قاله في "الفتح" (¬1). [تنبيه]: دلت الروايات التي تقدّم ذكرها، على أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ما عرف أنه جبريل، إلا في آخر الحال، وأن جبريل أتاه في صورة رجل، حسن الهيئة، لكنه غير معروف لديهم، وأما ما وقع في رواية النسائي، من طريق أبي فروة، في آخر الحديث: "وإنه لجبريل نزل في صورة دحية الكلبي"، فإن قوله: "نزل في صورة دحية الكلبي"، وَهَمٌ؛ لأن دحية معروف عندهم، وقد قال عمر -رضي الله عنه-: ما يعرفه منا أحد، وقد أخرجه محمد بن نصر المروزي في "كتاب الإيمان" له من الوجه الذي أخرجه منه النسائي، فقال في آخره: "فإنه جبريل، جاء ليعلمكم دينكم"، حَسْبُ، وهذه الرواية هي المحفوظة؛ لموافقتها باقي الروايات. قاله في "الفتح" (¬2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- هذا أخرجه مسلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (9/ 63) بهذا السند فقط، وأخرجه (مسلم) في "الإيمان" (1/ 29 و 30) و (أبو داود) في "السنّة" (4695) و (الترمذيّ) في "الإيمان" (2610)، و (النسائيّ) في "الإيمان" (8/ 97) و (ابن أبي شيبة) في "مصنفه" (11/ 44 و 45) و (أحمد) في "مسنده" (1/ 27 و 28 و51 و 52 و 2/ 107) و (البخاريّ) في "خلق أفعال العباد" (26) و (ابن منده) في "الإيمان" (1 و 2 و 3 و 4 و 5 و 6 و 8 و 9 و 10 و11 و 12 و 13 و 185 و 186)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه" (2504)، و (ابن حبّان) في ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 1/ 170. (¬2) راجع "الفتح" 1/ 170 - 171.

"صحيحه" (167) و (173)، و (البغويّ) في "شرح السنة" 2، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان أمور الإيمان، ووجه ذلك أننا قدّمنا في أول "باب الإيمان" أن غرض المصنّف رحمه الله بيان حقيقة الإيمان، وشعبه، وأنه قول وفعل، ويزيد وينقص، وغير ذلك مما اشتملت عليه الأحاديث التي ساقها في الباب. 2 - (ومنها): أن فيه أن الملك يجوز أن يتمثل لغير النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيراه، ويتكلم بحضرته، وهو يسمع، وقد ثبت عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما أنه كان يسمع كلام الملائكة. 3 - (ومنها): أنّ فيه دليلًا على أن الله تعالى مَكّن الملائكة من أن يتمثّلوا فيما شاءوا من صور بني آدم، كما نصّ الله عز وجل على ذلك في قوله تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17] وقد كان جبريل عليه السلام يتمثّل للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- في صورة دحية بن خليفة الكلبيّ -رضي الله عنه-، وقد كان لجبريل صورة خاصّة، خُلق عليها، لم يره النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عليها غير مرّتين، كما صحّ الحديث بذلك (¬1). 4 - (ومنها): استحباب تحسين الثياب والهيئة، والنظافة عند الدخول على العلماء، والفضلاء، والملوك، فإن جبريل عليه السلام أتى معلّمًا للناس، كما أخبر به النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فيكون تعليمه بحاله، ومقاله. 5 - (ومنها): ابتداء الداخل بالسلام على جميع من دخل عليهم، وإقباله على رئيس القوم، فإن جبريل عليه السلام قال: "السلام عليكم"، فعمّ، ثم قال: "يا محمد"، فخصّ. 6 - (ومنها): جواز الاستئذان في القرب من الإمام مرارًا، وإن كان الإمام في موضع مأذون في دخوله. ¬

_ (¬1) راجع "المفهم" 1/ 152.

7 - (ومنها): ترك الاكتفاء بالاستئذان مرّة، أو مرّتين على جهة التعظيم، والاحترام. 8 - (ومنها): جواز اختصاص العالم بموضع مرتفع من المسجد، إذا دعت الحاجة إلى ذلك، لضرورة التعليم، أو غيره؛ لما في رواية النسائيّ: "فبنينا له دكّانًا من طين، كان يجلس عليه". 9 - (ومنها): أنه ينبغي لمن حضر مجلس العالم إذا علم بأهل المجلس حاجةً إلى مسألة، لا يسألون عنها، أن يسأل هو عنها؛ ليحصل الجواب للجميع. 10 - (ومنها): أنه ينبغي للعالم أن يرفق بالسائل، ويُدنيه منه؛ ليتمكّن من سؤاله، غير هائب، ولا منقبض، وأنه ينبغي للسائل أن يرفق في سؤاله. 11 - (ومنها): أنه ينبغي للعالم إذا سئل عما لا يعلم، أن يصرح بأنه لا يعلمه، ولا يكون في ذلك نقص من مرتبته، بل يكون ذلك دليلا على مزيد ورعه. قاله النوويّ رحمه الله تعالى. 12 - (ومنها): نسبة العلم إلى الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- في حياته، وأما بعد وفاته، فنقول: الله أعلم؛ لحديث: "لَيَرِدّن عليّ -يعني الحوض- أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يُحال بيني وبينهم، قال: فأقول: إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ... " الحديث. 13 - (ومنها): أنه -صلى الله عليه وسلم- لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله تعالى، بل علم الغيب مما استأثر الله تعالى به، قال عز وجل: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} الآية [النمل: 65]. 14 - (ومنها): أن بعضهم استدلّ به على تحريم بيع أمهات الأولاد، وغلّطوه في ذلك، قال النووي في "شرح مسلم": ليس فيه دليل على تحريم بيع أمهات الأولاد، ولا على جوازه، وقد غَلِطَ مَنِ استَدَلَّ به لكلٍّ من الأمرين؛ لأن الشيء إذا جُعل علامةً على شيء آخر، لا يدل على حظر، ولا إباحة.

15 - (ومنها): أن فيه إطلاق الرب على السيد المالك، لكن قد ورد النهي عن ذلك، وقد أجيب عن ذلك، قال في "الفتح": يُجمَع بين ما في هذا الحديث، من إطلاق الرب على السيد المالك، في قوله: "ربها"، وبين ما في الحديث الآخر، وهو في "الصحيح": "لا يَقُل أحدكم: أطعم ربك، وَضِّىء ربك، اسق ربك، وليقل: سيدي، ومولاي"، بأن اللفظ هنا خرج على سبيل المبالغة، أو المراد بالرب هنا المربي، وفي المنهي عنه السيد، أو أن النهي عنه متأخر، أو مختص بغير الرسول -صلى الله عليه وسلم-. انتهى (¬1). 16 - (ومنها): ما قاله القرطبي رحمه الله تعالى: مقصود هذا السؤال كَفُّ السامعين عن السؤال، عن وقت الساعة؛ لأنهم قد أكثروا السؤال عنها، كما ورد في كثير من الآيات، والأحاديث، فلما حصل الجواب بما ذُكر هنا، حصل اليأس من معرفتها، بخلاف الأسئلة الماضية، فإن المراد بها استخراج الأجوبة، ليتعلمها السامعون، ويعملوا بها، ونبه بهذه الأسئلة على تفصيل ما يمكن معرفته، مما لا يمكن. 17 - (ومنها): ما قاله ابن المُنَيِّر رحمه الله تعالى: في قوله: "يعلمكم دينكم"، دلالة على أن السؤال الحسن، يُسَمَّى علمًا، وتعليمًا؛ لأن جبريل عليه السلام لم يصدر منه سوى السؤال، ومع ذلك فقد سماه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- معلما، وقد اشتهر قولهم: حُسنُ السؤال نصف العلم، ويمكن أن يؤخذ من هذا الحديث؛ لأن الفائدة فيه انبنت على السؤال والجواب معا. 18 - (ومنها): ما قاله القرطبي رحمه الله تعالى: هذا الحديث يصلح، أن يقال له: أم السنة؛ لما تضمنه من جُمَل علم السنة، كما سُمّيت الفاتحة أم الكتاب؛ لِمَا تضمّنته من جُمل معاني القرآن. وقال الطيبي: لهذه النكتة استفتح به البغوي، كتابيه "المصابيح"، و"شرح السنة"؛ اقتداء بالقرآن في افتتاحه بالفاتحة؛ لأنها تضمنت علوم القرآن إجمالا. وقال القاضي عياض قد اشتمل هذا الحديث، على جميع وظائف العبادات، الظاهرة والباطنة، من عقود الإيمان، ابتداء، وحالا، ومآلا، ومن أعمال الجوارح، ومن ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 1/ 167 - 168.

إخلاص السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه، ومتشعبة منه. قال: وعلى هذا الحديث، وأقسامه الثلاثة، ألّفنا كتابنا الذي سمّيناه بـ "المقاصد الحسان فيما يلزم الإنسان"، إذ لا يشذّ شيء من الواجبات، والسنن، والرغائب، والمحظورات، والمكروهات عن أقسامه الثلاثة. انتهى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد ذكرت في "شرح النسائيّ" في هذا المحلّ مسائل مهمّة، فراجعها تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 64 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: "أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّه، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَلِقَائِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الْآخِرِ"، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهَ مَا الْإسْلَامُ؟ قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ، وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ"، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهَ مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّه كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإنَّكَ إِنْ لَا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ"، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا، إِذَا وَلَدَتِ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، فَذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَإِذَا تَطَاوَلَ رِعَاءُ الْغَنَمِ في الْبُنْيَانِ، فَذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، في خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلا اللَّه، فَتَلا رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا في الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. الآيَةَ" [لقمان: 34]). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد الحافظ الثقة [10] تقدّم في 1/ 1. 2 - (إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: إسماعيل بن إبراهيم الحافظ الثبت [8] تقدّم في 7/ 47.

3 - (أَبُو حَيَّانَ) -بمهملة مفتوحة، وتحتانيّة مشدّدة- هو: يحيى بن سعيد بن حَيّان التيميّ، من تيم الرَّبَاب، الكوفيّ، ثقة عابدٌ [6]. روى عن أبيه، وعمه يزيد بن حيان، وأبي زرعة بن عمرو بن جرير، والشعبي، والضحاك بن المنذر، وعَبَاية بن رِفَاعة بن رافع بن خَدِيج، وغيرهم. وروى عنه أيوب السختياني، ومات قبله، والأعمش، وهو من أقرانه، وشعبة، والثوري، ووهيب، وابن علية، وهشيم، وابن المبارك، ويحيى القطان، وابن فضيل، وأبو أسامة، ومحمد بن عبيد الطنافسي، وآخرون. قال الْخُرَيبيّ: كان أبو حيان عند سفيان الثوري -يعني كان يعظمه ويوثقه-. وقال محمد بن عمران الأخنسي عن محمد بن فضيل: ثنا أبو حيان التيمي، وكان صدوقًا. وقال ابن معين: ثقة. وقال العجليّ: ثقة صالح مُبَرِّز صاحب سنة. وقال أبو حاتم: صالح. وقال مسلم: كوفي من خيار الناس. وقال النسائيّ: ثقة ثبت. وقال الفلاس: ثقة. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة مأمون. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة خمس وأربعين ومائة، وكان من المتهجدين. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، برقم 64 و 160 و 2503 و 3307 و 4017 و 4044 و 4069. 4 - (أَبُو زُرْعَةَ) بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجليّ الكوفيّ، قيل: اسمه هَرِم. وقيل: عبد الله. وقيل: عبد الرحمن. وقيل: عمرو. قاله النسائي. وقيل: جرير. قاله الواقدي، ثقة [3]. رأى عليا، وروى عن جده، وأبي هريرة، ومعاوية، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وثابت بن قيس النخعي، وخَرَشَة بن الْحُرّ، وعبد الله بن يحيى الحضرمي، وأرسل عن عمر بن الخطاب، وأبي ذر. وروى عنه عمه إبراهيم بن جرير، وحفيداه: جرير، ويحيى ابنا أيوب بن أبي زرعة، وابن عمه جرير بن زيد، وإبراهيم النخعي، والحارث الْعُكْلي، وطلق بن

معاوية، وعبد الله بن شُبْرُمة الضبي، وأبو حيان التيمي، وعلي بن مُدْرِك، وغيرهم. قال الواقديّ: كان لجرير ابنٌ يقال له: عمرو، وبه كان يُكنَى، هلك في إمارة عثمان، فولد عمروٌ ابنًا سَمّاه جريرًا باسم أبيه، وغَلَب عليه أبو زرعة، رأى عليا، وكان انقطاعه إلى أبي هريرة، وسمع من جده أحاديث، وكان من علماء التابعين. قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال ابن خِرَاش: صدوق ثقة. وقال جرير عن عمارة بن القعقاع: قال لي إبراهيم: إذا حدثتني فحدثني عن أبي زرعة، فإني سألته عن حديثٍ مَا، سألته بعد ذلك بسنة أو سنتين، فما أَخْرَم منه حرفًا. وقال البخاري في "تاريخه": هَرِم أبو زرعة سمع ثابت بن قيس، وعنه الحسن بن عبيد الله. وقال في "الأوسط": قال لي علي بن عبد الله: هرم أبو زرعة هذا ليس هو عمرو بن جرير، إنما أبو زرعة آخر. قال بعضهم: إنه غَلَّابيّ. وقال ابن عساكر: فرق ابن المديني بين أبي زرعة بن عمرو بن جرير وبين هرم أبي زرعة، صاحب أبي قيس. وذكر ابن حبان في "الثقات" أبا زرعة بن عمرو بن جرير فيمن اسمه هرم، ثم قال: ويقال: اسمه وكنيته. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (21) حديثًا. 5 - (أَبُو هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- تقدّم 1/ 1. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين، غير إسماعيل، فبصريّ، والصحابيّ فمدنيّ. 4 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. 5 - (ومنها): أن صحابيّه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ) أي ظاهرًا غير محُتجِبٍ عنهم، ولا ملتبس بغيره، والبروزُ: الظهورُ، وقد وقع في رواية أبي فروة عند النسائيّ بلفظ: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجلس بين أصحابه، فيجيء الغريب، فلا يَدرِي أيّهم هو، فطلبنا إليه أن نجعل له مجلسًا يعرفه الغريب إذا أتاه، قال: فبنينا له دُكّانًا من طينٍ كان يجلس عليه". انتهى. واستنبط منه القرطبي استحبابَ جلوس العالم بمكان يختص به، ويكون مرتفعًا إذا احتاج لذلك؛ لضرورة تعليم ونحوه. (فَأَتَاهُ رَجُلٌ) أي ملك في صورة رجل، وللبخاريّ في "التفسير": "إذ أتاه رجل يمشي"، وللنسائيّ من رواية أبي فروة: "فإنا لجلوسٌ عنده، إذ أقبل رجل أحسنُ الناس وجهًا، وأطيب الناس ريحًا، كأن ثيابه لم يَمَسَّها دَنَسٌ". (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه) أي بعد السلام، لما في رواية أبي فَرْوة عند النسائيّ: "حتى سَلّمَ من طَرَف البساط، فقال: السلام عليك يا محمد، فَرَدّ عليه السلام، قال: أَدنو يا محمد؟ قال: ادْنُ، فما زال يقول: أَدنو مرارًا؟ ويقول له: ادن". وقد تقدّم تحقيق ذلك في الحديث الماضي. (مَا الْإِيمَانُ؟) قيل: قَدَّمَ السؤال عن الإيمان؛ لأنه الأصل، وثَنَّى بالإسلام؛ لأنه يُظهِر مِصْدَاق الدعوى، وثَلَّثَ بالإحسان، لأنه مُتَعَلِّق بهما. وفي رواية عُمارة بن القعقاع بدأ بالإسلام؛ لأنه بالأمر الظاهر، وثَنَّى بالإيمان؛ لأنه بالأمر الباطن، ورجح هذا الطيبي؛ لما فيه من الترقِّي، ولا شك أن القصة واحدة، اختَلَفَ الرواةُ في تأديتها، وليس في السياق ترتيب، ويدل عليه رواية مطر الوراق عند أبي عوانة في "صحيحه"، فإنه بدأ بالإسلام، وثَنَّى بالإحسان، وثَلَّث بالإيمان، فالحق أن الواقع أمر واحد، والتقديم والتأخير وقع من الرواة. قاله الحافظ (¬1). ¬

_ (¬1) المصدر السابق 1/ 143.

(قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ) دل الجواب أنه عَلِمَ أنه سأله عن مُتَعَلِّقَاته، لا عن معنى لفظه، وإلا لكان الجواب الإيمانُ التصديق. (وَمَلَائِكَتِهِ) أي تُصدّق بوجودهم، وأنهم كما وصفهم الله تعالى {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}. (وَكُتُبِهِ) أي تصدّق بأنها كلام الله، وليست مخلوقة، وأن ما تضمنته حقّ وصدق. (وَرُسُلِهِ) قال في "الفتح": وللأصيلي: "وبرسله"، ووقع في حديث أنس، وابن عباس: "والملائكة، والكتاب، والنبيين"، وكُلٌّ من السياقين في القرآن في البقرة، والتعبير بالنبيين يَشمَل الرسل من غير عكس. (وَلقَائِهِ) قيل: هذا مكرّر؛ لأنه داخل في الإيمان بالبعث، والحقّ أنه غير مكرّر، فقيل: المراد بالبعث القيام من القبور، والمراد باللقاء ما بعد ذلك، وقيل: اللقاء يحصل بالانتقال من دار الدنيا، والبعث بعد ذلك، ويدلّ على ذلك قوله بعده: "وتؤمن بالبعث الآخر"، وقيل: المراد باللقاء رؤية الله، ذكره الخطابيّ، وتعقّبه النوويّ بأن أحدًا لا يَقطع لنفسه برؤية الله، فإنها مختصة بمن مات مؤمنًا، والمرء لا يدري بم يُختم له، فكيف يكون ذلك من شروط الإيمان؟ وأجيب بأن المراد الإيمان بأن ذلك حقّ في نفس الأمر. وهذا من الأدلّة القويّة لأهل السنّة في إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة؛ إذ جُعلت من قواعد الإيمان. قاله في "الفتح" (¬1) (وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الْآخِرِ) قيل: ذكرُ "الآخر" تأكيدٌ، كقولهم: "أمس الذاهب"، وقيل: لأن البعث وقع مرتين: الأولى الإخراج من العدم إلى الوجود، أو من بطون الأمهات بعد النطفة، والْعَلَقة إلى الحياة الدنيا، والثانية البعث من بطون القبور إلى محل الاستقرار. وأما اليوم الآخر، فقيل له ذلك؛ لأنه آخر أيام الدنيا، أو آخر الأزمنة المحدودة. (قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه مَا الْإِسْلَامُ؟) قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: ما معناه: إن سؤال جبريل عليه السلام عن الإسلام والإيمان بلفظ "ما" يدلّ على أنه إنما سأل عن حقيقتهما عنده، ¬

_ (¬1) "فتح" 1/ 156 - 157.

لا عن شرح لفظهما في اللغة، ولا عن حكمهما؟ لأن "ما" في أصلها إنما يُسأل بها عن الحقائق، والماهيّات، ولذلك أجابه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "أن تؤمن بالله، وبكذا، وكذا، فلو كان سائلًا عن شرح لفظهما في اللغة لما كان هذا جوابًا له؛ لأن المذكور في الجواب، هو المذكور في السؤال. انتهى (¬1). (قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (أَنْ تَعْبُدَ اللَّه) أي توحّده بلسانك على وجه يُعتدّ به، فشمل الشهادتين، فيوافق هذا الحديث حديث عمر -رضي الله عنه- المذكور قبله، وكذا حديث بُني الإسلام على خمس المتّفق عليه، وقوله: (وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا) تأكيد لجملة "أن تعبد الله" (وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ المكتوبة) أي المفروضة على العباد (وتؤدّي الزَّكَاةَ المفروضة) على الأغنياء، زاد في رواية النسائيّ من طريق أبي فروة عن أبي زرعة في "وتحج البيت" (وَتَصُومَ رَمَضَانَ) فيه جواز إطلاق رمضان من إضافة شهر إليه، وهو القول الصحيح، وكرهه بعضهم. وزاد في رواية النسائيّ المذكورة: "قَالَ: إِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ، فَقَدْ أَسْلَمْتُ؟، قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: صَدَقْتَ، فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَ الرَّجُلِ صَدَقْتَ، أَنْكَرْنَاهُ". (قَالَ) الرجل (يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (أَنْ تَعْبُدَ اللَّه كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ) تقدّم شرح هذه الجملة مستوفًى في الحديث الماضي، وزاد في رواية النسائيّ: "قَالَ صَدَقْتَ" (قَالَ) الرجل (يَا رَسُولَ اللَّه مَتَى السَّاعَةُ؟) أي متى يقوم يوم القيامة (قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا) وفي رواية أبي فروة المذكورة: "قَالَ يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: فَنَكَسَ، فَلَمْ يُجِبْهُ شَيْئًا، ثُمَّ أَعَادَ، فَلَمْ يُجِبْهُ شَيْئًا، ثُمَّ أَعَادَ، فَلَمْ يُجِبْهُ شَيْئًا، وَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ إلخ". (بِأَعْلَمَ) الباء زائدة لتأكيد النفي (مِنَ السَّائِلِ) يعني أن الناس كلهم في وقت الساعة سواء، فكلهم غير عالمين به على الحقيقة، ولهذا قال: "في خمس لا يعلمهنّ إلا الله". قال في "الفتح": وهذا وإن كان مُشعرًا بالتساوي في العلم، لكن المراد التساوي ¬

_ (¬1) راجع "المفهم" 1/ 144.

في العلم بأن الله تعالى استأثر بها؛ لقوله بعدُ: "خمس لا يعلهمنّ إلا الله الخ". (وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا) بفتح الهمزة، جمع شَرَط بفتحتين، كقَلَم وأقلام: أي علاماتها (إِذَا وَلَدَتِ الْأَمَةُ رَبَتَهَا) التعبير بـ "إذا" يُشعر بتحقّق الوقوع، وقوله: (فَذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا) -أي من علامات الساعة- جواب "إذا"، وقد سبق بيان اختلاف العلماء في معنى "ولدت الأمة ربتها" مستوفًى في شرح حديث عمر -رضي الله عنه-، فراجعه تستفد. (وَإِذَا تَطَاوَلَ) أي تفاخر، وتكاثر (رِعَاءُ الْغَنَمِ) بكسر الراء: جمع راع (في الْبُنْيَانِ) أي في تشييد البنيان (فَذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا) أي من علاماتها (في خَمْسٍ) قال في "الفتح": أي علم وقت الساعة داخل في جملة خمس، وحَذْفُ متعلق الجار سائغ، كما في قوله تعالى: {في تِسْعِ آيَاتٍ} [النمل: 12]: أي اذهب إلى فرعون بهذه الآية، في جملة تسع آيات (¬1). وفي رواية عطاء الخراساني: "قال: فمتى الساعة؟ قال: هي في خمس من الغيب، لا يعلمها إلا الله". انتهى. وقال القرطبيّ: قوله: "في خمس الخ": فيه حذف، وتوسّعٌ: أي هي من الخمس التي قد انفرد الله بعلمها، أو في عددهنّ، فلا مطمع لأحد في علم شيء من هذه الأمور الخمس، ولقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] فلا طريق لعلم شيء من ذلك، إلا أن يُعْلِم الله تعالى بذلك، أو بشيء منه أحدًا ممن شاءه، كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجنّ: 26 - 27]، فمن ادّعى علم شيء من هذه الأمور كان في دعواه كاذبًا، إلا أن يُسند ذلك إلى رسول بطريق تفيد العلم القطعيّ، ووجود ذلك متعذّر، بل ممتنعٌ، وأما ظنّ الغيب، فلم يتعرّض شيء من الشرع لنفيه، ولا لإثباته، فقد يجوز أن ¬

_ (¬1) وقال الطيبيّ: ويجوز أن يتعلّق بـ "أعلم" يعني ما المسؤول عنها بأعلم في خمس، أي في علم الخمس، فكما عمّ في المسئول عنه أولًا عم في المسئول عنه ثانيًا: أي لا ينبغي لأحد أن يسأل أحدًا في علم الخمس؛ لأن العلم بها مختصّ باللَّه تعالى. انتهى "الكاشف" 2/ 435.

يظنّ المنجّم، أو صاحب خط الرمل، أو نحو هذا شيئًا مما يقع في المستقبل، فيقع على ما ظنّه، فيكون ذلك ظنّا صادقًا، إذا كان عن موجب عاديّ، يقتضي ذلك الظنّ، وليس بعلم، فيُفهم هذا منه، فإنه موضع غَلِطَ بسببه رجالٌ، وأُكلت به أموالٌ. [ثم اعلم]: أن أخذ الأجرة، والْجُعْل، وإعطائها على ادّعاء علم الغيب، أو ظنّه لا يجوز بالإجماع، على ما حكاه أبو عمر ابن عبد البرّ رحمه الله. انتهى (¬1). وقال في "الفتح": وجاء عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: أُوتي نبيكم -صلى الله عليه وسلم- علم كل شيء، سوى هذه الخمس. وعن ابن عمر مرفوعًا نحوه، أخرجهما أحمد. وأخرج حميد بن زنجويه، عن بعض الصحابة، أنه ذُكر العلم بوقت الكسوف قبل ظهوره، فأنكر عليه، فقال: إنما الغيب خمس، وتلا هذه الآية، وما عدا ذلك غيب، يعلمه قوم، ويجهله قوم. (لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّه) أي لا يعلم تلك الخمس إلا الله سبحانه وتعالى. قال الطيبيّ رحمه الله: فيه إشارة إلى إبطال الكهانة والنجامة وما شاكلها، قال لبيد [من الطويل]: لَعَمْرُكَ مَا تَدْرِي الضَّوَارِبُ بِالْحَصَى ... وَلَا زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللَّهُ صَانِعُ وإرشاد للأمة، وتحذير لهم عن إتيان من يَدّعي علم الغيب، فإذًا الجواب من الأسلوب الحكيم، أجاب عن سؤاله في ضمن أشياء مهمّة، لا بدّ من بيانها إرشادًا للأمّة، وتنبيهًا للمعلم عليها، كأنه قيل: سؤالك يقتضي أن لا يُقتَصَر على جواب واحد، بل يُجاب مع هذه الأمور المهمّة، فإن اهتمامها كاهتمامه. أو يقال: كان يجب عليك أيها المعلّم أن لا تقتصر على سؤال واحد، بل تسأل عن هذه الأشياء المهمّة. [فإن قيل]: أليس إخباره -صلى الله عليه وسلم- عن أمارات الساعة من قبيل قوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}؟ [لقمان: 43]. [قلت]: إذا أَظهَر بعضُ المرتضَينَ من عباده بعض ما كوشف له من الغيوب ¬

_ (¬1) راجع "المفهم" 1/ 155 - 156.

لمصلحة ما لا يكون إخبارًا بالغيب، بل يكون تبليغًا له، قال الله تعالى: {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} الآية [الجنّ: 26]. انتهى (¬1). (فَتَلَا) أي قرأ (رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-) تصديقًا لقوله: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، فقوله ({إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}) مفعول به لـ "تلا" محكيّ؛ لقصد لفظه، أي علم وقت وقوعها. {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} قرىء بالتشديد، من التنزيل، والتخفيف من الإنزال: أي وهو ينزل المطر الذي يُغيث الناس في أمكنة، وأزمنة لا يعلمها إلا هو {وَيَعْلَمُ مَا في الْأَرْحَامِ} أي وهو يعلم تفاصيل ما في أرحام الإناث، من ذكر أو أنثى، وواحد ومتعدّد، وكامل وناقص، ومؤمن وكافر وطويل وقصير، وغير ذلك، قال الله عز وجل في آية أخرى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ} [الرعد: 8]: أي تنقص وما تزداد، أي من مدّة الحمل، والجثّة والعدد {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] أي بقدر واحد لا يتجاوزه. {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ} برةً كانت أو فاجرة {مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} من خير أو شرّ، وربّما كانت عازمةً على خير، فعملت شرّا، وعازمةً على شرّ فعملت خيرًا {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} أي أين تموت، فربما أقامت بأرض، وضربت أوتادها، وقالت: لا أبرحها، فترمي بها مرامي القدر حتى تموت في مكان لم يخطر ببالها (¬2). {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ} أي بهذه الأشياء من جزئياتها وكلياتها خصوصًا، وبغيرها عمومًا {خَبِيرٌ} أي عالم بباطنها، كما أنه عالم بظاهرها. [فإن قيل]: كيف يطابق تفسيره -صلى الله عليه وسلم- الآية بقوله: "في خمس لا يعلمهن إلا الله"، وليس في الآية أداة حصر، كما في الحديث؟. ¬

_ (¬1) راجع "الكاشف" 2/ 435. (¬2) راجع "تفسير النسفي" 3/ 286.

[قلت]: فيه وجهان: [أحدهما]: أن يكون {عِلْمُ السَّاعَةِ} فاعلًا للظرف؛ لاعتماده على اسم "إنّ"، ويُعطف {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} وما بعده من الجمل على الظرف، وفاعلِهِ على تأويل الجملتين المنفيتين بإثبات ما نُفي فيهما عن الغير لله سبحانه وتعالى: أي يعلم ماذا تكسب كل نفس غدًا، ويعلم أن كل نفس بأيّ أرض تموت. قال أبو البقاء: هذا العطف يدلّ على قوّة شبه الظرف بالفعل. وقال صاحب "الكشّاف": جاء بالظرف، وما ارتفع به، ثم قال: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ}، فعطف الجملة على الجملة، ومثله قوله تعالى: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا في بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ}، فصدّر بالفعل والفاعل، ثم عطف بالظرف، وما ارتفع به. وإذا تقرّر هذا فنقول: إذا كان الفعل عظيم الخطر، وما بُني عليه الفعل عليَّ القدر، رفيع الشأن، فُهم منه الحصر على سبيل الكناية. [فإن قلت]: إذا عُطف {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} على الجملة، كيف دلّ على العلم؟. [أجيب]: بأنه إذا نُفي إنزال الغيث عما كانوا يُنسبون إليه من طلوع الأنواء اختصّ بالله تعالى، فيلزم منه اختصاص علم الله تعالى. [وثانيهما]: أن يذهب إلى أن الظرف خبر مقدّم على المبتدإ لإفادة الحصر، ويُعطف {يُنَزِّلُ} على المضاف إليه، يعني عنده علم الساعة، وعلم تنزيل الغيث على تقدير أن ينزل، فحذف "أن"، فارتفع الفعل، نحو قوله: "أَحْضُرَ الْوَغَى"، ويُعطف {وَيَعْلَمُ مَا في الْأَرْحَامِ}، وما بعده على المضاف، أي إن الله عنده علم ما في الأرحام، وعلم ماذا تكسب كلّ نفس غدًا على التقدير المذكور. [فإن قلت]: فأيّ نكتة دعت إلى العدول عن المثبت إلى المنفي في قوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ} الآية [لقمان: 34]، وما فائدة تكرير نفس، وتنكيرها، وإيثار الدراية على العلم، فإنها إدراك الشيء بالحيلة. [أجيب]: إذا نُفيت الدراية لما فيها من معنى الحيلة في اكتساب العلم من كلّ

نفس على سبيل الاستغراق لوقوع النكرة في سياق النفي، أفاد أن كلّ نفس منفوسة من الإنسان وغيره إذا أَعمَلت حيلتها في معرفة ما يختصّ، ويلصق بها، ولا شيء أخصّ من الإنسان من كسب نفسه، وعاقبة أمره، ولا يَقِف على شيء من ذلك، فكيف يقف على ما هو أبعدُ وأبعدُ خصوصًا من معرفة وقت الساعة، وإبّانِ إنزال الغيث، ومعرفة ما في الأرحام. والفائدة في بيان الأمارات هي أن يتأهب المكلّف المسير إلى المعاد بزاد التقوى. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله تعالى (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا متّفق عليه. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنف) هنا (9/ 64) و"الفتن" (4044) و (البخاريّ) في "الإيمان" (1/ 19 رقم 50) و"التفسير" (6/ 144) رقم (4777) و (مسلم) في "الإيمان" (1/ 30) (9 و 10) و (أبو داود) في "السنّة" (4698) و (النسائيّ) 8/ 101 و (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 9217 و (ابن خزيمة) في "صحيحه" (2244) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (159) و (ابن منده) في "الإيمان" 15 و 16، وأما فوائد الحديث، فقد تقدّمت في الحديث الماضي، فراجعها تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ¬

_ (¬1) راجع "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 434 - 435.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 65 - (حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ صَالِح، أَبُو الصَّلْتِ الْهُرَوِيُّ، حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُوسَى الرِّضَا، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِليِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "الْإِيَمانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ، وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ". قَالَ أَبُو الصَّلْتِ: لَوْ قُرِىءَ هَذَا الْإِسْنَادُ عَلَى مَجْنُونٍ لَبَرَأَ). رجال هذا الإسناد: عشرة: 1 - (سَهْلُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ) هو: سهل بن زَنْجَلة أبو عمرو الرازيّ، صدوق [10] 9/ 58. 2 - (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) بن سَمُرَة الأَحْمَسيّ -بمهملتين- أبو جعفر السّرّاج، ثقة [10]. رَوَى عن أبي معاوية، وابن عيينة، والمحاربي، وجعفر بن عون، وعثمان بن عبد الرحمن الطرائفي، ووكيع، وغيرهم. وروى عنه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، والقاسم بن زكريا، وابن أبي داود، وابن أبي حاتم، وآخرون. قال ابن أبي حاتم سئل أبي عنه، فقال: صدوق، وسمعت منه مع أبي، وهو صدوق ثقة. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال أبو القاسم: مات سنة ستين ومائتين في جمادى الأولى، ويقال: سنة (58) وأرخه ابن المنادي، ومسلمة، والقراب سنة ستين، زاد مسلمة: وكان صدوقا. وله في هذا الكتاب (36) حديثًا. 3 - (عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ صَالِحٍ، أَبُو الصَّلْتِ الهرَوِيُّ) هو: عبد السلام بن صالح بن سليمان بن أيوب بن ميسرة القرشي مولاهم، سكن نيسابور، ورحل في الحديث إلى الأمصار، وخدم علي بن موسى الرضا، صدوق له مناكير، وكان يتشيّع، وأفرط فيه

العقيليّ، فقال: كذّاب [10]. ورَوَى عن عبد السلام بن حرب، وعبد الله بن إدريس، وعباد بن العوام، وحماد ابن زيد، ومالك بن أنس، وغيرهم. وروى عنه ابنه محمد، ومحمد بن إسماعيل الأحمسي، وسهل بن زَنْجَلة، ومحمد بن رافع النيسابوري، والدوري، وغيرهم. قال أحمد بن سيار: ذُكر لنا أنه من موالي عبد الرحمن بن سمرة، وقد لقي وجالس الناس، ورحل في الحديث، وكان صاحب قَشَافة وزهد، ولم أره يُفرط في التشيع، وناظر بشر المريسي، ثم المأمون، وكان الظفر له، ورأيته يُقَدِّم أبا بكر وعمر، ويترحم على علي وعثمان رضي الله عنهما، ولا يذكر الصحابة إلا بجميل، إلا أن ثَمَّ أحاديث يرويها في المثالب، وسألت إسحاق بن إبراهيم عنها، فقال: أَمّا من رواها على طريق المعرفة فلا أكره ذلك، وأما من يرويها ديانة، فلا أرى الرواية عنه. وقال القاسم بن عبد الرحمن الأنباريّ: سألت يحيى بن معين عن حديث حدثنا به أبو الصلت، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس مرفوعًا: "أنا مدينة العلم ... " الحديث، فقال: هو صحيح، وقال الخطيب: أراد أنه صحيح عن أبي معاوية، إذ قد رواه غير واحد عنه. وقال المرّوذيّ: سئل أبو عبد الله عن أبي الصلت، فقال: روى أحاديث مناكير، قيل له: روى حديث مجاهد: "أنا مدينة العلم ... " قال: ما سمعنا بهذا، قلت: هذا الذي يُنكَر عليه؟ قال: غير هذا، أما هذا فما سمعنا به. ورَوَى عن عبد الرزاق أحاديث لا نعرفها أو لا نسمعها. وقال الحسن بن علي بن مالك: سألت ابن معين عن أبي الصلت، فقال: ثقة صدوق، إلا أنه يتشيع. وقال ابن الجنيد عن ابن معين: قد سمع، وما أعرفه بالكذب، قلت: فحديث الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس؟ قال: ما بلغني إلا عنه، وما سمعت به قط. وقال مرة أخرى: ولم يكن أبو الصلت عندنا من أهل الكذب. وقال الدوري: سمعت ابن معين يوثق أبا الصلت، وقال في حديث: "أنا مدينة العلم": قد حدث به محمد بن جعفر

الْفَيْديّ، عن أبي معاوية. وقال ابن محُرِز عن ابن معين: ليس ممن يكذب، فقيل له في حديث أبي معاوية هذا، فقال: أخبرني ابن نمير، قال حدث به أبو معاوية قديمًا، ثم كَفَّ عنه، وكان أبو الصلت مُوسِرا يطلب هذه الأحاديث، ويُكرم المشايخ، فكانوا يحدثونه بها. وقال صالح بن محمد: رأيت ابن معين يحسن القول فيه. وقال زكريا الساجي: يحدث مناكير، هو عندهم ضعيف. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: لم يكن بصدوق، وهو ضعيف، ولم يحدثني عنه، وضرب أبو زرعة على حديثه، وقال: لا أحدث عنه، ولا أرضاه. وقال الجوزجاني: كان مائلا عن الحق. وقال ابن عدي: له أحاديث مناكير في فضل أهل البيت، وهو متهم فيها. وقال الْبَرْقاني عن الدارقطني: كان رافضيا خبيثًا. قال لي دَعْلَج: إنه سمع أبا سعيد الهروي، وقيل له: ما تقول في أبي الصلت؟ قال: نعم الْهَيْصَم (¬1) ثقة، قال: إنما سألتك عن عبد السلام، فقال: نعم ثقة، ولم يزد على هذا. قال أبو الحسن: وروى حديث "الإيمانُ إقرار بالقول ... "، وهو مُتَهَمٌ بوضعه، لم يُحَدِّث به إلا من سرقه منه، فهو الابتداء في هذا الحديث. وقال البرقاني: وحَكَى لنا أبو الحسن أنه سُمِع يقول: كلبٌ للعلوية خير من جميع بني أمية (¬2)، فقيل: إن فيهم عثمان، فقال: فيهم عثمان. وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد. وقال الحاكم والنقاش وأبو نعيم: رَوَى مناكير. وقال الحاكم: وثقه إمام أهل الحديث يحيى بن معين. وقال الآجري عن أبي داود: كان ضابطًا، ورأيت ابن معين عنده. وقال محمد بن طاهر كذاب. تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط. 4 - (عَليُّ بْنُ مُوسَى الرِّضَا) -بكسر الراء، وفتح الضاد المعجمة- هو: عليّ بن ¬

_ (¬1) في "القاموس": الهيصم كحيدر: ضرب من الحجارة أملس، والرجل القويّ، والأسد. انتهى. (¬2) "سبحانك هذا بهتان عظيم".

موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب الهاشميّ، أبو الحسن يُلقّب بالرضا صدوقٌ، والخلل ممن روى عنه، من كبار [10]. رَوَى عن أبيه، وعبيد الله بن أرطاة بن النذر. وروى عنه ابنه محمد، وأبو عثمان المازني النحوي، وأيوب بن منصور النيسابوري، وأبو الصلت عبد السلام بن صالح الهروي، والمأمون بن الرشيد، وعلي بن مهدي بن صدقة، له عنه نسخة، وأبو أحمد داود ابن سليمان بن يوسف الغاري القزويني، له عنه نسخة، وعامر بن سليمان الطائي، له عنه نسخة كبيرة، وأبو جعفر محمد بن محمد بن حبان التمار، وآخرون. قال أبو الحسن يحيى بن جعفر النسابة الْعَلَويّ، عقد له المأمون وَلِيّ عَهْد، ولبس الناس الخضرة في أيامه. وقال المبرد عن أبي عثمان المازني: سئل علي بن موسى الرِّضَى، يُكَلِّف الله العباد ما لا يطيقون؟ قال: هو أعدل من ذلك، قال: يستطيعون أن يفعلوا ما يريدون؟ قال: هم أعجز من ذلك. وقال الحاكم في "تاريخ نيسابور": أشخصه المأمون من المدينة إلى البصرة، ثم إلى الأهواز، ثم إلى فارس، ثم إلى نيسابور إلى أن أخرجه إلى مَرْوَ، وكان ما كان -يعني من قصة استخلافه-. قال: وسمع علي بن موسى أباه، وعمومته: إسماعيل، وعبد الله، وإسحاق، وعلي بني جعفر، وعبد الرحمن بن أبي الموالي، وغيرهم من أهل الحجاز، وكان يفتي في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو ابن نَيِّف وعشرين سنة، روى عنه من أئمة الحديث آدم بن أبي إياس، ونصر بن علي الجهضمي، ومحمد بن رافع القشيري، وغيرهم، استُشْهِد علي بن موسى بسِنْدِ أباد من طوس لتسع بقين من شهر رمضان ليلة الجمعة من سنة (203) وهو ابن (49) سنة وستة أشهر، ثم حكى من طريق أخرى أنه مات في صفر. وقال أبو سعد بن السمعاني في "الأنساب": قال أبو حاتم بن حبان: يروي عن أبيه العجائب، كأنه كان يَهِم ويُخطىء، ومات يوم السبت آخر يوم من صفر وقد سُمَّ في ماء الرُّمان وسُقِي. قال ابن السمعاني والخلل في رواياته عن رُواته، فإنه ما رَوَى عنه إلا متروك، والمشهور من روايته الصحيفة، وراويها عنه مطعون فيه، وكان الرضا من أهل

العلم والفضل، مع شرف النسب انتهى، تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط. 5 - (أَبُوه) هو: موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي العلوي أبو الحسن المدني العروف بالكاظم، صدوقٌ عابدٌ [7]. روى عن أبيه، وعبد الله بن دينار، وعبد الملك بن قُدامة الْجُمَحي. وروى عنه أخواه: علي ومحمد، وأولاده: إبراهيم، وحسين، وإسماعيل، وعلي الرضا، وصالح بن يزيد، ومحمد بن صدقة العنبري. قال أبو حاتم: ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين. وقال يحيى بن الحسن بن جعفر النسابةُ: كان موسى بن جعفر يُدْعَى العبد الصالح من عبادته واجتهاده. وقال الخطيب: يقال: إنه وُلد بالمدينة في سنة ثمان وعشرين ومائة (¬1)، وأقدمه المهدي إلى بغداد، ثم رده إلى المدينة، وأقام بها إلى أيام الرشيد، فقدم هارون منصرفا من عمرة رمضان سنة تسع وسبعين، فحمله معه إلى بغداد، وحبسه بها إلى أن تُوفي في محبسه. وقال محمد بن صدقة العنبري: توفي سنة ثلاث وثمانين ومائة. وقال غيره: في رجب، ومناقبه كثيرة. تفرّد به أبو داود، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 6 - (جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ) بن عليّ بن الحسين المعروف بالصادق، أبو عبد الله المدنيّ، صدوقٌ فقيهٌ إمام [6] تقدّم في 7/ 44. 7 - (أبوه) محمد بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشميّ المعروف بالباقر، أبو جعفر المدنيّ، ثقة فاضل [4] تقدّم في 1/ 4. 8 - (عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ) بن علي بن أبي طالب الهاشمي، أبو الحسين، ويقال: أبو الحسن، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله المدنيّ، زين العابدين، ثقة ثبتٌ عابدٌ فقيهٌ ¬

_ (¬1) قال الحافظ رحمه الله: قلت: إن ثبت أَنَّ مولده سنة ثمان، فروايته عن عبد الله بن دينار منقطعة؛ لأن عبد الله بن دينار تُوفي سنة سبع وعشرين. انتهى "تهذيب التهذيب" 4/ 173.

فاضلٌ مشهور [3]. روى عن أبيه، وعمه الحسن، وأرسل عن جده علي بن أبي طالب، وروى عن ابن عباس، والمسور بن مخرمة، وأبي هريرة، وعائشة، وصفية بنت حيي، وأم سلمة، وبنتها زينب بنت أبي سلمة، وأبي رافع، مولى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وابنه عبيد الله بن أبي رافع، وغيرهم. وروى عنه أولاده: محمد، وزيد، وعبد الله، وعمر، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وطاووس بن كيسان، وهما من أقرانه، والزهري، وأبو الزناد، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعاصم بن عبيد الله، والقعقاع بن حكيم، وزيد بن أسلم، وغيرهم. قال ابن سعد في الطبقة الثانية من تابعيّ أهل المدينة: أمه أُمُّ ولد، وكان ثقة مأمونا كثير الحديث، عاليا رفيعا ورعا. قال ابن عيينة عن الزهري: ما رأيت قرشيا أفضل من علي بن الحسين، وكان مع أبيه يوم قُتِلَ، وهو مريضٌ فَسَلِم. وقال ابن عيينة عن الزهري أيضًا: ما رأيت أحدًا كان أفقه منه، ولكنه كان قليل الحديث. وقال مالك: قال نافع بن جبير بن مطعم لعلي بن الحسين: إنك تجالس أقواما دُونًا، فقال علي بن الحسين: إني أجالس من أنتفع بمجالسته في ديني. قال: وكان علي بن الحسين رجلا له فضل في الدين. وقال ابن وهب عن مالك: لم يكن في أهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل علي بن الحسين. وقال الحاكم: سمعت أبا بكر بن دَارِم عن بعض شيوخه، عن أبي بكر بن أبي شيبة قال: أصح الأسانيد كلها: الزهري، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي. وقال حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد: سمعت علي بن الحسين، وكان أفضل هاشمي أدركته. وقال الآجري: قلت لأبي داود: سمع علي بن الحسين من عائشة؟ قال: لا، سمعت أحمد بن صالح يقول: سِنّ علي بن الحسن وسن الزهري واحد. ويُروَى أن سعيد بن المسيب قال: ما رأيت أورع منه. وقال العجلي: مدني تابعيّ ثقة. قال يعقوب بن سفيان: وُلد علي بن الحسين سنة ثلاث وثلاثين. وقال ابن عيينة

عن الزهري: كان علي بن الحسين مع أبيه يوم قُتل وهو ابن (23) سنة، وكذا قال الزبير عن عمه. وقال يعقوب بن سفيان عن إبراهيم بن المنذر عن مَعْن بن عيسى: تُوفي أنس ابن مالك، وعلي بن الحسين، وعروة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث سنة (93). وقال أبو نعيم وغيره: سنة (92). وقال ابن نمير، وعمرو بن علي، ويحيى بن معين، وجماعة: سنة (4). وقال المدايني: مات سنة (1). وقيل: سنة (99). وقال ابن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه: مات علي بن الحسين، وهو ابن (58) سنة. قال الحافظ: مقتضاه أن يكون مات سنة (94) أو (95) لأنه ثبت أن أباه قُتل وهو ابن (23) سنة، وكان قتل أبيه يوم عاشوراء سنة (61)، وأما ما تقدم عن أحمد بن صالح أن سِنَّه وسِنَّ الزهري واحد، فليس بصحيح؛ لأن الزهري مولده سنة (50) فعلي بن الحسين أكبر منه بثلاث عشرة سنة. والله أعلم. انتهى. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب عشرة أحاديث برقم 65 و 491 و 657 و 1779 و 1999 و 2729 و 2730 و 2942 و3010 و 3554. 9 - (أبوه) هو: الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، أبو عبد الله المدني، سبط رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وريحانته من الدنيا، وأحد سيدي شباب أهل الجنة، رَوَى عن جده -صلى الله عليه وسلم-، وأبيه، وأمه، وخاله هند بن أبي هالة، وعمر بن الخطاب. وروى عنه أخوه الحسن، وبنوه: علي، وزيد، وسكينة، وفاطمة، وابن ابنه أبو جعفر الباقر، والشعبي، وعكرمة، وكُرز التيمي، وسِنَان بن أبي سنان الدُّؤلي، وعبد الله ابن عمرو بن عثمان، والفرزدق، وجماعة. قال الزبير بن بكار: وُلد لخمس ليال خلون من شعبان سنة أربع، وقال جعفر بن محمد: كان بين الحسن والحسين طهر واحد. وأخرج البخاريّ عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أُتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين -رضي الله عنه-، فجُعِل في طست، فجعل يَنكُت، وقال في حسنه

شيئًا، فقال أنس: كان أشبههم برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان مخضوبا بالوسمة (¬1). وأخرج أبو يعلى بسند حسن عن جابر -رضي الله عنه- قال: من سرّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنّة فلينظر إلى الحسين بن عليّ رضي الله عنهما، فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوله (¬2). وأخرج أحمد في "مسنده" بسند صحيح عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام بنصف النهار، أشعث أغبر، معه قارورة فيها دم يلتقطه، أو يتتبع فيها شيئًا، قال: قلت: يا رسول الله ما هذا؟ قال: دم الحسين وأصحابه لم أزل أتتبعه منذ اليوم، قال عمار: فحفظنا ذلك اليوم، فوجدناه قُتل ذلك اليوم. وأخرج المصنّف برقم (658) بسند صحيح، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- حامل الحسين بن علي على عاتقه، ولُعابه يسيل عليه. وأخرج أحمد، والنسائيّ بسند صحيح عن أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة" (¬3). وأخرج أبو داود بسند صحيح عن عبد الله بن بريدة عن أبيه -رضي الله عنه- خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأقبل الحسن والحسين، عليهما قميصان أحمران، يعثران ويقومان، فنزل فأخذهما، فصعد بهما المنبر، ثم قال: "صدق الله: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 8] رأيت هذين، فلم أصبر"، ثم أخذ في الخطبة (¬4). ومناقبه جمّة، وسيذكر المصنّف في الفضائل بعض الأحاديث الواردة في فضلهما برقم (142 - 145). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث برقم 65 و 657 و 1512 و 1600 و 3296. 10 - (عَليُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) أحد الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم- تقدّم في 2/ 2، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاريّ" 7/ 94. (¬2) رواه أبو يعلى في "مسنده" 3/ 397. (¬3) "المسند" 3/ 3 و"الخصائص" للنسائيّ ص 150. (¬4) حديث صحيح أخرجه أبو داود 3/ 358.

شرح الحديث: (عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) -رضي الله عنه-، أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (الْإِيمَانُ مَعْرِفَةٌ بالْقَلْبِ) أي التصديق به (وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ) أي النطق بالشهادتين (وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ) أي عمل الطاعات بالجوارح، كالصلاة، والصوم، والزكاة، والحجّ. وقوله: (قَالَ أَبُو الصَّلْتِ) هو عبد السلام بن صالح (لَوْ قُرِىءَ هَذَا الْإِسْنَادُ) ببناء الفعل للمفعول (عَلَى مَجْنُونٍ لَبَرَأَ) بفتح الموحّدة، والراء، أو بفتح، فكسر، من بابي نفع وتَعِب، ويقال أيضًا بَرُأ بالضم من باب قَرُب: إذا تعافى من المرض. وقال السنديّ رحمه الله: قوله: "لبرأ" أي من جنونه؛ لما في الإسناد من خيار العباد، وهم خلاصة أهل بيت النبوّة -رضي الله عنه-، وهو من برأ المريض من الداء، لا من برئتُ من الأمر بكسر الراء: أي تبرّأت، فإن أبا الصلت هو القائل لهذا القول، ولا يستقيم عنه أن يقول هذا القول بهذا المعنى، لا بالنظر إلى نفسه، ولا بالنظر إلى من بعده. انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الكلام فيه مبالغة لا مسوّغ لها شرعًا، لكن القائل أبو الصلت رافضيّ لا يُستغرب منه أن يصدُر منه مثل هذا القول، فإن عند الرافضة ما هو أطمّ وأطمّ من الأقوال الساقطة، والمعتقدات الزائفة، نسأل الله تعالى أن يعصمنا بمنه وكرمه من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]. والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله أخرجه هنا بهذا السند فقط. ثم إنه قيل بوضعه، فقد أورده ابن الجوزيّ وغيره في الموضوعات، وقال: فيه أبو الصلت متّهَمٌ ممن لا يجوز الاحتجاج به، وتابعه على ذلك جماعة، وقال البوصيريّ في "الزوائد": إسناد هذا الحديث ضعيفٌ؛ لاتّفاقهم على ضعف أبي الصلت الهروي. ¬

_ (¬1) راجع "شرح السنديّ" 1/ 52.

وقال السيوطيّ: والحقّ أنه ليس بموضوع، وأبو الصلت وثّقه ابن معين، وقال: ليس ممن يكذب. وقال في "الميزان": رجلٌ صالح، إلا أنه شيعيّ جَلْدٌ، تابعه عليّ بن غُراب، وقد روى له النسائيّ، وابن ماجه، ووثّقه ابن معين، والدارقطنيّ، وقال أحمد: أراه صادقًا. وقال الخطيب: كان غاليًا في التشيّع، وأما في روايته فقد وصفوه بالصدق، ثم ذكر له بعض المتابعات. قاله السنديّ (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كذبه العقيليّ، وقال: رافضيّ خبيث، وقال ابن عديّ: متّهم، وقال الدارقطنيّ: متّهم بوضع هذا الحديث، لم يُحدّث به إلا من سرَقَه منه، فهو الابتداء في هذا الحديث. وقال عبد الحقّ الإشبيليّ في "أحكامه": وعبد السلام هذا ضعيف، لا يُحتجّ به، وقد رواه عن عليّ بن موسى الهيثمُ بن عبد الله، وهو مجهول، وداود بن سليمان القزوينيّ، وعليّ بن الأزهر السرخسيّ، وهما ضعيفان، ورواه الحسن ابن عليّ العدويّ، عن محمد بن صدقة، ومحمد بن تميم، وهما مجهولان، عن موسى بن جعفر والد عليّ، والحسن هو ابن عليّ بن زكريا بن صالح، أبو سعيد البصريّ، وكان يضع الحديث، ولا يتيسّر هذا الحديث من وجه يصح. والحاصل أن الحديث واهٍ لا يَثبُتُ، فلا يُلتفَت إلى تساهل بعضهم حيث قوّاه، وقد استوفى الكلام فيه وخرّج المتابعات المذكورة وغيرها الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى في "السلسلة الضعيفة" 5/ 295 - 299 رقم الحديث (2271) فأجاد وأفاد، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. ¬

_ (¬1) راجع "شرح السنديّ" 51 - 52.

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 66 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَنسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ"، "أَوْ قَالَ: لجِارهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) العبديّ أبو بكر البصريّ المعروف ببندار، ثقة ثبت [10] 1/ 6. 2 - (مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَّنَى) بن عُبيد بن قيس بن دينار الْعَنَزي، أبو موسى البصري الحافظ المعروف بالزَّمِنِ، مشهور بكنيته، وباسمه، ثقة ثبتٌ [10]. روى عن عبد الله بن إدريس، وأبي معاوية، وخالد بن الحارث، ويزيد بن زريع، ومعتمر، وحفص بن غياث، وابن مهدي، والقطان، وغندر، وخلق كثير. ورَوَى عنه الجماعة، وروى النسائي أيضا عن زكريا السجزي عنه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والذهلي، وخلق كثير. قال عبد الله بن أحمد عن ابن معين: ثقة. وقال أبو سعد الهروي: سألت الذهلي عنه، فقال: حجة. وقال صالح بن محمد: صدوق اللهجة، وكان في عقله شيء، وكنت أُقَدِّمه على بندار. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، صدوق. وقال أبو عروبة: ما رأيت بالبصرة أثبت من أبي موسى، ويحيى بن حكيم. وقال النسائي: لا بأس به، كان يُغَيِّر في كتابه. وقال أبو الحسين السمناني: كان أهل البصرة يُقَدِّمون أبا موسى علي بندار، وكان الغرباء يقدمون بندارا. وقال ابن عقدة: سمعت ابن خِرَاش يقول: ثنا محمد بن المثنى، وكان من الأثبات. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان صاحب كتاب، لا يقرأ إلا من كتابه. وقال الذهليّ: حجة. وقال السُّلَمِيُّ عن الدارقطني: كان أحد الثقات، وقَدَّمه علي بندار، قال: وقد سئل عمرو بن علي عنهما، فقال: ثقتان، يُقبل منهما كلُّ شيء إلا ما

تكلم به أحدهما في الآخر، قال: وكان في أبي موسى سلامة. وقال مسلمة: ثقة مشهور من الحفاظ. وقال الخطيب: كان ثقة ثبتًا، احتج سائر الأئمة بحديثه، وُلد سنة سبع وستين ومائة، ومات سنة اثنتين وخمسين ومائتين، في ذي القعدة، ويقال: مات سنة إحدى وخمسين، ويقال: سنة خمسين. وفي "الزهرة": روى عنه البخاريّ مائة حديث وثلاثة أحاديث، ومسلم سبعمائة واثنين وسبعين حديثًا (¬1). انتهى. وله في هذا الكتاب (49) حديثًا. 3 - (مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) أبو عبد الله البصريّ المعروف بغندر، ثقة صحيح الكتاب [9] تقدم في 1/ 6. 4 - (شُعْبَةُ) بن الحجاج البصريّ الإمام الحجة الثبت [7] 1/ 6. 5 - (قَتَادَةَ) بن دِعامة السدوسيّ، أبو الخطاب البصريّ الحجة الثبت [4] 1/ 10. 6 - (أنس بن مالك) الصحابي الخادم الشهير -رضي الله عنه- تقدّم في 3/ 24. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين. 4 - (ومنها): أن شيخيه من مشايخ الأئمة الستة دون واسطة، وقد تقدّموا غير مرة. 5 - (ومنها): أن صحابيّه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وأنه آخر ¬

_ (¬1) هكذا نقله في "تهذيب التهذيب" 4/ 687 والذي في (برنامج الحديث صخر) أن البخاريّ روى عنه (106) أحاديث، ومسلمًا روى عنه (720) حديثًا. فلعل الاختلاف للتكرار، فليحرّر.

من مات من الصحابة -رضي الله عنهم- بالبصرة، مات سنة (2) (39)، وهو من المعمّرين، فقد جاوز عمره مائة سنة، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَنسِ بْنِ مَالِكٍ) وقع في رواية النسائيّ تصريع قتادة بسماعه من أنس -رضي الله عنه-، ولفظه: "عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ) وفي رواية لمسلم: "أحدٌ"، والمراد بالنفي كمال الإيمان، ونفي اسم الشيء على معنى نفي الكمال عنه مستفيض في كلامهم، كقولهم: فلان ليس بإنسان. [فإن قيل]: فيلزم أن يكون من حصلت له هذه الخصلة مؤمنا كاملًا، وإن لم يأت ببقية الأركان. [أجيب]: بأن هذا ورد مورد المبالغة، أو يستفاد من قوله: "لأخيه المسلم"، ملاحظة بقية صفات المسلم، وقد صرح ابن حبان من رواية ابن أبي عدي، عن حسين المعلم بالمراد، ولفظه: "لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان"، ومعنى الحقيقة هنا الكمال؛ ضرورةَ أن من لم يتصف بهذه الصفة، لا يكون كافرا. قاله في "الفتح" (¬1). وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: "لا يؤمن": أي لا يكمل إيمانه؛ إذ من غشّ المسلم، ولا ينصحه مرتكب كبيرة، ولا يكون كافرًا بذلك، كما بيّنّاه غير مرّة، وعلى هذا فمعنى الحديث: أن الموصوف بالإيمان الكامل من كان في معاملته للناس ناصحًا لهم، مريدًا لهم ما يريده لنفسه، وكارهًا لهم ما يكره لنفسه، وتتضمّن أن يفضّلهم على نفسه؛ لأن كلّ أحد يحبّ أن يكون أفضل من غيره، فإذا أحبّ لغيره ما يُحبّ لنفسه، فقد أحبّ أن يكون غيره أفضل منه، وإلى هذا المعنى أشار الفضيل بن عياض لمّا قال لسفيان بن عيينة: إن كنت تريد أن يكون الناس مثلك، فما أدّيت لله ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 1/ 83.

الكريم النصيحة، فكيف، وأنت تودّ أنهم دونك؟. انتهى (¬1). (حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ) بنصب "يحب"، لأن "حتى" جارة، و"أن" بعدها مضمرة، ولا يجوز الرفع، فتكون "حتى" عاطفة، فلا يصح العنى، إذ عدم الإيمان ليس سببا للمحبة. [فإن قيل]: قوله: "لأخيه" ليس له عموم، فلا يتناول سائر المسلمين. [وأجيب]: بأن معنى قوله: "لأخيه" للمسلمين، تعميمًا للحكم، أو يكون التقدير: لأخيه من المسلمين، فيتناول كل أخ مسلم. قاله العينيّ (¬2). (أَوْ) للشكّ من الراوي (قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (لجِارِهِ) بدل "أخيه" (مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) أي "من الخير" لما في رواية النسائيّ من طريق حسين المعلّم عن قتادة: "من الخير". و"الخير": كلمة جامعة تعم الطاعات، والمباحات الدنيوية، والأخروية، وتخرج المنهيات؛ لأن اسم الخير لا يتناولها، والمحبة إرادة ما يعتقده خيرا. قال النووي: المحبة الميل إلى ما يوافق المحب، وقد تكون بحواسه، كحسن الصورة، أو بفعله، إما لذاته، كالفضل والكمال، وإما بإحسانه، كجلب نفع، أو دفع ضرر. انتهى ملخصا. والمراد بالميل هنا الاختياري، دون الطبيعي، والْقَسْريّ، والمراد أيضا أن يحب أن يحصل لأخيه نظيرُ ما يحصل له، لا عينه، سواء كان في الأمور المحسوسة، أو المعنوية، وليس المراد أن يحصل لأخيه ما حصل له، لا مع سلبه عنه، ولا مع بقائه بعينه له، إذ قيام الجوهر، أو العرض بمحلين محال. قاله في "الفتح". وقال في "عمدة القاري" 1/ 160 - : ما حاصله: المحبّة مطالعة المنّة من رؤية إحسان أخيه، وبرّه، وأياديه، ونعمه المتقدّمة التي ابتدأ بها من غير عمل استحقّها به، وستره على معايبه، وهذه محبة العوامّ قد تتغيّر بتغيّر الإحسان، فإن زاد الإحسان زاد الحبّ، وإن نقصه نقصه. وأما محبّة الخواصّ، فهي تنشأ من مطالعة شواهد الكمال؛ ¬

_ (¬1) راجع "المفهم" 1/ 227. (¬2) راجع "عمدة القاري" 1/ 161.

لأجل الإعظام والإجلال، ومراعاة حقّ أخيه المسلم، فهذه المحبّة لا تتغيّر؛ لأنها لله تعالى، لا لأجل غرض دنيويّ. ويقال: المحبّة هاهنا هي مجرّد تمنّي الخير لأخيه المسلم، فلا يعسر ذلك إلا على القلب السقيم، غير المستقيم. وقال القاضي عياض: المراد من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" أن يحب لأخيه من الطاعات والمباحات، وظاهره يقتضي التسوية، وحقيقته التفضيل؛ لأن كلّ واحد يحبّ أن يكون أفضل الناس، فإذا أحبّ لأخيه مثله، فقد دخل هو من جملة المفضولين، وكذلك الإنسان يحب أن ينتصف من حقّه، ومظلمته، فإذا كانت لأخيه عنده مظلمة، أو حقّ بادر إلى الإنصاف من نفسه، وقد روي هذا المعنى عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى أنه قال لسفيان بن عيينة رحمه الله تعالى: إن كنت تريد أن يكون الناس كلهم مثلك، فما أدّيت لله الكريم نصحه، فكيف، وأنت تودّ أنهم دونك. انتهى. وتعقّب الحافظ على القاضي عياض قوله: لأن كل واحد يحب أن يكون أفضل الناس، فقال: وفيه نظر، إذ المراد الزجر عن هذه الإرادة؛ لأن المقصود الحث على التواضع، فلا يحب أن يكون أفضلِ من غيره، فهو مستلزم للمساواة، ويستفاد ذلك من قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، ولا يتم ذلك إلا بترك الحسد، والغل، والحقد، والغش، وكلها خصال مذمومة. انتهى "فتح" 1/ 83. [فائدة]: قال الكرماني: ومن الإيمان أيضا أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه، من الشر، ولم يذكره لأن حب الشيء، مستلزم لبغض نقيضه، فترك التنصيص عليه؛ اكتفاء. والله أعلم. قاله في "الفتح" 1/ 83. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أنس رضي الله تعالى عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا بهذا السند فقط، وأخرجه (البخاريّ) في "الإيمان" (1/ 10) و (مسلم) (1/ 49) و (الترمذيّ) (2515) و (النسائيّ) 8/ 115 و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده" (2004) و (أحمد) في "مسنده" (3/ 176 و 206 و 251 و 272 و 278 و 289) و (عبد بن حميد) في "مسنده" (1175) و (أبو عوانة) في "مسنده" 1/ 33 و (ابن حبّان) في "صحيحه" (234) و (235) و (ابن منده) في "الإيمان" 294 و 295 و 296 و 297 و (ابن المبارك) في "الزهد" (677). و (الدارميّ) في "الرقاق" من "سننه" (2623)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان علامة الإيمان، ووجه ذلك ما قدّمناه في أول الباب من أن المصنف إنما عقد هذا الباب لبيان حقيقة الإيمان، وشعبه، فهذا الحديث فيه بيان أن محبّة الإنسان لأخيه المسلم ما يحبّ لنفسه شعبة من شعب الإيمان، وعلامة على أنه مؤمن كامل الإيمان. 2 - (ومنها): أن فيه دلالة على التواضع، لأنه إذا أحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه كان دليلًا على أنه بريء من الكبر، والحسد، والحقد، والغلّ، والغشّ، وغيرها من الأخلاق الدنيئة، والخصال الذميمة، بل هو متحل بالتواضع، واللين، والرفق، وإيثار إخوانه على نفسه، وغيرها من الأخلاق الكريمة، والشيم العظيمة. 3 - (ومنها): ما قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: لمّا نفى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- الإيمان عمن لم يُحب لأخيه ما يُحبّ لنفسه، دلّ على أن ذلك من خصال الإيمان، بل من واجباته، فإن الإيمان لا يُنفَى إلا بانتفاء بعض واجباته، كما قال: "لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمنٌ ... " الحديث. وإنما يُحب الرجل لأخيه ما يُحبّ لنفسه إذا سلم من الحسد، والغلّ، والغشّ، والحقد، وذلك واجبٌ، كما قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا"، رواه مسلم برقم (54)، ويأتي للمصنّف بعد

حديث، فالمؤمن أخو المؤمن، يحبّ له ما يُحبّ لنفسه، ويحزنه ما يحزنه، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "مثل المؤمنين في توادّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر"، متفقٌ عليه. فإذا أحب المؤمن لنفسه فضيلةً من دين، أو غيره أحبّ أن يكون لأخيه نظيرها، من غير أن تزول عنه، كما قال ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: إني لأمرّ بالآية من القرآن، فأفهمها، فأودّ أن الناس كلَّهم فهموا منها ما أفهم. وقال الشافعيّ رحمه الله تعالى: ودِدتُ أن الناس كلّهم تعلّموا هذا العلمَ، ولم يُنسب إليّ منه شيء. فأما حبّ التفرّد عن الناس بفعل دينيّ، أو دنيويّ، فهو مذموم، قال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} الآية [القصص: 83]، وقد قال عليّ -رضي الله عنه- وغيره: هو أن لا يُحبّ أن يكون نعله خيرًا من نعل غيره، ولا ثوبه خيرًا من ثوب غيره. وفي الحديث المشهور في "السنن": "من تعلّم العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، فليتبوّأ مقعده من النار". وأما الحديث الذي فيه أن رجلًا سأل النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فقال: إني أحبّ الجمال، وما أحبّ أن يفوقني أحدٌ بشراك نعلي، فقال له النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "ليس هذا من الكبر"، فإنما فيه أنه أحبّ أن لا يعلو عليه أحدٌ، وليس فيه محبة أن يعلو هو على الناس، بل يصدق هذا أن يكون مساويًا لأعلاهم، فما حصل بذلك محبّة العلوّ عليهم، والانفراد عنهم، فإن حصل لأحد فضيلة خصّصه الله تعالى بها عن غيره، فأخبر بها على وجه الشكر، لا على وجه الفخر، كان حسنًا، كان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أنا سيّد ولد آدم، ولا فخر، وأنا أول شافع، ولا فخر" رواه مسلم، ورواه البخاريّ بلفظ مغاير لهذا. وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: لو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله منّي تبلغه الإبل، لأتيته. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله تعالى (¬1)، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، ¬

_ (¬1) راجع "شرح البخاريّ" 1/ 45 - 47.

وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 67 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَارٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، عَنْ أَنسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ، وَوَالِدهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ"). رجال هذا الإسناد: ستة: وهم المذكورون في السند الماضي. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَنسِ بْنِ مَالِكٍ) ووقع عند النسائيّ بلفظ: "عن قتادة، أنه سمع أنسًا يقول، فصرّح قتادة بالسماع (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ) أي إيمانًا كاملًا، وفي رواية الإسماعيليّ: "لا يؤمن الرجل"، قال في "الفتح": وهو أشمل من جهة، و"أحدكم" أشمل من جهة، وأشمل منهما رواية الأصيليّ: "لا يؤمن أحدٌ". انتهى. (حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ) هو أفعل تفضيل بمعنى المفعول، وهو مع كثرته على خلاف القياس، وفصل بينه وبين معموله بقوله: (إِلَيْهِ) لأن الممتنع الفصل بأجنبيّ (مِنْ وَلَدهِ، وَوَالِدهِ) قُدّم الولد في رواية المصنّف على الوالد لمزيد الشفقة، وقدّم الوالد في رواية البخاريّ؛ نظرًا للأكثريّة؛ لأن كلّ أحد له والد من غير عكس (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) من عطف العام على الخاصّ. قال في "الفتح": وذِكرُ الولد والوالد، أدخلُ في المعنى؛ لأنهما أعز على العاقل من الأهل والمال، بل ربما يكونان أعز من نفسه، ولهذا لم يذكر النفس أيضا في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. وهل تدخل الأم في لفظ "الوالد"؟، إن أريد به من له الولد فيعم، أو يقال: اكتُفِيَ بذكر أحدهما كما يُكتفي عن أحد الضدين بالآخر، ويكون ما ذُكر على سبيل التمثيل، والمراد الأعزة، كأنه قال: أحب إليه من أعزته، وذكرُ الناس بعد الوالد والولد،

من عطف العام على الخاص، وهو كثير، وقدم الوالد على الولد في رواية؛ لتقدمه بالزمان والإجلال، وقدّم الولد في أخرى؛ لمزيد الشفقة. وهل تدخل النفس في عموم قوله: "والناس أجمعين"، الظاهر دخولها. وقيل: إضافة المحبة إليه تقتضي خروجه منهم، وهو بعيد، وقد وقع التنصيص بذكر النفس في حديث عبد الله بن هشام الآتي قريبًا. والمراد بالمحبة هنا حب الاختيار، لا حب الطبع، قاله الخطابي، وقال النووي: فيه تلميح إلى قضية النفس الأمّارة، والمطمئنة، فإن من رجّح جانب المطمئنة، كان حبه للنبي -صلى الله عليه وسلم- راجحًا، ومن رَجّحَ جانب الأمّارة، كان حكمه بالعكس. وفي كلام القاضي عياض أن ذلك شرط في صحة الإيمان؛ لأنه حمل المحبة على معنى التعظيم والإجلال. وتعقبه صاحب "المفهم" بأن ذلك ليس مرادا هنا؛ لأن اعتقاد الأعظمية، ليس مستلزما للمحبة، إذ قد يجد الإنسان إعظام شيء مع خلوه من محبته، قال: فعلى هذا من لم يجد من نفسه ذلك الميل، لم يكمل إيمانه، وإلى هذا يوميء قول عمر -رضي الله عنه- الذي رواه البخاريّ في "الأيمان والنذور" من حديث عبد الله بن هشام، كنا مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إليّ من كل شيء، إلا من نفسي، فقال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك"، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي، فقال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "الآن يا عمر" (¬1)، انتهى. ¬

_ (¬1) قال في "الفتح" 13/ 375 - : أي الآن عرفت، فنطقت بما يجب، وأما تقرير بعض الشرّاح: الآن صار إيمانك معتدّا به، إذ المرء لا يُعتدّ بإيمانه حتى يقتضي عقله ترجيح جانب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ففيه سوء أدب في العبارة، وما أكثر ما يقع مثل هذا في كلام الكبار عند عدم التأمل، والتحرّز، لاستغراق الفكر في المعنى الأصليّ، فلا ينبغي =

فهذه المحبة ليست باعتقاد الأعظمية فقط، فإنها كانت حاصلة لعمر قبل ذلك قطعا. ومن علامة الحب المذكور: أن يَعرِض على المرء أن لو خُيِّر بين فقد غرض من أغراضه، أو فقد رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم-، أن لو كانت ممكنةً، فإن كان فقدها، أن لو كانت ممكنة أشد عليه، من فقد شيء من أغراضه، فقد اتصف بالأحبية المذكورة، ومن لا فلا، وليس ذلك محصورا في الوجود والفقد، بل يأتي مثله في نصرة سنته، والذب عن شريعته، وقمع مخالفيها، ويدخل فيه باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أنس -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا بهذا السند فقط، وأخرجه (البخاريّ) (1/ 10) و (مسلم) (1/ 49) و (النسائيّ) (8/ 114) و (أحمد) في "مسنده" (3/ 177 و 275) و (عبد بن حُميد) في "مسنده" (1176) و (الدارميّ) في "سننه" (2744)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان أن حبّ الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- علامة على كمال إيمان العبد. 2 - (ومنها): ما قاله في "الفتح": في هذا الحديث إيماء إلى فضيلة التفكر، فإن ¬

_ = التشديد في الإنكار على من وقع ذلك منه، بل يُكتفى بالإشارة إلى الردّ، والتحذير من الاغترار به؛ لئلا يقع المنكر في نحو مما أنكره. انتهى.

الأحبية المذكورة تعرف به، وذلك أن محبوب الإنسان: إما نفسه، وإما غيرها، أما نفسه فهو أن يريد دوام بقائها، سالمة من الآفات، وهذا هو حقيقة المطلوب، وأما غيرها فإذا حقق الأمر فيه، فإنما هو بسبب تحصيل نفعٍ مَا على وجوهه المختلفة، حالًا ومآلا، فإذا تأمل النفع الحاصل له من جهة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، الذي أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، إما بالمباشرة، وإما بالسبب، علم أنه سبب بقاء نفسه، البقاءَ الأبدي في النعيم السرمدي، وعَلِم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات، فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره؛ لأن النفع الذي يُثير المحبة حاصل منه أكثر من غيره، ولكن الناس يتفاوتون في ذلك، بحسب استحضار ذلك، والغفلة عنه، ولا شك أن حظ الصحابة رضي الله عنهم، من هذا المعنى أتم؛ لأن هذا ثمرة المعرفة، وهم بها أعلم. وبالله تعالى التوفيق. انتهى (¬1). 3 - (ومنها): ما قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: يجب تقديم محبّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- على النفوس، والأولاد، والأقارب، والأهلين، والأموال، والمساكين، وغير ذلك مما يُحبّه الإنسان غاية المحبّة، وإنما تتمّ المحبّة بالطاعة، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية [آل عمران: 31]. وسُئل بعضهم عن المحبّة، فقال: الموافقة في جميع الأحوال، فعلامة تقديم محبّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- على محبّة كلّ مخلوق أنه إذا تعارضت طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أوامره، وداع آخر يدعو إلى غيرها من هذه الأشياء المحبوبة، فإن قدّم طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وامتثال أوامره على ذلك الداعي، كان دليلا على صحة محبّته للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وتقديمها على كلّ شيء، وإن قدّم على طاعته، وامتثال أوامره شيئًا من هذه الأشياء المحبوبة طبعًا، دلّ ذلك على عدم إتيانه بالإيمان التّامّ الواجب عليه. وكذلك القول في تعارض محبّة الله، ومحبّة داعي الهوى والنفس، فإن محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- تبعٌ لمحبّة مُرسله عز وجل. هذا كلّه في امتثال الواجبات، وترك ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 1/ 86.

المحرّمات. فإن تعارض داعي النفس، ومندوبات الشريعة، فإن بلغت الحبّة إلى تقديم المندوبات على دواعي النفس، كان ذلك علامة كمال الإيمان، وبلوغه إلى درجة المقرّبين المحبوبين المتقرّبين بالنوافل بعد الفرائض، وإن لم تبلغ هذه المحبّة إلى هذه الدرجة، فهي درجة المقتصدين أصحاب اليمين الذين كملت محبّتهم الواجبة، ولم يزيدوا عليها. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله تعالى، وهو تحقيق نفيس جدّا. (¬1). 4 - (ومنها): ما قاله أبو العبّاس القرطبي رحمه الله: هذا الحديث على إيجازه يتضمّن ذكر أصناف المحبّة، فإنها ثلاثة: محبة إجلال وإعظام، كمحبّة الوالد، والعلماء، والفضلاء، ومحبة رحمة، وإشفاق، كمحبة الولد، ومحبة مشاكلة، واستحسان، كمحبة غير من ذكرنا، وإن محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا بدّ أن تكون راجحة على ذلك كلّه، وإنما كان ذلك؛ لأن الله تعالى قد كمّله على جميع جنسه، وفضّله على سائر نوعه بما جبله عليه من المحاسن الظاهرة، والباطنة، وبما فضّله من الأخلاق الحسنة، والمناقب الجميلة، فهو أكمل مَن وطِىء الثرى، وأفضل من ركب ومشى، وأكرم من وافى القيامة، وأعلاهم منزلة في دار الكرامة. قال القاضي أبو الفضل: فلا يصحّ الإيمان إلا بتحقيق إنافة قدر النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ومنزلته على كلّ والد، وولد، ومحُسنٍ، ومُفَضَّل، ومن لم يعتقد هذا، واعتقد سواه، فليس بمؤمن. قال القرطبيّ: وظاهر هذا القول أنه صرف محبة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إلى اعتقاد تعظيمه، وإجلاله، ولا شكّ في كفر من لا يعتقد عليه (¬2)، غير أن تنزيل هذا الحديث على ذلك المعنى غير صحيح؛ لأن اعتقاد الأعظميّة ليس بالمحبّة، ولا الأحبيّة، ولا مستلزمًا لها، ¬

_ (¬1) راجع "شرح البخاريّ" لابن رجب 1/ 49. (¬2) هكذا عبارة "المفهم"، وفيها ركاكة، ولعل الأولى: "ولا شك في كفر من لا يعتقد ذلك"، والله تعالى أعلم.

إذ قد يجد الإنسان من نفسه إعظام أمر، أو شخص، ولا يجد محبّته؛ ولأن عمر -رضي الله عنه- لمّا سمع قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه، وولده، ووالده، والناس أجمعين"، قال عمر: يا رسول الله أنت أحبّ إليّ من كل شيء، إلا نفسي، فقال: "ومن نفسك يا عمر"، قال: ومن نفسي، فقال: "الآن يا عمر" (¬1). وهذا كلّه تصريحٌ بأن هذه المحبّة ليست باعتقاد تعظيم، بل ميل إلى المعتقد، وتعظيمه، وتعلّق القلب به، فتأمّل هذا الفرق، فإنه صحيح، ومع ذلك فقد خفي على كثير من الناس. وعلى هذا المعنى الحديث (¬2) -والله أعلم-: أن من لم يجد من نفسه ذلك الميل، وأرجحيّته للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- لم يكمل إيمانه. قال: على أني أقول: إن كل من صدّق بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وآمن به إيمانا صحيحا، لم يخل عن وجدان شيء من تلك المحبة الراجحة للنبيّ -صلى الله عليه وسلم-، غير أنهم في ذلك متفاوتون، فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى، كما قد اتّفق لعمر -رضي الله عنه- حتى قال: من نفسي، ولهند امرأة أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما، حين قالت للنبيّ -صلى الله عليه وسلم-: لقد كان وجهك أبغض الوجوه كلّها إليّ، فقد أصبح وجهك أحبّ الوجوه كلها إليّ ... الحديث. وكما قال عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: لقد رأيتني، وما أحد أحبّ إليّ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أُطيق أن أملأ عيني منه إجلالًا له، ولو سُئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه (¬3). ولا شك في أن حظّ أصحابه -صلى الله عليه وسلم- من هذا المعنى أعظم؛ لأن معرفتهم لقدره أعظم؛ لأن المحبّة ثمرة المعرفة، فتقوى، وتضعف بحسبها. ومن المؤمنين من يكون مستغرقًا بالشهوات، محجوبا بالغفلات عن ذلك المعنى ¬

_ (¬1) رواه أحمد 4/ 336. وقد تقدم من رواية البخاريّ بنحوه. (¬2) -هكذا وقع في النسخة: "ولعل الصواب: وعلى هذا معنى الحديث -والله أعلم- أن من لم إلخ. (¬3) رواه مسلم (121).

في أكثر أوقاته، فهذا بأخسّ الأحوال، لكنه إذا ذُكِّر بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، أو بشيء من فضائله اهتاج لذكره، واشتاق لرؤيته بحيث يؤثر رؤيته، بل رؤية قبره، ومواضع آثاره على أهله، وماله، وولده، ونفسه، والناس أجمعين، فيخطُر له هذا، ويجده وجدانًا لا شكّ فيه، غير أنه سريع الزوال والذهاب، لغلبة الشهوات، وتوالي الغفلات، ويُخاف على من كان هذا حاله ذهاب أصل تلك المحبّة حتى لا يوجد منها حَبّة. فنسأل الله تعالى الكريم أن يمُنّ علينا بدوامها، وكمالها، ولا يحجبنا عنها. انتهى كلام القرطبيّ (¬1)، وهو بحث نفيس جدّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 68 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِح، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَى تَحَابُّوا، أَوَ لَا أَدُلُّكمْ عَلَى شَيْءٍ، إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ، أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنكُمْ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد الكوفي الحافظ الثبت [10] 1/ 1. 2 - (وَكِيعٌ) بن الجرّاح الكوفيّ الحافظ الثبت العابد [9] 1/ 3. 3 - (أَبُو مُعَاوِيَةَ) هو: محمد بن خازم الضرير الكوفيّ الثقة الحافظ، من كبار [9] 1/ 3. 4 - (الْأَعْمَش) هو: سليمان بن مِهْران الأسديّ الكوفيّ الحجة الثبت [5] 1/ 1. 5 - (أَبُو صَالِحٍ) هو: ذكوان السمّان الزّيّات المدنيّ الحجة الثبت [3] 1/ 1. 6 - (أَبُو هُرَيْرَةَ) الدَّوْسيّ الصحابيّ الشهير -رضي الله عنه- 1/ 1. والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) راجع "المفهم" 1/ 225 - 227.

لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين إلى الأعمش، والباقيان مدنيّان. 3 - (ومنها): أن فيه أبا معاوية أحفظ من روى عن الأعمش، وكذلك الأعمش أحفظ من روى عن أبي صالح السمان، يقال: روى عنه ألف حديث. 4 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. 5 - (ومنها): أن صحابيّه -رضي الله عنه- أحفظ من روى الحديث في دهره، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) هذا إقسام من النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، أقسم بالله سبحانه وتعالى الذي نفسه -صلى الله عليه وسلم- بيده، ففيه إثبات اليد لله عز وجل على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى (لَا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ) هكذا رواية المصنّف بحذف النون هنا، وفي قوله: "ولا تؤمنوا"، قال السنديّ رحمه الله: لا يخفى أنه نفيٌ لا نهيٌ، فالقياس ثبوت النون فيهما، فكأنها حذفت للمجانسة والازدواج، وقد جاء حذفها للتخفيف كثيرًا. انتهى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حذف نون الرفع من دون جازم وناصب لغة، وليس ضرورة، فقد ذكر ذلك ابن مالك في شرح "الكافية" حيث قال: ما حاصله: حُكي حذف نون الرفع دون اتصال نون الوقاية بها، ومثال ذلك في النثر ما رُوي من قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "لا تدخلوا الجنة ... " فذكر الحديث. قال: والأصل: لا تدخلون، ولا تؤمنون، لأن "لا" نافية، و"لا" النافية لا تعمل في الفعل شيئًا، ومثال ذلك في النظم قول الراجز: أَبِيتُ أَسْرِي وَتَبِيتِي تَدْلُكِي ... وَجْهَكِ بِالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ الذَّكِي والأصل "تبيتين"، و"تدلكين"، فحذف النون دون جازم وناصب، ومنه قول أبي الطيّب:

فَإِنْ يَكُ قَوْمٌ سَرَّهُمْ مَا صَنَعْتُمُ ... سَيَحْتَلِبُوهَا لاَقِحًا غَيْرَ بَاهِلِ وإلى هذا أشار في "الكافية" بقوله: وَدُونَ "ني" في الرَّفْع حَذْفَهَا حَكَوْا ... في النَّثْرِ وَالنَّظْمِ وَمِمَّا قَدْ رَوَوْا أَبِيتُ أَسْرِي وَتَبِيتِي تَدْلُكِي ... وَجْهَكِ بِالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ الذَّكِي انتهى كلام ابن مالك رحمه الله بتصرّف (¬1). فتبيّن بهذا أن رواية المصنّف بحذف النون في الموضعين صحيح لغةً، كما صحّ نقلًا. والله تعالى أعلم. (حَتَّى تُؤْمِنُوا) أي لا تستحقّون دخول الجنة أوّلًا حتى تؤمنوا إيمانًا كاملًا. وقال النوويّ رحمه الله: هو على ظاهره، وإطلاقه، فلا يدخل الجنة إلا من مات مؤمنًا، وإن لم يكن كامل الإيمان، فهذا هو الظاهر من الحديث، وقال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح رحمه الله: معنى الحديث: لا يكمل إيمانكم إلا بالتحابّ، ولا تدخلون الجنة عند دخول أهلها، إذا لم تكونوا كذلك، قال النووي: وهذا الذي قاله محتمل. انتهى (¬2). (وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا) بحذف إحدى التاءين، إذ أصله: تتحابّوا. أي حتى يُحبّ بعضكم بعضًا. قال النوويّ: معناه: لا يكمل إيمانكم، ولا يصلُح حالكم في الإيمان إلا بالتحاب. وقال القرطبيّ: معناه: لا يكمل إيمانكم، ولا يكون حالكم حالَ من كمل إيمانه حتى تفشوا السلام الجالبَ للمحبّة الدينيّة، والأُلفة الشرعيّة. وقال أيضًا: الإيمان المذكور أوّلًا هو التصديق الشرعيّ المذكور في حديث ¬

_ (¬1) راجع "شرح الكافية الشافية" 1/ 207 - 211. (¬2) "شرح مسلم" 2/ 36.

جبريل عليه السلام والإيمان المذكور ثانيًا هو الإيمان العمليّ المذكور في قوله: "الإيمان بضع وسبعون بابًا"، ولو كان الثاني هو الأول للزم منه أن لا يدخل الجنّة من أبغض أحدًا من المؤمنين، وذلك باطل قطعًا، فتعيّن التأويل الذي ذكرناه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله (¬1). (أَوَ لَا) بفتح الهمزة والواو، هي "ألا" التي للعرض والتحضيض، والواو للعطف، وأصلها التقديم على الهمزة، إلا أنها أخّرت للزوم تصديرها (أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ، إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ، أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنكُمْ) بقطع الهمزة المفتوحة، ومعنى إفشاء السلام: إظهاره، وإشاعته، وإقراؤه على المعروف وغير المعروف. وقال السنديّ: والمراد نشر السلام بين الناس؛ ليُحيُوا سنته -صلى الله عليه وسلم-، قال النوويّ: أقلّه أن يرفع صوته بحيث يسمع السلَّم عليه، فإن لم يسمعه لم يكن آتيًا بالسنّة، ذكره السيوطيّ في "حاشية أبي داود" في شرح هذا اللفظ، قال السنديّ: ظاهره أنه حمل الإفشاء على رفع الصوت به، والأقرب حمله على الإكثار. انتهى (¬2). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الأولى حمله على المعنيين؛ إذ لا تنافي بينهما، فيكون المراد بالإفشاء رفع الصوت بالسلام، وإكثاره بين الناس. والله تعالى أعلم. وقال الطيبيّ رحمه الله: اعلم أنه تعالى جعل السلام سببًا للمحبّة، والمحبّة سببًا لكمال الإيمان؛ لأن إفشاء السلام سبب للتحابّ والتوادّ، وهو سبب الأُلفة والجمعيّة بين المسلمين المسبب لكمال الدين، وإعلاء كلمة الإسلام، وفي التهاجر والتقاطع والشحناء التفرقة بين المسلمين، وهو سبب لانثلام الدين، والوهنِ في الإسلام، وجَعْل كلمة الذين كفروا الْعُلْيَا، قال الله عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} الآية [آل عمران: 103]. انتهى (¬3)، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. ¬

_ (¬1) "المفهم" 1/ 242. (¬2) "شرح السنديّ" 1/ 53. (¬3) "الكاشف" 2/ 3038.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا أخرجه مسلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا بهذا السند، وأعاده في "كتاب الأدب" برقم (3692)، وأخرجه (مسلم) (1/ 53) و (أبو داود) (5193) و (الترمذيّ) (2688) و (أحمد) في "مسنده" (2/ 391 و 442 و 447 و 495 و 512) و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" (8/ 625) و (أبو عوانة) في "مسنده" (1/ 30) (وابن حبّان) في "صحيحه" (236) و (ابن منده) في "الإيمان" (329 و 330 و 332) و (البغويّ) في "شرح السنة" (3300) والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف، وهو كما أسلفنا وجهه أول الباب بيان أن محبة المؤمنين بعضهم بعضًا مما يكمل به الإيمان، فهي شعبة من شعب الإيمان. 2 - (ومنها): أن فيه إثبات اليد لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله. 3 - (ومنها): انتفاء كمال الإيمان عمن ليست له محبة لإخوانه المؤمنين. 4 - (ومنها): إثبات دخول الجنّة للمؤمن الذي حقّق إيمانه بالمحبّة لإخوانه، والتودّد إليهم بما يُدخل السرور عليهم كالسلام. 5 - (ومنها): أن فيه الحثَّ العظيم على إفشاء السلام، وبذله للمسلمين كلهم المعروفين وغير المعروفين. 6 - (ومنها): أن السلام أول أسباب التآلف، ومفتاح استجلاب المودة، وفى إفشائه تمكن ألفة المسلمين بعضهم لبعض. 7 - (ومنها): أن في إفشاء السلام إظهار شعار المسلمين المميز لهم من غيرهم، من أهل الملل.

8 - (ومنها): أن في إفشائه رياضةَ النفس، ولزومَ التواضع، وإعظامَ حرمات المسلمين، وقد ذكر البخاري رحمه الله في "صحيحه" عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما أنه قال: "ثلاثٌ من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار"، وروى غير البخاريّ هذا الكلام مرفوعًا إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وبذلُ السلام للعالم، والسلامُ على من عرفت ومن لم تعرف، وإفشاءُ السلام كلها بمعنى واحد. قاله النوويّ رحمه الله تعالى (¬1). وفيها لطيفة أخرى، وهي أنها تتضمن رفع التقاطع والتهاجر والشحناء، وفساد ذات البين التي هي الحالقة، وأن سلامه لله لا يتبع فيه هواه، ولا يخص أصحابه وأحبابه به. انتهى كلام النوويّ (¬2)، وهو كلام نفيس، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 69 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، (ح) وحَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ"). رجال هذا الإسناد: ثمانية: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْر) الْهَمْدانيّ الكوفيّ الحافظ الثبت [10] 1/ 4. 2 - (هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ) السلميّ الدمشقيّ الخطيب، صدوق مقرىء، كبر، فتلقّن، فحديثه القديم أصحّ، من كبار [10] 1/ 5. 3 - (حَدَّثَنَا عَفَّانُ) بن مسلم بن عبد الله الباهليّ، أبو عثمان الصفّار البصريّ، مولى عزرة بن ثابت الأنصاري سكن بغداد، ثقة ثبت ربما وهم، من كبار [10]. ¬

_ (¬1) "شرح مسلم" 2/ 36. (¬2) راجع "شرح مسلم" 2/ 36.

رَوَى عن داود بن أبي الفرات، وعبد الله بن بكر المزني، وصخر بن جويرية، وشعبة، وعبد الواحد بن زياد، وغيرهم. رَوَى عنه البخاري، وروى هو والباقون عنه بواسطة إسحاق بن منصور، وأبي قُدامة السَّرَخْسِيّ، ومحمد بن عبد الرحيم البزار، وحجاج بن الشاعر، وأبو خيثمة، والحسن بن علي الخلال، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وعمرو بن علي، وغيرهم. قال العجليّ: عفان بصري ثقة ثبت، صاحب سنة، وكان على مسائل معاذ بن معاذ، فجُعِل له عشرة آلاف دينار على أن يَقِف عن تعديل رجل، فلا يقول: عدل، ولا غير عدل، فأبى، وقال: لا أبطل حقّا من الحقوق. وقال حنبل بن إسحاق: وأمر المأمون إسحاق بن إبراهيم الطاهري أن يدعو عفان إلى القول بخلق القرآن، فإن لم يُجِب فاقطع عنه رزقه، وهو خمسمائة درهم في الشهر، فاستدعاه، فقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] حتى ختمها، فقال: مخلوق هذا؟ قال: يا شيخ إن أمير المؤمنين يقول: إن لم يُجب اقطع رزقه، فقال: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22]، وخرج ولم يُجِب. وقال الحسين بن حيان: سألت أبا زكريا إذا اختلف أبو الوليد وعفان في حديث عن حماد بن سلمة، فالقول قول من؟ قال: عفان، قلت: وفي حديث شعبة؟ قال: القول قول عفان، قلت: وفي كل شيء؟ قال: نعم عفان أثبت منه وأكيس، وأبو الوليد ثبت ثقة، قلت: فأبو نعيم؟ قال: عفان أثبت. قال ابن أبي خيثمة: سمعت أبي، وابن معين يقولان: أنكرنا عفان في صفر سنة (19)، وفي رواية سنة عشرين، ومات بعد أيام. وقال ابن سعد: كان مولده سنة (134). وقال ابن سعد: ومات سنة عشرين، وكذا قال أبو داود، وزاد: شهدت جنازته، وفيها أرّخه غير واحد. وقيل: سنة (19) قال الخطيب: والصحيح الأول. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (29) حديثًا. 4 - (عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السبيعيّ، أبو عمرو، ويقال: أبو محمد الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقة مأمون [8].

رأى جده أبا إسحاق، وروى عن أبيه، وأخيه إسرائيل، وابن عمه يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق، وسليمان التيمي، وهشام بن عروة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعبيد الله بن عمر، وابن عون، وغيرهم. ورَوَى عنه أبوه يونس، وابنه عمرو بن عيسى، وحماد بن سلمة، وهو أكبر منه، وموسى بن أعين، والوليد بن مسلم، وإسماعيل بن عياش، وهو من أقرانه، وبقية بن الوليد، وعبد الله بن وهب، وعبد الله بن يوسف التنيسي، وغيرهم. وقال أحمد بن جناب: مات سنة سبع وثمانين ومائة، وفيها أرّخه غير واحد. وقال محمد بن المثنى، وغير واحد: مات سنة (88). وقال أبو عبيد المصيصي، ومحمد ابن سعد، وخليفة: مات سنة (91) زاد ابن سعد: وكان ثقة ثبتًا. وقال يعقوب بن شيبة. مات أول سنة (91) بالْحَدَث -يعني موضعًا من الثغر. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (32) حديثًا. 5 - (شُعْبَةُ) بن الحجاج المذكور قبل حديث. 6 - (الْأَعْمَشُ) سليمان بن مهران المذكور في السند الماضي. 7 - (أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سلمة الأسديّ الكوفيّ، ثقة مخضرمٌ [2]. أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يَرَه، وروى عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاذ بن جبل، وسعد بن أبي وقاص، وحذيفة، وابن مسعود، وخلق كثير من الصحابة والتابعين. وروى عنه الأعمش، ومنصور، وزُبيد اليامي، وجامع بن أبي راشد، وحُصين بن عبد الرحمن، وحبيب بن أبي ثابت، وعاصم بن بهدلة، وعبدة بن أبي لبابة، وغيرهم. قال عاصم بن بهدلة عنه: أدركت سبع سنين من سني الجاهلية. وقال مغيرة عنه: أتانا مُصَدِّق النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأتيته بكبش لي، فقلت: خذ صدقة هذا، فقال: ليس في هذا صدقة. وقال يزيد بن أبي زياد: قلت لأبي وائل: أيما أكبر أنت أو مسروق؟ قال: أنا.

وقال الثوري عن أبيه: سمعت أبا وائل، وسئل أنت أكبر أو الربيع بن خُثَيم، قال: أنا أكبر منه سنا، وهو أكبر مني عقلًا. وقال عاصم بن بهدلة: قيل لأبي وائل: أيهما أحب إليك علي أو عثمان؟ قال: كان علي أحب إلي، ثم صار عثمان. وقال عمرو بن مرة: قلت لأبي عبيدة: مَنْ أعلم أهل الكوفة بحديث عبد الله؟ قال: أبو وائل. وقال الأعمش، عن إبراهيم: عليك بشقيق، فإني أدركت الناس، وهم متوافرون، وإنهم لَيَعُدُّونه من خيارهم. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة لا يُسأل عن مثله. وقال وكيع: كان ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال ابن حبان في "الثقات": سكن الكوفة، وكان من عبادها، وليست له صحبة، ومولده سنة إحدى من الهجرة. وقال العجلي: رجل صالح جاهلي، من أصحاب عبد الله. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة. قال خليفة بن خياط: مات بعد الجماجم سنة (82). وقال الواقدي: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (47) حديثًا. 8 - (عَبْدُ اللَّهِ) بن مسعود -رضي الله عنه- تقدّم في 2/ 19، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيّات المصنّف بالنسبة للإسناد الأول، ومن خماسياته بالنسبة للثاني، فهو أعلى بدرجة. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. 3 - (ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات الكوفيين، غير شيخه الثانيّ، فدمشقيّ، وعفّان، وشعبة، فبصريّان. 4 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم. 5 - (ومنها): أن فيه عبد الله غير منسوب، وهو ابن مسعود؛ لأن السند كوفي، والقاعدة أنه إذا أُطلق عبد الله في الصحابة أن يُنظر إلى الراوي عنه، فإن كان كوفيّا، فهو

ابن مسعود، وإن كان مدنيا فهو ابن عمر، وإن كان مكيا فهو ابن الزبير، وإن كان بصريا فهو ابن عباس، وإن كان مصريا أو شاميّا فهو ابن عمرو بن العاص، وإلى هذا أشار السيوطيّ في "ألفية الحديث" حيث قال: وَحَيْثُما أُطْلِقَ عَبْدُ اللَّهِ في ... طَيْبَةَ فَابْنُ عَمَر وَإِنْ يَفِي بِمَكَّةٍ فَابْنُ الزُّبَيْرِ أَوْ جَرَى ... بِكُوفَةٍ فَهْوَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُرَى وَالْبَصْرَةِ الْبَحْرُ وَعِنْدَ مِصْرِ ... وَالشَّامِ مَهْمَا أُطْلِقَ ابْنُ عَمْرِو وأما ما اشتهر أنه إذا أُطلق عبد الله في السند فهو ابن مسعود، فغير صحيح، بل الصواب أنه على التفصيل الذي ذكرناه، فتفطّن. 6 - (ومنها): أن صحابيّه -رضي الله عنه- أحد السابقين إلى الإسلام، وكان يُشبّه بالنبيّ -صلى الله عليه وسلم- في دلّه وسمته، وقد أثنى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه من أقرإ الناس، فقال -صلى الله عليه وسلم- "من أحبّ أن يقرأ القرآن غضّا كما أُنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي وَائِلٍ) في الحديث قصّة ساقها البخاريّ في "صحيحه" من طريق شعبة، عن زُبيد -هو ابن الحارث- قال: سألت أبا وائل عن المرجئة، فقال: حدّثني عبد الله أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "سباب المسلم فسوقٌ، وقتاله كفر". قال في "الفتح": قوله: "سألت أبا وائل عن المرجئة": أي عن مقالة المرجئة، ولأبي داود الطيالسيّ: "عن شعبة، عن زُبيد، قال: لمّا ظهرت المرجئة، أتيت أبا وائل، فذكرت ذلك له"، فظهر من هذا أن سؤاله كان عن مُعتَقَدهم، وأن ذلك كان حين ظهورهم، وكانت وفاة أبي وائل سنة تسع وتسعين، وقيل: سنة اثنتين وثمانين، ففي ذلك دليل على أن بدعة الإرجاء قديمة، وقد تابع أبا وائل في رواية هذا الحديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، أخرجه الترمذيّ مصححًا، ولفظه: "قتال المسلم أخاه كفر، وسبابه فسوق".

ورواه جماعة عن عبد الله بن مسعود موقوفًا ومرفوعًا، ورواه النسائي من حديث سعد بن أبي وقاص أيضًا مرفوعًا، فانتفت بذلك دعوى من زعم أن أبا وائل تفرد به. انتهى (¬1). وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وقد اتّهَم بعض فقهاء المرجئة أبا وائل في رواية هذا الحديث، أما أبو وائل فليس بمتّهم، بل هو الثقة العدل المأمون، وقد رواه معه عن ابن مسعود أيضًا أبو عمرو الشيبانيّ، وأبو الأحوص، وعبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، لكن فيهم من وقَفَه، ورواه أيضًا عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- سعد بن أبي وقّاص وغيره. انتهى (¬2). (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "سِبَابُ) -بكسر السين، وتخفيف الموحدة- بمعنى السبّ، وهو الشتم، وهو التكلّم في عرض الإنسان بما يَعِيبه. وفي "المطالع": السباب: المشاتمة، وهي من السبّ، وهو القطع، وقيل: من السبّة، وهي حلقة الدبر، كأنها على القول الأول قطع المسبوب عن الخير والفضل، وعلى الثاني كشف العورة، وما ينبغي أن يُستَرَ. وفي "العباب": التركيب يدلّ على القطع، ثم اشتقّ منه الشتم. وقال إبراهيم الحربي: السباب أشد من السب، وهو أن يقول الرجل ما فيه، وما ليس فيه، يريد بذلك عيبه. وقال غيره: السباب هنا مثل القتال، فيقتضى المفاعلة (¬3) (الْمُسْلِمِ) كذا في معظم الروايات، ولأحمد عن غندر، عن شعبة: "المؤمن"، فكأنه رواه بالمعنى انتهى. (فُسُوقٌ) -بضم، فسكون: مصدر فسق يفسُق بالضمّ، من باب نصر، وحكى الأخفش يَفسِق بالكسر، من باب ضرب: أي فجور. وقال في "الفتح": "الفسق" -في ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 1/ 137 - 138. (¬2) راجع "فتح الباري شرح صحيح البخاريّ" للحافظ ابن رجب 1/ 201. (¬3) راجع "عمدة القاري" 1/ 319 و"فتح الباري" 1/ 138.

اللغة-: الخروج، وفي الشرع: الخروج عن طاعة الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهو في عرف الشرع أشدّ من العصيان، قال الله تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} الآية [الحجرات: 7]. ففي الحديث تعظيم حق المسلم، والحكم على من سبه بغير حق بالفسق، ومقتضاه الرد على المرجئة، وعُرف من هذا مطابق جواب أبي وائل للسؤال عنهم، كأنه قال: كيف تكون مقالتهم حقّا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول هذا انتهى. (وَقِتَالُهُ كفْرٌ) أي من أعمال أهل الكفر، فإنهم الذين يقصدون قتال المسلم، وأما تأويله بحمله على القتال مستحلا، فيؤدّي إلى عدم صحة المقابلة؛ لكون السباب مستحلا كفرًا أيضًا. [فإن قيل]: هذا وإن تضمن الرد على المرجئة، لكن ظاهره يُقَوِّي مذهب الخوارج الذين يُكَفّرون بالمعاصي. [فالجواب]: أن المبالغة في الرد على المبتدع اقتضت ذلك، ولا متمسك للخوارج فيه؛ لأن ظاهره غير مراد، لكن لما كان القتال أشدّ من السباب؛ لأنه مُفْضٍ إلى إزهاق الروح عَبّر عنه بلفظٍ أشدّ من لفظ الفسق، وهو الكفر، ولم يُرد حقيقة الكفر التي هي الخروج عن الملة، بل أطلق عليه الكفر مبالغة في التحذير، معتمدًا على ما تقرر من القواعد أن مثل ذلك لا يُخرِج عن الملة، مثل حديث الشفاعة، ومثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية [النساء: 48]، أو أطلق عليه الكفر لشبهه به؛ لأن قتال المؤمن من شأن الكافر، وقيل: المراد هنا الكفر اللغوي، وهو التغطية؛ لأن حق المسلم على المسلم أن يُعِينه وينصره ويكف عنه أذاه، فلما قاتله كان كأنه غَطَّى على هذا الحق، وقيل: أراد بقوله: "كفر": أي قد يؤول هذا الفعل بشؤمه إلى الكفر، وهذا بعيد، وأبعد منه حمله على المستحل لذلك؛ لأنه لا يحصل التفريق بين السباب والقتال، فإن مستحل لعن المسلم بغير تأويل يُكَفِّر أيضًا. ومثل هذا الحديث قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب

بعض"، ففيه هذه الأجوبة، ونظيره قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85] بعد قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة: 85]، فدل على أن بعض الأعمال يُطلَق عليه الكفر تغليظًا. وأما قوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم: "لَعْنُ المسلم كقتله"، فلا يخالف هذا الحديث؛ لأن المشبه به فوق المشبه، والقدر الذي اشتركا فيه بلوغ الغاية في التأثير، هذا في الْعِرْض، وهذا في النفس. قاله في "الفتح" (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا بهذا الإسناد فقط، و (البخاريّ) (1/ 19) و (8/ 18) و (9/ 63) و (مسلم) (1/ 57 و 58) و (الترمذيّ) (1983 و 2634 و 2635) و (النسائيّ) (7/ 122) و (الطيالسيّ) في "مسنده" (248 و 258 و 306) و (الحميديّ) في "مسنده" (104) و (أحمد) في "مسنده" (1/ 385 و 411 و 417 و 433 و 446 و 454 و 460) و (أبو يعلى) في "مسنده" (4988 و 4991) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (5939) و (ابن منده) (653 و 654 و 655 و 656) و (أبو عوانة) في "مسنده" (1/ 24) و (البيهقيّ) في "الكبرى" (8/ 20) و (الخطيب البغدادي) في "تاريخه" (13/ 185)، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 1/ 138.

(المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان أن سباب المسلم ينافي كمال الإيمان؛ لأنه فسوقٌ، وكذا قتاله؛ لأنه كفرٌ، على ما تقدّم من بيان المراد بالكفر هنا. 2 - (ومنها): أن فيه تعظيم حقّ المسلم، والحكم على من سبّه بغير حقّ بالفسق، وعلى من قاتله بالكفر. 3 - (ومنها): أن فيه الردّ على المرجئة القائلين بأن المعاصي لا تضرّ مع الإيمان، وقد تقدم سبب ذكر أبي وائل هذا الحديث وهو أن زُبيدًا سأله عن المرجئة؟ فقال: حدّثني عبد الله -رضي الله عنه- إلخ، فكأنه قال: كيف يكون مذهبهم حقًّا، وقد خالف قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم- هذا، فمراده إبطال رأيهم الفاسد المذكور، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 70 - (حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلي الجهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا عَلَى الْإِخْلَاصِ للَّهِ وَحْدَهُ، وَعِبَادَتِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، مَاتَ وَاللَّه عَنْهُ رَاضٍ". قَالَ أَنَسٌ: وَهُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَبَلَّغُوهُ عَنْ رَبِّهِمْ قَبْلَ هَرْج الْأَحَادِيثِ، وَاخْتِلَافِ الْأَهْوَاءِ، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ في كِتَابِ اللَّهِ، في آخِرِ مَا نَزَلَ، يَقُولُ اللَّه: {فَإِنْ تَابُوا}، قَالَ: خَلْعُ الْأَوْثَانِ وَعِبَادَتِهَا، {تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [التوبة: 5]، وَقَالَ في آيَةٍ أُخْرَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ في الدِّينِ} [التوبة: 11]). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (نَصْرُ بْنُ عَليٍّ الْجَهْضَمِيُّ) البصريّ، ثقة ثبتٌ [10] 1/ 13. 2 - (أَبُو أَحْمَدَ) هو: محمد بن عبد الله بن الزبير بن عُمَرَ بن دِرْهم الأسديّ

مولاهم الزبيريّ الكوفيّ، ثقة ثبتٌ إلا أنه قد يُخطىء في حديث الثوريّ [9]. روى عن أيمن بن نابل، ويحيى بن أبي الهيثم العطار، وعيسى بن طهمان وفِطر بن خليفة، وسفيان الثوري، ومسعر، ومالك بن مغول، ومالك بن أنس، وإسرائيل بن يونس، وإبراهيم بن طهمان، وغيرهم. وروى عنه ابنه طاهر، وأحمد بن حنبل، وأبو خيثمة، وبندار، وأبو موسى، وأحمد ابن منيع، وإبراهيم بن سعيد الجوهري، وأبو بكر بن أبي شيبة، وعبد الله بن محمد المسندي، وعمر بن محمد الناقد، ونصر بن عليّ الجهضميّ، وغيرهم. قال نصر بن علي: سمعت أبا أحمد الزبيري يقول: لا أبالي أن يُسرَق مني كتاب سفيان، إني أحفظه كله. وقال ابن نمير: أبو أحمد الزبيري صدوق، في الطبقة الثالثة من أصحاب الثوري، ما علمت إلا خيرًا، مشهور بالطلب، ثقة، صحيح الكتاب، وكان صديق أبي نعيم، وأبو نعيم أقدم سماعا وأسنّ منه. وقال حنبل بن إسحاق عن أحمد بن حنبل: كان كثير الخطإ في حديث سفيان. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ليس به بأس. وقال العجلي: كوفي ثقة يتشيع. وقال بندار: ما رأيت أحفظ منه. وقال أبو زرعة، وابن خِرَاش: صدوق. وقال أبو حاتم: عابد مجتهد، حافظ للحديث، له أوهام. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن أبي خيثمة عن محمد بن يزيد: كان يصوم الدهر. قال أحمد بن حنبل وغيره: مات بالأهواز سنة ثلاث ومائتين. وفيها أرّخه ابن سعد، وقال: كان صدوقًا، كثير الحديث. وقال ابن قانع: ثقة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (17) حديثًا. 3 - (أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ) يقال: اسمه عيسى بن أبي عيسى، ماهان، وقيل: عيسى ابن أبي عيسى، عبد الله بن ماهان، مَرْوزيُّ الأصل، سَكَن الرَّيَّ، وقيل: كان أصله من البصرة، وكان مَتْجَره إلى الريّ، فنسب إليها، مشهور بكنيته، صدوق، سيّىء الحفظ، خصوصًا عن مغيرة، من كبار [7].

روى عن الربيع بن أنس، وحميد الطويل، وعاصم بن أبي النَّجُود، وحُصين بن عبد الرحمن، والأعمش، ويونس بن عبيد، ومغيرة بن مقسم، ومنصور، وجماعة. وروى عنه ابنه عبد الله، وشعبة، وهو من أقرانه، وعبد الرحمن بن عبد الله بن سعد الدَّشْتكِيّ، وأبو عوانة، وسلمة بن الفضل، وأبو أحمد الزبيري، وغيرهم. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ليس بقوي في الحديث. وقال حنبل عن أحمد: صالح الحديث. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: كان ثقة، خراسانيا انتقل إلى الريّ، ومات بها. وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: يُكتَب حديثه، ولكنه يخطىء. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: صالح. وقال الدُّوريّ عن ابن معين: ثقة، وهو يَغْلَط فيما يروي عن مغيرة. وقال عبد الله بن علي بن المديني عن أبيه: هو نحو موسى بن عُبَيدة، وهو يَخلِط فيما روى عن مغيرة ونحوه. وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن علي بن المديني: كان عندنا ثقة. وقال ابن عمار الموصلي: ثقة. وقال عمرو بن علي: فيه ضعف، وهو من أهل الصدق، سيىء الحفظ. وقال أبو زرعة: شيخ يَهِم كثيرًا. وقال أبو حاتم: ثقة صدوق صالح الحديث. وقال زكريا الساجي: صدوق، ليس بمتقن. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال ابن خِرَاش: صدوق سيىء الحفظ. وقال ابن عديّ: له أحاديث صالحة، وقد روى عنه الناس، وأحاديثه عامتها مستقيمة، وأرجو أنه لا بأس به. وقال ابن سعد: كان ثقة، وكان يَقْدَم بغداد، فيسمعون منه. وقال ابن حبان: كان ينفرد عن المشاهير بالمناكير، لا يُعجبني الاحتجاج بحديثه، إلا فيما وافق الثقات. وقال العجلي: ليس بالقوي. وقال الحاكم: ثقة. وقال ابن عبد البر: هو عندهم ثقة، عالم بتفسير القرآن. وقال عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد الدشتكي: سمعت أبا جعفر الرازي يقول: لم أكتب عن الزهري؛ لأنه كان يخضب بالسواد. وقال أبو عبد الله: فابتلي أبو جعفر حتى لَبِس السواد، وكان زميل المهديّ إلى مكة. أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والأربعة، وله في هذا الكتاب أربعة

أحاديث فقط، برقم 70 و 71 و 2168 و 3513. 4 - (الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ) البكريّ، ويقال: الحنفيّ البصريّ، نزيل خراسان، صدوقٌ له أوهام، ورمي بالتشيّع [5]. روى عن أنس بن مالك، وأبي العالية، والحسن البصري، وصفوان بن مُحرِز، وجَدَّيه: زيد وزياد، وأرسل عن أم سلمة. وروى عنه أبو جعفر الرازي، والأعمش، وسليمان التيمي، وسليمان بن عامر الْبُزْريّ، وعيسى بن عُبيد الْكِنديّ، ومقاتل بن حَيّان، وابن المبارك، وغيرهم. قال العجلي: بصري صدوق. وقال أبو حاتم: صدوق، وهو أحب إلي في أبي العالية من أبي خَلْدَة. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن معين: كان يتشيع فيُفرِط. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: الناس يتقون من حديثه ما كان من رواية أبي جعفر عنه؛ لأن في أحاديثه عنه اضطرابًا كثيرًا. قال ابن سعد: مات في خلافة أبي جعفر المنصور. وذكر الذهبي أنه توفي سنة (139)، أو سنة (140). أخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. [تنبيه]: الربيع بن أنس هذا ليس ولدًا لأنس بن مالك الصحابيّ -رضي الله عنه-، وإنما يروي عنه، فهو ممن اتّفق اسم أبيه مع اسم شيخه، وإليه أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث" حيث قال: أَوِ اسْمُ شَيْخ لأَبِيهِ يَأْتْسِي ... رَبِيعٌ ابْنُ أَنَسٍ عَنْ أَنَسِ 5 - (أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) الصحابيّ الشهير -رضي الله عنه- تقدّم في 3/ 24، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ) شرطيّة، مبتدأ (فَارَقَ الدُّنْيَا) أي مات (عَلَى الْإِخْلَاصِ للَّهِ وَحْدَهُ، وَعِبَادَتِه) أي توحيده، فهو كالتفسير للإخلاص، أو طاعته مطلقًا، فذكر إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة بعدها تخصيص لأعظم العبادات (لَا شَرِيكَ لَهُ) أي على مقتضى كلمة التوحيد، من إخلاص التوحيد، ونبذ

الشرك (وَإِقَامِ الصَّلَاةِ) بالجرّ عطفًا على "الإخلاص"، وكذا ما بعده: أي أداء الصلاة بما تستحقّه من أركان، وواجبات، ومستحبّات، وإتمام الخشوع (وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) أي إعطائها لمن يستحقّها من غير استثقال، ولا منّ، وقوله (مَاتَ) جواب "من"، وهو خبر المبتدإ على الأصحّ، وقوله (وَاللَّه عَنْهُ رَاضٍ) جملة في محلّ نصب على الحال من فاعل "مات". (قَالَ أَنَسْ) بن مالك -رضي الله عنه- (وَهُوَ) أي ما ذُكر في هذا الحديث (دِينُ اللَّه الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ) أي أتت الرسل عليهم الصلاة والسلام به من عند الله سبحانه وتعالى (وَبَلَّغُوهُ) بتشديد اللام: أي أوصلوه إلى الناس (عَنْ رَبِّهِمْ) سبحانه وتعالى (قَبْلَ هَرْجِ الْأَحَادِيثِ) بفتح الهاء، وسكون الراء، قال ابن الأثير: أصل الْهَرْج: الكثرة في الشيء والاتّساع. انتهى (¬1). والظاهر أنه أراد بالأحاديث الأحاديث التي تتعلّق بالملل والنِّحَل، وعليه فيكون قوله: (وَاخْتِلَافِ الْأَهْوَاءِ) من عطف التفسير، والأهواء بالفتح والمدّ: جمع هَوًى بالفتح مقصورًا، قال الفيّوميّ رحمه الله: الْهَوَى مقصورًا مصدرُ هَوِيته، من باب تَعِبَ: إذا أحببته، وعَلِقتَ به، ثم أُطلق على ميلِ النفس، وانحرافها نحوَ الشيء، ثم استُعمل في ميل مذموم، فيقال: اتّبَعَ هَوَاه، وهو من أهل الأهواء. انتهى (¬2). وأراد بالأهواء هنا الأهواء المضلّة، من اليهوديّة، والنصرانيّة، والوثنية، وكلّ النحل الباطلة. والمعنى: أن هذه الأمور التي اشتمل عليها هذا الحديث هي التي بعث الله سبحانه وتعالى بهما الرسل، وأمرهم أن يبلّغوها للناس، قبل أن تتشتت بهم الأهواء المضلّة، فتفرّقوا. وقوله (وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ) أي ما يصدّق ما قلته من كون هذا هو دين الله سبحانه وتعالى، فـ "تصديقُ" مبتدأ خبره قوله (في كِتَابِ اللَّهِ) وقوله (في آخِرِ مَا نَزَلَ) بدل من الجارّ ¬

_ (¬1) "النهاية" 5/ 257. (¬2) "المصباح المنير" 2/ 643.

والمجرور قبله، أو متعلّق بحال مقدّر: أي حال كونه كائنًا في آخر ما نزل من الآيات، والظاهر أنه أراد بذلك أنه مما لم يُنسَخ، لا أن هذه الآية آخر ما نزل من القرآن، فإن آخر ما نزل منه آية {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] الآية، ويحتمل أن يكون المعنى أنها في سورة هي من أواخر ما نزل من السور، فإنها من سورة التوبة، وهي من أواخر ما نزل، على ما قيل (يَقُولُ اللَّه: {فَإِنْ تَابُوا}، قَالَ) أنس -رضي الله عنه- مبيّنًا معنى التوبة هنا (خَلْعُ) بفتح، فسكون: أي نزع محبتها من القلب (الْأَوْثَانِ) بالفتح: جمع وَثَن بفتحتين: هو الصنم، سواء كان من خشب، أو حجر، أو غيرهما، وقيل: الصنم هو المتّخذ من الجواهر المعدنيّة التي تذوب، والوثن: هو المتخذ من حجر، أو خشب، أو نُحاس. قاله في "المصباح" (وَعِبَادَتِهَا) أي ترك عبادتها {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} وَقَالَ في آيَةٍ أُخْرَى) أي من سورة التوبة أيضًا: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ في الدِّينِ} [التوبة: 11]) يعني أن الله سبحانه وتعالى جعل من تاب عن الشرك، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة ممن ثبت له الأخوّة الإيمانية، حيث كان مؤمنًا، فله ما لهم، وعليه ما عليهم. والله تعالى أعلم بالصواب. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أنس -رضي الله عنه- هذا انفرد به المصنّف، أخرجه هنا بهذا السند، وهو ضعيف، لأنه من رواية أبي جعفر الرازيّ، عن الربيع بن أنس، قال ابن حبّان: الناس يتّقون حديثه ما كان من رواية أبي جعفر الرازي عنه؛ لأن في أحاديثه اضطرابًا كثيرًا. وأما قول الحاكم في "المستدرك" 2/ 331 بعد إخراجه له: صحيح الإسناد، فمن تساهلاته، وكذا موافقة الذهبيّ له عليه، فتنبّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: (حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى الْعَبْسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنسٍ مِثْلَهُ). رجال هذا الإسناد: هم الذين تقدّموا في السند الماضي، سوى اثنين، هما: 1 - (أبو حاتم) هو: محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مِهْران الحنظلي الرازي الحافظ الكبير، أحد الأئمة [11]. روى عن محمد بن عبد الله الأنصاريّ، وعثمان بن الهيثم، وعفان بن مسلم، وأبي نعيم، وعبيد الله بن موسى، وعبد الله بن صالح كاتب الليث، وخلق كثير. وروى عنه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، في "التفسير"، وروى البخاري في "الصحيح" في "باب المحصر" عن محمد، عن يحيى بن صالح الْوُحَاظيّ، فذكر الكلاباذي في ترجمة يحيى بن صالح أن ابن أبي سعيد السرخسي أخبره أن محمدًا هو ابن إدريس، أبو حاتم الرازي، وذكر أنه رآه في أصل عتيق. وقال الحاكم أبو أحمد في "الكنى": أبو حاتم محمد بن إدريس، روى عنه محمد بن إسماعيل الجعفي، وابنه عبد الرحمن، وعبدة بن سليمان المروزي، والربيع بن سليمان المرادي، ويونس بن عبد الأعلى، ومحمد بن عوف الطائي، وهم من شيوخه، ورفيقه أبو زرعة الرازي، ومحمد بن هارون الروياني، وأبو عوانة الإسفرائيني، وابن أبي الدنيا، وأبو زرعة الدمشقي، وخلق كثير. قال أبو بكر الخلال: أبو حاتم إمام في الحديث، روى عن أحمد مسائل كثيرة، وقعت إلينا متفرقة، كلها غريب. وقال ابن خِرَاش: كان من أهل الأمانة والمعرفة. وقال النسائي: ثقة. وقال أبو نعيم: إمام في الحفظ. وقال اللالكائي: كان إمامًا عالمًا بالحديث، حافظا له، متقنا ثبتًا. وقال ابن أبي حاتم: سمعت موسى بن إسحاق القاضي يقول: ما رأيت أحفظ من والدك، قلت له: فرأيت أبا زرعة، قال: لا. قال: وسمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: أبو زرعة وأبو حاتم إماما خراسان، ودعما لهما، وقال: بقاؤهما صلاح للمسلمين.

وقال الخطيب: كان أحد الأئمة الحفاظ الأثبات، مشهورًا بالعلم، مذكورًا بالفضل، وكان أول كَتْبِهِ الحديثَ سنة (209)، قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: أولَ سنة خرجتُ في طلب الحديث أقمت سنين أحسب ما مشيت على قدميّ زيادةً على ألف فرسخ، فلم أزل أُحصي حتى لمّا زاد على ألف فرسخ تركته. قال: وسمعت أبي يقول: أقمت سنة أربع عشرة ومائتين بالبصرة ثمانية أشهر، قد كنت عزمت على أن أقيم سنة، فانقطعت نفقتي، فجعلت أبيع ثيابي شيئًا بعد شيء حتى بقِيتُ بلا شيء. وقال أيضًا: سمعت أبي يقول: قلت على باب أبي الوليد الطيالسي: من أغرب عليّ حديثا مسندا صحيحًا لم أسمع به، فله علي درهم يتصدق به، وهناك خلق من الخلق، أبو زرعة فمن دونه، وإنما كان مرادي أن أستخرج منهم ما ليس عندي، فما تهيأ لأحد منهم أن يُغرِب عليّ حديثًا. وقال أحمد بن سلمة النيسابوري: ما رأيت بعد إسحاق ومحمد بن يحيى أحفظ للحديث، ولا أعلم بمعانيه من أبي حاتم. وقال عثمان بن خُرَّزاذ: أحفظ من رأيت أربعة: إبراهيم بن عرعرة، ومحمد بن المنهال الضرير، وأبو زرعة، وأبو حاتم. وقال حجاج بن الشاعر، وذكر له أبو زرعة، وأبو حاتم، وابن وارة، وأبو جعفر الدارميّ: ما بالمشرق قوم أَنْبَل منهم. وقد ذكر ابن أبي حاتم في "مقدمة الجرح والتعديل" لوالده ترجمة مَلِيحَةً، فيها أشياء تدل على عِظَم قدره، وجلالته، وسعة حفظه رحمه الله، منها ما قال أبو حاتم: قَدِمَ محمد بن يحيى النيسابوري الرَّيَّ، فألقيتُ علية ثلاثة عشر حديثًا من حديث الزهريّ، فلم يَعرِف منها إلا ثلاثة، وهذا يدل على حفظٍ عظيمٍ، فإن الذُّهْلي شَهِد له مشايخه، وأهل عصره بالتبحر في معرفة حديث الزهريّ، ومع ذلك فأغرب عليه أبو حاتم. قال ابن المنادي، وغير واحد: مات في شعبان سنة (277). وقال ابن يونس في "تاريخه": مات بالريّ سنة (79)، والأول أصح، وكان مولده سنة (195). وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم 70 و 2431 و 2723.

2 - (عبيد الله بن موسى العبسيّ) هو: عبيد الله بن موسى بن أبي المختار، واسمه بَاذَام، العبسي مولاهم، الكوفي، أبو محمد الحافظ، ثقة كان يتشيّع [9]. روى عن إسماعيل بن أبي خالد، وهشام بن عروة، وأيمن بن نابل، ومعروف بن خَرَّبُوذ، والأعمش، والثوري، والأوزاعي، وابن جريح، وإسرائيل، وغيرهم. وروى عنه البخاري، وروى هو والباقون له بواسطة أحمد بن أبي سريج الرازي، وأحمد بن إسحاق البخاري، وأبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن يحيى الذهلي، ومحمود بن غيلان، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن معين، وغيرهم. قال الميموني: ذُكر عند أحمد عبيد الله بن موسى، فرأيته كالمنكر له، وقال: كان صاحب تخليط، وحدّث بأحاديث سوء، قيل له: فابن فضيل؟ قال: كان أستر منه، وأما هو فأخرج تلك الأحاديث الرَّدِيّة. وقال معاوية بن صالح: سألت ابن معين عنه، فقال: اكتُبْ عنه. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق ثقة، حسن الحديث، وأبو نعيم أتقن منه، وعبيد الله أثبتهم في إسرائيل، كان يأتيه فيقرأ عليه القرآن. وقال العجلي: ثقة، وكان عالمًا بالقرآن، رأسًا فيه. وقال أيضًا: ما رأيته رافعًا رأسه، وما رُئي ضاحكًا قط. وقال الآجري عن أبي داود: كان محُتَرِقًا شِيعِيّا، جاز حديثه. وقال ابن عدي: ثقة. وقال ابن سعد: قرأ على عيسى بن عُمَر، وعلى علي بن صالح، وكان ثقة، صدوقًا -إن شاء الله تعالى- كثير الحديث، حسن الهيئة، وكان يتشيع، ويَروِي أحاديث في التشيع منكرة، وضُعِّف بذلك عند كثير من الناس، وكان صاحب قرآن. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان يتشيع. وذَكَرَ القراب أنه وُلِد سنة (128). وقال أبو حاتم: سمعت منه سنة (13). وقال ابن سعد: مات في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة ومائتين. وكذا أَرّخه غيره. وقال يعقوب بن شيبة: مات سنة (14). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (41) حديثًا.

[تنبيه]: ذكر الدكتور بشّار، والشيخ علي حسن في تحقيقيهما لهذا الكتاب أن هذه الرواية من زيادات أبي الحسن ابن القطّان، ولم يذكرا مستندًا لذلك، غير أن الأول استدلّ على ذلك بأن الحافظ المزيّ لم يذكره في تحفة الأشراف إلى آخر كلامه، وعندي في هذا نظر؛ لأمور: (الأول): أن الأصل فيما يوجد في الكتاب من الروايات أنه من صاحب الكتاب إلا أن يكون هناك بيّنة واضحة على أنه ليس منه، بل من بعض الرواة عنه، ولا يوجد أي حجة على هذا هنا. (الثاني): أن زيادة أبي الحسن ابن القطّان معروفة واضحة، حيث يصدّرها بقوله: "قال أبو الحسن الخ"، وغيرها من العبارة، كما تقدّم برقم 22 ويأتي برقم 281 و 252 و 261 و 302 و 327 و 362 وغير ذلك، مما سيأتي رواية أبي الحسن عن أبي حاتم. (الثالث): أن الاستدلال بعدم ذكر المزيّ لهذه الرواية غير كاف؛ لاحتمال أنه تركه نسيانًا، أو لغير ذلك، ومن طالع كتاب "الإطراف بأوهام الأطراف" للحافظ وليّ الدين العراقيّ، و"النكت الظراف" للحافظ ابن حجر علم صدق ما قلته. ومن الغريب أن الحافظ المزيّ، وتبعه الحافظ ابن حجر لما ترجم لأبي حاتم في "تهذيب الكمال" 24/ 381 - 390 ذكر أن ابن ماجه روى عنه في "التفسير" فقط مع أن روايته هنا في ثلاثة مواضع رقم 70 و 2431 و 2723 ظاهرة في أنه روى عنه في "السنن" أيضًا. والحاصل أن كون الرواية عن أبي حاتم للمصنّف في المواضع المذكورة هو الظاهر، فلا يُعدَل عنه، وما عدا ذلك، فهو لأبي الحسن ابن القطّان، كما أوضح ذلك بالتصريح بذكر اسمه في أولها. وقد تقدم نظير هذا البحث في 5/ 40 فلتراجعه، والله تعالى أعلم. وقوله: "مثله" يعني أن لفظ رواية عبيد الله بن موسى مثل لفظ رواية أبي أحمد، وقد تقدّم البحث في الفرق بينه وبين قوله: "نحوه"، مستوفًى برقم 6/ 44، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 71 - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْأَزْهَرِ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "أُمِرْتُ أَنْ أقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه"، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّه، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (أَحْمَدُ بْنُ الْأَزْهَرِ) بن منيع بن سليط بن إبراهيم، أبو الأزهر العبديّ النيسابوريّ، صدوقٌ، كان يحفظ، ثم كبِر، فصار كتابه أثبت من حفظه [11]. روى عن عبد الله بن نمير، ورَوْح بن عبادة، ويعقوب بن إبراهيم بن سعد، وعبد الرزاق، وآدم بن أبي إياس، والهيثم بن جميل، وأبي عاصم النبيل، وغيرهم. وروى عنه النسائي، وابن ماجه، والذهلي، وهو من أقرانه، والبخاري ومسلم خارج "الصحيح"، والدارمي، وأبو زرعة الرازي، وأبو عوانة الإسفرائيني، ومحمد بن جرير الطبري، وأبو حامد بن الشَّرْقي، وآخرون. قال ابن الشَّرْقي: سمعت أبا الأزهر يقول: كتب عني يحيى بن يحيى. وقال الحاكم أبو أحمد: ما حدث من أصل كتابه فهو أصح، قال: وكان قد كَبِر، فربما يُلَقَّن. وقال ابن خِرَاش سمعت محمد بن يحيى يثني عليه. وقال أبو عمرو المستملي، عن محمد ابن يحيى: أبو الأزهر من أهل الصدق والأمانة، نَرَى أن يُكتَب عنه. وقال مكي بن عبدان: سألت مسلم بن الحجاج عن أبي الأزهر، فقال: اكتب عنه. قال الحاكم: هذا رَسْم مسلم في الثقات. وقال إبراهيم بن أبي طالب: كان من أحسن مشايخنا حديثًا وقال أحمد بن سيّار: حسن الحديث. وقال صالح جزرة: صدوق. وقال النسائي، والدارقطني: لا بأس به. وقال الدارقطني: قد أخرج في "الصحيح" عن من هو دونه وشر منه. ولمّا ذكر ابن الشرقي بنادرة الحديث عَدّه فيهم. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال ابن شاهين في "الأفراد" له: ثقة نَبِيل. وقال أبو الأزهر: رأيت سفيان بن عيينة، ولم يُحَدّثني. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطىء. وكان

ابن خزيمة إذا حدث عنه قال: ثنا أبو الأزهر من أصل كتابه. قال أحمد بن سيار: مات أبو الأزهر في أول سنة (261). وقال حسين القباني: تُوفي سنة (63). تفرّد به النسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب (22) حديثًا. 2 - (أَبُو النَّضْرِ) هاشم بن القاسم البغداديّ، يلقب قيصر، ثقة ثبت [9] 3/ 26. 3 - (أَبُو جَعْفَرٍ) الرازيّ المذكور في السند الماضي. 4 - (يُونُسَ) بن عُبيد بن دينار العبديّ، أبو عبيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ وَرعٌ [5]. رأى أنسًا، وروى عن إبراهيم التيمي، وثابت البناني، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وغيرهم. وروى عنه ابنه عبد الله، وشعبة، والثوري، ووهيب، وخلق كثير. قال ابن سعد: ثقة كثير الحديث، قال ما كتبت شيئا قط، ومات سنة أربعين ومائة، فحمله بنو العباس على أعناقهم. وقال أحمد، وابن معين، والنسائي: ثقة. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: يونس أحب إليك في الحسن، أو حميد؟ فقال: كلاهما. وقال ابن المديني: يونس بن عبيد أثبت في الحسن من ابن عون. وقال أبو زرعة: يونس أحب إلي في الحسن من قتادة؛ لأن يونس من أصحاب الحسن، وقتادة ليس من أقران يونس، ويونس أحب إلي من هشام بن حسان. وكذا قال أبو حاتم، وزاد: هو ثقة أكبر من سليمان التيمي، ولا يبلغ التيمي منزلة يونس. وقال سلمة بن علقمة: جالست يونس بن عبيد، فما استطعت أن آخذ عليه كلمة. وقال عارم عن حماد بن زيد: كان يونس بن عبيد يحدثنا، ثم يستغفر ثلاثًا، وقال ابن حبان في "الثقات": كان من سادات أهل زمانه علمًا وفضلًا وحفظًا وإتقانًا وسنةً وبغضا لأهل البدع، مع التقشف الشديد، والفقه في الدين، والحفظ الكثير. وقال حماد بن زيد: وُلد قبل الجارف. وقال حميد بن الأسود: كان أسن من ابن عون بسنة. وقال

جماعة: مات سنة تسع وثلاثين ومائة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا. 5 - (الحسن) بن أبي الحسن يسار البصريّ، أبو سعيد، مولى الأنصار، وأمّه خيرةُ مولاة أم سلمة، ثقة فقيه فاضلٌ مشهورٌ، وكان يرسل كثيرًا، ويدلس [3]. قال ابن سعد: وُلد لسنتين بقيتا من خلافة عمر رضي الله تعالى عنه، ونشأ بوادي القرى، وكان فَصيحًا. رأى عليًّا، وطلحة، وعائشة، وكتب للربيع بن زياد والي خُرَاسان في عهد معاوية رضي الله تعالى عنه. روى عن عثمان، وعليّ، وأبي موسى، وأبي بكرة، وعمران ابن حُصين، وجندب البجليّ، وابن عمر، وابن عبّاس، وابن عمرو بن العاص، ومعاوية، ومعقل بن يسار، وأنس، وجابر، وخلق كثير من الصحابة والتابعين. وروى عنه حميدٌ الطويل، وبُريد بن أبي مريم، وأيوب، وقتادة، وعوف الأعرابيّ، وبكر بن عبد الله المُزنيّ، وخلق كثير. قال أنس بن مالك: سلوا الحسن، فإنه حفِظ، ونسينا. وقال سليمان التيميّ: الحسن شيخ أهل البصرة. وقال مطرٌ الورّاق: كان جابر بن زيد رجل أهل البصرة، فلما ظهر الحسن جاء رجل كأنما كان في الآخرة فهو يُخبر عمّا رأى وعاين. وقال محمد ابن فُضيل، عن عاصم الأحول: قلت للشعبيّ لك حاجة؟ قال: نعم، إذا أتيت البصرة، فأقرِىءِ الحسن منّي السلام، قلت: ما أعرفه، قال: إذا دخلت البصرة، فانظر إلى أجمل رجل تراه في عينيك، وأهيبه في صدرك، فأقرئه منّي السلام، قال: فما عدا أن دخل المسجد، فرأى الحسن، والناس حوله جلوسٌ فسلّم عليه. وقال أبو عوانة، عن قتادة: ما جالست فقيهًا قطّ إلا رأيت فضل الحسن عليه. وقال أيوب: ما رأت عيناي رجلًا قطّ كان أفقه من الحسن. وقال غالبٌ القطّان، عن بكر المزنيّ: من سرّه أن ينظر إلى أعلم عالم أدركناه في زمانه، فلينظر إلى الحسن فما أدركنا الذي هو أعلم منه. وقال يونس بن عُبيد: إن كان الرجل ليرى الحسن، لا يسمع كلامه، ولا يري

عمله، فينتفع به. وقال حمّاد بن سلمة، عن يونس بن عُبيد، وحُميد الطويل: رأينا الفقهاء، فما رأينا أكمل مروءةً من الحسن. وقال الحجّاج بن أرطاة: سألت عطاء بن أبي رباح فقال لي: عليك بذاك -يعني الحسن- ذاك إمام ضخم، يُقتدى به. وقال ابن حبّان في "الثقات": احتلم سنة (37)، وأدرك بعض صفّين، ورأى مائة وعشرين صحابيًّا، وكان يُدلّس، وكان من أفصح أهل البصرة، وأجملهم، وأعبدهم، وأفقههم. وعن ابن عون قال: سمعت الحسن يقول: من كذّب بالقدر، فقد كفر. قال ابن عُليّة، والسّريّ بن يحيى: مات سنة (110) زاد ابن عليّة: في رجب. وقال ابنه عبد الله: هلك أبي، وهو ابن نحو من (88) سنة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (74) حديثًا. 6 - (أَبُو هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- تقدّم في 1/ 1، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أُمِرْتُ) بالبناء للمفعول، والأمر هو قول القائل لمن دونه: افعل على سبيل الاستعلاء (¬1). والمعنى: أمرني الله تعالى؛ لأنه لا آمر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا الله عز وجل، وقياسه في الصحابي إذا قال: أُمرت، فالمعنى أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يحتمل أن يريد أمرني صحابي آخر؛ لأنهم من حيث إنهم مجتهدون لا يحتجون بأمر مجتهد آخر، وإذا قاله التابعي احتَمَلَ، والحاصل أن من اشتَهَر بطاعة رئيس، إذا قال ذلك فُهِم منه أن الآمر له هو ذلك الرئيس. قاله في "الفتح" (¬2). (أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ) أي بأن أقاتل، وحذف الجاز مع "أنّ" و"أنْ" كثير مطّرد، كما ¬

_ (¬1) راجع "عمدة القاري" 1/ 205. (¬2) "فتح" 1/ 96.

قال في "الخلاصة": وَعَدِّ لاَزِمًا بِحَرْفِ جَرِّ ... وَإِنْ حُذِفْ فَالنَّصْبُ لِلْمُنْجَرِّ نَقْلًا وَفِي "أَنَّ" وَ"أَنْ" يَطَّرِدُ ... مَعْ أَمْنِ لَبْسٍ كَعَجِبْتُ أَنْ يَدُوا أي أُمرتُ بمقاتلة الناس (حَتَّى يَشْهَدُوا) "حتّى" غاية للمقاتلة، ويحتمل أن تكون غاية للأمر بها. [فإن قيل]: جَعْلُ وجودِ ما ذُكِر غاية للمقاتلة، يقتضي أن من شَهِدَ بالتوحيد، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، عَصَمَ دمه، ولو جَحَدَ باقي الأحكام. [أجيب]: أن الشهادة بالرسالة تتضمن التصديق بما جاء به النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، على أن آخر الحديث، وهو قوله: "إلا بحق الإسلام" نصٌّ صريح يَدْخُلُ فيه جميعُ ذلك. [فإن قيل]: فَلِمَ لم يَكتَفِ به، ونَصَّ على الصلاة، والزكاة. [أجيب]: بأن التنصيص عليهما؛ لعظمهما، والاهتمام بأمرهما؛ لأنهما أُمّا العبادات البدنية والمالية (¬1). (أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه) "أن" مخفّفة من الثقيلة، واسمها محذوف: أي أنه لا إله إلا الله (وَأَنِّي رَسُولُ اللَّه، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ) معنى إقامة الصلاة: إما تعديل أركانها، وحفظها من أن يقع زيغٌ في فرائضها، وسننها، وآدابها، من أقام العُودَ: إذا قوّمه، وإما المداومة عليها، من قامت السُّوق: إذا نَفَقَت، وإما التجلُّدُ والتشمُّر في أدائها، من قامت الحربُ على ساقها، وإما أداؤها؛ تعبيرًا عن الأداء بالإقامة؛ لأن القيام بعض أركانها، والصلاة هي العبادة المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم. قاله العينيّ رحمه الله (¬2). وقال في "الفتح": قوله: "ويقيموا الصلاة": أي يُداوموا على الإتيان بها بشروطها، من قامت السوقُ: إذا نَفَقَت، وقامت الحربُ: إذا أشتد القتال، أو المراد ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 1/ 96. (¬2) "عمدة القاري" 1/ 205.

بالقيام الأداءُ؛ تعبيرًا عن الكل بالجزء، إذ القيام بعض أركانها. والمراد بالصلاة المفروضُ منها لا جنسها، فلا تدخل سجدة التلاوة مثلًا، وإن صَدَقَ اسم الصلاة عليها. وقال الشيخ محيي الدين النووي: في هذا الحديث أن من ترك الصلاة عمدًا يُقتَل، ثم ذَكَر اختلاف المذاهب في ذلك. وسُئل الكرماني هنا عن حكم تارك الزكاة، وأجاب بأن حكمهما واحد؛ لاشتراكهما في الغاية، وكأنه أراد في المقاتلة، أما في القتل فلا، والفرق أن الممتنع من إيتاء الزكاة يمكن أن تؤخذ منه قهرًا بخلاف الصلاة، فإن انتهى إلى نَصْبِ القتال ليمنع الزكاة قوتل، وبهذه الصورة قاتل الصديق -رضي الله عنه- مانعي الزكاة، ولم يُنقَل أنه قتل أحدًا منهم صبرًا، وعلى هذا ففي الاستدلال بهذا الحديث على قتل تارك الصلاة نظرٌ؛ للفرق بين صيغة أُقاتل وأَقتُل. وقد أطنب ابن دقيق العيد في "شرح العمدة" في الإنكار على من استدل بهذا الحديث على ذلك، وقال: لا يلزم من إباحة المقاتلة إباحةُ القتل؛ لأن المقاتلة مُفَاعَلَةٌ تستلزم وقوع القتال من الجانبين، ولا كذلك القتل. وحكى البيهقي عن الشافعي أنه قال: ليس القتال من القَتْل بسبيل، فقد يَحِلّ قتالُ الرجل ولا يَحِلُّ قتله. انتهى (¬1). (وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ) أي يُعطوها لمستحقيها، والزكاة: هي القدر المخرج من النصاب للمستحقّ. [تنبيهان]: (الأول): زاد في الرواية الآتية في "كتاب الفتن" برقم (3927) من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "فإذا قالوها عَصَمُوا مني دماءهم، وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل". ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 1/ 96.

فقوله: "فإذا قالوها": أي إذا تكلّموا بكلمة التوحيد. وقوله: "عصموا مني" أي حفظوا وحَقَنُوا. وقوله: "إلا بحقها" الضمير لكلمة التوحيد، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "إلا بحقّ الإسلام"، والمعنى واحد، والاستثناء مفرّغ، والمستثنى منه أعمّ، والعصمة متضمّنة لمعنى النفي، ولذا صحّ تفريغ الاستثناء، إذ شرطه النفي، إما صريحًا، أو تأويلًا، كهذا المثال، والمعنى: لا يجوز إهدار دمائهم واستباحة أموالهم بسبب من الأسباب إلا بحقّ الإسلام، والحقّ المستثنى هو ما بينه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الآخر بقوله: "زنى بعد إحصان، أو كفر بعد إيمان، أو قتل النفس التي حرّم الله". أخرجه الداميّ في "سننه" 2/ 171. ومن حقّ الإسلام أيضًا سائر الحدود التي أوجبها الشرع بارتكاب جريمة، كحد السرقة، والقذف، وكذا الغرامة المالية بإتلاف مال محترم، أو نحو ذلك. وقوله: "وحسابهم على الله" أي حساب سرائرهم على الله سبحانه وتعالى؛ لأنه المطّلع عليها، فمن أخلص في إيمانه وأعماله جازاه الله عليها جزاء المخلصين، ومن لم يُخلص في ذلك كان من المنافقين، يُحكم له في الدنيا بأحكام المسلمين، وهو عند الله تعالى من أسوء الكافرين (¬1). (الثاني): [إن قيل]: مقتضى الحديث قتالُ كل من امتنع من التوحيد، فكيف تُرِك قتال مؤدي الجزية، والمعاهد. [أجيب]: بأوجه: [أحدها]: دعوى النسخ بأن يكون الإذن بأخذ الجزية والمعاهدة متأخرًا عن هذه الأحاديث، بدليل أنه متأخر عن قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ}. [ثانيها]: أن يكون من العام الذي خُصَّ منه البعض؛ لأن المقصود من الأمر حصول المطلوب، فإذا تخلف البعض لدليل لم يَقدَح في العموم. ¬

_ (¬1) "المفهم" 1/ 189.

[ثالثها]: أن يكون من العام الذي أُريد به الخاصّ، فيكون المراد بالناس في قوله: "أقاتل الناس": أي المشركين من غير أهل الكتاب، ويدل عليه رواية النسائي بلفظ: "أُمرت أن أقاتل المشركين". [فإن قيل]: إذا تَمّ هذا في أهل الجزية، لم يتم في المعاهدين، ولا فيمن منع الجزية. [أجيب]: بأن الممتنع في ترك المقاتلة رفعها، لا تأخيرها مُدّةً، كما في الْهُدْنة، ومقاتلة من امتنع من أداء الجزية بدليل الآية. [رابعها]: أن يكون المراد بما ذُكر من الشهادة وغيرها التعبير عن إعلاء كلمة الله، وإذعانُ المخالفين، فيحصل في بعض بالقتل، وفي بعض بالجزية، وفي بعض بالمعاهدة. [خامسها]: أن يكون المراد بالقتال هو، أو ما يقوم مقامه، من جزية أو غيرها. [سادسها]: أن يقال الغرض من ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام، وسبب السبب سبب، فكأنه قال: حتى يُسلموا، أو يلتزموا مما يؤديهم إلى الإسلام، قال الحافظ: وهذا أحسن ويأتي فيه ما في الثالث، وهو آخر الأجوبة. ذكره في "الفتح" (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا صحيح، بل هو متّفقٌ عليه. [فإن قلت]: في سند المصنّف رحمه الله انقطاع؛ لأن الجمهور أن الحسن البصريّ لم يسمع من أبي هريرة -رضي الله عنه- وإن كان الصحيح أنه سمع منه قليلًا، كما حقّقته في "شرح النسائيّ"- وكذا فيه أبو جعفر الرازيّ، متكلّم فيه، كما سبق في ترجمته قريبًا، فكيف يصحّ؟. [قلت]: لا يضرّ ذلك؛ لأن المصنّف أخرجه في "كتاب الفتن" بسند صحيح، ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 1/ 97.

ونصّه: 3927 - (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية، وحفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها، عَصَمُوا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل". وهذا إسناد صحيح رجاله رجال الصحيح، والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا بهذا السند، وأخرجه في "كتاب الفتن" رقم (3927) بالسند المذكور في المسألة السابقة، وأخرجه (البخاريّ) (1399 و 1457 و 6924 و 7284) من طريق الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، و (مسلم) (1/ 39) من طريق عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبي هريرة، و (النسائيّ) (7/ 79) و (أحمد) في "مسنده" (2/ 314 و 475 و 482 و 502 و 527). والحديث متواترُ كما قال السيوطيّ في "الجامع الصغير"، فقد ورد عن جمع من الصحابة -رضي الله عنهم-، فجاء في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة بطرق كثيرة، ومن حديث عبد الله ابن عمر، وأبيه عمر رضي الله عنهما، وفي البخاريّ من حديث أنس -رضي الله عنه-، وفي مسلم (21) والمصنّف (3928) والنسائيّ (3977) من حديث جابر -رضي الله عنه-، وفي مسلم من حديث طارق ابن أشيم الأشجعيّ، ومن حديث أوس بن أوس الثقفيّ، عند النسائيّ 2/ 218، ويأتي عند المصنّف (3929) ومن حديث معاذ بن جبل، كما في الرواية التالية للمصنف، ومن حديث النعمان بن بشير عند النسائيّ والبزّار، ومن حديث غيرهم من الصحابة -رضي الله عنهم-، فمن شاء الاطلاع على ذلك فليراجع "مجمع الزوائد" للحافظ الهيثميّ 1/ 24 - 27 و"السلسلة الصحيحة" للشيخ الألبانيّ 1/ 691 - 697، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان أن هذه الأشياء المذكورة في الحديث من أمور الإيمان التي يُقاتَلُ الناس عليها.

2 - (ومنها): أن أحكام الإسلام إنما تُدار على الظواهر الجليّة، لا على الأسرار الخفيّة. 3 - (ومنها): الاكتفاء في قبول الإيمان بالاعتقاد الجازم خلافًا لمن أوجب تعلّم الأدلّة، وجعله شرطًا في الإسلام، وهو مذهب كثير من المعتزلة، وقول لبعض المتكلّمين. قال النوويّ رحمه الله: قد تظاهرت الأحاديث الصحيحة التي يحصل من عمومها العلم القطعيّ بأن التصديق الجازم كاف. انتهى (¬1). 4 - (ومنها): أنه يؤخذ منه ترك تكفير أهل البِدَع المقرّين بالتوحيد الملتزمين للشرائع. 5 - (ومنها): قبول توبة الكافر من كفره، من غير تفصيل بين كفر ظاهر أو باطن. 6 - (ومنها): أن من أظهر الإسلام، وفعل الأركان وجب الكفّ عنه، وعدم التعرّض له. 7 - (ومنها): أنه يستدل به على وجوب قتال تاركي الصلاة، ومانعي الزكاة، وغيرهما من واجبات الإسلام قليلا كان أو كثيرًا. 8 - (ومنها): أن النوويّ قال: يُستدلّ به على أن تارك الصلاة عمدًا معتقدًا وجوبها يُقتل، وعليه الجمهور. وتُعُقّب بأن الاستدلال غير صحيح؛ لأن المأمور به هو المقاتلة، لا القتل، ولا يلزم من إباحة القتال إباحة القتل؛ لأن باب المفاعلة يستلزم وقوع الفعل من الجانبين، ولا كذلك القتل، فافهم. 9 - (ومنها): اشتراط التلفّظ بكلمتي الشهادتين في الحكم بالإسلام، وأنه لا يكفّ عن القتال إلا النطق بهما. 10 - (ومنها): أن من أتى بالشهادتين، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وإن كان لا يؤاخذ لكونه معصومًا، لكنه يؤاخذ بحقّ من حقوق الإسلام، من نحو قصاص، أو ¬

_ (¬1) راجع "عمدة القاري" 1/ 208.

حدّ، أو غرامة مُتْلَف، أو نحو ذلك. 11 - (ومنها): وجوب قتال الكفار إذا أطاقه المسلمون حتى يُسلموا، أو يُعطوا الجزية إن كانوا من أهلها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 72 - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْأَزْهَرِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الحُمِيدِ بْنُ بَهْرَامَ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّه، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُّوا الزَّكَاةَ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (أَحْمَدُ بْنُ الْأَزْهَرِ) المذكور في السند الماضي. 2 - (مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) بن واقد بن عثمان الضبّيّ مولاهم، أبو عبد الله الفِرْيابيّ -بكسر الفاء، وسكون الراء، بعدها تحتانيّة، وبعد الألف موحّدة- نزيل قَيْسَارِيَة من ساحل الشام، ثقة فاضل، يقال: أخطأ في حديث الثوريّ، وهو مقدّم فيه مع ذلك عندهم على عبد الرزّاق [9]. أدرك الأعمش، ورَوَى عن فِطْر بن خَليفة، وإبراهيم بن أبي عَبْلة، والأوزاعي، وجرير بن حازم، ونافع مولى ابن عمر، ومالك بن مِغْوَل، ويونس بن أبي إسحاق، والثوريّ، وعبد الحميد بن بَهْرَام، وغيرهم. ورَوَى عنه البخاري، وروى هو والباقون عنه بواسطة أحمد بن حنبل، وإسحاق الكوسج، ومحمد بن يحيى، وعبد الوهاب بن نَجْدة، ومحمود بن خالد السُّلَميّ، والوليد ابن عتبة الدمشقي، ومحمد بن عوف الطائي، وأبو الأزهر، وغيرهم. قال حرب عن أحمد: الفريابي سمع من سفيان بالكوفة، وصحبه، وكتبت أنا عنه بمكة. وقال الفضل بن زياد عن أحمد: كان رجلًا صالحًا. وقال أبو عمير بن النحاس:

سألت ابن معين، قلت: أيهما أحب إليك، كتاب الفريابي، أو كتاب قبيصة؟ قال: كتاب الفريابي، وقال العجلي: الفريابي ثقة، وهو ويحيى بن آدم، والزبيري، وقبيصة، ومعاوية ثقات، ووكيع، وأبو نعيم، والأشجعي، والقطان، وابن مهدي أثبت في حديث سفيان منهم. وقال أبو بِشْر الدُّولابي عن البخاري: ثنا محمد بن يوسف، وكان من أفضل أهل زمانه. وقال النسائي: ثقة. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن الفريابي، ويحيى بن يمان، فقال: الفريابي أحب إلي. قال: وسألت أبي عن الفريابي، فقال: صدوق ثقة. وقال محمد بن عبد الملك بن زَنْجويه: ما رأيت أورع من الفريابي. وقال السُّلَمِيّ: سألت الدارقطني، إذا اجتمع قبيصة والفريابي من تقدم منهما؟ قال: الفريابيّ؟ لفضله ونُسُكه. وقال محمد بن سهل بن عسكر: خرجنا مع الفريابي للاستسقاء، فرفع يديه، فما أرسلهما حتى مُطِرنا. وقال البخاري: رأيت قومًا دخلوا على الفريابي، فقيل له: يا أبا عبد الله، إن هؤلاء مُرْجئة، فقال: أخرجوهم، فتابوا ورجعوا. قال الفريابي: وُلِدت سنة عشرين ومائة. وقال أبو زرعة: نُعِي إلينا سنة اثنتي عشرة ومائتين. وفيها أَرَّخه البخاري، وغير واحد، وزاد بعضهم: في ربيع الأول. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (13) حديثًا. 3 - (عَبْدُ الحمِيدِ بْنُ بَهْرَامَ) الْفَزَاريّ المدائنيّ، صدوقٌ [6]. رَوَى عن شهر بن حوشب، وعن عاصم الأحول حديثًا واحدًا، وروى عن عكرمة. وروى عنه ابن المبارك، ووكيع، ورَوْح بن عبادة، وأبو داود، وأبو الوليد الطيالسيان، وعبد الله بن رجاء الغداني، ومحمد بن يوسف الفريابي، وغيرهم. قال علي بن حفص المدائني: سألت شعبة عنه، فقال: صدوق، إلا أنه يُحَدِّث عن شهر بن حوشب. وقال أبو موسى: ما سمعت يحيى، ولا عبد الرحمن يحدثان عن عبد الحميد شيئًا قط. وقال علي بن المديني عن يحيى بن سعيد: من أراد حديث شهر بن حوشب، فعليه بعبد الحميد، قال ابن المديني: وهو ثقة عندنا، وإنما كان يروي عن شهر

من كتابٍ عنده. وقال أبو طالب عن أحمد: حديثه عن شهر مقارب، كان يحفظها، وهي سبعون حديثًا. وقال حرب عن أحمد: ثقة، كان يكون بالمدائن. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وقال أبو داود: ثقة. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: هو في شهر كالليث في سعيد المقبري، قلت: ما تقول فيه؟ قال: ليس به بأس، أحاديثه عن شهر صحاح، لا أعلم رَوَى عن شهر أحاديث أحسن منها، قلت: يحتج بحديثه؟ قال: لا، ولا بحديث شهر، ولكن يُكتب حديثه. وقال صالح بن محمد الأسدي: ليس بشيء، يروي عن شهر صحيفة منكرة. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عدي: هو في نفسه لا بأس به، وإنما عابوا عليه كثرة رواياته عن شهر، وشهر ضعيف. قال الخطيب: الحمل في الصحيفة التي ذكر صالح على شهر، لا على عبد الحميد. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يُعتَبر حديثه، إذا روى عن الثقات. وقال البزار: روى عنه جماعة من أهل العلم، واحتملوا حديثه. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن صالح المصري: عبد الحميد بن بهرام ثقة، يعجبني حديثه، أحاديثه عن شهر صحيحة. وقال الساجي: صدوقٌ يَهِم. أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (72) و (2438) "تُوفّي ودرعه مرهونة ... ". 4 - (شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ) الأشعريّ، أبو سعيد، ويقال: أبو عبد الله، ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو الجعد الشاميّ، مولى أسماء بنت يزيد بن السكن، صدوقٌ، كثير الإرسال والأوهام [3]. قال يعقوب بن شيبة: قيل لابن المديني: ترضى حديث شهر؟ فقال: أنا أُحَدِّث عنه. وكان عبد الرحمن يحدث عنه، وأنا لا أدع حديث الرجل إلا أن يجتمع عليه يحيى وعبد الرحمن على تركه. وقال حرب بن إسماعيل عن أحمد: ما أحسن حديثه، ووثقه، وأظنه قال: هو كنديّ، وروى عن أسماء أحاديث حسانًا. وقال أبو طالب عن أحمد:

عبد الحميد بن بَهْرام أحاديثه مقاربة، هي أحاديث شهر كان يحفظها، كأنه يقرأ سورة من القرآن. وقال حنبل عن أحمد: ليس به بأس. وقال عثمان الدارمي: بلغني أن أحمد كان يُثني على شهر. وقال الترمذي: قال أحمد: لا بأس بحديث عبد الحميد بن بهرام عن شهر. وقال الترمذي عن البخاري: شهر حسن الحديث، وقَوَّى أمره. وقال ابن أبي خيثمة، ومعاوية بن صالح، عن ابن معين: ثقة. وقال عباس الدُّوري، عن ابن معين: ثبت. وقال العجلي: شامي تابعيّ ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة، على أن بعضهم قد طَعَن فيه. وقال يعقوب بن سفيان: وشهر -وإن قال ابن عون: نزكوه- فهو ثقة. وقال ابن عمار: روى عنه الناس، وما أعلم أحدًا قال فيه غير شعبة، قيل: يكون حديثه حجة؟ قال: لا. وقال أبو زرعة: لا بأس به، ولم يلق عمرو بن عَبَسَة. وقال أبو حاتم: شهر أحب إلي من أبي هارون، وبشر بن حرب، ولا يحتج به. وقال صالح بن محمد: شهر شاميّ، قَدِم العراق، روى عنه الناس، ولم يوقف منه على كذب، وكان يَتَنَسَّك، إلا أنه روى أحاديث ينفرد بها، لم يشاركه فيها أحد، وروى عنه عبد الحميد بن بَهْرام أحاديث طوالا عجائب، ويروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحاديث في القراءات، لا يأتي بها غيره. وقال أبو جعفر الطبري: كان فقيهًا، قارئًا، عالما. وقال أبو بكر البزار: لا نعلم أحدًا ترك الرواية عنه غير شعبة، ولم يسمع من معاذ بن جبل. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد ذكرت في "شرح مقدّمة صحيح مسلم" ما قيل فيه من الطعن، وأمعنت في الجواب عن ذلك، وقلت: الحقّ أن شهرًا رحمه الله حسن الحديث، كما قال الحافظ الناقد الذهبيّ رحمه الله، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق. قال البخاري وغير واحد: مات سنة مائة. وقال يحيى بن بكير: مات سنة (111). وقال الواقدي: مات سنة (12). أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، وله في "صحيح مسلم" حديث واحد برقم 3821 حديث: "الكمأة من

المنّ ... " الحديث. أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، ومسلم حديثًا واحدًا كما سبق آنفًا، والأربعة، وله في هذا الكتاب (26) حديثًا. 5 - (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ) بفتح الغين المعجمة، وسكون النون الأشعريّ، مختلف في صحبته، وذكره العجليّ في كبار ثقات التابعين [2] تقدم في 8/ 55. 6 - (مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ) بن عمرو بن أوس الأنصاريّ الخزرجي الصحابيّ المشهور -رضي الله عنه- تقدم في 8/ 55. وشرح الحديث، ومسائله المتعلّقة به تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه- هذا حديث حسن؛ لأن شهر بن حوشب حديثه حسنٌ، كما حقّقناه في ترجمته آنفًا، فما قاله بشار عوّاد من أنه ضعيف بسبب شهر فليس كما ينبغي، فتفطّن. وقال البوصيريّ رحمه الله: هذا إسناد حسن. انتهى، وهو مما تفرّد به المصنف عن أصحاب الأصول، وقد رواه الدارقطني من هذا الوجه، ورواه الشيخان من حديث ابن الخطاب -رضي الله عنه-، وقد تقدّم أنه متواتر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. 73 - وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الرَّازِيُّ، أنبَأَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّه بْنُ مُحَمَّدٍ اللَّيْثِيُّ، حَدَّثَنَا نِزَارُ بْنُ حَيَّانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَيْسَ لُهَما في الْإِسْلَامِ نَصِيبٌ: أَهْلُ الْإِرْجَاءِ، وَأَهْلُ الْقَدَرِ"). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث تقدّم برقم (62) من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما فقط، ورجاله تقدّموا سوى: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الرَّازِيُّ) هو: محمد بن إسماعيل بن أبي ضِرَار -بكسر

الضاد المعجمة، وتخفيف الراء- الضِّرَاريّ، أبو صالح الرازيّ، صدوق [11]. روى عن يونس بن محمد المؤدب، ويعلى بن عبيد، وعبد الرزاق، وعبيد الله بن موسى، وعبد الله بن يزيد القري، وأبي نعيم، والفريابي، وغيرهم. وروى عنه ابن ماجه، وأبو حاتم، وقال: صدوق، وأبو بِشْر الدُّولابيّ، وأبو جعفر محمد بن جرير الطبري، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، وحديث عليّ -رضي الله عنه- رقم (120) "أنا عبد الله، وأخو رسوله، وأنا الصديق ... " الحديث. 2 - (يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ) بن مسلم البغداديّ، أبو محمد الحافظ المؤدّب، ثقة ثبتٌ، من صغار [9]. روى عن داود بن أبي الفُرَات، وصالح المرّيّ، ونافع بن عمر الْجُمَحيّ، وفُليح، والحمادين، وحرب بن ميمون، وسلام بن أبي مطيع، وأبي أويس، والليث بن سعد، وعبد الواحد بن زياد، وشريك القاضي، ومعتمر بن سليمان، وغيرهم. وروى عنه ابنه إبراهيم، وأحمد، وعلي بن المديني، وابنا أبي شيبة، وعبد الله المُسْنَديّ، وأبو خيثمة، وحجاج بن الشاعر، ومجاهد بن موسى، وغيرهم. قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في صفر سنة سبع ومائتين. وكذا قال أبو حسان الزِّيَادي. وقال خليفة، وابن سعد، ومُطَيَّن، وغيرهما: مات سنة ثمان. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (17) حديثًا. 3 - (عَبْدُ اللَّه بْنُ مُحَمَّدٍ اللَّيْثِيُّ) مجهول [7]. روى عن نِزَار بن حَيّان. وروى عنه يونس بن محمد المؤدب رَوَى له ابن ماجه في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. وأما جابر -رضي الله عنه- تقدّم 1/ 11، وكذا شرح الحديث تقدّم برقم (62) وتقدّم أنه حديث ضعيف بهذا السند، لكنه حسنٌ من حديث أنس -رضي الله عنه-، راجع ما كتبته في المسألة الأولى من مسائل الحديث المتقدّم بالرقم المذكور، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه

المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 74 - (حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ الْبُخَارِيُّ، سَعِيدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -يَعْنِي ابْنَ عَيَّاشٍ- عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مُجَاهِدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَا: "الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ"). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الأثر والذي بعده ليسا من رواية ابن ماجه، وإنما هما من زيادات أبي الحسن القطّان، كما نبّه عليه الحافظ المزيّ في "تهذيب الكمال" 10/ 460، و"تحفة الأشراف" 5/ 221 و 8/ 231 و 10/ 318، ونصّه في "تهذيب الكمال": قال في "الأصل" يعني "الكمال في أسماء الرجال": سعيد بن سعد، أبو عثمان البخاري، رَوَى عنه ابن ماجه، وهو مما زاده أبو موسى عبد الله بن الحافظ عبد الغني رحمه الله، وذكره الحافظ، أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسيّ، فيما استدركه على صاحب "الشيوخ النّبَل"، وقال: رَوَى عنه ابن ماجه في "السنن" في الجزء الأول حديثين موقوفين، والصواب في ذلك مع صاحب "النبل" حيث لم يذكره، فإنه من زيادات أبي الحسن بن سلمة الراوي عن ابن ماجه، كما تقدم بيانه، ولكنه وقع في بعض النسخ مُدْرجًا في الأصل، غير مُمَيَّز، فظنه بعض الكتبة من شيوخ ابن ماجه فكتبه، ولم يذكر أبا الحسن بن سلمة في أوله، ومن أدل دليل على صحة ما قلناه أنه ليس له ذكر في رواية إبراهيم بن دينار، عن ابن ماجه، ولو كان من أصل التصنيف لذكره إبراهيم بن دينار، كما ذكر غيره، فلما سَقَطَ من رواية ابن دينار، ولم يذكر أحد من المتقدمين أن ابن ماجه رَوَى عنه، وذكروا أن أبا الحسن بن سلمة رَوَى عنه، ووجدنا لأبي الحسن عدة أحاديث، قد زادها عن مشايخه، عَلِمنا أن هذا مما زاده. والله أعلم. انتهى كلام الحافظ المزيّ رحمه الله، وهو كلام وجيهٌ، أقرّه الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" 2/ 21 و"النكت الظراف" في هامش "تحفة الأشراف" 5/ 221 و 8/ 231 و 10/ 318. والحاصل أن الأثرين من ليسا من أصل "سنن ابن ماجه" بل هما من زيادات أبي

الحسن القطّان، فليُتَنَبَّه، والله تعالى أعلم. ورجال هذا الأثر: سبعة: 1 - (أَبُو عُثْمَانَ الْبُخَارِيُّ، سَعِيدُ بْنُ سَعْدٍ) بن أيوب، نزيل الريّ، صدوق [11]. روى عن عبد الله بن مسلمة الْقَعنبيّ، وعبد الرحمن بن شَرِيك بن عبد الله النخعي، وعمرو بن مرزوق، وأبي نُعيم الفضل بن دكين، وأبي غَسَّان، مالك بن إسماعيل النَّهْدي، ومحمد بن رُوَين، ومِخْوَل بن إبراهيم، ومسلم بن إبراهيم، وأبي حُذيفة، موسى بن مسعود، والهيثم بن خارجة. وروى عنه عبد الرحمن بن أبي حاتم، وأبو الحسن، علي بن إبراهيم بن سَلَمة القطان، صاحب ابن ماجه. قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: كان صدوقًا، وذكره الحافظ أبو يعلى الخليلي الْقَزويني في مشايخ أبي الحسن بن سلمة، وقال: له معرفة بالحديث، مات قبل أبي حاتم بأشهر. انتهى (¬1). وله في هذا الكتاب هذا الأثر فقط من زيادات أبي الحسن ابن القطّان، كما سبق بيانه. 2 - (الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ) الخراساني الحافظ، أبو أحمد، ويقال: أبو يحيى الْمَرْوَزِيُّ، نزيل بغداد، صدوقٌ، من كبار [10]. روى عن مالك، والليث، وحفص بن ميسرة، وخلف بن خليفة، وإبراهيم بن أدهم، وإسماعيل بن عياش، والجرّاح بن مَلِيح، ورشدين بن سعد، وغيرهم. وروى عنه البخاري، وروى له النسائي، وابن ماجه بواسطة عمرو بن منصور النسائي، ومحمد بن يحيى الذهلي، وحدث عنه أحمد بن حنبل، وابنه عبد الله بن أحمد، ومحمد بن إسحاق الصغاني، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وعبيد الله بن سعد الزهري، ¬

_ (¬1) "تهذيب الكمال" 10/ 460.

وعباس الدُّوري، وموسى بن هارون، وغيرهم. قال صالح بن محمد: سمعت هشام بن عمار يقول: كنا نسميه شُعبة الصغير، قال صالح: وكان أحمد يُثني عليه، وكان يتزهد، وكان سيء الْخُلُق مع أصحاب الحديث. وقال عبد الله بن أحمد: كان أبي إذا رَضِي عن إنسان، وكان عنده ثقة حدث عنه، وهو حَيّ، فحدثنا عن الهيثم بن خارجة وهو حي. وقال معاوية بن صالح: قال لي أحمد: اكتُبْ عنه. وقال عبد الخالق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن قانع ثقة. وقال الخليلي: ثقة متفق عليه. وقال البخاري: مات في ذي الحجة سنة سبع وعشرين ومائتين. وفيها أَرَّخَه غير واحد. وقال محمد بن إسحاق السَّرّاج عن حاتم بن الليث الجوهري، وإسماعيل بن أبي الحارث: رأينا الهيثم بن خارجة أبيض الرأس واللحية، ومات ببغداد في المحرم سنة ثمان وعشرين. قال الحافظ: لعله مات في آخر يوم من ذي الحجة، وكان ذلك اليوم هو أول المحرم، فإن ابن أبي خيثمة قال في "تاريخه": مات في آخر ذي الحجة سنة سبع. تفرّد به البخاريّ، والنسائيّ، والمصنّف، وله عنده حديث واحد يأتي برقم (1221) فقط، وهو حديث عائشة رضي الله عنها، مرفوعًا: "من أصابه قيء، أو رُعاف، أو قَلَس، أو مذي، فلينصرف، وليتوضأ" الحديث (¬1). وأما هذا الأثر فإنه من زيادات أبي الحسن القطّان، وليس من رواية المصنّف، فتنبّه، والله تعالى أعلم. 3 - (إِسْمَاعِيلُ بْنَ عَيَّاشٍ) بن سُلَيم الْعَنْسيّ -بالنون- أبو عُتْبة الحمصيّ، صدوق في روايته عن أهل بلده، مُخَلِّطٌ في غيرهم [8]. ¬

_ (¬1) وهو حديث ضعيف؛ لأنه من رواية إسماعيل بن عياش، عن ابن جريج، وهو من الحجازيين، وإسماعيل ضعيف فيهم.

روى عن محمد بن زياد الأَلْهَانيّ، وصفوان بن عمرو، وضَمْضَم بن زُرْعة، وعبد الرحمن بن جُبير بن نُفَير، والأوزاعيّ، وهشام بن الغاز، وغيرهم. وروى عنه محمد بن إسحاق، والثوريّ، والأعمش، والليث بن سعد، وبقيّة، والوليد بن مسلم، ومعتمر بن سليمان، وغيرهم. قال عباس الدُّوري: سمعت يحيى بن معين يقول: إسماعيل بن عياش ثقة، وكان أحب إلى أهل الشام من بقية. وقال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: هو ثقة، والعراقيون يكرهون حديثه. قيل ليحيى: أيما أثبت، بقيّة، أو إسماعيل؟ قال: صالحان. وقال البخاريّ: ما روى عن الشاميين أصح. وقال عمرو بن عليّ: إذا حدث عن أهل بلاده فصحيح، وإذا حدث عن أهل المدينة، مثل هشام بن عروة، ويحيى بن سعيد، وسهيل بن أبي صالح، فليس بشيء. وقال يعقوب بن سفيان: كنت أسمع أصحابنا يقولون: علم الشام عند إسماعيل بن عياش، والوليد بن مسلم. قال يعقوب: وتكلم قوم في إسماعيل، وهو ثقة، عدل، أعلم الناس بحديث الشام، ولا يدفعه دافع، وأكثر ما تكلموا، قالوا: يُغْرِب عن ثقات المكيين والمدنيين. وقال يحيى بن معين: إسماعيل ثقة فيما روى عن الشاميين، وأما روايته عن أهل الحجاز، فإن كتابه ضاع، فخلط في حفظه عنهم. وقال أبو حاتم: هو لين، يكتب حديثه، ولا أعلم أحدا كَفّ عنه، إلا أبا إسحاق الفزاريّ. وقال الترمذيّ: قال أحمد: هو أصلح من بقية، فإن لبقية أحاديث مناكير. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد أشبعت الكلام في ترجمة إسماعيل بن عيّاش هذا في "شرح مقدّمة صحيح مسلم"، وأن أعدل الأقوال فيه أنه حجة في أحاديث الشاميين، وأما أحاديث الحجازيين، والعراقين، فليس فيها بحجة، والله تعالى أعلم. قال محمد بن عون: كان مولده سنة (102). وقال بقية: وُلد سنة (5). وقال زيد ابن عبد ربه: وُلد سنة (6)، وكذا قال ابن عيينة، وأحمد بن حنبل، وقال أحمد وجماعة: مات سنة (181). وقال محمد بن سعد، وخليفة، وأبو عبيد: مات سنة (82).

أخرج له البخاريّ في "جزء رفع اليدين"، والأربعة، وله في هذا الكتاب (47) حديثًا. 4 - (عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُجَاهِدٍ) بن جبر المكيّ المخزوميّ مولاهم، متروك، وكذّبه الثوريّ [7]. روى عن أبيه، وعطاء، وروى عنه إسماعيل بن عياش، وبكر ابن الشَّرُود الصنعاني، وسُليم بن مسلم المكي، وعبد الرزاق، وعبد الوهاب الثقفي، وعبد الوهاب الْخَفّاف، والمعلى بن هلال، وعثمان بن الهيثم. كذبه سفيان الثوريّ. وقال وكيع: كانوا يقولون: إنه لم يسمع من أبيه. وقال أحمد: ليس بشيء، ضعيف الحديث. وقال الجوزجانيّ: غير مُقْنِع. وقال ابن معين، وأبو حاتم: ضعيف. وقال النسائي: ليس بثقة، ولا يكتب حديثه. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يُتَابَع عليه. وقال المِزّيّ: لم أقف على رواية ابن ماجه له. قال الحافظ: هي موجودة في بعض النسخ في كتاب "السنة". قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا قال الحافظ في "التهذيب" 2/ 640، وهو سهو منه، فإنه قد سبق أن وافق المزّيّ في كون هذا الأثر من زيادات أبي الحسن القطان، لا من رواية المصنّف، فكان عليه أن ينبّه على ذلك هنا، والله تعالى أعلم. وقال علي بن المدينيّ، ويحيى بن معين: لا يُكتَب حديثه، وليس بشيء. وذكره يعقوب بن سفيان في "باب من يُرغَب عن الرواية عنهم". وقال الدارقطني: ليس بشيء ضعيف. وقال الأزدي: لا تحل الرواية عنه. وقال ابن سعد: كان ضعيفًا في الحديث. وقال الحاكم: روى أحاديث موضوعة. وقال ابن الجوزي: أجمعوا على ترك حديثه. وليس له في الكتب الستة شيء، إلا هذا الأثر هنا من زيادات ابن القطّان. 5 - (مُجَاهِدٍ) بن جَبْر -بفتح الجيم، وسكون الموحّدة- أبو الحجّاج المخزوميّ مولاهم المكيّ، المقريء، مولى السائب بن أبي السائب، ثقة، إمام في التفسير، وفي العلم [3].

روى عن علي، وسعد بن أبي وقاص، والعبادلة الأربعة، ورافع بن خَديج، وأسيد بن ظهير، وأبي سعيد الخدري، وعائشة، وأم سلمة، وجويرية بنت الحارث، وأبي هريرة، وأم هاني بنت أبي طالب، وجابر بن عبد الله، وخلق كثير. وروى عنه أيوب السختياني، وعطاء، وعكرمة، وابن عون، وعمرو بن دينار، وفطر بن خليفة، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو الزبير المكي، ويونس بن أبي إسحاق، وقتادة، وعبيد الله بن أبي يزيد، وأبان بن صالح، وبكير بن الأخنس، وحبيب بن أبي ثابت، والحسن بن عمرو الفقيمي، والحسن بن مسلم بن يناق، وخلق كثير. قال عبد السلام بن حرب، عن مصعب: كان أعلمهم بالتفسير مجاهد، وبالحج عطاء. وقال الفضل بن ميمون: سمعت مجاهدا يقول: عَرَضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة. وقال أبو نعيم: قال يحيى القطان: مرسلات مجاهد أحب إلي من مرسلات عطاء، وكذا قال الآجري عن أبي داود. وقال ابن معين، وأبو زرعة: ثقة. وقال الثوري عن سلمة بن كهيل: ما رأيت أحدًا أراد بهذا العلم وجه الله تعالى إلا عطاء، وطاوسًا، ومجاهدًا. وقال الأعمش عن مجاهد: لو كنت قرأت على قراءة ابن مسعود، لم أحتج أن أسأل ابن عباس عن كثير من القرآن. وعن مجاهد قال: قرأت القرآن على ابن عباس ثلاث عَرَضَات، أقف عند كل آية أسأله فيم نزلت؟، وكيف كانت؟. وقال إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد: قال: ربما آخُذُ لابن عمر بالركاب. وقال قتادة: أعلم من بقي بالتفسير مجاهد. وقال أبو بكر بن عياش: قلت للأعمش: ما لهم يقولون: تفسير مجاهد؟ قال: كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب. وقال علي بن المديني: لا أُنكر أن يكون مجاهد لَقِي جماعة من الصحابة، وقد سمع من عائشة. انتهى. لكن وقع التصريح بسماعه منها في "صحيح البخاريّ". وقال ابن سعد: كان ثقة فقيهًا عالمًا، كثير الحديث. وقال ابن حبان: كان فقيهًا ورعًا عابدًا متقنًا. وقال أبو جعفر الطبري: كان قارئًا عالمًا. وقال العجلي: مكي تابعيّ ثقة. وقال الذهبي في آخر ترجمته: أجمعت الأمة على إمامة مجاهد، والاحتجاج به.

قال الهيثم بن عدي: مات سنة مائة. وقال يحيى بن بكير: مات سنة إحدى، وهو ابن ثلاث وثمانين سنة. وقال أبو نعيم: مات سنة اثنتين. وقال سعيد بن عفير وأحمد: مات سنة ثلاث. وقال ابن حبان: مات بمكة سنة اثنتين أو ثلاث ومائة، وهو ساجد، وكان مولده سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر. وقال يحيى القطان: مات سنة أربع ومائة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (46) حديثًا، منها للمصنّف (45)، وواحد لأبي الحسن القطّان، وهو هذا الأثر. والله تعالى أعلم. 6 - (ابْنُ عَبَّاسٍ) هو: عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما تقدم في 3/ 27. 7 - (أَبُو هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- تقدّم في 1/ 1، والله تعالى أعلم. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الأثر مما انفرد به المصنّف، أخرجه هنا بهذا السند، وبالسند التالي، وهو ضعيف؛ لأن في سنده عبد الوهّاب بن مجاهد، وهو متروك، بل كذّبه الثوريّ، وهو من رواية إسماعيل بن عيّاش، وهو ضعيف في الحجازيين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 75 - (حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمانَ الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ حَرِيزِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنِ الْحَارِثِ، أَظُنَّهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: "الْإِيمَانُ يَزْدَادُ وَيَنْقُصُ"). رجال هذا الأثر: سبعة: تقدّموا في السند الماضي، سوى ثلاثة: 1 - (حريز -بفتح الحاء المهملة، وكسر الراء، آخره زاي- ابن عثمان) بن جَبْر بن أبي أحمر بن أسعد، الرَّحَبيّ -بفتح الراء، والحاء المهملة، بعدها موحّدة- ورحبة في حمير، أبو عثمان، ويقال: أبو عون الحمصيّ، قَدِم بغداد زَمَنَ المهدي، ثقة ثبتٌ، رُمي بالنصب [5]. روى عن عبد الله بن بسر المازني الصحابي، وحبيب بن عبيد، وحِبّان بن زيد،

وخالد بن مَعْدان، وأزهر بن راشد، وحبيب بن صالح، وغيرهم. وروى عنه ثور بن يزيد الرحبي، والوليد بن مسلم، وإسماعيل بن عياش، وبقية، وعيسى بن يونس، ويحيى بن سعيد القطان، ويزيد بن هارون، وغيرهم. قال معاذ بن معاذ: حدثنا حريز بن عثمان، ولا أعلم أني رأيت بالشام أحدًا أُفَضِّله عليه. وقال الآجري عن أبي داود: شيوخ حريز كلهم ثقات. قال: وسألت أحمد ابن حنبل عنه، فقال: ثقة ثقة. وقال أيضًا: ليس بالشام أثبت من حريز، إلا أن يكون بَحِير. وقال إبراهيم بن الجنيد عن ابن معين: حريز، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وابن أبي مريم، هؤلاء ثقات. وقال ابن المديني: لم يزل من أدركناه من أصحابنا يوثقونه. وقال دُحَيم: حمصي جيد الإسناد، صحيح الحديث. وقال أيضًا: ثقة. وقال المفضل بن غَسّان: ثبت. وقال أحمد بن أبي يحيى عن أحمد: حريز صحيح الحديث، إلا أنه يَحمِل على عليّ. قال يزيد بن عبد ربه: مولده سنة (8) ومات سنة (163). وقال محمد بن مصفى: مات سنة (2) وقال غيره سنة (8) والأول أصح. أخرج له البخاري حديثان فقط، والباقون سوى مسلم، وذكر اللالكائي أن مسلمًا رَوَى له، وذلك وَهَمٌ منه (¬1). وله عند المصنّف أربعة أحاديث، برقم 442 و 457 و 1604 و 2707. وهذا الأثر من زيادات أبي الحسن القطّان. والله أعلم. 2 - (الحارث) لم أعرفه. 3 - (أبو الدرداء) هو: عُويمر بن مالك، وقيل: ابن عامر، وقيل: غير ذلك الصحابيّ الشهير -رضي الله عنه-، تقدّم في 1/ 5. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الأثر ضعيف كسابقه؛ لأن شيخ حَرِيز لم يُعرف، وفيه انقطاع؛ لأن مجاهدًا لا يُمكن أن يسمع من أبي الدرداء؛ لأن المشهور أنه ¬

_ (¬1) راجع "تهذيب التهذيب" 1/ 375 - 377.

مات بالشام سنة (32) ومجاهد وُلد سنة (21) (¬1) في خلافة عمر -رضي الله عنه-، وهو مكيّ، والله تعالى أعلم بالصواب. [تنبيه]: هذان الأثرن، وإن قلنا بضعفهما بسبب ضعف إسناديهما، لكنهما ثابتان عن السلف -رضي الله عنهم-، فإنهم كانوا يقولون: الإيمان يزيد وينقص، وقد ساق الحافظ أبو القاسم اللالكائيّ رحمه الله في كتابه "أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" الآيات والأحاديث التي تدلّ على أن الإيمان يزيد وينقص، وما روي عن الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، فقال: ما دَلَّ أو فُسّر من الآيات من كتاب الله، وسنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما روي عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء أئمة الدين أن الإيمان يزيد بالطاعة، ويَنقُص بالمعصية. فأما من نصّ كتاب الله، فقوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} الآيتين [الأنفال: 2 - 4]. وقال تعالى: {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]. وقال {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]. وقال: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124]. وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وقال: {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]. قال: يزداد إيماني. وقال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا" (¬2). وفي حديث الشفاعة: "أخرجوا من كان في قلبه حبّة خردل من إيمان" (¬3). "ولا يدخل النار من كان في قلبه ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب" 4/ 26. (¬2) حديث صحيح، أخرجه أحمد، وأبو داود، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وصححه ابن حبّان، والحاكم. (¬3) متّفقٌ عليه.

مثقال حبة من خردل من إيمان" (¬1)، "والإيمان بضع وسبعون شعبة" (¬2). وبه قال من الصحابة: عمر بن الخطاب، وعليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وابن عباس، وابن عمر، وعمّار، وأبو هريرة، وحُذيفة، وسلمان، وعبد الله بن رواحة، وأبو أمامة، وجندب بن عبد الله البجليّ، وعمير بن خماشة، وعائشة -رضي الله عنهم-. ومن التابعين: كعب الأحبار، وعروة بن الزبير، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وابن مليكة (¬3)، وميمون بن مِهْران، وعمر بن عبد العزيز، وسعيد بن جبير، والحسن، والزهريّ، وقتادة، ويحيى بن أبي كثير، وأيوب، ويونس، وابن عون، وسليمان التيميّ، وإبراهيم النخعيّ، وأبو البختريّ، سعيد بن فيروز، وعبد الكريم بن مالك الجزريّ، وزُبيد بن الحارث، والأعمش، ومنصور، والحكم، وحمزة الزيات، وهشام بن حسّان، ومَعْقِل بن عبد الله الجزريّ. ومن الفقهاء: مالك بن أنس، والأوزاعيّ، وسفيان الثوريّ، وعبد العزيز بن أبي سلمة، وابن جريج، وسفيان بن عيينة، والفضيل بن عياض، ونافع بن عمرو، ومحمد بن مسلم الطائفيّ، والشافعيّ، وسعيد بن عبد العزيز، ومحمد بن أبي ليلى، وشريك بن عبد الله، والحسين (¬4) بن صالح بن حيّ، ومعمر، ومالك بن مِغْوَل، ومفضّل بن مهَلْهَل، وأبو إسحاق الفزاريّ، وزائدة، وجرير بن عبد الحميد، وأبو شهاب عبد ربه بن نافع، وأبو ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم، وتقدّم للمصنف برقم (59). (¬2) أخرجه مسلم، وتقدّم للمصنف رقم (57). (¬3) هكذا في النسخة "ابن مليكة"، والظاهر أنه غلط، والصواب "ابن أبي مليكة". (¬4) وقع هكذا في النسخة، والظاهر أن الصواب: الحسن مكبّرًا.

زُبيد عبثر بن القاسم، والمثنّى بن الصبّاح. ومن الطبقة الثالثة من البصريين: حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، ويحيى بن سعيد القطّان، وعبد الرحمن بن مهديّ، وعبد الوهاب الثقفيّ، وابن المبارك، ووكيع. وممن يليهم: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد، ومحمد بن إسماعيل البخاريّ، وعبد الله بن عبد الرحمن السَّمَرْقنديّ، ومحمد بن يحيى الذهليّ، ومحمد بن أسلم الطوسيّ، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وأبو داود السجستانيّ. انتهى كلام اللالكائيّ رحمه الله باختصار (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله في "العقيدة الواسطيّة": ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب، واللسان، والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة، ويَنقُص بالمعصية، وهم مع ذلك لا يُكفّرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، كما يفعله الخوارج، بل الأُخُوّة الإيمانيِّة ثابتة مع المعاصي، كما قال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178]، وقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} الآية [الحجرات: 9]، ولا يسلبون الفاسق الإسلام بالكلية، ولا يُخلّدونه في النار، كما تقول المعتزلة، بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} الآية [النساء: 92]، وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق، كما قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن ... " الحديث، ونقول هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، فلا يُعطى الاسم المطلق، ولا يُسلب مطلق الاسم. انتهى ¬

_ (¬1) "شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة" 3/ 960 - 1036.

كلامه (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن مذهب أهل السنة والجماعة، الذي جاءت النصوص من الكتاب والسنة على وفقه أن الإيمان قول وفعل، ويزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وأن ما خالف هذا المذهب فهو ضلال مبين، فاحذر منه، تسلم، وتغنم، والله تعالى وليّ التوفيق، وهو الهادي لأقوم طريق. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. ¬

_ (¬1) راجع "العقيدة الواسطية" ص 103 - 104.

10 - باب في القدر

10 - (بابٌ في القَدَرِ) قال الجامع عفا الله تعالى عنه: غرض المصنّف بهذا الباب إثبات القدر، وبيان وجوب الإيمان به. مسائل تتعلّق بهذه الترجمة: (المسألة الأولى): في ضبط القدر، وبيان معناه: (اعلم): أن "القدَر" -بفتحتين، أو بفتح فسكون-: القضاء والحكم، وهو ما يُقَدِّرُهُ الله عز وجل، من القضاء، ويَحكُم به من الأمور. وقال اللحيانيّ: القدَر -أي بفتحتين- الاسم، والقَدْر -أي بفتح، فسكون- المصدر، وأنشد [من الخفيف]: كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى أخِيكَ مَتَاعٌ ... وَبِقَدْرٍ تَفَرُّقٌ وَاجْتِمَاعُ وأنشد في المفتوح [من الكامل]: قَدَرٌ أَحَلَّكَ ذَا النَّخِيلِ وَقَدْ أَرَى ... وَأَبِيكَ مَا لَكَ ذُو النَّخِيلِ بِدَارِ قال ابن سِيدَهْ: هكذا أنشده بالفتح، والوزن يَقبَل الحركة والسكون. ذكره في "اللسان" (¬1). وقال ابن الأثير: وقد تكرّر ذكر "القدر" في الحديث، وهو عبارة عما قضاه الله، وحكم به من الأمور، وهو مصدرُ قَدَرَ يَقْدِرُ قَدَرًا، وقد تُسكّن داله. انتهى (¬2). وقال في "الفتح": "القدر": مصدرٌ، تقول: قَدَرتُ الشيءَ -بتخفيف الدال، وفتحها- أقدِرُهُ -بالكسر، والفتح- قَدَرًا وقَدْرًا: إذا أحطت بمقداره. قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، قال الراغب: القدر بوضعه يدل على القدرة، وعلى المقدور الكائن بالعلم، ويَتَضَمَّن الإرادة عقلا والقول نقلا وحاصله وجود شيء في وقت وعلى حال بوفق العلم والإرادة والقول، وقَدَّر الله الشيءَ ¬

_ (¬1) "لسان العرب" 5/ 74. (¬2) "النهاية" 4/ 22.

بالتشديد: قضاه، ويجوز بالتخفيف. وقال ابن القطاع: قدر الله الشيءَ: جعله بقَدَر، والرزقَ صنعه، وعلى الشيء ملكه. وقال الكرماني: المراد بالقدر حكم الله، قال العلماء: القضاء: هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل، والقدر جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله (¬1). والمراد أن الله تعالى عَلِمَ مقادير الأشياء، وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجَدُ، فكل مُحدَث صادر عن علمه وقدرته وإرادته، هذا هو المعلوم من الدين بالبراهين القطعية، وعليه كان السلف من الصحابة، وخيار التابعين، إلى أن حَدَثت بدعة القدر في أواخر زمن الصحابة. وقد روى مسلم القصة في ذلك من طريق كهمس، عن ابن بُرَيدة، عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة مَعْبَدٌ الجهني، قال: فانطلقت أنا وحميد الحميري، فذكر اجتماعهما بعبد الله بن عمر، وأنه سأله عن ذلك، فأخبره بأنه برىء ممن يقول ذلك، وأن الله لا يقبل ممن لم يؤمن بالقدر عَمَلًا. وقد حَكَى المصَنِّفون في المقالات عن طوائف من القدرية إنكار كون البارىء عالمًا بشيء من أعمال العباد قبل وقوعها منهم، وإنما يَعلَمها بعد كونها. قال القرطبي وغيره: قد انقرض هذا المذهب، ولا نَعرِف أحدًا يُنسَب إليه من المتأخرين، قال: والقدرية اليوم مُطبِقون على أن الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها، وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لهم، وواقعة منهم على جهة الاستقلال، وهو مع كونه مذهبًا باطلًا أخفّ من المذهب الأول، وأما المتأخرون منهم، فأنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد فرارًا من تعلق القديم بالمحدث، وهم مخصومون بما قال الشافعي: إن سَلَّمَ القدري العلم خُصِمَ -يعني يقال له: أيجوز أن يقع في الوجود خلاف ما تضمنه العلم، فإن مَنَعَ وافق قول أهل السنة، وإن أجاز لزمه نسبة الجهل ¬

_ (¬1) راجع "فتح الباري" 11/ 581.

تعالى الله عن ذلك (¬1). وقال أبو المظفر بن السمعاني: سبيلُ معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة، دون محض القياس والعقل، فمن عَدَل عن التوقيف فيه ضَلَّ، وتاه في بحار الْحَيْرة لم يبلغ شفاء العين، ولا ما يطمئن به القلب؛ لأن القدر سر من أسرار الله تعالى، اختَصَّ العليم الخبير به، وضرب دونه الأستار، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم؛ لما عَلِمَه من الحكمة، فلم يعلمه نبي مرسل، ولا ملك مقرب. وقيل: إن سر القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة، ولا ينكشف لهم قبل دخولها. انتهى. وقد أخرج الطبراني بسند حسن من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- رفعه: "إذا ذُكِر القدر فأمسكوا". وأخرج مسلم من طريق طاوس: "أدركت ناسا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولون: "كلُّ شيء بقدر". وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كلُّ شيء بقدر، حتى العجز والكيس". قال الحافظ رحمه الله: و"الْكَيْسُ" -بفتح الكاف-: ضد العجز، ومعناه: الْحِذْق في الأمور، ويتناول أمور الدنيا والآخرة، ومعناه: أن كل شيء لا يقع في الوجود إلا وقد سبق به علم الله عز وجل ومشيئته، وإنما جعلهما في الحديث غايةً لذلك؛ للإشارة إلى أن أفعالنا، وإن كانت معلومة لنا، ومرادةَ منا فلا تقع مع ذلك منا إلا بمشيئة الله. وهذا الذي ذكره طاوس مرفوعا وموقوفا مطابق لقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، فإن هذه الآية نص في أن الله خالق كل شيء، ومُقَدِّره، وهو أنصّ من قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]. واشتهر على ألسنة السلف والخلف أن هذه الآية نزلت في القدرية. وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "جاء مشركو قريش يخاصمون النبي -صلى الله عليه وسلم- في القدر، ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 1/ 145 في "كتاب الإيمان".

فنزلت. قال: ومذهب السلف قاطبة أن الأمور كلها بتقدير الله تعالى، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 21] انتهى (¬1) .. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الثانية): قسم شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله القدريّة ثلاثة أقسام: (القسم الأول): القدريّة المشركة، وهم الذين اعترفوا بالقضاء والقدر، وزعموا أن ذلك يوافق الأمر والنهي، وقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} الآية [الأنعام: 148]، {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} الآية [النحل: 35]، {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} الآية [الزخرف: 20]. فهؤلاء يؤول أمرهم إلى تعطيل الشرائع، والأمر والنهي، مع الاعتراف بالربوبيّة العامّة لكل مخلوق، وأنه ما من دائة إلا ربي آخذ بناصيتها، وهو الذي يُبتَلَى به كثيرًا، إما اعتقادًا، وإما حالًا طوائفُ من الصوفيّة والفقراء حتى يخرج من يخرج منهم إلى الإباحة للمحرّمات، وإسقاط الواجبات، ورفع العقوبات، وإن كان ذلك لا يستتبّ لهم، وإنما يفعلونه عند موافقة أهوائهم، كفعل المشركين من العرب. ثم إذا خولف هوى أحد منهم قام في دفع ذلك متعدّيًا للحدود، غير واقف عند حدّ، كما كان يفعل المشركون أيضًا؛ إذ هذه الطريقة تتناقض عند تعارض إرادات البشر، فهذا يريد أمرًا، والآخر يريد ضدّه، وكلّ من الإرادتين مقدّرة، فلا بدّ من ترجيح إحداهما أو غيرهما، أو كلّ منهما من وجه، وإلا لزم الفساد. وقد يغلوا أصحاب هذا الطريق حتى يجعلوا عين الموجودات هي الله، ويتمسّكون بموافقة الإرادة القدرية في السيئات الواقعة منهم ومن غيرهم، كقول الحريريّ: أنا كافر برب يُعصى، وقول بعض أصحابه لما دعاه مكّاس، فقيل له: هو مكّاس، فقال: إن كان قد عصى الأمر فقد أطاع الإرادة، وكقول ابن إسرائيل: ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 11/ 582 في "كتاب القدر".

أَصْبَحْتُ مُنْفَعِلًا لِمَا يَخْتَارُهُ ... مِنِّي فَفِعلي كُلُّهُ طَاعَةُ وقد يسمّون هذا حقيقةً باعتبار أنه حقيقة الربوبية، والحقيقة الموجودة الكائنة، أو الحقيقة الخبريّة، ولمّا كان في هؤلاء شَوْبٌ من النصارى، والنصارى لهم شوبٌ من الشرك تابعوا المشركين فيما كانوا عليه من التمسّك بالقدر المخالف للشرع، هذا مع أنهم يعبدون غير الله الذي قدّر الكائنات كما أن هؤلاء فيهم شوب من ذلك. وإذا اتسع زنادقتهم الذين هم رؤساؤهم قالوا: ما نعبد إلا الله؛ إذ لا موجود غيره، وقال رئيس لهم: إنما كفر النصارى لأنهم خصّصوا، فيشرعون عبادة كل موجود بهذا الاعتبار، ويقررون ما كان عليه المشركون من عبادة الأوثان والأحجار، لكنهم يستقصرونهم حيث خصّصوا العبادة ببعض المظاهر والأعيان. ومعلوم أن هذا حاصل في جميع المشركين، فإنهم متفنّنون في الآلهة التي يعبدونها، وإن اشتركوا في الشرك، هذا يعبد الشمس، وهذا يعبد القمر، وهذا يعبد اللات، وهذا يعبد العزى، وهذا يعبد مناة الثالثة الأخرى، فكل منهم يتخذ إلهه هواه، ويعبد ما يستحسن، وكذلك في عبادة قبور البشر كلّ يعلق على تمثال من أحسن به الظنّ. (القسم الثاني القدرية المجوسيّة) الذين يجعلون لله شركاء في خلقه، كما جعل الأولون شركاء في عبادته، فيقولون: خالق الخير غير خالق الشرّ، ويقول من كان منهم في ملّتنا: إن الذنوب الواقعة ليست واقعة بمشيئة الله تعالى، وربّما قالوا: ولا يعلمها أيضًا، ويقولون: إن جميع أفعال الحيوان واقع بغير قدرته، ولا صنعه، فيجحدون مشيئته النافذة، وقدرته الشاملة، ولهذا قال ابن عبّاس: القدر نظام التوحيد، فمن وحّد الله، وآمن بالقدر تمّ توحيده، ومن وحّد الله، وكذّب بالقدر نقض تكذيبه قدره. ويزعمون أن هذا هو العدل، ويضمون إلى ذلك سلب الصفات، ويسمّونه التوحيد، كما يسمّى الأولون التلحيد التوحيد، فيُلحِد كلّ منهما في أسمائه وصفاته، وهذا يقع كثيرًا، إما اعتقادًا، وإما حالًا في كثير من المتفقّهة والمتكلّمة، كما وقع اعتقاد

ذلك في المعتزلة والشيعة المتأخرين، وابتُلي ببعض ذلك طوائف من المتقدّمين من البصريين والشاميين، وقد يُبتلى به حالًا، لا اعتقادًا بعض من يغلب عليه تعظيم الأمر والنهي من غير ملاحظة للقضاء والقدر. ولِمَا بين الطائفتين من التنافي تجد المعتزلة أبعد الناس عن الصوفيّة، ويميلون إلى اليهوديّة، وينفرون عن النصارى، ويجعلون إثبات الصفات هو قول النصارى بالأقانيم، ولهذا تجدهم يذمّون النصارى أكثر، كما يفعل الجاحظ وغيره، كما أن الأولين يميلون إلى النصارى أكثر. ولهذا كان هؤلاء في الحروف، والكلام المبتدع، كما كان الأولون في الأصوات، والعمل المبتدع، كما اقتسم ذلك اليهود والنصارى، واليهود غالبهم قدرية بهذا الاعتبار، فإنهم أصحاب شريعة، وهم معرضون عن الحقيقة القدريّة، ولهذا تجد أرباب الحروف والكلام المبتدع كالمعتزلة يوجبون طريقتهم، ويحرمون ما سواها، ويعتقدون أن العقوبة الشديدة لا حقة من خالفها، حتى إنهم يقولون بتخليد فسّاق أهل الملل، ويكفّرون من خرج عنهم من فرق الأمة، وهذا التشديد، والآصار، والأغلال شبه دين اليهود. وتجد أرباب الصوت والعمل المبتدع لا يوجبون، ولا يحرّمون، وإنما يستحبّون، ويَكرهون، فيعظّمون طريقهم، ويفضلونه، ويرغّبون فيه، حتى يرفعوه فوق قدره بدرجات، فطريقهم رغبة بلا رهبة إلا قليلًا، كما أن الأول رهبةٌ في الغالب برغبة يسيرة، وهذا يُشبه ما عليه النصارى من الغلوّ في العبادات التي يفعلونها مع انحلالهم من الإيجاب والاستحباب، لكنهم يتعبّدون بعبادات كثيرة، ويبقون أزمانًا كثيرةً على سبيل الاستحباب، والفلاسفة يغلب عليهم هذا الطريق، كما أن المتكلّمين يغلب عليهم الطريق الأول. (القسم الثالث القدريّة الإبليسيّة): الذين صدّقوا بأن الله صدر عنه الأمران، لكن عندهم تناقض، وهم خصماء الله، كما جاء في الحديث، وهؤلاء كثير في أهل

الأقوال والأفعال، من سفهاء الشعراء، ونحوهم من الزنادقة. قال: فتدبّر كيف كانت الملل الصحيحة الذين آمنوا، والذين هادوا، والنصارى، والصابئون ليس فيها في الأصل قدريّة، وإنما حدثت القدريّة من الملّتين الباطلتين: المجوس، والذين أشركوا. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله (¬1)، وهو كلام نفيس، وبحثٌ أنيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الثالثة): قد أجاد شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى في الردّ على أحد علماء الذميين، حيث أورد أبياتًا فيها استشكالات في القدر، فقال [من الطويل]: أيَا عُلَمَاءَ الدِّينِ ذِمِّيُّ دينكم ... تَحَيَّرَ دُلُّوهُ بِأَوْضَح حُجَّةِ إِذَا مَا قَضَى رَبِّي بِكُفْرِي بِزَعْمِكُمْ ... وَلَمْ يَرْضَهُ مِنِّي فَمَا وَجْهُ حِيلَتِي دَعَانِي وَسَدَّ الْبَابَ عَنِّي فَهَلْ إِلَى ... دُخُولِي سبِيلٌ بَيِّنُوا لِي قَضِيَّتِي قَضَى بِضَلَالِي ثُمَّ قَالَ ارْضَ بِالْقَضَا ... فَمَا أَنَا رَاضٍ بِالَّذِي فِيهِ شِقْوَتِي فَإِنْ كنْتُ بِالمقْضِيِّ يَا قَوْمُ رَاضِيًا ... فَرَبِّيَ لَا يَرْضَى بِشُؤْمِ بَلِيَّتِي فَهَلْ لِي رِضًا مَا لَيْسَ يَرْضَاهُ سَيِّدِي ... فَقَدْ حِرْتُ دُلُّونِي عَلَى كشْفِ حَيْرَتِي إِذَا شَاءَ رَبِّي الْكُفْرَ مِنِّي مَشِيئَةً ... فَهَلْ أَنَا عَاصٍ في اتِّبَاع الْمَشِيئَةِ؟ وَهَلْ لِي اخْتِيَارٌ أَنْ أُخَالِفَ حُكْمَهُ؟ ... فِبِاللَّه فَاشْفُوا بِالْبَرَاهِينِ غُلَّتِي فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله تعالى مرتجلًا، فقال: سُؤَالُكَ يَا هَذَا سُؤَالُ مُعَانِدٍ ... مُخَاصِمِ رَبِّ الْعَرْشِ بَارِي الْبَرِيَّةِ فَهَذَا سُؤَالٌ خَاصَمَ الْمَلأَ الأَعْلَى ... قَدِيمًا بِهِ إِبْلِيسُ أَصْلُ الْبَلِيَّةِ وَمَنْ يَكُ خَصْمًا للمهيمن يَرْجِعَنْ ... عَلَى أُمِّ رَأْسٍ هَاوِيًا في الْحفِيرَةِ وَيُدْعَى خُصُومُ اللَّه يَوْمَ مَعَادِهِمْ ... إِلَى النَّارِ طُرًّا مَعْشَرُ الْقَدَرِيَّة ¬

_ (¬1) راجع "مجموع الفتاوى" 8/ 256 - 261.

سَوَاءٌ نَفَوْهُ أَوْ سَعَوْا لِيُخَاصِمُوا ... بِهِ اللَّهَ أَوْ مَا رَوْا بِهِ لِلشَّرِيعَة وَأَصْلُ ضَلَالِ الخُلْقِ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ ... هُوَ الْحَوْضُ في فِعْلِ الإِلَهِ بِعِلَّةِ فَإِنَّهُمُوا لَمْ يَفْهَمُوا حِكْمَةً لَهُ ... فَصَارُوا عَلَى نَوْع مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ جَمِيعَ الْكَوْنِ أَوْجَبَ فِعْلَهُ ... مَشِيئَةُ رَبِّ الْخَلْقِ بَارِي الخُلِيقَةِ وَذَاتُ إِلَهِ الْخَلْقِ وَاجِبَة بِمَا ... لهَا مِنْ صِفَاتِ وَاجِبَاتٍ قَدِيمَةِ مَشِيئَتُهُ مَعْ عِلْمِهِ ثُمَّ قُدْرَةٍ ... لَوَازِمُ ذَاتِ اللَّه قَاضِي الْقَضِيَّةِ وَإِبْدَاعُهُ مَا شَاءَ مِنْ مُبْدَعَاتِهِ ... بِهَا حِكْمَةٌ فِيهِ وَأَنْوَاعُ رَحْمَةِ وَلَسْنَا إِذَا قُلْنَا جَرَتْ بِمَشِيئَةٍ ... مِنَ المُنْكِرِي آيَاتِهِ المُسْتَقِيمَةِ بَلِ الحقُّ أَنَّ الْحُكْمَ للَّه وَحْدَهُ ... لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ الَّذِي في الشَّرِيعَةِ هُوَ الْمَلِكُ الْمَحْمُودُ في كُلِّ حَالَةٍ ... لَهُ الْمُلْكُ مِنْ غَيْرِ انْتِقَاصٍ بِشِرْكَةِ فَمَا شَاءَ مَوْلانَا الإِلَهُ فَإِنَّهُ ... يَكُونُ وَمَا لَا لَا يَكُونُ بِحِيلَةِ وَقُدْرَتُهُ لَا نَقْصَ فِيهَا وَحُكْمُهُ ... يَعُمُّ فَلا تَخْصِيصَ في ذِي الْقَضِيِّةِ أُرِيدُ بِذَا أَنَّ الحوَادِثَ كُلَّهَا ... بِقُدْرَتِهِ كَانَتْ وَمَحْضِ الْمَشِيئَةِ وَمَالِكُنَا في كلِّ مَا قَدْ أَرَادَهُ ... لَهُ الْحَمْدُ حَمْدًا يَعْتَلي كُلَّ مِدْحَةِ فَإِنَّ لَهُ في الْخَلْقِ رَحْمَتُهُ سَرَتْ ... وَمِنْ حِكَمِ فَوْقَ الْعُقُولِ الْحَكِيمَةِ أُمُورًا يَحَارُ الْعَقْلُ فِيهَا إِذَا رَأَى ... مِنَ الْحِكَم الْعُلْيَا وَكُلِّ عَجِيبَةِ فَنُؤْمِنُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ بِقُدْرَةٍ ... وَخَلْقٍ وَإِبْرَامِ لحُكْمِ المَشِيئَةِ فَنُثْبِتُ هَذَا كُلَّهُ لإِلَهِنَا ... وَنُثْبِتُ مَا في ذَاكَ مِنْ كُلِّ حِكْمَةِ وَهَذَا مَقَامٌ طَالمَا عَجَزَ الأُولَى ... نَفَوْهُ وَكَرُّوا رَاجِعِين بِحَيْرَةِ وَتَحْقِيقُ مَا فِيهِ بِتَبْيِينِ غَوْرِهِ ... وَتَحْرِيرِ حَقِّ الْحَقِّ في ذِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمَطْلَبُ الأَقْصَى لِوُرَّادِ بَحْرِهِ ... وَذَا عَسِرٌ في نَظْم هَذِي الْقَصِيدَةِ

لحِاجَتِهِ إِلَى بَيَانٍ مُحَقِّقٍ ... لأَوْصَافِ مَوْلانَا الإِلَهِ الْكَرِيمَة وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَأَحْكَامِ دِينِهِ ... وَأَفْعَالِهِ في كُلِّ هَذِي الخَلِيقَةِ وَهَذَا بِحَمْدِ اللَّه قَدْ بَانَ ظَاهِرًا ... وَإِلْهَامُهُ لِلْخَلْقِ أَفْضَلُ نِعْمَةِ وَقَدْ قِيلَ في هَذَا وَخَطِّ كتَابِهِ ... بَيَانُ شِفَاءٍ للنُّفُوسِ السَّقِيمَةِ فَقَوْلُكَ لمْ قَدْ شَاءَ مِثْلُ سُؤَالِ مَنْ ... يَقُولُ فَلِمْ قَدْ كَانَ في الأَزَليَّةِ وَذَاكَ سُؤَالٌ يُبْطِلُ الْعَقْلُ وَجْهَهُ ... وَتَحْرِيمُهُ قَدْ جَاءَ في كُلِّ شِرْعَةِ وفِي الْكَوْنِ تَخْصِيصٌ كَثِيرٌ يَدُلُّ من ... لَهُ نَوْعُ عَقْلٍ أَنَّهُ بِإِرَادَةِ وَإِصْدَارُهُ عَنْ وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ ... أَوْ الْقَول بِالتَّجْوِيزِ رَمْيَةُ حَيْرَةِ وَلَا ريْبَ في تَعْلِيقِ كُلِّ مُسَبَّبٍ ... بَما قَبْلَهُ مِنْ عِلَّةٍ مُوجِبَيَّةِ بَلُ الشَّأْنُ في الأَسْبَابِ أَسْبَابِ مَا تَرَى ... وَإِصْدَارُهَا عَنْ حُكْمِ مَحْضِ الْمَشِيئَة وَقَوْلُكَ لِم شَاءَ الإِلَهُ هُوَ الَّذِي ... أَزَلَّ عُقُولَ الخَلْقِ في قَعْرِ حُفْرَةِ فَإِنَّ الْمَجُوسَ الْقَائِلِينَ بِخَالِقٍ ... لِنَفْعِ وَرَبِّ مُبْدِعِ لِلْمَضَرَّةِ سُؤَالهُمُ عَنْ عِلَّةِ السِّرِّ أَوْقَعَتْ ... أَوَائِلَهُمْ في شُبْهَةِ الثَّنَوِيَّةِ وَإِنَّ مَلَاحِيدَ الْفَلَاسِفَةِ الأُولَى ... يَقُولُونَ بِالْفِعْلِ الْقَدِيمِ لِعِلَّةِ بَغَوْا عِلَّة لِلْكَوْنِ بَعْدَ انْعِدَامِهِ ... فَلَمْ يَجِدُوا ذَاكُمْ فَضَلُّوا بِضِلَّةِ وَإِنَّ مَبَادِي الشَّرِّ في كُلِّ أُمَّةِ ... ذَوِي مِلَّةِ مَيْمُونَةٍ نَبَويَّةِ بَخَوْضِهِمُ في ذَاكُمُ صَارَ شِرْكهُمْ ... وَجَاءَ دُرُوسُ الْبَيِّنَاتِ بِفَتْرَةِ وَيَكْفِيكَ نَقْضًا أَنَّ مَا قَدْ سَأَلْته ... مِنَ الْعُذْرِ مَرْدُودٌ لَدَى كُلِّ فِطْرَةِ فَأنْتَ تَعِيبُ الطَّاغِينَ جَمِيعَهُمْ ... عَلَيْكَ وَتَرْمِيهِمْ بِكُلِّ مَذَمَّةِ وَتَنْحَلُ مَنْ وَالاَكَ صَفْوَ مَوَدَّةٍ ... وَتُبْغِضُ مَنْ نَاواكَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةِ وَحَالهُمُ في كُلِّ قَوْلٍ وِفَعْلَةٍ ... كَحَالِكَ يَا هَذَا بِأَرْجَح حُجَّةِ

وَهَبْكَ كفَفْتَ اللَّوْمَ عَنْ كُلِّ كَافِرٍ ... وَكُلِّ غَوِيٍّ خَارِج عَنْ مَحَجَّةِ فَيَلْزَمُكَ الإِعْرَاضُ عَنْ كُلِّ ظَالِم ... عَلَى النَّاسِ في نَفْسٍ وَمَالٍ وَحُرْمَةِ وَلَا تُبْغِضَنْ يَوْمًا عَلَى سَافِكٍ دَمَا ... وَلَا سَارِقٍ مَالًا لِصَاحِبِ فَاقَةِ وَلَا شَاتِمِ عِرْضًا مَصُونًا وَإِنْ عَلاَ ... وَلَا نَاكِح فَرْجًا عَلَى وَجْهِ غَيَّةِ وَلَا قَاطِع لِلنَّاسِ نَهْجَ سَبِيلِهِمْ ... وَلَا مُفْسِدٍ في الأَرْضِ في كُلِّ وِجْهَةِ وَلَا شَاهِدٍ بِالزُّورِ إِفْكًا وَفِرْيَةً ... وَلَا قَاذِفٍ لِلْمُحْصَنَاتِ بِزَنْيَةِ وَلَا مُهْلِكٍ لِلْحَرْثِ وَالنَّسْلِ عَامِدًا ... وَلَا حَاكِمِ لِلْعَالمَينَ بِرِشْوَةِ وَكُفَّ لِسَانَ اللَّوْمِ عَنْ كُلِّ مُفْسِدٍ ... وَلَا تَأْخُذَنْ ذَا جَرْمَةٍ بِعُقُوبَةِ وَسَهِّلْ سَبِيلَ الْكَاذِبِينَ تَعَمُّدًا ... عَلَى رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ جَاءٍ بِفِرْيَةِ وَإِنْ قَصَدُوا إِضْلاَلَ مَنْ يَسْتَجِيبُهُمْ ... بِرَوْمِ فَسَادِ النَّوْع ثُمَّ الرِّيَاسَةِ وَجَادِلْ عَنِ الْمَلْعُونِ فِرْعَوْنَ إِذْ طَغَى ... فَأُغْرِقَ في الْيَمِّ انْتِقَامًا بِغَضْبَةِ وَكُلِّ كَفُورٍ مُشْرِكٍ بِإِلَهِهِ ... وَآخَرَ طَاغِ كَافِرٍ بِنُبُوَّةِ كَعَادٍ وَنُمْرُوذٍ وَقَوْمِ لِصَالِح ... وَقَوْمِ لِنُوح ثُمَّ أَصْحَاب الأَيْكَةِ وَخَاصِمْ لِمُوسَى ثُمَّ سَائِرِ مَنْ أَتَى ... مِنَ الأَنبِيَاءِ مُحْيِيًا لِلشَّرِيعَةِ عَلَى كَوْنِهِمْ قَدْ جَاهَدُوا النَّاسَ إِذْ بَغَوْا ... وَنَالُوا مِنَ الْعَاصِي بَلِيغَ الْعُقُوبَةِ وَإِلَّا فَكُلُّ الْخَلْقِ في كُلِّ لَفْظَةٍ ... وَلَحْظَةِ عَيْنٍ أَوْ تَحَرُّكِ شَعْرَةِ وَبَطْشَةَ كَفٍّ أَوْ تخَطِّي قُدَيْمَةٍ ... وَكُلِّ حِرَاكٍ بَلْ وَكُلِّ لسَكِينَةِ هُمُ تَحْتَ أَقْدَارِ الإِلَهِ وَحُكْمِهِ ... كَمَا أَنْتَ فِيمَا قَدْ أَتَيْتَ بحُجَّةِ وَهَبْكَ رَفَعْتَ اللَّوْمَ عَنْ كُلِّ فَاعِلٍ ... فِعَالِ رَدًى طَرْدًا لهِذِي الْمَقِيسَةِ فَهَلْ ممكن رَفْعُ الْمُلَامِ جَمِيعِهِ ... عَنِ النَّاسِ طُرًّا عِنْدَ كُلِّ قَبِيحَةِ وَتَرْكُ عُقُوبَاتِ الَّذِينَ قَدِ اعْتَدَوْا ... وَتَرْكُ الْوَرَى الإِنْصَافَ بَيْنَ الرَّعِيَّةِ

فَلَا تُضْمَنَنْ نَفْسٌ وَمَالٌ بِمِثْلِهِ ... وَلَا يُعْقَبَنْ عَادٍ بِمِثْلِ الْجَرِيمَةِ وَهَلْ في عُقُولِ النَّاسِ أَوْ في طِبَاعِهِمْ ... قَبُولٌ لِقَوْلِ النَّذْلِ (¬1) مَا وَجْهُ حِيلَتِي وَيَكْفِيكَ نَقْضًا مَا بِجِسْمِ ابْنِ آدَمِ ... صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَكُلِّ بَهِيمَةِ مِنَ الأَلم الْمَقْضِيِّ في غَيْرِ حِيلَةٍ ... وَفِيمَا يَشَاءُ اللَّهُ أَكْمَلُ حِكْمَةِ إِذَا كَانَ في هَذَا لَهُ حِكْمَةٌ فَمَا ... يُظَنُّ بِخَلْقِ الْفِعْلِ ثُمَّ الْعُقُوبَةِ وَكَيْفَ وَمِنْ هَذَا عَذَابٌ مُوَلَّدٌ ... عَنِ الْفِعْلِ فِعْلِ الْعَبْدِ عِنْدَ الطَّبِيعَةِ كَآكِلِ سُمٍّ أَوْجَبَ الْمَوْتَ أَكْلُهُ ... وَكُلٌّ بِتَقْدِيرٍ لِرَبِّ الْبَرِيَّةِ فَكُفْرُكَ يَا هَذَا كَسُمٍّ أَكَلْتَهُ ... وَتَعْذِيبُ نَارٍ مِثْلُ جُرْعَةِ غُصَّةِ أَلسْتَ تَرَى في هَذِهِ الدَّارِ مَنْ جَنَى ... يُعَاقَبُ إِمَّا بِالْقَضَا أَوْ بِشِرْعَةِ وَلَا عُذْرَ لِلْجَانِي بِتَقْديرِ خَالِقٍ ... كَذَلِكَ في الأُخرَى بِلَا مَثْنَوِيَّةِ وَتَقْدِيرُ رَبِّ الْخَلْقِ لِلذَّنْبِ مُوجِبٌ ... لِتَقْدِيرِ عُقْبَى الذَّنْبِ إِلَّا بتَوْبَةِ وَمَا كَانَ مِنْ جِنْسِ المتَابِ لِرَفْعِهِ ... عَوَاقِبَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ الخَبِيثَةِ كَخَيْرٍ تُمْحَى بِهِ الذُّنُوبُ وَدَعْوَةٍ ... تُجَابُ مِنَ الجَانِي وَرُبَّ شَفَاعَةِ وَقَوْلُ حَلِيفِ الشِّرِّ إِنِّي مُقَدَّرٌ ... عَلَيَّ كَقَوْلِ الذِّئْبِ هَذِي طَبِيعَتِي وَتَقْدِيرُهُ لِلْفِعْلِ يَجْلُبُ نِقْمَةً ... كتَقْدِيرِهِ الأَشْيَاءَ طُرًّا بِعِلَّةِ فَهَلْ يَنْفَعَنْ عُذْرُ الْمَلُومِ بِأَنَّهُ ... كَذَا طَبْعُهُ أَمْ هَلْ يُقَالُ لِعْثْرَةِ أَمِ الذَّمُّ وَالتَّعْذِيبُ أَوْكَدُ لِلَّذِي ... طَبِيعَتُهُ فِعْلُ الشُّرُورِ الشَّنِيعَةِ فَإِنْ كُنْتَ تَرْجُو أَنْ تُجَابَ بِما عَسَى ... يُنَجِّيكَ مِنْ نَارِ الإِلَهِ الْعَظِيمَةِ فَدُونَكَ رَبَّ الخَلْقِ فَاقْصِدْهُ ضَارِعًا ... مُرِيدًا لأَنْ يَهْدِيكَ نَحْوَ الْحَقِيقَةِ وَذَلِّلْ قِيَاد النَّفْسِ لِلْحَقِّ وَاسْمَعَنْ ... وَلَا تُعْرِضَنْ عَنْ فِكْرَةٍ مُسْتَقِيمَةِ ¬

_ (¬1) "النذل" بفتح، فسكون، و"النذيل: الخسيس من الناس. اهـ "ق".

وَمَا بَانَ مِنْ حَقٍّ فَلاَ تَتْرُكنَّهُ ... وَلَا تَعْصِ مَنْ يَدْعُو لأَقْوَمِ شِرْعَةِ وَدَعْ دِينَ ذَا الْعَادَاتِ لَا تَتْبَعَنَّهُ ... وَعُجْ عَنْ سَبِيلِ الأُمَّةِ الْغَضَبِيَّةِ وَمَنْ ضَلَّ عَنْ حَقٍّ فَلَا تَقْفُوَنَّهُ ... وَزِنْ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ بِالْمَعْدِلِيَّةِ هُنَالِكَ تَبْدُو طَالِعَاتٌ مِنَ الْهُدَى ... تُبَشِّرُ مَنْ قَدْ جَاءَ بِالْحَنِيفِيَّةِ بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ذَاكَ إِمَامُنَا ... وَدينِ رَسُولِ اللهِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ فَلاَ يَقْبَلُ الرَّحْمَنُ دِينًا سِوَى الَّذِي ... بِهِ جَاءَتِ الرُّسْلُ الْكِرَامُ السَّجِيَّةِ وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْحَاشِرُ الْخَاتِمُ الَّذِي ... حَوَى كُلَّ خَيْرٍ في عُمُومِ الرِّسَالَةِ وَأَخْبَرَ عَنْ رَبِّ الْعِبَادِ بِأَنَّ مَنْ ... غَدَا عَنْهُ في الأُخْرَى بِأَقْبَح خَيْبَةِ فَهَذِي دَلَالَاتُ الْعِبَادِ لِحَائِرٍ ... وَأَمَّا هُدَاهُ فَهْوَ فِعْلُ الرُّبُوبَةِ وَفَقْدُ الْهُدَى عِنْدَ الْوَرَى لَا يُفِيدُ مَنْ ... غَدا عَنْهُ بَلْ يُجْزَى بِلَا وَجْهِ حُجَّةِ وَحُجَّةُ مُحْتَجٍّ بِتَقْدِيرِ رَبِّهِ ... تَزِيدُ عَذَابًا كَاحْتِجَاجِ مَرِيضَةِ وَأَمَّا رِضَانَا بِالْقَضَاءِ فَإِنَّمَا ... أُمِرْنَا بِأَنْ نَرْضَى بِمِثْلِ المُصِيبَةِ كَسُقْمِ وَفَقْرٍ ثُمَّ ذُلٍّ وَغُرْبَةٍ ... وَمَا كَانَ مِنْ مُؤْذٍ بِدُونِ جَرِيمَةِ فَأَمَّا الأَفَاعِيلُ الَّتِي كُرِهَتْ لنَا ... فَلَا نَرْتَضِي مَسْخُوطَةً لمِشِيئَةِ وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ مِنْ أُولِي الْعِلْم لَا رِضَا ... بِفِعْلِ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ الْكَبِيرَةِ وَقَالَ فَرِيقٌ نَرْتَضِي بِقَضَائِهِ ... وَلَا نَرْتَضِي المقْضِيَّ أَقْبَحِ خَصْلَةِ وَقَالَ فَرِيقٌ نَرْتَضِي بِإِضَافَةٍ ... إِلَيْهِ وَمَا فِينَا فَنَلْقَى بِسَخْطَةِ كَمَا أَنَّهَا لِلرَّبِّ خَلْقٌ وَأَنَّهَا ... لمِخْلُوقِهِ لَيْسَتْ كَفِعْلِ الْغَرِيزَةِ فَنَرْضَى مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ خَلْقُهُ ... وَنَسْخَطُ مِنْ وَجْهِ اكْتِسَابِ الْخَطِيئَةِ وَمَعْصِيَةُ الْعَبْدِ المكَلَّفِ تَرْكُهُ ... لِمَا أَمَرَ الْمَوْلَى وِإِنْ بِمَشِيئَةِ فَإِنَّ إِلَهَ الْخَلْقِ حَقٌّ مَقَالُهُ ... بِأَنَّ الْعِبَادَ في جَحِيمِ وَجَنَّةِ

كَمَا أَنَّهُمْ في هَذِهِ الدَّارِ هَكَذَا ... بَلِ الْبُهْمُ في الآلَام أَيْضًا وَنِعْمَةِ وَحِكْمَتُهُ الْعُلْيَا اقْتَضتْ مَا اقْتَضَتْ مِنَ ... فِرُوقِ بِعِلْم ثُمَّ أَيْدٍ وَرَحْمَةِ يَسُوقُ أُولِي التَّعْذِيبِ بِالسَّبَبِ الَّذِي ... يُقَدِّرُهُ نَحْوَ الْعَذَابِ بِعِزَّةِ وَيَهْدِي أُولِي التَّنْعِيم نَحْوَ نَعِيمِهِمْ ... بِأَعمالِ صِدْقٍ في رَجَاءٍ وَخَشْيَةِ وَأَمْرُ إِلَهِ الْخَلْقِ بَيَّنَ مَا بِهِ ... يَسُوقُ أُولِي التَّنْعِيمِ نَحْوَ السَّعَادَةِ فَمَنْ كانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ أَثَّرَتْ ... أَوَامِرُهُ فِيهِ بِتَيْسِيرِ صَنْعَةِ وَمَنْ كانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ لَمْ يَنَلْ ... بِأَمْرٍ وَلَا نَهْي بِتَقْدِيرِ شِقْوَةِ وَلاَ مَخْرَجٌ لِلْعَبْدِ عَمَّا بِهِ قَضَى ... وَلَكِنَّهُ مُخْتارُ حُسْنٍ وَسَوْأَةِ فَلَيْسَ بِمَجْبُورٍ عَدِيمِ الإِرَادَةِ ... وَلَكِنَّهُ شَاءٍ بخَلْقِ الإِرَادَةِ وَمِنْ أَعْجَبِ الأَشْيَاءِ خَلْقُ مَشِيئَةٍ ... بَهَا صَارَ مُخْتَارَ الْهُدَى بِالضَّلَالَةِ فَقَوْلُكَ هَلْ أَخْتَارُ تَرْكًا لحِكْمَةٍ ... كَقَوْلكَ هَلْ أَخْتَارُ تَرْكَ الْمَشِيئَةِ وَأَخْتَارُ أَنْ لا اخْتَارَ فِعْلَ ضَلاَلَةٍ ... وَلَوْ نِلْتُ هَذَا التَّرْكَ فُزْتُ بتَوْبَةِ وَذَا مُمكنٌ لَكِنَّهُ مُتَوَقِّفٌ ... عَلَى مَا يَشَاءُ اللَّهُ مِنْ ذِي الْمَشَيئَةِ فَدُونَكَ فَافْهَمْ مَا بِهِ قَدْ أَجَبْتُ مِنْ ... مَعَانٍ إِذَا انْحَلَّتْ بِفَهْمِ غَرِيزَةِ أَشَارَتْ إِلَى أَصْلٍ يُشِيرُ إِلَى الْهُدَى ... وَللَّه رَبِّ الْخَلْقِ أَكْمَلُ مِدْحَةِ وَصَلَّى إِلَهُ الخلْقِ جَلَّ جَلَالُهُ ... عَلَى الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ انتهت قصيدة شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله في الردّ على سؤال في قصيدة وجهها بعض الذميين معترضًا على القدر، فأجابه رحمه الله بهذه القصيدة الجامعة الفاذّة، فأجاد وأفاد، جزاه الله عن دفاعه عن الإسلام خير الجزاء (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) انتهت منقولة من "مجموع الفتاوى" جـ 8/ ص 245 - 255.

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 76 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَكيعٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْل، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ. (ح) وحَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مَيْمُونٍ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ مَسْعُودٍ: حَدَّثَنَا رَسُوُل اللَّه -صلى الله عليه وسلم-، وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ، أَنَّهُ يُجْمَعُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ في بَطنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّه إِلَيْهِ الْمَلَكَ، فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كلِمَاتٍ، فَيَقُولُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَأَجَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجنَّةِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنه وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنه وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجنَّةِ فَيَدْخُلُهَا"). رجال هذا الإسناد: تسعة: 1 - (عِليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) بن إسحاق الطَّنَافسيّ، ثقة عابدٌ [10] تقدّم في 9/ 57. 2 - (عِليُّ بْنُ مَيْمُونٍ الرَّقِّيُّ) العطّار، ثقة [10] تقدم في 9/ 59. 3 - (وَكيعٌ) بن الجرّاح الرؤاسيّ الكوفيّ، ثقة حافظ عابد [9] تقدّم في 1/ 3. 4 - (مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ) بن غَزْوَان الضبيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوق، رُمي بالتشيّع [9] تقدم في 2/ 21. 5 - (أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، من كبار [9] تقدّم في 1/ 3. 6 - (مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ) بن أبي أُميّة -واسمه عبد الرحمن، ويقال: إسماعيل- الطَّنَافسيّ، أبو عبد الله الكوفيّ الأحدب، ثقة حافظٌ [11] (¬1). ¬

_ (¬1) وقع في نسخ "التقريب" أنه من الحادية عشرة، والظاهر أنه غلط، بل هو من التاسعة، كما هو ظاهر من مشايخه، وتلامذته، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

رَوَى عن إسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، وعبيد الله بن عمر، وهشام بن عروة، وابن إسحاق، ووائل بن داود، ويزيد بن كيسان، وجماعة. ورَوَى عنه أحمد، وإسحاق، ويحيى بن معين، وابنا أبي شيبة، وأبو خَيْثمة، ومحمد ابن عبد الله بن نمير، وأحمد بن منيع، وهارون بن عبد الله، وغيرهم. قال الأثرم: وسألته -يعني أحمد بن حنبل- عن عُمر بن عبيد، ومحمد بن عبيد، ويعلى بن عبيد، فوثقهم. وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: سمعت يحيى بن معين -وسئل عن وَلَدِ عبيد: محمد، وعُمر، ويعلى- فقال: كانوا ثقات، وأثبتهم يعلى. وقال المفضل الغلابي عن يحيى: بنو عُبيد ثقات. وقال ابن عمار: كلهم ثبت، وأحفظهم يعلى، وأبصرهم بالحديث محمد، وعمر شيخهم، وكان الأخ الرابع لا يُحسِن قليلًا ولا كثيرًا. وقال العجلي: كوفي ثقة، وكان عثمانيا، وكان حديثه أربعة آلاف يحفظها. وقال الآجري عن أبي داود: حدث محمد بن عبيد عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يَضْرِب ولده على اللحن، فقال له رجل: لو أخذناك بهذا ما رفعنا عنك العصا. وقال النسائي: ثقة. وقال الدارقطني: محمد، وعُمر، ويعلى، وإدريس، وإبراهيم بنو عُبيد، كلهم ثقات، وأبوهم ثقة حدث أيضًا. وقال عباس الدُّوريّ عن ابن معين: أتيناه، وكان لا يجترىء على قراءة كتابه، حتى نُعينه عليه، أو نحو هذا، قاله يحيى، وما ذكره إلا بخير. وقال الدوري: سمعت محمد بن عبيد يقول: خير هذه الأمة بعد نبيها -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ويقول: اتّقوا، لا يَخْدَعكم هؤلاء الكوفيون. وقال حرب عن أحمد: كان محمد رجلًا صدوقًا، وقال: يعلى أثبت منه. وقال صالح بن أحمد عن أبيه: كان محمد يُظهر السنة، وكان يخطىء، ولا يرجع عن خطئه. وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث، صاحب سنة. وقال يعقوب بن شيبة: مات قبل أخيه يعلى، سنة أربع ومائتين، سمعت علي بن المديني يقول: كان كَيِّسًا. وقال خليفة، ومطين: مات سنة خمس. وقال ابن قانع، وابن

حبان: مات سنة ثلاث. وقيل: سنة خمس. وقال الخطيب: كان مولده سنة أربع وعشرين ومائة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا. 7 - (الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الكوفيّ، ثقة ثبت عابد يدلس [5] تقدّم في 1/ 1. 8 - (زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ) الْجُهَنيّ، أبو سليمان الكوفيّ، مخضرم ثقة جليلٌ، لم يُصب من قال: في حديثه خَلَلٌ [2]. رَحَلَ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقبض وهو في الطريق، ورَوَى عن عمر، وعثمان، وعليّ، وأبي ذرّ، وابن مسعود، وحذيفة، وأبي الدرداء، وأبي موسى، وغيرهم. وروى عنه أبو إسحاق السبيعي، وإسماعيل بن أبي خالد، والحْكَم بن عُتيبة، والأعمش، ومنصور، وحُصين، وعبد العزيز بن رُفيع، وسَلَمَة بن كُهيل، وطلحة بن مُصَرِّف، وحبيب بن أبي ثابت، وحماد بن أبي سليمان، وعَدِيّ بن ثابت، وعبد الملك ابن ميسرة، وجماعة. قال زهير عن الأعمش: إذا حدثك زيد بن وهب عن أحد، فكأنك سمعته من الذي حدثك عنه. وقال ابن معين: ثقة: وقال ابن خِرَاش: كوفي ثقة، دخل الشام، وروايته عن أبي ذر صحيحة. وقال العجلي: ثقة. وقال ابن عبد البر في "الاستيعاب": وابن مندهْ: أسلم في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهاجر إليه، فلم يدركه. وقال يعقوب بن سفيان: في حديثه خلل كثير (¬1). وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث، تُوفي في ولاية الحجاج بعد الجماجم. وقال أبو بكر بن منجويه: مات سنة ست وتسعين. وكذا قال ابن حبان في "الثقات". قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تعقّب الإمام الذهبيّ رحمه الله تعالى قول ¬

_ (¬1) قد عرفت في أول الترجمة أن هذا غير صحيح.

يعقوب بن سفيان: في حديثه خلل كثير، فأجاد وأفاد، ونصّه في "ميزان الاعتدال": زيد بن وهب من أجلة التابعين وثقاتهم، متفق على الاحتجاج به، إلا ما كان من يعقوب الفسوي، فإنه قال في "تاريخه": في حديثه خلل كثير، ولم يصب الفسوي، ثم إنه ساق من روايته قول عمر: "يا حذيفة بالله أنا من المنافقين"، قال: وهذا محُال أخاف أن يكون كذبًا، قال: ومما يُستَدَلُّ به على ضعف حديثه روايته عن حذيفة: "إن خَرَج الدجال تبعه من كان يحب عثمان"، ومن خلل روايته قوله: حدثنا والله أبو ذر بالرَّبَذَة قال: "كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فاستقبلنا أحد ... " الحديث. فهذا الذي استنكره الفسوي من حديثه، ما سُبِق إليه، ولو فتحنا هذه الوساوس علينا، لرددنا كثيرًا من السنن الثابتة بالوهم الفاسد، ولا نفتح علينا في زيد بن وهب خاصّة باب الاعتزال، فردوا حديثه الثابت عن ابن مسعود، حديث الصادق المصدوق، وزيد سيد، جليل القَدْر. انتهى المقصود من كلام الذهبي رحمه الله، وهو كلام نفيسٌ جدًّا (¬1). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث برقم 76 و 346 و 3238 و 3351 و 3956 و 4053. 9 - (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ) الصحابيّ الجليل -رضي الله عنه- تقدّم في 2/ 19، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله بالنسبة للسند الأول، ومن خماسيّاته بالنسبة للثاني، فهو عالٍ بدرجة. 2 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين. 3 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. 4 - (ومنها): أن أبا معاوية أحفظ من روى عن الأعمش، إلا أن يكون الثوريّ. ¬

_ (¬1) راجع "ميزان الاعتدال" 2/ 107.

5 - (ومنها): أن صحابيّه -رضي الله عنه- أحد السابقين إلى الإسلام، جمّ المناقب، وقد سبق بعضها في الباب الماضي، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ) الجهنيّ رحمه الله، أنه (قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ مَسْعُودٍ) -رضي الله عنه-، ووقع عند البخاريّ من طريق آدم بن أبي إياس، عن شعبة، حدّثنا الأعمش، سمعت زيد بن وهب، سمعت عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ... " (حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-، وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ) قال الطيبي: يحتمل أن تكون الجملة حالية، ويحتمل أن تكون اعتراضية، وهو أولى لتعم الأحوال كلها، وأن ذلك من دَأْبه وعادته. وقوله: "الصادق": أي الكامل في الصدق، أو الظاهر كونه صادقًا بشهادة المعجزات الباهرات، وليس المراد أنه الصادق دون غيره. و"المصدوق": أي الذي جاءه الصدق من ربّه، وليس معناه: المُصَدَّق -بفتح الدال المشدّدة- أي الذي صَدَّقه المؤمنون، وإن كان هو في الواقع موصوفًا بكونه مُصَدَّقًا أيضًا. قاله السنديّ رحمه الله (¬1). وقال في "الفتح": "الصادق" معناه: المخبر بالقول الحق، ويُطلق على الفعل، يقال: صدق القتال، وهو صادق فيه. و"المصدوق" معناه: الذي يُصدَق له في القول، يقال: صدقته الحديث: إذا أخبرته به إخبارًا جازمًا، أو معناه: الذي صَدَقَهُ الله تعالى وَعْدَه. وقال الكرماني: لمّا كان مضمون الخبر أمرًا مخالفًا لما عليه الأطباء، أشار بذلك إلى بطلان ما ادّعوه. ويحتمل أنه قال ذلك تلذذًا به، وتبركًا، وافتخارًا، ويؤيده وقوع هذا اللفظ بعينه في حديث أنس وليس فيه إشارة إلى بطلان شيء يخالف ما ذُكر، وهو ما أخرجه أبو داود من حديث المغيرة بن شعبة، سمعت الصادق المصدوق يقول: "لا تُنزع الرحمة إلا ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 58.

من شقي". وفي "صحيح البخاريّ"، في "علامات النبوة"، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، سمعت الصادق المصدوق يقول: "هلاكُ أمتي على يدي أُغيلمة من قريش". قاله في "الفتح" (¬1). (أَنَّهُ) بفتح الهمزة، وهو الظاهر، وكسرها على الحكاية، ولفظ البخاريّ: "أنّ أحدكم". قال أبو البقاء في "إعراب المسند": لا يجوز في أنّ إلا الفتح؛ لأنها وما عملت فيه معمول "حدثنا"، فلو كُسِرت لصار مستأنفًا منقطعا عن قوله: "حدثنا". [فإن قلت]: اكسِرْ، واحمل "حدّثنا" على "قال". [قيل]: هذا خلاف الظاهر، ولا يُترك الظاهر إلى غيره، إلا لدليل مانع من الظاهر، ولو جاز مثل هذا من غير أن يثبت به النقل لجاز في مثل قوله تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ} [المؤمنون: 35] الكسر؛ لأن معنى "يعدكم" يقول لكم، وقد اتفق القراء على أنها بالفتح. وقال الزركشيّ: وردّ عليه القاضي شمس الدين الخوبيّ، وقال الكسر واجب؛ لأنه الرواية، ووجهه على الحكاية، كقول الشاعر: سَمِعْتُ النَّاسُ يَنْتَجِعُونَ غَيْثًا (¬2) برفع "النّاسُ". وجزم النووي في "شرح مسلم" بـ "إنه" بالكسر على الحكاية، وجوز الفتح، وقد جزم ابن الجوزي بأنه في الرواية بالكسر فقط. قال الخوبي: ولو لم تجيء به الرواية لمَا امتنع جوازًا على طريق الرواية بالمعنى، وأجاب عن الآية بأن الوعدَ مضمون الجملة، وليس بخصوص لفظها، فلذلك اتفقوا على الفتح، فأما هنا فالتحديث يجوز أن يكون ¬

_ (¬1) "الفتح" 11/ 583 "كتاب القدر". (¬2) البيت لذي الرّمّة، وتمامه: سَمِعْتُ النَّاسُ يَنْتَجِعُونَ غَيْثًا ... بِسَائِقَةِ الْبَيَاضِ إِلَى الْوَحِيدِ

بلفظه وبمعناه. انتهى (¬1). (يُجْمَعُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ في بَطْنِ أُمِّهِ) هكذا رواية المصنّف، وفي رواية عند البخاريّ: "إن أحدكم يُجمَع في بطن أمه"، وفي رواية له: "إن خلق أحدكم يُجمَع في بطن أمه"، وفي رواية: إن أحدكم يُجمَع خلقه في بطن أمه". والمراد بالجمع ضم بعضه إلى بعض بعد الانتشار. وفي قوله: "خلقُ" تعبيرٌ بالمصدر عن الجُثّة، وحَمْل على أنه بمعنى المفعول، كقولهم: هذا درهمٌ، ضَرْبُ الأميرِ: أي مضروبُهُ، أو على حذف مضاف: أي ما يقوم به خلق أحدكم، أو أُطْلِق مبالغةً، كقوله: "وإنما هي إقبال وإدبار"، جعلها نفس الإقبال والإدبار؛ لكثرة وقوع ذلك منها. قال القرطبي في "المفهم": المراد أن المنيّ يَقَع في الرحم حين انزعاجه بالقوة الشهوانية الدافعة مبثوثًا متفرقًا، فيجمعه الله في محل الولادة من الرحم في هذه المدّة. انتهى (¬2). (أَرْبَعِينَ يَوْمًا) زاد في رواية عند البخاريّ: "أو أربعين ليلةً"، قال في "الفتح": وكذا لأكثر الرواة عن شعبة بالشك، وفي رواية يحيى القطان، ووكيع، وجرير، وعيسى ابن يونس: "أربعين يوما" بغير شك، وفي رواية سلمة بن كهيل: "أربعين ليلةً"، بغير شك. ويُجمَع بأن المراد يوم بليلته، أو ليلة بيومها، ووقع عند أبي عوانة، من رواية وهب بن جرير، عن شعبة زيادة: "نُطْفَة" بين قوله: "أحدكم"، وبين قوله: "أربعين"، فَبَيَّن أن الذي يُجمَع هو النطفة، والمراد بالنطفة المنيُّ، وأصله الماء الصافي القليل، والأصل في ذلك أن ماء الرجل إذا لاقى ماء المرأة بالجماع، وأراد الله أن يخلُق من ذلك ¬

_ (¬1) "الفتح" 11/ 584 ببعض تصرّف، وزيادة من "عقود الزبرجد" للسيوطيّ 1/ 224 - 225. (¬2) راجع "المفهم" 6/ 649 - 650.

جَنِينًا هيّأ أسباب ذلك؛ لأن في رحم المرأة قوتين: قوة انبساط عند ورود مني الرجل، حتى ينتشر في جسد المرأة، وقوةُ انقباض بحيث لا يسيل من فرجها، مع كونه منكوسًا، ومع كون المني ثقيلا بطبعه، وفي مني الرجل قوة الفعل، وفي مني المرأة قوة الانفعال، فعند الامتزاح يَصِير مني الرجل كالإِنفَحة للبن، وقيل: في كل منهما قوة فعل وانفعال، لكن الأول في الرجل أكثر، وبالعكس في المرأة. وزعم كثير من أهل التشريح أن مني الرجل لا أثر له في الولد إلا في عقده، وأنه إنما يتكون من دم الحيض، وأحاديث الباب تُبطِل ذلك، وما ذُكِر أولا أقرب إلى موافقة الحديث. والله أعلم. وقال ابن الأثير في "النهاية": يجوز أن يُريد بالجمع مكث النطفة في الرحم: أي تَمْكثُ النطفة أربعين يومًا تُخَمَّر فيه حتى تتهيأ للتصوير، ثم تخلق بعد ذلك. وقيل: إن ابن مسعود -رضي الله عنه- فسره بأن النطفة إذا وقعت في الرحم، فأراد الله أن يخلُق منها بشرًا طارت في جسد المرأة، تحت كل ظفر وشعر، ثم تمكث أربعين يومًا، ثم تَنْزِل دمًا في الرحم، فذلك جمعها. قال الحافظ: هذا التفسير ذكره الخطابي، وأخرجه ابن أبي حاتم في "التفسير" من رواية الأعمش أيضا، عن خيثمة بن عبد الرحمن، عن ابن مسعود -رضي الله عنه-. وقوله: "فذلك جمعها" كلام الخطابي، أو تفسير بعض رواة حديث الباب، وأظنه الأعمش، فظن ابن الأثير أنه تَتِمَّة كلام ابن مسعود -رضي الله عنه-، فأدرجه فيه، ولم يتقدم عن ابن مسعود في رواية خيثمة ذِكْرُ الجمع حتى يفسره. وقد رجح الطيبي هذا التفسير، فقال: الصحابي أعلم بتفسير ما سَمِعَ، وأحقّ بتأويله، وأولى بقبول ما يَتَحَدّث به، وأكثر احتياطًا في ذلك من غيره، فليس لمن بعده أن يَتَعّقب كلامه. وقد وقع في حديث مالك بن الحويرث -رضي الله عنه- رَفَعَهُ ما ظاهره يخالف التفسير المذكور، ولفظه: "إذا أراد الله خلق عبد، فجامع الرجل المرأة، طار ماؤه في كل عِرْقٍ

وعضو منها، فإذا كان يوم السابع جمعه الله، ثم أحضره كل عِرْقٍ له دون آدم، في أيِّ صورة ما شاء ركبه"، وفي لفظ: "ثم تلا: {في أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8]، وله شاهد من حديث رَبَاحٍ اللَّخْمِيّ، لكن ليس فيه ذكر يوم السابع. وحاصله أن في هذا زيادةً تدل على أن الشَّبَهَ يَحصُل في اليوم السابع، وأن فيه ابتداء جمع المني، وظاهر الروايات الأخرى أن ابتداء جمعه من ابتداء الأربعين. وقد وقع في رواية عبد الله بن ربيعة، عن ابن مسعود: أن النطفة التي تُقضى منها النفس، إذا وقعت في الرحم، كانت في الجسد أربعين يومًا، ثم تحادرت دمًا، فكانت عَلَقَةً. وفي حديث جابر -رضي الله عنه- "أن النطفة إذا استقرت في الرحم أربعين يومًا أو ليلة، أذن الله في خلقها"، ونحوه في حديث عبد الله بن عمرو، وفي حديث حذيفة بن أسيد من رواية عكرمة بن خالد، عن أبي الطفيل عنه: "أن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة، ثم يتسور عليها الملك" وكذا في رواية يوسف المكي، عن أبي الطفيل عند الفريابي، وعنده وعند مسلم من رواية عمرو بن الحارث، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل: "إذا مُرَّ بالنطفة ثلاث وأربعون"، وفي نسخة "ثنتان وأربعون ليلة"، وفي رواية ابن جريج، عن أبي الزبير، عند أبي عوانة: "ثنتان وأربعون"، وهي عند مسلم، لكن لم يسق لفظها، قال: بمثل حديث عمرو بن الحارث، وفي رواية ربيعة بن كلثوم، عن أبي الطفيل عند مسلم أيضا: "إذا أراد الله أن يخلقَ شيئًا يأذن له لبضع وأربعين ليلةً". وفي رواية عمرو بن دينار، عن أبي الطفيل: "يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين، أو خمس وأربعين"، وهكذا رواه ابن عيينة، عن عمرو عند مسلم، ورواه الفريابي من طريق محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو، فقال: "خمسة وأربعين ليلة"، فجزم بذلك. فحاصل الاختلاف أن حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- لم يَختَلِف في ذكر الأربعين، وكذا في كثير من الأحاديث، وغالبُها كحديث أنس عند البخاريّ لا تحديد فيه، وحديث

حذيفة بن أَسِيد اختَلَفت ألفاظ نقلته، فبعضهم جزم بالأربعين، كما في حديث ابن مسعود، وبعضهم زاد ثنتين، أو ثلاثًا، أو خمسًا، أو بضعًا، ثم منهم من جزم، ومنهم من تردد، وقد جمع بينها القاضي عياض بأنه ليس في رواية ابن مسعود بأن ذلك يقع عند انتهاء الأربعين الأولى، وابتداء الأربعين الثانية، بل أطلق الأربعين، فاحتمل أن يريد أن ذلك يقع في أوائل الأربعين الثانية. ويحتمل أن يُجمَع الاختلاف في العدد الزائد على أنه بحسب اختلاف الأجنة، وهو جيد، لو كانت مخارج الحديث مختلفة، لكنها متحدة، وراجعة إلى أبي الطفيل، عن حذيفة بن أسيد، فدل على أنه لم يَضبِط القدر الزائد على الأربعين، والخطب فيه سهل، وكلُّ ذلك لا يدفع الزيادة التي في حديث مالك بن الحويرث في إحضار الشَّبَه في اليوم السابع، وأن فيه يبتدىء الجمع بعد الانتشار، وقد قال ابن منده: إنه حديث متصل على شرط الترمذي والنسائي، واختلاف الألفاظ بكونه في البطن، وبكونه في الرحم، لا تأثير له؛ لأنه في الرحم حقيقة، والرحم في البطن، وقد فَسَّرُوا قوله تعالى: {في ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} [الزمر: 6] بأن المراد ظلمة المَشِيمَة، وظلمة الرحم، وظلمة البطن، فالمشيمة في الرحم، والرحم في البطن (¬1). (ثُمَّ يَكُونُ) أي يصير خَلْقُ أحدكم، أي مادّةُ خلقه، وهي النطفة (عَلَقَةً) بفتحتين: أي دمًا جامدًا غليظًا، وسُمّي بذلك للرطوبة التي فيه، وتَعَلُّقه بما مَرّ به (مِثْلَ ذَلِكَ) أي مثل الزمن المذكور، وهو الأربعون. ووقع في رواية مسلم بلفظ: "ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك"، قال القرطبيّ: "ذلك" الأول إشارة إلى المحلّ الذي اجتمعت فيه النطفة، وصارت علقةً، و"ذلك" الثاني إشارة إلى الزمان الذي هو الأربعون. انتهى (¬2). ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 11/ 585 - 586. (¬2) "المفهم" 6/ 650.

وقال في "الفتح": و "تكون" هنا بمعنى "تصير"، ومعناه أنها تكون بتلك الصفة مدة الأربعين، ثم تنقلب إلى الصفة التي تليها، ويحتمل أن يكون المراد تصييرها شيئًا فشيئًا، فيخالط الدم النطفة في الأربعين الأولى بعد انعقادها وامتدادها، وتجري في أجزائها شيئًا فشيئًا، حتى تتكامل عَلَقَةً في أثناء الأربعين، ثم يخالطها اللحم شيئًا فشيئًا إلى أن تشتد، فتصير مضغةً، ولا تسمى عَلَقَة قبل ذلك ما دامت نطفةً، وكذا ما بعد ذلك من زمان العلقة والمضغة. وأما ما أخرجه أحمد من طريق أبي عبيدة قال: قال عبد الله رفعه: "إن النطفة تكون في الرحم أربعين يومًا على حالها لا تتغير"، ففي سنده ضعف وانقطاع، فإن كان ثابتا حُمِل نفي التغير على تمامه: أي لا تنتقل إلى وصف العلقة إلا بعد تمام الأربعين، ولا ينفي أن المني يستحيل في الأربعين الأولى دمًا إلى أن يصير علقة. انتهى. وقد نقل الفاضل علي بن المهذّب الحمويّ الطبيب اتفاق الأطباء على أن خلق الجنين في الرحم يكون في نحو الأربعين، وفيها تتميز أعضاء الذكر دون الأنثى؛ لحرارة مزاجه وقُواه، وأُعيد إلى قوام المنيّ الذي تتكون أعضاؤه منه ونضجه، فيكون أقبل للشكل والتصوير، ثم يكون عَلَقَة مثل ذلك، والْعَلَقة قطعة دم جامد، قالوا: وتكون حركة الجنين في ضِعْفِ المدة التي يُخلَق فيها، ثم يكون مضغة مثل ذلك، أي لحمةً صغيرةً، وهي الأربعون الثالثة، فتتحرك، قال: واتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر. وذكر الشيخ شمس الدين ابن القيم أن داخل الرحم خَشِنٌ كالسفنج، وجعل فيه قبولا للمنيّ كطلب الأرض العطشى للماء، فجعله طالبًا مشتاقًا إليه بالطبع، فلذلك يمسكه، ويشتمل عليه، ولا يُزْلِقُهُ، بل ينضم عليه؛ لئلا يفسده الهواء، فيأذن الله لملك الرحم في عقده وطبخه أربعين يومًا، وفي تلك الأربعين يُجمَع خلقه، قالوا: إن المنيّ إذا اشتمل عليه الرحم، ولم يَقذِفه استدار على نفسه، واشتد إلى تمام ستة أيام، فينقط فيه ثلاث نقط، في مواضع القلب، والدماغ، والكبد، ثم يظهر فيما بين تلك النقط خطوط

خمسة إلى تمام ثلاثة أيام، ثم تنفذ الدموية فيه إلى تمام خمسة عشر، فتتميز الأعضاء الثلاثة، ثم تمتد رطوبة النخاع إلى تمام اثني عشر يومًا، ثم ينفصل الرأس عن المنكبين، والأطراف عن الضلوع، والبطن عن الجنين، في تسعة أيام، ثم يتم هذا التمييز بحيث يظهر للحس في أربعة أيام، فيكمل أربعين يومًا، فهذا معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "يُجمَع خلقه في أربعين يومًا"، وفيه تفصيل ما أُجمل فيه. ولا ينافي ذلك قوله: "ثم تكون علقة مثل ذلك"، فإن العلقة وإن كانت قطعة دم لكنها في هذه الأربعين الثانية تنتقل عن صورة المني، ويظهر التخطيط فيها ظهورًا خفيا على التدريج، ثم يتصلب في الأربعين يومًا بتزايد ذلك التخليق شيئًا فشيئًا حتى يصير مضغة مخلقة، ويظهر للحس ظهورا لا خفاء به، وعند تمام الأربعين الثالثة، والطعن في الأربعين الرابعة يُنفخ فيه الروح كما وقع في هذا الحديث الصحيح، وهو ما لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي، حتى قال كثير من فضلاء الأطباء، وحُذّاق الفلاسفة إنما يُعرَف ذلك بالتوهم والظن البعيد، واختلفوا في النقطة الأولى أيها أسبق، والأكثر نقط القلب، وقال قوم: أول ما يُخلق منه السرة؛ لأن حاجته من الغذاء أشد من حاجته إلى آلات قواه، فإن من السرة ينبعث الغذاء، والحجب التي على الجنين في السرة كأنها مربوط بعضها ببعض، والسرة في وسطها، ومنها يتنفس الجنين، ويتربى وينجذب غذاؤه منها. (ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ) أي مثل مدة الزمان المذكور في الاستحالة، و"المضغةُ": قطعة اللحم، سُمِّيت بذلك لأنها قدرُ ما يَمْضَغُ الماضغ. (ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّه إِلَيْهِ الْمَلَكَ) وفي رواية البخاريّ: "ثم يبعث الله ملكًا"، وفي رواية له: "ثم يُبْعَثُ إليه ملكٌ"، ولمسلم بلفظ: "ثم يُرسل الله". أي يبعث الله إليه الملك في الطور الرابع حينما يتكامل بنيانه، وتتشكّل أعضاؤه، فيعيّن، ويُنقش فيه ما يليق به من الأعمال والأعمار والأرزاق حسبما اقتضته حكمته، وسبقت كلمته، فمن وجده مستعدّا لقبول الحقّ واتّباعه، ورآه أهلا للخير، وأسباب الصلاح، متوجّهًا إليه أثبته في عِداد السعداء، وكتب له أعمالًا صالحةً تناسب ذلك،

ومن وجده جافيًا، قاسي القلب، ضاريًا بالطبع، متنائيًا عن الحقّ أثبت ذكره في ديوان الأشقياء الهالكين، وكتب له ما يُتَوَقَّع منه من الشرور والمعاصي، هذا إذا لم يعلم من حاله وقوع ما يَقتضي تغيّر ذلك، وإن علم من ذلك شيئًا كتب له أوائل أمره وأواخره، وحكم عليه وفقَ ما يَتمّ به عمله؛ فإن مِلاك العمل خواتمه، وهو الذي يسبق إليه الكتاب، فيعمل عمل أهل الجنّة. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله (¬1). وقال في "الفتح": واللام فيه -أي الملك- للعهد، والمراد به عهد مخصوص، وهو جنس الملائكة الموكلين بالأرحام، كما ثبت في رواية حُذيفة بن أَسِيد من رواية ربيعة بن كلثوم: "أن ملكا موكلا بالرحم"، ومن رواية عكرمة بن خالد: "ثم يَتَسَوَّر عليها الملك الذي يُخَلِّقها"، وهو بتشديد اللام، وفي رواية أبي الزبير عند الفريابي: "أتى ملكُ الأرحام"، وأصله عند مسلم، لكن بلفظ: "بعث الله ملكًا"، وفي حديث ابن عمر: "إذا أراد الله ان أن يخلُق النطفة، قال ملك الأرحام"، وفي حديث أنس عند البخاريّ: "وكّل الله بالرحم ملكًا". وقال الكرماني: إذا ثبت أن المراد بالملك مَن جُعل إليه أمرُ تلك الرحم، فكيف يُبْعَث، أو يُرسل؟. وأجاب بأن المراد أن الذي يُبْعَث بالكلمات غير الملك الموكل بالرحم الذي يقول: "يا رب نُطفة الخ"، ثم قال: ويحتمل أن يكون المراد بالبعث أنه يؤمر بذلك. قال الحافظ: وهو الذي ينبغي أن يُعَوَّل عليه، وبه جزم القاضي عياض وغيره. وقد وقع في رواية يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن الأعمش: "إذا استقرت النطفة في الرحم أخذها الملك بكفه، فقال: أي رب أذكر أو أنثى ... " الحديث، وفيه: فيقال: انطلق إلى أم الكتاب، فإنك تجد قصة هذه النطفة، فينطلق فيجد ذلك"، فينبغي أن يفسر الإرسال المذكور بذلك. ¬

_ (¬1) "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 534.

[تنبيه]: اختُلف في أول ما يتشكل من أعضاء الجنين، فقيل: قلبه؛ لأنه الأساس، وهو معدن الحركة الغريزية، وقيل: الدماغ؛ لأنه مَجْمَع الحْوَاسّ، ومنه ينبعث، وقيل: الكبد؛ لأن فيه النموّ والاغتذاء الذي هو قِوَام البدن، ورجّحه بعضهم بأنه مقتضى النظام الطبيعي؛ لأن النمو هو المطلوب أولًا، ولا حاجة له حينئذ إلى حِسّ، ولا حركة إرادية؛ لأنه حينئذ بمنزلة النبات، وإنما يكون له قوة الحس والإرادة عند تعلق النفس به، فيقدم الكبد، ثم القلب، ثم الدماغ. قاله في "الفتح" (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن مثل هذا الاختلاف مما لا ينبغي الاشتغال به؛ لأنه لا يعتمد على نصّ صحيح، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم. (فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ) أي بأربع قضايا مقدرة، فكل قضية تسمى كلمة قولًا كان أو فعلًا، ووقع عند البخاريّ بلفظ: "فيؤمر بأربعة"، في رواية: "بأربع"، وكلاهما صحيحٌ؛ لأن المعدود إذا حُذف جاز تذكير العدد وتأنيثه، والمعنى أنه يؤمر بكتب أربعة أشياء من أحوال الجنين. (فَيَقُولُ) أي سبحانه وتعالى (اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَأَجَلَهُ، وَرِزْقَهُ) ووقع في رواية لمسلم: "فيؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه ... الخ"، وضبط بكتب بوجهين أحدهما بموحدة مكسورة وكاف مفتوحة، ومثناة ساكنة، ثم موحدة على البدل، والآخر بتحتانية مفتوحة بصيغة الفعل المضارع، وهو أوجه؛ لأنه وقع في رواية: "فيؤذن بأربع كلمات، فيكتب ... "، وكذا في رواية أبي داود وغيره. والمراد من كتابة عمله هل هو صالح، أو فاسد، وبالأجل هل هو طويلٌ، أو قصير، وبالرزق تقديره قليلًا أو كثيرًا، وصفته حرامًا أو حلالًا. (وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ) بالرفع خبر مبتدإ محذوف، أي هو، والجملة عطف على مفعول "اكتُب"؛ لأنه أريد بها لفظها باعتبار الوجود الْكَتْبيّ، دون اللفظيّ، فإن اللفظ ¬

_ (¬1) "الفتح" 11/ 587 - 588.

لا يكون لفظًا إلا بالتلفّظ، لا بالكتابة، ثم الترديد في الحكاية، لا في المحكيّ، وإنما جاءت الحكاية على لفظ الترديد نظرًا إلى التوزيع والتقسيم على آحاد المولود، فمنهم شقيّ وسعيد. قاله السنديّ (¬1). وقال في "الفتح": والمراد أنه يُكتب لكل أحد إما السعادة، وإما الشقاء، ولا يكتبهما لواحد معًا، وإن أمكن وجودهما منه؛ لأن الحكم إذا اجتمعا للأغلب، وإذا ترتبا فللخاتمة، فلذلك اقتصر على أربع، وإلا لقال: "خمس". ووقع لأبي داود من رواية شعبة والثوري جميعا عن الأعمش: "ثم يكتب شقيا أو سعيدًا". ومعنى قوله: "شقيّ أو سعيدٌ" أن الملك يكتب إحدى الكلمتين، كأن يكتب مثلًا أجل هذا الجنين كذا، ورزقه كذا، وعمله كذا، وهو شقيّ باعتبار ما يُختَم له، وسعيد باعتبار ما يختم له، كما دل عليه بقية الخبر، وكان ظاهر السياق أن يقول: ويكتب شقاوته وسعادته، لكن عدل عن ذلك؛ لأن الكلام مسوق إليهما، والتفصيل وارد عليهما، أشار إلى ذلك الطيبي. ووقع في حديث أنس -رضي الله عنه-: "إن الله وكل بالرحم ملكًا، فيقول: أي رب أذكر أو أثنى؟ " وفي حديث عبد الله بن عمرو: "إذا مكثت النطفة في الرحم أربعين ليلة، جاءها ملك، فقال: اخلُقْ يا أحسن الخالقين، فيقضي الله ما شاء، ثم يُدفَع إلى الملك، فيقول: يا رب أسقط أم تام؟، فيبين له، ثم يقول: أواحد أم توأم؟، فيبين له، فيقول: أذكر أم أنثى؟، فيبين له، ثم يقول: أناقص الأجل أم تام الأجل؟ فيبين له، ثم يقول: أشقي أم سعيد؟ فيبين له، ثم يقطع له رزقه مع خلقه، فيهبط بهما". ووقع في غير هذه الرواية أيضًا زيادة على الأربع، ففي رواية عبد الله بن ربيعة، عن ابن مسعود: "فيقول اكتب رزقه، وأثره، وخلقه، وشقي أو سعيد". وفي رواية ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 58.

خصيف، عن أبي الزبير، عن جابر من الزيادة: "أي رب مصيبته، فيقول: كذا وكذا". وفي حديث أبي الدرداء عند أحمد والفريابي: "فَرَغَ الله إلى كل عبد من خمس: من عمله، وأجله، ورزقه، وأثره، ومضجعه". وأما صفة الكتابة فظاهر الحديث أنها الكتابة المعهودة في صحيفته، ووقع ذلك صريحًا في رواية لمسلم، في حديث حُذيفة بن أَسِيد: "ثم تُطْوَى الصحيفة، فلا يزاد فيها ولا ينقص". وفي رواية الفريابي: "ثم تُطوَى تلك الصحيفة إلى يوم القيامة". ووقع في حديث أبي ذرّ: "فيَقضِي الله ما هو قاض، فيُكتَب ما هو لاقٍ بين عينيه، وتلا أبو ذر خمس آيات من فاتحة سورة التغابن"، ونحوه في حديث ابن عمر في "صحيح ابن حبان" دون تلاوة الآية، وزاد: "حتى النَّكبَة يُنكَبها"، وأخرجه أبو داود في "كتاب القدر" المفرد. [تنبيه]: حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- بجميع طرقه يدل على أن الجنين يتقلب في مائة وعشرين يومًا في ثلاثة أطوار، كلُّ طور منها في أربعين، ثم بعد تكملتها يُنفخ فيه الروح، وقد ذكر الله تعالى هذه الأطوار الثلاثة من غير تقييد بمدة في عِدة سور، منها في "سورة الحج" قوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} الآية [الحج: 5] ودلت هذه الآية على أن التخليق يكون للمضغة، وبَيّن الحديثُ أن ذلك يكون فيها إذا تكاملت الأربعين، وهي المدة التي إذا انتهت سُمِّيت مضغة، وذكر الله النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة في سور أخرى، وزاد في سورة {قَدْ أَفْلَحَ} بعد المضغة: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} الآية [المؤمنون: 14]، ويؤخذ منها، ومن حديث الباب أن تصيير المضغة عظامًا بعد نفخ الروح. ووقع في آخر رواية أبي عبيدة المتقدم ذكرها قريبا بعد ذكر المضغة: "ثم تكون عظامًا أربعين ليلة، ثم يكسو الله العظام لحمًا". وقد رَتَّبَ الأطوار في الآية بالفاء؛ لأن المراد أنه لا يتخلل بين الطورين طور

آخر، ورتبها في الحديث بـ "ثُمَّ" إشارةً إلى المدة التي تتخلل بين الطورين ليتكامل فيها الطور، وإنما أتى بـ "ثم" بين النطفة والعَلَقة؛ لأن النطفة قد لا تتكون إنسانًا، وأتى بـ "ثم" في آخر الآية عند قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} الآية [المؤمنون: 14] ليدل على ما يتجدد له بعد الخروج من بطن أمه، وأما الإتيان بـ "ثم" في أول القصة بين السُّلالة والنطفة، فللإشارة إلى ما تخلل بين خلق آدم وخلق ولده. ووقع في حديث حُذيفة بن أَسيد عند مسلم ما ظاهره يخالف حديث ابن مسعود، ولفظه: "إذا مَرّ بالنطفة ثلاث وأربعون"، وفي نسخة: "ثنتان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكًا فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحميها وعظمها، ثم قال: أي رب أذكر أم أنثى، فيَقضِي ربك ما شاء، ويَكتُب الملك، ثم يقول: يا رب أجله ... " الحديث، هذه رواية عمرو بن الحارث، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن حُذيفة بن أَسِيد في مسلم، ونسبها عياض في ثلاثة مواضع من شرح هذا الحديث إلى رواية ابن مسعود، وهو وَهَمٌ، وإنما لابن مسعود في أول الرواية ذِكْرُ قوله: "الشقيُّ من شَقِيَ في بطن أمه، والسعيدُ من وُعِظ بغيره"، فقط، وبقية الحديث إنما هو لحذيفة بن أَسيد، وقد أخرجه جعفر الفريابي من طريق يوسف المكيّ، عن أبي الطفيل عنه بلفظ: "إذا وقعت النطفة في الرحم، ثم استقرت أربعين ليلةً، قال: فيجيء ملك الرحم فيدخل، فيصور له عظمه ولحمه وشعره وبشره وسمعه وبصره، ثم يقول: أي رب أذكر أو أنثى؟ ... " الحديث. قال القاضي عياض: وحمل هذا على ظاهره لا يصح؛ لأن التصوير بأثر النطفة وأولِ العَلَقة في أول الأربعين الثانية غير موجود ولا معهود، وإنما يقع التصوير في آخرِ الأربعين الثالثة، كما قال تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} الآية [المؤمنون: 14]، قال: فيكون معنى قوله: "فصوّرها الخ": أي كتب ذلك، ثم يفعله بعد ذلك، بدليل قوله بعدُ: "أذكر أو أنثى؟ "، قال: وخلقه جميعَ الأعضاء، والذكوريةُ والأنثوية، يقع في وقت

متفق، وهو مُشَاهَد فيما يوجد من أجنة الحيوان، وهو الذي تقتضيه الخلقة، واستواء الصورة، ثم يكون للملك فيه تصور آخر، وهو وقت نفخ الروح فيه، حين يكمل له أربعة أشهر، كما اتفق عليه العلماء أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة اشهر. انتهى ملخصًا. وقد بسطه ابن الصلاح في "فتاويه"، فقال: ما مُلَخَّصه: أعرض البخاري عن حديث حُذيفة بن أَسيد إما لكونه من رواية أبي الطفيل عنه، وإما لكونه لم يره ملتئما مع حديث ابن مسعود، وحديثُ ابن مسعود لا شك في صحته، وأما مسلم فأخرجهما معًا، فاحتجنا إلى وجه الجمع بينهما، بأن يُحمَل إرسال الملك على التعدد، فمرة في ابتداء الأربعين الثانية، وأخرى في انتهاء الأربعين الثالثة لنفخ الروح، وأما قوله في حديث حذيفة في ابتداء الأربعين الثانية: "فصوّرها"، فان ظاهر حديث ابن مسعود أن التصوير إنما يقع بعد أن تصير مُضغة، فيحمل الأول على أن المراد أنه يصورها لفظًا وكَتْبًا لا فعلًا، أي يذكر كيفية تصويرها ويكتبها، بدليل أن جعلها ذكرا أو أنثى إنما يكون عند المضغة. قال الحافظ: وقد نوزع في أن التصوير حقيقةً إنما يقع في الأربعين الثالثة، بأنه شوهد في كثير من الأجنة التصوير في الأربعين الثانية، وتمييز الذكر على الأنثى، فعلى هذا فيحتمل أن يقال: أول ما يبتدي به الملك تصوير ذلك لفظًا وكَتْبًا، ثم يشرع فيه فعلًا عند استكمال العَلَقة، ففي بعض الأجنة يتقدم ذلك، وفي بعضها يتأخر، ولكن بقي في حديث حُذيفة بن أسيد أنه ذكر العظم واللحم، وذلك لا يكون إلا بعد أربعين العلقةِ، فيقوى ما قال عياض ومن تبعه. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون الملك عند انتهاء الأربعين الأولى يَقْسِم النطفة إذا صارت عَلَقَة إلى أجزاء بحسب الأعضاء، أو يَقسِم بعضها إلى جلد، وبعضها إلى لحم، وبعضها إلى عظم، فيقدر ذلك كله قبل وجوده، ثم يتهيأ ذلك في آخر الأربعين الثانية، ويتكامل في الأربعين الثالثة.

وقال بعضهم: معنى حديث ابن مسعود أن النطفة يغلب عليها وصف المني في الأربعين الأولى، ووصف العلقة في الأربعين الثانية، ووصف المضغة في الأربعين الثالثة، ولا ينافي ذلك أن يتقدم تصويره، والراجح أن التصوير إنما يقع في الأربعين الثالثة. وقد أخرج الطبري من طريق السُّدِّيّ في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ في الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران: 6] قال عن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وذكر أسانيد أخرى قالوا: إذا وقعت النطفة في الرحم، طارت في الجسد أربعين يومًا، ثم تكون عَلَقة أربعين يومًا، ثم تكون مضغة أربعين يومًا، فإذا أراد الله أن يخلقها بعث ملكا فصورها كما يؤمر، ويؤيده حديث أنس عند البخاريّ حيث قال بعد ذكر النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة: "فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال: أي رب أذكر أم أنثى؟ " ... الحديث. ومال بعض الشراح المتأخرون إلى الأخذ بما دل عليه حديث حُذيفة بن أُسيد من أن التصوير والتخليق يقع في أواخر الأربعين الثانية حقيقة، قال: وليس في حديث ابن مسعود ما يدفعه، واستند إلى قول بعض الأطباء: إن المنيّ إذا حصل في الرحم حصل له زبدية، ورغوة في ستة أيام أو سبعة من غير استمداد من الرحم، ثم يستمد من الرحم، ويبتدىء فيه الخطوط بعد ثلاثة أيام أو نحوها، ثم في الخامس عشر ينفذ الدم إلى الجميع، فيصير عَلَقة، ثم تتميز الأعضاء، وتمتد رطوبة النخاع، وينفصل الرأس عن المنكبين، والأطراف عن الأصابع تمييزا يظهر في بعض، ويخفى في بعض، وينتهي ذلك إلى ثلاثين يومًا في الأقل، وخمسة وأربعين في الأكثر، لكن لا يوجد سِقْط ذكر قبل ثلاثين، ولا أنثى قبل خمسة وأربعين، قال: فيكون قوله: "فيكتب" معطوفا على قوله: "يُجمَع". وأما قوله: "ثم يكون علقة مثل ذلك"، فهو من تمام الكلام الأول، وليس المراد أن الكتابة لا تقع إلا عند انتهاء الأطوار الثلاثة، فيحمل على أنه من ترتيب الإخبار، لا

من ترتيب المخبر به، ويحتمل أن يكون ذلك من تصرف الرواة برواياتهم بالمعنى الذي يفهمونه. قال الحافظ: كذا قال، والحمل على ظاهر الأخبار أولى، وغالب ما نُقِل عن هؤلاء دَعَاوي لا دلالة عليها. قال ابن العربي رحمه الله: الحكمة في كون الملك يكتب ذلك، كونه قابلًا للنسخ، والمحو، والإثبات، بخلاف ما كتبه الله تعالى، فإنه لا يتغير، انتهى. [تنبيه]: سقط هنا في هذه الرواية قوله: "ثم يُنفخ فيه الروح"، وقد ثبت في رواية البخاريّ، ووقع في رواية مسلم بلفظ: "ثم يُرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات"، وظاهره قبل الكتابة. قال الحافظ رحمه الله: ويجمع بأن الرواية الأولى صريحةٌ في تأخير النفخ للتعبير بقوله: "ثم"، والرواية الأخرى محتملة، فترد إلى الصريحة؛ لأن الواو لا ترتب، فيجوز أن تكون معطوفة على الجملة التي تليها، وأن تكون معطوفة على جملة الكلام المتقدم: أي يُجمع خلقه في هذه الأطوار، ويؤمر الملك بالكتب، وتوسط قوله: "يُنفخ فيه الروح" بين الجُمَل، فيكون من ترتيب الخبر على الخبر، لا من ترتيب الأفعال المخبر عنها. ونقل ابن الزملكاني عن ابن الحاجب في الجواب عن ذلك أن العرب إذا عَبّرت عن أمر بعده أمور متعددة، ولبعضها تعلق بالأول حسن تقديمه لفظا على البقية، وإن كان بعضها متقدما عليه وجودًا، وحسن هنا لأن القصد ترتيب الخلق الذي سيق الكلام لأجله. وقال عياض: اختلفت ألفاظ هذا الحديث في مواضع، ولم تَخْتَلِف أن نفخ الروح فيه بعد مائة وعشرين يومًا، وذلك تمام أربعة أشهر ودخولِهِ في الخامس، وهذا موجود بالمشاهدة، وعليه يُعَوّل فيما يُحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق عند التنازع، وغير ذلك بحركة الجنين في الجوف. وقد قيل: إنه الحكمة في عدة المرأة من الوفاة بأربعة أشهر وعشر، وهو الدخول

في الخامس، وزيادة حذيفة بن أَسِيد مُشعرة بأن الملك لا يأتي لرأس الأربعين بل بعدها، فيكون مجموع ذلك أربعة أشهر وعشرًا، وهو مصرح به في حديث ابن عباس: "إذا وقعت النطفة في الرحم مكثت أربعة أشهر وعشرًا، ثم يُنفخ فيها الروح". وما أشار إليه من عدة الوفاة جاء صريحًا عن سعيد بن المسيب، فأخرج الطبري عنه أنه سئل عن عدة الوفاة، فقيل له: ما بال العشرة بعد الأربعة أشهر؟ فقال: يُنفخ فيها الروح. وقد تمسك به من قال كالأوزاعي وإسحاق: إن عدة أم الولد مثل عدة الحرة، وهو قويّ؛ لأن الغرض استبراء الرحم، فلا فرق فيه بين الحرة والأمة، فيكون معنى قوله: "ثم يُرسل إليه الملك": أي لتصويره وتخليقه، وكتابة ما يتعلق به، فينفخ فيه الروح إثر ذلك، كما دلت عليه رواية البخاري وغيره. ووقع في حديث علي بن عبد الله عند ابن أبي حاتم: "إذا تمت للنطفة أربعة أشهر، بعث الله إليها ملكًا فَيَنفُخ فيها الروح، فذلك قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14]، وسنده منقطع. وهذا لا ينافي التقييد بالعشر الزائدة، ومعنى إسناد النفخ للملك أنه يفعله بأمر الله، والنفخ في الأصل إخراج ريح من جوف النافح ليدخل في المنفوخ فيه، والمراد بإسناده إلى الله تعالى أن يقول له: كن فيكون. وجمع بعضهم بأن الكتابة تقع مرتين، فالكتابة الأولى في السماء، والثانية في بطن المرأة. ويحتمل أن تكون إحداهما في صحيفة، والأخرى على جبين المولود. وقيل: يختلف باختلاف الأجنة، فبعضها كذا، وبعضها كذا، والأول أولى (¬1). (فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ) ولفظ البخاريّ: "فوالله إن أحدكم"، وفي لفظ: "فإن أحدكم"، ومثله لأبي داود، وفي لفظ: "فإن الرجل منكم ليعمل"، وفي رواية ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 11/ 589 - 592.

مسلم، والترمذي وغيرهما: "فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل". لكن وقع عند أبي عوانة، وأبي نعيم في "مستخرجيهما" من طريق يحيى القطان، عن الأعمش قال: "فوالذي لا إله غيره"، وهذه محتملة لأن يكون القائل النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيكون الخبر كله مرفوعًا، ويحتمل أن يكون بعض رواته. ووقع في رواية وهب بن جرير، عن شعبة بلفظ: "حتى إن أحدكم ليعمل"، ووقع في رواية زيد بن وهب ما يقتضي أنه مدرج في الخبر من كلام ابن مسعود، لكن الإدراج لا يثبت بالاحتمال، وأكثر الروايات يقتضي الرفع، إلا رواية وهب بن جرير فبعيدة، من الإدراج، فأخرج أحمد، والنسائي، من طريق سلمة بن كهيل، عن زيد بن وهب، عن ابن مسعود، نحو حديث الباب، وقال بعد قوله: "اكتبه شقيا أو سعيدًا، ثم قال: والذي نفس عبد الله بيده إن الرجل ليعمل كذا"، وقع مفصلا في رواية جماعة عن الأعمش، منهم المسعودي، وزائدة، وزهير بن معاوية، وعبد الله بن إدريس، وآخرون، فيما ذكره الخطيب. وقد روى أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه أصل الحديث بدون هذه الزيادة، وكذا أبو وائل، وعلقمة، وغيرهما عن ابن مسعود، وكذا اقتصر حبيب بن حسان، عن زيد بن وهب، وكذا وقع في معظم الأحاديث الواردة عن الصحابة، كأنس، وحذيفة بن أسيد، وابن عمر، وكذا اقتصر عبد الرحمن بن حميد الرؤاسيّ، عن الأعمش على هذا القدر. نعم وقعت هذه الزيادة مرفوعةً في حديث سهل بن سعد عند البخاريّ، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم، وفي حديث عائشة عند أحمد، وفي حديث ابن عمر، والْعُرْس بن عَمِيرة في البزار، وفي حديث عمرو بن العاص، وأكثم بن أبي الجون في الطبراني. لكن وقعت في حديث أنس من وجه آخر قويٍّ مفردةً من رواية حميد، عن الحسن البصري عنه، ومن الرواة من حَذَف الحسن بين حميد وأنس، فكأنه كان تاما عند

أنس، فحَدّث به مُفَرَّقًا، فحفظ بعض أصحابه ما لم يحفظ الآخر عنه، فيقوى على هذا أن الجميع مرفوع، وبذلك جزم المحب الطبري، وحينئذ تُحمَل رواية سلمة بن كهيل، عن زيد بن وهب على أن عبد الله بن مسعود لتحقق الخبر في نفسه أقسم عليه، ويكون الإدراج في القسم، لا في المقسم عليه، وهذا غاية التحقيق في هذا الموضع، ويؤيد الرفع أيضا أنه مما لا مجال للرأي فيه، فيكون له حكم الرفع. [تنبيه]: قد اشتملت جملة "فوالذي نفسي بيده الخ" على أنواع من التأكيد، منها: التأكيد بالقسم، ووصف المقسم به، وبـ "إنّ"، وباللام، والأصل في التأكيد أنه يكون لمخاطبة المنكِر، أو المستبعِد، أو من يُتَوَهّم فيه شيء من ذلك، وهنا لمّا كان الحكم مستبعدًا، وهو دخول مَنْ عمل الطاعة طول عمره النارَ، وبالعكس حَسُنَ المبالغة في تأكيد الخبر بذلك. والله أعلم. (إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ) الباء زائدة، والأصل ليعمل عملَ أهل الجنة؛ لأن قوله: "عَمَلَ" إما مفعول مطلق، وإما مفعول به، وكلاهما مُستَغنٍ عن الحرف، فكان زيادة الباء للتأكيد، أو ضُمِّن "يعمل" معنى يَتَلَبّس في عمله بعمل أهل الجنة. يعني أنه عمل أهل الجنة من الطاعات الاعتقادية، والقولية، والفعلية، ثم يحتمل أن الحفظة تكتب ذلك، ويُقبل بعضها، ويرد بعضها، ويحتمل أن تقع الكتابة، ثم تمحى، وأما القبول فيتوقف على الخاتمة. (حَتَّى مَا يَكُونَ) قال الطيبي: "حتى" هنا هي الناصبة، و"ما" نافية، ولم تَكُفَّ "حتى" عن العمل في "يكون"، فهو منصوب بـ "حتى". وأجاز غيره أن تكون "حتى" ابتدائية، فـ "يكون" على هذا بالرفع، وهو مستقيم أيضًا. (بَيْنه وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ) كناية عن غاية القرب. ووقع عند البخاريّ بلفظ: "غير ذراع، أو باع"، وفي رواية: "باع أو ذراع"، وفي رواية: "إلا ذراع"، من دون شكّ. قال في "الفتح": والتعبير بالذراع تمثيل بقرب حاله من الموت، فيحال من بينه

وبين المكان المقصود بمقدار ذراع أو باع من المسافة، وضابطُ ذلك الحسيّ الغرغرة التي جُعلت علامةً لعدم قبول التوبة. وقد ذَكَر في هذا الحديث أهلَ الخير صِرْفًا، وأهل الشر صِرْفًا إلى الموت، ولا ذكر للذي خَلَطُوا، وماتوا على الإسلام؛ لأنه لم يُقصَد في الحديث تعميم أحوال المكلفين، وإنما سيق لبيان أن الاعتبار بالخاتمة. انتهى. (فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ) وفي رواية للبخاريّ: "كتابه" قال الطيبيّ: الفاء للتعقيب على حصول السبق بلا مُهلة، وضَمّن "يسبق" معنى يَغْلِب فعدّاه بـ "على": أي يغلب عليه الكتاب، وما قُدّر عليه سبقًا بلا مُهلة، فعند ذلك يعمل بعمل أهل الجنّة، أو أهل النار. انتهى كلام الطيبيّ ببعض تصرّف (¬1). وقال في "الفتح": قوله: "عليه" في موضع نصب على الحال: أي يسبق المكتوب واقعًا عليه. انتهى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الطيبيّ من التضمين أوضح. والله تعالى أعلم. (فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا) قال في "الفتح": ظاهره أنه يعمل بذلك حقيقةً، ويُختم له بعكسه، وثبت في حديث سهل بلفظ: "ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس"، وهو محمول على المنافق والمرائي، بخلاف حديث الباب، فإنه يتعلق بسوء الخاتمة. قال: والمراد بسبق الكتاب سبق ما تضمنه على حذف مضاف، أو المراد المكتوب، والمعنى أنه يتعارض عمله في اقتضاء السعادة، والمكتوب في اقتضاء الشقاوة، فيتحقق مقتضى المكتوب، فعبر عن ذلك بالسبق؛ لأن السابق يحصل مراده دون المسبوق، ولأنه لو تمثل العمل والكتاب شخصين ساعيين، لظفر شخص الكتاب، وغُلِب شخص ¬

_ (¬1) "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 534 - 535.

العمل. انتهى. (وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونَ) تقدّم أنه يجوز نصبه، ورفعه (بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَل بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا) ووقع في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عند مسلم: "وإن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار، ثم يُختَم له بعمل أهل الجنة"، زاد أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة: "سبعين سنة". وفي حديث أنس -رضي الله عنه- عند أحمد، وصححه ابن حبان: "لا عليكم أن لا تَعْجَبُوا بعمل أحد حتى تنظروا بم يُختَم له، فإن العامل يعمل زمانًا من عمره بعمل صالح، لو مات عليه دخل الجنة، ثم يتحول فيعمل عملًا سيئًا ... " الحديث. وفي حديث عائشة رضي الله عنها عند أحمد مرفوعًا: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، وهو مكتوب في الكتاب الأول من أهل النار، فإذا كان قبل موته تَحَوّل، فعَمِل عمل أهل النار، فمات فدخلها ... " الحديث. ولأحمد، والنسائي، والترمذي، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: "خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي يده كتابان ... " الحديث، وفيه: "هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم، وقبائلهم، ثم أُجمِل على آخرهم، فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم أبدًا، فقال أصحابه: ففيم العمل؟ فقال: سَدِّدوا، وقاربوا، فإن صاحب الجنة يُختم له بعمل أهل الجنة، وإن عَمِل أي عمل ... " الحديث. وفي حديث عليّ -رضي الله عنه- عند الطبراني نحوه، وزاد: "صاحبُ الجنة مختوم له بعمل أهل الجنة، وإن عَمِل أيَّ عَمَلٍ، وقد يُسلَك بأهل السعادة طريق أهل الشقاوة، حتى يقال: ما أشبههم بهم، بل هم منهم، وتدركهم السعادة، فتستنقذهم ... " الحديث، ونحوه للبزار من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وفي حديث سهل بن سعد عند البخاريّ: "إنما الأعمال بالخواتيم"، ومثله في حديث عائشة عند ابن حبان، ومن حديث معاوية نحوه، وفي آخر حديث علي المشار إليه قبلُ: "الأعمال بخواتيمها". ذكر هذا كلّه

في "الفتح" (¬1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- هذا مُتّفق عليه. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا بهذا السند فقط، وأخرجه (البخاريّ) في "كتاب القدر" (6594) و"كتاب التوحيد" (7454) و"بدء الخلق" (3208) و"أحاديث الأنبياء" (3332)، و (مسلم) في "القدر" (6665) و (6666) و (أبو داود) في "السنّة" (4708) و (الترمذيّ) في "القدر" (2137). و (النسائيّ) في "الكبرى" (¬2)، و (الحميديّ) في "مسنده" (126) و (أحمد) في "مسنده" (1/ 374 و 382 و 414 و 430) والله تعالى أعلم. [المسألة الثالثة]: قال الحافظ رحمه الله: هذا الحديث اشتهر عن الأعمش بالسند المذكور هنا قال علي بن المديني في "كتاب العلل": كنا نَظُنُّ أن الأعمش تفرد به حتى وجدناه من رواية سلمة بن كهيل، عن زيد بن وهب. قال الحافظ: وروايته عند أحمد، والنسائي، ورواه حبيب بن حَسّان، عن زيد بن وهب أيضًا وروايته عند أبي نعيم في "الحلية"، ولم ينفرد به زيد، عن ابن مسعود، بل رواه عنه أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود عند أحمد، وعلقمةُ عند أبي يعلى، وأبو وائل في "فوائد تَمّام"، ومُخَارق بن سُليم، وأبو عبد الرحمن السُّلَمي كلاهما عند الْفِرْيابي في "كتاب القدر"، وأخرجه أيضا من رواية طارق، ومن رواية أبي الأحوص الْجُشَمِيّ كلاهما عن عبد الله مختصرًا. وكذا لأبي ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 11/ 593 - 594. (¬2) انظر "تحفة الأشراف" 7/ 29.

الطفيل عند مسلم، وناجية بن كعب في "فوائد العيسوي"، وخيثمة بن عبد الرحمن عند الخطابيّ، وابن أبي حاتم، ولم يرفعه بعض هؤلاء عن ابن مسعود، ورواه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مع ابن مسعود جماعة من الصحابة مُطَوَّلًا ومختصرًا، منهم: أنس، عند البخاريّ في "صحيحه"، وحُذيفة بن أَسِيد عند مسلم، وعبد الله بن عمر في "القدر" لابن وهب، وفي "أفراد الدارقطني". وفي "مسند البزار"، من وجه آخر ضعيف، والفريابي بسند قوي، وسهل بن سعد عند البخاريّ، وأبو هريرة عند مسلم، وعائشة عند أحمد بسند صحيح، وأبو ذر عند الْفِرْيابي، ومالك بن الحويرث عند أبي نعيم في "الطبّ"، والطبراني، ورَبَاح اللَّخْميّ عند بن مردويه في "التفسير"، وابن عباس في "فوائد المخلص" من وجه ضعيف، وعلي في "الأوسط" للطبراني من وجه ضعيف، وعبد الله بن عمرو في "الكبير" بسند حسن، والْعُرْس بن عَمِيرة عند البزار بسند جيد، وأكثم بن أبي الْجَوْن عند الطبراني، وابن مَنْدَه بسند حسن، وجابر عند الْفِريابي، وقد أشار الترمذي في الترجمة إلى أبي هريرة، وأنس فقط، وقد أخرجه أبو عوانة في "صحيحه" عن بضع وعشرين نفسًا، من أصحاب الأعمش، منهم من أقرانه: سليمان التيمي، وجرير بن حازم، وخالد الحذّاء، ومن طبقة شعبةَ الثوريُّ، وزائدة، وعمار بن زريق، وأبو خيثمة. ومما لم يقع لأبي عوانة رواية شَريك، عن الأعمش، وقد أخرجها النسائي في "التفسير" من "الكبرى". ورواية وَرْقَاء بن عمر، ويزيد بن عطاء، وداود بن عيسى أخرجها تَمّام، قال الحافظ: وكنت خرجته في جزء من طرق نحو الأربعين نفسًا عن الأعمش، فغاب عني الآن، ولو أمعنت التتبع لزادوا على ذلك. انتهى (¬1)، وهو بحث نفيسٌ، وتحقيق أنيسٌ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 11/ 583.

(المسألة الرابعة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو إثبات القدر، ووجوب الإيمان به، والمراد بالقدر في لسان الشرع أن الله عز وجل علم مقادير الأشياء، وأزمانها أزلًا، ثم أوجدها بقدرته ومشيئته على وفق ما علمه منها، وأنه كتبها في اللوح المحفوظ قبل إحداثها. وقد تقدّم في شرح حديث عمر -رضي الله عنه- الحديث (63) البحث في القدر والإيمان به مستوفًى، فراجعه تستفد. 2 - (ومنها): أن فيه أن خلق السمع والبصر يقع والجنين داخل بطن أمه، وقد رْعم بعضهم أنه يُعطَى ذلك بعد خروجه من بطن أمه؛ لقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} الآية [النحل: 78]، وتُعُقّب بأن الواو لا تُرَتِّب، والتحقيق أن خلق السمع والبصر وهو في بطن أمه محمولٌ جزمًا على الأعضاء، ثم على القوة الباصرة والسامعة؛ لأنها مودعة فيها، وأما الإدراك بالفعل فهو موضع النزاع، والذي يترجح أنه يتوقف على زوال الحجاب المانع. 3 - (ومنها): أن الأعمال حسنها وسيئها أماراتٌ، وليست بموجبات، وأن مصير الأمور في العاقبة إلى ما سبق به القضاء، وجرى به القدر في الابتداء. قاله الخطابي. 4 - (ومنها): أن فيه القسمَ على الخبر الصدق تأكيدًا في نفس السامع. 5 - (ومنها): أن فيه إشارةً إلى علم المبدإ والمعاد، وما يتعلق ببدن الإنسان، وحاله في الشقاء والسعادة. 6 - (ومنها): أن فيه عِدّةَ أحكام تتعلق بالأصول والفروع، والحكمةِ، وغير ذلك. 7 - (ومنها): أن السعيد قد يَشقَى، وأن الشقي قد يَسْعَد، لكن بالنسبة إلى الأعمال الظاهرة، وأما ما في علم الله تعالى فلا يتغير. 8 - (ومنها): أن الاعتبار بالخاتمة، قال ابن أبي جمرة نفع الله به: هذه التي قَطَعَت

أعناق الرجال، مع ما هم فيه من حسن الحال؛ لأنهم لا يَدرُون بماذا يُختَم لهم. 9 - (ومنها): أن عموم مثل قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ} الآية [النحل: 97] مخصوص بمن مات على ذلك، وأن من عمل السعادة، وختم له بالشقاء، فهو في طول عمره عند الله شقي وبالعكس، وما ورد مما يخالفه يُؤَوَّلُ إلى أن يَؤُولَ إلى هذا، وقد اشتهر الخلاف في ذلك بين الأشعرية والحنفية، وتمسك الأشاعرة بمثل هذا الحديث، وتمسك الحنفية بمثل قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} الآية [الرعد: 39]، وأكثرَ كلٌّ من الفريقين الاحتجاجَ لقوله، والحق أن النزاع لفظيٌّ، وأن الذي سبق في علم الله لا يتغير ولا يتبدل، وأن الذي يجوز عليه التغيير والتبديل ما يبدو للناس من عمل العامل، ولا يبعد أن يتعلق ذلك بما في علم الحفظة، والموكلين بالآدمي، فيقع فيه المحو والإثبات، كالزيادة في العمر والنقص، وأما ما في علم الله، فلا محو فيه ولا إثبات، والعلم عند الله تعالى. 10 - (ومنها): أن فيه التنبيهَ على صدق البعث بعد الموت؛ لأن من قَدَرَ على خلق الشخص من ماء مهين، ثم نقله إلى العلقة، ثم إلى المضغة، ثم ينفخ الروح فيه، قادر على نفخ الروح بعد أن يصير ترابا، ويجمع أجزاءه بعد أن يفرقها، ولقد كان قادرًا على أن يخلقه دفعة واحدة، ولكن اقتضت الحكمة بنقله في الأطوار رِفْقًا بالأم؛ لأنها لم تكن معتادة، فكانت المشقة تعظم عليها، فهيأه في بطنها بالتدريج إلى أن تكامل، ومن تأمل أصل خلقه من نطفة، وتنقله في تلك الأطوار إلى أن صار إنسانا جميل الصورة، مُفَضّلًا بالعقل والفهم والنطق، كان حقّا عليه أن يشكر من أنشأه، وهيأه، ويعبده حَقَّ عبادته، ويطيعه ولا يعصيه. 11 - (ومنها): أن فيه أن في تقدير الأعمال ما هو سابق ولاحق، فالسابق ما في علم الله تعالى، واللاحق ما يُقَدَّر على الجنين في بطن أمه، كما وقع في هذا الحديث، وهذا هو الذي يَقبَل النسخ، وأما ما وقع في "صحيح مسلم" من حديث عبد الله بن عمر

رضي الله عنهما مرفوعًا: "كَتَبَ الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة"، فهو محمول على كتابة ذلك في اللوح المحفوظ على وفق ما في علم الله سبحانه وتعالى. 12 - (ومنها): أنه استُدِلَّ به على أن السِّقْطَ بعد الأربعة أشهر يُصَلَّى عليه؛ لأنه وقت نفخ الروح فيه، وهو منقول عن القول القديم للشافعي، والمشهور عن أحمد، وإسحاق، وعن أحمد: إذا بلغ أربعة أشهر وعشرًا، ففي تلك العشر يُنفخ فيه الروح، ويُصلّى عليه، والراجح عند الشافعية أنه لا بد من وجود الروح، وهو القول الجديد للشافعيّ، وقد قالوا: فإذا بَكَى، أو اختلج، أو تنفس، ثم بطل ذلك صُلِّي عليه، وإلا فلا، والأصل في ذلك ما أخرجه النسائي، وصححه ابن حبان، والحاكم، عن جابر -رضي الله عنه- رفعه: "إذا استَهَلَّ الصبي وَرِثَ، وصُلِّيَ عليه". وقد ضعفه النووي في "شرح المهذّب"، والصواب أنه صحيح الإسناد، لكن المرجح عند الحفاظ وقفه، وعلى طريق الفقهاء لا أثر للتعليل بذلك؛ لأن الحكم للرفع لزيادته، قالوا: وإذا بلغ مائة وعشرين يومًا غُسِل، وكُفِّنَ، ودُفِن بغير صلاة، وما قبل ذلك لا يُشرَع له غسل ولا غيره. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: سيأتي تحقيق المسألة حيث يذكره المصنّف في "كتاب الجنائز" رقم (1508) إن شاء الله تعالى. 13 - (ومنها): أنه استُدِلّ به على أن التخليق لا يكون إلا في الأربعين الثالثة، فأقل ما يتبين فيه خلق الولد أحد وثمانون يومًا، وهي ابتداء الأربعين الثالثة، وقد لا يتبين إلا في آخرها، ويترتب على ذلك أنه لا تنقضي العدة بالوضع إلا ببلوغها، وفيه خلاف، ولا يثبت للأمة أُمّيةُ الولد إلا بعد دخول الأربعين الثالثة، وهذا قول الشافعية والحنابلة، وتوسع المالكية في ذلك، فأداروا الحكم في ذلك على كلِّ سِقْطٍ، ومنهم من قَيَّده بالتخطيط، ولو كان خفيا، وفي ذلك رواية عن أحمد، وحجتهم ما تقدم في بعض طرقه أن النطفة إذا لم يُقَدّر تخليقها لا تصير علقة، وإذا قُدِّر أنها تتخلق تصير علقة، ثم

مضغة الخ، فمتى وَضَعَت علقة عُرِف أن النطفة خرجت عن كونها نطفة، واستحالت إلى أول أحوال الولد. قال الجامع عفا الله عز وجل تعالى عنه: ما قاله الأولون أظهر، فليُتأمّل. والله تعالى أعلم. 14 - (ومنها): أن كلا من السعادة والشقاء، قد يقع بلا عمل ولا عُمْر، وعليه ينطبق قوله -صلى الله عليه وسلم-: "الله أعلم بما كانوا عاملين"، وهذا البحث قد استوفيته في "شرح النسائيّ" عند شرح الحديث المذكور، فراجعه برقم (1949) وبالله تعالى التوفيق. 15 - (ومنها): أن فيه الحثَّ القويَّ على القناعة، والزجرَ الشديد عن الحرص؛ لأن الرزق إذا كان قد سبق تقديره لم يُغنِ التعني في طلبه، وإنما شُرع الاكتساب؛ لأنه من جملة الأسباب التي اقتضتها الحكمة في دار الدنيا. 16 - (ومنها): أن فيه أن الأعمال سبب دخول الجنة أو النار، وهو معنى قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72]، ولا يعارض ذلك حديث: "لن يُدخل أحدًا عمله الجنّة"؛ لما سيأتي في المسألة التالية من الجمع بينهما -إن شاء الله تعالى-. 17 - (ومنها): أن من كُتِب شقيا لا يُعلَم حاله في الدنيا وكذا عكسه، واحتج من أثبت ذلك بحديث عليّ -رضي الله عنه- المتّفق عليه: "أما من كان من أهل السعادة، فإنه يُيَسَّر لعمل أهل السعادة ... " الحديث. والتحقيق أن يقال: إن أريد أنه لا يُعلم أصلًا ورأسًا فمردود، وإن أريد أنه يُعلم بطريق العلامة المثبتة للظن الغالب فنعم، ويُقَوِّي ذلك في حق من اشتَهَر له لسانُ صدق بالخير والصلاح، ومات على ذلك؛ لقوله في الحديث الصحيح المتّفق عليه: "أنتم شُهداء الله في الأرض"، وإن أريد أنه يُعلم قطعًا لمن شاء الله أن يُطلِعه على ذلك، فهو من جملة الغيب الذي استَأْثَرَ الله بعلمه، وأطلَع من شاء ممن ارتضى من رسله عليه. 18 - (ومنها): أن فيه الحثَّ على الاستعاذة بالله تعالى من سوء الخاتمة، وقد عَمِل به جمع جَمٌّ من السلف، وأئمة الخلف، وأما ما قال عبد الحق في "كتاب العاقبة": إن

سوء الخاتمة لا يقع لمن استقام باطنه، وصلح ظاهره، وإنما يقع لمن في طويته فساد أو ارتياب، ويَكُثر وقوعه للمُصِرّ على الكبائر، والمجترىء على العظائم، فيَهْجُمُ عليه الموت بغتة، فيَصْطَلِمه الشيطان، عند تلك الصدمة، فقد يكون ذلك سببًا لسوء الخاتمة -نسأل الله السلامة- فهو محمول على الأكثر الأغلب. قاله في "الفتح" (¬1). وقد أورد الحافظ ابن رجب رحمه الله في "جامع العلوم والحكم" بعض ما ورد عن السلف من خوفهم سوء الخاتمة أعاذنا الله تعالى منها، فأورد حديث "الصحيحين" عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- أن النبيّ -رضي الله عنه- التقى هو والمشركون، وفي أصحابه رجل لا يَدَعُ شاذّةً، ولا فاذّةً إلا اتبعها، يضربها بسيفه، فقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحدٌ كما أجزأ فلان، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هو من أهل النار"، فقال رجل من القوم: أنا أصاحبه، فاتّبعه، فجُرح الرجل جرحًا شديدًا، فاستعجل الموت، فوضع نَصْل سيفه على الأرض، وذُبَابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه، فقتل نفسه، فخرج الرجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،، فقال: أشهد أنك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقَصّ عليه القصة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة"، زاد البخاري في رواية له: "إنما الأعمال بالخواتيم". وقوله: "فيما يبدو للناس" إشارةٌ إلى أن باطن الأمر يكون بخلاف ذلك، وإن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسةٍ باطنة للعبد لا يَطَّلِع عليها الناسُ، إما من جهة عمل سيىء ونحو ذلك، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت، وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار، وفي باطنه خصلة خفيةٌ من خصال الخير، فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره، فتوجب له حسن الخاتمة. قال عبد العزيز بن أبي رَوّاد حضرتُ رجلًا عند الموت يُلَقَّنُ "لا إله إلا الله"، ¬

_ (¬1) "الفتح" 11/ 596.

فقال في آخر ما قال: هو كافر بما تقول، ومات على ذلك، قال: فسألت عنه، فإذا هو مدمن خمر، وكان عبد العزيز يقول: اتقوا الذنوب، فإنها هي التي أوقعته. وفي الجملة فالخواتيم ميراث السوابق، فكل ذلك سبق في الكتاب السابق، ومن هنا كان يشتد خوف السلف من سوء الخواتيم، ومنهم من كان يَقْلَقُ من ذكر السوابق. وقد قيل: إن قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم، يقولون: بماذا يُختَم لنا، وقلوب المقربين معلقة بالسوابق، يقولون: ماذا سبق لنا. وبكى بعض الصحابة عند موته، فسئل عن ذلك، فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله تعالى قبض خلقه قبضتين، فقال هؤلاء في الجنة، وهؤلاء في النار"، ولا أدري في أي القبضتين كنت؟ (¬1). قال بعض السلف: ما أبكَى العيونَ ما أبكاها الكتاب السابق. وقال سفيان لبعض الصالحين: هل أبكاك قط علم الله فيك؟ فقال له ذلك الرجل: تركني لا أفرح أبدًا. وكان سفيان يشتد قلقه من السوابق والخواتيم، فكان يبكي ويقول: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقيا، ويبكي ويقول: أخاف أن أُسلب الإيمان عند الموت. وكان مالك بن دينار يقوم طولَ ليله قابضًا على لحيته، ويقول: يا رب قد علمتَ ساكن الجنة من ساكن النار، ففي أيٍّ مالكٌ؟. وقال حاتمٌ الأصمّ: من خلا قلبه من ذكر أربعة أخطار، فهو مُغْتَرٌّ، فلا يَأمَن الشقاء: (الأولُ): خطر يوم الميثاق، حين قال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي، فلا يَعلَم في أيّ الفريقين كان. (والثاني): حين خُلق في ظلمات ثلاث، فنادى الملك بالشقاوة والسعادة، ولا يَدرِي أَمِنَ الأشقياء هو أم من السعداء. (والثالث): ذكر هول الطلع فلا يَدرِي أيبشر برضا الله أم بسخطه. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" 4/ 176 - 177 بإسناد صحيح.

(والرابع): يومَ يصدُر الناس أشتاتًا فلا يَدري أي الطريقين يُسلَك به. وقال سهل التستري: المريد يخاف أن يُبْتلَى بالمعاصي، والعارف يخاف أن يُبتلَى بالكفر. ومن هنا كان الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق، ويشتد قلقهم وجزعهم منه، فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر، ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة، فيخرجَهُ إلى النفاق الأكبر، كما تقدم أن دسائس السوء الخفيّة توجب سوء الخاتمة. وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُكثر أن يقول في دعائه: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، فقيل له: يا نبي الله آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ فقال: "نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل قلبها كيف شاء". أخرجه الإمام أحمد، والترمذي، من حديث أنس (¬1). وأخرج الإمام أحمد من حديث أم سلمة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يكثر في دعائه أن يقول: "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، فقلت: يا رسول الله، أَوَ إن القلوب لتتقلب؟ قال: "نعم ما من خلق الله من بني آدم من بشر إلا أن قلبه بين إصبعين من أصابع الله عز وجل، فإن شاء عز وجل أقامه، وإن شاء أزاغه، فنسأل الله ربنا أن لا يُزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب"، قالت: قلت: يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: "بلى، قولي: اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مُضِلات الفتن ما أحييتني" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 3/ 112 و 257 والترمذيّ (2140) وحسّنه. (¬2) أخرجه أحمد 6/ 302 وفي إسناده شهر بن حوشب، وقد تُكلّم فيه، والحقّ أنه حسن الحديث كما قال البخاريّ، ولا سيما رواية عبد الحميد بن بهرام كما هنا، وقد صرّح بأنه سمع أم سلمة رضي الله عنها تحدّث بهذا الحديث، وقدحققت هذا البحث في غير هذا الموضع من هذا الشرح وغيره.

وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة. وأخرج مسلم من حديث عبد الله بن عمرو سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل كقلب واحد يصرفه حيث يشاء"، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم مُصَرِّفَ القلوب صَرِّفْ قلوبنا على طاعتك". انتهى المقصود مما كتبه ابن رجب رحمه الله تعالى (¬1). 19 - (ومنها): أن قدرة الله تعالى لا يوجبها شيء من الأسباب إلا بمشيئته، فإنه لم يجعل الجماع علّةً للولد؛ لأن الجماع قد يَحصُل ولا يكون الولد حتى يشاء الله ذلك. 20 - (ومنها): أن الشيء الكثيف يحتاج إلى طول الزمان، بخلاف اللطيف، ولذلك طالت المدة في أطوار الجنين حتى حصل تخليقه، بخلاف نفخ الروح، ولذلك لمّا خلق الله الأرض أوّلًا عَمَد إلى السماء فسواها، وترك الأرض لكثافتها بغير فتق، ثم فُتِقَتَا معًا، ولما خلق آدم، فصوره من الماء والطين، تركه مدة، ثم نفخ فيه الروح. 21 - (ومنها): أن الداوديّ استدل بقوله: "فتدخل النار" على أن الخبر خاص بالكفار، واحتج بأن الإيمان لا يُحبطه إلا الكفر. وتُعُقِّب بأنه ليس في الحديث تَعَرُّض للإحباط، وحمله على المعنى الأعم أولى، فيتناول المؤمن حتى يُختَم له بعمل الكافر مثلًا فيرتدّ، فيموت على ذلك، فنستعيذ بالله من ذلك، ويتناول المطيع حتى يختم له بعمل العاصي، فيموت على ذلك، ولا يلزم من إطلاق دخول النار أنه يُخَلَّد فيها أبدًا، بل مجرد الدخول صادق على الطائفتين. 22 - (ومنها): أنه استدل به على أنه لا يجب على الله رعاية الأصلح، خلافًا لمن قال به من المعتزلة؛ لأن فيه أن بعض الناس يذهب جميعُ عمره في طاعة الله، ثم يختم له بالكفر -والعياذ بالله- فيموت على ذلك، فيدخل النار، فلو كان يجب عليه رعاية ¬

_ (¬1) راجع "جامع العلوم والحكم" جـ 1 / ص 172 - 175. بتحقيق شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس.

الأصلح لم يَحبِط جميع عمله الصالح بكلمة الكفر التي مات عليها، ولا سيما إن طال عمره، وقرب موته من كفره. 23 - (ومنها): أنه استدل به بعض المعتزلة على أن من عمل عمل أهل النار وجب أن يدخلها؛ لترتب دخولها في الخبر على العمل، وترتبُ الحكم على الشيء يُشعِر بعليته. وأُجيب بأنه علامة لا علة، والعلامة قد تتخلف، سلمنا أنه علة، لكنه في حق الكفار، وأما العصاة فخرجوا بدليل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116]، فمن لم يُشرك فهو داخل في بالمشيئة. 24 - (ومنها): أنه استدل به الأشعري في تجويزه تكليف ما لا يطاق؛ لأنه دلّ على أن الله كَلَّفَ العباد كلهم بالإيمان، مع أنه قَدَّرَ على بعضهم أنه يموت على الكفر. وقد قيل: إن هذه المسألة لم يثبت وقوعها إلا في الإيمان خاصة، وما عداه لا توجد دلالة قطعية على وقوعه، وأما مطلق الجواز فحاصل. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تعقّب بعض المحقّقين هذا الاستدلال، وأجاد في ذلك، فقال: إطلاق القول بالتكليف بما لا يُطاق من البدع المحدثة من المتكلّمين في أصولي الدين والفقه، والحقّ فيه التفصيل، فتكليف ما لا يُطاق لعجز العبد عنه عادةً، كالمشي على القفا، أو على الرأس وغيره، فهو غير موجود في الشريعة البتّة، قال سبحانه وتعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، وقال أيضًا: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا}، وقال: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، وقال سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، فهو مما رفق الله سبحانه وتعالى به علينا من الحرج، فخفّفه على عباده، {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]. وأما تكليف ما لا يُطاق لا للعجز عنه، بل للاشتغال بضدّه من الكفر والفسوق والعصيان، فهذا مما جاءت به الشريعة أمرًا ونهيًا، وتسميته بما لا يطاق خطأٌ، ولم يَرِد بها الشرع الحنيف. وراجع في هذا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "مجموع

الفتاوى" 8/ 469 وما بعدها، و"درء التعارض" 1/ 65. والله تعالى أعلم. 25 - (ومنها): أن فيه أن الله يَعلَم الجزئيات كما يَعلَم الكليات؛ لتصريح الخبر بأنه يأمر بكتابة أحوال الشخص مفصلة. 26 - (ومنها): أنه سبحانه وتعالى مريد لجميع الكائنات بمعنى أنه خالقها ومُقَدِّرها، لا أنه يحبها ويرضاها. 27 - (ومنها): أن جميع الخير والشر بتقدير الله تعالى، وإيجاده، وخالف في ذلك القدرية والجبرية. فذهبت القدرية إلى أن فعل العبد من قبل نفسه، ومنهم من فرق بين الخير والشر، فنسب إلى الله الخير، ونفى عنه خلق الشر، وقيل: إنه لا يُعرَف قائله، وإن كان قد اشتَهَرَ ذلك، وإنما هذا رأي المجوس. وذهبت الجبرية إلى أن الكل فعل الله، وليس للمخلوق فيه تأثير أصلًا، وتوسط أهل السنة، فمنهم من قال: أصل الفعل خلقه الله، وللعبد قدرة غير مؤثّرة في المقدور، وأثبت بعضهم أن لها تأثيرًا، لكنه يُسَمَّى كسبا، وبَسطُ أدلتهم يطول. قاله في "الفتح" (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا التقرير الذي ذكره الحافظ فيه نظرٌ؛ لأنه تقرير منه لكسب الأشاعرة في باب القضاء والقدر، والحقّ أن قدرة العبد ينشأ عنها فعله، ولهذا هو محاسب ومؤاخذٌ عليها، وهي على كلّ حال لا تخرُج عن قدرة الله، ومشيئته بحال، والله تعالى خلق العبد، وخلق قدرته، فـ "الله خالق كلّ صانع وصنعته"، فتبصّر فإن هذا من مزالّ الأقدام، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. وقد أخرج أحمد، وأبو يعلى من طريق أيوب بن زياد، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، حدثني أبي، قال: دخلت على عبادة، وهو مريض، فقلت: أوصني، فقال إنك لن تَطعَم طُعمَ الإيمان، ولن تبلغ حقيقة العلم بالله، حتى تؤمن بالقدر خيره ¬

_ (¬1) "الفتح" 11/ 597.

وشره، وهو أن تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك ... " الحديث، وفيه: "وإن مُتّ، ولست على ذلك دخلت النار". وأخرجه الطبراني من وجه آخر بسند حسن، عن أبي إدريس الخولانيّ، عن أبي الدرداء، مرفوعًا مقتصرًا على قوله: "إن العبد لا يبلغ حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه". 28 - (ومنها): أن فيه أن الأقدار غالبة، والعاقبة غائبة، فلا ينبغي لأحد أن يغتر بظاهر الحال، ومن ثَمَّ شُرِع الدعاء بالثبات على الدين، وبحسن الخاتمة، اللهم أحينا وأمتنا على السنّة، وابعثنا عليها، واجعلنا من خيار أهلها في محيانا ومماتنا، إنك أنت السميع العليم. [تنبيه]: حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- المذكور في الباب قد يقال: يُعارضه حديث علي -رضي الله عنه- الآتي بعد حديث، وهو متّفقٌ عليه، حيث سأل الصحابة -رضي الله عنهم- عن فائدة العمل مع تقدم التقدير، فأجابهم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "اعملوا فكل ميسر لما خُلِق له". ويُجمع بينهما بحمل حديث علي -رضي الله عنه- على الأكثر الأغلب، وحمل حديث الباب على الأقل، ولكنه لما كان جائزًا تعين طلب الثبات، قاله في "الفتح". [تنبيه آخر]: حَكَى ابن التين أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله لمّا سمع هذا الحديث أنكره، وقال: كيف يصحّ أن يعمل العبد عمره الطاعةَ، ثم لا يدخل الجنة. انتهى. وقد توقف ابن الملقن في صحة ذلك عن عمر، قال الحافظ رحمه الله: وظهر لي أنه إن ثبت عنه حُمِل على أن راويه حذف منه قوله في آخره: "فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها"، أو أكمل الراوي، لكن استبعد عمر وقوعه، وإن كان جائزًا، ويكون إيراده على سبيل التخويف من سوء الخاتمة، انتهى (¬1)، والله تعالى أعلم ¬

_ (¬1) "الفتح" 11/ 597 - 598.

بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الخامسة): هذا الحديث يعارضه ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: "لن يُدخِل أحدًا منكم عمَلُهُ الجنةَ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمّدني الله بفضل ورحمةٍ ... " الحديث. وأجاب ابن بطال رحمه الله عن ذلك بأن تحمل الآية -أي وكذا حديث الباب- على أن الجنة تُنال المنازل فيها بالأعمال، فإن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال، وأن يُحمَل الحديث المذكور على دخول الجنة، والخلود فيها. ثم أورد على هذا الجواب قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]، فصَرّح بأن دخول الجنة أيضًا بالأعمال. وأجاب بأنه لفظ مُجمَل بينه الحديث، والتقدير: ادخلوا منازل الجنة وقصورها بما كنتم تعملون، وليس المراد بذلك أصل الدخول. ثم قال: ويجوز أن يكون الحديث مُفَسِّرًا للآية، والتقدير: ادخلوها بما كنتم تعملون مع رحمة الله لكم، وتفضله عليكم؛ لأن اقتسام منازل الجنة برحمته، وكذا أصل دخول الجنة هو برحمته، حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك، ولا يخلو شيء من مجازاته لعباده من رحمته وفضله، وقد تفضل عليهم ابتداء بإيجادهم، ثم برزقهم، ثم بتعليمهم. وقال القاضي عياض رحمه الله طريق الجمع أن الحديث فسّر ما أُجمل في الآية، فذكر نحوًا من كلام ابن بطال الأخير، وأن من رحمة الله توفيقَهُ للعمل، وهدايته للطاعة، وكل ذلك لم يستحقه العامل بعمله، وإنما هو بفضل الله وبرحمته. وقال ابن الجوزي رحمه الله: يتحصل عن ذلك أربعة أجوبة: (الأول): أن التوفيق للعمل من رحمة الله، ولولا رحمة الله السابقة ما حصل الإيمان، ولا الطاعة التي يحصل بها النجاة. (الثاني): أن منافع العبد لسيده، فعمله مُستَحَقٌّ لمولاه، فمهما أنعم عليه من الجزاء فهو من فضله.

(الثالث): جاء في بعض الأحاديث أن نفس دخول الجنة برحمة الله، واقتسام الدرجات بالأعمال. (الرابع): أن أعمال الطاعات كانت في زمن يسير، والثواب لا يَنْفَد، فالإنعام الذي لا ينفد في جزاء ما ينفد بالفضل، لا بمقابلة الأعمال. وقال الكرماني: الباء في قوله {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] ليست للسببية، بل للإلصاق، أو المصاحبة: أي أورثتموها ملابسة، أو مصاحبة، أو للمقابلة، نحو أَعطيتُ الشاة بالدرهم، وبهذا الأخير جزم الشيخ جمال الدين ابن هشام في "المغني"، فسبق إليه، فقال: تَرِدُ الباء للمقابلة، وهي الداخلة على الأعواض، كاشتريته بألف، ومنه: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] وإنما لم تُقَدَّر هنا للسببية كما قالت المعتزلة (¬1)، وكما قال الجميع في: "لن يدخل أحدكم الجنة بعمله" لأن المُعْطِي بعوض قد يعطي مَجّانًا، بخلاف المسبب فلا يوجد بدون السبب، قال: وعلى ذلك ينتفي التعارض بين الآية والحديث. وقد سبقه إلى ذلك ابن القيم، فقال في كتاب "مفتاح دار السعادة": الباء المقتضية للدخول غير الباء الماضية، فالأولى السببية الدالة على أن الأعمال سبب الدخول المقتضية له، كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها، والثانية بالمعاوضة، نحو اشتريت منه بكذا، فأخبر أن دخول الجنة ليس في مقابلة عمل أحد، وأنه لولا رحمة الله لعبده لما أدخله الجنة، لأن العمل بمجرده، ولو تناهى لا يوجب بمجرده دخول الجنة، ولا أن يكون عوضا لها، لأنه ولو وقع على الوجه الذي يحبه الله، لا يقاوم نعمة الله، بل جميع العمل لا يوازي نعمة واحدة، فتبقى سائر نعمه مقتضية لشكرها، وهو لم يُوَفِّها حَقَّ شكرها، فلو عذبه في هذه الحالة لعذبه وهو غير ظالم له، وإذا رحمه في هذه الحالة كانت ¬

_ (¬1) كون الباء للسببية ليس مذهب المعتزلة، كما توهمه هذه العبارة، بل هو مذهب أهل الحقّ من أهل السنة والجماعة، وإنما لم تُجعل هنا للسببية لدليل اقترن بها، وهو الجمع بين الأدلة، فتفطّن. واللَّه تعالى أعلم.

رحمته خيرًا من عمله، كما في حديث أُبَيّ بن كعب الذي أخرجه أبو داود وابن ماجه (¬1) في ذكر القدر، ففيه: "لو أن الله عذب أهل سماواته وأرضه، لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم ... " الحديث. قال: وهذا فصل الخطاب مع الجبرية الذين أنكروا أن تكون الأعمال سببًا في دخول الجنة من كل وجه، والقدرية الذين زعموا أن الجنة عوض العمل، وأنها ثمنه، وأن دخولها بمحض الأعمال، والحديث يبطل دعوى الطائفتين. والله أعلم. وجوز الكرماني أيضا أن يكون المراد أن الدخول ليس بالعمل، والإدخال المستفاد من الإرث بالعمل، وهذا إنْ مشى في الجواب عن قوله تعالى: {أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] لم يمش في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]. قال الحافظ: ويظهر لي في الجمع بين الآية والحديث جواب آخر، وهو أن يحمل الحديث على أن العمل من حيث هو عمل، لا يستفيد به العامل دخول الجنة ما لم يكن مقبولًا، وإذا كان كذلك فأمر القبول إلى الله تعالى، وإنما يحصل برحمة الله لمن يقبل منه، وعلى هذا فمعنى قوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: أي تعملونه من العمل المقبول، ولا يضر بعد هذا أن تكون الباء للمصاحبة، أو للإلصاق، أو المقابلة، ولا يلزم من ذلك أن تكون سببية. ثم رأيت النووي جزم بأن ظاهر الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، والجمع بينها وبين الحديث أن التوفيق للأعمال، والهداية للإخلاص فيها وقبولها إنما هو برحمة الله وفضله، فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل، وهو مراد الحديث، ويصح أنه دخل بسبب العمل، وهو من رحمة الله تعالى. وردّ الكرماني الأخير بأنه خلاف صريح الحديث. ¬

_ (¬1) هو الحديث الآتي بعد هذا عند المصنّف.

وقال المازري: ذهب أهل السنة إلى أن إثابة الله تعالى من أطاعه بفضل منه، وكذلك انتقامه ممن عصاه بعدل منه، ولا يثبت واحد منهما إلا بالسمع، وله سبحانه وتعالى أن يعذب الطائع، وينعم على العاصي، ولكنه أخبر أنه لا يفعل ذلك، وخبره صدق لا خلف فيه، وهذا الحديث يُقَوِّي مقالتهم، ويرد على المعتزلة حيث أثبتوا بعقولهم أعواض الأعمال، ولهم في ذلك خبط كثير، وتفصيل طويل. انتهى (¬1). وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 77 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سِنَانٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ خَالِدٍ الْحِمْصِيِّ، عَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ، قَالَ: وَقَعَ في نَفْسِي شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْقَدَرِ، خَشِيتُ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيَّ دِينِي وَأَمْرِي، فَأتَيْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، فَقُلْتُ: أَبَا الْمُنْذِرِ إِنَّهُ قَدْ وَقَعَ في نَفْسِي شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْقَدَرِ، فَخَشِيتُ عَلَى دِينِي وَأَمْرِي، فَحَدِّثْنِي مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَنِي بِهِ، فَقَالَ: لَوْ أنَّ اللَّه عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ، وَهُوَ غَيْرُ ظَالمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَته خَيْرًا لهُمْ مِنْ أَعْمَالهِمْ، وَلَوْ كَانَ لَكَ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا، أَوْ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ، تُنْفِقُهُ في سَبِيلِ اللَّه، مَا قُبِلَ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، فَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لم يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَأنَّكَ إِنْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ، وَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَأْتِيَ أَخِي عَبْدَ اللَّه بْنَ مَسْعُودٍ، فَتَسْأَلهُ، فَأَتَيْتُ عَبْدَ اللَّه، فَسَأَلْته، فَذَكَرَ مِثْلَ مَا قَالَ أُبَيٌّ، وَقَالَ لِي: وَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَأْتِيَ حُذَيْفَةَ، فَأَتَيْتُ حُذَيْفَةَ، فَسَأَلْته، فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَا، وَقَالَ: ائْتِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَاسْأَلْهُ، فَأَتيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يَقُوُل: "لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ، لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالمٍ لهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَته خَيْرًا لهُمْ مِنْ أَعْمَالهِمْ، وَلَوْ كَانَ لَكَ ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 11/ 357 - 359 "كتاب الرقاق" رقم الحديث (6464).

مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، أَوْ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا، تُنْفِقُهُ في سَبِيلِ اللَّه، مَا قَبِلَهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ، فَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَأَنَّكَ إِنْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (عِليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطَّنَافسيّ الكوفيّ، ثقة عابدٌ [10] 9/ 57. 2 - (إِسْحَقُ بْنُ سُلَيْمَانَ) أبو يحيى العبديّ الرازيّ، كوفيّ الأصل، ثقة فاضلٌ [9]. روى عن مالك، وابن أبي ذئب، وحَرِيز بن عثمان، وحنظلة بن أبي سفيان، وأفلح بن حميد، وداود بن قيس الفَرّاء، وأبي سنان البرجُميّ، وغيرهم. وروى عنه قتيبة، وعمرو الناقد، وأحمد بن حنبل، وأبو خيثمة، وابن نمير، وأبو كريب، وعليّ بن محمد الطنافسيّ، وغيرهم. قال أبو أسامة: كنا نَستسقِي به، وأثنى عليه أحمد. وقال محمد بن سعيد الأصبهاني: ثنا إسحاق بن سليمان، وكان ثقة. وقال أبو الأزهر: كان من خيار المسلمين. وقال العجلي: ثقة رجل صالح. وقال أبو حاتم: صدوق لا بأس به. وقال النسائي: ثقة. وقال ابن قانع: صالح. ووثقه ابن نمير. وقال الحاكم: ثقة. وقال ابن وَضّاح الأندلسيّ: ثقة ثبت في الحديث، مُتَعَبِّدٌ كبير. وقال الخليلي في "الإرشاد": ثقة. وقال محمد بن سعد: كان ثقة، له فضل في نفسه وورع، مات بالرّيّ سنة (199)، وقال أبو الحسين بن قانع: مات سنة (200). وذكره ابن حبان في الطبقة الرابعة من الثقات، وأَرَّخَهُ سنة مائتين. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (10) أحاديث برقم 77 و 408 و 824 و 842 و 1140 و 1604 و 2264 و 3513 و 3691 و 3853. 3 - (أبو سِنَانٍ) هو: سعيد بن سنان الْبُرْجميّ -بضم الموحّدة، والجيم بينهما راء ساكنة- الشيبانيّ الأصغر الكوفيّ، نزيل الريّ، صدوقٌ، له أوهامٌ [6]. رَوَى عن طاوس، وأبي إسحاق السبيعي، وعمرو بن مرة، وسعيد بن جبير،

وعلقمة بن مرثد، وحبيب بن أبي ثابت، ووهب بن خالد الحمصي، وغيرهم. وروى عنه الثوري، وابن المبارك، ووكيع، وجرير بن عبد الحميد، وإسحاق بن سليمان الرازي، وأسباط بن محمد القرشي، وأبو داود الطيالسي، وغيرهم. قال أبو طالب عن أحمد: كان رجلًا صالحًا، ولم يكن يقيم الحديث. وقال عبد الله ابن أحمد عن أبيه: ليس بالقوي في الحديث. وقال الدُّوريّ وغيره عن ابن معين: ثقة. وقال العجلي: كوفي جائز الحديث. وقال ابن سعد: كان من أهل الكوفة، ولكنه سكن الرّيّ، وكان سيء الْخُلُق. وقال أبو حاتم: صدوق ثقة. وقال الآجري عن أبي داود: ثقة من رُفَعاء الناس. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان عابدًا فاضلًا. ووثقه يعقوب بن سفيان. وقال ابن عديّ: له غرائب، وأَفْراَدٌ، وأرجو أنه ممن لا يتعمد الكذب، ولعله إنما يَهِمُ في الشيء بعد الشيء. وقال الدارقطني: سعيد بن سنان اثنان: أبو مهدي حمصي يضع الحديث، وأبو سنان كوفي سكن الرّيّ من الثقات. أخرج له البخاري في "جزء القراءة خلف الإمام"، ومسلم، وأبو داود، والترمذي والنسائي، والمصنّف، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم 77 و 765 و 1532 و 3057 و 4226. 4 - (وَهْبُ بْنُ خَالِدٍ الْحِمْصِيِّ) أبو خالد الحميريّ، ثقة [7]. رَوَى عن ابن الديلمي، ومحمد بن زياد الألهاني، وأسد بن وَدَاعَة، وأم حبيبة بنت العرباض بن سارية. وروى عنه أبو سنان سعيد بن سنان البرجميّ، وأبو عاصم النبيل. قال الآجري عن أبي داود: ثقة لقيه أبو عاصم بمكة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال العجلي: وهب بن خالد حمصي ثقة. أخرج له أبو داود، والترمذي، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 5 - (ابْنُ الدَّيْلَمِيِّ) هو: عبد الله بن فَيْروز، ثقة، من كبار التابعين، ومنهم من

ذكره في الصحابة، تقدّم في 7/ 49. 6 - (زيد بن ثابت) بن الضحاك بن زيد بن لُوذان بن عمرو بن عَبد عَوف بن غَنْم بن مالك بن النجار الأنصاري، أبو سعيد، ويقال: أبو خارجة المدني، قَدِمَ النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وهو ابن إحدى عشرة سنة، وكان يكتب له الوحي، رَوَى عنه، وعن أبي بكر، وعمر، وعثمان -رضي الله عنه-. وروى عنه ابناه: خارجة، وسلمان، ومولاه ثابت بن عبيد، وأم سَعْد، قيل: إنها ابنته، وأبو هريرة، وأنس، وأبو سعيد، وسهل بن حُنيف، وابن عمر، وسهل بن سعد، وعبد الله بن يزيد الخطمي، وسهل بن أبي حَثْمَةَ، ومروان بن الحكم، وأبان بن عثمان، وبُسْر بن سعيد، وطاووس، وعُبيد بن السَّبَّاق، وعطاء بن يسار، وغيرهم من الصحابة والتابعين. قال عاصم عن الشعبي: غلب زيدٌ الناسَ على اثنتين: الفرائضِ والقرآنِ. وقيل: إن أوّل مشاهده يوم الخندق. قاله الواقدي. وكانت معه راية بني النجار يوم تبوك، وكانت أوّلًا مع عُمارة بن حَزْم، فأخذها النبي -صلى الله عليه وسلم- منه، فدفعها لزيد بن ثابت، فقال: يا رسول الله بلغك عني شيء؟ قال: "لا، ولكن القرآن مُقَدَّم". أخرجه الحاكم في "المستدرك" 3/ 421. وكان زيد من علماء الصحابة، وكان هو الذي تولى قسم غنائم اليرموك. وهو الذي جمع القرآن في عهد أبي بكر -رضي الله عنه- ثبت ذلك في "الصحيح"، وقال له أبو بكر: إنك شابٌّ عاقل، لا نَتَّهِمُك. وروى البخاري تعليقًا، والبغوي، وأبو يعلى موصولًا عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد، عن أبيه، قال: أُتِي بي النبي -صلى الله عليه وسلم- مَقْدَمَهُ المدينة، فقيل: هذا من بني النجار، وقد قرأ سبع عشرة سورة، فقرأتُ عليه فأعجبه ذلك، فقال: "تعلم كتاب يهودَ، فإني ما آمنهم على كتابي"، ففعلت، فما مضى لي نصف شهر حتى حَذِقتُهُ، فكنت أكتب له إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له. ورواه عبد بن حميد من طريق ثابت بن عبيد، عن زيد بن ثابت، قال: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إني أكتب إلى قوم، فأخاف أن يزيدوا عليّ، أو

ينقصوا، فتَعَلَّمِ السُّرْبانية، فتعلمتها في سبعة عشر يومًا. وروى يعقوب بن سفيان بإسناد صحيح عن الشعبي قال: ذهب زيد بن ثابت ليركب، فأمسك ابن عباس بالركاب، فقال: تَنَحّ يا ابن عَمّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لا، هكذا نفعل بالعلماء والكبراء. وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أفرضكم زيد"، رواه أحمد بإسناد صحيح، وقيل: إنه معلول. ورَوَى ابن سعد بإسناد صحيح قال: كان زيد بن ثابت أحد أصحاب الفتوى، وهم ستة: عمر، وعلي، وابن مسعود، وأُبَيٌّ، وأبو موسى، وزيد بن ثابت. ورُوِي بسند فيه الواقدي من طريق قبيصة قال: كان زيد رأسًا بالمدينة في القضاء والفتوى والقراءة والفرائض، وقال مسروق: قَدِمتُ المدينة، فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم. وقال علي بن زيد بن جُدْعان، عن سعيد بن المسيب: شَهِدتُ جنازة زيد بن ثابت، فلما دُلِّيَ في قبره قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: مَن سَرّه أن يعلم كيف ذَهَاب العلم؟ فهكذا ذهاب العلم، والله لقد دُفن اليوم علم كثير. وقال أبو هريرة -رضي الله عنه- حين مات: مات حبر هذه الأمة، وعسى الله أن يجعل في ابن عباس منه خلفًا. مات زيد سنة اثنتين، أو ثلاث، أو خمس وأربعين، وقيل: سنة إحدى، أو اثنتين، أو خمس وخمسين، وفي خمس وأربعين قول الأكثر، وفضائله كثيرة (¬1). أخرج له الجماعة، روى من الأحاديث (92) حديثًا، اتفق الشيخان على (5) وانفرد البخاريّ بـ (4) ومسلم بحديث واحد، وله في هذا الكتاب (10) أحاديث برقم 77 و230 و 1694 و 2268 و 2269 و 2381 و 2461 و 2823 و 3176 و 4105. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله. ¬

_ (¬1) راجع "الإصابة" 2/ 490 - 492 و"تهذيب التهذيب" 1/ 659 - 660.

2 - (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين إلى أبي سنان. 4 - (ومنها): أن صحابيّه أحد الراسخين في العلم، وأعلم الناس بالفرائض، وكاتب الوحي للنبيّ -صلى الله عليه وسلم-. 5 - (ومنها): أن جملة ما رواه المصنف لكل من زيد بن ثابت -رضي الله عنه-، وإسحاق بن سليمان عشرة أحاديث، ولأبي سنان خمسة، ولوهب بن خالد حديث واحد فقط، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَن) عبد الله (ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ) بفتح الدال المهملة، واللام، بينهما ياء تحتانيّة ساكنة-: نسبة إلى الديلم، وهي بلاد معروفة نُسب إليها خلق كثير من العلماء. قاله السمعانيّ (¬1) (قَالَ: وَقَعَ في نَفْسِي شَيْءٌ) أي حزازة واضطراب عظيم (مِنْ هَذَا الْقَدَرِ) أي لأجل القدر، أي القول به، يريد أنه وقع في نفسه من الشُّبَه لأجل القول بالقدر، أو المراد بالقدر هو القول بنفي القدر الذي هو مذهب القدريّة. قاله السنديّ رحمه الله. (خَشِيتُ) بكسر الشين المعجمة، من باب تَعِبَ، يقال: خَشِيَ خَشْيَةً: خاف، فهو خَشْيان، والمرأة خَشْيَا، مثلُ غضبان وغضبى، وربما قيل: خَشِيتُ بمعنى عَلِمْتُ. قاله في "المصباح" (¬2) (أَنْ يُفْسِدَ) بضم أوله، من الإفساد (عَلَيَّ دِينِي) أي بخروجي من ملّة الإسلام بسبب إنكاره أحد أركان الإيمان، وهو الإيمان بالقدر (وَأَمْرِي) أي أمر الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فحيث يخرج من صفوف المسلمين، ويدخل في صفوف القدريّة الضالين، وأما في الآخرة، فحيث لا ينال درجة المؤمنين الذين استكملوا أركان الإيمان، ويدخلون الجنة (فَأَتَيْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ) -رضي الله عنه-، هو: أُبَيّ بن كعب بن قيس بن عُبيد بن زيد ¬

_ (¬1) راجع "الأنساب" 2/ 527 - 528 و"اللباب" 1/ 524. (¬2) راجع "المصباح المنير" 1/ 170.

بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، أبو المنذر، ويقال: أبو الطفيل المدنيّ، سيد القراء. رَوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وروى عنه عمر بن الخطاب، وأبو أيوب، وأنس بن مالك، وسليمان بن صرد، وسهل بن سعد، وغيرهم. شَهِد بدرًا، والعقبة الثانية. وسماه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- سيّد الأنصار، وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: سيد المسلمين أبي بن كعب. وكان يكتب الوحي للنبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وهو أحد الستة الذين حفظوا القرآن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأحد الفقهاء الستة الذين كانوا يُفتون على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وثبت في "الصحيح" أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك لم يكن الذين كفروا". ورَوَى الترمذيّ حديث أنس الذي فيه: "وأقرؤهم أُبي بن كعب". قال الهيثم بن عدي: مات سنة (19). وقيل: سنة (32) في خلافة عثمان -رضي الله عنه-، وفي موته اختلاف كثير جدًّا، والأكثرون على أنه في خلافة عمر. وروى ابن سعد في الطبقات بإسناد رجاله ثقات، لكن فيه إرسال أن عثمان أمره أن يجمع القرآن، فعلى هذا يكون موته في خلافته، قال الواقدي وهو أثبت الأقاويل عندنا. أخرج له الجماعة، روى (164) حديثًا، اتّفق الشيخان على ثلاثة، وانفرد البخاريّ بأربعة، ومسلم بسبعة، وله في هذا الكتاب (22) حديثًا. (فَقُلْتُ: أَبَا الْمُنْذِرِ) كنية أبيّ -رضي الله عنه- (إِنَّهُ) الضمير للشأن، وهو الذي تفسّره الجملة بعده، وقد تقدّم تمام البحث فيه، فلا تغفل (قَدْ وَقَعَ في نَفْسِي شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْقَدَرِ) تقدّم آنفًا المراد به (فَخَشِيتُ عَلَى دِيني وَأَمْرِي، فَحَدِّثْني مِنْ ذَلِكَ بِشَيْء) أي بحديث مما يتعلّق بمسألة القدر ثبوتًا حتى يزول ذلك منّي (لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَني بِهِ) قال الطيبيّ رحمه الله: أدخَلَ "أن" في خبر "لعلّ" تشبيهًا لها بـ "عسى". ووقع في رواية أبي داود: "بلفظ: "فحدّثني لعلّ الله أن يُذهبه من قلبي". قال الطيبيّ: قال أوّلًا: "في نفسي"، وثانيًا "منْ قلبي" إشعارًا بأن ذلك تمكّن منه،

وأخذ بمجامعه من ذاته وقلبه. انتهى (¬1). قال القاري بعد ذكر كلام الطيبيّ: والأظهر أن الحزازة تنشأ من الخطرات النفسيّة، والثبات والاطمئنان من الصفات القلبيّة. انتهى (¬2). (فَقَالَ) أُبيّ بن كعب -رضي الله عنه- مجيبًا لسؤاله (لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ) من الملائكة المقرّبين (وَأَهْلَ أَرْضِهِ) من الأنبياء والأولياء والصالحين (لَعَذَّبَهُمْ) قال القاري: وفيه إشكال، ودفعه أن الشرطيّة غير لازمة الوقوع. انتهى. وقوله: (وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لهُمْ) جملة في محلّ نصب على الحال: أي والحال أنه غير ظالم لهم في تعذيبهم ذلك؛ لأنه متصرّفٌ في مُلْكِه ومِلْكه، فعذابه عدلٌ، وثوابه فضلٌ. وفيه إرشاد عظيم، وبيان شافٍ لإزالة ما طَلَب منه؛ لأنه هَدَم قاعدة القول بالحسن والقبح عقلًا؛ لأنه مالك السموات والأرض، وما فيهنّ، ويتصرّف في ملكه كيف شاء، ولا يُتصوّر فيه الظلم؛ لأنه تصرّف في ملك غيره، ولا ملك لغيره سبحانه وتعالى أصلًا. أفاده الطيبيّ (¬3). ثم عطف على ما سبق قوله: (وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَته خَيْرًا لهُمْ مِنْ أَعْمَالهِمْ) إيذانًا بأن النجاة من العذاب إنما هي برحمته وفضله، لا بالأعمال الصالحة، وإيجابها إياها؛ إذ هي لا توجبها عليه، كيف، وهي من جملة رحمته بهم، فرحمته إياهم محض فضل منه تعالى عليهم، فلو رحم الأولين والآخرين فله ذلك، ولا يخرج ذلك عن حكمة، غايته أنه أخبر أن المطيعين لهم الثواب، وأن العاصين لهم العقاب، كما هو مثبت في أم الكتاب، فالأمر المقدّر لا يتبدّل، ولا يتغيّر، وهذا هو الصواب في الجواب. قاله القاري (¬4). ¬

_ (¬1) "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 577. (¬2) "المرقاة": 1/ 318. (¬3) "الكاشف" 2/ 577. (¬4) "المرقاة" 1/ 318.

(وَلَوْ كانَ لَكَ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ) بضمّتين: جبل عظيم قرب المدينة النبويّة، معروف، وقعت فيه الوقعة المشهورة (ذَهَبًا) منصوب على التمييز (أَوْ) للشكّ من الراوي: أي أو قال (مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ، تُنْفِقُهُ) بضم أوله، من الإنفاق رباعيّا (في سَبِيلِ اللَّهِ) أي مرضاته، وطريق خيراته، أو المراد الإنفاق في الجهاد (مَا قُبِلَ مِنْكَ) ببناء الفعل للمفعول، وفي رواية أبي داود: "ما قبل الله منك". يعني أن الله سبحانه وتعالى لا يقبل منك ذلك الإنفاق، أو مثل ذلك الجبل، وهو تمثيل على سبيل الفرض، لا تحديد؛ إذ لو فُرض إنفاق ملء السموات والأرض كان كذلك. قاله الطيبي (¬1). وقال السنديّ رحمه الله: قوله: "ما قُبِل منك" يشير إلى أنه لا قبول لعمل المبتدع عند الله تعالى، أو هو مبنيّ على القول بكفر منكره. (حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ) أي بأن جميع الأمور الكائنة خيرها وشرّها، حُلْوها ومُرّها، نفعها وضرّها، قليلها وكثيرها، كبيرها وصغيرها كلّ بقضائه سبحانه وتعالى، وقدره، وإرادته، وأمره، وأنه ليس فيها لهم إلا مباشرة الفعل بقدرة ناشئة من قدرته تعالى، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]. (فَتَعْلَمَ) بالنصب عطفًا على "تؤمن"، وهو شروع في التخصيص بعد التعميم (أَنَّ مَا أَصَابَكَ) من النعمة والبليّة، أو الطاعة والمعصية مما قدّر الله لك، أو عليك (لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ) بضم أوله رباعيّا: أي يَتجاوز عنك، فلا يصيبك، بل لا بدّ من إصابته، والحيل غير نافعة في دفعه، وعنوان "لم يكن ليخطئك" يدلّ على أنه محال أن يخطئك، والوجه في دلالته أن "لم يكن" يدلّ على المضيّ، و"ليُخطئك" يدلّ على الاستقبال بواسطة الصيغة، سيّما مع "أَنْ" المقدّرة، فيدلّ على أنه ما كان قبل الإصابة في الأزمنة الماضية قابلًا لأن يُخطئك في المستقبل بواسطة تقدير الله تعالى وقضائه في الأزل بذلك. (¬2). ¬

_ (¬1) "الكاشف" 2/ 577. (¬2) راجع "شرح السنديّ" 1/ 60.

وقال الطيبيّ رحمه الله: هذا وُضع موضع المحال، كأنه يقول: محالٌ أن يُخطئك، كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} الآية [آل عمران: 179]: أي لا ينبغي، ولا يصحّ، ومحال أن يُطلعكم عليه، لأن فيه ثلاث مبالغات: [أحدها]: دخول اللام المؤكّدة للنفي في الخبر. [وثانيها]: تسليط النفي على الكينونة. [وثالثها]: سرايته في الخبر. قال بعض المغاربة: فائدةُ دخول "كان" المبالغةُ في نفس الفعل الداخلة عليه؛ لتعديد جهته لنفيه عمومًا باعتبار الكون، وخصوصًا باعتبار الخبر، فهو نفي مرّتين. انتهى. كأنه أشير إلى أن هذا الفعل من الشئون التي عدمها راجح على الوجود، وأنها من قبيل المحال، ومنه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} الآية [الأنفال: 33]. انتهى كلام الطيبيّ (¬1). (وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ) أي من الخير والشرّ (لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ) قال الطيبيّ رحمه الله: الخطأ: العدول عن الجهة، ومن أراد شيئًا، واتّفق غيره يقال: أخطأ، وإن وقع منه كما أراده، يقال: أصاب. انتهى (¬2). (وَأَنَّكَ إِنْ مُتَ) ولفظ أبي داود: "ولو متّ"، وهو بضم الميم وكسرها، يقال: مات يموت موتًا، من باب نصر، ومات يَمَات من باب خاف يخاف، ويقال أيضًا مِتُّ بالكسر أموتُ بالضمّ لغة ثالثة، وهي من تداخل اللغتين. قاله في "المصباح" (¬3) (عَلَى غَيْرِ هَذَا) أي على اعتقاد غير هذا الذي ذكرت لك من الإيمان بالقدر (دَخَلْتَ النَّارَ) قال القاري رحمه الله: يحتمل هذا الوعيد، ويحتمل التهديد. انتهى (¬4) (وَلَا عَلَيْكَ) أي ¬

_ (¬1) "الكاشف" 2/ 577. (¬2) "الكاشف" 2/ 578. (¬3) "المصباح المنير" 2/ 583. (¬4) "المرقاة" 1/ 319.

ليس عليك حرج (أَنْ تَأْتِيَ أَخِي) أراد به أخوّة الإسلام؛ لأنه ليس بينهما نسبٌ؛ لأن أُبيّ ابن كعب -رضي الله عنه- أنصاريّ خزرجيّ، وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- مهاجريّ هُذَليّ (عَبْدَ اللَّهَ بْنَ مَسْعُودٍ) الصحابيّ المشهور صاحب السجادة، والمِخَدّة، والنعلين، والطهور، تقدّمَت ترجمته في 2/ 19 (فَتَسْأَلَهُ) أي عما سألتني عنه ليتأكّد لك الجواب، وهذا فيه أن أبيّا -رضي الله عنه- يعلم أن ابن مسعود -رضي الله عنه- لا يخالفه فيه، حيث إنه من الأمور المسلّمة لدى الصحابة -رضي الله عنهم-، فإنهم مجمعون على وجوب الإيمان بالقدر. قال ابن الديلميّ رحمه الله (فَأَتَيْتُ عَبْدَ اللَّه) أي ابن مسعود -رضي الله عنه- (فَسَأَلْتُهُ، فَذَكَرَ) أي ابن مسعود -رضي الله عنه- (مِثْلَ مَا قَالَ أُبَيّ) بن كعب -رضي الله عنه-، أي مثل جوابه في سؤالي له (وَقَالَ) أي ابن مسعود -رضي الله عنه- (لِي: وَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَأْتِيَ حُذَيْفَةَ) بن اليمان الصحابيّ الجليل، صاحب سرّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد ثبت في "صحيح مسلم" أنه -صلى الله عليه وسلم- أعلمه بما كان وما يكون إلى أن تقوم الساعة، وأبوه أيضًا صحابيّ، واسمه حِسْل بكسر فسكون، أو حُسيل مصغّرًا، واليمان لقبه، استُشهِد بأحد رضي الله عنهما، وقد تقدّمت ترجمة حذيفة -رضي الله عنه- في 7/ 49 (فَأَتَيْتُ حُذيْفَةَ) -رضي الله عنه- (فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَا) أي أبيّ وابن مسعود رضي الله عنهما (وَقَالَ) أي حذيفة -رضي الله عنه- (ائْتِ زيْدَ بْنَ ثَابِتٍ) -رضي الله عنه-، سبقت ترجمته مع رجال الإسناد (فَاسْأَلْهُ، فَأَتيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ) أي زيد -رضي الله عنه- (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "لَوْ أَنَّ اللَّه عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ، لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لهُمْ مِنْ أَعْمَالهِمْ، وَلَوْ كَانَ لَكَ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، أَوْ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا، تُنْفِقُهُ في سَبِيلِ اللَّه، مَا قَبِلَهُ مِنْكَ حَتَى تُؤْمِنَ بالْقَدَرِ كُلِّهِ، فَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لم يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَأَنَّكَ إِنْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ") فظهر بهذا أن حديث الثلاثة: أُبيّ، وابن مسعود، وحُذيفة -رضي الله عنهم- موقوفٌ، وحديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه- مرفوع. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه- هذا صحيح. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا بهذا السند فقط، وأخرجه (أبو داود) (4699) و (أحمد) في "مسنده" (5/ 182 و 185 و 189) و (عبد بن حميد) في "مسنده" (247) و (ابن أبي عاصم) في "السنة" (245) و (ابن حبان) في "صحيحه" (727) و (الآجرّيّ) في "الشريعة" (187) و (الطبرانيّ) في "الكبير" (4940) و (البيهقيّ) في "السنن الكبرى" 10/ 204. والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان وجوب الإيمان بالقدر، فيجب على العبد أن يؤمن أن كلّ شيء بقدر، وأن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. 2 - (ومنها): عناية السلف بطلب العلم، ولا سيّما ما يتعلّق بالعقائد. 3 - (ومنها): أنه ينبغي للشخص إزالة ما يعتري قلبه من الشكوك والشبهات بسؤال أهل العلم؛ لأن الشك والشبهة ظلمات، والعلم نور، ولا يزيل الظلمات إلا النور. 4 - (ومنها): أنه ينبغي الخوف والقلق مما يصيب القلب من الانحرافات؛ لأنه يفسد الدين والدنيا. 5 - (ومنها): أن في سؤال ابن الديلميّ رحمه الله هؤلاء الصحابة واحدًا بعد واحد، واتفاقهم في الجواب من غير تغيير، ثم انتهاء الجواب إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- دليلٌ على الإجماع المستند إلى النصّ الجليّ، انظر إلى هذه التشديدات والمبالغات، ثم احكم على من

خالفها بالمكابرة والعناد الصريح. أفاده الطيبيّ رحمه الله (¬1). 6 - (ومنها): أنه ينبغي للعالم إذا رأى من المستفتي قَلَقًا أن يرشده بعد أن يفتيه إلى عالم غيره ليزول عنه قلقه، ويطمئنّ قلبه أتمّ اطمئنان. 7 - (ومنها): أنه لا يتصوّر الظلم في تصرّف الله سبحانه وتعالى في خلقه؛ لأنهم ملكه، يفعل فيهم ما يشاء، ويحكم فيهم بما يريد، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]. 8 - (ومنها): أن الأعمال ليست موجبة للنجاة من النار ودخول الجنة، بل ذلك بمحض فضل الله ورحمته، كما سبق حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- المتفق عليه مرفوعًا: "لن يدخل أحدًا عمله الجنة"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: "لا ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة ... " الحديث. 9 - (ومنها): أن من لم يؤمن بالقدر لا يُقبل عمله الصالح؛ لأنه مبتدع، وليس من المتقين، وقد قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]. 10 - (ومنها): أن فيه الحثّ على التوكل والرضا، ونفي الحول والقوّة إلا بالله، وملازمة القناعة والصبر على المصائب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 78 - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ... (ح) وحَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَعْدِ ابْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالِب، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَبِيَدِهِ عُودٌ، فَنكَتَ في الْأَرْضِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الجنَّةِ، وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ"، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّه، أَفلَا نَتَّكِلُ؟ قَالَ: "لَا ¬

_ (¬1) "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 578.

اعْمَلُوا، وَلَا تَتَّكِلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لمَا خُلِقَ لَهُ"، ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10]). رجال هذا الإسناد: سبعة: 1 - (عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن إبراهيم بن عثمان العبسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقة حافظ شهير [10] 5/ 40. 2 - (سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ) السُّلَميّ (¬1)، أبو حمزة الكوفي، ثقة [3]. روى عن المغيرة بن شعبة، وابن عمر، والبراء بن عازب، وحِبّان بن عطية، والمستورد بن الأحنف، وأبي عبد الرحمن السُّلَميّ، وكان خَتَنَه على ابنته. وروى عنه الأعمش، ومنصور، وفِطْرُ بن خليفة، وحصين، وأبو حَصِين، والحكم بن عتيبة، وزُبيد اليامي، وعمرو بن مرة، وعلقمة بن مرثد، وأبو مالك الأشجعي، وجماعة. قال ابن معين، والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: كان يرى رأي الخوارج، ثم تركه، يكتب حديثه. قال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال العجلي: تابعيّ ثقة. وقال ابن سعد، وابن حبّان، والكلاباذيّ: مات في ولاية عمر ابن هُبيرة على العراق. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط برقم 78 و 211 و 897 و 1351 و 4269. 3 - (أبو عبد الرحمن السُّلَميّ) هو: عبد الله بن حبيب بن رُبَيِّعة الكوفيّ المقرىء، ثقة ثبتٌ، ولأبيه صحبة، تقدّم في 2/ 20. ¬

_ (¬1) بضم السين المهملة، وفتح اللام: نسبة إلى سُليم قبيلة مشهورة. قاله في "لب اللباب" 2/ 23.

4 - (علي بن أبي طالب) الخليفة الراشد -رضي الله عنه- تقدّم في 2/ 20. والباقون تقدّموا قبل حديث. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله رجاله الصحيح، غير شيخه عليّ بن محمد، فإنه من رجال الأربعة، وهو ثقة. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين. 4 - (ومنها): أن سعد بن عُبيدة هذا أول محلّ ذكره في هذا الكتاب، وله فيه خمسة أحاديث فقط، كما بينتها آنفًا. 5 - (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض: الأعمش عن سعد، عن أبي عبد الرحمن. 6 - (ومنها): أن صحابيّه أحد الخلفاء الأربعة، والعشر المبشّرين بالجنة، وهو جمّ المناقب -رضي الله عنه-، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ) ووقع عند البخاريّ في "التفسير" من طريق شعبة، عن الأعمش، سمعت سعد بن عبيدة، فصرّح بالسماع (عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) عبد الله بن حَبيب (السُّلَمِيِّ) -بضم السين المهملة، وفتح اللام: نسبة إلى سُليم قبيلة مشهورة. قاله في "لب اللباب" 2/ 23. (عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) -رضي الله عنه-، وفي رواية مسلم البطين، عن أبي عبد الرحمن السلميّ: "أخذ بيدي عليّ، فانطلقنا نمشي حتى جلسنا على شاطىء الفرات، فقال علي: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ... " فذكر الحديث مختصرًا. (قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا) جمع جالس، وفي رواية عبد الواحد، عن الأعمش: "كنا قعودا"، وزاد في رواية سفيان الثوري، عن الأعمش: "كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في بقيع الْغَرْقَد

-بفتح الغين المعجمة والقاف، بينهما راء ساكنة- في جنازة"، قال الحافظ: ظاهره أنهم كانوا جميعا شهدوا الجنازة، لكن أخرجه البخاريّ في "الجنائز" من طريق منصور، عن سعد بن عبيدة، فبين أنهم سبقوا بالجنازة، وأتاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك، ولفظه: "كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقعد، وقعدنا حوله". (عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَبِيَدِهِ عُودٌ) بضم العين المهملة، وسكون الواو: الخشب، وجمعه أعواد (فَنكَتَ في الْأَرْضِ) أي ضرب فيها ضربًا أثّر فيها، قال في "القاموس": النّكْتُ -أي بفتح، فسكون-: أن تضرب في الأرض بقَضِيب، فيؤثّر فيها. انتهى. وفي رواية البخاريّ: "ومعه عود ينكت به في الأرض"، وفي رواية: "ومعه مِخْصَرة" -بكسر الميم، وسكون المعجمة، وفتح الصاد المهملة-: هي عصًا، أو قضيب يمسكه الرئيس ليتوكأ عليه، ويدفع به عنه، ويشير به لما يريد، وسميت بذلك لأنها تُحمَل تحت الْخِصْر غالبًا للإتكاء عليها. وفي اللغة اختصر الرجل: إذا أمسك المخصرة. (ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ) أي بعد تنكيسه، ففي رواية البخاريّ: "فنكس"، وهو بتشديد الكاف أي أطرق. (فَقَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) زاد في رواية عند البخاريّ: "ما من نفس منفوسة": أي مصنوعة مخلوقة (إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ) أي موضع قعوده (مِنَ الجنَّةِ، وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ) قال الطيبيّ: كنى به عن كونه من أهل الجنّة أو النار باستقراره فيها، والواو المتوسّطة بينهما لا يُمكن أن تجري على ظاهرها، فإن "ما" النافية، و"من" الاستغراقيّة تقتضيان أن يكون لكلّ أحد مقعده من النار، ومقعده من الجنة، وإن ورد في حديث آخر هذا المعنى إلا أن التفصيل (¬1) الآتي يأبى حمله على ذلك، فيجب أن يقال: إن الواو بمعنى "أو". انتهى (¬2). ¬

_ (¬1) وقع في النسخة "لأن التفصيل الخ" لكن الظاهر أن صوابه: "إلا أن التفصيل الخ، فليُتأمّل. (¬2) "الكاشف" 2/ 537.

ووقع في البخاريّ بلفظ: "إلا قد كُتب مقعده من النار، أو من الجنة"، قال في "الفتح": "أو" للتنويع، قال: وفي رواية منصور: "إلا كتب مكانها من الجنة والنار"، وزاد فيها: "وإلا وقد كُتبت شقيةً أو سعيدةً، وإعادة "إلا" يحتمل أن يكون "ما من نفس" بدل "ما منكم"، و"إلا" الثانية بدلًا من الأولى، وأن يكون من باب اللف والنشر، فيكون فيه تعميم بعد تخصيص، والثاني في كُلٍّ منهما أعم من الأول، أشار إليه الكرماني. انتهى (¬1). (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّه) وفي رواية البخاريّ: "فقال رجل من القوم"، وفي رواية له: "فقالوا"، والرجل القائل هو سُراقة بن مالك بن جُعْشُم، فقد أخرجه المصنف برقم (91) عن مجاهد عن سراقة بن جعشم، قال: قلت: يا رسول الله العمل فيما جف به القلم، وجرت به المقادير، أم في أمر مُستقبل؟ قال: "بل فيما جف به القلم، وجرت به المقادير، وكل ميسر لما خلق له". وفي رواية مسلم من حديث جابر -رضي الله عنه- عند مسلم قال: "جاء سراقة، فقال: يا رسول الله أَنَعْمَل اليوم فيما حُفّت به الأقلام، وجرت به المقادير، أو فيما يُستَقبَل؟ قال: بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير، فقال: ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له"، وأخرجه الطبراني، وابن مردويه نحوه، وزاد: "وقرأ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} إلى قوله: {لِلْعُسْرَى}. ووقع هذا السؤال وجوابه سوى تلاوة الآية لشُرَيح بن عامر الكلابيّ، أخرجه أحمد والطبراني، ولفظه: قال: ففيم العمل إذًا؟ قال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له"، وأخرج الترمذي من حديث ابن عمر قال: قال عمر: يا رسول الله أرأيت ما نَعمَل فيه أمر مُبتَدَعٌ، أو أمر قد فُرِغ منه؟ قال: "فيما قد فُرِغ منه ... "، فذكر نحوه، وأخرج البزار، والفريابيّ، من حديث أبي هريرة: أن عمر قال: يا رسول الله ... فذكره، وأخرجه أحمد، ¬

_ (¬1) "الفتح" 11/ 605.

والبزار، والطبراني من حديث أبي بكر الصديق، قلت: يا رسول الله، نعمل على ما فُرغ منه ... الحديث نحوه، ووقع في حديث سعد بن أبي وقاص، فقال رجل من الأنصار. والجمع بين هذه الروايات أن يُحمل على تعدد السائلين عن ذلك، فقد وقع في حديث عبد الله بن عمرو أن السائل عن ذلك جماعة، ولفظه: فقال أصحابه: ففيم العمل إن كان قد فُرغ منه؟ فقال: "سَدِّدُوا، وقاربوا، فإن صاحب الجنة يُختَم له بعمل أهل الجنة، وإن عَمِلَ أيَّ عملٍ ... " الحديث. أخرجه الفريابيّ. ذكره في "الفتح" (¬1). (أَفَلَا نَتَّكِلُ؟) أي أفلا نعتمد على ما كُتب لنا في الأزل، ونترك العمل؟ يعني أنه إذا سبق القضاء لكل واحد منّا بالجنة أو النار، فأيّ فائدة في السعي، فإنه لا يردّ قضاء الله وقدره. وقال في "الفتح": الفاء مُعَقِّبةٌ لشيء محذوف تقديره: فإذا كان كذلك، أفلا نتكل، وفي رواية للبخاريّ: "ألا نتكل يا رسول الله"، وفي رواية: "أفلا نتكل على كتابنا، وندع العمل": أي نعتمد على ما قُدِّر علينا، وزاد في رواية: "فمن كان منا من أهل السعادة، فيصير إلى عمل السعادة، ومن كان منا من أهل الشقاوة مثله". وقال السنديّ رحمه الله في "شرحه": قوله: "أفلا نتكل": ما حاصله: أي إذا كان العمل لا يردّ القضاء والقدر السابق، فلا فائدة فيه، فنبّه بالجواب عنه أن الله تعالى دبّر الأشياء على ما أراد، وربط بعضها ببعض، وجعلها أسبابًا ومسبّبات، ومن قدّره من أهل الجنّة قدّر له ما يُقرّبه إليها من الأعمال، ووفقه لذلك، بإقداره، ويُمكّنه منه، ويُحرّضه عليه بالترغيب والترهيب، ومن قدّر أنه من أهل النار قدّر له خلاف ذلك، وخذَلَهُ حتى اتّبع هواه، وترك أمر مولاه. والحاصل أنه جعل الأعمال طريقًا إلى نيل ما قدّره له من جنة أو نار، فلا بدّ من المشي في الطريق، وبواسطة التقدير السابق يتيسّر ذلك المشي لكلٍّ في طريقه، ويَسهلُ ¬

_ (¬1) "الفتح" 11/ 605.

عليه، وتلا الآية للاستشهاد على أن التيسير منه تعالى. انتهى (¬1). (قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (لَا) أي لا تتكلوا (اعْمَلُوا) وقوله: (وَلَا تَتَكلُوا) تأكيد لـ "لا" (فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لمِا خُلِقَ لَهُ) أي مهيّأٌ، ومصروف إليه. وزاد في رواية البخاريّ: "أما من كان من أهل السعادة، فيُيَسَّر لعمل السعادة ... " الحديث، وفي رواية: قال: "أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة ... " الحديث. وحاصل السؤال: ألا نترك مشقة العمل، فإنا سنصير إلى ما قُدّر علينا. وحاصل الجواب: لا مشقة؛ لأن كل أحد ميسر لما خُلق له، وهو يسير على من يسره الله سبحانه وتعالى. قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: حاصل هذا السؤال أنه إذا وجبت السعادة والشقاوة بالقضاء الأزليّ، والقدر الإلهيّ، فلا فائدة للتكليف، ولا حاجة بنا إلى العمل، فنتركه، وهذه أعظم شُبَه النافين للقدَر، وقد أجابهم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بما لا يَبْقَى معه إشكال، فقال: "اعملوا، فكلّ ميسّر لما خُلق له"، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} الآيات [الليل: 5 - 6]. ووجه الانفصال أن الله تعالى أمرنا بالعمل، فلا بُدّ من امتثال أمره، وغَيّب عنا المقادير لقيام حجته وزجره، ونصب الأعمال علامة على ما سبق في مشيئته، وحكمته، وعزّه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} لا يبقى معها لقائل مقول، وقهر {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] يضع له المتكبّرون، قال: ومورد التكليف فعل الأخيار، وذلك ليس مناقضًا لما سَبَقت به الأقدار. انتهى (¬2). وقال الطيبي رحمه الله: الجواب من الأسلوب الحكيم، منعهم -صلى الله عليه وسلم- عن الاتكال، وترك العمل، وأمرهم بالتزام ما يجب على العبد من امتثال أمر مولاه، وهو عبوديته عاجلًا، وتفويض الأمر إليه آجلًا، يعني أنتم عبيد، ولا بُدّ لكم من العبوديّة، فعليكم ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 60 - 61. (¬2) "المفهم" 6/ 658 "كتاب القدر".

بما أُمرتم به، وإياكم والتصرّف في الأمور الإلهيّة؛ لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فلا تجعلوا العبادة وتركها سببا مستقلا لدخول الجنة والنار، بل هي أمارات وعلامات لها، ولا بدّ في الإيجاب من لطف الله وكرمه أو خذلانه، كما ورد: "لن يدخل أحدكم عمله الجنة"، والفاء في {فَسَنُيَسِّرُهُ} تُفصح عن هذه المقدّرات. انتهى كلام الطيبيّ (¬1). (ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى}) أي حقوق ماله {وَاتَّقَى} أي ربه، فاجتنب محارمه، وقيل: اتقى البخلَ {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} أي بالملة الحسنى، وهي ملة الإسلام، أو بالمثوبة الحسنى، وهي الجنة، أو بالكلمة الحسنى، وهي لا إله إلا الله {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} أي نهيّئه، ونُهَوّن عليه الخَلّة اليسرى، وهي العمل الصالح، والخير الراجح. وقيل: الجنّة {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ} أي بماله، وقيل: بحقّ الله، وهو قريب مما قبله {وَاسْتَغْنَى} عن ربّه، فلم يتّقه، أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم العقبى {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} أي بالإسلام، أو الجنة {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} أي للْخَلَّة المؤدّية إلى النار، فتكون الطاعة أعسر شيء عليه، وأشدّ، أو سَمّى طريق الخير باليسرى؛ لأن عاقبتها اليسر، وطريق الشرّ بالعسرى؛ لأن عاقبتها العسر، أو أراد بهما طريق الجنة والنار (¬2). وزاد في البزار بعد أن ساق الآيات: "فقال القوم بعضهم لبعض: فالجِدّ إذًا"، وأخرجه الطبراني في آخر حديث سراقة، ولفظه: "فقال: يا رسول الله ففيم العمل؟ قال: كل ميسر لعمله، قال: الآن الجدّ، الآن الجدّ"، وفي آخر حديث عمر عند الفريابي: "فقال عمر: ففيم العمل إذا؟، قال: كلٌّ لا يُنال إلا بالعمل، قال عمر: إذًا نجتهد"، وأخرج الفريابي بسند صحيح إلى بُشير بن كعب أحد كبار التابعين قال: "سأل غلامان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيم العمل، فيما جَفّت به الأقلام، وجرت به المقادير، أم شيء نَستأنفه؟ ¬

_ (¬1) "الكاشف" 2/ 538. (¬2) راجع "تفسير النسفي" 4/ 362 و"المفهم" 6/ 658 - 659.

قال: بل فيما جفت به الأقلام، قالا: ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما هو عامل، قالا: فالجد الآن". ذكره في "الفتح" (¬1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (78) وأخرجه (البخاريّ) في "الجنائز" (1362) و"التفسير" (4945) و (4946) و (4947) و (4948) و"الأدب" (6217) و"القدر" (6605) و"التوحيد" (7552) و (مسلم) في "القدر" (6663) و (6674) و (6674) و (6675) و (6676) و (أبو داود) في "السنّة" (4694) و (الترمذيّ) في "القدر" (2136) و (عبد الرزاق) (20074) و (أحمد) 1/ 82 و 129 و 132 و 140 و 157 و (عبد بن حميد) (84) و (ابن حبان) في "صحيحه" (334) و (335) و (الآجريّ) في "الشريعة" (171) و (البيهقيّ) في "الاعتقاد" (86) و (87) و (البغويّ) في "السنّة" (72)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو وجوب الإيمان بالقدر. 2 - (ومنها): جوازُ القعود عند القبور، والتحدث عندها بالعلم والموعظة، وقال المهلب: نَكْتُهُ الأرض بالْمِخْصرة أصل في تحريك الإصبع في التشهد، نقله ابن بطال، وهو بعيد، وإنما هي عادة لمن يتفكر في شيء يستحضر معانيه، فيحتمل أن يكون ذلك تفكرا منه -صلى الله عليه وسلم- في أمر الآخرة بقرينة حضور الجنازة، ويحتمل أن يكون فيما أبداه بعد ذلك ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 11/ 606.

لأصحابه من الحكم المذكورة، ومناسبته للقصة أن فيه إشارةً إلى التسلية عن الميت بأنه مات بفراغ أجله. 3 - (ومنها): أن هذا الحديث أصل لأهل السنة في أن السعادة والشقاء بتقدير الله القديم. 4 - (ومنها): أن فيه رَدًّا على الجبرية؛ لأن التيسير ضد الجبر؛ لان الجبر لا يكون إلا عن كره، ولا يأتي الإنسان الشيء بطريق التيسير إلا كاره له. 5 - (ومنها): أن أفعال العباد، وإن صدرت عنهم، لكنها قد سبق علم الله بوقوعها بتقديره، ففيها بطلان قول القدرية صريحًا. 6 - (ومنها): أنه استُدِلَّ به على إمكان معرفة الشقي من السعيد في الدنيا، كمن اشتَهَر له لسان صدق وعكسه؛ لأن العمل أمارة على الجزاء على ظاهر هذا الخبر. ورُدَّ بما تقدم في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-، وأن هذا العمل الظاهر قد ينقلب لعكسه على وفق ما قُدَّرَ. والحق أن العمل علامةٌ وأمارةٌ، فيحكم بظاهر الأمر، وأمرُ الباطن إلى الله تعالى. قال الطيبيّ نقلًا عن الخطابي: إن قول الصحابيّ هذا مطالبة بأمر يوجب تعطيل العبوديّة، فلم يُرخّص -صلى الله عليه وسلم- له، وذلك أن إخبار الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن سابق الكتاب، إخبار عن غيب علم الله تعالى فيهم، وهو حجة عليهم، فرام القوم أن يتخذوه حجة لأنفسهم في ترك العمل، فأعلمهم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أن هنا أمرين محُكَمين، أحدهما لا يُبْطِلُ الآخر، باطن، وهو الحكمة الموجبة في حكم الربوبية، وظاهر، وهو السمة اللازمة في حق العبودية، وهو أمارة ومُخَيَّلةٌ، غير مفيدة حقيقة العلم، ويشبه أن يكون -والله أعلم- إنما عوملوا بهذه المعاملة، وتُعُبِّدوا بهذا التعبّد؛ ليتعلّق خوفهم ورجاؤهم بالباطن، وذلك من صفة الإيمان، وبَيَّنَ -صلى الله عليه وسلم- لهم أن كلا ميسر لما خُلق له، وأن عمله في العاجل دليلُ مصيره في الآجل، وتلا قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}، {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} [الليل: 5 - 8] وهذه الأمور في حكم الظاهر،

ومن وراء ذلك حكم الله تعالى فيهم، وهو الحكيم الخبير: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]. واطلب نظير ذلك من أمرين: الرزق المقسوم مع الأمر بالكسب، والأجل المضروب مع المعالجة بالطبّ، فإنك تجد المعتبر فيهما علّة موجبة، والظاهر البادي سببًا مُخيّلا، وقد اصطلح الناس خواصهم وعوامهم على أن الظاهر منها لا يُترك بالباطن. انتهى (¬1). وقال الخطابيّ في "معالم السنن": هذا الحديث إذا تأملته أصبت منه مما يتخالج في الضمير من أمر القدر، وذلك أن القائل: "أفلا نتكل، وندع العمل" لم يترك شيئًا مما يَدخُل في أبواب المطالبات والأسئلة الواقعة في التجويز والتعديل إلا وقد طالب به، وسأل عنه، فأعلمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن القياس في هذا الباب متروك، والمطالبة عليه ساقطة، وأنه لا يشبه الأمور المعلومة التي قد عُقلت معانيها، وجَرَت معاملات البشر فيما بينهم عليها، وأخبر أنه إنما أمرهم بالعمل ليكون أمارة في الحال العاجلة لما يصيرون إليه في الحال الآجلة، فمن تيسّر له العمل الصالح كان مأمولًا له الفوز، ومن تيسّر له العمل الخبيث كان مخوفًا عليه الهلاك. وهذه أمارات من جهة العلم الظاهر، وليست بموجبات، فإن الله سبحانه وتعالى طَوَى علم الغيب عن خلقه، وحجبهم عن دَرْكه، كما أخفى عنهم أمر الساعة، فلا يَعلَم أحد متى إِبّانُ قيامها، ثم أخبر على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- بعض أماراتها وأشراطها، فقال: "من أشراط الساعة أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان"، ومنها كيت وكيت. انتهى كلام الخطابيّ ببعض تصرّف (¬2). وقال غيره وجه الانفصال عن شبهة القدرية أن الله أمرنا بالعمل، فوجب علينا ¬

_ (¬1) راجع "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 538 - 539. (¬2) راجع "معالم السنن" 8/ 62 - 63.

الامتثال، وغيّب عنّا المقاديرَ لقيام الحجة، ونَصَبَ الأعمالَ علامةً على ما سبق في مشيئته، فمن عَدَلَ عنه ضَلَّ وتاه؛ لأن القدر سر من أسرار الله، لا يَطَّلِع عليه إلا هو، فإذا أدخل أهل الجنةِ الجنةَ، كشف لهم عنه حينئذ (¬1). والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 79 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّه بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ، وَأَحَبُّ إِلَى اللَّه مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِص عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَلَا تَعْجَزْ، فَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّه، وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ "لَوْ" تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ"). رجال هذا الإسناد: سبعة: 1 - (أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد الحافظ الثبت [10] تقدم في 1/ 1. 2 - (عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيُّ) المذكور في الحديث الماضي. 3 - (عَبْدُ اللَّه بْنُ إِدْرِيسَ) الأوديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقة فقيه عابدٌ [8] تقدّم 7/ 52. 4 - (رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ) بن ربيعة بن عبد الله بن الْهُدَير التيميّ، أبو عثمان المدني، صدوقٌ له أوهامٌ [6]. أرسل عن سهل بن سعد، وروى عن زيد بن أسلم، وعامر بن عبد الله بن الزبير، ومحمد بن يحيى بن حَبّان، وابن المنكدر، ونافع، وهشام بن عروة. ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 11/ 606.

وروى عنه ابن عجلان، وهو من أقرانه، وابن المبارك، وابن إدريس، وابن أبي فُديك، ووكيع، وغيرهم. قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وقال أبو زرعة: إلى الصدق ما هو، وليس بذاك القوي. وقال أبو حاتم: منكر الحديث، يُكتب حديثه. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن سعد عن الواقدي: وكان ثقةً، قليل الحديث، وكان فيه عسر. وقال ابن وَضّاح: سمعت ابن نمير يقول: ربيعة بن عثمان ثقة. وقال مسعود السجزي عن الحاكم: كان من ثقات أهل المدينة، ممن يُجمَع حديثه. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: أمه أم يحيى بنت المنكدر. وقال الواقدي: مات سنة (154)، وهو ابن سبع وسبعين سنة، وكذا أرخه ابن حبان في "الثقات". أخرج له مسلم، والنسائيّ في "عمل اليوم والليلة"، والمصنّف، وله عندهم هذا الحديث فقط. ووقع له ذكر في "صحيح البخاري" ضمنًا في أَثَرٍ عَلّقَه. 5 - (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ) -بفتح المهملة، وتشديد الموحّدة- ابن مُنْقِذ بن عمرو بن مالك بن خنساء بن مَبْذُول بن عمرو بن غَنْم بن مازن بن النجار الأنصاري المازنيّ، أبو عبد الله الأنصاريّ المدنيّ، ثقة فقيه [4]. روى عن أبيه، وعمه واسع، ورافع بن خَديج، وأنس، وعَبّاد بن تميم، ويحيى بن عمارة بن أبي حسن الأنصاري، والأعرج، وعمرو بن سليم الزُّرَقي، وغيرهم. وروى عنه الزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعبد ربه بن سعيد، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وربيعة بن عثمان التيمي، وابن عجلان، وابن إسحاق، ومالك، وآخرون. قال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الواقدي: كانت له حلقة في مسجد المدينة، وكان يفتي، وكان ثقة، كثير الحديث، مات بالمدينة سنة إحدى وعشرين ومائة، وهو ابن أربع وسبعين سنة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا.

6 - (الْأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز الأعرج، أبو داود المدنيّ، مولى ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، ثقة ثبتٌ عالم بالأنساب والعربيّة [3]. روى عن أبي هريرة، وأبي سعيد، وعبد الله بن مالك ابن بُحينة، وابن عباس، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، ومعاوية بن أبي سفيان، وخلق كثير. وروى عنه زيد بن أسلم، وصالح بن كيسان، والزهري، وأبو الزبير، ويحيى بن سعيد، وربيعة، وموسى بن عقبة، وعمرو بن أبي عمرو، وأبو الزناد عبد الله بن ذكوان، وأيوب، وجعفر بن ربيعة، وسعد بن إبراهيم، ومحمد بن يحيى بن حَبّان، وغيرهم. وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث. وقال المُقَدَّميُّ: سئل ابن المديني عن أعلى أصحاب أبي هريرة، فبدأ بابن المسيب، وذكر جماعة، قيل له: فالأعرج؟ قال: دون هؤلاء، وهو ثقة. وقال العجلي: مدني تابعيّ ثقة. وقال أبو زرعة، وابن خِرَاش ثقة. وقال ابن عيينة: قال أبو إسحاق: قال أبو صالح، والأعرج: ليس أحد يُحدّث عن أبي هريرة إلا علمنا أصادق هو أم كاذب. وقال ابن حبان في "الثقات": كنيته أبو داود. وقد قيل: أبو حازم. وقد قيل: إن اسم أبيه كيسان، فقال غندر: ثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند، ثنا عبد الرحمن بن كيسان الأعرج. وقال الحاكم أبو أحمد: عبد الرحمن بن هُرْمز، ويقال: كيسان. وقال الداني: رَوَى عنه القراءة عَرْضًا نافع بن أبي نُعَيم. وقال ابن لَهِيعة عن أبي النضر: كان الأعرج عالمًا بالأنساب والعربية. قال ابن يونس وغير واحد: مات بالإسكندرية سنة سبع عشرة ومائة. وقال الفلاس وغيره: مات سنة (11) وهو وَهَمٌ، والأصح الأول. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (47) حديثًا. 7 - (أبو هريرة) -رضي الله عنه- تقدّم في 1/ 1، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه عليّ بن محمد، فإنه من أفراده

والنسائي في "مسند عليّ"، وهو ثقة. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات المدنيين من ربيعة، والباقون كوفيون. 4 - (ومنها): ربيعة، ومحمد بن يحيى، والأعرج هذا أول محل ذكرهم من الكتاب، وجملة ما رواه المصنّف لمحمد (11) حديثًا، وللأعرج (47) حديثًا، ولربيعة هذا الحديث فقط. 5 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ محمد بن يحيى عن الأعرج. 6 - (ومنها): أن صحابيّه -رضي الله عنه- أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ) القادر على تكثير الطاعة، وهو مبتدأ خبره قوله (خَيْرٌ) وقوله: (وَأَحَبُّ إِلَى اللَّه) عطفٌ تفسير لـ "خير" (مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ) متعلّق بـ "أحبّ": أي العاجز عن تكثير الطاعة. وقال النوويّ رحمه الله: المراد بالقوة هنا عزيمةُ النفس والقريحة في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقدامًا على العدوّ في الجهاد، وأسرع خروجًا إليه، وذهابًا في طلبه، وأشد عزيمةً في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاقّ في ذات الله تعالى، وأرغب في الصلاة والصوم والأذكار وسائر العبادات، وأنشط طلبًا لها، ومحافظةً عليها، ونحو ذلك. انتهى (¬1). وقال القرطبيّ رحمه الله: المؤمن القويّ البدن والنفس الماضي العزيمة الذي يصلح للقيام بوظائف العبادات من الصوم، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على ما يُصيبه في ذلك، وغير ذلك مما يقوم به الدين، وتنهَض به كلمة المسلمين، فهذا هو الأفضل والأكمل، وأما من لم يكن كذلك من ¬

_ (¬1) "شرح مسلم" 16/ 215.

المؤمنين، ففيه خيرٌ من حيث كان مؤمنًا، قائمًا بالصلوات، مكثّرًا لسواد المسلمين، ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: "وفي كلّ خيرٌ"، لكنه قد فاته الحظّ الأكبر، والقام الأفخر. انتهى (¬1). وقال الطيبيّ رحمه الله: قيل: أراد بالمؤمن القويّ الذي قوي في إيمانه، وصَلُب في إيقانه بحيث لا يرى الأسباب، ووثق بمسبّب الأسباب، والمؤمن الضعيف بخلافه، وهو أدنى مراتب الإيمان. قال: ويمكن أن يُذهَب إلى اللفّ والنشر، فيكون قوله: "احرص على ما ينفعك" بيانًا للقويّ، وقوله: "ولا تعجز" بيانًا للضعيف. انتهى (¬2). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "لا يرى الأسباب" إن أراد أنه لا يعتمد على الأسباب، فمسلّم، وإن أراد أنه لا يأخذ بالأسباب أصلًا، فهذا لا مدح فيه؛ لأنه خلاف هدي النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فإنه -صلى الله عليه وسلم- كان يأخذ بالأسباب، ويحثّ عليه، وهو سيّد المتوكلين. وبالجملة فالواجب على العبد أن يأخذ بالأسباب، ولا يعتمد عليها، بل يعتمد على الله سبحانه وتعالى. والله تعالى أعلم. وقال القاري رحمه الله: قيل: المراد بالمؤمن القويّ الصابر على مخالطة الناس، وتحمّل أذيّتهم، وتعليمهم الخير، وإرشادهم إلى الهدى، ويؤيّده ما أخرجه أحمد وغيره، عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: "المؤمن الذي يُخالط الناس، ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يُخالط الناس، ولا يَصْبر على أذاهم" (¬3). (وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ) أي في كلّ من المؤمن القويّ والمؤمن الضعيف أصل الخير موجود؛ لاشتراكهما في الإيمان مع ما يأتي به الضعيف من العبادات. (احْرِصْ) بكسر الراء، وفتحها، وضمّها: أمرٌ من حرَص يحرِص، من باب ضرب، وسمع، ونصر. ¬

_ (¬1) "المفهم" 6/ 682. "كتاب القدر". (¬2) "الكاشف" 10/ 3334. (¬3) حديث صحيح، رواه أحمد في "المسند" رقم (5022) و (23159).

[تنبيه]: اختُلِف في اشتقاق الحرص -بكسر، فسكون- وهو الْجَشَعُ، فقيل: مشتقّ من حَرَصَ القصارُ الثوبَ: إذا قشره بدقّه، وهذا قول الراغب، وقال الأزهريّ: أصلُ الحرص الشقّ، وقيل للشَّرِهِ حريصٌ؛ لأنه يقشر بحرصه وجوهَ الناس. وقيل: هو مأخوذ من السحابة الحارصة التي تقشر وجه الأرض، كأن الحارص ينال من نفسه بشدّة اهتمامه بتحصيل ما هو حريصٌ عليه، وهذا قول صاحب "الاقتطاف"، وقد نقله محمد بن الطيب الفاسي في شرح "القاموس"، واستبعده (¬1). (عَلَى مَا يَنْفَعُكَ) أي من أمور الدين (وَاسْتَعِنْ بِاللَّه) أي على فعلك، فإنه لا حول ولا قوّة إلا بالله (وَلَا تَعْجَزْ) بكسر الجيم، وفتحها، من بابي ضرب، وسمع، قاله في "القاموس". والمعنى: لا تعجز عن الحرص، والاستعانة بالله، فإن الله سبحانه وتعالى قادرٌ على أن يُعطيك قوّة على طاعته، إذا استقمت على استعانته. وقيل: معناه: لا تعجز عن العمل بما أُمرت به، ولا تتركه مقتصرًا على الاستعانة به، فإن كمال الإيمان أن يجمع بينهما (¬2). وقال النوويّ: معناه: احرص على طاعة الله تعالى، والرغبة فيما عنده، واطلب الإعانة من الله تعالى على ذلك، ولا تعجز، ولا تَكْسِل عن طلب الطاعة، ولا عن طلب الإعانة. انتهى. وقال القرطبيّ: أي استعمل الحرص، والاجتهاد في تحصيل ما تنتفع به في أمر دينك ودنياك التي تستعين بها على صيانة دينك، وصيانة عيالك، ومكارم أخلاقك، ولا تُفرّط في طلب ذلك، ولا تتعاجز عنه متّكلًا على القدَر، فتُنسَبَ للتقصير، وتلام على التفريط شرعًا وعادةً، ومع إنهاء الاجتهاد نهايته، وإبلاع الحرص غايته، فلا بُدّ من الاستعانة بالله، والتوكّل عليه، والالتجاء في كلّ الأمور إليه، فمن سلك هذين ¬

_ (¬1) راجع "تاج العروس في شرح القاموس" 4/ 378. (¬2) راجع "المرقاة" 9/ 154.

الطريقين حصل على خير الدارين. انتهى (¬1). (فَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ) أي من المكروه الدينيّ، أو الدنيويّ، وفي الرواية الآتية في "كتاب الزهد" من طريق ابن عجلان عن الأعرج: "فإن غلبك أمرٌ" (فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا) "لو" شرطيّة، وجوابها مقدّر: أي لما أصابني ذلك الشيء، فإن هذا القول غير سديد، ومع هذا فإنه غير مفيد، فإن الله جلّ شأنه قال: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك"، وقال عز وجل: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد: 23]. ويحتمل أن تكون للتمنّي، فلا تحتاج إلى تقدير جواب، والوجه الأول أولى؛ لأنه يؤيّده رواية مسلم بلفظ: "لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا". وقال الطيبيّ: أي لو كان الأمر لي، وكنت مستبدّا بالفعل والترك كان كذا وكذا، وفيه تأسّف على الفائت، ومنازعة للقدر، وإيهام بأن ما يفعله باستبداده، ومقتضى رأيه خير مما ساقه القدر إليه، من حيث إن "لو" تدلّ على انتفاء الشيء لانتفاء غيره فيما مضى، ولذلك استكرهه، وجعله يفتح عمل الشيطان. انتهى (¬2). (وَلَكِنْ قُلْ) أي بلسان القال، أو بلسان الحال. قاله القاري (قَدَّرَ اللَّه) بتشديد الدال، ويجوز تخفيفها بصيغة الفعل الماضي: أي قل: قدّر الله عليّ ذلك، أي وقع ذلك بمقتضى قضائه، وعلى وفق قدره، ويجوز كونه بصيغة المصدر، مضافا إلى لفظ الجلالة، وهو مرفوع على أنه خبر لمحذوف: أي هذا قَدَرُ الله تعالى، والوجه الأول أولى؛ ليتناسب مع قوله: (وَمَا شَاءَ فَعَلَ) أي ما شاء الله تعالى فعلَهُ فعله، فإنه فعّال لما يريد، ولا رادّ لقضائه، ولا معَقّب لحكمه (فَإِنَّ "لَوْ") الفاء للتعليل: أي إن كلمة "لو"، وفي رواية ابن عجلان الآتية: "وإياك واللّوّ، فإن "اللّوّ" تفتح عمل الشيطان". ¬

_ (¬1) "المفهم" 6/ 682 - 683. (¬2) "الكاشف" 10/ 3335.

[تنبيه]: إنما دخلت "ال" على "لو" في هذه الرواية؛ لأنها أُريد لفظها، فاستُعملت استعمال الأسماء، وهذه قاعدة عامّة في كل ما أريد لفظه، سواء كان حرفًا، أو غيره، قال ابن مالك رحمه الله في "شرح الكافية": وإذا نُسب إلى حرف أو غيره حكمٌ هو للفظه دون معناه جاز أن يُحكى، وجاز أن يُعرب بما يقتضيه العوامل، فمن الحكاية قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "إياك و"لو"، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان، ومنه قول الشاعر [من الطويل]: بُثَيْنُ الْزَمِي "لا" إِنَّ "لا" إِنْ لَزِمْتِهِ ... عَلَى كَثْرَةِ الْوَاشِينَ أَيُّ مَعُونِ ومن الإعراب قول الشاعر [من الخفيف]: لَيْتَ شِعْرِي وَأَيْنَ مِنِّي "لَيْتٌ" ... إِنَّ "لَوًّا" وَإِنَّ "لَيْتًا" عَنَاءُ وفي حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ونهاكم عن قِيلَ وقَالَ" على الحكاية، و"عن قيل وقالٍ" على الإعراب. وإذا كانت الكلمة على حرفين ثانيهما حرف لين، وجُعلت اسمًا ضُعِّف ثانيهما، فقيل في "لَوْ": "لَوٌّ"، وفي "في": فِيٌّ، وفي "ما": "ماءٌ"، فُعِل بألف "ما" من التضعيف ما فُعِل بواو "لو"، وياء "في"، فاجتمعت ألفان، فقُلبت الثانية همزةً. ثم إنّ الأداة التي يُحكم لها بالاسميّة في هذا الاستعمال إن أُوّلت بـ "كلمة" مُنِعَ الصرف، وجاز أيضًا إن كانت ثُلاثيّة ساكنة الوسط، وإن أُوّلت بـ"لفظ" صُرِفت قولًا واحدًا. وإلى هذا أشار في "الكافية" بقوله: وَإِنْ نَسَبْتَ لأَدَاةٍ حُكْمَا ... فَابْنِ أَوَ اعْرِبْ وَاجْعَلَنَّهَا اسْمَا وَضَعِّفَنْ ثَانِيَ "في" وَ"لَوْ" و"مَا" ... وشِبْهِهَا وَإِنْ نَويتَ الْكَلِمَا فَأَنِّثَنْ وَذَكِّرِ أنْ لَفْظٌ قُصِدْ ... وَصَرْفٌ أوْ مَنْعٌ عَلَى ذَيْنِ يَرِدْ انتهى كلام ابن مالك رحمه الله تعالى (¬1). وقوله: (تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ) أي تُلقي في القلب معارضة القدر، ويوسوس به ¬

_ (¬1) "شرح الكافية الشافية" 4/ 1716 - 1724 في "باب الحكاية".

الشيطان. قال القرطبيّ رحمه الله: يعني أن الذي يتعيّن بعد وقوع المقدور التسليم لأمر الله، والرضا بما قدّر الله تعالى، والإعراض عن الالتفات لما مضى وفات، فإن افتكر فيما فاته من ذلك، وقال: لو أني فعلتُ كذا لكان كذا جاءته وساوس الشيطان، ولا تزال به حتى تُفضي به إلى الخسران؛ لتعارض توهّم التدبير سابق المقادير، وهذا هو عَمَلُ الشيطان الذي نَهَى عنه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "فلا تقل: لو، فإن لو تفتح عمل الشيطان"، ولا يُفهم من هذا أنه لا يجوز النطقُ بـ "لو" مطلقًا، إذ قد نطق بها النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "لو أني استقبلتُ ما استدبرتُ لم أسُق الهدي، ولجعلتها عمرةً"، متّفقٌ عليه، و"لو كنت راجمًا أحدًا بغير بيّنة لرجمتُ هذه"، متّفقٌ عليه، وقال أبو بكر -رضي الله عنه-: "لو أن أحدهم نظر إلى رجليه لرآنا"، ومثله كثير؛ لأن محل النهي عن إطلاقها إنما هو فيما إذا أُطلقت في معارضة القَدَر، أو مع اعتقاد أن ذلك المانع لو ارتفع لوقع خلاف المقدور، فأما لو أخبر بالمانع على جهة أن تتعلّق به فائدة في المستقبل، فلا يُختلَف في جواز إطلاقه؛ إذ ليس في ذلك فتحٌ لعمل الشيطان، ولا شيء يُفضي إلى ممنوع ولا حرام. انتهى كلام القرطبيّ (¬1)، وهو نفيس جدّا. والله تعالى أعلم. وقال القاضي عياض رحمه الله: قال بعض العلماء: هذا النهي إنما هو لمن قاله معتقدًا ذلك حتمًا، وأنه لو فَعَل ذلك لم تُصبه قطعًا، فأما من رَدّ ذلك إلى مشيئة الله تعالى بأنه لن يصيبه إلا ما شاء الله، فليس من هذا، واستَدَلَّ بقول أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في الغار: "لو أن أحدهم رفع رأسه لرآنا". قال القاضي: وهذا لا حجة فيه؛ لأنه إنما أخبر عن مُستَقبَلٍ، وليس فيه دعوى لردّ قدر بعد وقوعه، قال: وكذا جميع ما ذكره البخاري في "باب ما يجوز من اللَّوّ"، كحديث: "لولا حِدْثانُ عهد قومك بالكفر، لأتممت البيت على قواعد إبراهيم"، ¬

_ (¬1) "المفهم" 6/ 683.

و"لو كنت راجما بغير بينة لرجمت هذه"، و"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك"، وشبه ذلك فكله مستقبل لا اعتراض فيه على قدر، فلا كراهة فيه؛ لأنه إنما أخبر عن اعتقاده فيما كان يَفعَل لولا المانع، وعما هو في قدرته، فأما ما ذهب فليس في قدرته. قال القاضي: فالذي عندي في معنى الحديث أن النهي على ظاهره وعمومه، لكنه نهي تنزيه، ويدل عليه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فإن "لو" تفتح عمل الشيطان". انتهى. قال النوويّ بعد نقل كلام القاضي: ما نصّه: وقد جاء من استعمال "لو" في الماضي قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لو استقبلتُ من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي"، وغير ذلك، فالظاهر أن النهي إنما هو عن إطلاق ذلك فيما لا فائدة فيه، فيكون نهيَ تنزيه لا تحريم، فأما من قاله تأسفًا على ما فات من طاعة الله تعالى، أو ما هو متعذر عليه من ذلك، ونحو هذا، فلا بأس به، وعليه يُحمَل أكثر الاستعمال الموجود في الأحاديث. انتهى كلام النوويّ رحمه الله (¬1). وهو بحثٌ نفيس جدّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا أخرجه مسلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (10/ 79) بهذا السند، وأعاده في "كتاب الزهد" (4168) عن محمد بن الصبّاح، عن سفيان بن عيينة، عن ابن عجلان، عن الأعرج، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. وأخرجه (مسلم) في "القدر" (6716) و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة" (622) و (623) و (624) و (625) و (أحمد) في "مسنده" 2/ 366 و 370 و (ابن حبّان) في "صحيحه" (5722) وابن أبي عاصم في "السنّة" (356) ¬

_ (¬1) "شرح مسلم" 16/ 216.

و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار" (262) و (البيهقيّ) في "السنن" 10/ 89 وفي "الأسماء والصفات" 1/ 263. والله تعالى أعلم. [تنبيه]: قال الدكتور بشّار عوّاد في تحقيقه لهذا الكتاب: سيأتي في الرقم (4168) من طريق سفيان بن عيينة، عن ابن عجلان، عن الأعرج، أخرجه النسائيّ في "عمل اليوم والليلة" (621) وابن حبان (5721) والطحاويّ في "شرح مشكل الآثار" (259) وهو إسناد ضعيف؛ لأن ابن عجلان دلّسه عن الأعرج، فقد رواه أحمد 2/ 366 و 370 والنسائيّ في "عمل اليوم والليلة" (623) و (624) والطحاويّ في "شرح المشكل" (260) و (261) من طريق ابن المبارك، عن ابن عجلان، عن ربيعة به، انتهى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "وهو إسناد ضعيف" فيه نظر لا يخفى، بل هو إسناد صحيح، وما ادّعاه من التدليس لا يستلزم الضعف؛ لأنه تبيّن أنه دلّسه عن الثقة، فإن ربيعة وثقه جماعة، كابن معين، وابن نمير، وابن سعد، وغيرهم، ومن المعروف في اصطلاح المحدثين أن من تبيّن تدليسه عن ثقة يُقبل تدليسه، فراجع كتب المصطلحات في باب التدليس، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان وجوب الإيمان بالقدر. 2 - (ومنها): بيان فضل المؤمن القويّ على غير القويّ؛ لأنه ينفع نفسه، وينفع المؤمنين. 3 - (ومنها): بيان فضل الإيمان، وإن كان صاحبه ضعيفًا. 4 - (ومنها): الحثّ على الحرص على تحصيل ما ينفع المؤمن من خير الدنيا والآخرة، وعدم التواني في طلب ذلك. 5 - (ومنها): الحثّ على الاستعانة بالله سبحانه وتعالى في تحقيق ما يريده؛ لأن مجرّد الحرص لا يُجدي شيئًا إلا بعون من الله تعالى على حصوله، بل يكون حرصه وبالًا عليه، ولقد

أحسن من قال، وأجاد في المقال [من الطويل]: إِذَا كَانَ عَوْنُ الله لِلْمَرْءِ مُسْعِفَا ... تَهَيَّا لَهُ في كُلِّ أَمْرٍ مُرَادُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِنَ الله لِلْفَتَى ... فَأَوَّلُ مَا يَجْنِي عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ 6 - (ومنها): ذمّ العجز، والتواني في طلب المنافع. 7 - (ومنها): أنه إذا وقع بعد حرصه على طلب ما ينفعه خلاف مطلوبه، لا ينبغي له التأسّف، وقولُ "لو أني فعلتُ كذا كان كذا" تسخّطًا لقدر الله تعالى، بل الواجب أن يستسلم لقضائه وقدره، ولا يتسخّط؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعلم بمصالح عباده، فربما يكون عكس ما حرص عليه خيرًا إما في الدنيا، وإما في الآخرة، قال الله عز وجل: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، بل الواجب عليه حينئذ أن يقول: "قدّر الله، وما شاء فعل". 8 - (ومنها): أن قول العبد "لو فعلت كذا" يفتح عليه باب الشيطان؛ إذ يحمله على تسخّط ما قدر الله تعالى عليه، والتبرّم منه، وعدم الرضا بالقضاء، وسوء الظنّ بربه سبحانه وتعالى، وكلها من نزغات الشيطان، فلا ينبغي للعبد أن يفتح بابها؛ إذ يخسر دنياه وآخرته، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من عباده الذين قال فيهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} الآية [الحجر: 42] وقال: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 80 - (حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، وَيَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ كَاسِبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، سَمِعَ طَاوُسًا يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يُخْبِرُ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا آدَمُ انتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا، وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الجنَّةِ بِذَنْبِكَ، فَقَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّه بِكَلَامِهِ، وَخَطَّ لَكَ

التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ، قَدَّرَهُ اللَّه عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ثَلَاثًا"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ) الدمشقيّ، صدوق كبر، فصار يتلقّن، من كبار [10] 1/ 5. 2 - (يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ كَاسِبٍ) المدنيّ، نزيل مكة، صدوق ربما وهم [10] 1/ 9. 3 - (سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) الإمام الحجة الثبت المكيّ [8] تقدّم في 2/ 13. 4 - (عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) الأثرم الجُمَحِيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقة ثبتٌ [4]. روى عن ابن عباس، وابن الزبير، وابن عمر، وابن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، وجابر بن عبد الله، وأبي الطفيل، والسائب بن يزيد، وجماعة. وروى عنه قتادة، ومات قبله، وأيوب، وابن جريج، وجعفر الصادق، ومحمد بن جُحَادة، ومالك، وشعبة، وداود بن عبد الرحمن العطار، ورَوْح بن القاسم، وجماعة. قال محمد بن علي الْجُوزَجَاني، عن أحمد بن حنبل: كان شعبة لا يُقَدِّم على عمرو ابن دينار لا الحَكَمَ، ولا غيرَهُ -يعني في التثبت-. وقال ابن المديني، عن ابن مهديّ، عن شعبة مثل ذلك. وقال نعيم بن حماد: سمعت ابن عيينة يذكر عن ابن أبي نَجِيح قال: ما كان عندنا أحد أفقه، ولا أعلم من عمرو بن دينار، زاد غيره: لا عطاء، ولا مجاهد، ولا طاوس. وقال الحميدي وغيره، عن سفيان: قلت لمسعر: مَنْ رأيت أشد إتقانا للحديث؟ قال: عمرَو بنَ دينار، والقاسمَ بنَ عبد الرحمن. وقال إسحاق بن إسماعيل، عن سفيان: قالوا لعطاء: بمن تأمرنا؟ قال: بعمرو بن دينار. وقال عبد الرحمن بن الحكم عن ابن عيينة: ثنا عمرو بن دينار، وكان ثقة ثقة، وحديث أسمعه من عمرو أحب إلي من عشرين حديثًا من غيره. وقال النسائي: ثقة ثبت. وقال أبو زرعة، وأبو حاتم: ثقة. وقال ابن عيينة، وعمرو بن جرير: كان ثقة ثبتًا كثير الحديث، صدوقًا عالمًا، وكان مفتي أهل مكة في زمانه. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: جاوز

السبعين. قال أحمد: مات سنة (5) أو (126). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (59) حديثًا. 5 - (طاوس) بن كيسان الحميريّ مولاهم، أبو عبد الرحمن اليماني، ثقة فقيه فاضل [3] تقدّم في 3/ 27. 6 - (أبو هريرة) رضي الله تقدّم في 1/ 1. والله تعالى أعلم؟ لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه يعقوب، فإنه من أفراده. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات المكيين إلى عمرو بن دينار، غير شيخه هشام، فدمشقيّ، وأما طاوس فيمنيّ، وأبو هريرة -رضي الله عنه- فمدنيّ. 4 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: عمرو عن طاوس. 5 - (ومنها): أن عمرو بن دينار هذا أول محل ذكره في هذا الكتاب، وجملة ما روى له المصنّف فيه (59) حديثًا كما مرّ آنفًا. 6 - (ومنها): أن فيه أبا هريرة -رضي الله عنه- أحد المكثرين السبعة، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ) وقال البخاريّ: حدّثنا عليّ بن عبد الله، حدثنا سفيان قال: حَفِظناه من عمرو ... ووقع في "مسند الحميديّ" عن سفيان حدثنا عمرو بن دينار (سَمِعَ طَاوُسًا) اليمانيّ (يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- (يُخْبِرُ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام) أي اختصما، وفي رواية همام، ومالك: "تحاجّ"، وهي أوضح، وفي رواية أيوب ابن النجار، ويحيى بن كثير: "حج آدم وموسى"، وعليها شرح الطيبي، فقال: معنى قوله: "حج آدم وموسى": غلبه بالحجة، وقوله بعد ذلك: "قال موسى: أنت آدم الخ" توضيح لذلك، وتفسير لما أُجمِل، وقوله في آخره: "فحج

آدم موسى" تقرير لما سَبَقَ، وتأكيد له، وفي رواية يزيد بن هرمز: "عند ربهما"، وفي رواية محمد بن سيرين: "التقى آدم وموسى"، وفي رواية عمار، والشعبي: "لقى آدم موسى"، وفي حديث عمر: "لقي موسى آدم" كذا عند أبي عوانة، وأما أبو داود فلفظه: "قال موسى: يا رب أرني آدم". وقد اختَلَفَ العلماء في وقت هذا اللفظ، فقيل: يحتمل أنه في زمان موسى عليه السلام، فأحيا الله له آدم معجزة له، فكلمه، أو كُشِف له عن قبره، فتحدثا، أو أراه الله روحه كما أُري النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة المعراج أرواح الأنبياء، أو أراه الله له في المنام، ورؤيا الأنبياء وحي، ولو كان يقع في بعضها ما يَقبَل التعبير، كما في قصة الذبيح، أو كان ذلك بعد وفاة موسى، فالتقيا في البرزخ أول ما مات موسى، فالتقت أرواحهما في السماء، وبذلك جزم ابن عبد البر والقابسي، وقد وقع في حديث عمر: "لمّا قال موسى: أنت آدم؟ قال له: من أنت؟ قال: أنا موسى، وأن ذلك لم يقع بعدُ، وإنما يقع في الآخرة، والتعبير عنه في الحديث بلفظ الماضي لتحقق وقوعه. وذكر ابن الجوزي احتمال التقائهما في البرزخ، واحتمال أن يكون ذلك ضرب مثل، والمعنى لو اجتمعا لقالا ذلك، وخص موسى بالذكر؛ لكونه أول نبي بُعث بالتكاليف الشديدة، قال: وهذا وإن احتمل لكن الأول أولى، قال: وهذا مما يجب الإيمان به؛ لثبوته عن خبر الصادق، وإن لم يُطَّلَع على كيفية الحال، وليس هو بأول ما يجب علينا الإيمان به، وإن لم نَقِف على حقيقة معناه، كعذاب القبر ونعيمه، ومتى ضاقت الحيل في كشف المشكلات، لم يبق إلا التسليم. وقال ابن عبد البر: مثل هذا عندي يجب فيه التسليم، ولا يوقف فيه على التحقيق، لأنا لم نُؤْتَ من جنس هذا العلم إلا قليلًا. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن الجوزيّ، وابن عبد البرّ من وجوب التسليم لهذا الخبر، وإن لم نعلم كيفية الحال، هو الحق الأبلج، والطريق الأبهج، وما عده من التأويلات التي مرّت فيما لا ينبغي الالتفات إليها؛ إذ هي مجرّد تخمين

وظنون، ليس عليها أثارة من علم، فعليك بالاستسلام، ولا تتهوّر باتباع الأوهام، لعلك تلقى ربك بلا ملام. والله الهادي إلى سواء السبيل. (فَقَالَ لَهُ) أي لآدم (مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا) وفي رواية يحيى بن أبي كثير: "أنت أبو الناس"، وكذا في حديث عمر، وفي رواية الشعبي: "أنت آدم أبو البشر". (خَيَّبْتَنَا، وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الجَنَّةِ بِذَنْبِكَ) وفي رواية حميد بن عبد الرحمن: "أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة"، وفي رواية: "أخرجت ذريتك"، وفي رواية: "أنت الذي أغويت الناس، وأخرجتهم من الجنة". ومعنى: "أغويت": كنت سببًا لِغَواية من غَوَى منهم، وهو سبب بعيد؛ إذ لو لم يقع الأكل من الشجرة، لم يقع الإخراج من الجنة، ولو لم يقع الإخراج ما تسلط عليهم الشهوات والشيطان المسبب عنهما الإغواء، والغي ضد الرشد، وهو الانهماك في غير الطاعة، ويطلق أيضًا على مجرد الخطأ، يقال: غَوَى، من باب ضرب: أي أخطأ صواب ما أُمر به. وفي رواية أبي سلمة: "أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك"، وعند أحمد من طريقه: "أنت الذي أدخلت ذريتك النار"، والقول فيه كالقول في أغويت، وزاد همام: "إلى الأرض"، وكذا في رواية يزيد بن هرمز: "فأهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض"، وأوله عنده: "أنت الذي خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته"، ومثله في رواية أبي صالح، لكن قال: "ونفخ فيك من روحه"، ولم يقل: "وأسجد لك ملائكته"، ومثله في رواية محمد بن عمرو، وزاد: "وأسكنك جنته"، ومثله في رواية محمد بن سيرين، وزاد: "ثم صنعت ما صنعت"، وفي رواية عمرو بن أبي عمرو، عن الأعرج: "يا آدم خلقك الله بيده، ثم نفخ فيك من روحه، ثم قال لك: كن فكنت، ثم أمر الملائكة فسجدوا لك، ثم قال: لك: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35]، فنهاك عن شجرة واحدة، فعصيت"، وزاد الفريابي: "وأكلت منها"، وفي رواية عكرمة بن عمار، عن أبي سلمة:

"أنت آدم الذي خلقك الله بيده"، فأعاد الضمير في قوله: "خلقك" إلى قوله: "أنت"، والأكثر عوده إلى الموصول، فكأنه يقول: خلقه الله، ونحو ذلك ما وقع في رواية الأكثر: "أنت الذي أخرجتك خطيئتك"، وفي حديث عمر بعد قوله: "أنت آدم؟ "، "قال: نعم، قال: أنت الذي نفخ الله فيك من روحه، وعلمك الأسماء كلها، وأمر الملائكة فسجدوا لك؟، قال: نعم، قال: فلم أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ "، وفي لفظ لأبي عوانة: "فواللِّه لولا ما فعلتَ ما دخل أحد من ذريتك النار"، ووقع في حديث أبي سعيد عند ابن أبي شيبة: "فأهلكتنا، وأغويتنا"، وذكر ما شاء الله أن يذكر من هذا. وهذا يشعر بأن جميع ما ذُكر في هذه الروايات محفوظ، وأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر. وقوله: "أنت آدم" استفهام تقرير، وإضافة الله خلق آدم إلى يده في الآية إضافة تشريف، وكذا إضافة روحه إلى الله، و"من" في قوله: "من روحه" زائدة على رأي، والنفخ بمعنى الخلق: أي خلق فيك الروح. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "وإضافة الله خلق آدم إلى يده في الآية إضافة تشريف" هكذا قال في "الفتح"، يعني أنه من المجاز، لا من الحقيقة، وفيه نظر، بل الحقّ أنه على ظاهره، وأن لله تعالى يدًا حقيقيّة، تليق بجلاله، لا تشبه يد الخلق، فنحن نثبت ما أثبته لنفسه من اليد والأصابع، والعين، والوجه، ونحو ذلك، من غير تمثيل ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تحريف، وكون الإضافة حقيقية يستفاد منها مع إثبات اليد تشريف آدم وذريته، حيث خلقه الله عز وجل بيده. فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، فإنه حجة البليد، وملجأ العنيد، والله سبحانه وتعالى الهادي إلى سواء السبيل. ومعنى قوله: "أخرجتنا": كنت سبببا لإخراجنا، كما تقدم تقريره. وقوله: "أغويتنا، وأهلكتنا" من إطلاق الكل على البعض، بخلاف "أخرجتنا" فهو على عمومه. ومعنى قوله: "أخطأت، وعصيت" ونحوهما: فعلتَ خلاف ما أُمرت به. وأما

قوله: "خيبتنا" بالخاء المعجمة، ثم الموحدة، من الخيبة، فالمراد به الحرمان، وقيل: هي كـ "أغويتنا" من إطلاق الكل على البعض، والمراد من يجوز منه وقوع المعصية، ولا مانع من حمله على عمومه، والمعنى أنه لو استمر على ترك الأكل من الشجرة، لم يخرج منها، ولو استمر فيها لوُلِد له فيها، وكان ولده سكان الجنة على الدوام، فلما وقع الإخراج، فات أهلَ الطاعة من ولده استمرار الدوام في الجنة، وإن كانوا إليها ينتقلون، وفات أهل المعصية تأخر الكون في الجنة مدة الدنيا، وما شاء الله من مدة العذاب في الآخرة، إما مؤقتا في حق الموحدين، وإما مستمرا في حق الكفار، فهو حرمان نسبي. (فَقَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّه بِكَلَامِهِ، وَخَطَّ لَكَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ) وفي رواية: "أنت موسى الذي أعطاك الله علم كل شيء، واصطفاك على الناس برسالته"، وزاد في رواية: "وقرّبك نجيا، وأعطاك الألواح فيها بيان كل شيء"، وفي رواية: "اصطفاك الله برسالته، واصطفاك لنفسه، وأنزل عليك التوراة"، ووقع في رواية "فقال: نعم"، وفي حديث عمر: قال: أنا موسى، قال: نبي بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: أنت الذي كلمك الله من وراء حجاب، ولم يجعل بينك وبينه رسولًا من خلقه؟ قال: نعم". (أتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ، قَدَّرَهُ اللَّه عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً) قال في "الفتح": وفي رواية يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة: "فكيف تلومني على أمر كتبه الله، أو قدره الله عليّ؟ "، ولم يذكر المدة، وثبت ذكرها في رواية طاوس، وفي رواية محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، ولفظه: "فكم تَجِد في التوراة أنه كتب عليّ العمل الذي عملته قبل أن أُخلَق؟ قال: بأربعين سنة، قاك: فكيف تلومني عليه؟، وفي رواية يزيد بن هرمز نحوه، وزاد: "فهل وجدت فيها: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 20]؟ قال: نعم. وكلام ابن عبد البر قد يوهم تفرُّد ابن عيينة عن أبي الزناد بزيادتها، لكنه بالنسبة لأبي الزناد، وإلا فقد ذَكَرَ التقييد ابن عيينة كما ترى، وفي رواية الزهري، عن أبي سلمة عند أحمد: "فهل وجدت فيها -يعني الألواح، أو التوراة- أني أهبط؟ "، وفي رواية الشعبي: "أفليس تجد فيما أنزل الله عليك أنه سيخرجني منها قبل أن يدخلينها؟ قال:

بلى"، وفي رواية عمار بن أبي عمار: "أنا أقدم أم الذكر؟ قال: بل الذكر"، وفي رواية عمرو ابن أبي عمرو، عن الأعرج: "ألم تعلم أن الله قدّر هذا عليّ قبل أن يخلقني؟ "، وفي رواية ابن سيرين: "فوجدتَهُ كتب عليّ قبل أن يخلقني؟ قال: نعم"، وفي رواية أبي صالح: "فتلومني في شيء كتبه الله عليّ قبل خلقي"، وفي حديث عمر: "قال: فلم تلومني على شيء سبق من الله تعالى فيه القضاء؟، ووقع في حديث أبي سعيد الخدري: "أتلومني على أمر قدره الله عليّ قبل أن يخلق السماوات والأرض". ويُجمَع بينه وبين الرواية القيدة بأربعين سنة بحملها على ما يتعلق بالكتابة، وحمل الأخرى على ما يتعلق بالعلم. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون المراد بالأربعين سنة ما بين قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ في الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] إلى نفخ الروح في آدم. وأجاب غيره بأن ابتداء المدة وقت الكتابة في الألواح، وآخرها ابتداء خلق آدم. وقال ابن الجوزي: المعلومات كلها قد أحاط بها علم الله القديم قبل وجود المخلوقات كلها، ولكن كتابتها وقعت في أوقات متفاوتة، وقد ثبت في "الصحيح" -يعني "صحيح مسلم"-: أن الله قدّر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة"، فيجوز أن تكون قصة آدم بخصوصها كُتبت قبل خلقه بأربعين سنة، ويجوز أن يكون ذلك القدر مدة لبثه طينًا إلى أن نُفخت فيه الروح، فقد ثبت في "صحيح مسلم" أن بين تصويره طينًا، ونفخ الروح فيه كان مدة أربعين سنة، ولا يخالف ذلك كتابة المقادير عمومًا قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. وقال المازري: الأظهر أن المراد أنه كتبه قبل خلق آدم بأربعين عامًا، ويحتمل أن يكون المراد أظهره للملائكة، أو فعل فعلًا ما أضاف إليه هذا التاريخ، وإلا فمشيئة الله وتقديره قديم، والأشبه أنه أراد بقوله: "قدّره الله عليّ قبل أن أُخلق": أي كتبه في التوراة؟ لقوله في الرواية المشار إليها قبلُ: "فكم وجدته كتب في التوراة قبل أن أُخلق؟ ". وقال النووي: المراد بتقديرها كَتْبُهُ في اللوح المحفوظ، أو في التوراة، أو في

الألواح، ولا يجوز أن يراد أصل القدر، لأنه أزليّ، ولم يزل الله سبحانه وتعالى مريدًا لما يقع من خلقه، وكان بعض شيوخنا يزعم أن المراد إظهار ذلك، عند تصوير آدم طينًا، فإن آدم أقام في طينته أربعين سنة، والمراد على هذا بخلقه نفخ الروح فيه. قال الحافظ: وقد يعكر على هذا روايةُ الأعمش، عن أبي صالح: "كتبه الله عليّ قبل أن يخلق السماوات والأرض"، لكنه يُحمَل قوله فيه: "كتبه الله على قدّره، أو على تعدد الكتابة؛ لتعدد المكتوب، والعلم عند الله تعالى. انتهى. (فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى) أي غلبه بالحجة، يقال: حاججت فلانًا، فحَجَجْتُهُ، مثل خاصمته فخصمته (فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ثَلاثًا) قال في "الفتح": كذا في هذه الطرق ولم يكرر في أكثر الطرق، عن أبي هريرة، ففي رواية أيوب بن النجار كالذي هنا لكن بدون قوله: "ثلاثًا"، وكذا لمسلم من رواية ابن سيرين، وكذا في حديث جندب عند أبي عوانة، وثبت في حديث عمر، بلفظ: "فاحتجا إلى الله، فحج آدم موسى"، قالها ثلاث مرات، وفي رواية عمرو بن أبي عمرو، عن الأعرج: "لقد حجّ آدم موسى، لقد حج آدم موسى، لقد حج آدم موسى"، وفي حديث أبي سعيد عند الحارث: "فحج آدم موسى" ثلاثًا، وفي رواية الشعبي عند النسائي: "فخصم آدم موسى، فخصم آدم موسى". واتفق الرواةُ، والنَّقَلَة، والشُّرّاح على أن "آدم" بالرفع، وهو الفاعل، وشذ بعض الناس، فقرأه بالنصب، على أنه المفعول، و"موسى" في محل الرفع على أنه الفاعل، نقله الحافظ أبو بكر بن الخاصية، عن مسعود بن ناصر السِّجْزي الحافظ، قال: سمعته يَقْرَأُ: "فحج آدمَ" بالنصب، قال: وكان قدريا. قال الحافظ: هو محجوج بالاتفاق قبله على أن آدم بالرفع على أنه الفاعل، وقد أخرجه أحمد من رواية الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة بلفظ: "فحجه آدم"،

وهذا يرفع الإشكال، فإن رواته أئمة حفاظ، والزهري من كبار الفقهاء الحفاظ، فروايته هي المعتمدة في ذلك (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (10/ 80) و (البخاريّ) (4/ 192 و 6/ 120 و 121 و (8/ 157) و (9/ 182) و (مسلم) (8/ 49 و 50 و51) و (الترمذيّ) (2134) و (النسائيّ) في "الكبرى" و (مالك) في "الموطإ" (560) و (الحميديّ) في "مسنده" (1116) و (أحمد) في "مسنده" (2/ 264 و 268 و 3314 و 392 و 448) و (ابن خزيمة) في "التوحيد" (54) و (ابن أبي عاصم) في "السنّة" (153 و 154 و155) و (الآجرّيّ) في "الشريعة" (181 و 324) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (6210) و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات" (232)، والله تعالى أعلم. [تنبيه]: قال الحافظ أبو عمر ابن عبد البر رحمه الله: هذا الحديث ثابت بالاتفاق، رواه عن أبي هريرة جماعة من التابعين، ورُوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من وجوه أخرى، من رواية الأئمة الثقات الأثبات. وقال الحافظ: وقع لنا من طريق عشرة عن أبي هريرة، منهم: طاوس في "الصحيحين"، والأعرج عند مسلم من رواية الحارث بن أبي ذباب، وعند النسائي، عن عمرو بن أبي عمرو كلاهما عن الأعرج، وأبو صالح السمان عند الترمذي، والنسائي، وابن خزيمة، كلهم من طريق الأعمش عنه، والنسائي أيضًا من طريق ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 11/ 620 - 621.

القعقاع بن حكيم عنه. ومنهم: أبو سلمة بن عبد الرحمن عند أحمد، وأبي عوانة، من رواية الزهري عنه، وقيل: عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، وقيل: عنه، عن حميد بن عبد الرحمن. ومن رواية أيوب بن النجار، عن أبي سلمة في "الصحيحين" أيضًا. ومن رواية محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة عند ابن خزيمة، وأبي عوانة، وجعفر الفريابي في "القدر". ومن رواية يحيى بن أبي كثير عنه، عند أبي عوانة. ومنهم: حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة في "الصحيحين" أيضًا. ومنهم: محمد بن سيرين في "الصحيحين" أيضًا. ومنهم: الشعبي، أخرجه أبو عوانة، والنسائي. ومنهم: همام بن منبه، أخرجه مسلم. ومنهم: عمار بن أبي عمار، أخرجه أحمد. وممن رواه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: عمرُ عند أبي داود، وأبي عوانة، وجندب بن عبد الله عند النسائي، وأبو سعيد عند البزار، وأخرجه ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، والحارث من وجه آخر عنه، وقد أشار إلى هذه الثلاثة الترمذي. انتهى (¬1). (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان إثبات القدر، ووجوب الإيمان به. 2 - (ومنها): ما قاله القاضي عياض رحمه الله: ففيه حجة لأهل السنة في أن الجنة التي أُخرج منها آدم هي جنة الخلد التي وُعد المتقون، ويدخلونها في الآخرة، خلافًا لمن قال من المعتزلة وغيرهم: إنها جنة أخرى، ومنهم من زاد على ذلك، فزعم: أنها كانت في الأرض. ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 11/ 616.

3 - (ومنها): أنّ فيه إطلاقَ العموم، وإرادة الخصوص في قوله: "أعطاك علم كل شيء"، والمراد به كتابه النزل عليه، وكل شيء يتعلق به، وليس المراد عمومه؛ لأنه قد أقر الخضرَ على قوله: "وإني على علم من علم الله لا تعلمه أنت". 4 - (ومنها): أن فيه مشروعية الْحُجَج في المناظرة؛ لإظهار طلب الحق، وإباحة التوبيخ والتعريض في أثناء الحجاج؛ ليتوصل إلى ظهور الحجة. 5 - (ومنها): أنه فيه دلالةً على أن اللوم على من أيقن، وعَلِم أشدّ من اللوم على من لم يحصل له ذلك. 6 - (ومنها): أن فيه مناظرةَ العالم من هو أكبر منه، والابن أباه، ومحل مشروعية ذلك إذا كان لإظهار الحق، أو الازدياد من العلم، والوقوف على حقائق الأمور. 7 - (ومنها): أن فيه حجةً لأهل السنة في إثبات القدر، وخلق أفعال العباد. 8 - (ومنها): أنه يُغتَفَر للشخص في بعض الأحوال ما لا يُغتَفَر في بعضٍ، كحالة الغضب والأسف، وخصوصًا ممن طُبع على حِدَّة الخلق، وشدة الغضب، فإن موسى عليه السلام لمّا غلبت عليه حالة الإنكار في المناظرة، خاطب آدم مع كونه والده باسمه مجردًا، وخاطبه بأشياء لم يكن ليخاطب بها في غير تلك الحالة، ومع ذلك فأقره على ذلك، وعدل إلى معارضته فيما أبداه من الحجة في دفع شبهته. 9 - (ومنها): أن فيه استعمالَ التعريض بصيغة المدح، يؤخذ ذلك من قول آدم لموسى: "أنت الذي اصطفاك الله برسالته ... " إلى آخر ما خاطبه به، وذلك أنه أشار بذلك إلى أنه اطّلع على عذره، وعرفه بالوحي، فلو استحضر ذلك ما لامه، مع وضوح عذره، وأيضًا ففيه إشارة إلى شيء آخر أعم من ذلك، وإن كان لموسى فيه اختصاص، فكأنه قال: لو لم يقع إخراجي الذي رُتّب على أكلي من الشجرة ما حصلت لك هذه المناقب؛ لأني لو بقِيتُ في الجتة، واستمرّ نسلي فيها ما وُجِد من تجاهر بالكفر الشنيع بما جاهر به، فرعون حتى أُرسلت أنت إليه، وأعطيت ما أعطيت، فإذا كنتُ أنا السبب في حصول هذه الفضائل لك، فكيف يسوغ لك أن تلومني.

10 - (ومنها): ما قاله الطيبي رحمه الله: (اعلم): أن هذه القصّة تشتمل على معاني محرّرة لدعوى آدم عليه السلام، مقرّرةً لحجّته. [منها]: أن هذه المحاجّة لم تكن في عالم الأسباب الذي لم يجوز فيه قطع النظر عن الوسائط والاكتساب، وإنما كانت في العالم العلويّ عند مُلتقى الأرواح. [ومنها]: أن اللائمة كانت بعد سقوط الذنب، ووجوب المغفرة. قال: أقول: -والعلم عند الله- مذهب الجبرية إثبات التقدير لله تعالى، ونفي القدرة عن العبد أصلًا، ومذهب المعتزلة بخلافه، وكلا الفريقين من الإفراط والتفريط على شفا جُرُف هَارٍ، والطريق المستقيم القصد بين الأمرين، كما هو مذهب أهل السنّة؛ إذ لا يقدر أحد أن يُسقط الأصلَ الذي هو القدر، ولا أن يبطل الكسب الذي هو السبب، فلما جعل موسى عليه السلام مساق كلامه وقصّته إلى الثاني بأن صَدّر الجملة بحرف الإنكار والتعجب، وصَرّح باسم آدم عليه السلام، ووصفه بصفات أربع، كل واحدة منها مستقلة في علية عدم ارتكابه الخطيئة، ثم جاء بكلمة الاستبعاد في قوله: "ثم أهبطت"، فأسند الإهباط إليه على الحقيقة، والله سبحانه وتعالى هو المهبط في الحقيقة؛ لقوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا} الآية [البقرة: 38] وقرن الإهباط بالأرض، والإهباط لا يكون إلا إليها؛ ليؤذن بسفالتها التي تورث الخساسة والرذالة، كما قال الله تعالى: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} الآية [الأعراف: 176]، بل الغرض الأول من ذلك الإنكار البليغ هذا لقوله: "ثم أهبطت الناس"، كأنه عليه السلام قال: ما أبعد هذه السفالة عن تلك المعالي والمناصب، فأجاب عنه عليه السلام بما يقابلها، بل أبلغ، من تصرير الجملة بالهمزة، وتصريح باسم موسى عليه السلام، ووصفه بصفات أربعٍ، كلُّ واحدة مستقلة في علية عدم الإنكار عليه، ثم رَتّب العلم الأزلي على ذلك، ثم أتى بدل كلمة الاستبعاد بهمزة الإنكار في قوله: "أفتلومني"، وحذف ما تقتضيه الهمزة، والفاء العاطفة من الفعل: أي أتجد في التوراة هذا النصّ الجليّ، فتلومني على ذلك؟، فما أبعده من إنكار!. وفي هذا التقرير تنبيه على تحري قصد الأمور، قال: وختم النبي -صلى الله عليه وسلم- الحديثَ

بقوله: "فحَجَّ آدم موسى"، تنبيهًا على ما قصدناه من أن تحرّي قصد الأمور هو الصواب، ثم إنه -صلى الله عليه وسلم- ختم الحديث بقوله: "فحجّ آدم موسى" بعد افتتاحه، وبيانه بقوله: "قال موسى: أنت آدم" إلى آخر الحديث مجملًا أوّلًا، ومفصّلًا ثانيًا، ومُعيدًا له ثالثًا؛ تنبيهًا على أن بعض أمته، من المعزلة ينكر حديث القدر، فاهتم لذلك، وبالغ في الإرشاد (¬1). انتهى كلام الطيبيّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الرابعة): فيما قاله أهل العلم في هذا الحديث من المباحث المفيدة المكملة لما سبق من الفوائد: قال الإمام أبو عمر ابن عبد البر: هذا الحديث أصل جسيم لأهل الحق في إثبات القدر، وأن الله قضى أعمال العباد، فكل أحد يصير لما قُدِّر له بما سبق في علم الله، قال: وليس فيه حجة للجبرية، وإن كان في بادىء الرأي يساعدهم. وقال الإمام الخطابي رحمه الله في "معالم السنن": يَحسَب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر يستلزم الجبر، وقهرَ العبد، ويَتَوَهّم أن غلبة آدم كانت من هذا الوجه، وليس كذلك، وإنما معناه الإخبار عن إثبات علم الله بما يكون من أفعال العباد، وصدورها عن تقدير سابق منه، فإن القدر اسم لما صَدَرَ عن فعل القادر، وإذا كان كذلك، فقد نُفي عنهم من وراء علم الله أفعالهم، وأكسابهم، ومباشرتهم تلك الأمور عن قصد وتعمد واختيار، فالحجة إنما تلزمهم بها، واللائمة إنما تتوجه عليها. وجِمَاعُ القول في ذلك أنهما أمران لا يُبَدّل أحدهما عن الآخر، لأن أحدهما بمنزلة الأساس، والآخر بمنزلة البناء، فمن رام الفصل بينهما، فقد رام هدم البناء ونقضه. وإنما كان موضع الحجة لآدم على موسى أن الله سبحانه وتعالى إذ كان عَلِمَ من آدم أنه يتناول من الشجرة، ويأكل منها، فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه، وأن يبطله بعد ذلك، وبيان هذا في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ في الْأَرْضِ خَلِيفَةً} ¬

_ (¬1) "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 532 - 533.

[البقرة: 30]، فأخبر قبل كون آدم أنه إنما خَلقه للأرض، وأنه لا يتركه في الجنة، حتى ينْقُله منها إليها، فكان تناوله من الشجرة سببًا لإهباطه إلى الأرض التي خلق لها، وللكون فيها خليفة، وواليًا على من فيها. قال: وإنما أدلى آدم عليه السلام بالحجة على هذا المعنى، ودفع لائمة موسى عليه السلام عن نفسه على هذا الوجه، ولذلك قال: "أتلومني على أمر قدره الله عليّ قبل أن يخلقني؟ ". [فإن قيل]: فعلى هذا يجب أن يسقط عنه اللوم أصلًا؟. [قيل]: اللوم ساقط من قبل موسى؛ إذ ليس لأحد أن يُعيّر أحدًا بذنب كان منه؛ لأن الخلق كلهم تحت العبودية أكفاء سواء. وإنما يتجه اللوم من قِبَلِ الله سبحانه وتعالى؛ إذ كان قد أمره ونهاه، فخرج إلى معصيته، وباشر ما نهاه عنه، ولله الحجة البالغة سبحانه وتعالى، لا شريك له. قال: وقول موسى عليه السلام، وإن كان منه في النفس شبهة، وفي ظاهره مُتَعَلَّقٌ لاحتجاجه بالسبب الذي قد جُعل أمارة لخروجه من الجنّة، فقول آدم في تعلّقه بالسبب الذي هو بمنزلة الأصل، أرجح، والْفَلَج فيه قد يقع مع المعارضة بالترجيح، كما يقع بالبرهان الذي لا يُعارض له. انتهى كلام الخطابيّ في "معالم السنن" (¬1). وقال في "أعلام الحديث" نحوه مُلَخّصًا وزاد: ومعنى قوله: "فحَجّ آدم موسى" دفع حجته التي ألزمه اللومَ بها، قال: ولم يقع من آدم إنكار لما صدر منه، بل عارضه بأمر دَفَعَ به عنه اللوم. قال الحافظ رحمه الله: ولم يتلخص من كلامه مع تطويله في الموضعين، دفعٌ للشبهة إلا في دعواه أنه ليس للآدمي أن يلوم آخر مثله على ما فَعَل ما قدره الله عليه، وإنما يكون ذلك لله تعالى؛ لأنه هو الذي أمره ونهاه. وللمعترض أن يقول: وما المانع إذا كان ذلك لله، أن يباشره من تَلَقَّى عن الله من ¬

_ (¬1) راجع "معالم السنن" 7/ 70 - 72.

رُسُله، ومن تلقى عن رسله، ممن أُمر بالتبليغ عنهم. وقال القرطبي رحمه الله: إنما غلبه بالحجة؛ لأنه عَلِم من التوراة أن الله تاب عليه، فكان لومه له على ذلك نوع جفاء، كما يقال: ذكر الجفاء بعد حصول الصفاء جفاء، ولأن أثر المخالفة بعد الصفح يَنمحي حتى كأنه لم يكن، فلا يصادف اللوم من اللائم حينئذ محلا. انتهى. وهو محصل ما أجاب به المازري وغيره من المحققين، وهو المعتمد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الخامسة): قد أنكر القدرية هذا الحديث؛ لأنه صريح في إثبات القدر السابق، وتقرير النبي -صلى الله عليه وسلم- لآدم عليه السلام على الاحتجاج به، وشهادته بأنه غلب موسى، فقالوا: لا يصحّ؛ لأن موسى عليه السلام لا يلوم على أمر قد تاب منه صاحبه، وقد قَتَلَ هو نفسًا لم يؤمر بقتلها، ثم قال: رب اغفر لي فغفر له، فكيف يلوم آدم على أمر قد غُفر له. ثانيها (¬1): لو ساغ اللوم على الذنب بالقدر الذي فُرغ من كتابته على العبد، لا يصح هذا لكان من عوتب على معصية، قد ارتكبها، فيحتج بالقدر السابق، ولو ساغ ذلك لانسد باب القصاص والحدود، ولاحتج به كل أحد على ما يرتكبه من الفواحش، وهذا يفضي إلى لوازم قطعية، فدل ذلك على أن هذا الحديث لا أصل له. [والجواب]: من أوجه: [أحدها]: آن آدم إنما احتج بالقدر على المعصية، لا المخالفة، فإن محصل لوم موسى إنما هو على الإخراج، فكأنه قال: أنا لم أخرجكم، وإنما أخرجكم الذي رَتَّبَ الإخراج على الأكل من الشجرة، والذي رتب ذلك قَدَّرَه قبل أن أُخلق، فكيف تلومني على أمر ليس لي فيه نسبة إلا الأكل من الشجرة، والإخراج المرتب عليها ليس من فعلي. وهذا الجواب لا يدفع شبهة الجبرية. ¬

_ (¬1) هكذا نسخة "الفتح" "ثانيها" وفي العبارة ركاكة، فليحرّر.

[ثانيها]: إنما حكم النبي -صلى الله عليه وسلم- لآدم بالحجة في معنى خاص، وذلك لأنه لو كانت في المعنى العام لا تقدم من الله تعالى لومه بقوله: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 22]، ولا واخذه بذلك، حتى أخرجه من الجنة، وأهبطه إلى الأرض، ولكن لما أخذ موسى في لومه، وقدم قوله له: أنت الذي خلقك الله بيده، وأنت وأنت لم فعلت كذا؟ عارضه آدم بقوله: أنت الذي اصطفاك الله، وأنت وأنت. وحاصل جوابه إذا كنت بهذه المنزلة، كيف يَخفَى عليك أنه لا محيد من القدر، وإنما وقعت الغلبة لآدم من وجهين: [أحدهما]: أنه ليس لمخلوق أن يلوم مخلوقا في وقوع ما قُدّر عليه، إلا بإذن من الله تعالى، فيكون الشارع هو اللائم، فلما أخذ موسى في لومه من غير أن يؤذن له في ذلك، عارضه بالقدر فأسكته. [والثاني]: أن الذي فعله آدم اجتمع فيه القدر والكسب، والتوبة تمحو أثر الكسب، وقد كان الله تاب عليه، فلم يبق إلا القدر، والقدر لا يتوجه عليه لوم؛ لأنه فعل الله، ولا يسأل عما يفعل. [ثالثها]: قال ابن عبد البر: هذا عندي مخصوص بآدم؛ لأن المناظرة بينهما وقعت بعد أن تاب الله على آدم قطعًا، كما قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37]، فحسن منه أن ينكر على موسى لومه على الأكل من الشجرة؛ لأنه كان قد تيب عليه من ذلك، وإلا فلا يجوز لأحد أن يقول لمن لامه على ارتكاب معصية، كما لو قتل، أو زنى، أو سرق: هذا سبق في علم الله وقدره عليّ قبل أن يخلقني، فليس لك أن تلومني عليه، فإن الأمة أجمعت على جواز لوم من وقع منه ذلك، بل على استحباب ذلك، كما أجمعوا على استحباب محمدة من واظب على الطاعة، قال: وقد حَكَى ابنُ وهب في "كتاب القدر" عن مالك، عن يحيى بن سعيد: أن ذلك كان من آدم بعد أن تيب عليه. [رابعها]: إنما توجهت الحجة لآدم؛ لأن موسى لامه بعد أن مات، واللوم إنما

يتوجه على المكلف ما دام في دار التكليف، فإن الأحكام حينئذ جارية عليهم، فيلام العاصي، ويقام عليه الحد والقصاص، وغير ذلك، وأما بعد أن يموت، فقد ثبت النهي عن سَبّ الأموات، "ولا تذكروا موتاكم إلا بخير"؛ لأن مرجع أمرهم إلى الله، وقد ثبت أنه لا يُثنى العقوبة على من أُقيم عليه الحد، بل ورد النهي عن التثريب على الأمة إذا زنت، وأقيم عليها الحد، وإذا كان كذلك، فلوم موسى لآدم إنما وقع بعد انتقاله عن دار التكليف، وثبت أن الله تاب عليه، فسقط عنه اللوم، فلذلك عَدَل إلى الاحتجاج بالقدر السابق، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه غلب موسى بالحجة. قال المازريّ: لمّا تاب الله على آدم، صار ذكر ما صَدَرَ منه إنما هو كالبحث عن السبب الذي دعاه إلى ذلك، فأخبر هو أن الأصل في ذلك القضاء السابق، فلذلك غلب بالحجة. قال الداودي فيما نقله ابن التين: إنما قامت حجة آدم؛ لأن الله خلقه ليجعله في الأرض خليفة، فلم يَحتَجّ آدم في أكله من الشجرة بسابق العلم؛ لأنه كان عن اختيار منه، وإنما احتج بالقدر لخروجه؛ لأنه لم يكن بُدٌّ من ذلك. وقيل: إن آدم أب، وموسى ابن، وليس للابن أن يلوم أباه. حكاه القرطبي وغيره، ومنهم من عَبّر عنه بأن آدم أكبر منه، وتعقّبه بأنه بعيد من معنى الحديث، ثم هو ليس على عمومه، بل يجوز للابن أن يلوم أباه في عدة مواطن. وقيل: إنما غلبه لأنهما في شريعيتن متغايرتين، وتُعُقّب بأنها دعوى لا دليل عليها، ومن أين يَعلَم أنه كان في شريعة آدم أن المخالف يحتج بسابق القدر، وفي شريعة موسى أنه لا يحتج، أو أنه يتوجه له اللوم على المخالف. وفي الجملة فأصح الأجوبة الثاني والثالث، ولا تنافي بينهما، فيمكن أن يمتزج منهما جواب واحد، وهو أن التائب لا يُلام على ما تِيب عليه منه، ولا سيما إذا انتقل عن دار التكليف، وقد سلك النووي هذا المسلك، فقال: معنى كلام آدم: إنك يا موسى تَعلَم أن هذا كُتب عليّ قبل أن أُخلق، فلا بُدَّ من وقوعه، ولو حرصتُ أنا، والخلق

أجمعون على رد مثقال ذرة منه لم نقدر، فلا تلمني، فإن اللوم على المخالفة شرعي لا عقلي، وإذا تاب الله عليّ، وغفر لي زال اللوم، فمن لامني كان محجوجًا بالشرع. [فإن قيل]: فالعاصي اليوم لو قال: هذه المعصية قُدّرت عليّ، فينبغي أن يسقط عني اللوم. [قلنا]: الفرق أن هذا العاصي باق في دار التكليف، جارية عليه الأحكام، من العقوبة واللوم، وفي ذلك له ولغيره زجرٌ وعظةٌ، فأما آدم فميت، خارج عن دار التكليف، مستغنٍ عن الزجر، فلم يكن للومه فائدة، بل فيه إيذاءٌ وتخجيلٌ، فلذلك كان الغلبة له. وقال التوربشتي: ليس معنى قوله: "كتبه الله عليّ" ألزمني به، وإنما معناه أثبته في أم الكتاب قبل أن يَخلُق آدم، وحَكَمَ أن ذلك كائن. ثم إن هذه المحاججة إنما وقعت في العالم العلوي، عند مُلْتَقَى الأوراح، ولم تقع في عالم الأسباب، والفرق بينهما أن عالم الأسباب لا يجوز قطع النظر فيه عن الوسائط والاكتساب، بخلاف العالم العلوي بعد انقطاع موجب الكسب، وارتفاع الأحكام التكليفية، فلذلك احتج آدم بالقدر السابق. قال الحافظ: وهو محصل بعض الأجوبة المتقدم ذكرها (¬1). وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى إلى ان احتجاج آدم على موسى عليهما السلام كان في المصائب، لا في الذنوب، قال: وقد ظنّ قوم أن آدم احتجّ بالقدر السابق على نفي الملام على الذنب، ثم صاروا لأجل هذا الظنّ ثلاثة أحزاب: (فريق): كذبوا بهذا الحديث، كأبي عليّ الجبّائيّ وغيره؛ لأنه من المعلوم بالاضطرار أن هذا خلاف ما جاءت به الرسل، ولا ريب أنه يمتنع أن يكون هذا مراد الحديث، ويجب تنزيه النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، بل وجميع الأنبياء، وأتباع الأنبياء أن يَجعلوا القدر حجة لمن عصى الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم-. ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 11/ 622 - 634.

(وفريق): تأوّلوه بتأويلات معلومة الفساد، كقول بعضهم: إنما حجه لأنه كان أباه، والابن لا يلوم أباه. وقول بعضهم: لأن الذنب كان في شريعة، واللوم في أخرى. وقول بعضهم: لأن الملام كان بعد التوبة. وقول بعضهم: لأن هذا تختلف فيه دار الدنيا ودار الآخرة. (وفريق ثالث) جعلوه عمدة سقوط الملام عن المخالف لأمر الله سبحانه وتعالي ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ثم لم يمكنهم طرد ذلك، فلا بدّ في نفس معاشهم في الدنيا أن يلام من فعل ما يضرّ نفسه وغيره، لكن منهم من صار يحتج بهذا عند أهوائه وأغراضه، لا عند أهواء غيره، كما قيل في مثل هذا: أنت عند الطاعة قدريّ، وعند المعصية جبريّ، أي أيّ مذهب وافق هواك تمذهبت به، فالواحد من هؤلاء إذا أذنب أخذ يحتجّ بالقدر، ولو أذنب غيره، أو ظلمه لم يعذُره، وهؤلاء ظالمون معتدون. ومنهم من يقول: هذا في حقّ أهل الحقيقة الذين شهدوا توحيد الربوبيّة، وفنُوا عما سوى الله، فيرون أن لا فاعل إلا الله، فهؤلاء لا يستحسنون حسنةً، ولا يستقبحون سيّئةً، فإنهم لا يرون لمخلوق فعلًا، بل لا يرون فاعلا إلا الله، بخلاف من شهد لنفسه فعلًا، فإنه يُذَمُّ ويُعاقَب، وهذا قول كثير من متأخري الصوفيّة المدّعين للحقيقة، وقد يجعلون هذا نهاية التحقيق، وغاية العرفان والتوحيد، وهذا قول طائفة من أهل العلم. قال: وممن يُشبه هؤلاء كثير من الفلاسفة، كقول ابن سينا بأن يشهد سرّ القدر، والرازيّ يقرّر ذلك؛ لأنه كان جبريًّا محضًا. وفي الجملة فهذا المعنى دائر في نفوس كثير من أهل العلم والعبادة، فضلًا عن العامّة، وهو مناقض لدين الإسلام. قال: إذا عرفت هذا، فنقول: الصواب في قصّة آدم وموسى- عليهما السلام- أن موسى لم يَلُم آدم إلا من جهة المصيبة التي أصابته وذريّته بما فعل، لا لأجل أن تارك الأمر مذنبٌ عاصٍ، ولهذا قال: "لِمَ أخرجتنا ونفسك من الجنّة؟ "، ولم يقل: لماذا

خالفت الأمر، ولماذا عصيت؟. إلى آخر كلامه رحمه الله (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي صوّبه شيخ الإسلام رحمه الله من أن لوم موسى لآدم -عليهما السلام- على المصيبة، لا على الذنب هو الذي يترجّح عندي؛ لوضوح حجته، كما فصّله رحمه الله تفصيلًا حسنًا، وحققه تحقيقًا بليغًا، فراجعه بتأمل تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 81 - (حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ عَامِرِ بْنِ زُرَارَةَ، حَدَّثَنَا شَرِيك، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ عَليٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله عز وجل: "لَا يُؤْمنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمنَ بِأَرْبَعٍ: بِالله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأنِّي رَسُولُ الله، وَبِالْبَعثِ بَعْدَ الموْتِ، وَالْقَدَرِ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (عَبْدُ الله بْنُ عَامِرِ بْنِ زُرَارَةَ) الحضرميّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، صدوقٌ [10] تقدّم في 4/ 30. 2 - (شَرِيكٌ) بن عبد الله النخعيّ الكوفيّ القاضي، صدوقٌ يخطىء كثيرًا، وتغير حفظه [8] تقدّم في 1/ 1. 3 - (مَنْصُور) بن المعتمر السلميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقة ثبت فاضل عابد [6] 4/ 31. 4 - (رِبْعِيٍّ) بن حِرَاش العبسيّ، أبو مريم الكوفيّ، ثقة عابدٌ مخضرم [2] 4/ 31. 5 - (عَليّ) بن أبي طالب الخليفة الراشد -رضي الله عنه-, تقدّم في 2/ 20. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَليٍّ -رضي الله عنه-) أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهَ -صلى الله عليه وسلم- لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ) هذا نفي لأصل الإيمان، لا نفي للكمال، فمن لم يؤمن بواحد من هذه الأربعة لم يكن مؤمنًا، ويلزم منه ¬

_ (¬1) راجع "مجموع الفتاوى" 8/ 303 - 336.

أن يكون القدريّ كافرًا، وهو خلاف ما عليه الجمهور، وقد تقدّم تحقيق الخلاف في ذلك فلا تغفل. (حَتَّى يُؤْمِنَ بِأَرْبَعٍ) أي أي بأربع خصال (بالله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ) ولفظ الترمذيّ: "يشهد أن لا إله إلا الله" (وأنِّي رَسُولُ الله) زاد في رواية الترمذيّ: "بعثني بالحقّ" (وَبِالْبَعْثِ بَعْدَ الموْتِ) أي يؤمن ببعث الناس من قبورهم بعد الموت. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ظاهر رواية المصنّف أن هذا هو الثالث من الأمور الأربعة، فالإيمان بالله سبحانه وتعالى، أولها، والإيمان بالرسول -صلى الله عليه وسلم- ثانيها، والإيمان بالبعث ثالثها، ولفظ الترمذيّ: "ويؤمن بالموت، والبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر"، وعليه يكون الأول هما الشهادتان، والثاني الإيمان بالموت، والثالث الإيمان بالبعث بعد الموت، والرابع الإيمان بالقدر. قال المظهر معنى الإيمان بالموت اعتقاد فناء الدنيا، وهو احتراز عن مذهب الدهريّة القائلين بقدم العالم، وبقائه أبدًا. قال القاري: وفي معناه التناسخيّ، ويحتمل أن يراد اعتقاد أن الموت يحصل بأمر الله، لا بفساد المزاج، كما يقول الطبيعيّ. انتهى. (وَالْقَدَرِ) أي الإيمان بأن جميع ما يجري في العالم بقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره. قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "حتى يؤمن بأربع الخ" هذا نفي أصل الإيمان، لا نفي الكمال، فمن لم يؤمن بواحد من هذه الأربعة لم يكن مؤمنًا: [أحدها]: الإقرار بأن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، بعثه بالحقّ إلى كافة الجنّ والإنس. [الثاني]: أن يؤمن بالموت حتى يعتقد أن الدنيا وأهلها تفنى، كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26]، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] , وهذا احتراز عن مذهب الدهريّة، فإنهم يقولون: العالم قديم باق. ويحتمل أن يراد الإيمان بالموت أي يعتقد أن الموت يحصل بأمر الله، لا بالطبيعة، خلافًا للطبيعيّ، فإنه يقول: يحصل الموت بفساد المزاج.

[الثالث]: أن يؤمن بالبعث بعد الموت. [الرابع]: أن يؤمن بالقدر، يعني يعتقد أن جميع ما في العالم بقضاء الله وقدره، كما ذُكر قبل هذا. قال: و"حتى" في قوله: "حتى يؤمن" للتدريج، كما في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الرجل ليصدُق حتى يُكتب صديقًا"، يعني أنه لا يُعتبر التصديق بالقلب حتى يتمكّن منه التصديق إلى أن يبلغه إلى هذه الأوصاف الأربعة. وقوله: "بعثني بالحق" -أي في رواية الترمذيّ- استئناف، كأنه قيل: لم يشهد بذلك؟ فأجيب "بعثني بالحقّ"، أي لأن الله تعالى بعثني بالحقّ، ويجوز أن يكون حالًا مؤكّدةً، أو خبرًا بعد خبر، فعلى هذا يدخل في حيّز الشهادة، وقوله -صلى الله عليه وسلم- حكايةُ معنى قول الشاهد، لا قوله، فإن قوله: "أن محمدًا رسول الله بعثه بالحقّ". [فإن قلت]: لم ذكر في الثلاث الأخيرة -أي في رواية الترمذيّ أيضًا- لفظة "يؤمن"، وذكر في الأولى لفظة "يشهد"؟. [قلت]: "يشهد" إلى آخره تفصيل لقوله: "يؤمن بأربع"، فلن يكون التفصيل مخالفًا للمجمل، كأن أصل الكلام أن يقال: يؤمن بالله وحده لا شريك له، وبأني رسول الله حقًّا، ويؤمن بكذا، ويؤمن بكذا، فعدل إلى لفظ الشهادة أمنًا من الالتباس، ودلالة على أن النطق بالشهادتين أيضًا ركن من الأركان، ولأن هذه الشهادة غاية للإيمان، ويتدرّج منه إليه، فلا يتصور الشهادة باللسان دون التصديق بالقلب، كأنه قيل: يشهد باللسان بعد التصديق الراسخ في القلب. قوله: "يؤمن بالموت" أي يؤمن أن الموت حقّ، وأن البعث حقّ، وتكرير الموت إيذانٌ باهتمام شأنه، فهو مثل قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:15 - 16] في أن المراد الاهتمام بشأن الموت، ثم الذي يليه من البعث، فإن الموت ذريعة إلى وصول السعادة الكبرى، ووسيلة إلى ارتقاء الدرجة العليا.

قال الراغب: الموت أحد الأسباب الموصلة إلى النعيم، فهو وإن كان في الظاهر فناءً واضمحلالًا، لكن في الحقيقة ولادة ثانية، وهو باب من أبواب الجنة، منه يُتوصّل إليها، ولو لم يكن لم تكن الجنة من الله تعالى على الإنسان، فقال: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2] قدّم الموت على الحياة تنبيهًا على أنه يُتوصّل منه إلى الحياة الحقيقيّة، وعدّه علينا من الآلاء في قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26]، ونبّه الله تعالى بعد قوله: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:14 - 16] على أن هذه التغييرات لخلق أحسن، فنقض هذه البنية لإعادتها على وجه أشرف، كالنوى المزروع الذي لا يصير نخلًا مثمرًا إلا بعد فساد حبتها، وكذلك البرّ إن أردنا أن نجعله زيادة في أجسادنا نحتاج إلى أن يُطحن، ويُعجن، ويُطبخ، ونأكل، فهذه تغييرات كثيرة، هي فساد في الظاهر، وكذلك البذر إذا أُلقي في الأرض يعدّه من لا يتصوّر حاله فسادًا، فالنفس لا تحبّ البقاء في هذه الدار إلا إذا كانت قذرة راضيةً بالأعراض الدنيئة، رضا الجُعْل بالحشّ، أو تكون جاهلةً نجاتها في المآل. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله. وهو بحث مفيدٌ جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عليّ -رضي الله عنه- هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي سنده شريك بن عبد الله النخعيّ، وهو متكلّم فيه؟. [قلت]: لم ينفرد به شريك، بل تابعه عليه شعبة، عند الترمذيّ، فقد أخرجه في "الجامع" من طريقه، ونصّه:

حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا أبو داود، قال: أنبأنا شعبة، عن منصور، عن رِبْعي بن حِرَاش، عن عليّ، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن عبدٌ حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله، وأني محمد رسول الله، بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، وبالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر". حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا النضر بن شُميل، عن شعبة نحوه، إلا أنه قال ربعي: عن رجل، عن عليّ. قال أبو عيسى: حديث أبي داود عن شعبة عندي أصح، من حديث النضر، وهكذا روى غير واحد عن منصور، عن ربعي، عن علي. انتهى. فتبيّن بهذا أن الحديث صحيح. والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنف) هنا بهذا السند فقط، وأخرجه (الترمذيّ) في "القدر" (2145) و (الطيالسيّ) في "مسنده" (106) و (أحمد) في "مسنده" (1/ 97 و 133) و (عبد بن حميد) في "مسنده" (75) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (178) و (الحاكم) في "المستدرك" (1/ 33)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف، وهو وجوب الإيمان بالقدر. 2 - (ومنها): أن من لم يؤمن بهذه الأربعة لا يكون مؤمنًا. 3 - (ومنها): وجوب الإيمان بالموت، أي بأنه حقّ، لا كما يقول الضالون من الدهريّة، وأهل الطبائع. 4 - (ومنها): وجوب الإيمان بأن الخلائق يبعثون بعد موتهم يوم القيامة. 5 - (ومنها): أن من لم يؤمن بالقدر لا يسمّى مؤمنًا، وبهذا قال بعض أهل العلم، وأما الجمهور فعلى التفصيل الذي مرّ تحقيقه عند شرح حديث عمر -رضي الله عنه- في سؤال جبريل للنبيّ -صلى الله عليه وسلم-. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 82 - (حَدَّثَنَا أبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعِليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَا: حَدّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ الله، عَنْ عَمَّتِهِ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنينَ -رَضِي الله عَنْهَا- قَالَتْ: دُعِيَ رَسُوُل الله -صلى الله عليه وسلم- إِلَى جِنَازة غُلَامٍ مِنَ الْأنصَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله طُوبَى لهِذَا، عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافَيرِ الجنَّةِ، لَمْ يَعْمَلِ السُّوءَ وَلَمْ يُدْرِكهُ، قَالَ: "أَوَ غَيْرُ ذَلِكِ يَا عَائِشَةُ، إِنَ الله خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا، خَلَقَهُمْ لهَا وَهُمْ في أَصْلَابِ آبائِهِمْ، وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا، خَلَقَهُمْ لهَا وَهُمْ في أَصْلَابِ آبائِهِمْ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (أبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبةَ) المذكور قبل حديثين. 2 - (عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطنافسيّ المذكور قبل حديثين أيضًا. 3 - (وكيع) بن الجرّاح المذكور قريبًا. 4 - (طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ الله) التيمي المدني، نزيل الكوفة، صدوقٌ يُخطئ [6]. روى عن أبيه، وأعمامه، وابني عميه: إبراهيم بن محمد بن طلحة، ومعاوية بن إسحاق بن طلحة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، ومجاهد بن جبر، وغيرهم. وروى عنه السفيانان، وعبد الله بن إدريس، وعبد الواحد بن زياد، وشريك، وأبو أسامة، وعبدة بن سليمان، ويحيى القطان، ووكيع، وغيرهم. قال علي بن المديني، عن يحيى بن سعيد القطان: لم يكن بالقوي، وعمر بن عثمان أحب إلي منه. وقال أحمد: صالح الحديث، وهو أحب إلي من بريد بن أبي بردة، بُريد له أحاديث مناكير، وطلحة إنما أنكر عليه حديث: "عصفور من عصافير الجنة". وقال ابن معين: ثقة، وقَدّمه على أخيه إسحاق. وقال يعقوب بن شيبة، والعجلي: ثقة. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبو داود: ليس به بأس. وقال أبو زرعة، والنسائي: صالح. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، حسن الحديث، صحيح الحديث. وقال صالح

ابن أحمد عن أبيه، والحاكم، عن الدارقطني: ثقة. وقال يعقوب بن شيبة أيضًا: لا بأس به، في حديثه لين. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث صالحة، وأمه أم أبان بنت أبي موسى الأشعري. وقال الساجيّ: صدوق، لم يكن بالقوي. وقال ابن عدي: رَوَى عنه الثقات، وما برواياته عندي بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان يُخطىء. وقال ابن معين: مات سنة ثمان وأربعين ومائة. وقال ابن حبان: مات سنة (6)، قال: وقد قيل: إنه رأى ابن عمر، وليس عليه اعتماد. وقال الفلاس: وُلد سنة (61) هو، والأعمش، وهشام بن عروة، وعمر بن عبد العزيز. أخرج له الجماعة سوى البخاريّ، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (82) و (652) و (725) و (1701) و (2989). 5 - (عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ) بن عبيد الله التيمية، أُمُّ عمران، أمها أم كلثوم بنت أبي بكر، ثقة [3]. روت عن خالتها عائشة، وعنها ابنها طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن، وحَبِيب ابن أبي عَمْرو، وابن أخيها طلحة بن يحيى بن طلحة، وابن أخيها الآخر معاوية بن إسحاق، وابن ابن أخيها موسى بن عبيد الله بن إسحاق، والمنهال بن عمرو، وفضيل ابن عمرو، وعطاء بن أبي رباح، وعمر بن سعيد، وغيرهم. قال ابن أبي مريم، عن ابن معين: ثقة حجة. وقال العجلي: مدنية تابعية ثقة. وقال أبو زُرعة الدمشقي: حَدّث عنها الناس لفضلها وأدبها. وذكرها ابن حبان في "الثقات". أخرج لها الجماعة، ولها في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (82) و (2901) و (4212). 6 - (عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها) تقدّمت في 2/ 14، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه عليّ، فإنه من أفراده، وهو ثقة. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من طلحة، والباقون كوفيّون، وطلحة أيضًا نزيل الكوفة. 4 - (ومنها): أن فيه رواية الراوي عن عمته: طلحة عن عائشة. 5 - (ومنها): أن طلحة وعائشة بنت طلحة هذا أول محلّ ذكرهما من الكتاب، وجملة ما رواه المصنف لطلحة فيه خمسة أحاديث فقط، ولعائشة ثلاثة أحاديث فقط، كما نبهت عليه آنفًا. 6 - (ومنها): أن عائشة رضي الله تعالى عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المؤمنين -رضي الله عنها) أنها (قَالَتْ: دُعِيَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-) ببناء الفعل للمفعول، ورفع "رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" على أنه نائب الفاعل: أي دُعي للَصلاة (إِلَى جِنَازة) بفتح الجيم، وكسرها (غُلَامٍ) متعلّق بـ "دُعي"، وفي رواية مسلم: "إلى جنازة صبيّ" (مِنَ الْأنصَارِ) بفتح الهمزة لقب لمسلمي الأوس والخزرج الذين نصروا الإسلام، وآووا المسلمين، قال في "اللسان": والأنصار أنصار النبيّ -صلى الله عليه وسلم- غَلَبت عليهم الصفة، فجرى مَجْرَى الأسماء، وصار كأنه اسم الحيّ، ولذلك أُضيف إليه بلفظ الجمع، فقيل: أنصاريّ. انتهى (¬1) (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله طُوبَى لهَذَا) قال الطيبيّ رحمه الله: "طوبى" فُعلى من الطيب، قُلبت الياء واوًا للضمة قبلها، قيل: معنى طوبى له: أطيب ¬

_ (¬1) "لسان العرب" 5/ 210.

المعيشة له. وقيل: معناه أُصيب خيرًا على الكناية؛ لأن إصابة الخير مستلزم لطيب العيش له، فأَطلق اللازم، وأراد الملزوم. انتهى (¬1). وقال في "اللسان": طوبى فُعلى من الطِّيبِ، كأن أصله طُيْبَى، فقلبوا الياء واوًا للضمة قبلها، ويقال: طُوبى لك، وطُوباك بالإضافة، ولا تقل: طُوِبيك بالياء، والإضافة، وأثبته الأخفش، وأنكره بعضهم، وقال: هو لحن، والصواب طوبى لك باللام، و"طوبى" شجرة في الجنة. وفي التنزيل العزيز: {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد: 29]، وذهب سيبويه بالآية مذهب الدعاء، قال: هو في موضع رفع يدلّك على رفعه رفعُ {وَحُسْنُ مَآبٍ}، قال ثعلب: وقرىء "طوبى لهم وحسن مآب"، فجعل طوبى مصدرًا، كقولك: سقيًا لك، ونظيره من المصادر الرُّجْعَى، واستدلّ على أن موضعه نصبٌ بقوله: "وحسنَ مآب". وقيل: معنى طوبى لهم: حُسْنَى لهم، وقيل: خيرٌ لهم، وقيل: خِيرَةٌ لهم. وقيل: المعنى أن العيش الطيّب لهم. انتهى باختصار (¬2). وقيل: طوبى لهم: معناه: فرحٌ وقرّة أعين لهم. وقيل: اسم الجنة بالحبشية، وقيل: اسمها بالهنديّة. وقيل: طوبى تأنيث أطيب: أي الراحة، وطيب العيش حصل لهذا الصبيّ (¬3). (عُصْفُورٌ) خبر لمحذوف: أي هو عصفور: أي طير صغير، والعصفور بضم العين المهملة، على المشهور، وقد تُفتح، وأنكر الفتح بعضهم، طائر معروف، سُمّي بذلك لأنه عصى، وفَرّ (¬4). (مِنْ عَصَافِيرِ الجنَّةِ) أي هو مثلها من حيث إنه لا ذنب عليه، وينزل في الجنة حيث يشاء. قال ابن الملك: شبّهته بالعصفور كما هو صغير، إما بالنسبة إلى ¬

_ (¬1) "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 536. (¬2) "لسان العرب" 1/ 564 - 565. (¬3) راجع "المرقاة" 1/ 269. (¬4) راجع "تاج العروس من جواهر القاموس" 3/ 408.

ما هو أكبر منه من الطيور، وإما لكونه خاليًا من الذنوب من عدم كونه مكلّفًا. انتهى. قال القاريّ: والأظهر الثاني، فهو تشبيه بليغ، وما قيل: من أن هذا ليس من باب التشبيه؛ لأنه لا عصفور في الجنة، فممنوع؛ لما ورد في الحديث: "إن في الجنّة طيرًا كأمثال البخت تأتي الرجل، فيُصيب منها، ثم تذهب كأن لم ينقص منها شيء"، وقد قال الله عز وجل: {وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الطور: 22]، وقال: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 21]. وأما ما ذكره ابن حجر -يعني الهيتمي- من حديث: "أرواح الشهداء في أجواف طيور خُضْر ... " (¬1) "، وخبر: "إنما نسمة المؤمن -أي روحه- طائر في شجر الجنة ... " (¬2)، فليس يصلح سندًا للمنع، كما لا يخفى (¬3). انتهى (¬4). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي قال: إنه ليس من باب التشبيه، هو الطيبيّ، ونصّ عبارته في "الكاشف": [فإن قلت]: هذا فيه إشكال؛ لأنه ليس من باب التشبيه، كما تقول: هذا ¬

_ (¬1) حديث أخرجه مسلم في "صحيحه"، ولفظه: عن مسروق قال: سألنا عبد الله عن هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك، فقال: "أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة، فقال: هل تشتهون شيئًا، قالوا: أيَّ شيء نشتهى، ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات: فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يُسألوا، قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا، حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا". وسيأتي للمصنّف في "كتاب الجهاد برقم (8201). (¬2) حديث صحيح أخرجه النسائي في "المجتبى" 4/ 108 رقم الحديث 2073. ولفظه: "إنما نَسَمَة المؤمن طائر، في شجر الجنة، حتى يبعثه الله عز وجل إلى جسده يوم القيامة". (¬3) قال الجامع: الظاهر أنه صالح للمنع، فتأمّل. (¬4) راجع "المرقاة" 1/ 269 - 270.

كعصفور من عصافير الجنة؛ إذ ليس المراد أن ثمة عصفورًا، وهذا مشبه به، ولا من باب الاستعارة؛ لأنه المشبّه والمشبّه به مذكوران؛ لأن التقدير هو عصفور، والمقدّر كالملفوظ. [قلت]: هو من باب الادّعاء، كقولهم تحيّة بينهم ضربٌ وجيعٌ، وقولهم: القلم أحد اللسانين، جُعل بالادّعاء التحيّة والقلم ضربين: أحدهما المتعارف من الضرب واللسان، والآخر غير المتعارف من الضرب واللسان، فبيّن في الأول بقوله: ضرب وجيعٌ أن المراد غير المتعارف، كما بيّن في الثاني بقوله: أحد اللسانين أن المراد منه غير المتعارف، جَعَلت رضي الله عنها العصفور صنفين: أحدهما المتعارف، وثانيهما الأطفال من أهل الجنّة، وعيّنت بقولها: "من عصافير الجنة" أن المراد الثاني. وقولها: "لم يعمل السوء" بيان لإلحاق الطفل بالعصفور، وجعله منه، كما جَعَل القائل القلمَ لسانًا بواسطة إفصاحهما عن الأمر المضمر. انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا قرّر الطيبيّ أنه لا تشبيه هنا، لكن الحقّ أنه من باب التشبيه، وقد عرفت تحقيقه في كلام القاري المذكور قبله، فتفطّن، ولا تكن أسير التقليد، والله الهادي إلى سواء السبيل. (لَمْ يَعْمَلِ) بفتح أوله، وثالثه، من باب تعب (السُّوءَ) بضم السين المهملة، وتُفتَح: أي الذنب، قال المظهر: أي لم يعمل ذنبًا يتعلّق بحقوق الله، وأما حقوق العباد، كإتلاف مال مسلم، وقتل نفس، فيؤخذ منه الغرم والدية، وإذا سرق يؤخذ منه المال، ولا تقطع يده؛ لأنه من حقوق الله. انتهى. قال القاريّ: لا تُسمّى هذه الأفعال منه ذنوبًا. فتأمل (¬2) (وَلَمْ يُدْرِكْهُ) أي لم يَلحقه السوء، فيكون تأكيدًا، أو لم يدرك هو السوء: أي وقته؛ لموته قبل التكليف، فضلًا عن ¬

_ (¬1) "الكاشف" 2/ 536. (¬2) "المرقاة" 1/ 270.

عمله، والتأسيس أولى، ومع إفادة المبالغة أحرى. قاله القاري. قال القرطبيّ: رحمه الله تعالى: إنما قالت عائشة رضي الله عنها هذا؛ لأنها بَنَت على أن كلّ مولود يولد على فطرة الإسلام، وأن الله تعالى لا يُعذّب حتى يبعث رسولًا، فحكمت بذلك، فأجابها النبيّ بما ذُكر. انتهى (¬1). (قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (أَوَ غيرُ ذَلِكِ) بفتح الواو، ورفع "غير"، وكسر الكاف، قال القاري: هو الصحيح المشهور من الروايات، والتقدير: أتعتقدين ما قلتِ؟، والحقّ غيرُ ذلكِ، وهو عدم الجزم بكونه من أهل الجنّة، فالواو للحال. قاله القاري. وفي "الفائق" للزمخشريّ: الهمزة للاستفهام، أي الإنكاريّ، والواو عاطفة على محذوف، و"غير" مرفوع بعامل مضمر، تقديره: أقلتِ هذا، ووقع غير ذلك. ويجوز أن تكون "أو" بسكون الواو التي هي لأحد الأمرين: أي الواقع هذا أو غيرُ ذلك. وقيل: التقدير: أو هو غير ذلك. ورُوي بنص "غير": أي أو يكون غيرَ ذلك، أو التقدير أو غير ما قلتِ. قاله القاري (¬2). وقال الطيبيّ: ويجوز أن تكون "أو" بمعنى "بل"، أنشد الجوهريّ [من الطويل]: بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشِّمْسِ في رَوْنَقِ ... وَصُورَتُهَا أَوْ أَنْتِ في الْعَيْنِ أَمْلَحُ يريد بل أنت، وقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147]، أي بل يزيدون، كأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يرتض قولها رضي الله عنها، فأضرب عنه، وأثبت ما يُخالفه؛ لما فيه من الحكم بالغيب، والجزم بتعيين إيمان أبوي الصبيّ، أو أحدهما؛ إذ هو تبعٌ لهما، ومرجع معنى الاستفهام إلى هذا؛ لأنه لإنكار الجزم، وتقرير لعدم التعيين. ولعلّ الرّدّ كان قبل إنزال ما أُنزل عليه في ولدان المؤمنين. ¬

_ (¬1) "المفهم" 6/ 679. (¬2) "المرقاة" 1/ 270.

(يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا) أي يدخلونها، ويتنعّمون بها (خَلَقَهُمْ لهَا) قال الطيبيّ: كرّر "خلق" لإناطة أمر زائد عليه، وهو قوله: "وهم في أصلاب آبائهم" اهتمامًا بشأنه، كما قال زهير [من البسيط]: مَنْ يَلْقَ يَوْمًا عَلَى عِلَّاتِهِ هَرِمًا ... يَلْقَ السَّمَاحَةَ مِنْهُ وَالنَّدَى خُلِقَا عِلاَته بكسر العين: أي على كلّ حال، و"هرمًا" اسم رجل، وكرّر "يَلْقَ"، وعلّق به السماحة والندى اهتمامًا به. وقوله: (وَهُمْ في أَصْلَابِ آبائهم) أي قبل أن يولدوا، والجملة حالٌ. قيل: عيّن في الأزل من سيكون من أهل الجنّة، ومن سيكون من أهل النار، فعبّر عن الأزل بأصلاب الآباء تقريبًا لأفهام العامّة. وقال الطبيّ: ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "وهم في أصلاب آبائهم" خلق الذرّيّة في ظهر آدم عليه السلام، وإخراجها ذرّيّةً بعد ذُرّيّة من صلب كل والد إلى انقراض العالم (¬1). (وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا) فيه إيماء إلى أنه لا اعتراض، فإنهم أهل لها أهليّة لا يعلمها إلا خالقها (خَلَقَهُمْ لهَا وَهُمْ في أَصْلَابِ آبائهم) أي وإنما يظهر منهم من الأعمال ما قُدّر لهم في الأزل. وقال القرطبيّ: هذا لا يعارض ما تقدّم من أنه يُكتب، وهو في بطن أمه شقيّ أو سعيدٌ؛ لما قدّمناه من أن قضاء الله وقدره راجعٌ إلى علمه وقُدرته، وهما أزليّان، لا أول لهما، ومقصود هذه الأحاديث كلِّها أن قدر الله سابق على حدوث المخلوقات، وأن الله تعالى يظهر من ذلك ما شاء لمن شاء متى شاء قبل وجود الأشياء. انتهى (¬2). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. ¬

_ (¬1) "الكاشف" 2/ 537. (¬2) "المفهم" 6/ 680.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هذا أخرجه مسلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (10/ 82) بهذا السند فقط، وأخرجه (مسلم) في "كتاب القدر" (6710) و (أبو داود) في "كتاب السنّة" (4713) و (النسائيّ) في "كتاب الجنائز" (1946) و (الطيالسيّ) في "مسنده" (1574) و (الحميديّ) في "مسنده" (265) و (أحمد) في "مسنده" 6/ 41 و 208 و (ابن حبان) في "صحيحه" (138)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو إثبات القدر، وبيان وجوب الإيمان به. 2 - (ومنها): مشروعية إعلام أهل الفضل حتى يصلّوا على موتى المسلمين، وليس ذلك من النعي المنهيّ عنه. 3 - (ومنها): مشروعيّة الصلاة على أطفال المسلمين. 4 - (ومنها): ما قاله القاضي عياض رحمه الله: في هذا الحديث إشارة إلى أن الثواب والعقاب لا لأجل الأعمال، وإلا لكان ذراريّ المسلمين والكافرين لا من أهل الجنّة، ولا من أهل النار، بل الموجب هو اللطف الربّانيّ، والخذلان الإلهيّ المقدّر لهم، وهم في أصلاب الآباء، فالواجب التوقّف، وعدم الجزم. وقال النوويّ رحمه الله: أجمع من يُعتدّ به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين، فهو من أهل الجنّة، وتوقّف في ذلك بعضهم لهذا الحديث، وأجابوا عنه بأنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليلٌ قاطع. ويحتمل أنه -صلى الله عليه وسلم- قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنّة. انتهى. وقال القاري رحمه الله: والأصحّ ما تقدّم من أنه لم يرتض هذا القول منها؛ لما فيه

من الحكم بالغيب، والجزم بإيمان أصل الولد؛ لأنها أشارت إلى طفل معيّن، فالحكم على شخص معيّن بأنه من أهل الجنة لا يجوز من غير ورود النصّ؛ لأنه من علم الغيب. وقد يقال: التبعيّة في الدنيا من الإيمان والكفر، وحكمها من أمور الآخرة. ففيه إرشاد للأمة إلى التوقّف في الأمور المبهمة، والسكوت عما لا علم لهم به، وحسن الأدب بين يدي علام الغيوب. وقال ابن حجر الهيتميّ الفقيه: ولعل هذا كان قبل ما نزل عليه في ولدان المؤمنين والكفّار؛ إذ هم في الجنة إجماعًا في الأول، وعلى الأصحّ في الثاني. انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن حجر الهيتميّ هو الحقّ، كما سيأتي تحقيقه في المسألة التالية، إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في الأطفال: قال في "الفتح": اختلف العلماء قديمًا وحديثًا في هذه المسألة على أقوال: [أحدهما]: أنهم في مشيئة الله تعالى، وهو منقول عن الحمادين، وابن المبارك، وإسحاق، ونقله البيهقي في "الاعتقاد" عن الشافعي في حق أولاد الكفار خاصة، قال ابن عبد البر: وهو مقتضى صنيع مالك، وليس عنده في هذه المسألة شيء منصوص، إلا أن أصحابه صَرّحوا بأن أطفال المسلمين في الجنة، وأطفال الكفار خاصة في المشيئة، والحجة فيه حديث: "الله أعلم بما كانوا عاملين". [ثانيها]: أنهم تبع لآبائهم، فأولاد المسلمين في الجنة، وأولاد الكفار في النار، وحكاه ابن حزم عن الأزارقة من الخوارج، واحتجوا بقوله تعالى: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]، وتعقّبه بأن المراد قوم نوح خاصة، وإنما دعا بذلك لما أوحى الله إليه: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36]، ¬

_ (¬1) راجع "المرقاة شرح المشكاة" للقاري. 1/ 271.

وأما حديث: "هم من آبائهم"، أو "منهم"، فذاك ورد في حكم الحربي. وأما ما رواه أحمد من حديث عائشة: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ولدان المسلمين، قال: "في الجنة"، وعن أولاد المشركين قال: "في النار"، فقلت: يا رسول الله لم يدركوا الأعمال؟ قال: "ربك أعلم بما كانوا عاملين، لو شئت أسمعتك تضاغيهم في النار". فحديث ضعيف جدّا؛ لأن في إسناده أبا عَقِيل، مولى بُهَيّة، وهو متروك. [ثالثها]: أنهم يكونون في برزخ بين الجنة والنار؛ لأنهم لم يعملوا حسنات يدخلون بها الجنة، ولا سيئات يدخلون بها النار. [رابعها]: هم خَدَم أهل الجنة، وفيه حديث عن أنس ضعيف، أخرجه أبو داود الطيالسي، وأبو يعلى، وللطبراني، والبزار، من حديث سمرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: "أولاد المشركين خدم أهل الجنة"، وإسناده ضعيف. [خامسها]: أنهم يصيرون ترابًا، رُوي عن ثمامة بن أشرس. [سادسها]: هم في النار، حكاه عياض عن أحمد، وغلطه ابن تيمية بأنه قول لبعض أصحابه، ولا يُحفَظ عن الإمام أصلًا. [سابعها]: أنهم يُمتحنون في الآخرة، بأن تُرفع لهم نار، فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن أبي عُذّب، أخرجه البزار من حديث أنس، وأبي سعيد رضي الله عنهما، وأخرجه الطبراني من حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه-. وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون، ومن مات في الفترة، من طُرُق صحيحة، وحكى البيهقي في "كتاب الاعتقاد" أنه المذهب الصحيح. وتُعُقّب بأن الآخرة ليست دار تكليف، فلا عمل فيها، ولا ابتلاء. وأُجيب بأن ذلك بعد أن يقع الاستقرار في الجنة أو النار، وأما في عَرَصات القيامة فلا مانع من ذلك، وقد قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ}، وفي "الصحيحين": "أن الناس يؤمرون بالسجود، فيصير ظهر المنافق طبقًا فلا يستطيع أن يسجد".

[ثامنها]: أنهم في الجنة، قال النووي: وهو المذهب الصحيحِ المختار الذي صار إليه المحققون؛ لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وإذا كان لا يعذب العاقل؛ لكونه لم تبلغه الدعوة، فلأن لا يعذّب غير العاقل من باب أولى، ولما أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث سمرة بن جندب -رضي الله عنه- الطويل، وفيه قال: "وأما الرجل الطويل الذي في الروضة، فإنه إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، وأما الولدان الذين حوله، فكلُّ مولود مات على الفطرة"، قال: فقال بعض المسلمين: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وأولاد المشركين" ... الحديث. ولما أخرجه أحمد بإسناد حسن من طريق خنساء بنت معاوية بن صُريم، عن عمتها، قالت: قلت: يا رسول الله، مَنْ في الجنة؟ قال: "النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة". [تاسعها]: الوقف. [عاشرها]: الإمساك، قال الحافظ: وفي الفرق بينهما دقة، انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أرحج الأقوال عندي القول الثامن، وهو الذي صححه النوويّ، وعزاه إلى المحقّقين، وهو أن الأولاد مطلقًا في الجنة؛ لوضوح أدلّته: (فمنها): الآية المذكورة. (ومنها): حديث سمرة -رضي الله عنه-، ففيه: "وأما الولدان الذين حوله، فكل مولود يولد على الفطرة"، فقال بعض المسلمين: وأولاد المشركين؟ فقال: "وأولاد المشركين". (ومنها): ما رواه أبو يعلى بإسناده حسن -كما قال الحافظ- من حديث أنس -رضي الله عنه- مرفوعًا: "سألت ربي اللاهين من ذرية البشر، أن لا يعذبهم، فأعطانيهم". وقد ورد تفسير "اللاهين" بأنهم الأطفال من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا، أخرجه البزار. (ومنها): حديث عمة خنساء المذكور آنفًا، وهو حديث حسن. ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 3/ 290 - 291 "كتاب الجنائز" رقم الحديث (1383).

والحاصل أن الأطفال مطلقًا في الجنّة؛ لما ذكرناه من الأدلة الصحيحة الظاهرة في ذلك، فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله تعالى في أول الكتاب قال: 83 - (حَدَّثَنَا أبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبة، وَعَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكيعٌ، حَدّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ زِيَادِ بْنِ إِسماعِيلَ المخزوميِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ، يُخَاصِمُونَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- في الْقَدَرِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ في النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:48 - 49]). رجال هذا الإسناد: سبعة: 1 - (سُفْيَانُ الثوْرِيُّ) هو: سفيان بن سعيد الثوريّ الكوفيّ الإمام الحجة الثبت [7] تقدّم في 5/ 41. 2 - (زِيَادُ بْنُ إِسماعِيلَ المخْزُومِيِّ) ويقال: السهمي المكي، ويقال: يزيد بن إسماعيل، صدوقٌ سييّء الحفظ [6]. روى عن محمد بن عباد بن جعفر، وسليمان بن عَتِيق. وروى عنه ابن جريج، والثوري. قال ابن معين: ضعيف. وقال علي بن المديني: رجل من أهل مكة معروف. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال أبو الفتح الأزدي: فيه نظر. وقال يعقوب بن سفيان: ليس حديثه بشيء. أخرج له البخاري في "خلق أفعال العباد"، ومسلم، والترمذيّ، والمصنّف، وله عندهم هذا الحديث فقط. 3 - (مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ) بن رفاعة بن أمية بن عائذ بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم المخزومي المكي، ثقة [3].

رَوَى عن جده لأمه عبد الله بن السائب بن أبي السائب المخزومي، وأبي هريرة، وعائشة، وابن عمر، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وغيرهم. وروى عنه ابنه جعفر، والزهري، وزياد بن إسماعيل المخزومي، وعبد الحميد بن جبير بن شيبة، والوليد بن كثير، والأوزاعي، وابن جريج، وغيرهم. قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة مشهور. وقال أبو زرعة: ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس بحديثه. وقال ابن سعد: كان ثقة، قليل الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (83) و (1431) و (1724) و (2896). والباقون تقدّموا في السند الماضي، وأبو هريرة -رضي الله عنه- تقدّم قبل حديثين. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: جَاءَ مُشْرِكو قُرَيْشٍ) أي القبيلة المعروفة، قال الفيّوميّ: "قُريش" هو النضر بن كنانة، ومن لم يلده فليس بقرشيّ. وقيل: قريشٌ هو فِهْر بن مالك، ومن لم يلده فليس من قريش. نقله السهيليّ وغيره. وإلى هذا أشار الحافظ العراقيّ رحمه الله مع ترجيح الثاني في "ألفيّة السيرة" حيث قال: أَمَّا قُرَيشٌ فَالأَصَحُّ فِهْرُ ... جَمَّاعُهَا وَالأَكْثَرُونَ النَّضْرُ وأصل القرش: الجمع، وتقرّشوا: إذا تجمّعوا، وبذلك سُمّيت قُريشٌ. وقيل: قُريشٌ دابّة تسكن البحر، وبه سُمي الرجل، قال الشاعر [من الخفيف]: وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تَسْكُنُ الْبَحـ ... ـر بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا ويُنسب إلى قريش بحذف الياء، فيقال: قُرَشيٌّ، وربّما نُسب إليه في الشعر من غير تغيير، فيقال: قُريشيّ. انتهى كلام الفيّوميّ بزيادة (¬1). ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" 2/ 497.

(يُخَاصِمُونَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (في الْقَدَرِ) أي في إثبات القدر. وقال النوويّ رحمه الله: المراد بالقدر هنا القدر المعروف، وهو ما قدر الله وقضاه، وسبق به علمه وإرادته، وأشار الباجيّ إلى خلاف هذا، وليس كما قال. انتهى (¬1). (فَنَزَلَتْ هَذ الْآيَةُ) وهي قوله (يَوْمَ يُسْحَبُونَ) بدل من اسم الإشارة، و"يوم" ظرف متعلّق بفعل مقدّر: أي يقال لهم "يوم يسحبون": أي يجرّون (في النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ) الجارّان متعلقان بـ "يسحبون"، وقوله (ذُوقُوا) مقول القول المقدّر: أي ذوُقوا على إنكاركم القدر (مَسَّ سَقَرَ) أي إصابة جهنّم لكم، قال النسفيّ رحمه الله: هو كقولك: وجد مسّ الحُمّى، وذاق طعم الضرب؛ لأن النار إذا أصابتهم بحرّها فكأنها تمسّهم مسّا. و"سقر" غير منصرف؛ للتأنيث والتعريف؛ لأنها علم لجهنّم، من سَقَرتهُ النارُ: إذا لوّحته. انتهى (¬2). وقال القرطبي رحمه الله: و"سقر" اسم من أسماء جهنم لا ينصرف؛ لأنه اسم مؤنّث معرفةٌ، وكذا لظى، وجهنم. وقال عطاء: "سقر" الطبق السادس من جهنّم. وقال قُطرُب: "سقر" من سَقَرته الشمس، وصقرته: لَوّحته، ويوم مُسَمْقِرٌ، ومُصَمْقِرٌ: شديد الحرّ. انتهى (¬3). {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} القدر بفتحتين، أو بفتح فسكون-: التقدير: أي بتقدير سابق، أو خلقنا كلّ شيء مقدّرًا محكمًا مرتّبًا على حسب ما اقتضته الحكمة، أو مقدّرًا مكتوبًا في اللوح، معلومًا قبل كونه، قد علمنا حاله، وزمانه. قاله النسفيّ (¬4). وقال القرطبيّ رحمه الله: قرأ العامّة: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ} قرأ العامّة "كلّ" بالنصب، ¬

_ (¬1) 16/ 205. (¬2) "تفسير النسفي" 4/ 206. (¬3) "تفسير القرطبيّ" 17/ 147. (¬4) "تفسير النسفيّ" 4/ 206.

وقرأ أبو السّمّال "كلّ" بالرفع على الابتداء، ومن نصب فبإضمار فعل، وهو اختيار الكوفيين؛ لأن "إنّ" تطلب الفعل فهي به أولى، والنصب أدلّ على العموم في المخلوقات لله تعالى؛ لأنك لو حذفت "خلقنا" المفسّر، وأظهرت الأول لصار إنا خلقنا كلَّ شيء بقدر، ولا يصحّ كون خلقنا صفة لـ "شيء"؛ لأن الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف، ولا تكون تفسيرًا لما يعمل فيما قبله. انتهى (¬1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا أخرجه مسلم. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه زياد بن إسماعيل، وقد تكلموا فيه؟. [قلت]: الحديث أخرجه مسلم، وزياد وإن ضعفه ابن معين، فقد روى عنه ابن جريج، والثوريّ، وقال ابن المدينيّ: رجل من أهل مكة معروف، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، ووثقه ابن حبّان، وأخرج مسلم هذا الحديث من طريقه، فتصحيح حديث مثله غير بعيد. والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (10/ 83) بهذا السند فقط، وأخرجه (مسلم) في "كتاب القدر" (6694) و (الترمذيّ) في "كتاب القدر" (2157) و"التفسير" (3290) و (أحمد) في "مسنده" 2/ 444 و 476 و (البخاريّ) في "خلق أفعال العباد" (19) و (الطبريّ) في "تفسيره" 27/ 110 و (ابن حبان) في "صحيحه" (6139)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف، وهو إثبات القدر، وبيان وجوب الإيمان به. ¬

_ (¬1) "تفسير القرطبيّ " 17/ 147.

2 - (ومنها): بيان سبب نزول الآية الكريمة. 3 - (ومنها): أن الآية نصّ في تعذيب مكذّبي القدر، وهو محمول كما تقدم عن النوويّ على جحد القدر المعروف، وهو جحد تقدير الله سبحانه وتعالى للأشياء، وسبق علمه بها، وإرادته، فإن من كذب بهذا فهو كافر خارج عن الإسلام بلا خلاف بين أهل العلم (¬1). 4 - (ومنها): ما قال الإمام ابن كثير رحمه الله: أنه استدلّ بهذه الآية الكريمة أئمة السنة على إثبات قدر الله تعالى السابق لخلقه، وهو علمه الأشياء قبل كونها، وكتابته لها قبل بَرْئها، وردُّوا بهذه الآية، وبما شاكلها من الآيات، وما ورد في معناها من الأحاديث الثابتات على الفرقة القدريّة الذين نبغوا في أواخر عصر الصحابة -رضي الله عنهم-. انتهى (¬2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 84 - (حَدَّثَنَا أبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبةَ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا يَحْيىَ بْنُ عُثْمانَ، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا يَحْيىَ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أنهُ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، فَذَكَرَ لهَا شَيْئًا مِنَ الْقَدَرِ، فَقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ تَكَلَّمَ في شَيْءٍ مِنَ الْقَدَرِ، سُئِلَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لم يَتكَلَّمْ فِيهِ لم يُسْألَ عَنْهُ"). قَالَ أَبُو الحْسَنَ القَطَّانُ: حَدَّثَناَ حَاَزِمُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَناَ عَبْدُ المْلِكَ بْنُ شَيْباَنَ، حَدَّثَناَ يَحْيىَ بْنُ عُثْماَنَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (مَالِكُ بْنُ إِسماعِيلَ) بن درهم، ويقال: ابن زياد بن درهم، أبو غَسّان النَّهْدِيّ مولاهم الكوفي الحافظ، ابن بنت حماد بن أبي سليمان، ثقة متقنٌ، صحيح الكتاب، عابدٌ، من صغار [9]. ¬

_ (¬1) راجع "شرح النووي على صحيح مسلم" 1/ 156. (¬2) "تفسير ابن كثير" 4/ 286.

روى عن عبد الوهاب بن سليمان بن الغسيل، وعبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، والحسن بن حي، وإسرائيل، وزهير بن معاوية، وابن عيينة، وغيرهم. وروى عنه البخاري، وروى له الباقون بواسطة هارون بن عبد الله الحمال، وأبي بكر ابن أبي شيبة، ويوسف بن موسى القطان، وأحمد بن عثمان بن حكيم الأودي، والذهلي، وأحمد بن سليمان الرهاوي، وغيرهم. قال محمد بن علي بن داود البغدادي: سمعت ابن معين يقول: إن سرك أن تكتب عن رجل ليس في قلبي منه شيء، فاكتب عن أبي غسان. وقال أبو حاتم: عن ابن معين: ليس بالكوفة أتقن من أبي غسان، وعن ابن معين قال: هو أجود كتابًا من أبي نعيم. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة، صحيح الكتاب، وكان من العابدين. وقال مرة: كان ثقة متقنًا. وقال ابن نمير: أبو غسان أحب إلي من الصلت، أبو غسان محدث من أئمة المحدثين. وقال أبو حاتم: كان أبو غسان يُملي علينا من أصله، وكان لا يملي حديثًا حتى يقرأه، وكان ينحو، ولم أر بالكوفة أتقن منه، لا أبو نعيم ولا غيره، وهو أتقن من إسحاق بن منصور السَّلُولي، وهو متقن ثقة، وكان له فضل وصلاح وعبادة وصحة حديث، واستقامة، وكانت عليه سجادتان، كنت إذا نظرت إليه كأنه خرج من قبره. وقال أبو داود: كان صحيح الكتاب، جيد الأخذ. وقال النسائي: ثقة. ذكره ابن حبان في "الثقات". قال ابن سعد: مات سنة تسع عشرة ومائتين، في غُرّة ربيع الأول، وفيها أرخه غير واحد. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (84) و (145) و (1608) و (1960) و (3577). 2 - (يَحْيىَ بْنُ عُثْمانَ، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ) الصدّيق التيميّ مولاهم، أبو سهل البصريّ، صاحب الدستوائيّ، ضعيف [8]. روى عن يحيى بن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، وعبد الله بن أبي نجيح،

وأيوب السختياني، وإسماعيل بن أمية، وعبد الله بن طاوس، وجماعة. وروى عنه أبو غسان النهديّ، ومسلم بن إبراهيم، وموسى بن إسماعيل، وأبو بكر بن أبي الأسود، وعمرو بن علي الفلاس، وغيرهم. قال معاوية بن صالح عن ابن معين: منكر الحديث. وكذا قال البخاري. وقال أبو حاتم: شيخ. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال في موضع آخر: حديثه منكر. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة ثمانين ومائة، وأعاده في "الضعفاء"، وقال: منكر الحديث جدًّا، لا يجوز الاحتجاج به. وقال الساجيّ: ضعفه يحيى بن معين، وقال: روى مناكير. وقال العقيليّ: روى عن يحيى بن أبي مليكة، ولا يتابع عليه، ولا يعرف إلا به. تفرّد به المصنف، وأبو داود في "القدر" له عندهما هذا الحديث فقط. 3 - (يَحْيى بْنُ عَبْدِ اللهَ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) هو: يحيى بن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة القرشي، والد إسماعيلَ بن يحيى التيميّ المكيّ، ليّن الحديث [7]. روى عن أبيه، وعنه يحيى بن عثمان التيمي، مولى آل أبي بكر، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يعتبر حديثه إذا رَوَى عنه غير يحيى بن عثمان، مات سنة ثلاث وسبعين ومائة. تفرّد به المصنف، وأبو داود في "القدر" له عندهما هذا الحديث فقط. 4 - (أبوه) عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة زهير بن عبد الله بن جُدْعان التيميّ، ثقة فقيه [3] تقدّم في 7/ 47. والباقيان تقدّما قبل حديث. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عن يَحْيى بنِ عَبْدِ الله بْنِ أبي مُلَيْكَةَ، عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة (أنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها (فَذَكَرَ لهَا شَيْئًا مِنَ الْقَدَرِ، فَقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُول: "مَنْ تَكَلَّمَ في شَيْءٍ مِنَ الْقَدَرِ) أي ولو يسيرًا، فكيف بالكثير (سُئِلَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي سؤال تهديد ووعيد، ويحتمل أن المراد بقوله: "سئل

عنه" مطلق السؤال، وبقوله: (وَمَنْ لَمْ يَتكَلَّمْ فِيهِ لَمْ يُسْأل عَنْهُ) بأن يقال له: لم تركت التكلّم فيه؟، فصار ترك الكلام فيه خيرًا من التكلّم فيه. قاله السنديّ (¬1). والله تعالى أعلم. (قَالَ أبُو الحسَنِ) عليّ بن سلمة (الْقَطَّانُ) تلميذ المصنّف، راوية كتابه هذا المتوفّى سنة (345 هـ)، تقدّمت ترجمته (حَدَّثَنَاهُ حَازِمُ بْنُ يَحْيَى) هكذا وقع في جميع نسخ "السنن" "حازم" بالحاء المهملة، وهو تصحيف (¬2) فاحش، والصواب خازم بالخاء المعجمة، كما في "تاريخ بغداد" للخطيب، و"الإرشاد" للخليلي. ونصّ ترجمته في "تاريخ بغداد" 8/ 334: خازم بن يحيى بن إسحاق، أبو الحسن الحلوانيّ، وهو أخو أحمد بن يحيى، سكن بغداد، وحدّث بها عن شيبان بن فرّوخ، ومحمد بن أبي بكر المقدّميّ، ومخارق بن ميسرة، وهانىء بن المتوكّل الإسكندرانيّ، ومحمد بن أبي السريّ العسقلانيّ، روى عنه أخوه أحمد، وأحمد بن عليّ الأبار، ومحمد ابن أحمد الحكميّ، وإسماعيل بن محمد الصفّار. ثم أخرج عن ابن قانع أن خازم بن يحيى مات في سنة خمس وسبعين ومائتين. انتهى (¬3). ونصّ ترجمته في "الإرشاد" 2/ 623 - 624 الترجمة (359): أبو الحسن خازم ابن يحيى الحُلْوانيّ، ارتحل إلى الشام، وإلى خراسان، وكان حافظًا، يَعرف هذا الشأن، ودخل قَزوين سنة نيّف وسبعين، وكتب عنه شيوخ البلد، ورضوه. انتهى. وكتب محقّق الكتاب في الهامش: ما نصّه: هو خازم -بالخاء المعجمة، والزاي- ابن يحيى بن إسحاق الحلوانيّ، ذكره الرافعيّ في "التدوين" (خ ق 407) وقال: سمع منه إسحاق بن محمد، وعليّ بن مهرويه، وأبو الحسن القطّان. انتهى (¬4). ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 64. (¬2) نبّه على هذا الدكتور بشّار عوّاد في تحقيقه لهذا الكتاب 1/ 107 جزاه الله خيرًا. (¬3) راجع "تاريخ بغداد" جـ 8 ص 334 - 335. (¬4) راجع هامش "الإرشاد" للخليليّ 2/ 623 - 624 ترجمة (359).

فتبيّن بهذا أنه خازم بالخاء المعجمة، فما وقع في نسخ "سنن ابن ماجه" بالحاء المهملة، فتصحيف، فليُتنبّه. والله تعالى أعلم. (حَدَّثَنَا عَبْدُ الملِكِ بْنُ شَيْبَانَ) هكذا النسخ الطبوعة "شيبان" بشين معجمة، ثم ياء تحتانيّة، ثم موحّدة، والذي في النسخة الهندية "ابن سِنان" بسين مهملة، ثم نونين، بينهما ألف، ولم يتبيّن لي ما هو الصواب؛ لأني لم أجد ترجمته لا بهذا ولا بهذا، فليُحرّر. والله تعالى أعلم بالصواب. (حَدَّثَنَا يَحْيى بْنُ عُثمانَ) المذكور في السند السابق. وقوله: (فَذَكَرَ) الذاكر هو عبد الملك (نَحْوَهُ) أي نحو حديث مالك بن إسماعيل. [تنبيه]: إنما أتى أبو الحسن القطان بهذا الإسناد لعلوه، حيث وصل إلى يحيى بن عثمان بواسطتين، بينما وصل إليه بسند ابن ماجه بثلاث وسائط، فتنبّه. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث عائشة رضي الله عنها هذا تفرّد به المصنّف، وهو ضعيف؛ لاتفاقهم على ضعف يحيى بن عثمان، وكذا يحيى بن عبد الله بن أبي مليكة قال فيه ابن حبان: يعتبر بحديثه إذا روى عنه غير يحيى بن عثمان. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 85 - حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أبو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أبي هِنْدٍ، عَنْ عَمْرِو ابْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّه، قَالَ: خَرَجَ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- عَلَى أَصْحَابِهِ، وَهُمْ يَخْتَصِمُونَ في الْقَدَرِ، فَكَأنَّما يُفْقَأُ في وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ مِنَ الغَضب، فَقَالَ: "بِهَذَا أُمِرتُمْ؟، أَوْ لهِذَا خُلِقْتُمْ؟، تَضْربُونَ الْقُرْآنَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، بهَذَا هَلَكَتِ الْأمَمُ قَبْلَكُمْ"، قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ الله ابْنُ عَمْرٍو: مَا غَبَطْتُ نَفْسي بِمَجْلِسٍ، تَخَلَّفْتُ فِيهِ عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- مَا غَبَطْتُ نَفْسِي بِذَلِكَ المجْلِسِ، وَتخَلُّفِي عَنْهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطنافسيّ الثقة المذكور قبل حديث. 2 - (أبو مُعَاوِيَةَ) هو: محمد بن خازم الضرير الثقة الكوفيّ، أحفظ من روى عن الأعمش، وقد يهم في حديث غيره، من كبار [9] تقدّم في 1/ 3. 3 - (دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ) واسمه دينار بن عُذافر، ويقال: طهمان القشيري مولاهم، أبو بكر، ويقال: أبو محمد البصريّ، ثقة متقنٌ، كان يَهِم بآخره [5]. رأى أنس بن مالك، وروى عن عكرمة، والشعبي، وزرارة بن أوفى، وأبي العالية، وسعيد بن المسيب، وسماك بن حرب، وعاصم الأحول، وغيرهم. وروى عنه شعبة، والثوري، ومسلمة بن علقمة، وابن جريج، والحمادان، ووهيب بن خالد، وعبد الوارث بن سعيد، وأبو معاوية، وغيرهم. قال ابن عيينة عن أبيه: كان يفتي في زمان الحسن. وقال ابن المبارك عن الثوري: هو من حفاظ البصريين. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه: ثقة ثقة. قال: وسئل عنه مرة أخرى، فقال: مثل داود يُسأل عنه؟ وقال ابن معين: ثقة، وهو أحب إلي من خالد الحذاء. وقال العجلي: بصري ثقة، جيد الإسناد، رفيع، وكان صالحًا، وكان خياطًا. وقال أبو حاتم، والنسائي: ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة ثبت. وقال ابن حبان: رَوَى عن أنس خمسة أحاديث، لم يسمعها منه، وكان من خيار أهل البصرة، من المتقنين في الروايات، إلا أنه كان يَهِمُ إذا حدث من حفظه. وقال ابن سعد: كان ثقةَ، كثير الحديث. وقال الحاكم: لم يصح سماعه من أنس. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن داود، وعوف، وقرة، فقال: داود أحب إلي، وهو أحب إلي من عاصم، وخالد الحذاء. وقال ابن خِرَاش: بصري ثقة. وقال الأثرم عن أحمد: كان كثير الاضطراب والخلاف. وقال يزيد بن هارون، وغير واحد: مات سنة (139). وقال علي بن المديني، وغير واحد: مات سنة (40). وقيل: مات سنة (41). أخرج له البخاري في التعاليق،

ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب (17) حديثًا. 4 - (عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ) بن محمد الطائفيّ، صدوق [5] تقدّم في 1/ 9. 5 - (أبوه) هو: شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص الطائفيّ، صدوقٌ ثبت سماعه من جدّه [3] تقدّم في 1/ 9. 6 - (جدّه) هو: عبد الله بن عمرو بن العاص السهميّ، أبو محمد، أو أبو عبد الرحمن الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدّم في 8/ 52. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. 3 - (ومنها): أن فيه رواية الابن أبيه، عن جدّه. 4 - (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: داود، عن عمرو، عن أبيه. 5 - (ومنها): أن صحابيّه -رضي الله عنه- أحد العبادلة الأربعة المجموعين في قول السيوطيّ رحمه الله: وَالْبَحْرُ وَابْنَا عُمَرٍ وَعَمْرو ... وَابْنُ الزُّبَيْرِ في اشْتِهَارٍ يَجرِي دُونَ ابْنِ مَسْعُودٍ لهُمْ عَبَادِلَهْ ... وَغَلَّطُوا مَنْ غَيْرَ هَذَا مَالَ لَهْ 6 - (ومنها): أن هذا الإسناد مما اختلف فيه العلماء، فمنهم من ادّعى فيه الانقطاع، بين شعيب وعبد الله بن عمرو، والصحيح أنه متّصل، فقد ثبت سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو، بل هو الذي ربّاه؛ لموت أبيه في صغره، وقد تقدم تمام البحث في ذلك في شرح حديث (1/ 9)، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ) شعيب (عَنْ جَدِّهِ) عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فالصحيح أن الضمير لشعيب، لا لعمرو، وإن كان هو

الظاهر، كما سيأتي تحقيقه قريبًا -إن شاء الله تعالى- أنه (قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عَلَى أَصْحَابِهِ) -رضي الله عنهم- (وَهُمْ يَخْتَصِمُونَ في الْقَدَرِ) جملة في محل نصب على الحال من "أصَحابه": أي والحال أنهم يتخاصمون في شأن القدر، أي في الإثبات والنفي، وكأن كلا منهم كان يستدلّ بما يُناسب مطلوبه من الآيات، ولذا أنكر عليهم النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، بقوله: "تضربون القرآن بعضه ببعض". قاله السنديّ (¬1). وفي رواية أحمد: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج على أصحابه، وهم يتنازعون في القدر، هذا ينزع آية، وهذا ينزع آية". وفي رواية الترمذيّ من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونحن نتنازع في القدر". قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "نتازع" أي نتناظر، ونتخاصم كأن يقول أحد الخصمين: إذا كان جميع ما يجري في العالم بقدر الله تعالى، فلم يعذّب المذنبين، ولم يُنسَبِ الفعل إلى العباد، كما قالت المعتزلة؟ والآخر يقول: فما الحكمة في تقدير بعض العباد للجنة، وبعضهم للنار، وما أشبه ذلك؟. (فَكَأنَّما يُفْقَأُ) بالبناء للمفعول، وهو معطوف على محذوف: تقديره: فغضب، فاحمرّ وجهه، فكان من شدّة غضبه كأنما يُفقأ: أي يُشَقّ، والفقأ: الشقّ، والبَخْصُ (¬2). قاله ابن الأثير (¬3). وقال المجد: فَقَأَ العينَ، والْبَثْرَةَ، ونحوهما، كمنع: كسرَها، أو قلعها، كفقّأها، فانفقأت، وتفقّأت (¬4). وقال السنديّ: قوله: "فكأنما إلخ: أي فغضب، فاحمرّ وجهه من أجل الغضب ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 65. (¬2) بخص عينه، كمنع: قلعها بشحمها. "ق". (¬3) "النهاية" 3/ 461. (¬4) "القاموس" ص 46.

احمرارًا يُشبه فَقْءَ حَبّ الرّمّان في وجهه، أي يشبه الاحمرار الحاصل به، أو فصار كأنما يُفقأ الخ. انتهى. (فِيْ وَجْهِهِ) متعلّق بـ "يُفقأ" (حَبُّ الزُّمَّانِ) بالرفع على أنه نائب فاعل "يُفقأ"، و"الحب" بفتح الحاء المهملة، و"الرمّان" بضم الراء، وتشديد الميم (مِنَ الْغَضَبِ) أي من أجل شدّة غضبه -صلى الله عليه وسلم- عليهم، قال الطيبيّ: وإنما غضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليهم؛ لأن القدر سرّ من أسرار الله تعالى، وطلب سر الله تعالى منهيّ عنه، ولأن من يبحث في القدر لم يأمن أن يصير قدريّا، أو جبريّا، بل العباد مأمورون بقبول ما أمرهم الشرع من غير أن يطلبوا سرّ ما لا يجوز طلب سرّه. انتهى (¬1). (فَقَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (بِهَذَا أُمِرْتُمْ) بتقدير همزة الاستفهام: أي أبهذا التنازع في القدر أمرتكم؟. والاستفهام للإنكار، وتقديم الجارّ والجرور لمزيد الاهتمام. قاله القاري (¬2). (أَوْ لهِذَا خُلِقْتُمْ) أي لهذا البحث عن القدر، والاختصام فيه، هل هو المقصود من خلقكم؟ أو هو الذي وقع التكليف به حتى اجترأتم عليه؟ يريد أنه ليس بشيء من الأمرين، فأيُّ حاجة إليه؟. قاله السنديّ (¬3) وفي رواية الترمذيّ: "أم بهذا أُرسلتُ إليكم؟ " (تَضْرِبُونَ الْقُرْآنَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ) في "القاموس"، و"شرحه": ضربت الشيءَ بالشيء -أي بالتخفيف: خلطته، كضَرّبته تضريبًا، والتضريب بين القوم: الإغراء، والتضريب أيضًا: تحريض الشجاع في الحرب، يقال: ضرّبته، وحرّضته. انتهى (¬4): والمراد به هنا معارضة بعض الآيات ببعضها، وادّعاء التناقض بينها (بِهَذَا) إشارة إلى الاختصام في القدر (هَلَكَتِ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ) وفي رواية أحمد من طريق إسماعيل، عن داود بن أبي هند، أن نفرًا كانوا جلوسا بباب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال بعضهم: ألم ¬

_ (¬1) "الكاشف" 2/ 563. (¬2) "المرقاة" 1/ 299. (¬3) "شرح السنديّ" 1/ 65. (¬4) راجع "تاج العروس" 1/ 346 - 347.

يقل الله: كذا وكذا، وقال بعضهم: ألم يقل الله: كذا وكذا، فسمع ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فخرج كأنما فُقِئ في وجهه حَبّ الرمان، فقال: "بهذا أمرتم، أو بهذا بعثتم، أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، إنما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا، إنكم لستم مما هاهنا في شيء، انظروا الذي أُمرتم به فاعملوا به، والذي نهيتم عنه فانتهوا". وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عند الترمذيّ: "إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم أن لا تتنازعوا فيه". قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "عزمت عليكم": أي أقسمت عليكم، وأصله عزمت بإقاء اليمين، وإلزامها عليكم، لا تبحثوا في القدر بعد هذا. انتهى (¬1). (قَالَ) شعيب (فَقَالَ عَبْدُ الله بْنُ عَمْرٍو) رضي الله عنهما (مَا) نافية (غبَطْتُ نَفْسِي) بفتح الموحّدة، من غبَط يغبِط بالكَسر والفتح، من بابي ضرب، وسمع، يقال: غبطتُ الرجل أغبطه: إذا اشتهيت أن يكون لك مثلُ ما له، وأن يدوم عليه ما هو فيه، وحسدته أحسده حسدًا: إذا اشتهيت أن يكون لك ما له، وأن يزول عنه ما هو فيه. قاله ابن الأثير (¬2). وقال الفيّومي: "الغِبْطة": حسن الحال، وهي اسم من غبطته غبطًا: إذا تمنيت مثل ما ناله من غير زواله عنه لمِا أَعْجَبك منه، وعَظُم عندك. انتهى. والمعنى هنا: ما استحسنت كون نفسي (بِمَجْلِسٍ) بفتح الميم، وكسر اللام أي بمكان جلوس (تخَلَّفْتُ فِيه) أي في ذلِك المجلس (عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-) متعلق بـ "تخلفت" (مَا) مصدريّة (غَبَطْتُ نَفْسِي) أي مثل اغتباط نفسي (بِذَلِكَ اَلمجْلِسِ) الذي غضب فيه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- (وَتخَلُّفِي عَنْهُ) أي عن ذلك المجلس. والمعنى: أنه لم يتمنّ كون نفسه في مجلس تأخر فيه عن مجالسة النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه مثل تمنيه تأخره عن ذلك المجلس الذي غضب -صلى الله عليه وسلم- عليهم لأجل خوضهم في القدر. والله ¬

_ (¬1) "الكاشف" 2/ 563. (¬2) "النهاية" 3/ 339 - 340. بزيادة الضبط من "القاموس".

تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما هذا صحيح. قال الحافظ البوصيريّ رحمه الله: هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، رواه الإمام أحمد في "مسنده" من هذا الوجه بزيادة في آخره، وكذا رواه الحارث بن محمد بن أبي أسامة في "مسنده" كما أوردته في "زائد المسانيد العشرة". انتهى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لفظ الإمام أحمد رحمه الله تعالى في "مسنده": حدثنا أنس بن عياض، حدثنا أبو حازم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: لقد جلست أنا وأخي مجلسًا ما أُحب أن لي به حُمْرَ النعم، أقبلت أنا وأخي، وإذا مَشْيَخةٌ من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جلوس عند باب من أبوابه، فكرهنا أن نُفَرِّق بينهم، فجلسنا حَجْرَةً، إذ ذكروا آية من القرآن، فتمارَوْا فيها حتى ارتفعت أصواتهم، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مغضبًا، قد احمر وجهه، يرميهم بالتراب، ويقول: مهلًا يا قوم، بهذا أُهلكت الأمم من قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم يَنْزِل يُكَذِّب بعضه بعضًا، بل يصدق بعضه بعضًا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه". (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (10/ 85) بهذا السند فقط، وقد تفرّد به، فلم يخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" 2/ 178 و 196 رقم (6415) و (6550)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 86 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعِليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَا: حدثنا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي حَيَّةَ، أَبُو جَنَابٍ الْكَلْبِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عن ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ، وَلَا هَامَةَ"، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ الْبَعِيرَ يَكُونُ بِهِ الجرَبُ، فَيُجْرِبُ الْإِبِلَ كُلَّهَا؟، قَالَ: "ذَلِكُمُ الْقَدَرُ، فَمَنْ أَجْرَبَ الْأَوَّلَ؟ "). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (يحيى بن أبي حيّة) أبو جَنَاب -بفتح الجيم، ونون خفيفة، وآخره موحّدة- الكلبيّ الكوفي، مشهور بكنيته، واسم أبي حية حَيّ، ضعّفوه؛ لكثرة تدليسه [6]. روى عن أبيه، ويزيد بن البراء بن عازب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، والضحاك بن مُزَاحم، والحسن البصري، وأبي بردة بن أبي موسى، وشَهْر بن حَوْشب، وإياد بن لَقِيط، وعبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ومَغْرَاء العبدي، وجماعة. وروى عنه السفيانان، والحسن بن صالح، وجرير، وهشيم، ووكيع، وجعفر بن عون، وأبو نعيم، وغيرهم. قال ابن سعد: كان ضعيفا في الحديث. وقال أبو موسى: ما سمعت يحيى ولا عبد الرحمن يحدثان عن سفيان، عن أبي جناب قط. وقال علي بن المديني: كان يحيى بن سعيد يتكلم فيه، وفي أبيه. وقال البخاري، وأبو حاتم: كان يحيى القطان يضعفه. وقال إسحاق بن حكيم: قال يحيى القطان: لو استحللت أن أروي عن أبي جناب، لرويت عنه حديث علي في التكبير. وقال الذهلي: سمعت يزيد بن هارون يقول: كان صدوقًا، ولكن قال: يُدَلِّس. وقال أبو حاتم: وقال الغلابي: قال أبو نعيم: لم يكن بأبي جناب بأس، إلا أنه كان يدلس، وكذا قال أحمد، وابن معين، وأبو داود، عن أبي نعيم. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: أحاديثه مناكير. وقال عبد الله الدورقي عن ابن معين: ليس به بأس، إلا أنه كان يدلس. وقال

الدورقي عن ابن معين: ليس به بأس. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: صدوق. وقال ابن أبي خيثمة، وإبراهيم بن الجنيد، والغلابي عن ابن معين: ضعيف. وقال ابن نمير: صدوق، كان صاحب تدليس، أفسد حديثه بالتدليس، كان يحدث بما لم يسمع. وقال عثمان الدارمي: ضعيف. وقال العجلي: كوفي ضعيف الحديث، يكتب حديثه، وفيه ضعف. وقال أبو زرعة: صدوق غير أنه كان يدلس. وقال ابن خِرَاش: كان صدوقًا، وكان يدلس، وفي حديثه نُكْرة. وقال عمرو بن علي: متروك الحديث. وقال إبراهيم الجوزجاني: يضعف حديثه. وقال يعقوب بن سفيان ضعيف، وكان يدلس. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: ليس بالقوي، قلت: هو أحب إليك أو يحيى البكائي؟ قال: لا هذا ولا هذا، قلت: فإذا لم يكن الباب غيرهما أيهما أكتب؟ قال: لا يكتب منه شيء. وقال الآجري عن أبي داود: ليس بذاك. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال في موضع آخر: ليس بالثقة يدلس. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الساجي: كوفي صدوق، منكر الحديث. وقال ابن عمار: ضعيف. وقال أبو أحمد: ليس بالقوي عندهم. وقال ابن حبان في "الضعفاء": كان يدلس عن الثقات ما سمع من الضعفاء، فأُلزقت به تلك المناكير التي يرويها عن المشاهير، فحَمَلَ عليه أحمد حملًا شديدًا. قال الغلابي عن ابن معين: مات سنة سبع وأربعين ومائة، وفيها أرخه ابن سعد، ومطين. وقال أبو نعيم وغيره: مات سنة خمسين. أخرج له أبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (86) و (3540) و (3549). 2 - (أبوه) أبو حيّة الكلبيّ، واسمه كما سبق آنفًا - حيّ، روى عن ابن عمر، وروى عنه ابنه يحيى أبو جَنَاب، مجهول [4]. تفرّد به المصنّف، بهذا الحديث، وأعاده في "كتاب الطبّ" برقم (3540). 3 - (ابن عمر) هو: عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، تقدّم في 1/ 4.

والباقون تقدّموا قبل حديثين، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: عَنْ أَبِي حيّة الكلبيّ (عَن) عبد الله (بْنِ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَا عَدْوَى) بفتح العين، وسكون الدال المهملتين، وفتح الواو مقصورًا. قال ابن الأثير رحمه الله: هو اسم من الإعداء، كالرَّعْوَى، والْتقْوَى، من الإِرْعاء، والإبقاء، يقال: أعداه الداء يُعْدِيه إِعْدَاءً، وهو أن يُصيبه مثلُ ما بصاحب الداء، وذلك أن يكون ببعير جَرَب مثلًا، فَتُتّقى مخُالطته بإبل أخرى حِذَارًا أن يَتَعَدّى ما به من الجرَب إليها فيُصيبها ما أصابه. وقد أبطله الإسلام؛ لأنهم كانوا يظنّون أن المرض بنفسه يتعدّى، فأعلمهم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنه ليس الأمر كذلك، وإنما الله سبحانه وتعالى هو الذي يُمرض، ويُنزل الداء، ولهذا قال: "فمن أعدى الأول؟ ": أي من أين صار فيه الجرب. انتهى كلام ابن الأثير (¬1). وقال التوربشتيّ رحمه الله: العَدْوَى هنا مجازوة العلّة من صاحبها إلى غيره، يقال: أعدى فلان فلانًا من خُلُقه، أو من علّة به، وذلك على ما يذهب إليه المتطبّبة في عِلَلٍ سبع: الجذام، والجَرَب، والجدريّ، والحصبة، والبخر، والرمد، والأمراض الوبائيّة. انتهى (¬2). (وَلَا طِيَرَةَ) قال في "النهاية": بكسر الطاء، وفتح الياء، وقد تُسكّن: هي التشاؤم بالشيء، وهو مصدر تَطَيّر، يقال: تطيّر طِيَرَةً، وتخيّر خِيَرَةً، ولم يجىء من المصادر هكذا غيرهما، وأصله فيما يُقال: التطيّر بالسَّوَانِحِ، والْبَوَارِح من الطير والظباء وغيرهما، وكان ذلك يصدّهم عن مقاصدهم، فنفاه الشرع، وأبطله، ونهى عنه، وأخبر أنه ليس له تأثير في جلب نفع، أو دفع ضرّ. انتهى (¬3). وقال في "الفتح": "الطِّيَرَة" -بكسر المهملة، وفتح التحتانية، وقد تسكن-: هي ¬

_ (¬1) "النهاية في غريب الحديث" 3/ 192. (¬2) راجع "الكاشف" 9/ 2978 - 2979. (¬3) "النهاية" 3/ 152.

التشاؤم -بالشين- وهو مصدر تَطَيّر، مثل تَخَيَّر خِيَرَة. قال بعض أهل اللغة: لم يجيء من المصادر هكذا غير هاتين، وتعقب بأنه سمع طِيَبَة، وأورد بعضهم التِّوَلَة، وفيه نظر. وأصل التطير أنهم كانوا في الجاهلية يعتمدون على الطير، فإذا خرج أحدهم لأمر، فإن رأى الطير طار يَمْنَةً تيمَّن به واستَمَرّ، وإن رآه طار يَسْرَةً تشاءم به ورجع، وربما كان أحدهم يُهَيِّج الطير ليطير فيعتمدها، فجاء الشرع بالنهي عن ذلك، وكانوا يُسَمُّونه السانح -بمهملة، ثم نون، ثم حاء مهملة- والبارح -بموحدة، وآخره مهملة-. فالسانح: ما وَلّاكَ مَيَامِنَهُ، بأن يمر عن يسارك إلى يمينك، والبارح بالعكس، وكانوا يتيمنون بالسانح، ويتشاءمون بالبارح؛ لأنه لا يمكن رميه إلا بأن ينحرف إليه، وليس في شيء من سنوح الطير وبروحها ما يقتضي ما اعتقدوه، وإنما هو تكلف بتعاطي ما لا أصل له؛ إذ لا نطق للطير ولا تمييز، فيُستَدَلَّ بفعله على مضمون معنى فيه، وطلب العلم من غير مظانّه جهل من فاعله. وقد كان بعض عقلاء الجاهلية ينكر التطير، ويتمدح بتركه. قال شاعر منهم [من مجزوّ الكامل]: وَلَقَدْ غَدَوْتُ وَكنْتُ لاَ ... أَغْدُو عَلَى وَاقٍ وَحَاتِمِ فَإِذَا الأَشَائِمُ كَالأيا ... مِنِ وَالأَيامِنُ كَالأَشَائِمِ وقال آخر [من البسيط]: الزَّجْرُ وَالطَّيْرُ وَالْكُهَّانُ كُلُّهُمُ ... مُضَلِّلُونَ وَدُونَ الْغَيْبِ أَقْفَالُ وقال آخر [من الطويل]: وَمَا عَاجِلاَتُ الطَّيْرِ تُدْنِي مِنَ الْفَتَى ... نَجَاحًا وَلا عَنْ رَيْثِهِنَ قُصُورُ وقال آخر [من الطويل]: لَعَمْرُكَ مَا تَدْرِي الطَّوَارِقُ بِالحصى ... وَلاَ زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللهُ صانِعُ وقال آخر [من الوافر]: تخَيَّرَ طَيرَةً فِيهَا زِيَادٌ ... لِتُخْبِرَهُ وَمَا فِيهَا خَبِيرُ

تَعلَّمَ أنَّهُ لاَ طَيْرَ إِلَّا ... عَلَى مُتَطَيِّرٍ وَهُوَ الثُّبُورُ بَلَى شَيءٌ يُوَافِقُ بَعْضَ شَيءٍ ... أَحَايِينًا وَبَاطِلُهُ كَثِيرُ وكان أكثرهم يتطيرون، ويعتمدون على ذلك، ويصح معهم غالبًا؛ لتزيين الشيطان ذلك، وبقيت من ذلك بقايا في كثير من المسلمين. وقد أخرج ابن حبان في "صحيحه" من حديث أس -رضي الله عنه- رفعه: "لا طِيَرَة، والطيرة على من تَطَيَّر". وأخرج عبد الرزاق عن معمر، عن إسماعيل بن أمية، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة لا يَسلَم منهن أحدٌ: الطيرة، والظنّ، والحسد، فإذا تطيرت فلا ترجع، وإذا حسدت فلا تَبْغِ، وإذا ظننت فلا تحقِّق". وهذا مرسل، أو معضل، لكن له شاهد من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، أخرجه البيهقي في "الشعب". وأخرج ابن عدي بسند لين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- رفعه: "إذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا". وأخرج الطبراني عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- رفعه: "لن ينال الدرجات العُلَى من تَكَهَّن، أو استقسم، أو رجع من سفر تطيرًا". ورجاله ثقات، قال الحافظ: إلا أنني أظن أن فيه انقطاعًا، وله شاهد عن عمران بن حصين رضي الله عنهما، وأخرجه البزار في أثناء حديث بسند جيد. وأخرج أبو داود، والترمذيّ، وصححه هو وابن حبان، عن ابن مسعود -رضي الله عنه- رفعه: "الطيرة شرك، وما منا إلا تَطَيَّر، ولكن الله يُذهبه بالتوكل". وقوله: "وما منا إلا" من كلام ابن مسعود، أُدرج في الخبر، وقد بينه سليمان بن حرب، شيخ البخاري فيما حكاه الترمذي، عن البخاري عنه، وإنما جَعَل ذلك شركًا لاعتقادهم أن ذلك يجلب نفعًا، أو يدفع ضرًّا، فكأنهم أشركوه مع الله تعالى. وقوله: "ولكن الله يذهبه بالتوكل" إشارة إلى أن من وقع له ذلك، فسلَّم لله، ولم يعبأ بالطيرة أنه لا يؤاخذ بما عَرَضَ له من ذلك. وأخرج البيهقي في "الشعب" من حديث عبد الله بن عمرو موقوفًا: "مَن عَرَض له من هذه الطيرة شيء، فليقل: اللهم لا طَيْر إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله

غيرك". انتهى (¬1). (وَلَا هَامَةَ) بتخفيف الميم على المشهور، وقيل بتشديدها، قال أبو داود في "سننه": قال بقيّة: سألت محمد بن راشد عن قوله: "لا هامة"، فقال: كان أهل الجاهليّة يقولون: ليس أحدٌ يموت فيُدفن إلا خرج من قبره هامة. انتهى. وقال النوويّ: فيها تأويلان: [أحدهما]: أن العرب كانت تتشاءم بها، وهي من طير الليل. وقيل: هي الْبُومة، قالوا: كانت إذا سقطت على دار أحدهم، فيراها ناعيةً له نفسه، أو بعض أهله، وهو تفسير مالك بن أنس. [وثانيهما]: أن العرب كانت تعتقد أن عظام الميت، وقيل: روحه تنقلب هامة تطير، وهذا تفسير أكثر العلماء، وهو المشهور، ويجوز أن يكون المراد النوعين معًا، فإنهما باطلان، فبيّن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إبطال ذلك، وضلالة الجاهليّة فيما تعتقده من ذلك. و"الهامة" بتخفيف الميم على المشهور الذي لم يذكر الجمهور غيره. وقيل: بتشديدها. قاله جماعة، وحكاه القاضي عن أبي زيد الأنصاريّ الإمام في اللغة. انتهى (¬2). وقال في "الفتح": قال أبو زيد: "الهامة" -بالتشديد- وخالفه الجميع، فخففوها، وهو المحفوظ في الرواية، وكأن من شدّدها ذهب إلى واحدة الْهَوَامّ، وهي ذوات السموم. وقيل: دواب الأرض التي تَهُمُّ بأذى الناس، وهذا لا يصح نفيه، إلا إن أريد أنها لا تضر لذواتها، وإنما تضر إذا أراد الله إيقاع الضرر بمن أصابته. وقد ذكر الزبير بن بَكّار في "الموفقيات" أن العرب كانت في الجاهلية تقول: إذا قُتِل الرجل، ولم يؤخذ بثأره خرجت من رأسه هامة، وهي دودة، فتَدُور حول قبره، فتقول: اسقوني اسقوني، فإن أُدرك بثأره ذهبت. ¬

_ (¬1) "الفتح" 10/ 262 - 263 "كتاب الطبّ" رقم الحديث (5754). (¬2) "شرح مسلم".

وفي ذلك يقول شاعرهم [من البسيط]: يَا عَمْرُو إِلَّا تَدَعْ شَتْمِي وَمَنْقَصَتِي ... أَضْرِبْكَ حَتَّى تَقُولَ الهامَةُ اسْقُونِي قال: وكانت اليهود تَزْعُم أنها تدور حول قبره سبعة أيام، ثم تذهب. وذكر ابن فارس وغيره من اللغويين نحو الأول، إلا أنهم لم يُعَيِّنوا كونها دُودة، بل قال القزاز: الهامة طائر من طير الليل، كأنه يعني البومة. وقال ابن الأعرابي: كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم يقول: نَعَتْ إليّ نفسي، أو أحدًا من أهل داري. وقال أبو عبيد: كانوا يزعمون أن عظام الميت تصير هامة فتطير، ويُسَمُّون ذلك الطائر الصَّدَى، فعلى هذا فالمعنى في الحديث: لا حياة لهامة الميت، وعلى الأول لا شُؤْم بالبومة ونحوها. انتهى (¬1). (فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَعْرَابِيٌّ) لم يُعرف اسمه (¬2)، وفي الرواية الآتية في "كتاب الطبّ": فقام إليه رجل". و"الأعرابيّ" بفتح الهمزة، واحد الأعراب بفتحها، وهو الذي يكون صاحب نُجْعة وارتياد للكلإ، قال الأزهريّ: سواء كان من العرب، أو من مواليهم، فمن نزل البادية، وجاور البادين، وظَعَن بظَعْنِهم، فهم أَعراب، ومن نزل بلاد الرِّيف، واستوطن المدُن والقرى العربيّة وغيرها ممن ينتمي إلى العرب، فهم عَرَب، وإن لم يكونوا فصحاء، ويقال: سُمُّوا عربًا؛ لأن البلاد التي سكنوها تُسَمّى الْعَرَبَات، ويقال: العرَبُ العاربة هم الذين تكلّموا بلسان يَعرُب بن قَحْطان، وهو اللسان القديم، والعرب المستعرِبَة هم الذين تكلّموا بلسان إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وهي لغة الحجاز وما والاها (¬3). ¬

_ (¬1) "الفتح" 10/ 296 - 297 "كتاب الطبّ" رقم الحديث (5770). (¬2) "الفتح" 10/ 297. (¬3) راجع "المصباح المنير" 2/ 400.

(فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَرَأَيْتَ الْبَعِيرَ) قال في "اللسان": العرب لها في "أرأيتَ" لغتان، ومعنيان: [أحدهما]: أن يَسأل الرجلُ الرجلَ، أرأيتَ زيدًا بعينك؟ فهذه مهموزة، فإذا أوقعتها على الرجل منه قلتَ: أرأيتك على غير هذه الحال، يريد هل رأيت نفسك على غير هذه الحالة، ثم تُثنّى، وتُجمع، فتقول للرجلين: أرأيتكما، وللقوم: أرأيتكم، وللنسوة: أرأيتكنّ، وللمرأة أرأيتكِ بكسر التاء، لَا يجوز إلا ذلك. [والمعنى الثاني]: أن تقول: أرأيتك، وأنت تقول: أخبرني، فتهمزها، وتنصب التاء منها، وتترك الهمز إن شئت، وهو أكثر كلام العرب، وتترك التاء موحّدةً مفتوحةً للمفرد وضده، والمذكر وضدّه. انتهى بتصرف (¬1). والمناسب هنا المعنى الثاني، أي أخبرني حال البعير (يَكُونُ بِهِ الجرَبُ) بفتح الجيم والراء: ذُكر في كتب الطبّ أن الجرب خِلْطٌ غليظٌ يَحْدُثُ تحت الجلد من مخُالطة الْبَلْغم المِلْحِ للدم، يكون معه بُثُورٌ، وربّما حصَلَ معه هُزَالٌ لكثرته. قاله الفيّوميّ (¬2). (فَيُجْرِبُ) بضم أوله، وكسر ثالثه من أجربه رباعيّا، والفاعل ضمير "البعير"، وقوله: (الإبِلَ) بالنصب على المفعوليّة، وقوله (كلَّهَا؟،) تأكيد، والمعنى: أن ذلك البعير يجعل كل تلك الإبل التي خالطها مصابة بالجرب بسبب إعدائه، وهذا بناء على ما كانوا يعتقدونه من العدوى، وهو من أوهام الجهال، كانوا يعتقدون أن المريض إذا دخل في الأصحّاء أمرضهم. وجوز السنديّ ضبط "يَجرَب" بفتح أوله وثالثه، من باب سمع: أي فتصير الإبل كلها أجرب. انتهى. وعليه يكون "الإبل كلها" مرفوعًا على الفاعلية، والوجه الأول أولى. والله تعالى أعلم. وفي الرواية الآتية في "كتاب الطبّ": فقال: يا رسول الله البعير يكون به الجرب، فتَجرَب به الإبل". فقوله: "تجرب" بفتح أوله وثالثه، من باب سمع، و"الإبل" مرفوع ¬

_ (¬1) "لسان العرب" 15/ 294. (¬2) راجع "المصباح المنير" 1/ 95.

على الفاعلية، ولا وجه له غير هذا. فليُتنبّه. (قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- ردّا على الأعرابي حيث أبدى هذه الشبهة (ذَلِكُمُ الْقَدَرُ) وفي الرواية الآتية في "الطبّ": "ذلك القدر" بإفراد اسم الإشارة: أي الذي أجرب تلك الإبل هو تقدير الله سبحانه وتعالى عليها أن تَجْرَب، لا الإعداء، ثم قال مؤكدًا هذا الردّ، ومبينًا له أتم بيان (فَمَنْ أَجْرَبَ الْأَوَّلَ) أي إذا كان جَربها حصل بالإعداء، فمن الذي أعدى البعير الأول. والمعنى: من الذي أوصل الجرب إليه، حتى يكون بناء الإعداء عليه، أي فظهر بطلان هذا الزعم، واتّضح أن الكل بتقدير الله سبحانه وتعالى أولا وآخرًا. وقال النوويّ: معناه أن البعير الأول الذي جرِبَ من أجربه، أي وأنتم تعلمون، وتعترفون أن الله تعالى هو الذي أوجد ذلك من غير ملاصقة لبعير أجرب، فاعلموا أن البعير الثاني والثالث وما بعدهما إنما جَرِب بفعل الله تعالى وإرادته، لا بعدوى تُعْدِي بطبعها، ولو كان الجرب بالعدوى بالطبائع لم يَجْرَب الأول؛ لعدم المعدِي، ففي الحديث الحديث بيان الدليل القاطع لإبطال قولهم في العدوى بطبعها. انتهى (¬1). وقال في "الفتح": هو جواب في غاية البلاغة والرَّشَاقة، وحاصله من أين جاء الجرب الأول للذي أعدى بزعمهم؟ فإن أجيب من بعير آخر لزم التسلسل، أو سبب آخر، فليُفصَحْ به، فإن أُجيب بأن الذي فعله في الأول هو الذي فعله في الثاني ثبت المدّعَى، وهو أن الذي فعل الجميع هو الخالق القادر على كلّ شيء، وهو الله سبحانه وتعالى. انتهى (¬2). وقال القرطبيّ: معنى ذلك أن البعير الأجرب الذي أجرب هذه الصحاح -على زعمهم- من أين جاءه الجرب؟ أمن بعير آخر؟ فيلزم التسلسل، أو من سبب غير البعير؟ فهو الذي فعل الجرب في الأول والثاني، وهو الله تعالى الخالق لكل شيء، والقادر على كلّ شيء. ¬

_ (¬1) "شرح مسلم" 14/ 217. (¬2) "الفتح" 10/ 297 "كتاب الطبّ" رقم الحديث (5770).

وهذه الشبهة التي وقعت لهؤلاء هي التي وقعت للطبائعيين أوّلًا، وللمعتزلة ثانيًا، فقال الطبائعيون بتأثيرات الأشياء بعضها في بعض، وإيجادها إياها، وسمَّوا المؤثّرة طبيعةً. وقالت المعتزلة بنحو ذلك في أفعال الحيوانات والمتولّدات، وقالوا: إن قُدرتهم مؤثّرة فيها بالإيجاد، وإنهم خالقون لأفعالهم، مستقلّون باختراعها. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله (¬1). [تنبيه]: قال الطيبي رحمه الله: إنما أتى بـ "من"، والظاهر أن يقال: فما أعدى الأول ليجاب بقوله: الله تعالى. وذكر "أعدى" للمشاكلة والازدواج، كما في قوله: "كما تدين وتدان". انتهى (¬2). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه هذا صحيح، دون قوله: "ذالكم القدر"؛ لتفرّد أبي جناب عن أبيه به، وهو ضعيف مدلس، وأبوه مجهول. قال البوصيريّ رحمه الله: هذا إسناد ضعيف؛ لضعف يحيى بن أبي حيّة، ولكونه روى عن أبيه بالعنعنة، فإنه كان يدلّس. وله شاهد من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- رواه الترمذيّ في "الجامع". انتهى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الكلام المذكور في سند المصنّف خاصّة، وإلا فمتن الحديث متّفق عليه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- دون قوله: "ذلكم القدر". وحديث ابن مسعود -رضي الله عنه- الذي أشار إليه البوصيريّ، نصّه: 2069 - حدثنا بندار، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن عمارة بن ¬

_ (¬1) "المفهم" 6/ 621. (¬2) "الكاشف" 9/ 2980.

القعقاع، حدثنا أبو زرعة بن عمرو بن جرير، قال: حدثنا صاحب لنا عن ابن مسعود، قال: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: لا يُعدِي شيء شيئًا، فقال أعرابي: يا رسول الله البعير الجرِبُ الحشفَةِ بذنبه، فتَجَرَبُ الإبلُ كلها؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فمن أجرب الأول؟، لا عدوى، ولا صفر، خلق الله كل نفس، وكتب حياتها ورزقها ومصائبها". وهذا الإسناد رجاله ثقات، إلا أن شيخ أبي زرعة مجهول؛ لإبهامه، والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (10/ 86) بهذا السند، وفي "كتاب الطبّ" رقم (3539) عن أبي بكر بن أبي شيبة وحده، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" 2/ 24 رقم (4545)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو إثبات القدر، ووجوب الإيمان به. 2 - (ومنها): إبطال ما كان عليه الجاهليّة من اعتقاد إعداء المرض، فكانوا يعتقدون أن المريض إذا دخل في الأصحّاء أمرضهم، فنفى الشارع ذلك، وأبطله، أتم بطلان. 3 - (ومنها): أن هذا الحديث، وإن كان ظاهره نفيًا لهذه الأشياء، لكن المراد منه النهي عن الالتفات إليها، والاعتناء بها؛ لأنها في أنفسها ليست بصحيحة، وإنما هي من أوهام جهّال العرب. 4 - (ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: وفيه دليلٌ على جواز مشافهة من وقعت له شبهة في اعتقاده بذكر البرهان العقليّ، إذا كان السامع أهلًا لفهمه، فأما أهل القصور، فيُخاطبون بما تحتمله عقولهم من الأمور الإقناعيات. انتهى (¬1)، والله تعالى ¬

_ (¬1) "المفهم" 6/ 622 "كتاب الرقى والطبّ".

أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في الجمع بين حديث: "لا عدوى"، وحديث: "لا يورد ممرض على مصحّ"، وكلاهما صحيحان اتفق الشيخان على إخراجهما: قال النوويّ: قال جمهور العلماء: يجب الجمع بين هذين الحديثين، وهما صحيحان، قالوا: وطريق الجمع أن حديث "لا عدوى" المراد به نفي ما كانت الجاهلية تزعمه، وتعتقده أن المرض والعاهة تُعْدِي بطبعها، لا بفعل الله تعالى، وأما حديث "لا يورد ممرض على مصح"، فأرشد فيه إلى مجابة ما يحصل الضرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقدره، فنفى في الحديث الأول العدوى بطبعها، ولم ينف حصول الضرر عند ذلك بقدر الله تعالى وفعله، وأرشد في الثاني إلى الاحتراز مما يحصل عنده الضرر بفعل الله وإرادته وقدره، فهذا الذي ذكرناه من تصحيح الحديثين والجمع بينهما هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء، ويتعين المصير إليه، ولا يؤثر نسيان أبي هريرة -رضي الله عنه- لحديث "لا عدوى"؛ لوجهين: [أحدهما]: أن نسيان الراوي للحديث الذي رواه لا يقدح في صحته، عند جماهير العلماء، بل يجب العمل به. [والثاني]: أن هذا اللفظ ثابت من رواية غير أبي هريرة، فقد ذكر مسلم هذا من رواية السائب بن يزيد، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وابن عمر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وحَكَى المازريّ، والقاضي عياض عن بعض العلماء أن حديث "لا يورد ممرض على مصح" منسوخ بحديث "لا عدوى"، وهذا غلط لوجهين: [أحدهما]: أن النسخ يشترط فيه تعذر الجمع بين الحديثين، ولم يتعذر، بل قد جمعنا بينهما. [والثاني]: أنه يُشترط فيه معرفة التاريخ، وتأخر الناسخ، وليس ذلك موجودًا هنا.

وقال آخرون: حديث "لا عدوى" على ظاهره، وأما النهى عن إيراد الممرض على المصح فليس للعدوى، بل للتأذي بالرائحة الكريهة، وقبح صورته، وصورة المجذوم، والصواب ما سبق. انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد سلك العلماء في الجمع بين هذين الحديثين مسالك متعدّدة، والذي صححه النووي آنفًا أقربها، وأولاها، وسيأتي بيان تلك المسالك وما لها وما عليها في "كتاب الطبّ" إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. بالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 87 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيىَ بْنُ عِيسَى الجرَّارُ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ أبي المسَاوِرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: لمَّا قَدِمَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ الْكُوفَةَ، آَتيْنَاهُ في نَفَرٍ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَقُلْنَا لَهُ: حَدِّثْنَا مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: أتيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: "يَا عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ"، قُلْتُ: وَمَا الْإِسْلَامُ؟ فَقَالَ: "تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأني رَسُولُ الله، وَتُؤْمِنُ بِالْأَقْدَارِ كُلِّهَا، خَيرهَا وَشَرِّهَا، حُلْوِهَا وَمُرِّهَا"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (علي بن محمد) المذكور في السند الماضي. 2 - (يحيى بن عيسى الجرّار) - بالجيم، وراءين، أولاهما مشدّدة- (¬2) هو: يحيى بن عيسى بن عبد الرحمن، ويقال: ابن محمد التميميّ النَّهْشَليّ الفاخوريّ -بالفاء والخاء المعجمة- أبو زكريا الكوفيّ، نزيل الرملة، صدوقٌ يُخطىء، ورُمي بالتشيّع [9]. ¬

_ (¬1) "شرح مسلم" 14/ 213 - 214. (¬2) هذا هو الصواب في ضبطه، كما نص عليه الذهبيّ في "المشتبه" ص (159) والحافظ في "التقريب"، وانظر "تهذيب الكمال" 31/ 488 - 491، فما وقع في النسخ المطبوعة "الخزّاز" بزايين، فغلط، فتنبه.

روى عن الأعمش، وأبي مسعود عبد الأعلى بن أبي المساور، وعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ومسعر بن كِدَام، وغيرهم. وروى عنه ابن أخيه عيسى بن عثمان بن عيسى، وآدم بن أبي إياس، وعيسى بن يونس الفاخوريّ، وابنا أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله المخزومي، وغيرهم. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه، ما أقرب حديثه. وقال أبو داود: بلغني عن أحمد أنه أحسن الثناء عليه. وقال الدوري عن ابن معين: ليس بشيء. وقال العجلي: ثقة، وكان فيه تشيع. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال أحمد بن سنان: قال أبو معاوية: اكتبوا عنه فطالما رأيته عند الأعمش. وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: لا يكتب حديثه. وقال آخر عن ابن معين: ضعيف. وقال مسلمة: لا بأس به، وفيه ضعف. وقال ابن عديّ: عامة ما يرويه لا يُتابَعُ عليه. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال البخاري في "تاريخه الصغير": حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى، قال: مات أبو زكريا يحيى بن عيسى سنة إحدى ومائتين أو نحوها. وقال ابن قانع: مات سنة إحدى ومائتين. أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (87) و (178) و (1803) و (3515). 3 - (عبد الأعلى بن أبي المساور) الزهريّ مولاهم، أبو مسعود الجرّار -بالجيم وراءين- الكوفيّ، نزيل المدائن، متروك، وكذّبه ابن معين [7]. روى عن الشعبي، وزياد بن عِلاقة، وعطاء بن أبي رَبَاح، وإبراهيم بن محمد بن حاطب، وعكرمة، وأبي بردة بن أبي موسى الأشعري، وغيرهم. وروى عنه وكيع، ويزيد بن هارون، وشبابة، وعبد الرحيم بن سليمان، ويحيى ابن عيسى الرملي، ويحيى بن أبي بكر، وجُبَارة بن المغلِّس، وعدة.

قال أبو داود عن ابن معين: أرجو أن يكون صالحًا، ولم نُدركه نحن. وقال إبراهيم بن الجنيد، وعباس الدوري، عن ابن معين: ليس بشيء، زاد إبراهيم: كذاب. وقال المفضل الغلابي، عن ابن معين: ليس بثقة. وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن علي ابن المديني: ضعيف، ليس بشيء. وقال ابن عمار الموصلي: ضعيف، ليس بحجة. وقال أبو زرعة: ضعيفٌ جدّا. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، يشبه المتروك. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبو داود: ليس بشيء. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال في موضع آخر: ليس بثقة، ولا مأمون. وقال ابن نُمَير: متروك الحديث. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالقوي عندهم. وقال الساجي: منكر الحديث. وذكره البخاري في "فصل من مات ما بين الستين إلى السبعين". وقال أبو نعيم الأصبهاني: ضعيف جدًّا، ليس بشيء. تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (87) وحديث (4291). 4 - (الشعبيّ) هو: عامر بن شرَاحيل، أبو عمرو الكوفيّ، ثقة فقيه مشهور فقيه [3] تقدم في 1/ 11. 5 - (عديّ بن حاتم) بن عبد الله بن سَعْد بن الحشْرَج ابن مرىء القيس بن عدي ابن أخزم بن أبي أخزم بن ربيعة بن جَرْوَل بن ثُعَل بن عمرو بن الْغَوْث بن طيء الطائي، أبو طريف، ويقال: أبو وهب، ولد الجواد المشهور، أسلم في سنة تسع، وقيل: سنة عشر، وكان نصرانيا قبل ذلك، وثبت على إسلامه في الردة، وأحضر صدقة قومه إلى أبي بكر، وشهد فتح العراق، ثم سكن الكوفة، وشهد صِفِّين مع علي، ومات بعد الستين، وقد أسن. قال خليفة: بلغ عشرين ومائة سنة. وقال أبو حاتم السجستاني: بلغ مائة وثمانين. قال محل بن خليفة، عن عدي بن حاتم: ما أُقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء. وقال الشعبي عن عدي: أتيت عمر في أناس من قومي، فجعل يَفْرِض

للرجل، ويعرض عني، فاستقبلته، فقلت: أتعرفني؟ قال: نعم آمنت إذ كفروا، وعرفتَ إذ أنكروا، ووفيت إذ غدروا، وأقبلت إذ أدبروا، إن أول صدقة بَيَّضَت وجوه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صدقة طيّء، أخرجه أحمد، وابن سعد، وغيرهما، وبعضه في مسلم. وجزم خليفة بأنه مات سنة ثمان وستين. وفي "التاريخ المظفري": أنه مات في زمن المختار، وهو ابن مائة وعشرين سنة (¬1). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب عشرة أحاديث برقم 87 و 185 و 1843 و 2108 و 3177 و 3208 و 3212 و 3213 و 3214 و 3215. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنِ الشَّعْبِيِّ) عامر بن شَرَاحيل رحمه الله، أنه (قَالَ: لمَّا قَدِمَ) بكسر الدال: أي دخل (عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ) -رضي الله عنه- (الْكُوفَةَ) بضم الكوفة: البلدة المعروفة (أتيْنَاهُ في نَفَرٍ) متعلّقٌ بحال محذوف: أي حال كوننا في جملة نفر، أو مع نفر، و"النفر" بفتحتين، ومثله القوم، والرهط: معناها الجمع من الناس، لا واحد لها من لفظها. قاله في "شرح القاموس" (مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ) متعلّق بصفة محذوفة لـ "نفر" (فَقُلْنَا لَهُ: حَدِّثْنَا مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-) أي من الأحاديث النافعة التي نتمسك بها لنفوز بخيري الدنيا والآخرة (قَالَ) عديّ -رضي الله عنه- (أتيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-) أي من المكان الذي هرب إليه، فقد تقدّم في ترجمته آنفًا أنه قال: لمّا بُعِثَ النبي -صلى الله عليه وسلم- كرهته كراهية شديدة، فانطلقت حتى كنت في أقصى الأرض مما يلي الروم، فكرهت مكاني أشد من كراهته ... " الحديث (فَقَالَ: "يَا عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ، أَسْلِمْ) بقطع الهمزة فعل أمر من الإسلام رباعيّا (تَسْلَمْ) بفتح أوله وثالثة، مضارع سَلِم من باب تعب سلامةً. قال السنديّ رحمه الله: المراد الإسلام مع طهارة القلب، كما يدلّ عليه تفسيره، فلا يَرِد أن الإسلام بالمعنى الذي سبق في حديث جبريل ¬

_ (¬1) "الإصابة" 4/ 388 - 390، و"تهذيب التهذيب" 85 - 86.

عليه السلام لا يستلزم السلامة من النار، فكيف قال: تسلم: أي تكن سالمًا من الخلود في النار، فلا دلالة على أن المسلم لا يُعَذّب. انتهى (¬1). [فائدة]: يجوز في "عديّ" من قوله: "يا عديّ بن حاتم" بناؤه على الضم، وفتحه على الإتباع، والأصل في ذلك أنه إذا كان المنادى مفردًا علمًا، ووُصِف بـ "ابن" مضاف إلى علم، ولم يُفصل بين المنادى وبين "ابن" جاز لك في المنادى وجهان: البناء على الضمّ، نحو "يا زيدُ بنَ عمرو"، وكهذا الحديث، والفتح إتباعًا، نحو "يا زيدَ بنَ عمرو"، ويجب حذف ألف "ابن"، والحالة هذه خطّا. وأما إذا لم يقع "ابن" بعد علم، أو لم يقع علم بعده، وجب ضمّ المنادى، وامتنع فتحه، فمثال الأول نحو: يا غلام ابن عمرو، ويا زيد الظريف ابن عمرو، ومثال الثاني نحو: يا زيد ابن أخينا، فيجب بناء "زيد" على الضم في هذه الأمثلة، ويجب إثبات ألف "ابن" والحالة هذه، وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله في "خلاصته" حيث قال: وَنَحْوَ "زيدٍ" ضُمَّ وَافْتَحَنَّ مِنْ ... نَحْوِ "أَزَيْدُ بْنَ سَعِيدٍ لاَ تَهِنْ" وَالضمُّ إِنْ لَمْ يَلِ الابْنُ عَلَمَا ... أَوْ يَلِ الابْنَ عَلَمٌ قَدْ حُتِمَا قال عديّ -رضي الله عنه- (قُلْتُ: وَمَا الْإِسْلَامُ؟) أي ما هو حقيقة الإسلام الذي دعوتني إليه، حتى أتبعك، وأنا على بصيرة (فَقَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله) قال السنديّ رحمه الله: بتقدير "أن تشهد"، فيجوز نصبه، أو هو من إقامة المضارع مقام المصدر بلا تقدير. انتهى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "فيجوز نصبه" فيه نظر؛ لأن نصب المضارع مع حذف "أن" المصدريّة شاذ، كما قال ابن مالك في "الخلاصة": وَشَذَّ حَذْفُ "أَنْ" وَنَصْبٌ في سِوَى ... مَا مَرَّ فَاقبلْ مِنْهُ مَا عَدْلٌ رَوَى ¬

_ (¬1) "شرح السندي"! / 67.

والأولى رفعه، مع تقديرها، وهو جائز في سعة الكلام على الأصحّ، وقد وقع في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} الآية [الروم: 24]، والصدر المؤول خبر لمحذوف، والتقدير: هو أن تشهد الخ، أي شهادة أن لا إله إلا الله الخ. (وأنِّي رَسُولُ الله) -صلى الله عليه وسلم- (وَتُؤْمِنُ بِالْأَقْدَارِ) بفتح الهمزة جمع قدر بفتحتين، وقوله (كلِّهَا) بالجر توكيدًا لـ "الأقدار"، وقوله (خَيْرِهَا وَشَرِّهَا) بالجرّ بدل من "الأقدار"، وقوله (حُلْوِهَا وَمُرِّهَا) بالجرّ أيضًا بدل إضراب، أو معطوف على ما قبله، بتقدير حرف العطف، وهو جائز عند بعض النحاة، حكى أبو زيد" "أكلت خبزًا لحمًا تمرًا"، فقيل: على حذف واو العطف، وقيل: على بدل الإضراب. قاله ابن هشام الأنصاريّ في "مغنيه" (¬1). والله تعالى أعلم. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث عديّ بن حاتم -رضي الله عنه- هذا تفرّد به المصنف، وهو حديث ضعيف جدّا؛ لأن في سنده عبد الأعلى بن أبي المساور، متروك، بل كذّبه ابن معين، والراوي عنه يحيى بن عيسى ضعيف أيضًا. وقال البوصيريّ رحمه الله: هذا إسناد ضعيف؛ لاتفاقهم على ضعف عبد الأعلى، وله شاهد من حديث جابر -رضي الله عنه- رواه الترمذيّ في "جامعه". انتهى. وأخرجه (أحمد) في "مسنده" رقم (17548) و (18569) و (18575)، وقد تقدّم لفظه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله أول الكتاب قال: 88 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بن نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بن مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ يَزِيدَ الرِّقَاشِيِّ، عَنْ غُنيمِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ الْقَلْبِ مَثَلُ الرِّيشَةِ، تُقَلِّبُهَا الرِّيَاحُ بِفَلَاةٍ"). ¬

_ (¬1) راجع "مغني اللبيب" 2/ 635.

رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ نُمَيْرٍ) الهمدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقة حافظ فاضل [10] تقدم في 1/ 4. 2 - (أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ) بن عبد الرحمن بن خالد بن مَيْسَرة القرشي مولاهم، أبو محمد، ثقة ضُعّف في الثوريّ [9]. روى عن الأعمش، ومُطَرِّف بن طَرِيف، وأبي إسحاق الشيباني، ومحمد بن عجلان، والثوري، وغيرهم. وروى عنه أحمد بن حنبل، وابنه عبيد بن أسباط، وابن أبي شيبة، وابن نمير، وإسحاق ابن راهويه، ومحمد بن مقاتل، وعليّ بن حرب، والحسن بن علي بن عفان، وعدة. قال محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي: قال لنا وكيع: اسْمَعُوا منه، فسمعنا منه، وكان حديثه ثلاثة آلاف. وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة. وقال أحمد: إنه أحب إليه من الْخَفّاف. وقال أبو حاتم: صالح. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال الدُّوري عن ابن معين: ليس به بأس، وكان يخطئ عن سفيان. وقال الغلابي عنه: ثقة، والكوفيون يضعفونه. وقال الْبَرْقِيّ عنه: الكوفيون يضعفونه، وهو عندنا ثَبْتٌ فيما يروي عن مُطَرِّف والشيبانيّ، وقد سمعت أنا منه. وقال العُقَيليّ: رُبّما يَهِمُ في الشيء. وقال العجلي: لا بأس به. وقال ابن سعد: كان ثقة صدوقًا، إلا أن فيه بعض الضعف. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال يعقوب بن شيبة: كوفي ثقة صدوق، توفي بالكوفة في المحرم سنة (200). وقال هارون بن حاتم في "تاريخه": حدثني أنه وُلِد سنة (105) ومات في أيام أبي السّرَايَا سنة (199). أخرج له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط برقم (88) و (670) و (1368) و (2101) و (3453). 3 - (الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الحافظ الحجة الثبت [5] 1/ 1.

4 - (يَزِيدُ الرِّقَاشِيُّ) هو: يزيد بن أبان الرَّقَاشِيّ، أبو عمرو البصريّ الزاهد، ضعيف [5]. روى عن أبيه، وأنس بن مالك، وغنيم بن قيس، وأبي الحكم البجلي، والحسن البصري، وقيس بن عَبَاية. وروى عنه ابنه عبد النور، وابن أخيه الفضل بن عيسى بن أبان، وقتادة، وابن المنكدر، وأبو الزناد، وصفوان بن سليم، والأعمش، وغيرهم. قال ابن سعد: كان ضعيفًا قدريا. وقال عمرو بن علي: كان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه، وكان عبد الرحمن يحدث عنه، وقال: كان رجلًا صالحًا، وقد روى عنه الناس، وليس بالقوي في الحديث. وقال البخاري: تكلم فيه شعبة. وقال إسحاق بن راهويه، عن النضر بن شميل: قال شعبة: لأن أقطع الطريق أحب إلى من أن أروى عن يزيد. وقال زكريا بن يحيى الحلواني: سمعت سلمة بن شبيب يقول: سمعت يزيد بن هارون، سمعت شعبة يقول: لأن أزني أحب إليّ من أن أحدث عن يزيد الرقاشي، قال يزيد: ما كان أهون عليه الزنا، قال سلمة بن شبيب: فذكرت ذلك لأحمد بن حنبل، فقال: كان بلغنا أنه قال ذلك في أبان، فقال أبو داود السِّجِستاني، وكان في مجلس سلمة: قاله فيهما جميعًا. وقال عبد الله بن إدريس: سمعت شعبة يقول: لأن أزني أحب إلي من أن أروي عن يزيد وأبان، وقال أبو داود عن أحمد: لا يكتب حديث يزيد، قلت: فلم تُرِكَ حديثه لهوى كان فيه؟ قال: لا، ولكن كان منكر الحديث، وكان شعبة يحمل عليه، وكان قاصّا. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: هو فوق أبان، وكان يضعف. وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: هو خير من أبان. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: رجل صالح، وليس حديثه بشيء. وقال معاوية بن صالح، والدُّوري عن ابن معين: ضعيف. وكذا قال الدارقطني، والبرقاني. وقال الآجري عن أبي داود: رجل صالح، سمعت يحيى يقول: رجل صدق.

وقال يعقوب بن سفيان: فيه ضعف. وقال أبو حاتم: كان واعظًا بكاء كثير الرواية عن أنس بما فيه نظر، وفي حديثه ضعف. وقال النسائي، والحاكم أبو أحمد: متروك الحديث. وقال النسائي أيضًا: ليس بثقة. وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة عن أنس وغيره، وأرجو أنه لا بأس به لرواية الثقات عنه. وقال الساجي: كان يَهِم، ولا يَحفَظ، ويُحمَل حديثه؛ لصدقه وصلاحه. وقال ابن حبان: كان من خيار عباد الله، من البكائين بالليل، لكنه غفل عن حفظ الحديث شغلًا بالعبادة، حتى كان يقلب كلام الحسن، فيجعله عن أنس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلا تحل الرواية عنه، إلا على جهة التعجب. انتهى. وأخبار يزيد في الزهد والعبادة والمجاهدة كثيرة. وقال المعتمر بن سليمان: كان يقول: إذا نِمتُ، ثم استيقظتُ، فلا نامت عيناي، وعلى الماء البارد السلام بالنهار. وذكره البخاري في "الأوسط" في "فصل من مات في عشر ومائة إلى عشرين ومائة". أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، والترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب (15) حديثًا. 5 - (غُنيمُ بْنُ قَيْسٍ) المازنيّ الكعبيّ، أبو العنبر البصري، مخضرم ثقة [2]. أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يره (¬1)، ووفد- على عمر، وغزا مع عقبة بن غَزْوان، روى عن أبيه، وله صحبة، وسعد بن أبي وقاص، وأبي موسى الأشعري، وابن عمر، وأبي العوّام مؤذن بيت المقدس. وروى عنه سليمان التيمي، وعاصم الأحول، وخالد الحذاء، وثابت بن عمارة الحنفي، وأبو السَّلِيل، ضُرَيب بن نُقَير، ويزيد الرَّقَاشيّ. ¬

_ (¬1) هكذا جزم الحافظ المزّيّ في "تهذيب الكمال" بأنه لم ير النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن يعارضه ما سيأتي عن عبد الغني بن سعيد، وابن ماكولا حيث قالا: إن له رؤية، فتأمل.

ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل البصرة، وقال: كان ثقة، قليل الحديث. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال شعبة عن عاصم الأحول، عن غُنيم بن قيس: إني أذكر أبياتًا قالها أبي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-[من مشطور الرجز]: أَلاَ لِيَ الْويلُ عَلَى مُحَمَّدِ ... قَدْ كُنْتُ في حَيَاتِهِ بِمَقْعَدِ أنامُ لَيْلي آمِنًا إِلَى الْغَدِ ... .......................... وقال عبد الغني بن سعيد المصريّ: له رؤية، وكذا قال ابن ماكولا. قال ابن حبان في "الثقات": مات سنة تسعين. روى له مسلم حديثًا واحدًا في المتعة، وأصحاب السنن الثلاثة حديث: "كُلُّ عين زانية"، والمصنّف هذا الحديث فقط. 6 - (أبو مُوسَى الْأَشعَرِيُّ) هو: عبد الله بن قيس بن سُلَيم بن حَضّار بن حَرْب ابن عامر بن غَنْم بن بكر بن عامر بن عَذر بن وائل بن ناجية بن الجماهر بن الأشعر، أبو موسى الأشعري، مشهور باسمه وكنيته معًا، وأمه ظَبْية بنت وهب بن عَك، أسلمت وماتت بالمدينة، وكان هو سكن الرَّمْلة، وحالف سعيد بن العاص، ثم أسلم وهاجر إلى الحبشة، وقيل: بل رجع إلى بلاد قومه، ولم يهاجر إلى الحبشة، وهذا قول الأكثر، فإن موسى بن عقبة، وابن إسحاق، والواقدي لم يذكروه في مهاجرة الحبشة، وقدم المدينة بعد فتح خيبر، صادفت سفينته سفينة جعفر بن أبي طالب، فقدموا جميعًا، واستعمله النبي -صلى الله عليه وسلم- على بعض اليمن، كزَبِيد وعَدَن وأعمالهما، واستعمله عمر على البصرة بعد المغيرة، فافتتح الأهواز، ثم أصبهان، ثم استعمله عثمان على الكوفة، ثم كان أحد الحكمين بصِفِّين، ثم اعتزل الفريقين. وروى عنه أولاده: موسى، وإبراهيم، وأبو بُرْدة، وأبو بكر، وامرأته أم عبد الله، ومن الصحابة: أبو سعيد، وأنس، وطارق بن شهاب، ومن كبار التابعين فيمن بعدهم: زيد بن وهب، وأبو عبد الرحمن السُّلَمِيّ، وعُبيد بن عمير، وقيس بن أبي حازم، وأبو الأسود، وسعيد بن المسيب، وزِرّ بن حُبَيش، وأبو عثمان النَّهْدِيّ، وأبو رافع الصائغ،

وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، ورِبْعِيّ بن حِرَاش، وحِطان الرَّقَاشيّ، وأبو وائل، وصفوان بن مُحرِز، وآخرون. وقال أصحاب الفتوح: كان عامل النبي -صلى الله عليه وسلم- على زَبِيد وعدن وغيرهما من اليمن وسواحلها، ولما مات النبي -صلى الله عليه وسلم- قَدِمَ المدينة، وشَهِدَ فتوح الشام، ووفاة أبي عبيدة، واستعمله عمر على إمرة البصرة، بعد أن عزل المغيرة، وهو الذي افتتح الأهواز، وأصبهان، وأقرّه عثمان على عمله قليلًا، ثم صرفه، واستعمل عبد الله بن عامر، فسكن الكوفة، وتفقه به أهلها، حتى استعمله عثمان عليهم، بعد عزل سعيد بن العاص. قال البغوي: بلغني أن أبا موسى مات سنة اثنتين، وقيل: أربع وأربعين، وهو ابن نَيِّفٍ وستين، وبالأول جزم ابن نمير وغيره، وبالثاني أبو نعيم وغيره. وقال أبو بكر ابن أبي شيبة: عاش ثلاثا وستين. وقال الهيثم وغيره: مات سنة خمسين، زاد خليفة: ويقال: سنة إحدى. وقال المدائني: سنة ثلاث وخمسين. واختلفوا هل مات بالكوفة أو بمكة. أخرج له الجماعة، وله من الأحاديث (360) حديثًا، اتفق الشيخان على (50) وانفرد البخاريّ بأربعة، ومسلم بـ (25) وله عند المصنّف في هذا الكتاب (47) حديثًا. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ) -رضي الله عنه- أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ الْقَلْبِ) قال الطيبيّ رحمه الله: "المثل" بمعنى الصفة، لا القول السائر؛ لَأن المُعْنيّ صفة القلب العجيبة الشأن، وورود ما يرد عليه من عالم الغيب من الدواعي، وسرعة تقلّبها بسبب الدواعي (¬1) (مَثَلُ الرِّيشَةِ) أي كصفة الريشة، وهي بكسر الراء واحدة الريش. قال في "المصباح": الرِّيشُ من الطائر معروف، الواحدة رِيشة، ويقال: في جناحه ستّ عشرة ¬

_ (¬1) "الكاشف" 2/ 567.

ريشةً، أربعٌ قوادم، وأربع خَوَافٍ، وأربعٌ مناكب، وأربع أباهر. انتهى (¬1). (تُقَلِّبُهَا) بفتح أوله، وكسر ثالثه، مضارع قلب، من باب ضرب، أو بضمّ أوله، وتشديد ثالثه، من التقليب، قال السنديّ: والثاني هو الأشهر الأظهر في مقام البالغة؛ لدلالته على التكثير، وهو الأوفق بجمع "الرياح"؛ ليظهر التقلب؛ إذ لو استمرّ الريح على جانب واحد لم يظهر التقلّب، والجملة صفة للريشة؛ لكون تعريفها للجنس. انتهى (¬2). قال الراغب الأصفهانيّ: قلب الشيء تصريفه، وصرفه عن وجه إلى وجه، كقلب الثوب، وقلب الإنسان: أي صرفه عن طريقته، وقلب الإنسان قيل: سمّي به لكثرة تقلّبه، ويُعبّر بالقلب عن المعاني التي يختصّ به من الروح، والعلم، والشجاعة، وغير ذلك. (¬3) انتهى. وتسمية القلب لتقلّبه، كتسمية الآدمي إنسانًا لنسيانه؛ لأنه عُهِد إليه، فنسي، قال عز وجل: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}، قال الشاعر: وَمَا سُمِّيَ الإِنْسَانُ إِلَّا لِنَسْيِهِ ... وَلاَ الْقَلْبُ إِلَّا أنهُ يَتَقَلَّب (الرِّيَاحُ) بالرفع على الفاعلية، وإنما جمع "الرياح" لدلالتها على التقلّب ظهرًا لبطن؛ إذ لو استمرّ الريح على جانب واحد لم يظهر القلب، كما يظهر من الرياح المختلفة. قاله الطيبيّ (¬4). وفي رواية أحمد: "يقلبها الرياح ظهرًا لبطن" يعني أنه يقلبها كل ساعة على صفة، فكذا القلب ينقلب ساعة من الخير إلى الشرّ وبالعكس، ونصب قوله: "ظهرًا" على أنه بدل بعض من الضمير في "يقلبها"، واللام في "لبطن" بمعنى "إلى" كقوله تعالى: {مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} الآية [آل عمران: 193] , ويجوز أن يكون "ظهرًا لبطن" مفعولًا مطلقًا: ¬

_ (¬1) راجع "المصباح المنير" 1/ 248. (¬2) "شرح السنديّ" 1/ 68. (¬3) "مفردات ألفاظ القرآن" ص 681. (¬4) "الكاشف" 2/ 568.

أي يَقْلِبها تقليبًا مختلفًا، وأن يكون حالًا: أي يقلبها مختلفةً، ولهذا سُمّي القلب قلبًا (¬1). (بِفَلَاةٍ) بفتح الفاء، وتخفيف اللام: هي الأرض القفر الخالية من العمران، أو المَفَازة، لا ماء فيها (¬2). وإنما خصّ الفلاة؛ لأن التقليب فيها أشدّ من العمران. قاله القاري (¬3). وفي رواية لأحمد: "بأرض فلاة" قال الطيبيّ: لفظ "أرض" مقحمة؛ لأن في ذكر الفلاة استغناء عنها، وهو كقولك: أخذت بيدي، ونظرت بعيني، تقريرًا ورفعًا للمجاز، وأن يَتَوَهَّم متوهّم خلافه، ولا يسلك إلا في أمر خطير. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي موسى الأشعريّ -رضي الله عنه- هذا صحيح موقوفًا. قال البوصيريّ رحمه الله: هذا إسناد فيه يزيد بن أبان الرقَاشيّ، وقد أجمعوا على ضعفه، لكن لم ينفرد به، فقد رواه مسدّد في "مسنده": ثنا خالدٌ، ثنا الجريريّ، عن غُنيم ابن قيس، عن أبي موسى، فذكره موقوفًا بلفظ: "إنما مثل القلب كمثل الريشة، يقلبها الرياح ظهرًا لبطن"، وسعيد الجريريّ، وإن اختلط بآخره، فقد روى له البخاريّ ومسلم من طريق خالد بن عبد الله عنه. انتهى كلام البوصيريّ. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: لم ينفرد به إلخ، فيه نظر؛ لأن خالدًا وهو ابن عبد الله الطحان، لم يوافقه، بل خالفه في الوقف، فتبين بهذا تفرّد يزيد الرقاشي برفع هذا الحديث. [فإن قلت]: قد تابعه يزيد بن هارون في رفعه عند الإمام أحمد، قال عبد الله بن أحمد: حدّثني أبي، ثنا يزيد، قال: أخبرنا الجريري، عن غنيم بن قيس، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن هذا القلب كريشة بفلاة من الأرض، يقيمها الريح ¬

_ (¬1) راجع "الكاشف" 2/ 567. و "المرقاة" 1/ 304. (¬2) أفاده في "القاموس" ص 1189. (¬3) "المرقاة" 1/ 304.

ظهرا لبطن"، قال أبي: ولم يرفعه إسماعيل عن الجريري. انتهى. [قلت]: يزيد ممن روى عن الجريريّ بعد اختلاطه، فلا تنفع متابعته، وقد خالفه إسماعيل ابن عليّة، فوقفه، كما أشار إلى هذا الإمام أحمد، حيث قال: ولم يرفعه إسماعيل عن الجريريّ، يعني أن إسماعيل -وهو ابن عليّة- خالف يزيد بن هارون، فرواه موقوفًا، وروايته أرجح من رواية يزيد؛ لأنه ممن سمع من الجريريّ قبل اختلاطه، بخلاف يزيد، فإنه إنما سمع بعد اختلاطه. [فإن قلت]: روى الإمام أحمد عن عفان، حدّثنا عبد الواحد بن زياد، ثنا عاصم الأحول، عن أبي كبشة، قال سمعت أبا موسى يقول على المنبر، فذكر حديثًا، وفيه: "وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما سُمّي القلب من تقلّبه، إنما مثل القلب، كمثل ريشة معلّقة في أصل شجرة، يقلبها الريح ظهرًا لبطن ... " الحديث. فتتقوى بهذا رواية يزيد الرقاشي المرفوعة. [قلت]: هذا فيه أبو كبشة، وهو السدوسيّ البصريّ، لم يرو عنه إلا عاصم الأحول، فهو مجهول العين (¬1)، فلا يقوّي رواية الرقاشيّ. [فإن قلت]: خالد الطحان أيضًا ممن سمع من الجريريّ بعد اختلاطه، فكيف تصحّ روايته؟. [قلت]: لم ينفرد خالد بالوقف، فقد تابعه عليه ابن عليّة، وروايته صحيحة، كما بيناه آنفًا. والحاصل أن حديث أبي موسى -رضي الله عنه- هذا صحيح موقوفًا، والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (10/ 88) بهذا السند فقط، وهو مما تفرد به عن أصحاب ¬

_ (¬1) فقول الدكتور بشار في تحقيقه بعد إيراده لهذا الحديث: "وهذا إسناد صحيح"، غير صحيح، لأن أبا كبشة مجهول، فتنبّه.

الأصول، وأخرجه (مسدّد) في "مسنده" (الورقة 7 - 8) و (أحمد) في "مسنده" (4/ 419 و 408)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو إثبات القدر، ووجه الاستدلال أن تقلّب القلب إنما يكون بتقدير الله سبحانه وتعالى، فهو مقلّب القلوب حيث شاء. 2 - (ومنها): أن فيه ضربَ المثل تقريبًا؛ إيضاحًا للمسألة، وتقريبًا لها إلى الأذهان. 3 - (ومنها): أن فيه بيان تقلّب القلب، وتحوّلاته، وأن ذلك من الله تعالى؛ لأنه بين إصبعيه، فلا ينبغي للعبد أن يغفل عنه، بل يكثر الدعاء بتثبيته على الحقّ، وأن لا يُزيغه بعد الهدى، كما كان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يدعو كثيرًا بذلك. أخرج الإمام مسلم رحمه الله في "صحيحه" من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يصرفه حيث يشاء"، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم مُصَرِّف القلوب صَرِّف قلوبنا على طاعتك". وأخرج الإمام الترمذيّ رحمه الله في "جامعه" عن أنس -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله يُكثر أن يقول: "يا مقلب القلوب ثَبِّت قلبي على دينك"، فقلت: يا رسول الله آمَنّا بك، وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: "نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله، يقلبها كيف يشاء". قال: وهذا حديث حسن. وأخرج أيضًا بسند لا بأس به، عن عاصم بن كليب الجرمي، عن أبيه، عن جده، قال: دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو يصلي، وقد وضع يده اليسرى على فخذه اليسرى، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه، وبسط السبابة، وهو يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك". وأخرج الإمام أحمد رحمه الله، عن الحسن البصريّ، أن عائشة قالت: دعوات

كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يدعو بها: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، قالت: فقلت: يا رسول الله، إنك تكثر تدعو بهذا الدعاء؟ فقال ""إن قلب الآدمي بين إصبعين من أصابع الله عز وجل، فإذا شاء أزاغه، وإذا شاء أقامه". وأخرج أيضًا بسند حسن عن شهر بن حوشب قال: سمعت أم سلمة رضي الله عنها تحدث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يكثر في دعائه أن يقول: "اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، قالت: قلت: يا رسول الله أو إن القلوب لتتقلب؟ قال: "نعم ما من خلق الله من بني آدم من بشر، إلا أن قلبه بين إصبعين من أصابع الله، فإن شاء الله عز وجل أقامه، وإن شاء الله أزاغه، فنسأل الله ربنا أن لا يُزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب"، قالت: قلت: يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: بلى، قولي: "اللهم رب محمد النبي اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتنا". وشهر بن حوشب حسن الحديث، كما بيناه فيما مضى من هذا الشرح، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 89 - (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثنا خَالِي يَعْلَى، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَالم بْنِ أَبِي الجعْدِ، عَنْ جَابرٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُل مِنَ الْأنصَارِ إِلَى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ لِي جَارِيَةً أَعْزِلُ عَنْهَا؟، قالَ: "سَيَأتِيهَا مَا قُدِّرَ لهَا"، فَأتاهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ: قَدْ حَمَلَتِ الجارِيَةُ، فَقَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا قُدِّرَ لِنَفْسٍ شَيءٌ إِلَّا هِيَ كَائِنة"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (عِليُّ بنُ مُحَمَّدٍ) الطنافسيّ المذكور قبل حديث. 2 - (يَعْلَى) بن عُبيد بن أُميّة الإياديّ، ويقال: الحنفي مولاهم، أبو يوسف الطَّنَافسيّ الكوفيّ، مولى إياد, ثقة إلا في حديثه عن الثوري، ففيه لينٌ، من كبار [9]. روى عن إسماعيل بن أبي خالد، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، والأعمش، وعبد

العزيز بن سِيَاه، ويزيد بن كيسان، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم. وروى عنه ابن أخته علي بن محمد الطنافسي، وأخوه محمد بن عُبيد، ومحمد بن مقاتل المروزي، وإسحاق بن راهويه، وابنا أبي شيبة، وعبد بن حميد، وغيرهم. قال صالح بن أحمد عن أبيه: كان صحيح الحديث، وكان صالحًا في نفسه. وقال علي بن الحسن الْهِسِنْجَانيّ، عن أحمد: يعلى أصح حديثا من محمد بن عُبيد وأحفظ. وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ضعيف في سفيان، ثقة في غيره. وقال أبو حاتم: صدوق، وهو أثبت أولاد أبيه في الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال أحمد بن يونس: ما رأيت أحدًا يُريد بعلمه الله تعالى إلا يعلى بن عبيد، ما رأيت أفضل منه. وقال أبو مسعود الرازي: كان يعلى ومحمد ابنا عبيد من أهل بيتِ بركةٍ، ما رأيت يعلى ضاحكًا قط، وكان يعلى أكثر مجلسًا، وأحسن خُلُقًا. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال الدارقطنيّ: بنو عُبيد كلهم ثقات. وقال ابن عَمّار الموصليّ: أولاد عُبيد كلهم ثَبْتٌ، وأحفظهم يعلى، وأبصرهم بالحديث محمد. وقال سعيد بن أيوب البخاري: كان يعلى يحفظ عامة حديثه أو جميعه. قال ابن نمير وجماعة: مات في شوال سنة تسع ومائتين. وقال ابن حبان: مات في رمضان سنة سبع. وقيل: سنة تسع ومائتين. وقال غيره: كان مولده سنة سبع عشرة ومائة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (22) حديثًا. 3 - (الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران المذكور في السند الماضي. 4 - (سَالمُ بْنُ أَبِي الجعْدِ) رافع الْغَطَفَانيّ الأشجعيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة، وكان يرسل كثيرًا [3]. روى عن عمر، ولم يدركه، وكعب بن مرة، وقيل: لم يسمع منه، وعائشة، والصحيح أن بينهما أبا المليح، وأبا كبشة. وقيل: عن ابن أبي كبشة، عن أبيه، وجابان، وقيل: بينهما نُبيط، وعن ثوبان، وزياد بن لبيد، وعلي بن أبي طالب، وجماعة.

وروى عنه ابنه الحسن، والحكم بن عتيبة، وعمرو بن دينار، وعمرو بن مرة، وقتادة، وأبو إسحاق السبيعي، والأعمش، وعمار الدُّهني، وغيرهم. قال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائي: ثقة. وقال الذهلي عن أحمد: لم يسمع سالم من ثوبان، ولم يَلْقَه، بينهما مَعْدان بن أبي طلحة، وليست هذه الأحاديث بصحاح. وقال العجليّ: ثقة تابعي. وقال إبراهيم الحربي: مُجْمَع على ثقته. وقال أبو حاتم، عن أبي زرعة: سالم بن أبي الجعد عن عمر وعثمان وعلي مرسل. وقال علي: لم يَلْقَ ابن مسعود، ولا عائشة. وقال أبو حاتم: أدرك أبا أمامة، ولم يدرك عمرو بن عبسة، ولا أبا الدرداء، ولا ثوبان. وقال البخاريّ: لا يُعرف لسالم من جابان سماع. وقال البخاري في "التاريخ الصغير": لا أرى سالما سمع زيادا -يعني بن لبيد-. قال مطين: مات سنة مائة. وقيل: سنة إحدى ومائة. وقال أبو نعيم: مات سنة سبع وتسعين، أو ثمان وتسعين. وكذا قال ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث، مات سنة مائة. وقيل: إحدى ومائة. وقيل: قبل ذلك. وقال ابن زَبْر: توفي سنة تسع وتسعين، وله من العمر مائة وخمس عشرة سنة. قال الحافظ: كذا قال، ولا يصح ذلك. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (21) حديثًا. 5 - (جَابِر) بن عبد الله بن عمرو بن حرام الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما تقدّم في 1/ 11، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف. 2 - (ومنها): أن يعلى، وسالم بن أبي الجعد هذا الباب أول محل ذكرهما في هذا الكتاب، وجملة ما رواه المصنّف ليعلى فيه (22) حديثًا، ولسالم (21) حديثًا، كما أسلفته آنفًا. 3 - (ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، بل رجال الجماعة، غير شيخه، فتفرّد به هو، والنسائي في "مسند عليّ".

4 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين، غير الصحابيّ، فمدنيّ. 5 - (ومنها): أن فيه رواية الراوي عن خاله: عليّ عن يعلى، وتابعيّ عن تابعيّ: الأعمش عن سالم. 6 - (ومنها): أن صحابيّه أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ جَابِر) بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأنصَارِ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ لِي جَارِيَةً) أي خادمة، وأصل الجارية السفينة، سمّيت بذلك لجريها في البحر، وسُمّيَت الأمة بها تشبيها بها؛ لجريها مسخّرةً في أَشْغال مواليها، ثم الأصل فيها الشابّة؛ لخفّتها، ثم توسّعوا حتى سَمَّوا كلَّ أمة جاريةً، وإن كانت عجوزًا لا تقدر على السعي؛ تسميةً بما كانت عليه، والجمع الجواري. قاله الفيّوميّ (¬1). وفي رواية مسلم من طريق أبي الزبير، عن جابر -رضي الله عنه-: "إن لي جارية، هي خادمنا (¬2)، وسانيتنا (¬3)، وأنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تَحْمِل ... " (أَعْزِلُ عَنْهَا) بكسر الزاي، من باب ضرب، يقال: عزل الشيء يعزِله عَزْلًا: إذا نحّاه وصرفه (¬4). والجملة في محلّ نصب صفة لـ "جاريةً"، ومراده السؤال عن حكمه، أي أيجوز لي العزل أم لا؟. ويحتمل أن يكون بتقدير همزة الاستفهام: أي أأعزل عنها؟. و"العزل": هو أن يجامع الرجل امرأته، فإذا قارب الإنزال نَزَع ذكره من فرجها، وأنزل خارج الفرج، وقد اختلف في حكمه، والصحيح أنه يجوز، وتركه أولى، وسيأتي تحقيق ذلك في محلّه من "كتاب النكاح"، إن شاء الله تعالى (قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ ¬

_ (¬1) راجع "المصباح المنير" 1/ 98. (¬2) الخادم يطلق على الذكر والأنثى، وخادمة بالهاء في الأنثى قليل. قاله في "المصباح". (¬3) أي التي تَسقي لنا، شبهها بالبعير في ذلك. قاله النوويّ في "شرحه" 10/ 13. (¬4) "النهاية" 3/ 230.

لهَا) فيه إشارة إلى أن تركه أولى؛ لأنه لا فائدة فيه. وفي رواية مسلم: "اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قُدِّر لها"، فقوله: "فإنه" الضمير للشأن، وفيه التصريح بالجواز (فَأتاهُ بَعْدَ ذَلِكَ) أي الرجل السائل (فَقَالَ: قَدْ حَمَلَتِ) بالبناء للفاعل (الجارِيَة) مرفوع على الفاعلية (فَقَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا قُدِّرَ لِنَفْسٍ شَيْءٌ) ببناء "قُدّر" للمفعول، و"لنفس" متعلّق به، و"شيء" مرفوع على أنه نائب الفاعل، ووقع في بعض النسخ: "ما قَدّر لنفس شيئًا"، وعليه فالفعل مبنيّ للفاعل، وفاعله ضمير يعود إلى الله تعالى، و"شيئًا" منصوب على المفعوليّة. [تنبيه]: يوجد في النسخة الهنديّة ضَبْطُ "قُدِّرَ" علي بناء المفعول مع نصب "شيئًا"، وعليه فنائب الفاعل الجارّ والمجرور، وهو مذهب الكوفيين، واستدلوا له بقراءة أبي جعفر: {لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية: 14] ببناء "يجزَى" للمفعول، وبقول الشاعر [من الرجز]: لَمْ يُعْنَ بِالْعَلْيَاءِ إِلا سَيِّدَا ... وَلاَ شَفَى ذَا الْغَيِّ إلَّا ذُو هُدَى ومذهب جمهور البصريين أنه إذا وجد المفعول به بعد الفعل تعيّن إقامته مقام الفاعل، ولا ينوب غيره مع وجوده، وحملوا ما ورد من ذلك على أنه شاذّ، وأولوا الآية بأن النائب ضمير الغفران المفهوم من {يَغْفِرُوا} وإلى هذه القاعدة أشار ابن مالك في "الخلاصة" حيث قال: وَقَابِلٌ مِنْ ظَرْفٍ أَوْ مِنْ مَصْدَرِ ... أَوْ حَرْفِ جَرٍّ بِنِيَابَةٍ حَرِي وَلاَ يَنُوبُ بَعْضُ هَذِي إِنْ وُجِدْ ... في اللَّفْظِ مَفْعُولٌ بِهِ وَقَدْ يَرِدْ (إِلَّا هِيَ) أي النفس (كَائِنَةٌ) أي عليه، أي على ذلك الشيء المقدّر لها. ويحتمل أن يكون ضمير "هي" للشيء المقدّر، وتأنيثه باعتبار أنه نسمة، وهو أوفق برواية الحديث. أفاده السندي (¬1). ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 68.

أخرج الشيخان في "صحيحيهما" من حديث أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه-: قال أصبنا سبايا، فكنا نَعزِل، ثم سألنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فقال لنا: "وإنكم لتفعلون؟، وإنكم لتفعلون؟، وإنكم لتفعلون؟، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا هي كائنة". وفي رواية: "ما عليكم ألا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة، إلا وهي كائنة"، متّفق عليه. وعنه قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن العزل، فقال: "ما من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء". رواه مسلم. وستأتي بقية المباحث في محله من كتاب النكاح، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث جابر -رضي الله عنه- هذا أخرجه مسلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (10/ 89) بهذا السند فقط، وأخرجه (مسلم) في "النكاح" (1439) و (أبو داود) في "النكاح" (1858) و (عبد الرزاق) في "مصنّفه" (12551) و (ابن أبي شيبة) في "مصنفه" (4/ 220) و (أحمد) في "مسنده" 3/ 313 و 388 و (أبو يعلى) في "مسنده" (1910) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (4194) و (الطحاويّ) في "معاني الآثار" 3/ 35. [تنبيه]: تبيّن بهذا أن ما أشار إليه الحافظ البوصيريّ في الزوائد من أن هذا الحديث تفرد به المصنف غير صحيح، فقد شاركه فيه مسلم، وأبو داود، فتنبّه، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو إثبات القدر، وأن كلّ شيء بقدر

الله، وإنه إذا شاء لا رادّ لما قدّره. 2 - (منها): أن فيه جوازَ العزل، وهو -كما قال النوويّ- مكروه عند الشافعيّة في كل حال، وكل امرأة، سواء رضيت أم لا؛ لأنه طريق إلى قطع النسل، ولهذا جاء في الحديث الآخر تسميته الوأدَ الخفيَّ؛ لأنه قطع طريق الولادة، كما يقتل الولود بالوأد، وأما التحريم فقالوا: لا يحرم في مملوكته، ولا في زوجته الأمة، سواء رضيتا أم لا؛ لأن عليه ضررًا في مملوكته بمصيرها أم ولد، وامتناع بيعها، وعليه ضرر في زوجته الرقيقة بمصير ولده رقيقًا تبعًا لأمه، وأما زوجته الحرة، فإن أذنت فيه لم يحرم، وإلا فوجهان أصحهما لا يحرم. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد وردت أحاديث تدلّ على جواز العزل، وأحاديث تدلّ على النهي عنه، ويُجمَع بينها بأن ما ورد في النهى محمول على كراهة التَّنْزِيه، وما ورد في الإذن في ذلك محمول على أنه ليس بحرام، وليس معناه نفي الكراهة. هكذا ذكر النوويّ رحمه الله، وهو جمع حسن، وسيأتي ذكر أقوال أهل العلم مفصّلةً بأدلتها، ومناقشتها، وترجيح ما هو الراجح بدليله في محلّه من كتاب النكاح، إن شاء الله تعالى. 3 - (ومنها): أن فيه دلالةً على أن العزل لا يمنع الإيلاد، فلو استَفْرَشَ أمةً، وعزل عنها، ثم أتت بولد لحِقَه، إلا أن يدّعي عدم الاستبراء. 4 - (ومنها): أنه ليست نسمة كائنة في علم الله سبحانه وتعالى إلى يوم القيامة في حال من الأحوال إلا كائنة ثابتة في وقت من الأوقات، لا يمنعها عزل، ولا حيلة من الحيل، ولو حاول من في الأرض كلهم جميعًا. 5 - (ومنها): أنه استفيد من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من كل الماء يكون الولد" أن بعض الماء لا يتكون منه الولد، وبعضه يتكون منه بميشئة الله سبحانه وتعالى، لا بطريقة الوسائل، فإنها لا تنفع إلا إذا أراد الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 90 - (حَدَّثَنَا عِليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عِيسَى، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ أَبيِ الجعْدِ، عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَزِيدُ فِيَ الْعُمْرِ إِلا الْبِرُّ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِخَطِيئَةٍ يَعْمَلُهَا"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (عَبْدُ الله بْنُ عِيسَى) بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاريّ، أبو محمد الكوفيّ، وكان أكبر من عمه محمد، ثقة، فيه تشيّعٌ [6]. رَوَى عن جده عبد الرحمن، وأبيه عيسى، وأمية بن هند المزني، وسعيد بن جبير، وعبد الله بن أبي الجعد الغطفاني، والزهريّ، وموسى بن عبد الله بن يزيد الخطمي، وعكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم. وروى عنه عمه محمد، وابن ابنه عيسى بن المختار بن عبد الله بن عيسى، وإسماعيل بن أبي خالد، والسفيانان، وشعبة، وشريك، وغيرهم. قال علي بن حكيم: سمعت شريكًا يُثْني على عبد الله بن عيسى، وقال في رواية: كان رجل صدق، وكان يُعَلِّم محتسبًا. وقال ابن عيينة: ثنا عمارة بن القعقاع بن شُبْرُمة وعبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وكانوا يقولون: هما أفضل من عمهما. وقال ابن معين: ثقة. وقال في رواية: كان يَتَشَيَّع. وقال أبو الحسن بن الْبَرّاء عن ابن المديني: هو عندي منكر الحديث. وقال ابن خِرَاش: هو أوثق ولد أبي ليلى. وقال النسائي: ثقة ثبت. وذكره ابن حبان في "الثقات". وذكر أبو إسحاق الحربي في "العلل" أنه لم يسمع من جَدِّه، قال الحافظ: وهو قول مردود، أوردته لأُنَبِّه عليه، فحديثه عن جده في "الصحيح"، وقال العجلي: ثقة. وقال الحاكم: هو من أوثق آل أبي ليلى. قال جعفر الطيالسي عن ابن معين: مات سنة خمس وثلاثين ومائة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط برقم (90) و (533) و (2079) و (2332) و (3506) و (4022). 2 - (عَبْدُ الله بْنُ أَبِي الجعْدِ) الأشجعيّ الْغَطَفَانيّ، مقبول [4]. روى عن ثوبان، وجُعَيل الأشجعي، وعنه ابن أخيه رافع بن سلمة بن زياد بن أبي الجعد، وقيل: عن رافع بن سلمة، عن أبيه عنه، وعبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن القطان: إنه مجهول الحال. تفرّد به النسائيّ، والمصنّف، وله عند النسائيّ حديثان، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث، وهو أحد الحديثين عند النسائيّ، وأعاده المصنّف في "كتاب الفتن" برقم (4022). 3 - (ثَوْبَانُ) بن بُجْدُد الهاشميّ مولى النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، صَحِبه، ولازمه، ونزل بعده الشام، ومات بحمص سنة (54)، وتقدّمت ترجمته في 1/ 11. والباقون تقدّموا قريبًا، وسفيان هو الثوريّ، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ ثَوْبَانَ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَزِيدُ في الْعُمْرِ إِلا الْبِرُّ) إما لأن البارّ ينتفَعُ بعمره، وإن قلّ أكثر مما ينتفع به غيره وإن كثُر، وإما لأنه يزاد له في العمر حقيقة، بمعنى أن لو لم يكن بارّا لقصر عمره عن القدر الذي كان له إذا برّ، لا بمعنى أنه يكون أطول عمرًا من غير البارّ، ثم التفاوت إنما يظهر في التقدير المعلّق، لا فيما يعلم الله تعالى أن الأمر يصير إليه، فإن ذلك لا يَقبل التغيير، وإليه يشير قوله عز وجل: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]، ومثله قوله (وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ) قال في "شرح السنة": ذكر أبو حاتم السجستانيّ في معنى الحديث: إن دوام المرء على الدعاء يطيب له ورود القضاء، فكأنما ردّه، والبرّ يطيب عيشه، فكأنما يزيد في عمره، والذنب يكدّر عليه صفاء رزقه إذا فكّر في عاقبة

أمره، فكأنما حَرَمه. انتهى (¬1). وقال التوربشتيّ رحمه الله: يحتمل أن يكون المراد من القدر الأمر الذي كان يُقدّر لولا دعاؤه، ومن العمر العمر الذي كان يقصر لولا برّه، فيكون الدعاء والبرّ سببًا من أسباب ذلك، وهما مقدّران أيضًا، كما أن الأعمال حسنها وسيّئها سببان من أسباب السعادة والشقاوة، ولا شكّ أنهما مقدّران أيضًا. انتهى (¬2). (وَإِنَّ الرجُلَ ليُحْرَمُ الرِّزْقَ) ببناء الفعل للمفعول، ونائب فاعله ضمير يعود إلى الرجل، و"الرزق" مفعوله الثاني (بِخَطِيئَةٍ) أي بسبب ذنبه (يَعْمَلُهَا) جملة في محلّ جرّ صفة لـ "خطيئة". قال الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" بعد هذا الحديث: ما نصّه: قوله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الخبر لم يُرد به عمومه، وذاك أن الذنب لا يحرم الرزق الذي رُزق العبدُ، بل يُكدّر صفاءه إذا فكّر في تعقيب الحالة له، ودوام المرء على الدعاء يطيب له ورود القضاء، فكأنه ردّه لقلّة حِسّه بألمه، والبرّ يطيب العيش حتى كأنه يُزاد في عمره بطيب عيشه، وقلة تعذّر ذلك في الأحوال. انتهى (¬3). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كلام ابن حبّان رحمه الله هذا ظاهر في كونه لا يرى الزيادة على ظاهرها، وسيأتي أن الأرجح حمله على ظاهره، للأدلة الأخرى الكثيرة، والله تعالى أعلم. قال المظهر رحمه الله: هذا يؤوّل على تأويلين: [أحدهما]: أن يراد بالرزق الثواب في الآخرة. [وثانيهما]: أن يراد به الرزق الدنيويّ من المال، والصحّة، والعافية، وعلى هذا إشكالٌ، فإنا نرى الكفّار والفسّاق أكثر مالًا وصحّةً من الصلحاء. ¬

_ (¬1) راجع "الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3164. (¬2) المصدر السابق. (¬3) راجع "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان" 3/ 154 بتحقيق شعيب الأرنؤوط.

[والجواب]: أن الحديث مخصوص بمسلم يريد الله تعالى أن يرفع درجته في الآخرة، فيُعذّبه بسبب ذنبه، فيُصَفّيه من الذنوب في الدنيا. قال الطيبيّ: أقول: ويدلّ على الاختصاص تقييد هذه القرينة بالرجل دون القرينتين السابقتين، فالتعريف فيه إما للجنس، فيكون المعنى: الرجل الكامل الحازم هو الذي يتفكّر في عاقبة أمره، فإذا أذنب تكدّر عليه صفاء رزقه، كما قاله السجستاتيّ. أو للعهد، فيراد منه بعض الجنس من المسلمين على ما عليه كلام المظهر. انتهى كلام الطيبي (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الثاني هو الظاهر، والأول لا يخفى تكلّفه، فافهم، والله تعالى أعلم. وذكر في "الفتح" عند شرح حديث: "من أحبّ أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره، فليصل رحمه": ما نصّه: قال ابن التين: ظاهر الحديث يعارض قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]، والجمع بينهما من وجهين: [أحدهما]: أن هذه الزيادة كناية عن البركة في العمر، بسبب التوفيق إلى الطاعة، وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة، وصيانته عن تضييعه ذلك، ومثل هذا ما جاء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم، فأعطاه الله ليلة القدر. وحاصله أن صلة الرحم تكون سببًا للتوفيق للطاعة، والصيانة عن المعصية، فيبقى بعدَهُ الذكر الجميل، فكأنه لم يمت. ومن جملة ما يحصل له من التوفيق العلمُ الذي يَنتفع به مَنْ بَعْدَه، والصدقة الجارية عليه، والخلف الصالح. [ثانيهما]: أن الزيادة على حقيقتها، وذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر، وأما الأول الذي دلت عليه الآية فبالنسبة إلى علم الله تعالى، كأن يُقال للملك مثلًا: إن ¬

_ (¬1) "الكاشف" 10/ 3165.

عمر فلان مائة مثلًا إن وصل رحمه، وستون إن قطعها، وقد سبق في علم الله أنه يَصِلُ، أو يقطع فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر، والذي في علم الملك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] فالمحو بوالإثبات النسبة لما في علم الملك، وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله تعالى، فلا محو فيه البتة، ويقال له: القضاء المبرم، ويقال للأول: القضاء المعَلَّق، والوجه الأول أليق بلفظ حديث الباب، -يعني حديث البخاري- فإن الأثر ما يتبع الشيء، فإذا أُخِّر حَسُن أن يحمل على الذكر الحسن بعد فقد المذكور. وقال الطيبي: الوجه الأول أظهر، وإليه يشير كلام صاحب "الفائق"، قال: ويجوز أن يكون المعنى: أن الله يُبْقِي أثر واصل الرحم في الدنيا طويلًا، فلا يَضْمَحِلّ سريعًا كما يضمحل أثر قاطع الرحم، ولما أنشد أبو تَمّام قوله في بعض المراثي: تُوُفِّيَتِ الآمَالُ بَعْدَ مُحَمَّدٍ ... وَأَصْبَحَ في شُغْلٍ عَنِ السَّفَرِ السَّفْرُ قال له أبو دُلَف: لم يمت من قيل فيه هذا الشعر. ومن هذه المادة قول الخليل عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ في الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84]. وقد ورد في تفسيره وجه ثالث، فأخرج الطبراني في "الصغير" بسند ضعيف، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: ذكر عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مَنْ وَصَلَ رحمه أُنسىء له في أجله، فقال: "إنه ليس زيادة في عمره، قال الله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} الآية [النحل: 61]، ولكن الرجل تكون له الذرية الصالحة، يدعون له من بعده، وله في "الكبير" من حديث أبي مشجعة الجهني رفعه: "إن الله لا يؤخر نفسًا إذا جاء أجلها، وإنما زيادة العمر ذرية صالحة ... " الحديث. وجزم ابن فورك بأن المراد بزيادة العمر نفي الآفات عن صاحب البر، في فهمه وعقله. وقال غيره: في أعم من ذلك، وفي وجود البركة في رزقه وعلمه، ونحو ذلك. انتهى ما في "الفتح" (¬1). ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 10/ 510 - 511. "كتاب الأدب" رقم الحديث (5985 - 5986).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الاحتمال الثاني هو الحقّ. والحاصل أن الأرجح في هذه المسألة حمل النصوص الواردة في زيادة العمر، والرزق على ظاهرها، ولا تنافي بينها وبين آية {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُم}؛ لأنها واضحة في أن عدم التأخير بعد مجيء الأجل، وأن النصوص المفيدة للتأخير محمولة على ما قبل مجيىء الأجل، وقد حقّق العلامة الشوكانيّ رحمه الله المسألة في رسالة أفردها لها، سمّاها "تنبيه الأفاضل على ما ورد في زيادة العمر ونقصانه من الدلائل"، فساق أدلّة الفريقين، ثم رجّح القول بالزيادة وحقّقه أتم تحقيق، وقد نقلت تلك الرسالة في شرح النسائيّ مع ترجيح ما ظهر لي وجهه، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث ثوبان -رضي الله عنه- هذا حسن، كما قاله الحافظ العراقيّ رحمه الله (¬1). [فإن قلت]: كيف يكون حسنًا، وفيه إسناده عبد الله بن أبي الجعد، وقد تقدّم أن ابن القطّان قال: إنه مجهول الحال؟. [قلت]: عبد الله بن أبي الجعد روى عنه اثنان، فزالت جهالة عينه، ووثقه ابن حبّان, ولحديثه هذا شاهد, من حديث سلمان -رضي الله عنه- أخرجه الترمذي في "جامعه" (2139) بلفظ: "لا يرد القضاء إلا الدعاء, ولا يزيد في العمر إلا البر", قال الترمذي: حديث حسن غريب. وأخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" (3068) والشهاب القضاعيّ (833) و (833) , وفي إسناده أبو مودود البصريّ, وهو وإن ضعفه أبو حاتم -كما في "الجرح ¬

_ (¬1) فقد ذكره البوصيريّ في "الزوائد" أنه قال: سألت شيخنا أبو الفضل العراقي عن هذا الحديث, فقال: هذا حديث حسن. انتهى.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مَشَارِقُ الْأَنْوَارِ الوهَّاجَة وَمَطَالع الْأَسْرَار البهَّاجَة فِي شَرح سُنَن الإِمَام ابْن مَاجَه

حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة الطَّبعة الأولى 1427 هـ - 2006 م (ح) دَار الْمُغنِي للنشر والتوزيع، 1426 هـ فهرسة مكتبة الْملك فَهد الوطنية أثْنَاء النشر الأثيوبي، مُحَمَّد عَليّ آدم مَشَارِق الْأَنْوَار الوهاجة ومطالع الْأَسْرَار البهاجة فِي شرح سنَن الإِمَام ابْن مَاجَه ... / مُحَمَّد عَليّ آدم الأثيوبي. - الرياض، 1426 هـ 4 مج. 524 ص، 17.5 × 25 سم ردمك: 8 - 54 - 762 - 9960 (مَجْمُوعَة) 2 - 57 - 762 - 9660 (جـ 3) 1 - الحَدِيث - سنَن أ. العنوان ديوي 235.6 - 7404/ 1426 رقم الْإِيدَاع: 7404/ 1426 ردمك: 8 - 54 - 762 - 9960 (مَجْمُوعَة) 2 - 57 - 762 - 9660 (جـ 3) دَار الْمُغنِي للنشر والتوزيع 238 شَارِع الْمَدِينَة المنورة - ظهرة البديعة ص. ب: 154041 الرياض: 11748 هَاتِف ناسوخ: 0096614257019

11 - باب فضائل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

11 - (باب فضائل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وجه مناسبة هذا الباب للباب السابق، أنه لما كان منكرو القدر من أخسّ الناس حيث شبههم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بالمجوس، كان من أثبته، وآمن به من أشرف الناس، وعلى رأسهم صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فناسب ذكر فضائلهم بعد باب القدر، والله تعالى أعلم بالصواب. مسائل تتعلّق بهذه الترجمة: (المسألة الأولى): في بيان معنى الفضائل، واشتقاقها: (اعلم): أن "الفضائل": جمع فضيلة، وهي خلاف النقيصة، كالفضل خلاف النقص. قاله في "المصباح" (¬1). وقال في "القاموس": الفضيلة: الدرجة الرفيعة في الفضل (¬2). وفي "كلّيّات" أبي البقاء العكبريّ: الفضائل: هي المزايا غير المتعدّية -أي كالعبادة-، والفواضل هي المزايا المتعدّية (¬3) -أي كالكرم-، والأيادي الجسيمة، أو الجميلة، والمراد بالتعدية التعلّق كالإنعام: أي إعطاء النعمة، وإيصالها إلى الغير، لا الانتقال. انتهى (¬4). وقال الراغب الأصفهانيّ في "مفراداته": الفضل: الزيادة عن الاقتصاد، وذلك ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" 2/ 476. (¬2) القاموس" ص 939. (¬3) ذكر الخضريّ في "حاشيته على شرح السمرقنديّة" في الاستعارة: ما نصّه: الفواضل جمع فاضلة، وهي الصفة التي لا تتحقّق إلا بتعدّي أثرها للغير، كالكرم، والفضائل جمع فضيلة، وهي التي تتحقّق وإن لم يتعدّ أثرها للغير، كالعلم والعبادة، وهذا مجرّد اصطلاح، وإلا ففضيلة فَعيلة بمعنى فاضلة، وكلّ من الاسمين من الفضل، وهو الزيادة، فكل صفة تستحقّ لغة أنَّ تسمّى فضيلة وفاضلة؛ لأنها زائدة على محلّها الذي قامت به. انتهى. (¬4) "الكلّيّات" ص 684.

ضربان: محمود، كفضل العلم والحلم، ومذموم، كفضل الغضب على ما يجب أن يكون عليه، والفضائل في المحمود أكثر استعمالا، والفُضُول في المذموم. والفضل إذا استُعمل لزيادة أحد الشيئين على الآخر فعلى ثلاثة أضرُب: فضل من حيث الجنس، كفضل جنس الحيوان على جنس النبات. وفضل من حيثُ النوعُ، كفضل الإنسان على غيره من الحيوان، وعلى هذا النحو قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] إلى قوله: {تفصيلًا} وفضل من حيث الذاتُ، كفضل رجل على رجل آخر، فالأولان جوهريان، لا سبيل للناقص فيهما أن يُزيل نقصه، وأن يستفيد الفضل، كالفرس والحمار لا يمكنهما أن يكتسبا الفضيلة التي خُصّ بها الإنسان، والفضل الثالث قد يكون عَرَضيّا، فيوجد السبيل على اكتسابه، ومن هذا النوع التفضيل المذكور في قوله عز وجل: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ في الرِّزْقِ} [النحل: 71] وقوله: {لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [الإسراء: 12]، يعني المال وما يُكتسب. انتهى كلام الراغب باختصار (¬1). وقال أبو العبّاس القرطبيّ: "الفضائل" جمع فَضِيلة، كرغائب جمع رَغِيبة، وكبائر جمع كبيرة، وهو كثير، وأصلها الخَصْلة التي بها يَحْصُل للإنسان شَرَفٌ وعُلُوُّ مَنْزِلة وقدر، ثم ذلك الشرف، وذلك الفضل إما عند الْخَلْق، وإما عند الخالق، فأما الأول، فلا يُلتفت إليه إن لم يُوصل إلى الشرف المعتبر عند الخالق، فإذًا الشرف المعتبر، والفضل المطلوب على التحقيق إنما هو الشرف الذي عند الله تعالى انتهى (¬2)، وهو تحقيق نفيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الثانية): في تعريف الصحابيّ: أصحّ ما قيل: في تعريفه -كما في "الإصابة"-: أنه من لقِي النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مؤمنًا به، ¬

_ (¬1) "مفردات ألفاظ القرآن" ص 639. (¬2) "المفهم" 6/ 237.

ومات على الإسلام، فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته له، أو قصرت، ومن روى عنه، أو لم يرو، ومن غزا معه، أو لم يغز، ومن رآه رؤيةً، ولو لم يجالسه، ومن لم يره لعارضٍ، كالعمى. وخرج بقيد "الإيمان" من لقيه كافرًا، ولو أسلم بعد ذلك، إذا لم يجتمع به مرّةً أخرى. وخرج بقيد "به" من لقيه مؤمنًا بغيره، كمن لقيه من مؤمني أهل الكتاب قبل البعثة، وهل يدخل من لقيه منهم، وآمن بأنه سيُبعث، أو لا يدخل؟ محلّ احتمال، ومن هؤلاء بَحِيرا الراهب، ونظراؤه. ويدخل في قوله: "مؤمنًا به" كلّ مكلّف من الجنّ والإنس، فحينئذ يتعيّن ذكر من حُفِظَ ذكرُه من الجنّ الذين آمنوا به بالشرط المذكور. وأما إنكار ابن الأثير على أبي موسى تخريجه لبعض الجنّ الذين عُرفوا في "كتاب الصحابة"، فليس بمنكر؛ لما ذُكر آنفًا. وقد قال ابن حزم في "كتاب الأقضية" من "المُحَلَّى": من ادّعى الإجماع فقد كذب على الأمّة، فإن الله تعالى قد أعلمنا أن نفرًا من الجنّ آمنوا، وسمعوا القرآن من النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فهم صحابة فضلاء، فمن أين للمدّعي إجماع أولئك؟. قال الحافظ رحمه الله: وهذا الذي ذكره في مسألة الإجماع لا نوافقه عليه؛ وإنما أردت نقل كلامه في كونهم صحابةً. انتهى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "لا نوافقه عليه" محلّ نظر، وما المانع من الموافقة، مع كون الظاهر معه؟ فليُتأمّل. والله تعالى أعلم. وهل تدخل الملائكة؟ محلّ نظر؟ فقد قال بعضهم: إن ذلك ينبني على أنه هل كان -صلى الله عليه وسلم- مبعوثًا إليهم أم لا؟، وقد نقل الإمام فخر الدين في "أسرار التَّنْزيل" الإجماع على أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن مُرسلًا إلى الملائكة، ونوزع في هذا النقل، بل رجّح الشيخ تقيّ الدين السبكيّ أنه كان مُرسلًا إليهم، واحتجّ بأشياء يطول شرحها.

قال الحافظ: وفي صحّة بناء هذه المسألة على هذا الأصل نظرٌ لا يخفى. وخرج بقوله: "ومات على الإسلام" من لقيه مؤمنًا به، ثم ارتدّ، ومات على ردّته -والعياذ بالله- وقد وُجد من ذلك عدد يسير، كعُبيد الله بن جَحْش الذي كان زوج أم حبيبة، فإنه أسلم معها، وهاجر إلى الحبشة، فتنصّر هناك، ومات على نصرانيّته. وكعبد الله بن خَطَل الذي قُتل، وهو متعلّق بأستار الكعبة. وكربيعة بن أميّة بن خلف. ويدخل فيه من ارتدّ، وعاد إلى الإسلام قبل أن يموت، سواء اجتمع به -صلى الله عليه وسلم- مرّةً أُخرى أم لا، وهذا هو الصحيح المعتمد. والشقّ الأول لا خلاف في دخوله، وأبدى بعضهم في الشقّ الثاني احتمالًا، وهو مردود؛ لإطباق أهل الحديث على عدّ الأشعث بن قيس في الصحابة، وعلى تخريج أحاديثه في الصحاح والمسانيد، وهو ممن ارتدّ، ثم عاد إلى الإسلام في خلافة أبي بكر رضي الله عنهما. وهذا التعريف مبنيّ على الأصحّ المختار عند المحقّقين، كالبخاريّ، وشيخه أحمد ابن حنبل، ومن تبعهما، ووراء ذلك أقوال أخرى شاذّةٌ، كقول من قال: لا يُعَدّ صحابيّا إلا من وُصف بأحد أوصاف أربعة: من طالت مجالسته، أو حُفظت روايته، أو ضُبط أنه غزا معه، أو استُشهد بين يديه. وكذا من اشترط في صحة الصحبة بلوغ الحلُم، أو المجالسة ولو قصرت. وأطلق جماعة أن من رأى النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فهو صحابيّ، وهو محمول على من بلغ سنّ التمييز؛ إذ من لم يميّز لا تصحّ نسبة الرؤية إليه، نعم يصدُق أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- رآه، فيكون صحابيّا من هذه الحيثيّة، وأما من حيث الرواية فيكون تابعيّا. وهل يدخل من رآه ميتًا قبل أن يُدفن كما وقع ذلك لأبي ذُؤيب الْهُذَليّ الشاعر؟ إن صحّ محلّ نظر، والراجح عدم الدخول. ومما جاء عن الأئمة من الأقوال المجملة في الصفة التي يُعرف بها كون الرجل صحابيّا، وإن لم يَرِد التنصيص على ذلك ما أورده ابن أبي شيبة في "مصنّفه" من طريق

لا بأس به، أنهم كانوا في الفتوح لا يؤمّرون إلا الصحابة. وقول ابن عبد البرّ: لم يَبْقَ بمكة، ولا بالطائف أحد في سنة عشر إلا أسلم، وشهد مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع. ومثل ذلك قول بعضهم في الأوس والخزرج: إنه لم يبق منهم في آخر عهد النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إلا من دخل في الإسلام، وما مات النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأحد منهم يُظهر الكفر (¬1). وإلى ما تقدّم أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفية الحديث" بقوله: حَدُّ الصّحَابِي مُطْلَقًا لاَقِي الرَّسُولْ ... وَإِنْ بِلاَ رِوَايَةٍ عَنْهُ وَطُولْ كَذَاكَ الاتْبَاعُ مَعَ الصَّحَابَةِ ... وَقِيلَ مَعْ طُولٍ وَمَعْ رِوَايَةِ وَقِيلَ مَعْ طُولِ وَقِيلَ الْغَزْوِ أَوْ ... عَام وَقِيلَ مُدْرِكُ الْعَصْرِ وَلَوْ (¬2) وَشَرْطُهُ الموْتُ عَلَى الدِّينِ وَلَوْ ... تخَلَّلَ الرِّدَّةُ وَالجنُّ رَأَوْا دُخُولهُمْ دُونَ مَلاَئِكٍ وَمَا ... نَشْرِط بُلُوغًا في الأَصَحِّ فِيهِما والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الثالثة): في ذكر ما يُعرف به كون الشخص صحابيّا: (اعلم): أن ذلك يثبُت بأشياء: [أولها]: أن يتواتر أنه صحابيّ. [والثاني]: الاستفاضة والشهرة. [والثالث]: أن يُروى عن آحاد الصحابة أن فلانًا له صحبة مثلًا، وكذا عن آحاد التابعين، بناءً على قبول التزكية من واحد، وهو الراجح. [والرابع]: أن يقول هو: أنا صحابيّ بشرط ثبوت عدالته، ومعاصرته. أما الشرط الأول -وهو العدالة- فجزم به الآمديّ وغيره؛ لأن قوله قبل أن تثبت عدالته: أنا صحابيّ، أو ما يقوم مقام ذلك يلزم من قبول قوله إثبات عدالته؛ لأن ¬

_ (¬1) راجع "الإصابة" 1/ 158 - 160. (¬2) حذف مدخول "لو": أي ولو لم يلق.

الصحابة كلهم عدول، فيصير بمنزلة قول القائل: أنا عدلٌ، وذلك لا يُقبل. وأما الشرط الثاني -وهو المعاصرة- فيُعتبر بمضيّ مائة وعشر سنين من هجرة النبيّ -صلى الله عليه وسلم-؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- في آخر عمره لأصحابه: "أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى على وجه الأرض ممن هو اليوم عليها أحد". متّفقٌ عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وزاد مسلم من حديث جابر -رضي الله عنه- أن ذلك كان قبل موته -صلى الله عليه وسلم- بشهر، ولفظه: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول قبل أن يموت بشهر: "أُقسم بالله، ما على الأرض من نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مائة سنة، وهي حيّة يومئذ". ولهذه النكتة لم يُصدّق أحدٌ من الأئمة أحدًا ادّعى الصحبة بعد الغاية المذكورة، وقد ادّعاها جماعة، فكُذِّبوا، وكان آخرهم رَتَن الهنديّ؛ لظهور كذبهم في دعواهم على ما ذُكر. ثم من لم يُعرَف حاله إلا من جهة نفسه، فمقتضى كلام الآمديّ الذي سبق ومن تبعه ألا تثبُت صحبته، ونقل أبو الحسن بن القطّان فيه الخلاف، ورجّح عدم الثبوت. وأما ابن عبد البر فجزم بالقبول؛ بناءً على أن الظاهر سلامته من الجرح، وقوّى ذلك بتصرّف أئمة الحديث في تخريجهم أحاديث هذا الضرب في مسانيدهم، ولا ريب في انحطاط رتبة من هذا سبيله عمن مضى. ومن صور هذا الضرب أن يقول التابعيّ: أخبرني فلان مثلًا أنه سمع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يقول، سواء أسماه أم لا. أما إذا قال: أخبرني رجل مثلًا عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بكذا فثبوت الصحبة بذلك بعيد؛ لاحتمال الإرسال، ويحتمل التفرقة بين أن يكون القائل من كبار التابعين، فيُرَجّح القبول، أو صغارهم فيرجّح الردّ، ومع ذلك فلم يَتَوقّف من صنّف في الصحابة في إخراج من هذا سبيله في كتبهم. والله تعالى أعلم. ضابط يُستفاد من معرفته صحبة جمع كثير يُكتفى فيهم بوصف يتضمّن أنهم صحابة، وهو مأخوذ من ثلاثة آثار: [الأول]: أخرج ابن أبي شيبة قال: كانوا لا يؤمّرون في المغازي إلا الصحابة،

فمن تتبّع الأخبار الواردة في الردّة والفتوح وَجَد من ذلك شيئًا كثيرًا، وهم من القسم الأول. [الثاني]: أخرج الحاكم من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: كان لا يولد لأحد مولود إلا أتى به النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فدعا له، وهذا يؤخذ منه شيء كثيرٌ أيضًا، وهم من القسم الثاني. [الثالث]: أخرج ابن عبد البرّ قال: لم يبق بمكة والطائف أحدٌ في سنة عشر إلا أسلم، وشهد حجة الوداع، هذا وهم في نفس الأمر عددٌ لا يُحصون، لكن يُعرف الواحد منهم بوجود ما يقتضي أنه كان في ذلك الوقت موجودًا، فيلحق بالقسم الأول أو الثاني؛ لحصول رؤيتهم للنبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وإن لم يرهم هو. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الرابعة): في ذكر عدالة الصحابة -رضي الله عنهم-: (اعلم): أنه اتّفق أهل السنّة على أن جميع الصحابة -رضي الله عنهم- عُدولٌ، ولم يُخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة. وقد ذكر الخطيب في "الكفاية" فصلًا نفيسًا في ذلك، فقال: عدالة الصحابة -رضي الله عنهم- ثابتة معلومة بتعديل الله سبحانه وتعالى لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم، فمن ذلك قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، وقوله عز وجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 18]، وقوله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]، وقوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64]، وقوله عز وجل: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} إلى قوله: {إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمُ} [الحشر: 8 - 10]، في آيات كثيرة يطول ذكرها، وأحاديث شهيرة يكثر تعدادها، وجميع

ذلك يقتضي القطع بتعديلهم، ولا يَحتاج أحدٌ منهم مع تعديل الله له إلى تعديل أحد من الخلق، على أنه لو لم يَرِد من الله سبحانه وتعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد، ونصرة الإسلام، وبذل المُهَج والأموال، وقتل الآباء والأبناء، والنصيحة في الدين، وقوّة الإيمان واليقين القطعَ على تعديلهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأفضل من جميع الخالفين بعدهم، والمعدلين الذين يجيئون من بعدهم. هذا مذهب كافّة العلماء، ومن يُعتَمَد قوله. ثم روى بسنده إلى أبي زرعة الرازيّ، قال: إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاعلم أنه زِندِيق، وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حقّ، والقرآن حقّ، وما جاء به حقّ، وإنما أدّى إلينا ذلك كلَّه الصحابة، وهؤلاء يريدون أن يَجرحوا شهودنا؛ ليُبطلوا الكتاب والسنّة، والجرح بهم أولى، وهو زنادقة. انتهى. والأحاديث الواردة في تفضيل الصحابة كثيرة، من أدلّها على المقصود ما رواه الترمذيّ، وابن حبّان في "صحيحه" من حديث عبد الله بن مغفّل -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهَ اللهَ في أصحابي، لا تتّخذوهم غَرَضًا، فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه" (¬1). وقال أبو محمد بن حزم: الصحابة كلّهم من أهل الجنّة قطعًا؛ قال الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]، فثبت أن الجميع ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" 5/ 653 رقم (3862) وأحمد في "مسنده" 5/ 54 و57 وابن حبان في "صحيحه" رقم (2284).

من أهل الجنة، وأنه لا يدخل أحدٌ منهم النار؛ لأنهم المخاطبون بالآية السابقة. [فإن قيل]: التقييد بالإنفاق والقتال يُخرج من لم يتّصف بذلك، وكذلك التقييد بالإحسان في الآية السابقة، وهي قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} الآية [التوبة: 100] يخرج من لم يتّصف بذلك، وهي من أصرح ما ورد في المقصود، ولهذا قال المازريّ في "شرح البرهان": لسنا نعني بقولنا: الصحابة عدول كلَّ من رآه - صلى الله عليه وسلم - يومًا ما، أو زاره لامًا، أو اجتمع به لغرض وانصرف عن كَثَب، وإنما نعني به الذين لازموه وعزّروه ونصروه، واتبعوا النور الذي أُنزل معه أولئك هم المفلحون، انتهى. [والجواب عن ذلك] أن التقييدات المذكورة خرجت مخرج الغالب، وإلا فالمراد من اتّصف بالإنفاق والقتال بالفعل أو القوّة، وأما كلام المازريّ فلم يُوافَق عليه، بل اعترضه جماعة من الفضلاء. وقال الشيخ صلاح الدين العلائيّ: هو قول غريب، يُخرج كثيرًا من المشهورين بالصحبة والرواية عن الحكم بالعدالة، كوائل بن حُجْر، ومالك ابن الحويرث، وعثمان بن أبي العاص، وغيرهم، ممن وفد عليه -صلى الله عليه وسلم-، ولم يُقم عنده إلا قليلًا وانصرف، وكذلك من لم يُعرف إلا برواية الحديث الواحد، ولم يُعرف مقدار إقامته من أعراب القبائل، والقول بالتعميم هو الذي صرّح به الجمهور، وهو المعتبر. والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد كان تعظيم الصحابة -رضي الله عنهم- ولو كان اجتماعهم به -صلى الله عليه وسلم- قليلًا مقرّرًا عند الخلفاء الراشدين وغيرهم، فمن ذلك ما أخرجه الحافظ في مقدمة "الإصابة" بسند رجاله ثقات، من طريق زهير بن معاوية، عن الأسود بن قيس، عن نُبيح الْعَنَزيّ، قال: كنا عند أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه-، وهو متكىء، فذكرنا عليّا ومعاوية، فتناول رجل معاوية، فاستوى أبو سعيد الخدريّ جالسًا، ثم قال: كنا ننزل رِفاقًا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكنا في رفقة فيها أبو بكر، فنزلنا على أهل أبيات، وفيهم امرأة حُبلى، ومعنا رجل من أهل البادية، فقال للمرأة الحامل: أيسرّك أن تلدي غلامًا؟ قالت: نعم، قال: إن أعيطتني

شاةً ولدت غلامًا، فأعطته، فسجع لها أسجاعًا، ثم عمد إلى الشاة، فذبحها، وطبخها، وجلسنا نأكل منها، ومعنا أبو بكر، فلما علِم بالقصّة قام، فتقيّأ كل شيء أكل، قال: ثم رأيت ذلك البدويّ أُتي به عمر بن الخطاب، وقد هجا الأنصار، فقال لهم عمر: لولا أن له صحبةً من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أدري ما نال منها لكفيتموه، ولكن له صحبة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال: وقد توقّف عمر -رضي الله عنه- عن معاتبته فضلًا عن معاقبته؛ لكونه علِمَ أنه لقي النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. وفي ذلك أبين شاهد على أنهم كانوا يعتقدون أن شأن الصحابة -رضي الله عنهم- لا يعدله شيء، كما ثبت في "الصحيحين" عن أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه- من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه". وقد تواتر عنه -صلى الله عليه وسلم- قوله: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم ... " الحديث. وقال بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "أنتم توفون سبعين أمّة، أنتم خيرها، وأكرمها على الله" عز وجل (¬1). وروى البزّار في "مسنده" بسند رجاله موثّقون من حديث سعيد بن المسيّب، عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله اختار أصحابي على الثقلين، سوى النبيين والمرسلين". وقال عبد الله بن هاشم الطوسيّ: حدّثنا وكيع، قال: سمعت سفيان يقول في قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] قال: هم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-. والأخبار في هذا كثيرة جدّا، فلنتقصر على هذا القدر، ففيه مَقْنَع لمن وُفّق للهداية، وأما أهل الضلال والغواية لا يستفيدون من التطويل، ولو تُليت ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" 4/ 447 و 5/ 3 والحاكم في "المستدرك" 1/ 4 / 84 وقال: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبيّ.

عليهم التوارة والإنجيل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الخامسة): في ذكر المكثرين من الفتوى من الصحابة -رضي الله عنهم-: (اعلم): أن أكثرهم فتوى سبعة: عمر، وعليّ، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عبّاس، وزيد بن ثابت، وعائشة -رضي الله عنهم-. قال ابن حزم رحمه الله: يمكن أن يُجمع من فُتيا كل واحد من هؤلاء مجلّد ضخم. ثم ذكر المتوسّطين فيما رُوي عنهم من الفتيا -رضي الله عنهم-، وهم: أبو بكر، وعثمان، وأبو موسى، ومعاذ، وسعد بن أبي وقّاص، وأبو هريرة، وأنس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وسلمان، وجابر، وأبو سعيد، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وعمران بن حُصَين، وأبو بكرة، وعبادة بن الصامت، ومعاوية، وابن الزبير، وأم سلمة، قال: ويُمكن أن يُجمَع من فُتيا كل واحد منهم جزء صغير. قال: والباقون منهم -رضي الله عنهم- مُقلّون في الفتيا جدًّا، لا يُروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان والزيادة اليسيرة على ذلك فقط، يُمكن أن يُجمع من فتيا جميعهم جزء صغير بعد التقصّي والبحث، ثم سردهم، وهم أكثر من مائة وعشرين (¬1). وقد ذكر المكثرين السيوطيّ رحمه الله في "ألفية الحديث" بقوله: وَالْبَحْرُ أَوْفَاهُمْ فَتَاوَى وَعُمَرْ ... وَنَجْلُهُ وَزَوْجَةُ الهادِي الأبرْ ثُمَّ ابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدٌ وَعَلي ... وَبَعْدَهُمْ عِشْرُونَ لاَ تُقَلِّل وَبَعْدَهُمْ مَنْ قَلَّ فِيهَا جِدَّا ... عِشْرُونَ بَعْدَ مِائَةٍ قَدْ عُدَّا قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد ألحقت بهذه الأبيات نظم العشرين الذين ذكرهم ابن حزم، فقلت: صِدَيقهُمْ عَثمانُ سَعْدٌ أَنسُ ... سَلمانُ جَابِرٌ مُعَاذُ الأَكْيَسُ (¬2) ¬

_ (¬1) راجع كلامه في كتابه "إحكام الأحكام" جـ 2/ 89 - 90. (¬2) "الأكيس" معناه: الفطن، وهو صفة لمعاذ، وترك تنوين معاذ للوزن.

وَالأَشْعَرِيُّ وَالزُّبَيْرُ طَلْحَةُ ... أَبُو هُرَيْرَةَ يَلي عُبَادَةُ وَنَجْلُ عَمْرٍو وَابْنُ عَوْفٍ وَكَذَا ... نَجْلُ حُصَيْنٍ وَنُفَيْعٌ حَبَّذَا سَعْدٌ مُعَاوِيَةُ أُمُّ سَلَمَهْ ... وَابْنُ الزُّبَيْرِ هُمْ حَلِيفُوا المكْرَمَهْ فَهَؤُلاَءِ مَرْجِعُ الأنامِ ... في عَصْرِهِمْ لمُعْضِلِ الأَحْكَام والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة السادسة): في ذكر الصحابة الذين حفظوا القرآن الكريم: (اعلم): أن الذين حفظوا القرآن كله نيّف وثلاثون شخصًا: فمنهم: الخلفاء الراشدون الأربعة، والعبادة الأربعة، وطلحة، وسعد، وابن مسعود، وحذيفة، وسالم، وأبو هريرة، وعبد الله بن السائب، وعائشة، وحفصة، وأم سلمة، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وسعيد بن عبيد، وأبو زيد الأنصاريّ قيس بن السكن، وسعيد بن المنذر، وقيس بن أبي صعصعة، ومُجَمِّع بن جارية، وعبادة بن الصامت، وتميم الداريّ، وعقبة بن عامر، وسَلَمة بن مُخَلَّد، وأبو موسى الأشعريّ، وأم ورقة بنت عبد الله بن الحارث (¬1)، وغيرهم. وقد نظمت هؤلاء، فقلت: قَدْ حَفِظَ الْقُرْآنَ كُلًّا عِدَّهْ ... فَوْقَ الثَّلاَثِينَ فَنِعْمَ الْعُدَّهْ الخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ طَلْحَةُ ... وَنَجْلُ مَسْعُودٍ سَعْدٌ حُذَيْفَةُ أبو هُرَيْرَةَ وَزَيْدٌ حَفْصةُ ... وَنَجْلُ سَائِبٍ كَذَا عَائِشَةُ عُوَيْمِرٌ قَيْسٌ وَأُمُّ سلَمَهْ ... قَيْسٌ مُعَاذٌ وَسَعِيدٌ سَلَمَهْ وَسَاَلمٌ والأَشْعَرِي عُبَادَةُ ... مُجَمِّعٌ مَعَ سَعِيدٍ عُقْبَةُ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ وَالْعَبَادِلَهْ ... كذَا أُبَيٌّ ذُو المزَايَا الْفَاضِلَهْ ¬

_ (¬1) ذكر السيوطيّ رحمه الله أنه ظفر بامرأة من الصحابيات، جمعت القرآن لم يَعُدّها أحد ممن تكلم في ذلك، وهي أم ورقة هذه، قال: وكانت تسمى الشهيدة، وقصّتها مشهورة. انتهى.

شَهِيدَةُ الدَّارِ لَدَى مَنْ حَقَّقَهْ ... أَيْضًا لهَا ذَا الْفَضْلُ أُمُّ وَرَقَهْ فَهُمْ ثَلاَثُونَ مَعَ الثَّلاَثَةِ ... أَكرِمْ بِهِمْ قَومًا خِيَارَ الأُمَّةِ وَغَيْرُ هَؤُلاَءِ أَيْضًا قَدْ وَرَدْ ... فَاتْبَعْ طَرِيقَهُمْ فَإِنَّهُ الرَّشَدْ [فإن قيل]: يعارض هذا ما ثبت في "صحيح البخاري" عن أنس -رضي الله عنه- أنه قال: مات النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ، وزيد بن ثابت، وأبو زيد -رضي الله عنهم-، فكيف الجمع؟. [قلت]: أجيب عنه بأن المراد إثبات ذلك للخزرج دون الأوس، فلا ينفي ذلك عن المهاجرين وغيرهم، بدليل ما أخرجه ابن جرير عن أنس -رضي الله عنه-، قال: افتخر الحيّان الأوس والخزرج، فقال الأوس: منا أربعة: من اهتزّ له العرش، سعد بن معاذ، ومن عُدِلت شهادته بشهادة رجلين، خزيمة بن ثابت، ومن غسلته الملائكة، حنظلة بن أبي عامر، ومن حَمَته الدَّبَر، عاصم بن ثابت، فقال الخزرج: منا أربعة جمعوا القرآن، لم يجمعه غيرهم، فذكروهم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة السابعة): في ذكر العبادة من الصحابة -رضي الله عنهم-: (اعلم): أنه من اشتهر بلقب العبادلة من الصحابة أربعة فقط: وهم: عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وليس ابن مسعود منهم، قاله أحمد بن حنبل، قال البيهقي: لأنه تقدم موته، وهؤلاء عاشوا حتى احتيج إلى علمهم، فإذا اجتمعوا على شيء قيل: هذا قول العبادلة. وقيل: هم ثلاثة بإسقاط ابن الزبير، وعليه اقتصر الجوهري في "الصحاح". وأما ما حكاه النوويّ في "تهذيبه" عنه أنه ذكر ابن مسعود، وأسقط ابن العاص فَوَهَمٌ، نعم وقع للرافعي في "الديات"، وللزمخشري في "المفصل" أن العبادلة ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وغُلِّطَا في ذلك من حيث الاصطلاح، وكذا سائر من يُسَمَّى عبد الله من الصحابة، لا يطلق عليهم العبادلة، وهم نحو مائتين وعشرين نفسًا، كذا قال ابن الصلاح أخذًا من "الاستيعاب"، وزاد عليه ابن فتحون

جماعة يبلغون بهم نحو ثلاثمائة رجل. وقد نظمتهم بقولي: وَإِنْ تُرِدْ مَعْرِفَةَ الْعَبَادِلَهْ ... فَابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ عَمْرٍو نَافِلَهْ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَجْلِ عُمَرَا ... وَغَلِّطَنْ مَنْ غَيْرَ هَذَا ذَكَرَا فَبَعْضُهُمْ نَجْلَ الزُّبَيْرِ تَرَكَا ... أَوَ نَجْلَ مَسْعُودٍ بِهِمْ قَدْ أَشْرَكا وَكُلُّ ذَا غَيْرُ صَحِيح فَاتَّبعْ ... سَبِلَ مَنْ حَقَّقَ نَقْلًا تَنْتَفِعْ والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الثامنة): في ذكر عدد الصحابة - رضي الله عنهم -: (اعلم): أنه لا سبيل إلى معرفة عدد الصحابة -رضي الله عنهم-، قال الإمام أبو زرعة الرازي رحمه الله في جواب من قال له: أليس يقال: حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعة آلاف حديث؟: ومن قال ذا، قلقل الله أنيابه؟، هذا قول الزنادقة، ومن يُحصِي حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قُبِض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن مائة ألف وأربعة عشر ألفًا من الصحابة، ممن رآه، وسمع منه، فقيل له: هؤلاء أين كانوا؟ وأين سمعوا؟ أهل المدينة، وأهل مكة، ومن بينهما، والأعراب، ومن شهد معه حجة الوداع، كُلٌّ روى وسمع منه بعرفة. أخرجه أبو بكر الخطيب. قال الحافظ العراقي: وقريب منه ما أسنده أبو موسى المديني عن أبي زرعة قال: توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن رآه، وسمع منه زيادة على مائة ألف إنسان من رجل وامرأة. وهذا لا تحديد فيه، وكيف يمكن الاطلاع على تحرير ذلك، مع تفرق الصحابة في البلدان والبوادي والقرى؟، وقد روى البخاري في "صحيحه" أن كعب بن مالك قال في قصة تخلفه عن تبوك: وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثير، لا يجمعهم كتاب حافظ -بمعنى الديوان-. قال العراقي: ورَوَى الساجي في "المناقب" بسند جيد عن الرافعي قال: قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون ستون ألفًا، ثلاثون ألفا بالمدينة، وثلاثون ألفًا في قبائل العرب، وغير ذلك، قال: ومع هذا فجميع من صنف في الصحابة لم يبلغ مجموع ما في تصانيفهم عشرة آلاف، مع كونهم يذكرون من تُوفي في حياته -صلى الله عليه وسلم-، ومن عاصره،

أو أدركه صغيرًا. وذكر الحافظ السخاويّ رحمه الله: أن جميع من ذُكر في تجريد الذهبيّ ربما زاد على ثمانية آلاف. ونقل عياض عن الإمام مالك أنه مات بالمدينة منهم نحو عشرة آلاف نفس. وروى الوليد بن مسلم أنه قال: بالشام عشرة آلاف عين رأت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وعن قتادة: نزل الكوفة من الصحابة ألف وخمسمائة، منهم أربعة وعشرون بدريّون. وروي أنه نزل حمص من الصحابة خمسمائة رجل. قال السخاويّ: فكلّ حكى على قدر تتبّعه، ومبلغ علمه، وأشار بذلك إلى وقت خاصّ وحال، فإذن لا تضادّ بين كلامهم. انتهى كلام السخاويّ باختصار (¬1). وإلى ما ذُكر من عدم حصر عددهم أشار السيوطي رحمه الله في "ألفية الحديث" بقوله: وَالْعَدُّ لاَ يَحْصُرُهُمْ تُوُفِّي ... عَمَّا يَزِيدُ عُشْرَ أَلْفِ أَلْفِ والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة التاسعة): في ذكر عدد طبقات الصحابة -رضي الله عنهم-: (اعلم): أنه اختُلِف في عدد طبقاتهم باعتبار السبق إلى الإسلام، أو الهجرة، أو شهود الشاهد الفاضلة، فجعلهم ابن سعد خمس طبقات، وجعلهم الحاكم اثنتى عشرة طبقة: (الأولى): قوم أسلموا بمكة، كالخلفاء الأربعة. (الثانية): أصحاب دار الندوة. (الثالثة): مهاجرة الحبشة. (الرابعة): أصحاب العقبة الأولى. (الخامسة): أصحاب العقبة الثانية، وأكثرهم من الأنصار. (السادسة): أول المهاجرين الذين وصلوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقباء قبل أن يدخل المدينة. (السابعة): أهل بدر. (الثامنة): الذين هاجروا بين بدر والحديبية. (التاسعة): أهل بيعة الرضوان. ¬

_ (¬1) "فتح المغيث" 4/ 110 - 111.

(العاشرة): من هاجر بين الحديبية وفتح مكة، كخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص. (الحادي عشرة): مسلمة الفتح. (الثانية عشرة): صبيان وأطفال رأوه يوم الفتح في حجة الوداع وغيرها. وإلى هذا أشار في "ألفية الحديث" بقوله: وَهُمْ طِبَاقٌ قِيلَ خَمْسٌ وَذُكِرْ ... عَشْرٌ مَعَ اثْنَيْنِ وَزَائِدٌ أُثِرْ فَالأَوَّلُونَ أَسْلَمُوا بِمَكَّةِ ... يَلِيهِمُ أَصْحَابُ دَارِ النَّدْوَةِ ثُمَّ المهَاجِرُونَ لِلْحَبَشَةِ ... ثُمَّ اثْنَتَانِ انْسُبْ إِلَى الْعَقَبَةِ فَأَوَّلُ المُهَاجِرِينَ لِقُبَا ... فَأَهْلُ بَدْرٍ وَيَلي مَنْ غَرَبَا مِنْ بَعْدِهَا فَبَيْعَةُ الرِّضْوَانِ ثُمْ ... مَنْ بَعْدَ صُلْح هَاجَرُوا وَبَعْدُ ضُمْ مُسْلِمَةَ الْفَتْح فَصِبْيَانٌ رَأَوْا والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة العاشرة): في ذكر ترتيبهم في الفضل: (اعلم): أن أفضلهم على الإطلاق أبو بكر، ثم عمر رضي الله عنهما، بإجماع أهل السنة، وممن حَكَى الإجماع على ذلك أبو العباس القرطبي، قال: ولا مبالاة بأقوال أهل التشيع، ولا أهل البدع، وكذلك حكى الشافعي إجماع الصحابة والتابعين على ذلك، رواه عنه البيهقي في "الاعتقاد". وحكى المازري عن الخطابية تفضيل عمر، وعن الشيعة تفضيل علي، وعن الراوندية تفضيل العباس، وعن بعضهم الإمساك عن التفضيل. وحكى الخطابي عن بعض مشايخه أنه قال: أبو بكر خير، وعلي أفضل، وهذا تهافت من القول. وحكى القاضي عياض أن ابن عبد البر وطائفة ذهبوا إلى أن من مات منهم في حياته -صلى الله عليه وسلم- أفضل ممن بقي بعده؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أنا شهيد على هؤلاء"، قال النوويّ: وهذا الإطلاق غير مرضيّ ولا مقبول.

ثم عثمان، ثم علي، هذا قول جمهور أهل السنة، وإليه ذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وسفيان الثوري، وكافة أهل الحديث والفقه، والأشعري، والباقلاني، وكثير من المتكلمين؛ لقول ابن عمر رضي الله عنهما: "كنا في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا نَعْدِل بأبي بكر أحدًا، ثم عمر، ثم عثمان". رواه البخاريّ، ورواه الطبراني في "الكبير" بلفظ أصرح، قال: "كنا نقول، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيٌّ: أفضل هذه الأمة بعد نبيّها أبو بكر، وعمر، وعثمان، ويسمع ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلا يُنكره". وحكى الخطابي عن أهل السنة من الكوفة تقديم علي على عثمان، وبه قال أبو بكر ابن خزيمة، وهو رواية عن سفيان الثوري، ولكن آخر قوليه ما سبق. وحُكِي عن مالك التوقف بينهما، حكاه المازري عن "المدونة". وقال القاضي عياض: رجع مالك عن التوقف إلى تفضيل عثمان. قال القرطبي: وهو الأصح -إن شاء الله تعالى-. وتوقف أيضا إمام الحرمين. ثم التفضيل عنده وعند الباقلاني وصاحب المفهم ظني. وقال الأشعري: قطعي. وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله بعد أن ذكر معنى الفضائل، وأن الفضائل المعتبرة هي التي عند الله تعالى: ما نصّه: وإذا تقرّر هذا فإذا قلنا: إن أحدًا من الصحابة -رضي الله عنهم- فاضل، فمعناه أن له منزلة عند الله تعالى، وهذا لا يُتوصل إليه بالعقل قطعًا، فلا بدّ أن يرجع ذلك إلى النقل، والنقل إنما يُتلقَّى من الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فإذا أخبرنا الرسول بشيء من ذلك تلقّيناه بالقبول، فإن كان قطعيّا حصل لنا العلم بذلك، وإن لم يكن قطعيّا كان ذلك كسبيل المجتهدات، وإذا لم يكن لنا طريق إلى معرفة ذلك إلا بالخبر، فلا يَقطَع أحد بأن من صدرت منه أفعال دِينيّة، وخصال محمودة بأن ذلك قد بلّغه عند الله مَنْزِلة الفضل والشرف، فإن ذلك أمرٌ غيبٌ، والأعمال بالخواتيم، والخاتمة مجهولةٌ، والوقوف على المجهول مجهول، لكنّا إذا رأينا من أعانه الله على الخير، ويسّر له أسباب الخير رجونا له حصول تلك المنزلة عند الله تمسّكًا بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله" قالوا: كيف يستعمله؟ قال: "يوفقه لعمل صالح قبل موته"، زاد في

رواية: "ثم يقبضه عليه". (¬1)، وبما جاء في الشريعة من ذلك، ومن كان كذلك، فالظنّ أنه لا يخيب، ولا يُقطَعُ على المُغَيَّب. وإذا تقرّر هذا فالمقطوع بفضله، وأفضليّته بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند أهل السنّة، وهو الذي يُقطع به من الكتاب والسنّة أبو بكر الصدّيق، ثم عمر الفاروق، ولم يختلف في ذلك أحد من أئمة السلف، ولا الخلف، ولا مبالاة بأقوال أهل الشيع، ولا أهل البِدَع، فإنهم بين مكفَّر تُضرَب عنقه، وبين مُبَدَّع مُفَسَّق لا تُقبَل كلمته، وتُدحض حجته. وقد اختَلَف أئمة أهل السنّة في عليّ وعثمان رضي الله عنهما، فالجمهور منهم على تقديم عثمان، وقد رُوي عن مالك أنه توقّف في ذلك، ورُوي عنه أنه رجع إلى ما عليه الجمهور، وهو الأصحّ -إن شاء الله- والمسألة اجتهاديّة، لا قطعيّةٌ، ومُستندها الكليّ أن هؤلاء الأربعة هم الذين اختارهم الله تعالى لخلافة نبيّه -صلى الله عليه وسلم-، ولإقامة دينه، فمراتبهم عنده على حسب ترتيبهم في الخلافة إلى ما يَنضاف إلى ذلك بما يشهد لكلّ واحد منهم من شهادات النبيّ -صلى الله عليه وسلم- له بذلك تأصيلًا وتفصيلًا. قال: وهذا الباب بحرٌ لا يُدرك قَعْره، ولا يُنزَف غَمْرُه، وفيما ذكرناه كفايةٌ، والله تعالى وليّ التوفيق للهداية. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله (¬2)، وهو كلام نفيس، وبحث أنيس. وقال أبو منصور عبد القاهر التميمي البغدادي: أصحابنا مُجمِعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم تمام العشرة المشهود لهم بالجنة: سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوّام، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، ثم أهل بدر، وهم ثلاثمائة وبضعة عشر، روى ابن ماجه عن رافع بن خديج -رضي الله عنه- قال: جاء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما تعدون أهل ¬

_ (¬1) حديث صحيح، رواه أحمد برقم (11595) والترمذيّ (2142). (¬2) "المفهم" 6/ 237 - 239 "كتاب النبوات -باب فضائل أبي بكر الصدّيق -رضي الله عنه-".

بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين، قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة"، رواه البخاري وروه ابن ماجه بلفظ: "ما تَعُدُّون مَنْ شَهِد بدرًا فيكم؟ قال: خيارنا، قال: كذلك عندنا هم خيار الملائكة" (¬1). ثم أهل أحد، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة"، صححه الترمذي. وممن له مزية أهل العقبتين من الأنصار، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وهم من صلى إلى القبلتين، في قول سعيد بن المسيب، وطائفة منهم ابن الحنفية، وابن سيرين، وقتادة. وفي قول الشعبي أهل بيعة الرضوان. وفي قول محمد بن كعب القرظي، وعطاء بن يسار: أهل بدر. رَوَى ذلك سُنَيد عنهما بسند فيه مجهول، وضعيف، وسنيد ضعيف أيضًا. وروى القولين السابقين عمن ذُكر عبدُ بن حميد في "تفسيره"، وعبد الرزاق، وسعيد بن منصور في "سننه" بأسانيد صحيحة. وروى سنيد بسند صحيح إلى الحسن أنهم من أسلم قبل الفتح. وإلى ما تقدّم أشار في "ألفية الحديث" بقوله: ...................... ... وَالأَفْضَلُ الصِّدِّيقُ إِجْمَاعًا حَكَوْا وَعُمَرٌ بَعْدُ وَعُثْمانُ يِلي ... وَبَعْدَهُ أَوْ قَبْلُ قَوْلاَنِ عِلي فَسَائِرُ الْعَشْرَةِ فَالْبَدْرِيَّهْ ... فَأُحُدٌ فَالْبَيْعَةُ الزَّكِيَّه وَالسَّابِقُونَ لهُمُ مَزِيَّهْ ... فَقِيلَ أَهْلُ الْبَيْعَةِ المرْضِيَّهْ وَقِيلَ أَهْلُ الْقِبْلَتَيْنِ أَوْ هُمُ ... بَدْرِيَّةٌ أَوْ قَبْلَ فَتْح أَسْلَمُوا [تنبيه]: ورد في أحاديث تفضيل أعيان من الصحابة كل واحد في أمر مخصوص، فروى الترمذي عن أنس -رضي الله عنه- مرفوعًا: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد ¬

_ (¬1) حديث صحيح يأتي للمصنّف برقم (160).

ابن ثابت، وأقرؤهم أُبَيّ بن كعب، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح" (¬1). وروى الترمذي حديث: "أفرضكم زيد"، وصححه الحاكم بلفظ: "أفرض أمتي زيد". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الحادية عشرة): في التفضيل بين فاطمة وعائشة رضي الله عنهما: (اعلم): أنه اختُلِف في التفضيل بينهما على ثلاثة أقوال: (الأول): تفضيل فاطمة رضي الله عنها. (الثاني): تفضيل عائشة رضي الله عنها. (الثالث): التوقف، والأصح تفضيل فاطمة، فهي بَضْعَةٌ منه -صلى الله عليه وسلم-، وقد صححه السبكي في "الحلبيات"، وبالغ في تصحيحه، وفي "الصحيح": في فاطمة رضي الله عنها: "سيدة نساء هذه الأمة". وروى النسائي عن حذيفة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "هذا ملك من الملائكة، استأذن ربه لِيُسَلِّم عليّ، وبشرني أن حسنا وحسينا سيدا شباب أهل الجنة، وأمهما سيدة نساء أهل الجنة". وفي مسند الحرث بن أبي أسامة بسند صحيح، لكنه مرسل: "مريم خير نساء عالمها، وفاطمة خير نساء عالمها". ورواه الترمذي موصولًا من حديث عليّ -رضي الله عنه- بلفظ: "خير نسائها مريم، وخير نسائها فاطمة". قال الحافظ: والمرسل يفسر المتصل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الثانية عشرة): في ذكر ما قيل في التفضيل بين زوجاته -صلى الله عليه وسلم -رضي الله عنهنّ: (اعلم): أن أفضل أزواجه -صلى الله عليه وسلم- خديجة وعائشة رضي الله عنهما، وفي التفضيل بينهما أوجه، حكاها النوويّ في "الروضة"، ثالثها: الوقف، واختار السبكي في "الحلبيات" تفضيل خديجة، ثم عائشة، ثم حفصة، ثم الباقيات سواء. وإلى ما ذُكر أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث" بقوله: وَأَفْضَلُ الأَزْوَاج بِالتَّحْقِيقِ ... خَدِيجَةٌ مَعَ ابْنَةِ الصِّدِّيقِ ¬

_ (¬1) حديث صحيح، أخرجه الترمذيّ برقم (4061).

وَفِيهِما ثَالِثُهَا الْوَقْفُ وَفي ... عَائِشَةٍ وَابْنَتِهِ الخُلْفُ قُفِي تَلِيهِهِما حَفْصَةُ فَالْبَوَاقِي ... ......................... والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الثالثة عشرة): في اختلاف العلماء في أول من أسلم من الصحابة -رضي الله عنهم-: (الأول): أنه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، قاله ابن عباس، وحسان، والشعبي، والنخعي في، آخرين، ويدل له ما رواه مسلم عن عمرو بن عَبَسَة -رضي الله عنه- في قصة إسلامه، وقولِهِ للنبي -صلى الله عليه وسلم-: من معك على هذا؟، قال: "حُرٌّ وعبد"، قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به. وروى الحاكم في "المستدرك" من رواية خالد بن سعيد، قال: سئل الشعبي مَن أول من أسلم؟ فقال: أما سمعت قول حسان [من البسيط]: إِذَا (¬1) تَذَكَّرْتَ شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَةٍ ... فَاذْكُرْ أَخَاكَ أبا بَكْرٍ بِمَا فَعَلاَ خَيْرَ الْبَرِيَّةِ أَتْقَاهَا وَأَعْدَلهَا ... بَعْدَ النَّبِيِّ وَأَوْفَاهَا بِمَا حَمَلاَ وَالثَّانِيَ التَّالِيَ المُحْمُودَ مَشْهَدُهُ ... وَأَوَّلَ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلاَ وروى الطبراني في "الكبير" عن الشعبي قال: سألت ابن عباس، فذكره. وروى الترمذي من رواية أبي نضرة، عن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: قال أبو بكر: ألست أولَ من أسلم ... الحديث. وقيل: أول من أسلم هو علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، رواه الطبراني بسند صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وبسند ضعيف عنه مرفوعًا. ورواه الترمذي عنه من طريق أخرى موقوفًا. وروى الطبراني بسند فيه إسماعيل السُّديّ، عن أبي ذر وسلمان، قالا: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيد علي، فقال: إن هذا أول من آمن بي. ورواه أيضا عن سلمان. وروى أحمد في "مسنده" بسند فيه مجهول وانقطاع، عن علي مرفوعًا. وروى بسند آخر عنه قال: أنا أول من صلى. وروى ذلك أيضًا عن زيد بن أرقم، والمقداد بن الأسود، ¬

_ (¬1) كان في النسخة بلفظ "إن" والظاهر أنه تصحيف.

وأبي أيوب، وأنس، ويعلى بن مرة، وعفيف سنان، وخزيمة بن ثابت، وخباب بن الأرتّ، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري. وروى الحاكم في "المستدرك" من رواية مسلم الملائي قال: نبئ النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين، وأسلم علي يوم الثلاثاء، وادعى الحاكم إجماع أهل التاريخ عليه، ونوزع في ذلك. وقال كعب بن زهير في قصيدة يمدحه فيها [من الطويل]: تدريب الراوي جـ: 2 ص: 227 إِنَّ عَلِيًّا لمَيْمُونٌ نَقِيبَتُهُ ... بِالصَّالحِاتِ مِنَ الأَعْمَالِ مَشْهُوُرُ صِهْرُ النَّبيِّ وَخَيْرُ النَّاس مُفْتَخَرًا ... فَكُلُّ مَنْ رَامَهُ بِالْفَخْرِ مَفْخُورُ صلَّى الطُّهُورَ مَعَ الأُمِّيِّ أَوَّلهُمْ ... قَبْلَ المعَادِ وَرَبُّ النَّاسِ مَكْفُورُ وقيل: أولهم زيد بن حارثة. قاله الزهري. وقيل: خديجة أم المؤمنين. قال النوويّ: وهو الصواب عند جماعة من المحققين، ورُوي ذلك عن ابن عباس، والزهري أيضًا، وهو قول قتادة، وابن إسحاق، وادّعَى الثعلبي فيه الإجماع، وأن الخلاف فيمن بعدها. ورواه أحمد في "مسنده"، والطبراني عن ابن عباس. وقال ابن عبد البر: اتّفقوا على أن خديجة أول من آمن، ثم علي بعدها، ثم ذكر أن الصحيح أن أبا بكر أول من أظهر إسلامه، ثم رَوَى عن محمد بن كعب القُرَظي أن عليا أخفى إسلامه من أبي طالب، وأظهر أبو بكر إسلامه، ولذلك شُبِّه على الناس. وروى الطبراني في "الكبير" من رواية محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جده قال: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - غداة الاثنين، وصلت خديجة يوم الاثنين من آخر النهار، وصلى علي يوم الثلاثاء. وقال ابن إسحاق: أول من آمن خديجة، ثم علي، ثم زيد بن حارثة، ثم أبو بكر، فأظهر إسلامه، ودعا إلى الله، فأسلم بدعائه عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، فكان هؤلاء الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام. وذكر عمر بن شبة أن خالد بن سعيد بن العاص أسلم قبل علي، وقال غيره: إنه

أولهم إسلامًا. وحكى المسعودي قولًا: إن أولهم خباب بن الأرت، وآخر: إن أولهم بلالٌ. ونقل الماوردي في "أعلام النبوة" عن ابن قتيبة أن أول من آمن أبو بكر بن أسعد الحميري. ونقل ابن سبع في "الخصائص" عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: كنت أولهم إسلامًا. وقال الحافظ العراقي: ينبغي أن يقال: إن أول من آمن من الرجال ورقة ابن نوفل؛ لحديث "الصحيحين" في بدء الوحي. قال ابن النوويّ: الأورع أن يقال: أولُ من أسلم من الرجال الأحرارِ أبو بكر، ومن الصبيان عليّ، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد، ومن العبيد بلال. قال البرماوي: ويحكى هذا الجمع عن أبي حنيفة. قال ابن خالويه: أول امرأة أسلمت بعد خديجة لبابة بنت الحارث، زوجة العباس -رضي الله عنهم-. وإلى اختيار الجمع المذكور أشار في "ألفية الحديث" بقوله: وَاخْتَلَفُوا أَوَّلهُمْ إِسْلاَمَا ... وَقَدْ رَأَوْا جَمْعَهُمُ انْتِظَامَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ في الرِّجَالِ ... صِدِّيقُهُمْ وَزَيْدُ في الموَالِي وَفي النِّسَا خَدِيجَةٌ وَذِي الصِّغَرْ ... عَليُّ وَالرِّقِّ بِلاَلٌ اشْتَهَرْ والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الرابعة عشرة): في ذكر آخر من مات من الصحابة -رضي الله عنهم-: (اعلم): أن آخرهم موتًا على الإطلاق أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي -رضي الله عنه- مات سنة مائة من الهجرة. قاله مسلم في "صحيحه". ورواه الحاكم في "المستدرك" عن خليفة ابن خياط. وقال خليفة في غير رواية الحاكم: إنه تأخر بعد المائة. وقيل: مات سنة اثنتين ومائة. قاله مصعب بن عبد الله الزبيري. وجزم ابن حبان، وابن قانع، وأبو زكريا بن منده، أنه مات سنة سبع ومائة. وقال وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه: كنت بمكة سنة عشر ومائة، فرأيت جنازةً، فسألت عنها، فقالوا: هذا أبو الطفيل. وصحّح الذهبي أنه سنة عشر.

وأما كونه آخر الصحابة موتًا مطلقًا، فجزم به مسلم، ومصعب الزبيري، وابن منده، والمزي في آخرين، وفي صحيح مسلم عن أبي الطفيل: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما على وجه الأرض رجل رآه غيري. قال العراقي: وما حكاه بعض المتأخرين عن ابن دُرَيد من أن عِكراش بن ذؤيب تأخر بعد ذلك، وأنه عاش بعد الجمل مائة سنة، فهذا باطل، لا أصل له، والذي أوقع ابنَ دُرَيد في ذلك ابنُ قتيبة، فقد سبقه إلى ذلك، وهو إما باطلٌ، أو مؤول بأنه استكمل المائة بعد الجمل، لا أنه بقي بعدها مائة سنة. وأما قول جرير بن حازم: إن آخرهم موتًا سهل بن سعد، فالظاهر أنه أراد بالمدينة، وأخذه من قول سهل: لو متُ لم تسمعوا أحدًا يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إنما كان خطابه بهذا لأهل المدينة. وآخرهم موتًا قبله أنس بن مالك -رضي الله عنه-، مات بالبصرة سنة ثلاث وتسعين، وقيل: اثنتين، وقيل: إحدى، وقيل: تسعين، وهو آخر من مات بها. قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدًا مات بعده، ممن رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أبا الطفيل. وقال العراقي: بل مات بعده محمود بن الربيع بلا خلاف، في سنة تسع وتسعين، وقد رآه، وحَدَّث عنه، كما في "صحيح البخاري"، وكذا تأخر بعده عبد الله بن بُسْر المازني، في قول من قال: وفاته سنة ست وتسعين. وآخرهم موتًا بالمدينة سهل بن سعد الأنصاري -رضي الله عنه-، قاله ابن المديني، والواقدي، وإبراهيم بن المنذر، وابن حبان، وابن قانع، وابن منده، وادعى ابن سعد نفي الخلاف فيه، وكانت وفاته سنة ثمان وثمانين، وقيل: إحدى وتسعين، وقال قتادة: بل مات بمصر. وقال ابن أبي داود: بالإسكندرية. وقيل: السائب بن يزيد، قاله أبو بكر بن أبي داود، وكانت وفاته سنة ثمانين. وقيل: جابر بن عبد الله، قاله قتادة وغيره، قال العراقي: وهو قول ضعيف؛ لأن السائب مات بالمدينة بلا خلاف، وقد تأخر بعده، وقيل: بمكة، وكانت وفاته سنة

اثنتين وسبعين، وقيل: ثلاث، وقيل: أربع، وقيل: سبع، وقيل: ثمان، وقيل: تسع، قال العراقي: وقد تأخر بعد الثلاثة محمود بن الربيع الذي عقل المجة، وتوفي بها سنة تسع وتسعين، فهو إذًا آخر الصحابة موتًا بها. وآخرهم بمكة تقدم أنه أبو الطفيل، وهو قول ابن المديني، وابن حبان، وغيرهما. وقيل: جابر بن عبد الله، قاله ابن أبي داود، والمشهور وفاته بالمدينة. وقيل: ابن عمر، قاله قتادة، وأبو الشيخ ابن حبان، ومات سنة ثلاث، وقيل: أربع وسبعين. وآخرهم بالكوفة عبد الله بن أبي أوفى، مات سنة ست وثمانين، وقيل: سبع، وقيل: ثمان. وقال ابن المديني: أبو جحيفة، والأول أصح، فإنه مات سنة ثلاث وثمانين. وقد اختُلف في وفاة عَمْرو بن حُريث، فقيل: سنة خمس وثمانين، وقيل: سنة ثمان وتسعين، فإن صح الثاني فهو آخر من مات من أهل بيعة الرضوان -رضي الله عنهم-. وآخرهم موتًا بالشام عبد الله بن بُسْر المازني، قاله خلائق، ومات سنة ثمان وثمانين، وقيل: ست وتسعين، وهو آخر من مات ممن صلى للقبلتين، وقيل: آخرهم بالشام أبو أمامة الباهلي، قاله الحسن البصري، وابن عيينة، والصحيح الأول، فوفاته سنة ست وثمانين، وقيل: إحدى وثمانين، وحكى الخليلي في "الإرشاد" القولين بلا ترجيح، ثم قال: رَوَى بعضُ أهل الشام أنه أدرك رجلًا بعدهما، يقال له: الهدار، رأى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو مجهول. وقيل: آخرهم بالشام واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه-، قاله أبو زكريا بن منده، وموته بدمشق، وقيل: ببيت المقدس، وقيل: بحمص سنة خمس وثمانين، وقيل: ثلاث، وقيل: ست. وآخرهم بحمص عبد الله بن بُسر -رضي الله عنه-، وآخرهم بالجزيرة العُرْس بن عَمِيرة الكِنْديّ -رضي الله عنه-، وآخرهم بفلسطين أبو أُبَيّ عبد الله بن حَرَام -رضي الله عنه-, ربيب عبادة بن الصامت، وقيل: مات بدمشق، وقيل: ببيت المقدس. وآخرهم بمصر عبد الله بن الحارث بن جَزْء الزُّبَيدي -رضي الله عنه-، مات سنة ست وثمانين، وقيل: خمس، وقيل: سبع، وقيل: ثمان، وقيل: تسع، قاله الطحاوي، وكانت

وفاته بسَفَط القُدُور، وتعرف الآن بسفط أبي تراب، وقيل: باليمامة، وقيل: إنه شهد بدرًا، ولا يصح، فعلى هذا هو آخر البدريين موتًا. وآخرهم باليمامة الْهِرْماس بن زياد الباهلي -رضي الله عنه-، سنة اثنتين ومائة، أو مائة، أو بعدها. وآخرهم بِبَرْقَةَ رُوَيفع بن ثابت الأنصاري -رضي الله عنه-، وقيل: بإفريقية، وقيل: بأنطابلس، وقيل: بالشام، ومات سنة ثلاث وستين، وقيل: سنة ست وستين. وآخرهم بالبادية سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه-، قاله أبو زكريا بن منده، والصحيح أنه مات بالمدينة، ومات سنة أربع وسبعين، وقيل: أربع وستين. وآخرهم موتًا بخراسان بُريدة بن الحصَيب -رضي الله عنه-، وآخرهم بسجستان العداء بن خالد بن هَوْذة -رضي الله عنه-، ذكرهما أبو زكريا بن منده، قال العراقي: وفي بُريدة نظر، فإن وفاته سنة ثلاث وسبعين، وقد تأخر بعده أبو بَرْزَة الأسلمي -رضي الله عنه-، ومات بها سنة أربع وسبعين. وآخرهم بأصبهان النابغة الجْعْدي -رضي الله عنه-، قاله أبو الشيخ، وأبو نعيم. وآخرهم بسمرقند الفضل بن العباس رضي الله عنهما (¬1). وقيل: آخر من مات بسمرقند قُثَم بن العباس، وبواسط لُبَيّ -مصغّرًا- ابن لَبَا -كعصا-، وآخر البدريين من الأنصار أبو أُسيد مالك بن ربيعة الساعديّ، أو أبو اليَسَر كعب بن عَمْرو، ومن البدريين المهاجرين سعد بن أبي وقّاص، وهو آخر العشرة المبشرين بالجنة أيضًا، وآخر أواجه -صلى الله عليه وسلم- موتًا ميمونة رضي الله عنها، وقيل: أم سلمة، ورجّحه الحافظ (¬2). وإلى ما تقدّم أشار في "ألفية الحديث" بقوله: ........................ ... وَآخِرُ الصِّحَابِ بِاتِّفَاقِ مَوْتًا أبو الطُّفَيْلِ وَهْوَ آخِرُ ... بِمَكَّةٍ وَقِيلَ فِيهَا جَابِرُ بِطَيْبَةَ السائِبُ أَوْ سَهْلٌ أنسْ ... بِبَصرَةٍ وَابْنُ أَبِي أَوْفَى حُبِسْ ¬

_ (¬1) راجع "التدريب" 2/ 228 - 232. (¬2) راجع "فتح المغيث" للسخاويّ 4/ 142 - 143.

بِكُوفَةٍ وَقِيلَ عَمْرٌو أَوْ أبُو ... جُحَيْفة وَالشَّامُ فِيهَا صَوَّبُوا الْبَاهِلي أَوِ ابْنَ بُسْرٍ وَلَدَى ... مِصْرَ ابْنُ جَزْء وَابْنُ الأَكْوَع بَدَا وَالحبْرُ بِالطَّائِفِ وَالجعْدِيُّ ... بِأَصْبَهَانَ وَقَضى الْكِنْدِيُّ الْعُرْسُ في جَزِيرَةٍ بِبرقَةِ ... رُوَيْفِعُ الهرْمَاسُ بِالْيَمامَة وَقُبِضَ الْفَضْلُ بِسَمْرَقَنْدَا ... وَفي سِجِسْتَانَ الأَخِيرُ الْعَدَّا والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (فوائد): (الأولى): أنه لا يُعرَف أبٌ وابنه شهدا بدرًا إلا مرثد وأبوه أبو مرثد بن الحصين الغنوي. قاله النوويّ. وأغرب من هذا ما أخرجه البغوي في "معجم الصحابة" قال: حدثنا ابن هانئ، حدثنا ابن بكير، حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، أن مَعْنَ بن يزيد بن الأخنس السلميّ شَهِدَ هو وأبوه وجده بدرًا، قال: ولا نعلم أحدًا شهد هو وابنه وابن ابنه بدرًا مُسْلِمين إلا الأخنس. لكن تعقّب الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله هذا، فقال: هذا لا يصحّ، وإنما الصحيح حديث أبي الجويرية، عن معن، أنه قال: بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنا، وأبي، وجدّي. انتهى (¬1). وإلى هذا أشار في "ألفيّة الحديث" بقوله: النَّوَوِي مَا عَرَفُوا مَنْ شَهِدَا ... بَدْرًا مَعَ الْوَالِدِ إلَّا مَرْثَدَا وَالبغَوِيُّ زَادَ أَنَّ معنا ... وَأبهُ وَجَدَّهُ بِالمعْنَى (الثانية): قال ابن الجوزي رحمه الله: لا نَعرِف سبعة إخوة شهدوا بدرًا مسلمين إلا بني عفراء: معاذ، ومُعَوّذ، وإياس، وخالد، وغافل، وعوف، قال: ولم يشهدها مؤمن ابن مؤمنين إلا عمار بن ياسر، قال: ومن غريب ذلك امرأة لها أربعة إخوة، وعمان شهدوا بدرًا، أخوان وعمّ من المسلمين، وأخوان وعم من المشركين، وهي أم ¬

_ (¬1) راجع "الاستيعاب" 10/ 179 - 180 من هامش "الإصابة".

أبان بنت عتبة بن ربيعة، أخواها المسلمان: أبو حذيفة بن عتبة، ومصعب بن عمير، والعم المسلم معمر بن الحارث، وأخواها المشركان: الوليد بن عتبة، وأبو عزيز، والعم المشرك شيبة بن ربيعة. ولا يعرف سبعة إخوة أو تسعة، صحابة مهاجرون، إلا أولاد الحارث بن قيس السهمي، كلهم صحبوا، وهاجروا، وهم: بشر، وتميم، والحارث، والحجاج، والسائب، وسعيد، وعبد الله، ومعمر، وأبو قيس. ولا أربعة أدركوا النبي -صلى الله عليه وسلم- متوالدون إلا عبد الله بن أسماء بنت أبي بكر الصديق ابن أبي قحافة، وإلا أبو عتيق محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة - رضي الله عنهم -. وقال الحافظ: حجر وقد ذكروا أن أسامة وُلد له في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعلى هذا يكون كذلك، إذ حارثة والد زيد صحابي، كما جزم به النذري في "مختصر مسلم"، وحديث إسلامه في "مستدرك الحاكم"، وكذا زيد، وأسامة، قال: وكذا إياس بن سلمة ابن عمرو بن الأكوع الأربعة، ذُكروا في الصحابة، وطلحة بن معاوية بن جاهمة بن العباس بن مِرْداس في أمثلة أخرى لا تصح. وإلى ما ذُكر أشار في "ألفيّة الحديث" بقوله: وَأَرْبَعٌ تَوَالَدُوا صَحَابَهْ ... حَارِثَةُ الموْلَى أبو قُحَافَه (الثالثة): ليس في الصحابة من اسمه عبد الرحيم، بل ولا من التابعين، ولا من اسمه إسماعيل، من وجه يصح، إلا واحد بصري، روى عنه أبو بكر بن عُمارة حديث: "لا يلج النار أحدٌ صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها"، أخرجه ابن خزيمة (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. ¬

_ (¬1) راجع "التدريب" 2/ 232 - 234.

(فضل أبي بكرٍ الصِّدِّيق -رضي الله عنه-) أي هذا باب في ذكر الأحاديث الدالّة على فضل أبي بكر الصدّيق -رضي الله عنه-، وقد تقدّم بيان معنى الفضل في الباب السابق. وأبو بكر -رضي الله عنه- هو: عبد الله بن أبي قحافة التيميّ، هكذا جزم البخاريّ في "صحيحه" بأن اسم أبي بكر عبد الله، وهو المشهور، ويقال: كان اسمه قبل الإسلام عبد الكعبة. وكان يُسَمَّى أيضا عَتِيقًا، واختُلِف هل هو اسم له أصلي، أو قيل له: ذلك لأنه ليس في نسبه ما يُعاب به، أو لِقِدَمه في الخير، وسبقه إلى الإسلام، أو قيل له ذلك؛ لحسنه، أو لأن أمه كان لا يعيش لها ولد، فلما وُلِد استقبلت به البيت، فقالت: اللهم هذا عَتيقك من الموت، أو لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بَشَّره بأن الله أعتقه من النار. وقد ورد في هذا الأخير حديث عن عائشة عند الترمذي، وآخر عن عبد الله بن الزبير عند البزار، وصححه ابن حبان، وزاد فيه: "وكان اسمه قبل ذلك عبد الله بن عثمان"، وعثمان اسم أبي قُحَافة لم يُختَلف في ذلك، كما لم يُختلف في كنية الصديق. ولُقِّب الصديقَ؛ لسبقه إلى تصديق النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقيل: كان ابتداء تسميته بذلك صَبِيحةَ الإسراء. وروى الطبراني من حديث عليّ -رضي الله عنه- أنه كان يَحلِف أن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق، ورجاله ثقات. وأما نسبه فهو: عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سَعْد بن تيم بن مُرّة بن كعب بن لُؤَيّ بن غالب، يجتمع مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في مرة بن كعب، وعدد آبائهما إلى مرة سواء. وأم أبي بكر: سَلْمَى -وتُكنى أمَّ الخير- بنت صخر بن مالك بن عامر بن عمرو المذكور، أسلمت، وهاجرت، وذلك معدود من مناقبه؛ لأنه انتظم إسلام أبويه، وجميع أولاده. قاله في "الفتح" (¬1). ¬

_ (¬1) "الفتح" 7/ 12 "كتاب فضائل أصحاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم-" رقم الحديث 3652.

وُلد بعد الفيل بسنتين وستة أشهر، أخرج بن الْبَرْقيّ من حديث عائشة، تذاكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر ميلادهما عندي، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- أكبر. وصحب النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة وسبق إلى الإيمان به، واستمر معه طول إقامته بمكة، ورافقه في الهجرة، وفي الغار، وفي المشاهد كلها إلى أن مات، وكانت الراية معه يوم تبوك، وحج في الناس في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سنة تسع، واستقر خليفة في الأرض بعده، ولقبه المسلمون خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وفي "المعرفة" لابن منده: كان أبيض نحيفًا خفيف العارضين، معروق الوجه، ناتىء الجبهة، يَخضِب بالحناء والكتم. وقال ابن إسحاق في "السيرة الكبرى": كان أبو بكر رجلًا مؤلفًا لقومه، محببًا سهلًا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلمهم مما كان منها من خير أو شر، وكان تاجرًا، ذا خُلُق ومعروف، وكانوا يألفونه لعلمه وتجاربه، وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام مَن وَثِقَ به، فأسلم على يديه عثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف. وأخرج أبو داود في "الزهد" بسند صحيح عن هشام بن عروة، أخبرني أبي، قال: أسلم أبو بكر وله أربعون ألف درهم، قال عروة: وأخبرتني عائشة: أنه مات وما ترك دينارًا ولا درهمًا. وقال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا هشام، عن أبيه، أسلم أبو بكر، وله أربعون ألفا، فأنفقها في سبيل الله، وأعتق سبعة كلهم يعذب في الله، أعتق بلالًا، وعامر بن فُهيرة، وزنيرة، والنهدية، وابنتها، وجارية بني المؤمل، وأم عبيس. وأخرج مصعب الزبيريّ من طريق أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبيه: كان أبو بكر معروفًا بالتجارة، وقد بُعث النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعنده أربعون ألفًا، فكان يُعتق منها، ويَعُول المسلمين حتى قدم المدينة بخمسة آلاف، وكان يفعل فيها كذلك. ومناقب أبي بكر -رضي الله عنه- كثيرة جدًّا، وقد أفردها جماعة بالتصنيف، وترجمته في "تاريخ ابن عساكر" قدر مجلدة، ومن أعظم مناقبه -رضي الله عنه- قول الله تعالى فيه: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا في الْغَارِ إِذْ يَقُولُ

لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، فإن المراد بصاحبه أبو بكر بلا نزاع، إذ لا يعترض بأنه لم يتعين، لأنه كان مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة عامر بن فُهيرة، وعبد الله بن أبي بكر، وعبد الله بن أُريقط الدليل؛ لأنا نقول: لم يصحبه في الغار سوى أبي بكر؛ لأن عبد الله بن أبي بكر استمر بمكة، وكذا عامر بن فُهيرة، وإن كان ترددهم إليهما مدة لبثهما في الغار استمرت لعبد الله من أجل الإخبار بما وقع بعدهما، وعامر بسبب ما يقوم بغذائهما من الشياه، والدليل لم يصحبهما إلا من الغار، وكان على دين قومه مع ذلك، كما في نفس الخبر، وقد قيل: إنه أسلم بعد ذلك، وثبت في "الصحيحين" من حديث أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي بكر، وهما في الغار: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما"، والأحاديث في كونه كان معه في الغار كثيرة شهيرة، ولم يَشْرَكه في هذه المنقبة غيره. ومن أعظم مناقب أبي بكر -رضي الله عنه- أن ابن الدَّغِنَة سيد القَارَة لمّا رد إليه جواره بمكة وصفه بنظير ما وَصَفت به خديجة النبي -صلى الله عليه وسلم- لمّا بُعث، فتواردا فيهما على نعت واحد من غير أن يتواطآ على ذلك، وهذا غاية في مدحه؛ لأن صفات النبي -صلى الله عليه وسلم- منذ نشأ كانت أكمل الصفات. وقال العسكريّ: كانت تُساق إليه الأشناق في الجاهلية، وهي الديات التي يتحملها ممن يتقرب لذلك من العشيرة، فكان إذا حمل شيئًا من ذلك، فسأل فيه قريشًا مدحوه، وأمضوا إليه حمالته، فإن احتملها غيره لم يصدقوه. وذكر ابن سعد من طريق الزهري أن أبا بكر والحارث بن كَلَدَة أكلا خَزِيرة أُهديت لأبي بكر، وكان الحارث طبيبًا، فقال لأبي بكر: ارفع يدك والله إن فيها لسم سنة، فلم يزالا عليلين حتى ماتا عند انقضاء السنة في يوم واحد، وكانت وفاته يوم الإثنين في جمادى الأولى سنة ثلاث عشر من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة، على الصحيح (¬1). ¬

_ (¬1) راجع "الإصابة" 4/ 144 - 150.

أخرج له الجماعة، وروى من الأحاديث (142) حديثًا، اتّفق الشيخان على ستة، وانفرد البخاريّ بأحد عشر، ومسلم بحديث واحد، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا. [فائدة]: السبب في قلة ما روى الصديق -رضي الله عنه- من الأحاديث مع تقدمه، وسبقه إلى الإسلام، وملازمته للنبي -صلى الله عليه وسلم- أنه تقدمت وفاته قبل انتشار الحديث، واعتناء الناس بسماعه، وتحصيله، وحفظه. ذكره النوويّ في "تهذيبه" (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 93 - (حَدَّثَنَا عِليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَلا إِنِّي أبرَأُ إِلَى كلِّ خَلِيلٍ مِنْ خُلَّتِهِ، وَلَوْ كنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا، لَاتَّخَذْتُ أبا بَكْرٍ خَلَيلًا، إِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ الله"، قَالَ وَكِيعٌ: يَعْني نَفْسَهُ). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (عَبْدُ الله بْنُ مُرَّة) الهَمْدَاني الخارفيّ -بالخاء المعجمة، والراء، والفاء- ثقة [3]. روى عن ابن عمر، والبراء، وأبي الأحوص، ومسروق، وغيرهم. وروى عنه الأعمش، ومنصور، قال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائي: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث صالحة. وقال العجليّ: تابعي ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سعد: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز. وقال عمرو بن علي: مات سنة مائة. وأرخه ابن قانع: سنة تسع وتسعين. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط برقم (93) و (1584) و (2122) و (2327) و (2534) و (2558) و (2616) و (2801). 2 - (أبو الْأَحْوَصِ) عوف بن مالك بن نَضْلة الجُشَميّ الكوفيّ، ثقة [3] 7/ 46. 3 - (عَبْدُ الله) بن مسعود الصحابيّ المشهور -رضي الله عنه- 2/ 19، والباقون تقدّموا في ¬

_ (¬1) راجع "التدريب" 2/ 218.

الباب الماضي، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، بل رجال الجماعة، سوى شيخه، فقد تفرّد به هو والنسائيّ في "مسند عليّ". 3 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين. 4 - (ومنها): أن عبد الله بن مرة هذا أول محل ذكره من الكتاب، وجملة ما رواه المصنّف له من الأحاديث ثمانية أحاديث، كما نبّهت عليه آنفًا. 5 - (ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن أبي الأحوص، ورواية الأخيرين من رواية الأقران. 6 - (ومنها): أن فيه عبد الله غير منسوب، وهو ابن مسعود -رضي الله عنه-؛ لأن السند كوفيّ، وقد تقدّمت القاعدة أنه إذا أُطلق عبد الله في الصحابة أنه يُنظر إلى الراوي عنه، فإن كان كوفيّا فهو ابن مسعود، وهكذا ... ، فلا تنسَ نصيبك منها. 7 - (ومنها): أن صحابيّه - رضي الله عنه - أحد السابقين إلى الإسلام، وممن لازم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- طول حياته، وقرأ عليه القرآن، وكان من أقرإ الناس، وقد مدحه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فقال: "من أحبّ أن يقرأ القرآن غضًّا كما أُنزِل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد". -رضي الله عنه-. وستأتي مناقبه في باب خاصّ به، إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ الله) بن مسعود -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَلا) أداة استفتاح وتنبيه، يُلقى بها للمَخاطب؛ تنبيها له، وإزالة لغفلته (إِنِّي) بكسر الهمزة؛ لوقوعها بعد "ألا" الاستفتاحيّة (أَبْرَأُ) بفتح الراء، يقال: بَرِىء الرجلُ بالكسر من الأمرِ، كفَرِح، يَبْرَأ بالفتح على القياس، ويَبْرُأُ بالضمّ نادر، بل غريب جدّا، بَرَاءً، كسلامٍ، وبَرَاءَةً، ككرَامةٍ،

وبُرْأ بضم، فسكون: تبرّأ منه. قاله في "القاموس" و"شرحه" (¬1) (إِلَى كُلِّ خَلِيلٍ) متعلّق بـ"أبرأ"، و"الخليل": الصديق، فَعِيل بمعنى مُفاعل، وقد يكون بمعنى مفعول. قاله ابن الأثير (¬2). وقال السنديّ: أي أبرأ إلى كلّ من يزعم أني اتّخذته خليلًا، فلا يشمل عمومه الربّ الجليل سبحانه وتعالى حتى يُحتاج إلى الاستثناء. انتهى (¬3). (مِنْ خُلَّتِهِ) أي من اتّخاذي إياه خليلًا. قال الفيّوميّ: الخَلّة بالفتح، والضمّ لغةُ: الصداقة، واقتصر ابن الأثير على الضمّ فقط، وقال: الخُلّة بالضمّ: الصداقة، والمحبّة التي تخلّلت القلب، فصارت خلاله: أي في باطنه. قال: وإنما قال ذلك لأن خُلّته كانت مقصورةً على حبّ الله تعالى، فليس فيها لغيره مُتَّسَعٌ، ولا شَرِكة من مَحابّ الدنيا والآخرة، وهذه حال شريفة، لا ينالها أحدٌ بكسب واجتهاد، فإن الطباع غالبة، وإنما يخصّ الله بها من يشاء من عباده، مثل سيّد المرسلين -صلى الله عليه وسلم-، ومن جعل الخليل مُشتقا من الْخَلّة، وهي الحاجة والفقر أراد إني أبرأ من الاعتماد، والافتقار إلى أحد غير الله تعالى. انتهى (¬4). ووقع في رواية مسلم: "إني أبرأ إلى كل خلّ من خلّه": قال النوويّ رحمه الله: هما بكسر الخاء، فأما الأول فكسره متّفق عليه، وهو الخلّ بمعنى الخليل، وأما قوله: "من خلّه" فبكسر الخاء عند جميع الرواة في جميع النسخ، وكذا نقله القاضي عن جميعهم، قال: والصواب الأوجه فتحها، قال: والخلّة والخلّ، والخلال، والمخاللة، والخلوة: الإخاء والصداقة: أي برئت من صداقته المقتضية المخاللة. هذا كلام القاضي. والكسر صحيح، كما جاءت به الروايات: أبرأ إليه من مخاللتي إياه. وذكر ابن الأثير أنه روي ¬

_ (¬1) راجع "القاموس" مع شرحه "تاج العروس" 1/ 44 - 45. (¬2) "النهاية" 2/ 72. (¬3) "شرح السنديّ" 1/ 71. (¬4) "النهاية" 2/ 72.

بكسر الخاء وفتحها وأنهما بمعنى الخلّة بالضمّ التي هي الصداقة. انتهى (¬1). [تنبيه]: قال في "الفتح": واختُلِف في المودة، والخلة، والمحبة، والصداقة، هل هي مترادفة، أو مختلفة؟. قال أهل اللغة: الخلة أرفع رتبة، وهو الذي يُشعِر به حديث الباب، وكذا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لو كنت متخذا خليلًا غير ربي"، فإنه يشعر بأنه لم يكن له خليل من بني آدم، وقد ثبتت محبته لجماعة من أصحابه، كأبي بكر، وفاطمة، وعائشة، والحسنين، وغيرهم، ولا يَعْكُر على هذا اتصاف إبراهيم عليه السلام بالخلة، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- بالمحبة، فتكون المحبة أرفع رتبة من الخلة؛ لأنه يُجاب عن ذلك بأن محمدا -صلى الله عليه وسلم- قد ثبت له الأمران معًا، فيكون رجحانه من الجهتين. والله سبحانه وتعالى أعلم. وقال الزمخشري: الخليل هو الذي يوافقك في خلالك، ويسايرك في طريقك، أو الذي يَسُدّ خللك، وتسد خلله، أو يداخلك خلال مَنْزِلك. انتهى. وكأنه جوّز أن يكون اشتقاقه مما ذُكِر. وقيل: أصل الخلة انقطاع الخليل إلى خليله. وقيل: الخليل من يتخلله سرك. وقيل: من لا يسع قلبه غيرك. وقيل: أصل الخلة الاستصفاء. وقيل: المختص بالمودة. وقيل: اشتقاق الخليل من الْخَلّة -بفتح الخاء- وهي الحاجة، فعلى هذا فهو المحتاج إلى من يُخَالُّهُ، وهذا كله بالنسبة إلى الإنسان، أما خلة الله للعبد فبمعنى نصره له ومعاونته. انتهى (¬2). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "أما خلة الله للعبد إلخ" فيه أنه تأويل للخلّة بلازمها، وهذا غير صحيح، بل الصواب أن الخلّة صفة من صفات الله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله، كسائر صفاته، من العلم، والسمع، والبصر، والقدرة، والإرادة، والرضى والغضب، والمحبّة، والبغض، ونحوها، فكلها صفة ثابتة له تعالى على الوجه اللائق به، ¬

_ (¬1) "شرح مسلم" 15/ 153. (¬2) "الفتح" 7/ 30.

ولا يلزم من ذلك تشبيهه بخلقه؛ لأن صفات الخالق مباينة لصفات الخلق، وإنما تتّفق الأسماء دون الحقائق، كما أننا نثبت له ذاتًا لا كذوات المخلوق، كذلك الصفات؛ إذ هي فرع الذات، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتهَوَّر بتقليد ذوي الاعتساف، والله سبحانه وتعالى الهادي إلى سواء السبيل. [تنبيه آخر]: قال في "الفتح" أيضًا: وقد تواردت هذه الأحاديث على نفي الخلة من النبي -صلى الله عليه وسلم- لأحد من الناس، وأما ما رُوي عن أُبَيّ بن كعب -رضي الله عنه- قال: إن أحدث عهدي بنبيكم قبل موته بخمس، دخلت عليه، وهو يقول: "إنه لم يكن نبي إلا وقد اتخذ من أمته خليلًا، وإن خليلي أبو بكر، ألا وإن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا"، أخرجه أبو الحسن الحربي في "فوائده"، وهذا يعارضه ما في رواية جندب عند مسلم أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول قبل أن يموت بخمس: إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل"، فإن ثبت حديث أُبَيّ (¬1) أمكن أن يُجمَع بينهما بأنه لمّا بريء من ذلك تواضعًا لربه، وإعظامًا له أذن الله تعالى له فيه من ذلك اليوم لِمَا رأى من تشوفه إليه، وإكرامًا لأبي بكر بذلك، فلا يتنافى الخبران، أشار إلى ذلك المحب الطبري. وقد رُوي من حديث أَبِي أمامة -رضي الله عنه- نحو حديث أبي بن كعب -رضي الله عنه- دون التقييد بالخمس، أخرجه الواحدي في "تفسيره"، والخبران واهيان. انتهى (¬2). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لا حاجة إلى الجمع المذكور؛ لأن الجمع فرع ثبوت التعارض، ولا تعارض بين ما في الصحيح، والخبر الواهي، فتأمل بالإنصاف، والله سبحانه الهداي إلى سواء السبيل. (وَلَوْ كنْتُ مُتَّخِذًا) اسم فاعل من اتّخذ، وهو فعل يتعدّى إلى مفعولين، أحدهما بحرف الجرّ، فيكون بمعنى اختار واصطفى، كما قال تعالى {وَاتَّخَذَ قَومُ مُوسَى مِن ¬

_ (¬1) كيف يثبت، وقد قال في آخر كلامه: والخبران واهيان؟، فتبصّر. (¬2) "الفتح" 7/ 29.

بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} الآية [الأعراف: 148]، وقد سكت هنا عن أحد مفعوليها، وهو الذي دخل عليه حرف الجرّ، فكأنه قال: لو كنت متّخذًا من الناس خليلًا لاتخذت منهم أبا بكر. قاله القرطبيّ (¬1). (خَلِيلًا) وفي رواية أحمد: "لو كنت متخذًا خليلًا سوى الله حتى ألقاه". و"الخليل": فَعِيل بمعنى فاعل، وهو من الخلة بالضم، وهي الصداقة، والمحبة التي تخللت القلب، فصارت خلاله، قال في "الفتح": وهذا صحيح بالنسبة إلى ما في قلب إبراهيم من حب الله تعالى، وأما إطلاقه في حق الله تعالى فعلى سبيل المقابلة. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا فيه ما تقدّم في الخلّة، فتنبّه. والله تعالى أعلم. وقيل: الخلة أصلها الاستصفاء، وسمي بذلك؛ لأنه يوالى، ويعادي في الله تعالى، وخلة الله له نصره، وجعله إمامًا (¬2). وقيل: هو مشتق من الخلة -بفتح المعجمة - وهي الحاجة، سمي بذلك لانقطاعه إلى ربه، وقصره حاجته عليه. انتهى (¬3). وقال القرطبيّ: الخليل: الصديق المخلص، والْخُلّة بضم الخاء: الصداقة والمودّة. ويقال فيها أيضًا: خلالة بالضمّ والفتح والكسر، والْخَلّة بفتح الخاء: الفقر والحاجة، والخلّة بكسرها: واحدة خِلَل السيوف، وهي بطائن أغشيتها، والخلل: الفرجة بين الشيئين، والجمع خلال. وقد اختُلف في الخليل اسم إبراهيم عليه السلام من أيّ هذه المعاني والألفاظ أُخِذ؟ فقيل: إنه مأخوذ من الخلّة بمعنى الصداقة، وذلك أنه صَدَق في محبّة الله تعالى، وأخلص فيها حتى آثر محبّته على كلّ محبوباته، فبذل ماله للضيفان، وولده للقُرْبان، وجسده للنيران. وقيل: من الخلّة التي بمعنى الفقر والحاجة، وذلك أنه افتقر إلى الله تعالى في ¬

_ (¬1) "المفهم" 6/ 241 - 242. (¬2) فيه ما تقدّم، فتنبّه. (¬3) "الفتح" 6/ 448.

حوائجه، ولجأ إليه في فاقته، حتى لم يلتفت إلى غيره، بحيث آلت حاله إلى أن قال له جبريل، وهو في الهواء حين رُمي به في المنجنيق: ألك حاجة؟ فقال: أما إليه فلا. وقيل: من الخلل بمعنى الفرجة بين الشيئين، وذلك لما تخلّل قلبه من معرفة الله تعالى ومحبّته ومراقبته، حتى كأنه مُزجت أجزاء قلبه بذلك، وقد أشار إلى هذا المعنى بعض الشعراء، فقال [من الخفيف]: قَدْ تخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوح مِنِّي ... وَلذَا سُمِّيَ الخلِيلُ خَلِيلاَ ولذا جمع هذه المعاني، وأحسن من قال في الْخُلّة: إنها صفاء المودّة التي توجب الاختصاص بتخلّل الأسرار، والغنى عن الأغيار. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله (¬1). (لَاتَّخَذْتُ أبا بَكْرٍ خَلِيلًا) زاد في رواية لمسلم: "ولكنه أخي وصاحبي". ووقع في رواية غيره: "ولكنه أخي في الدين، وصاحبي في الغار" (إِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ الله (¬2)) وفي رواية مسلم: "وقد اتّخذ الله عز وجل خليلًا". وزاد في رواية غيره: "اتخذ إبراهيم خليلًا". قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدل على أن الله تعالى بلّغ درجة نبيّنا -صلى الله عليه وسلم- في الخلّة بإبراهيم عليه السلام غير أنه مكنه فيها ما لم يمكّن إبراهيم فيها، بدليل قول إبراهيم عليه السلام: "إنما كنت خليلًا من وراء وراء" (¬3) انتهى (¬4). وقال أيضًا: ومعنى هذا الحديث: أن أبا بكر -رضي الله عنه- كان قد تأهّل لأن يتّخذه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- خليلًا، لولا المانع الذي منع النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وهو أنه لما امتلأ قلبه بما تخلّله من معرفة الله تعالى، ومحبّته، ومراقبته، حتى كأنه مُزجت أجزاء قلبه بذلك، لم يتّسع قلبه لخليل آخر يكون كذلك فيه، وعلى هذا فلا يكون الخليل إلا واحدًا، ومن لم ينته إلى ذلك ممن تعلّق ¬

_ (¬1) "المفهم" 1/ 429 "كتاب الإيمان". (¬2) وأشار في هامش الهنديّة إلى أنه وقع في بعض النسخ: "خليل الرحمن". (¬3) أخرجه مسلم برقم (195) و (329). (¬4) "المفهم" 6/ 243 "كتاب النبوات".

القلب به، فهو حبيبٌ، ولذلك أثبت لأبي بكر، وعائشة، رضي الله عنهما أنهما أحبّ الناس إليه، ونفى عنهما الخلّة، وعلى هذا فالخلّة فوق المحبّة. وقد اختلف أرباب القلوب في ذلك، فذهب الجمهور إلى أن الخلّة أعلى؛ تمسّكًا بما ذكرناه، وهو متمسّكٌ قويٌّ ظاهرٌ. وذهب أبو بكر بن فُورَك إلى أن المحبّة أعلى، واستدلّ على ذلك بأن الاسم الخاصّ بمحمد -صلى الله عليه وسلم- الحبيب، وبإبراهيم الخليل، ودرجة نبيّنا -صلى الله عليه وسلم- أرفع، فالمحبّة أرفع. وقد ذكر القاضي عياض هذه المسألة في "كتاب الشفا" (¬1)، واستوفى فيها البحث، فلتنظر هناك انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله (¬2). (قَالَ وَكِيع) بن الجرّاح الراوي عن الأعمش، مفسرًا للجملة الأخيرة (يَعْني) أي يقصد -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "صاحبكم" (نَفْسَهُ) -صلى الله عليه وسلم-، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- هذا أخرجه مسلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (11/ 93) بهذا السند فقط، وأخرجه (مسلم) في "كتاب الفضائل" (6126) و (الترمذيّ) في "المناقب" (3655) و (الطيالسيّ) في "مسنده" (314) و (عبد الرزاق) في "مصنفه" (20398) و (الحميديّ) في "مسنده" (113) و (ابن سعد) في "الطبقات" 3/ 176 و (ابن أبي شيبة) في "مصنفه" 12/ 5 و (أحمد) في "مسنده" 1/ 377 و 389 و 408 و 412 و 433 و 434 و 437 و 439 و455 و 462. وفي "فضائل الصحابة" (155) و (156) و (157) و (158) و (159) و (160). و (النسائيّ) ¬

_ (¬1) راجع "الشفا" 1/ 409 وما بعدها. (¬2) "المفهم" 6/ 242 - 243 "كتاب النبوات".

في "فضائل الصحابة" من "الكبرى" (4) و"ابن حبّان" في "صحيحه" (6855) و (6856) و (أبو يعلى) في "مسنده" (5149) و (5180) و (5249) و (530) و (البغويّ) في "شرح السنّة" (3867). والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل أبي بكر الصدّيق -رضي الله عنه-، وهو واضح. 2 - (ومنها): بيان مكانة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عند ربّه، ورفعة منزلته على كلّ الخلق؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخبر، فقال عز وجل: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}، فأخبر -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث وغيره أنه نال تلك الدرجة، وزاد عليها، وذلك أن إبراهيم عليه السلام حينما يستشفع الناس به إلى ربهم في عرصات القيامة، يتوسّلون إليه بكون الله تعالى اتّخذه خليلًا، فيقول لهم: "إنما كنت خليلًا من وراء وراء"، فيعتذر إليهم، وأما نبيّنا -صلى الله عليه وسلم-، فيجيبهم بقوله: "أنا لها". 3 - (ومنها): بيان أن الخُلّة أرفع درجة من المحبّة، حيث تبرّأ -صلى الله عليه وسلم- إلى كلّ خليل من خُلّته، وقد أثبت محبته لغير واحد، فقد أخرج الشيخان في "صحيحيهما" من حديث عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَه على جيش ذات السَّلاسِل، فأتيته، فقلت: أَيُّ الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة"، فقلت: من الرجال؟ فقال: "أبوها"، قلت: ثم مَنْ؟ قال: "ثم عمر بن الخطاب"، فعد رجالًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 94 - (حَدَّثَنَا أبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبةَ، وعليّ بْنُ مُحَمّدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أبو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَال رَسُوُل الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا نَفَعَني مَالٌ قَطُّ مَا نَفَعَني مَالُ أَبِي بَكْرٍ"، فَبَكَى أبو بَكْرٍ، وَقَالَ: هَلْ أَنا وَمَالِي إِلا لَكَ يَا رَسُولَ الله). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (أبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان

الواسطيّ الأصل، نزيل الكوفة، ثقة حافظ، صاحب تصانيف [10]، تقدّم في 1/ 1. 2 - (عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطنافسيّ المذكور في السند الماضي. 3 - (أبو مُعَاوِيَةَ) هو: محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يهم في حديث غيره، من كبار [9] تقدّم في 1/ 3. 4 - (الْأَعْمَشُ) المذكور في السند الماضي. 5 - (أبو صالح) هو: ذكوان السمان الزيّات المدنيّ الثقة الثبت [3]، تقدم في 1/ 1. 6 - (أبو هريرة) الصحابيّ الشهير -رضي الله عنه- تقدّم في 1/ 1. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، كما سبق في السند الماضي. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير أبي صالح، وأبي هريرة، فمدنيّان. 4 - (ومنها): أن فيه أبا معاوية أحفظ من روى لحديث الأعمش بعد الثوريّ، والأعمش من أكثر من روى عن أبي صالح. 5 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة -رضي الله عنه- أحفظ من روى الحديث في دهره، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: مَا) نافية (نَفَعَني مَالٌ قَطُّ) بفتح القاف والطاء المشدّدة، ويجوز ضمهما، ويجوز تخفيف الطاء، ومعناه الزمن الماضي (مَا) مصدريّة (نَفَعَني مَالُ أَبِي بَكْرٍ) الصدّيق -رضي الله عنه- أي لم ينفعني مال أحد من الناس مثل ما نفعني مال أبي بكر -رضي الله عنه- (فَبَكَى أبو بَكْرٍ) -رضي الله عنه-، وسبب بكائه هو ما أخرجه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس، وقال: "إن الله خَيَّر عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله"، قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه، أن يخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عبد خُيِّر، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو المخيرَ،

وكان أبو بكر أعلمنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن من أمن الناس عليَّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذا خليلًا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أُخُوّة الإسلام ومودته، لا يَبْقَيَنَّ في المسجد باب إلا سُدَّ إلا باب أبي بكر". ويحتمل أن يكون بكاؤه فرحًا بقول النبيّ -صلى الله عليه وسلم- هذا. والله تعالى أعلم. (وَقَالَ) أبو بكر -رضي الله عنه- (هَلْ أنا وَمَالِي إِلا لَكَ يَا رَسُولَ الله) قاله -رضي الله عنه- مراعاة للأدب، وتواضعًا في حضرته -صلى الله عليه وسلم-، يعني أن نفسه وماله كله للنبيّ -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه أولى به من نفسه، فقد قال الله عز وجل: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} الآية [الأحزاب: 6]، وقال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم"، متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي سنده الأعمش، وهو مدلّسٌ، وقد عنعنعه؟. [قلت]: إنما صحّحته؛ لما ذكره الإمام الذهبيّ رحمه الله في "ميزان الاعتدال" في ترجمته، قال: وهو يدلّس، وربما دلّس عن ضعيف، ولا يُدْرَى به، فمتى قال: حدّثنا فلا كلام، ومتى قال: "عن" تطرّق إليه احتمال التدليس، إلا في شيوخ له أكثر عنهم، كإبراهيم، وأبي وائل، وأبي صالح السمّان، فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتّصال، انتهى (¬1). وهذا الحديث من هذا النوع، فقد رواه عن أبي صالح السمّان، وهو ممن أكثر عنه، فقد ثبت عنه أنه قال: كتبت عن أبي صالح ألف حديث، كما ذكره الذهبيّ في "السير" (¬2)، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) "ميزان الاعتدال" 2/ 224. (¬2) "سير أعلام النبلاء" 6/ 230.

(المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (11/ 94) بهذا السند فقط، وأخرجه (الترمذيّ) من طريق يزيد الأوديّ، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- سيأتي لفظه قريبًا (3661)، و (النسائي) في "فضائل الصحابة" من "الكبرى" (9) وأخرجه (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" (12/ 6 - 7) و (أحمد) في "مسنده" (2/ 253) و (366) وفي "فضائل الصحابة" (25) و (32) و (ابن أبي عاصم) في "السنّة" (1229) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (6858)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل أبي بكر الصدّيق -رضي الله عنه-. 2 - (ومنها): ما كان له من الخصوصية التي ليست لغيره -رضي الله عنه-، وهي مواساته للنبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وقد أثنى عليه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بذلك في غير ما حديث، فقد تقدّم فيما أخرجه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدريّ: "إن من أمن الناس عليَّ في صحبته وماله أبا بكر ... " الحديث. وأخرج الترمذيّ، من طريق يزيد الأوديّ، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما لأحد عندنا يَدٌ إلا وقد كافأناه، ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدًا يكافيه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا، لاتخذت أبا بكر خليلًا، ألا وإن صاحبكم خليل الله". وأخرج الطبرانيّ من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، مرفوعًا: "ما أحد أعظم عندي يدًا من أبي بكر، واساني بنفسه، وماله، وأنكحني ابنته". وأخرج ابن عساكر عن أنس -رضي الله عنه- رفعه:" إن أعظم الناس علينا مَنّا أبو بكر، زوّجني ابنته، وواساني بنفسه، وإن خير المسلمين مالًا أبو بكر، أعتق منه بلالًا، وحملني إلى دار الهجرة". وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله في شرح حديث أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه- المتقدّم: ما نصّه: فقد تضمّن هذا الكلام أن لأبي بكر -رضي الله عنه- من الفضائل والحقوق ما لا

يشاركه فيها مخلوق، وقال في تفسير الحديث: معناه: أن أبا بكر -رضي الله عنه- له من الحقوق ما لو كانت لغيره لامتنّ بها، وذلك أنه -رضي الله عنه- بادر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بالتصديق، والناس كلهم مكذّبون، وبنفقة الأموال العظيمة، والناس يبخلون، وبالملازمة والصاحبة، والناس ينفرون، وهو مع ذلك بانشراح صدره، ورسوخ علمه يعلم أن لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- الفضل والإحسان والمنّة والامتنان، لكن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بكرم خُلُقه، وجميل معاشرته اعترف بالفضل لمن صدر عنه، وشكر الصنيعة لن وُجدت منه؛ عملًا بشكر المنعم؛ ليسنّ، ولِيُعَلِّم، وهذا مثل ما جرى له -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين مع الأنصار -رضي الله عنهم حيث جمعهم، فذكّرهم بما له عليهم من المِنَن، ثم اعترف لهم بما لهم من الفضل الجميل الحسن. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله (¬1). [فائدة]: جاء عن عائشة رضي الله عنها بيان مقدار المال الذي أنفقه أبو بكر -رضي الله عنه- في سبيل نصرة النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فقد روى ابن حبّان من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "أنفق أبو بكر على النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أربعين ألف درهم". وروى الزبير بن بكّار عن عروة عن عائشة رضي الله عنها: "أنه لمّا مات ما ترك دينارًا ولا درهمًا" (¬2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 95 - (حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الحسَنِ بْنِ عمارَةَ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الحارِثِ، عَنْ عِليٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "أبو بَكْرٍ وَعُمَرُ سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الجنَّةِ، مِنَ الْأَوَّلينَ وَالْآخِرِينَ، إِلَّا النَّبِيِّينَ وَالمرْسَلَينَ، لَا تُخْبِرْهُمَا يَا عِليُّ مَا دَامَا حَيَّيْنِ"). ¬

_ (¬1) "المفهم" 6/ 240 - 241. (¬2) راجع "الفتح" 7/ 17 - 18.

رجال هذا الإسناد: سبعة: 1 - (هشام بن عّمار) السلميّ الدمشقيّ الخطيب، صدوق، كبر فتلقن، فحديثه القديم أصحّ، من كبار [10] 1/ 5. 2 - (سفيان) بن عيينة الإمام الثقة الحجة الثبت [8] 2/ 13. 3 - (الحسن بن عمارة) بن المُضَرِّب البجليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، كان على قضاء بغداد في خلافة المنصور، متروك [7]. روى عن بريد بن أبي مريم وحبيب بن أبي ثابت، وشبيب بن غَرْقَدة، والحكم بن عتيبة، وابن أبي مليكة، والزهري، وفراس بن يحيى الهمداني، وغيرهم. وروى عنه السفيانان، وعبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني، وأبو معاوية، وعبد الرزاف، وخلاد بن يحيى، وغيرهم. قال النضر بن شميل عن شعبة: أفادني الحسن بن عمارة سبعين حديثًا عن الحكم، فلم يكن لها أصل. وقال ابن عيينة: كان له فضل، وغيره أحفظ منه. وقال الطيالسي: قال شعبة: ائت جرير بن حازم، فقل له: لا يحل لك أن تروي عن الحسن بن عمارة، فإنه يكذب، قال أبو داود: فقلت لشعبة: ما علامة ذلك؟ قال: روى عن الحكم أشياء فلم نجد لها أصلًا، قلت للحكم: صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- على قتلى أحد؟ قال: لا. وقال الحسن: حدثني الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى عليهم ودفنهم. وقلت للحكم: ما تقول في أولاد الزنا؟ قال: يُصلّى عليهم، قلت: من حديث من يُروَى؟ قال قال: يُروَى عن الحسن البصري، وقال الحسن بن عمارة: حدثني الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن علي. وقال الحسن بن عمارة: حدّثني الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن عليّ سبعة أحاديث، فسألت الحكم عنها، فقال: ما سمعت منها شيئًا. وقال عيسى بن يونس: الحسن بن عمارة شيخ صالح، قال فيه شعبة، وأعانه عليه سفيان. وقال ابن المبارك: جرحه عندي شعبة وسفيان، فبقولهما تركت حديثه. وقال أيوب بن سُويد الرملي: كان شعبة يقول: إن الحكم لم يحدث عن يحيى بن

الجزار إلا ثلاثة أحاديث، والحسن بن عمارة يحدث عنه أحاديث كثيرة. وقال أبو بكر المروزي عن أحمد: متروك الحديث، وكذا قال أبو طالب عنه، وزاد: قلت له: كان له هَوًى؟ قال: لا، ولكن كان منكر الحديث، وأحاديثه موضوعة، لا يكتب حديثه، وقال مرة: ليس بشيء. وقال ابن معين: لا يكتب حديثه، وقال مرة: ضعيف. وقال مرة: ليس حديثه بشيء. وقال عبد الله بن المديني، عن أبيه: ما أحتاج إلى شعبة فيه، أمره أبين من ذلك، قيل له: كان يغلط؟ فقال: أيّ شيء كان يغلط؟ كان يضع. وقال أبو حاتم، ومسلم، والنسائي، والدارقطني: متروك الحديث. وقال الساجي: ضعيف متروك، أجمع أهل الحديث على ترك حديثه. وقال الجوزجاني: ساقط. وقال جزرة: لا يكتب حديثه. وقال عمرو بن علي: رجل صالح، صدوق، كثير الوهم والخطإ، متروك الحديث. وقد ردّ الحافظ في "التهذيب" على صاحب الأصل حيث رمز له بأن البخاريّ علّق له، فراجع كلامه (¬1). أخرج له الترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (95) وحديث (615) "لا يغتسلنّ أحدكم بأرض فلاة، ولا فوق سطح ... " الحديث. 4 - (فراس) -بكسر أوله، وبمهملة- ابن يحيى الهَمْدانيّ الخارفيّ -بمعجمة، وفاء- أبو يحيى الكوفيّ المكْتِب، صدوقٌ ربما وَهِمَ [6]. روى عن الشعبي، وعطية العَوْفي، وأبي صالح السمان، ومُدرِك بن عُمارة. وروى عنه منصور، وهو من أقرانه، وزكرياء بن أبي زائدة، وشعبة، وشيبان، وسفيان الثوري، والحسن بن عمارة، وأبو عوانة، وشريك، وغيرهم. قال أحمد، وابن معين، والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: شيخ ما بحديثه بأس. وقال ابن المديني، عن يحيى بن سعيد: ما بلغني عنه شيء، وما أنكرت من حديثه إلا ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" 1/ 408.

حديث الاستبراء. وقال العجليّ: كوفي ثقة، من أصحاب الشعبي، في عداد الشيوخ، ليس بكثير الحديث. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال ابن عمار: ثقة. وقال عثمان -يعني ابن أبي شيبة-: صدوق، قيل له: ثبت؟ قال: لا. وقال يعقوب بن شيبة: كان مُكْتِبًا، وفي حديثه لين، وهو ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة تسع وعشرين ومائة، وكان متقنًا. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، هذا (95) و (1621) و (1891) و (2754) و (3780) و (3895). 5 - (الشعبيّ) هو: عامر بن شَرَاحيل الهمداني، أبو عمرو الكوفيّ الإمام الحجة الثبت [3] تقدّم في 1/ 11. 6 - (الحارث) بن عبد الله الأعور الْهَمْدَانيّ الخْاَرِفِيّ، أبو زهير الكوفيّ، ويقال: الحارث بن عبيد، ويقال: الحُوتيّ -بضم المهملة، وبالمثناة فوقُ- وحُوت بَطْنٌ من هَمْدَان، صاحب عليّ -رضي الله عنه-، كذّبه الشعبيّ في رأيه، وفي حديثه ضعف، ورُمي بالرفض [2]. روى عن علي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وبُقَيرة امرأة سلمان. وروى عنه الشعبي، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو الْبَخْتَريّ الطائي، وعطاء بن أبي رباح، وعبد الله بن مرة، وجماعة. قال مسلم في "مقدمة صحيحه": ثنا قتيبة، ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي: حدثني الحارث الأعور، وكان كذّابًا. وقال منصور، ومغيرة، عن إبراهيم: إن الحارث اتُّهِم. وقال أبو معاوية، عن محمد بن شيبة الضبي، عن أبي إسحاق: زعم الحارث الأعور، وكان كذّابًا. وقال يوسف بن موسى، عن جرير: كان الحارث زَيْفًا. وقال أبو بكر بن عياش: لم يكن الحارث بأرضاهم. وقال الثوري: كنا نعرف فضل حديث عاصم بن ضمرة على حديث الحارث. وقال عمرو بن علي: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عنه، غير أن يحيى حدثنا يومًا عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن الحارث -يعني

عن علي-: "لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر"، فقال: هذا خطأ من شعبة، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن عبد الله، وهو الصواب. وقال أبو خيثمة: كان يحيى بن سعيد، يحدث عن حديث الحارث، ما قال فيه أبو إسحاق: سمعت الحارث. وقال الجوزجاني: سألت علي بن المديني عن عاصم والحارث، فقال: مثلك يسأل عن ذا، الحارث كذّاب. وقال الدوري، عن ابن معين: الحارث قد سمع من ابن مسعود، وليس به بأس. وقال عثمان الدارمي، عن ابن معين: ثقة. قال عثمان: ليس يتابع ابن معين على هذا. وقال أبو زرعة: لا يحتج بحديثه. وقال أبو حاتم: ليس بقوي، ولا ممن يحتج بحديثه. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال في موضع آخر: ليس به بأس. وقال مجالد: قيل للشعبي: كنت تختلف إلى الحارث؟ قال: نعم أختلف إليه أتعلم منه الحساب، كان أحسب الناس. وقال أشعث بن سَوّار، عن ابن سيرين: أدركت الكوفة، وهو يُقَدِّمُون خمسة، من بدأ بالحارث ثنى بعَبِيدة، ومن بدأ بعَبيدة ثنى بالحارث. وقال علي بن مجاهد، عن أبي جَنَاب الكلبيّ، عن الشعبي: شهد عندي ثمانية من التابعين الخُيَّر، فالخُيَّر، منهم سُويد بن غَفَلة، والحارث الهمداني، حتى عد ثمانية أنهم سمعوا عليّا يقول، فذكر خبرًا. وقال ابن أبي داود: كان الحارث أفقه الناس، وأحسب الناس، وأفرض الناس، تعلّم الفرائض من علي. وقال البخاري في "التاريخ" عن أبي إسحاق، أن الحارث أوصى أن يصلي عليه عبد الله بن يزيد الخطمي. وقال الدارقطني: الحارث ضعيف. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ. وقال ابن حبان: وكان الحارث غاليًا في التشيع، واهيًا في الحديث، مات سنة (65) وكذا ذكر وفاته إسحاق القراب في "تاريخه". أخرج له الأربعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب (17) حديثًا، وعند النسائيّ حديثان أحدهما أورده مقرونًا، والآخر متابعة. 7 - (عليّ) بن أبي طالب -رضي الله عنه-، تقدّم في 2/ 20. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث: (عَنْ عَليٍّ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: أبو بَكْرٍ) الصدّيق (وَعُمَرُ) الفاروق (سَيِّدَا كهُولِ أَهْلِ الجنَّةِ) جمع كهل -بفتح، فسكون- قال ابن الأثير رحمه الله: الكهل من الرجال من زاد على ثلاثين سنة إلى الأربعين، وقيل. من ثلاثين إلى تمام الخمسين، وقد اكتهل الرجل، وكاهل: إذا بلغ الْكُهُولة، فصار كَهْلًا. وقيل: أراد بالكهل هنا الحليم العاقل: أي إن الله يُدخل أهل الجنة الجنة حُلَماء عُقَلاءَ. انتهى (¬1). وقال الفيّوميّ رحمه الله: الكهل من جاوز الثلاثين، ووخَطَه (¬2) الشيب، وقيل: من بلغ الأربعين، وعن ثعلب في قوله تعالى: (وَكهلًا) قال: ينزل عيسى عليه السلام إلى الأرض كهلًا ابن ثلاثين سنة. انتهى (¬3). وقال الطيبيّ: إنما عبّر بـ "كهول" اعتبارًا لما كانوا عليه في الدنيا، وإلا فليس في الجنّة كهل، كقوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2]. [فائدة]: نظمت الأسماء التي يُسمّى بها الإنسان من حين كونه جنينا إلى أن يصير هرمًا، فقلت: اعْلَمْ هَدَاكَ اللهُ أَنَّ الْوَلَدَا ... دَعَوْهُ بِالجنينِ حَتَّى يُولَدَا ثُمَّ صبِيًّا لِلْفِطَامِ يُدْعَى ... ثُمَّ إِلَى سَبع غُلاَمًا يُرْعَى وَيَافِعٌ لِعَشْرَةٍ حَزَوَّرُ ... لخَمْسَ عَشْرَةَ أتاكَ الخُبَرُ وَقُمُدًا لِلْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ عِ ... عَنَطْنَطًا إِلَى ثَلاَثِينَ دُعِي ثُمَّ لأَرْبَعِينَ قُلْ مُمِلُّ ... ثُمَّ إِلَى خَمْسِينَ قَالُوا كَهْلُ إِلَى ثَمانِينَ بِشَيْخ يُعْلَى ... ثُمَّ إِذَا زَادَ بِهِمٍّ يُجلَى ¬

_ (¬1) النهاية" 4/ 213. (¬2) وخطه الشيب، من باب وعد: خالطه، أو فشا شيبه. اهـ "ق". (¬3) "المصباح المنير" 2/ 543.

أَوْرَدَهُ الحافِظُ في الْفَتْح كَذَا ... فَاحْفَظْ حَمَاكَ اللهُ مِنْ كلِّ أذى (مِنَ الْأَوَّلينَ) أي من صالحي الأمم السابقة، قال القاري: فيكونان أفضل من أصحاب الكهف، ومؤمن آل فرعون، ومن الخضر أيضًا على القول بأنه وليّ. انتهى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ أن الخضر عليه السلام نبيّ؛ لأنه ظاهر القرآن الكريم، فقد قال الله عز وجل: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} الآية [الكهف: 65] , وقال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} الآية [الكهف: 82]، وأصرح من هذا كله قوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} الآية [الكهف: 82]، وقال فيما أخرجه الشيخان من حديثه الطويل: "يا موسى إني على علم من علم الله، علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله لا أعلمه أنا ... " الحديث، فهذه النصوص واضحة جليّة في كونه نبيّا فعل تلك الأفعال بأمر من الله، لا من عند نفسه. فمن فعل شيئًا مما يُخالف الشرع محتجّا بفعل الخضر عليه السلام، زاعمًا أنه وليّ، وليس بنبيّ، فقد ضلّ ضلالا مبينًا، وهؤلاء هم الذين يدّعون التصوف، ويستدلون على فعل ما تهواه أنفسهم مما يزعمون أنه تُكشف لهم حقائق الأشياء، فإذا أُنكر عليهم يحتجون بقصّة الخضر مع موسى عليهما الصلاة والسلام، فيا خسارتهم، ويا ويلهم {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} [الطارق: 9، 10]، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم. (وَالْآخِرِينَ) أي من صالحي هذه الأمة (إِلَّا النَّبِيِّينَ وَالمرْسَلِينَ) صلوات الله تعالى عليهم وسلامه، قال القاري: فخرج عيسى عليه السلام، وكذا الخضر على القول بنبوّته. قال الجامع: قد قدّمت أن هذا هو الحقّ، والصواب، وما عداه مخالف لظاهر النصوص، فلا يلتفت إليه. والله تعالى أعلم. وفي رواية أحمد: "سيدا كهول الجنة وشبابها بعد النبيين والمرسلين". وأخرجه المخلص الذهبيّ، ولم يقل: "شبابها"، وزاد: قال عليّ:" فما أخبرت به حتى ماتا، ولو

كانا حيين ما حدّثت به" (¬1). (لَا) ناهية، ولذا جُزم بها قوله (تُخْبِرْهُمَا يَا عَليُّ مَا) مصدريّة ظرفيّة (دَامَا حَيَّيْنِ) أي مدّة دوامهما في الدنيا، قال السنديّ رحمه الله: ذُكر لإفادة التأبيد؛ لئلا يُظَنّ تخصيص النهي بالحال، وإلا فلا يُتصوّر الإخبار بعد الموت، انتهى (¬2). وقال القاري: قوله: "لا تخبرهما" ربما سبق إلى الوهم أنه -صلى الله عليه وسلم- خشِي عليهما العجب والأمن، وذلك وإن كان من طبع البشرية، إلا أن منزلتهما عنده -صلى الله عليه وسلم- أعلى من ذلك، وإنما معناه: والله لا تخبرهما يا عليّ قبلي لأبشّرهما بنفسي، فيبلغهما السرور مني، انتهى (¬3). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الخشية التي استبعدها القاري هي الأقرب والأوضح، يؤئد ذلك قول عليّ -رضي الله عنه-: "فما أخبرت به حتى ماتا إلخ", والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عليّ -رضي الله عنه- هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده الحسن بن عُمارة، وهو متروك، والحارث، وهو ضعيف عند الجمهور؟. [قلت]: الحديث له طرق، فقد جاء عن عليّ -رضي الله عنه- من غير هذا الطريق، وعن عدد من الصحابة -رضي الله عنهم-، فمنهم أنس بن مالك، وأبو جُحَيفة، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدريّ، وابن عمر -رضي الله عنه-. فأما حديث عليّ -رضي الله عنه- من غير طريق المصنّف، فقد أخرجه الدولابيّ في "الكنى" ¬

_ (¬1) "المرقاة" 10/ 423. (¬2) "شرح السنديّ" 73. (¬3) "المرقاة" 10/ 423.

2/ 99، وابن عديّ 100/ 2 وعبد الغنيّ المقدسيّ في "الإكمال" 1/ 14/ 2، وابن عساكر 9/ 310/ 1 من طرُق عن عاصم بن بَهْدلة عن زرّ بن حُبيش، عنه، وقال المقدسيّ: هذا حديث مشهور، له طرق عن جماعة، وروي عن جماعة من أصحاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. انتهى. وهذا إسناد حسن من أجل عاصم، فإنه حسن الحديث. وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد "المسند" 1/ 80 حدّثني وهب بن بقيّة الواسطيّ، ثنا عمر بن يونس اليماميّ، عن عبد الله بن عمر اليماميّ، عن الحسن بن زيد ابن حسن، حدثني أبي، عن أبيه، عن عليّ -رضي الله عنه-، قال: كنت عند النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فأقبل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال: "يا عليّ هذان سيّدا كهول أهل الجنة، وشبابها بعد النبيين والمرسلين". وهذا إسناد حسن، رجال كلهم ثقات معروفون، غير الحسن بن زيد بن الحسن ابن عليّ بن أبي طالب، روى عنه جماعة، ووثقه ابن سعد، والعجليّ، وابن حبان، وقال ابن معين: ضعيف، وقال ابن عديّ: أحاديثه عن أبيه أَنْكَرُ مما رَوَى عن عكرمة، وقال في "التقريب": صدوقٌ يَهِمُ، وكان فاضلًا، وعبد الله بن عمر اليماميّ، هو عبد الله بن محمد اليماميّ نزيل بغداد المعروف بابن الروميّ، ويقال: اسم أبيه عمر، وهو من رجال مسلم. [تنبيه]: قال الشيخ الألباني: في "الصحيحة" 2/ 489 بعد ذكر الكلام في الحسن ابن زيد: ما نصّه: وبقية الرجال مترجمون في "التهذيب"، غير عمر بن يونس اليماميّ، فترجمه ابن أبي حاتم 3/ 1/ 142 - 143 إلى آخر كلامه. وهذا فيه نظر، فإن عمر بن يونس من رجال الجماعة، مترجم في "التهذيب" وغيره، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم. وأما حديث أنس -رضي الله عنه-، فقد أخرجه الترمذيّ في "جامعه"، ونصّه: 3597 - حدثنا الحسن بن الصباح البزار، حدثنا محمد بن كثير، عن الأوزاعي،

عن قتادة، عن أنس، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-لأبي بكر وعمر- "هذان سيدا كهول أهل الجنة، من الأولين والآخرين، إلا النبيين والمرسلين، لا تخبرهما يا علي". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. ورجال هذا السند ثقات، رجال الشيخين، غير محمد بن كثير، وهو الصنعاني المصّيصيّ (¬1)، قال في "التقريب": صدوقٌ كثير الغلط. وأما حديث أبي جحيفة -رضي الله عنه- فسيأتي للمصنّف برقم (100) بإسناد حسن، وسيأتي الكلام عليه هناك، إن شاء الله تعالى. وأما حديث جابر -رضي الله عنه- فرواه الطبرانيّ في "الأوسط" عن شيخه المقدام بن داود، وقد قال ابن دقيق العيد: إنه ثقة، وضعفه النسائيّ وغيره، وبقيّة رجاله رجال الصحيح، كما قال الهيثميّ في "مجمع الزوائد" 9/ 53. وروي أيضًا من حديث أبي سعيد الخدريّ، ومن حديث ابن عمر -رضي الله عنه-، لكن الأسانيد إليهما ضعاف، فنكتفي بما سبق، ففيه الكفاية ولله الحمد. والحاصل أن الحديث بمجموع هذه الطرق صحيح بلا ريب؛ لأن بعضها حسن لذاته، وبعضها يُستشهد به (¬2). والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (11/ 95) بهذا السند فقط، وأخرجه (الترمذيّ) في "المناقب" (3666) و (الخطيب البغداديّ) في "تاريخه" (10/ 192) وقد تقدّم تمام التخريج في المسألة السابقة، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) وقع في النسخ المطبوعة من "جامع الترمذيّ" أنه العبديّ، وليس ذلك في النسخة الهنديّة، والظاهر أنه غلط، بل هو المصيصي، كما نصّ عليه في "تحفة الأشراف" 1/ 340. (¬2) راجع "السلسلة الصحيحة" للشيخ الألباني رحمه الله 2/ 487 - 493 وراجع أيضًا ما كتبه محقّق "مسند أحمد" 2/ 40 رقم (602).

(المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان فضل أبي بكر -رضي الله عنه-، وهو واضح. 2 - (ومنها): أن فيه بيان فضل الشيخين، وأنهما أفضل الأولين والآخرين، سوى النبيين والمرسلين. 3 - (ومنها): بيان أنهما من أهل الجنّة، فنقطع لهما بذلك؛ لهذا النصّ والنصوص المتقدّمة في الباب الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه الرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 96 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ الله، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَال: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى يَرَاهُمْ مَنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، كما يُرَى الْكَوْكَبُ الطَّالِعُ في الأفقِ مِنْ آفَاقِ السماءِ، وَإِنَّ أبا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ، وَأَنْعَما"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الله) بن حَنَش -بفتح المهملة، والنون، بعدها معجمة- ويقال: ابن محمد بن حَنَش، ويَقال: ابن عثمان الأوديّ الكوفيّ، ثقة [10]. روى عن أبيه عبد الله بن حنش الأودي، وأبي بكر بن عياش، ووكيع، وأبي أسامة، وأبي معاوية، وإسماعيل بن محمد الطَّلْحي، وعدة. وروى وعنه ابن ماجه، وابن وارة، وأحمد بن يحيى بن زهير، وأبو حاتم، وابن خزيمة، وابن أبي داود، وعبد الرحمن بن أبي حاتم، وبدر بن الهيثم القاضي، وآخرون. قال أبو زرعة: رأيت محمد بن مسلم يُعَظِّم شأنه، ويُطنِب في ذكره. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال ابن أبي حاتم: صدوق ثقة (¬1). وذكره ابن حبان في "الثقات". ¬

_ (¬1) هكذا في "الجرح والتعديل" 6 /الترجمة (1355): صدوق ثقة.

تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب (29) حديثًا. [تنبيه]: عمرو بن عبد الله هذا ثقة باتّفاق، وقد تفرّد به المصنّف، وهذا يبطل قول من قال: إن الرجال الذين انفرد بهم ابن ماجه عن الكتب الخمسة فيهم ضعف، فتنبّه لهذه الفائدة، فإنها نافعة جدًّا. والله تعالى أعلم. 2 - (عطيّة بن سعد) بن جُنادة الْعَوْفيّ الجدَليّ، أبو الحسن الكوفيّ، صدوقٌ يخطىء كثيرًا، وكان شيعيّا مدلّسًا [3] تقدّم في 4/ 37. 3 - (أبو سعيد الخدريّ) سعد بن مالك بن سِنَان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدّم في 4/ 37. والباقون تقدّموا قريبًا. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-:" إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى) أي من أهل الجنة. ولفظ أبي داود: إن الرجل من أهل عليين، لَيُشرِف على أهل الجنة، فتضيء الجنة لوجهه، كأنها كوكب دُرّيّ، وإن أبا بكر وعمر لمنهم، وأنعما". ولفظ الترمذيّ: "إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم، كما ترون النجم الطالع في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم، وأنعما". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، روي من غير وجه، عن عطية، عن أبي سعيد. (يَرَاهُمْ مَنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ): من بفتح الميم اسم موصول فاعل "يرى"، و"أسفل منهم" منصوب على الظرفيّة متعلّق بفعل محذوف صلة لـ "من": أي يراهم الذين كانت منزلتهم أسفل من منزلتهم (كَما يُرَى) بالبناء للمفعول، ونائب فاعله قوله (الْكَوْكَبُ الطَّالِعُ في الأُفقِ) بضمّتين، ويجوز تسكين الثاني للتخفيف: أي ناحيتها (مِنْ آفَاقِ السَّمَاءِ) بمدّ الهمزة جمع أُفُق، وفي رواية البغويّ في "شرح السنّة" رقم (3893) "كما ترون الكوكب الدّرّيّ"، وهو بضم الدال، ويكسر، وتشديد التحتانيّة، ويُهمز أيضا: أي

المضيء كالدّرّ، أو الدافع بنوره ظلمة ما حوله. قاله القاري (¬1). (وَإِنَّ أبا بكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ) أي من الذين يراهم الأسفلون كما يرون الكوكب الطالع في الأفق (وَأَنْعَما) أي زادا على تلك المرتبة والمنزلة. وقال ابن الأثير رحمه الله: أي زادا وفضلا، يقال: أحسنت إليّ، وأنعمتَ: أي زدتَ عليّ الإنعام. وقيل: صارا إلى النعيم، ودخلا فيه، كما يقال: أشمل: إذا دخل في الشمال، ومعنى قولهم: أنعمتُ على فلان: أي أصرت إليه نعمةً. انتهى (¬2). وقال القاري: هو عطف على المقدّر في "منهم": أي استقرّا منهم، وأَنْعَمَا. انتهى (¬3). وقال السيوطيّ في "حاشية الترمذيّ": في "تاريخ ابن عساكر" في آخر الحديث: "فقلت لأبي سعيد: وما أنعما؟ قال: هما أهل لذلك". وفي رواية أخرى: "وحقّ لهما ذلك". ومثله عن سفيان بن عيينة. انتهى (¬4)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه- هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي سنده عطيّة الْعَوْفيّ، وهو ضعيف؟. [قلت]: الحديث له طرق، فقد أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 3/ 26 و 61 من طريق مُجالد، عن أبي الودّاك جَبْر بن نَوْف، ومجالد ضعيف، وقد أخرج له مسلم مقرونًا بغيره، فهو صالح للمتابعات، ويشهد للحديث ما أخرجه الشيخان من طريق عطاء بن ¬

_ (¬1) "المرقاة شرح المشكاة" 10/ 421. (¬2) "النهاية" 5/ 83. (¬3) "المرقاة" 10/ 421. (¬4) راجع "شرح السنديّ" 1/ 73.

يسار، عن أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه-، وليس فيه: "وإن أبا بكر وعمر منهم، وأنعما"، ولفظه: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما يتراءون الكوكب الدُّرّيّ الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب؛ لتفاضل ما بينهم"، قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء، لا يبلغها غيرهم؟ قال: "بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين". والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (11/ 96) بهذا السند فقط، و (أبو داود) في "سننه" (3987) و"الترمذيّ) في "جامعه" (3658)، و (الحميديّ) في "مسنده" (755)، و (أحمد) في "مسنده" (3/ 27 و 61 و 72 و 93 و 98)، و (عبد بن حميد) في "مسنده" (887)، و (أبو يعلى) في "مسنده" (1130) و (1299)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل أبي بكر -رضي الله عنه-، وهو واضح. 2 - (ومنها): بيان فضل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أيضًا. 3 - (ومنها): بيان تفاوت درجات أهل الجنّة تفاوتًا بعيدًا بحيث يكون كما بين السماء والأرض. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]. اللهم اجعلنا من أهل فضلك العظيم، ولا تحرمنا منه بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين. آمين آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 97 - (حَدَّثَنَا عِليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الملِكِ بْنِ عُمَيْر، عَنْ مَوْلًى لِرِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ

رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمانِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنِّي لَا أَدْرِي مَا قَدْرُ بَقَائِي فِيكُمْ، فَاقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي، وَأَشَارَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ"). رجال هذا الإسناد: تسعة: 1 - (محمد بن بشّار) العبديّ، أبو بكر البصريّ المعروف ببندار، ثقة [10] 1/ 6. 2 - (مؤمّل) -بوزن محمد مهموزًا- ابن إسماعيل، العدويّ، مولى آل الخطاب، وقيل: مولى بني بكر، أبو عبد الرحمن البصريّ، نزيل مكّة، صدوقٌ سيّىء الحفظ، من صغار [9]. روى عن عكرمة بن عمار، وأبي هلال الراسبي، ونافع بن عمر الجُمَحي، وشعبة، والحمادين، والسفيانين، وغيرهم. وروى عنه أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعلي بن المديني، وأبو موسى، وبندار، وأبو كريب، وغيرهم. قال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: أيُّ شيء حاله؟ فقال: ثقة، قلت: هو أحب إليك أو عبيد الله -يعني بن موسى- فلم يُفَضِّل. وقال أبو حاتم: صدوق شديد في السنة، كثير الخطإ. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال غيره: دَفَن كتبه، فكان يحدث من حفظه، فكثر خطؤه. وقال الآجري: سألت أبا داود عنه، فعظّمه، ورفع من شأنه، إلا أنه يَهِمُ في الشيء. وقال يعقوب بن سفيان: مؤمل أبو عبد الرحمن شيخ جليل سُنّي، سمعت سليمان بن حرب يحسن الثناء عليه، كان مَشْيَخَتنا يوصون به إلا أن حديثه لا يُشبه حديث أصحابه، وقد يجب على أهل العلم أن يَقِفوا عن حديثه، فإنه يروي المناكير عن ثقات شيوخه، وهذا أشد، فلو كانت هذه المناكير عن الضعفاء لكنا نجعل له عُذْرًا. وقال الساجيّ: صدوق كثير الخطإ، وله أوهام يطول ذكرها. وقال ابن سعد: ثقة كثير الغلط. وقال ابن قانع: صالح يخطئ. وقال الدارقطني: ثقة كثير الخطإ. وقال إسحاق بن راهويه: حدثنا مؤمل بن إسماعيل ثقة.

وقال محمد بن نصر المروزي: المؤمل إذا انفرد بحديث وجب أن يُتوقف، ويُتَثَبَّت فيه؛ لأنه كان سيء الحفظ كثير الغلط. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أخطأ، مات يوم الأحد لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة ست ومائتين. وهكذا أرّخه البخاري عن ابن أبي بَزّة. قال البخاري: أما ابنه فقال: نحن من صَلِيبة كنانة، قال: وحدّثني من أثق به أنه مولى لبني بكر. أخرج له البخاري في التعاليق، وأبو داود في "القدر"، والترمذيّ، والنسائيّ، والمصنّف. وله عنده في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (97) و (2013) و (2017) و (2919). 3 - (سفيان) بن سعيد الثوريّ الإمام الحجة المشهور [7] 5/ 41. 4 - (عبد الملك بن عمير) بن سُويد بن حارثة القرشيّ، ويقال: اللَّخْميّ، أبو عمرو، ويقال: أبو عمر الكوفيّ المعروف بالقِبْطيّ، حليف بني عَدِيّ، ويقال له: الْفَرَسيّ -بفتح الفاء والراء، ثم مهملة- نسبة إلى فَرَس له سابق، كان يقال له: الْقِبطيّ -بكسر القاف، وسكون الموحّدة- وربّما قيل ذلك أيضًا لعبد الملك، ثقة فقيه، تغيّر حفظه، وربّما دلّس [3]. رأي عليا وأبا موسى، وروى عن الأشعث بن قيس، وجابر بن سمرة، وجندب ابن عبد الله البجلي، وجرير، وعبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة، وغيرهم. وروى عنه ابنه موسى، وشهر بن حوشب، والأعمش، وسليمان التيمي، وزائدة، ومسعر، والثوري، وشعبة، وسفيان بن عيينة، وغيرهم. قال البخاري، عن علي بن المديني: له نحو مائتي حديث. وقال علي بن الحسن الهسِنْجَاني، عن أحمد: عبدُ الملك مضطرب الحديث جدًّا مع قلة روايته، ما أرى له خمسمائة حديث، وقد غَلِط في كثير منها. وقال إسحاق بن منصور: ضعفه أحمد جدًّا. وقال صالح بن أحمد عن أبيه: سماك أصلح حديثًا منه، وذلك أن عبد الملك يَختَلِف عليه

الحفاظ. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: مُخَلِّط. وقال العجلي: يقال له: ابن الْقِبْطية، كان على الكوفة، وهو صالح الحديث، روى أكثر من مائة حديث، تغير حفظه قبل موته. وقال ابن أبي حاتم: ثنا صالح بن أحمد، ثنا علي بن المديني، سمعت ابن مهدي يقول: كان الثوري يَعْجَب من حفظ عبد الملك. قال صالح: فقلت لأبي: هو عبد الملك بن عُمير؟ قال: نعم. قال ابن أبي حاتم، فذكرت ذلك لأبي، فقال: هذا وَهَمٌ، إنما هو عبد الملك بن أبي سليمان، وعبد الملك بن عُمير لم يوصف بالحفظ. وقال البخاري: سُمِع عبد الملك بن عُمير يقول: إني لأحدث بالحديث فما أترك منه حرفًا، وكان من أفصح الناس. ورواه الميموني عن أحمد، عن ابن عيينة، عن عبد الملك بن عمير مثله. وقال أبو بكر بن عياش: سمعت أبا إسحاق الهمداني يقول: خذوا العلم من عبد الملك بن عمير. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن نمير: كان ثقةً ثبتًا في الحديث. وقال ابن الْبَرْقِيِّ عن ابن معين: ثقة إلا أنه أخطأ في حديث أو حديثين. وقال بكر ابن المختار عن عبد الملك: صَعِدَ بي أبي إلى المنبر إلى عليّ، فمسح رأسي. وحَكَى ابن أبي خيثمة عن ابن مُرْدَانَبَه: كان الفصحاء بالكوفة أربعة: عبد الملك بن عمير، وذكر الباقين. وقال ابن عيينة: قال رجل لعبد الملك: أين عبد الملك بن عمير القبطي؟ فقال: أما عبد الملك فأنا، وأما القبطي ففرس لنا سابق. وروى عن أبي بكر بن عياش قال: سمعت عبد الملك يقول: هذه السنةُ تُوَفِّي لي مائة وثلاث سنين. وقال أبو بكر بن أبي الأسود: مات سنة ست وثلاثين ومائة أو نحوها، زاد غيره: في ذي الحجة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: وُلد لثلاث سنين بقين من خلافة عثمان، ومات سنة ست وثلاثين ومائة، وله يومئذ مائة وثلاث سنين، وكان مُدَلِّسًا، وكذا ذَكَرَ مولده ووفاته ابنُ سعد.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (21) حديثًا. [تنبيه]: اختُلِف في ضبط "القرشي"، فقيل: بالقاف والمعجمة، نسبة إلى قريش، ويدل عليه قول ابن سعد: إنه حليف بني عدي بن كعب، وعليه مشى المزّيّ حيث قال: "القرشي، ويقال: اللَّخْمِيّ"، وأما أبو حاتم، ويعقوب بن سفيان، وغير واحد، فضبطوه بالفاء والمهملة؛ لنسبته إلى فرسه، حتى خطأ ابن الأثير من قال غير ذلك، والصواب أنه يجوز في نسبته الأمران؛ لما أسلفناه. والله أعلم (¬1). 5 - (مولى ربعي بن حراش) اسمه هلال، مقبول [6]. روى عن مولاه هذا الحديث فقط، وروى عنه عبد الملك بن عمير، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، تفرّد به الترمذيّ، والمصنّف، وله هذا الحديث فقط. 6 - (ربعيّ بن حِرَاش) أبو مريم الْعَبْسيّ الكوفيّ، ثقة عابدٌ مخضرم [2] تقدّم في 4/ 31. 7 - (حذيفة بن اليمان) حِسْل، أو حُسيل الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدّم في 7/ 49، والباقيان تقدّما قريبًا، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمانِ) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنِّي لَا أَدْرِي مَا قَدْرُ بَقَائِي فِيكُمْ) "ما" استفهاميّة: معناه: لا أدري كم مُدّة بقائي فيكم، أقليلٌ أم كثير؟، والجملة في محل نصب مفعول "أدري" معلّق عنها العامل. (فَاقْتَدوا بِاللَّذَيْنِ) بلامين؛ للإشعار بأنه تثنية "الذي"، وفيه تنبيه على خلافتهما بعده -صلى الله عليه وسلم- (مِنْ بَعْدِي) أي بعد موتي (وَأَشَارَ) بقوله: "اللذين" (إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما. وزاد في رواية لأحمد، والترمذيّ: "واهتدوا بهدي عمّار، وما حدّثكم ابن مسعود، فصدّقوه". قال الطحاويّ رحمه الله في "شرح مشكل الآثار" بعد أن أخرج الحديث: ما نصّه: ¬

_ (¬1) راجع "تهذيب التهذيب" 2/ 620 - 621.

فتأمّلنا هذا الحديث، فكان فيه مما أمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس بالاقتداء بأبي بكر وعمر، معناه عندنا -والله أعلم- أن يمتثلوا ما هما عليه، وأن يحذوا حذوهما فيما يكون منهما في أمر الدين، وأن لا يخرجوا عنه إلى غيره، ثم تأمّلنا ما أمرهم به من الاهتداء بهدي عمّار، فوجدنا الاهتداء هو التقرّب إلى الله عز وجل بالأعمال الصالحة، وكان عمّار من أهلها، فأمرهم أن يهتدوا بما هو عليه منها، وأن يكونوا فيها كهو فيها، وليس ذلك بمخرج لغيره من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن تلك المنزلة؛ لأن القصد بمثل هذا إلى الواحد من أهله لا ينفي بقيّة أهله أن يكونوا فيه، كما يقول الرجل: موضع فلان من العبادة الموضع الذي ينبغي أن يُتَمَسّك به، وليس في ذلك ما ينفي أن يكون هناك آخرون في العبادة مثله، أو فوقه، ممن يجب أن يكونوا في الاهتداء بهم في ذلك كالاهتداء به فيه. انتهى كلام الطحاويّ رحمه الله (¬1) وهو بحث نفيس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث حُذيفة بن اليمان رضي الله عنهما هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده مولى رِبْعيّ بن حِرَاش، وقال في "التقريب": مقبول؟. [قلت]: لم ينفرد به مولى رِبْعيّ، بل تابعه في روايته عن رِبْعِيّ عمرو بن هَرِم، وهو ثقة من رجال مسلم، وعبد الملك بن عُمير، وهو من رجال الجماعة، وحماد بن دُلَيل، وقد وثّقه ابن معين، وابن عمار، وأبو حاتم، وغيرهم. فأما رواية عمرو بن هَرِم، فقد أخرجها الترمذيّ (3663)، وابن سعد 2/ 334 وابن حبّان في "صحيحه" (6902). وأما رواية عبد الملك، فقد أخرجها الحميديّ في ¬

_ (¬1) راجع "مشكل الآثار" 2/ 85.

"مسنده" (449)، وأحمد في "مسنده" 5/ 382 والترمذيّ في "جامعه" (3662). ولفظه: عن حذيفة قال: كنا جلوسا عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم، فاقتدوا باللذين من بعدي، وأشار إلى أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه". قال الترمذيّ: هذا حديث حسن. وأما رواية حماد بن دُليل، فأخرجها ابن عديّ في "الكامل" 2/ 666. والحاصل أن الحديث صحيح؛ لما ذُكر. والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) بهذا الإسناد هنا (11/ 97) فقط، وأخرجه (الترمذيّ) في "المناقب" (3662) و (3363) و (3799) و (أحمد) في "مسنده" (5/ 385 و 402)، وقد سبق بقية التخريج في المسألة الماضية، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده (¬1): 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان فضل أبي بكر الصدّيق -رضي الله عنه-. 2 - (ومنها): بيان فضل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أيضًا. 3 - (ومنها): أن فيه علمًا من أعلام النبوّة حيث أشار النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إلى أنهما سيليان الخلافة بعده -صلى الله عليه وسلم-، فحثّ الناس على الاقتداء بهما. 4 - (ومنها): أن فيه فضل الصحابيين: عمار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، وأنهما في المنزلة الرفيعة التي ينبغي للناس أن يأخذوا عنهما سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفعليّة، والقوليّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ¬

_ (¬1) المراد فوائد ما اشتمل عليه الحديث بسياقاته التي ذُكرت في الشرح، لا خصوص سياق المصنف، فتنبه.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 98 - (حدَّثنا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيىَ بْنُ آدَمَ، حدثنا ابْنُ المبَارَكِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لمَّا وُضِعَ عُمَرُ عَلَى سَرِيرِه، اكْتَنَفَهُ النَّاسُ يَدْعُونَ وَيُصَلُّونَ، أَوْ قَالَ: يُثْنُونَ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ، وأَنا فِيهِمْ، فَلَمْ يَرُعْني إِلَّا رَجُلٌ قَدْ زَحَمَني، وَأَخَذَ بِمَنْكِبِي، فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا عَليُّ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَتَرَحَّمَ عَلَى عُمَرَ، ثُمَّ قَالَ: مَا خَلَّفْتُ أَحَدًا أَحَبَّ إِلَيّ أَنْ أَلْقَى الله بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ، وَايْمُ الله إِنْ كنْتُ لَأَظُنُّ لَيَجْعَلَنَّكَ الله عز وجل مَعَ صَاحِبَيْكَ، وذَلِكَ أني كنْتُ أُكثِرُ أَنْ أَسْمَعَ رَسُولَ اَلله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "ذَهَبْتُ أَنا وَأبو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَدَخَلْتُ أنا وَأبو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَخَرَجْتُ أَنا وأبوَ بَكْرٍ وَعُمَرُ"، فَكُنْتُ أَظُنُّ لَيَجْعَلَنَّكَ الله مَعَ صَاحِبَيْكَ). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (عَليُّ بْنُ مُحَمدٍ) الطنافسي الكوفيّ، ثقة عابد [10] تقدّم في 9/ 57. 2 - (يَحْيىَ بْنُ آدَمَ) بن سليمان الأمويّ، مولى آل أبي معيط، أبو زكريّا الكوفيّ، ثقة حافظ فاضلٌ، من كبار [9]. روى عن عيسى بن طَهْمان، وفِطْر بن خليفة، وإسرائيل، والثوري، وجرير بن حازم، والحسن بن حي، وزهير بن معاوية، وابن المبارك، وغيرهم. وروى عنه أحمد، وإسحاق، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، والحسن بن علي الخلال، وأبو كريب، وابنا أبي شيبة، ومحمد بن رافع، ومحمود بن غيلان، وعليّ بن محمد، وغيرهم. قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وكذا قال النسائيّ. وقال الآجري: سئل أبو داود عن معاوية بن هشام ويحيى بن آدم، فقال: يحيى بن آدم وَاحِدُ الناس. وقال أبو حاتم: كان يتفقه، وهو ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة كثير الحديث، فقيه البدن، ولم يكن له سن متقدم، سمعت علي بن المديني يقول: يرحم الله تعالى يحيى بن آدم، أَيُّ

علم كان عنده، وجعل يُطْريه. وقال أبو أسامة: ما رأيت يحيى بن آدم إلا ذَكَرتُ الشعبي. وقال ابن سعد: كان ثقة. وقال العجلي: كان ثقةً، جامعًا للعلم، عاقلًا ثبتًا في الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان متقنًا يتفقه. وقال ابن سعد وغيره: مات في ربيع الأول سنة ثلاث ومائتين. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (22) حديثًا. 3 - (ابنُ المبَارَكِ) هو: عبد الله الحجة الثبت الإمام المشهور [8] تقدّم في 1/ 4. 4 - (عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ) النوفليّ المكيّ، ثقة [6]. روى عن ابن أبي مليكة، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وابنه عبد الرحمن بن القاسم بن محمد، وعطاء بن أبي رباح، وطاووس، وعمرو بن شعيب، وعبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن أبي سليمان بن جُبير بن مُطْعِم، ومحمد بن المنكدر، وجماعة. وروى عنه الثوريّ، ووهب بن خالد، وابن المبارك، وعيسى بن يونس، ويحيى القطان، وأبو أحمد الزبيري، وبشر بن السَّرِيّ، ورَوح بن عبادة، وآخرون. قال أحمد: مكي قرشي ثقة، من أمثل من يكتبون عنه. وقال ابن معين، والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق. وذكره ابن حبان في "الثقات". ووثقه العجلي، وابن الْبَرْقِيّ، ومحمد بن مسعود بن الْعَجَميّ. أخرج له البخاريّ، ومسلم، وأبو داود في "المراسيل"، والترمذيّ، والنسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (98) و (3107) و (3439) و (3911). 5 - (ابْنُ أبي مُلَيْكَةَ) هو: عَبد الله بن عُبيد الله بن أبي مليكة زُهير بن عبد الله المكيّ، ثقة فيه [3] 7/ 47. 6 - (ابْنُ عبَّاسٍ) هو: عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما، تقدّم في 3/ 27.

لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، من رجال الصحيح، غير شيخه، فتفرّد به هو والنسائيّ في "مسند عليّ". 3 - (ومنها): أن يحيى بن آدم، وعمر بن سعيد هذا أول محلّ ذكرهما من الكتاب، وجملة ما رواه المصنف ليحيى (22) حديثًا، ولعمر أربعة أحاديث فقط، كما بيّنته آنفًا. 4 - (ومنها): أن صحابيّه أحد العبادة الأربعة، والمكثرين السبعة، ومن المشهورين بالفتوى، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنِ) عبد الله بن عبيد الله (ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) زهير بن عبد الله بن جُدْعان، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: لمَّا وُضِعَ) بالبناء للمفعول (عُمَرُ) بن الخطّاب -رضي الله عنه- (عَلَى سَرِيرِهِ) أي بعد موته، وتجهيزه للدفن، والسرير هنا: النعش، وفي رواية للبخاريّ: "إني لواقف مع قوم، وقد وُضع عمر على سريره" (اكْتَنَفَهُ النَّاسُ) أي أحاطوا به من جميع جوانبه، والأكناف النواحي (يَدْعُونَ وَيُصَلُّونَ) جملة في محلّ نصب على الحال من "الناسُ". قال السنديّ: معنى "يصلّون": يترحّمون عليه، ويحتمل على بعد صلاة الجنازة. انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي استبعده السنديّ هو الظاهر عندي، فتأمّل. والله تعالى أعلم. (أَوْ) للشكّ من الراوي (قَالَ: يُثْنُونَ) بضم أوله مضارع أثنى: إذا وصفه بخير أو شرّ، والمراد هنا بالخير، تقول: أثنيت عليه خيرًا وبخير، وأثنيت عليه شرّا وبشرّ: إذا ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 74.

وصفته به، وخصّه بعضهم بالخير فقط، فقال: لا يُستعمل إلا فيه، وقد ردّ عليه في "المصباح المنير"، فراجعه في مادّة "ثنى" (وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ) بالبناء للمفعول: أي قبل أن يرفع الناس جنازته للدفن (وَأنا فِيهِمْ) جملة في محل نصب على الحال (فَلَمْ يَرُعْني) بفتح أوله، وضم ثالثه من باب قال: أي لم يُفزعني، والمراد أنه رآه بغتةً (إِلَّا رَجُلٌ) بالرفع على الفاعليّة لـ "يرُعني" (قَدْ زَحَمَني) أي دفعني، يقال: زحمته زَحْمًا، من باب نَفَع: إذا دفعته، وزاحمته مُزاحمة، وزِحامًا، وأكثر ما يكون في مَضِيق، والزَّحمة مصدرٌ أيضًا، والهاء لتأنيثه. قاله الفيّوميّ (¬1). (وَأَخَذَ بِمَنْكِبِي) بفتح أوله، وكسر ثالثه، وزانُ مَجْلِس: مجُتَمَع رأس العضد والكتف؛ سمّي بذلك؛ لأنه يُعتمد عليه (¬2). (فَالْتَفَتُّ) أي صرفت وجهي إلى ذات اليمين أو الشمال؛ لمعرفة ذلك الرجل (فَإِذَا) هي الفُجائيّة: أي ففاجأ التفاتي (عَليُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) أي وجوده -رضي الله عنه-، يعني أن ذلك الرجل الذي أثنى على عمر -رضي الله عنه- هو عليّ -رضي الله عنه- (فتَرَحَّمَ عَلَى عُمَرَ) أي دعا له بأن يرحمه الله تعالى، وفي رواية للبخاريّ: فقال: يرحمك الله (ثُمَّ قَالَ) عليّ -رضي الله عنه- (مَا) نافية (خَلَّفْتُ) بتشديد اللام: أي تركت (أَحَدًا أَحَبَّ إِليَّ) قال في "الفتح": يجوز نصبه ورفعه. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا قال في "الفتح"، ولعل الرواية بالوجهين، وإلا فالظاهر أنه بالنصب؛ لأنه صفة لـ "أحدًا"، وأما الرفع فيؤدي إلى تقدير، أي يُقدّر خبرًا لمحذوف، أي هو، وعدم التقدير أولى من التقدير، فافهم. قال الحافظ رحمه الله: وفي هذا الكلام أن عليّا -رضي الله عنه- كان لا يعتقد أن لأحد عملًا في ذلك الوقت أفضل من عمل عمر -رضي الله عنه-، وقد أخرج ابن أبي شيبة، ومسدّد من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عليّ نحو هذا الكلام، وسنده صحيح (¬3)، وهو شاهد جيّد ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" 1/ 252. (¬2) "المصباح المنير" 2/ 624. (¬3) فيه أنه منقطع؛ لأن محمد بن علي لم يلق عليًّا -رضي الله عنه-، إلا أن يكون في السند ساقط،، فليُحرّر.

لحديث ابن عبّاس؛ لكون مخرجه عن آل عليّ -رضي الله عنهم- انتهى (¬1). (أَنْ) بفتح الهمزة مصدريّة، والمصدر المؤوّل فاعل "أحبّ" (أَلْقَى الله بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ) خطاب لعمر -رضي الله عنه- (وَايْمُ الله) أي يمين الله، وهو مبتدأ خبره محذوف، أي قسمي، أو بالعكس. [فائدة]: "أيم الله" مختصر من أَيْمُن الله، قال الجوهريّ: "أَيْمُن" اسم وُضع هكذا بضم الميم والنون، وألفه ألف وصل عند أكثر النحويين، ولم يجىء في الأسماء ألف وصل مفتوحة غيرها. قال: وربّما حذفوا منه النون، قالوا: أَيْمُ الله، وإِيمُ الله أيضًا بكسر الهمزة، وربما حذفوا منه الياء، فقالوا: أَمُ الله، وربّما أبقوا الميم وحدها مضمومة، فقالوا: مُ اللهِ، ثم يكسرونها؛ لأنها صارت حرفًا وَاحدًا، فيُشبّهونها بالباء، فيقولون: مِ اللهِ، وربما قالوا: مُنُ الله بضم الميم والنون، ومَنَ اللهِ بفتحهما، ومِنِ اللهِ بكسرهما. انتهى مختصرًا من "اللسان" (¬2). (إِنْ) مخفّفة من الثقيلة، والأصل "إني"، قال في "الخلاصة": وَخُفِّفَتْ "إِنَّ" فَقَلَّ الْعَمَلُ ... وَتَلْزَمُ اللَّامُ إِذَا مَا تُهْمَل وَرُبَّمَا اسْتُغْنيَ عَنْهَا إِنْ بَدَا ... مَا نَاطِقٌ أَرَادَه معْتَمِدَا وَالْفِعْلُ إِنْ لَمْ يَكُ نَاِسخًا فَلاَ ... تُلْفِيهِ غَالِبًا بِـ "إِنْ" ذِي مُوصَلاَ (كُنْتُ لَأَظُنُّ لَيَجْعَلَنَّكَ الله عز وجل) اللام هي الموطّئة للقسم المقدّر: أي والله ليجعلنك الله عز وجل (مَعَ صَاحِبَيْكَ) أي النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر -رضي الله عنه-، ثم يحتمل أن يريد ما وقع، وهو دفنه عندهما، ويحتمل أن يريد بالمعيّة ما يؤول إليه الأمر بعد الموت، من دخوله الجنّة معهما، ونحو ذلك. (وَذَلِكَ) إشارة إلى ظنه: أي أن سبب ظني المذكور كثرة سماعي من النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ¬

_ (¬1) "الفتح" 7/ 62. (¬2) "لسان العرب" 13/ 462.

يقول إلخ (أَنِّي) بفتح الهمزة، وكسرها، فالفتح على تقدير حرف التعليل: أي لأني، والكسر على أن الجملة تعليلية (كنْتُ أُكْثِرُ) بضم أوله، وكسر ثالثه، بصيغة المضارع للمتكلّم (أَنْ أسمعَ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم-) "أن" مصدريّة، والمصدر المؤوّل مفعول "أُكْثِرُ" أي أكثر سماعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. [تنبيه]: ضبط "أُكْثِرُ" بصيغة المضارع هو الظاهر، وهو الذي وقع في نسخ "صحيح مسلم" مضبوطًا بالقلم، وأما ما وقع في شرح السنديّ من ضبطه بصيغة أفعل التفضيل، وقال في حلّه: "أكثر" بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر من قبيل "أخطب ما يكون الأمير"، والجملة خبر "كنت"، إلخ كلامه، فتكلّف بارد، فتأمله بالإنصاف. والله تعالى أعلم. ولفظ البخاريّ: "وحسبت أني كثيرًا أسمع النبيّ" -صلى الله عليه وسلم-، وفي رواية له: "لأني كثيرًا ما كنت أسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". قال في "الفتح": واللام للتعليل، و"ما" إبهاميّة مؤكّدة، و"كثيرًا" ظرف زمان، وعامله "كان" قُدِّم عليه، وهو كقوله تعالى: {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}، ووقع للأكثر "كثيرًا مما كنت أسمع" بزيادة "من"، "ووُجّهت بأن التقدير أني أجد كثيرا مما كنت أسمع". انتهى (¬1). وقوله (يَقُولُ) جملة في محلّ نصب على الحال من "رسول الله": أي حال كونه قائلًا (ذَهَبْتُ أنا وَأبو بَكْرٍ وَعُمَرُ) أي إلى مكان كذا، هكذا رواية المصنّف رحمه الله بتأكيد المرفوعِ المتّصل بالمنفصل؛ ليصحّ العطف عليه، كما قال في "الخلاصة": وَإِنْ عَلَى ضمِيرِ رَفْع مُتَّصِلْ ... عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ المنْصِلْ أَوْ فَاصِلٍ مَا وَبِلاَ فَصْلٍ يِرِدْ ... في النَّظْم فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ ووقع في "صحيح البخاري" بلا تأكيد ما عدا رواية الأصيليّ، ففيها بالتأكيد، فقال ابن التين: الأحسن عند النحاة أن لا يُعطف على الضمير المرفوع إلا بعد تأكيده، ¬

_ (¬1) "الفتح" 7/ 62.

حتى قال بعضهم: إنه قبيح، لكن يرد عليهم قوله تعالى {مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148]، وأجيب بأنه قد وقع الحائل، وهو قوله: "لا"، وتُعُقّب بأن العطف قد حصل قبل "لا"، قال: ويَرِد عليهم أيضًا هذا الحديث. انتهى. قال الحافظ: التعقيب مردود، فإنه وُجد فاصل في الجملة، وأما هذا الحديث، فلم تتّفق الرواة على لفظه، فقد جاء في مناقب عمر بلفظ: "ذهبت أنا وأبو بكر وعمر"، فعطف مع التأكيد مع اتّخاد المخرج، فدلّ على أنه من تصرّف الرواة. انتهى (¬1). (وَدَخَلْتُ أَنا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ) أي المكان الفلانيّ (وَخَرَجْتُ أَنا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ) أي من المكان الفلانيّ (فَكُنْتُ أَظُنُّ) وفي رواية مسلم: "فإن كنت لأرجو، أو لأظنّ أن يجعلك الله معهما" (لَيَجْعَلَنَّكَ الله مَعَ صَاحِبَيْكَ) أي مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وأبي بكر -رضي الله عنه-، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (11/ 98) بهذا السند فقط، وأخرجه (البخاريّ) في "كتاب فضائل أصحاب النبيّ" -صلى الله عليه وسلم- (3677) و (3685) و (مسلم) في "فضائل الصحابة"، و (أحمد) 1/ 112 رقم (898)، و (النسائيّ) في "الكبرى" في "المناقب" (8061) (6137)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل أبي بكر -رضي الله عنه-. 2 - (ومنها): بيان فضل عمر -رضي الله عنه- أيضًا. ¬

_ (¬1) "الفتح" 7/ 51: كتاب فضائل الصحابة -رضي الله عنهم-".

3 - (ومنها): أن فيه بيان كون عليّ -رضي الله عنه- يعظّم الشيخين غاية التعظيم، ويعتقد رفعة منزلتهما عند الله سبحانه وتعالى، وعند النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وفيه الردّ على الشيعة والرافضة الذين يفترون عليه ما لا يليق بمقامه السامي. قال أَبو العبّاس القرطبيّ: في هذا الحديث ردّ من عليّ -رضي الله عنه- على الشيعة فيما يتقوّلونه عليه من بغضه للشيخين، ونسبته إياهما إلى الجور في الإمامة، وأنهما غصباه، وهذا كلّه كذبٌ وافتراءٌ، عليّ -رضي الله عنه- منه براء، بل المعلوم من حاله معهما تعظيمه، ومحبّته لهما، واعترافه بالفضل لهما عليه، وعلى غيره، وحديثه هذا يَنُصّ على هذا المعنى، وقد ثبت في "الصحيحين" ثناء عليّ على أبي بكر رضي الله عنهما، واعتذاره عن تخلّفه عن بيعته، وصحّة مبايتعه له، وانقياده له مختارًا طائعًا سرّا وجهرًا، وكذلك فعل مع عمر -رضي الله عنه- أجمعين، وكلُّ ذلك يُكذّب الشيعةَ والروافضَ في دعواهم، لكن الهوى والتعصّب أعماهم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، وهو كلام نفيس جدّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 99 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مَيْمُونٍ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ: "هَكَذَا نُبْعَثُ". رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (عِليُّ بْنُ مَيْمُونٍ الرَّقِّيُّ) العطّار، ثقة [10] تقدّم في 9/ 59. 2 - (سَعِيدُ بْنُ مَسْلَمَةَ) بن هشام الأمويّ الجزريّ، ضعيف [8]، تقدم في 9/ 59. 3 - (إِسماعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ) بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية الأمويّ، ثقة ثبت [6]. روى عن ابن المسيب، ونافع، وعكرمة، وسعيد المقبري.

وروى عنه ابن جريج، والثوري، ومعمر، وابن عيينة، وسعيد بن مسلمة، وغيرهم، وثقه ابن معين، والنسائي، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وقال العجلي: مكي ثقة، وقال الزبير بن بكار: كان فقيه أهل مكة، قال ابن سعد: مات سنة (144) وقال ابن حبان: سنة (139) في حبس داود بن علي. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، برقم (99) و (943) و (1036) و (1990) و (2442) و (3236) و (3247). 4 - (نافع) العدويّ، أَبو عبد الله المدنيّ، مولى ابن عمر، أصابه ابن عمر في بعض مغازيه، ثقة ثبتٌ فقيه مشهورٌ [3]. روى عن مولاه، وأبي هريرة، وأبي لبابة بن عبد المنذر، وأبي سعيد الخدري، ورافع بن خَدِيج، وعائشة، وأم سلمة، وعبد الله وعبيد الله وسالم وزيد أولاد عبد الله ابن عمر، وإبراهيم بن عبد الله بن حُنين، ونُبيه بن وهب العبدي، وخلق كثير. وروى عنه أولاده: أَبو عمر، وعمر، وعبد الله، وعبد الله بن دينار، وصالح بن كيسان، وعبد ربه ويحيى ابنا سعيد الأنصاري، ويونس بن عبيد، ويزيد بن أبي حبيب، وأبو إسحاق السبيعي، والزهري، وموسى بن عقبة، وإسماعيل بن أمية، وميمون بن مِهْران، وابن عجلان، وأيوب السختياني، وغيرهم. قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال البخاري: أصح الأسانيد: مالك، عن نافع، عن ابن عمر. وقال بشر بن عُمَر عن مالك: كنت إذا سمعت من نافع يحدث عن ابن عمر، لا أبالي أن لا أسمعه من غيره. وقال عبيد الله بن عمر: لقد مَنَّ الله تعالى علينا بنافع. وقال أيضًا: بعثه عمر بن عبد العزيز إلى مصر ليعلمهم السنن. وقال حرب ابن إسماعيل: قلت لأحمد: إذا اختلف سالم ونافع في ابن عمر من أحب إليك؟ قال: ما أتقدم عليهما. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: نافع عن ابن عمر أحب إليك أو سالم؟ فلم يُفَضِّل، قلت: فنافع أو عبد الله بن دينار؟، فقال: ثقات، ولم يُفَضِّل. وقال

العجلي: مدني ثقة. وقال ابن خِرَاش: ثقة نبيل. وقال النسائي: ثقة. وقال في موضع آخر: أثبت أصحاب نافع مالك، ثم أيوب، فذكر جماعة. وقال في موضع آخر: اختلف سالم ونافع في ثلاثة أحاديث، وسالم أجلّ من نافع، وأحاديث نافع الثلاثة أولى بالصواب. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: اختُلِف في نسبته، ولم يصح عندي فيه شيء. وقال ابن أبي خيثمة: ثنا أحمد بن حنبل، ثنا ابن عيينة، عن إسماعيل بن أمية قال: كنا نريد نافعا مولى بن عمر على اللحن فيأباه، قال أحمد: قال سفيان: فأَيُّ حديث أوثق من حديث نافع. قال يحيى بن بكير وآخرون: مات سنة سبع عشرة ومائة. وقال أَبو عبيد: مات سنة تسع عشرة. ويقال: سنة عشرين. وقال ابن عيينة، وأحمد بن حنبل: مات سنة تسع عشرة. وقال أَبو عمر الضرير: مات سنة عشرين. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (189) حديثًا. 5 - (ابن عمر) هو: عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما تقدّم في 1/ 4، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-) أي من بعض حُجَره (بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ) رضي الله عنهما، وفي رواية الترمذيّ: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم، ودخل المسجد، وأبو بكر وعمر أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، وهو آخذ بأيديهما، فقال: هكذا نُبعث يوم القيامة" (فَقَالَ: هَكَذَا) أي على مثل الصورة المذكورة (نُبْعَثُ) بالبناء للمفعول: أي نُخرَج من القبور إلى موضع النشور، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا ضعيف؛ لاتفاقهم على ضعف سعيد بن

مسلمة، كما سبق في ترجمته. قال الترمذيّ بعد إخراجه: هذا حديث غريب، وسعيد بن مسلمة ليس عندهم بالقويّ. انتهى، والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (11/ 99) بهذا السند فقط، وأخرجه (الترمذيّ) في "المناقب" (3669)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 100 - (حَدَّثَنَا أَبُو شُعَيْبٍ صَالِحُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ بَكْرِ بْنِ خُنَيْسٍ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الجَنَّةِ، مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ إِلَّا النَّبِيِّينَ وَالمُرْسَلِينَ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (أَبُو شُعَيْبٍ صَالِحُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْوَاسِطِيُّ) الصَّيْرفّي الطحّان، صدوقٌ، من صغار [10]. روى عن عبد القدوس بن بكر بن خنيس، وفضيل بن عياض، وشاذ بن فياض، وغيرهم. وروى عنه ابن ماجه، وأسلم بن سهل، ومحمد بن حمزة بن عُمارة، وعبد الله بن أحمد بن عمر بن شَوْذَب. قال ابن أبي حاتم، روى عنه علي بن الحسين بن الجنيد، فقال: ثنا صالح بن الهيثم الواسطي، شيخ صدوق. انتهى. تفرد به المصنف بهذا الحديث فقط. 2 - (عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ بَكْرِ بْنِ خُنَيْسٍ) -مصغّرًا- الكوفي أَبو الْجَهْم، لا بأس به [9]. روى عن أبيه، ومالك بن مِغْوَل، وهشام بن عروة، وحجاج بن أرطاة، وحبيب

ابن سليم العبسي، وطلحة بن عمرو المكي. وروى عنه إبراهيم بن موسى الفراء، وأحمد بن حنبل، وأحمد بن منيع، وصالح ابن الهيثم الواسطي، وأبو الفضل المغيرة بن معمر. قال أَبو حاتم: لا بأس به. وذكره ابن حبان في "الثقات". وذكر محمود بن غيلان عن أحمد وابن معين وأبي خيثمة أنهم ضربوا على حديثه. تفرّد به الترمذيّ، وله عنده حديث واحد، حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، قال: إذا مِتُّ فلا تُؤذِنوا بي، إني أخاف أن يكون نَعْيًا، فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن النعي. وقال: هذا حديث حسن صحيح. والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 3 - (مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ) -بكسر اليم، وسكون المعجمة، وفتح الواو- بن عاصم بن غَزِيّة ابن حُرْثة بن جُريج بن بَجِيلة البجلي، أَبو عبد الله الكوفي، ثقة ثبتٌ، من كبار [7]. روى عن أبي إسحاق السبيعي، وعون بن أبي جحيفة، وسماك بن حرب، ونافع مولى ابن عمر، والزبير بن عَدِيّ، ومحمد بن سُوقة، والوليد بن العيزار، وغيرهم. وروى عنه أَبو إسحاق شيخه، وشعبة، ومِسْعَر، والثوري، وزائدة، وابن عيينة، وإسماعيل بن زكريا، ويحيى بن سعيد القطان، ووكيع، وابن المبارك، وغيرهم. قال أَبو طالب عن أحمد: ثقة ثبت في الحديث. وقال يحيى بن معين، وأبو حاتم، والنسائي: ثقة. وقال أَبو نعيم: ثنا مالك بن مِغْول، وكان ثقة. وقال العجلي: رجل صالح مُبَرِّز في الفضل. وقال الطبراني: من خيار المسلمين. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه: سمعت ابن عيينة يقول: قال رجل لمالك بن مغول: اتق الله فوضع خده بالأرض. وقال ابن سعد: كان ثقة، مأمونًا، كثير الحديث، فاضلًا خيرًا. وقال البخاري: قال عبد الله بن سعيد: سمعت ابن مهدي يقول: إذا رأيت الكوفي يذكر الكوفي مالك بن مغول بخير، فاطمأن إليه. وقال ابن حبان في "الثقات": كان من عُبّاد أهل الكوفة، ومتقنيهم.

قال عمرو بن علي: مات سنة سبع. وقال ابن سعد: سنة ثمان. وقال أَبو نعيم وغيره: سنة تسع وخمسين ومائة، وفيها أرّخه مُطيَّن، وزاد: في ذي الحجة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث (¬1) فقط، برقم (100) و (2696) و (3814) و (3857) و (4198). 4 - (عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ) وهب بن عبد الله السُّوَائيّ الكوفي، ثقة [4]. روى عن أبيه، ومسلم بن رِيَاح الثقفي، وله صحبة، والمنذر بن جرير البجلي، وعبد الرحمن بن سُمَير ومِخْنَف بن سُلَيم، وغيرهم. وروى عنه شعبة، والثوري، وقيس بن الربيع، ومالك بن مِغْوَل، وحجاج بن أرطاة، وصدقة بن أبي عِمْران، وأبو العُمَيس، وغيرهم. قال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". قال خليفة: مات في آخر ولاية خالد على العراق. وقال ابن قانع: مات سنة ست عشرة ومائة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (100) و (711) و (3904). 5 - (أبوه) هو: وهب بن عبد الله بن مسلم بن جُنَادة بن حبيب بن سُواءة -بضم السين المهملة، وتخفيف الواو، والمدّ- ابن عامر بن صعصعة، ويقال: اسم أبيه وهب، أَبو جُحَيفة السُّوَائيّ، يقال: له وهب الخير، قَدِم على النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في أواخر عمره، وحفظ عنه، ثم صحب عليّا بعده، وولّاه شرطة الكوفة لمّا ولي الخلافة. وفي "الصحيح" عنه: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الحسن بن علي يُشبهه، وأمر لنا بثلاثة عشر قَلُوصًا، فمات قبل أن ¬

_ (¬1) هذا بالنظر للترقيم المتداول، وإلا فالأحاديث في الحقيقة ستة؛ لأن الرقم (2696) مشتمل على حديثين بسندين، فكان الأولى أن يُجعل برقمين، حي يكونا حديثين، إلا أني اتبعت الذين سبقوني بترقيم الكتاب؛ لشهرة ترقيمهم بين الناس، فافهم.

نقبضها، وكان عليّ يُسمّيه وهب الخير. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عليّ، والبراء بن عازب، وعنه ابنه عون، وسلمة بن كُهيل، والشعبي، والسَّبِيعي، وإسماعيل بن أبي خالد، وأبو عمر المُنَبِّهِيُّ، وعلي بن الأقمر، والحكم بن عتيبة. قال الواقديّ: مات في ولاية بشر بن مروان. وقال غيره: سنة أربع وسبعين. وقال أَبو بكر بن أبي شيبة: مات أَبو جحيفة قبل أبي عبد الرحمن السُّلَمِيّ، وهو قول ابن حبان. وقال أَبو نعيم: كان على شُرْطة عليّ، واستعمله على خمس المتاع. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب عشرة أحاديث برقم (100) و (207) و (297) و (711) و (879) و (2604) و (2658) و (3262) و (3628) و (3904). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث صحيح، وقد تقدّم برقم (95) وهو الحديث الثالث من هذا الباب، وقد سبق شرحه، والمسائل المتعلّقه به هناك، فلا حاجة إلى إطالة الكتاب بإعادة ذلك. [تنبيه]: أخرج هذا الحديث ابن حبّان في "صحيحه" (6904) من طريق خُنيس بن بكر بن خُنيس، عن مالك بن مغول، وخُنيس ليس من رجال الكتب الستّة، وقد ضعّفه صالح جزرة، كما نقل ذلك الخطيب البغداديّ في "تاريخه" 8/ 432، ووثقه ابن حبان 8/ 133. وإنما نبّهت على هذا؛ لأن الشيخ الألبانيّ رحمه الله ذكر في "الصحيحة" حديث أبي جُحيفة هذا، وقال: وأما حديث أبي جحيفة فيرويه خُنيس بن بكر بن خنيس، ثم قال: أخرجه ابن حبان (2192) وكذا ابن ماجه 1/ 51 إلى آخر كلامه، فقوله: وكذا ابن ماجه يوهم أنه أيضًا أخرجه من طريق خُنيس، وهذا خطأ؛ لأنه إنما أخرجه من طريق عبد القدوس بن بكر بن خُنيس، لا من طريق خُنيس بن بكر، وقد تنبّه لهذا الدكتور بشّار، في تحقيق هذا الكتاب.

والحاصل أن خنيس بن بكر ليس من رجال ابن ماجه، بل ولا من رجال الكتب الستّة، وقد ضُعِّفَ، كما سبق آنفًا، وأما عبد القدوس، فصدوق، كما قال في "التقريب"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 101 - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، وَالحُسَيْنُ بْنُ الحسَنِ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ ابْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: "عَائِشَةُ"، قِيلَ: مِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَ: "أَبُوهَا"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ) بن موسى الضبّيّ، أَبو عبد الله البصريّ، ثقة رُمي بالنصب [10] تقدّم في 3/ 28. 2 - (الحسَيْنُ بْنُ الحسَنِ المَرْوَزِيُّ) هو: الحسين بن الحسن بن حرب السُّلَميّ، أَبو عبد الله المروزيّ، نزيل مكة، صدوقٌ [10]. روى عن ابن المبارك، وهشيم، ويزيد بن زريع، وابن علية، وابن عيينة، وأبي معاوية، والوليد بن مسلم، والفضل بن موسى السِّيناني، وجعفر بن عون، وغيرهم. وروى عنه الترمذي، وابن ماجه، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وابن أبي عاصم، وداود بن علي ابن خلف، وعمر بن محمد بن بُجَير، وزكرياء السِّجْزيّ، وابن صاعد، وإبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، وغيرهم. قال ابن أبي حاتم: سمع منه أبي بمكة، وسئل عنه، فقال: صدوق. وقال مسلمة: ثقة روى عنه من أهل بلدنا ابن وَضّاح، وحدثنا عنه الدَّيْبُليّ. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (246). تفرّد به الترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث فقط برقم (101) و (237) و (927) و (2708) و (3371) و (3669) و (3670) و (4034) و (4211).

3 - (الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيُمانَ) بن طَرْخان التيميّ، أَبو محمد البصريّ، قيل: إنه كان يُلَقَّب بالطفيل، ثقة، من كبار [9]. روى عن أبيه، وحميد الطويل، وإسماعيل بن أبي خالد، وعبيد الله بن عمر العمري، وكهمس بن الحسن، وأيوب، وداود بن أبي هند، وخالد الحذاء، وغيرهم. وروى عنه الثوري، وهو أكبر منه، وابن المبارك، وهو من أقرانه، وعبد الرحمن ابن مهدي، وعبد الرزاق، وعبد الله بن جعفر الرَّقّيّ، ويونس بن محمد المؤدب، وأحمد ابن عبدة، والحسين بن الحسن المروزيّ، وغيرهم. قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وقال أَبو حاتم: ثقة صدوق. وقال عَمْرو بن علي، عن معاذ بن معاذ: سمعت قُرّة بن خالد يقول: ما معتمر عندنا دون سليمان التيميّ. وقال ابن خِرَاش صدوق يخطئ من حفظه، وإذا حدث من كتابه فهو ثقة. وقال العجلي: بصري ثقة. وعن يحيى بن سعيد القطان قال: إذا حدّثكم المعتمر بشيء، فاعرِضوه، فإنه سيىء الحفظ. وقال الآجري عن أبي داود: سمعت أحمد يقول: ما كان أحفظ معتمر بن سليمان، قَلّما كنا نسأله عن شيء إلا عنده فيه شيء. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان مولده سنة ست أو سبع، ومات سنة سبع أو ثمان وثمانين ومائة. وقال ابن سعد: كان ثقة، وُلد سنة مائة، ومات سنة سبع وثمانين ومائة، وفيها أرخه غير واحد. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (23) حديثًا. 4 - (حُمَيْدٌ) بن أبي حميد الطويل، أَبو عبيدة الْخُزَاعيّ مولاهم، وقيل: غير ذلك، البصريّ، واسم أبي حميد تِير، ويقال: تيرويه، ويقال: زاذويه، ويقال: داور، ويقال: طَرْخان، ويقال: مِهْران، ويقال: عبد الرحمن، ويقال: مَخْلَد، ويقال: غير ذلك، ثقة مدلّس، [5]. روى عن أنس بن مالك، وثابت البناني، وموسى بن أنس، وبكر بن عبد الله المزنيّ، وإسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، والحسن البصري، وغيرهم.

وروى عنه ابن أخته حماد بن سلمة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهو من أقرانه، وحماد بن زيد، والسفيانان، وشعبة، ومالك، وابن إسحاق، والمعتمر بن سليمان، ووهيب بن خالد، والقطان، وزائدة، وغيرهم. قال البخاري: قال الأصمعي: رأيت حميدًا، ولم يكن بطويل. وقال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: ثقة. وقال الدارمي: قلت لابن معين: يونس بن عبيد أحب إليك في الحسن أو حميد؟ قال: كلاهما. قال الدارمي: يونس أكبر من حميد بكثير. وقال العجلي: بصري ثقة. وقال أَبو حاتم: ثقة لا بأس به، وأكبر أصحاب الحسن قتادة، وحميد. وقال ابن خِراش: ثقة صدوق، وقال مرة: في حديثه شيء، يقال: إن عامة حديثه عن أنس إنما سمعه من ثابت. وقال يحيى بن أبي بكير، عن حماد ابن سلمة: أخذ حميد كتب الحسن فنسخها، ثم ردها عليه. وقال الأصمعي، عن حماد: لم يَدَع حميد لثابت علمًا إلا ووعاه، وسمعه منه. وقال مؤمل عن حماد: عامة ما يروي حميد عن أنس سمعه من ثابت. وقال أَبو عبيدة الحداد عن شعبة: لم يسمع حميد من أنس إلا أربعة وعشرين حديثًا، والباقي سمعها من ثابت، أو ثبته فيها ثابت. وقال علي بن المديني عن أبي داود: سمعت شعبة يقول: سمعت حبيب بن الشهيد يقول لحميد وهو يحدثني: انظر ما تحدث به شعبة، فإنه يرويه عنك، ثم يقول هو: إن حميدًا رجل نَسِيّ، فانظر ما يحدثك به. وقال عيسى بن عامر بن أبي الطيب، عن أبي داود، عن شعبة: كل شيء سمع حميد عن أنس خمسة أحاديث. وقال علي بن المديني، عن يحيى بن سعيد: كان حميد الطويل إذا ذهبتَ تَقِفه على بعض حديث أنس يَشُكّ فيه. وقال يوسف بن موسى، عن يحيى بن يعلى المحاربي: طرح زائدة حديث حميد الطويل. وقال ابن عديّ: له أحاديث كثيرة، وقد حدث عنه الأئمة، وأما ما ذُكر عنه أنه لم يسمع من أنس إلا مقدار ما ذُكر، وسمع الباقي من ثابت عنه، فأكثر ما في بابه أن بعض ما رواه عن أنس يُدَلّسه، وقد سمعه من ثابت. وقال النسائيّ: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقةً، كثير الحديث، إلا أنه ربما دلس عن أنس.

وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال هو الذي يقال له: حميد بن أبي داود، وكان يدلس، سمع من أنس ثمانية عشر حديثًا، وسمع من ثابت البناني، فدلس عنه. وقال أَبو بكر البرديجي: وأما حديث حميد فلا يُحتجّ منه إلا بما قال: حدثنا أنس. وقال الحافظ أَبو سعيد العلائي: فعلى تقدير أن تكون أحاديث حميد مُدَلَّسةً، فقد تبين الواسطة فيها، وهو ثقة صحيح. وقال الحافظ: رواية عيسى بن عامر أن حميدًا إنما سمع من أنس خمسة أحاديثَ قول باطلٌ فقد صرح حميد بسماعه من أنس بشيء كثير، وفي "صحيح البخاري" من ذلك جملة، وعيسى بن عامر ما عرفته، وأما ترك زائدة حديثه فذاك لأمر آخر؛ لدخوله في شيء من أمور الخلفاء. انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ ما قاله الحافظ العلائيّ، فأحاديث حميد كلها صحيحة؛ لأنه على تقدير أنه لم يسمع بعضها عن أنس، فقد عُرف من دلّس عنه، وهو ثابتٌ البنانيّ، وهو ثقة جليل، فتبيّن أن تدليسه لا يضرّ. وبهذا يتبيّن أن قول ابن حبّان أنه لا يوجد في الدنيا من يُدلس عن ثقة غير سفيان ابن عيينة غير صحيح، فقد ثبت عن حميد الطويل أنه لا يدلس إلا عن ثقة، فافهم هذا، فإنه مهمّ جدّا. والله تعالى أعلم. وقال رُسْتة عن يحيى بن سعيد: مات حميد الطويل، وهو قائم يصلي، وأرخه بن سعد وجماعة سنة (142). وقال إبراهيم بن حميد الطويل: مات سنة (43)، وقد أتت عليه (75) سنة، ولم أسمع منه شيئًا. وكذا أرّخه عمرو بن علي وغيره. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (36) حديثًا. 5 - (أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) أَبو حمزة الصحابيّ الشهير، خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- و -رضي الله عنه- تقدّم في 3/ 24، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) راجع "تهذيب التهذيب" 1/ 493 - 494.

لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجال رجال الصحيح، غير شيخه الثاني فقد تفرّد به هو والترمذيّ، وهو صدوقٌ. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، سوى شيخه الحسين أيضًا، فمروزيّ. 4 - (ومنها): أن فيه أنسًا -رضي الله عنه- من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وممن لازم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بالخدمة، فقد خدمه عشر سنين، وهو آخر من مات من الصحابة -رضي الله عنهم- بالبصرة، مات سنة (2) أو (93)، وقد جاوز مائة سنة، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ الله) القائل هو عمرو بن العاص -رضي الله عنه-، فقد أخرج الشيخان في "صحيحيهما" من حديث عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السَّلاسِل، فأتيته، فقلت: أيُّ الناس أحبُّ إليك؟ قال: "عائشة"، فقلت: من الرجال؟ فقال: "أبوها"، قلت: ثم مَنْ؟ قال: "ثم عمر بن الخطاب"، فعدَّ رجالًا. زاد في رواية: فسكتُّ مخافةَ أن يجعلني في آخرهم. وسبب هذا السؤال -على ما ذكره ابن سعد- أنه وقع في نفس عمرو -رضي الله عنه- لمّا أمّره النبيّ -صلى الله عليه وسلم- على الجيش، وفيهم أَبو بكر، وعمر أنه مُقَدَّم عنده في المنزلة عليهم، فسأله لذلك. (أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟) أي أكثر محبةً عندك (قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (عَائِشَةُ) بالرفع على أنه خبر لمحذوف: أحبهم عائشة رضي الله عنها (قِيلَ) القائل هو السائل نفسه، ففي رواية قيس بن أبي حازم، عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- عند ابن خزيمة، وابن حبّان: "إني لست أعني النساء، إني أعني الرجال" (مِنَ الرِّجَالِ؟) أي أي الرجال أحب إليك؟ (قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (أَبُوهَا) يعني أن أبا بكر الصدّيق -رضي الله عنه- أحب الرجال إليه -صلى الله عليه وسلم-. والله تعالى أعلم بالصواب،

وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- هذا صحيح، بل هو متّفقٌ عليه من حديث عمرو بن العاص -رضي الله عنه-، كما أسلفته آنفًا. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (11/ 101) بهذا السند فقط، وأخرجه (الترمذيّ) في "المناقب" (3890) وقال: حسن صحيح من هذا الوجه، من حديث أنس. انتهى. و (ابن حبّان) في "صحيحه" (7107) من طريق المسيّب بن واضح، عن معتمر بن سليمان به، والمسيّب كثير الخطإ، وضعّفه الدارقطنيّ وغيره، إلا أنه لم ينفرد به، بل تابعه شيخا المصنّف هنا. فتنبّه، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل أبي بكر الصدّيق -رضي الله عنه-، وهو واضح. 2 - (ومنها): أن فيه بيان تفاوت المؤمنين في محبة الله سبحانه وتعالى، ومحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهم، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]. 3 - (ومنها): أن فيه بيان فضل عائشة رضي الله عنها، حيثما كانت أحبّ النساء إليه -صلى الله عليه وسلم-، لكن هذا مقيّد بأمهات المؤمنين، كما أشار إليه الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" حيث قال: ما معناه: مخرج هذا السؤال والجواب كان عن أهل بيته، دون سائر النساء من فاطمة وغيرها. انتهى (¬1). والحاصل أن أفضلية عائشة رضي الله عنها التي يدلّ عليها هذا الحديث وغيره ¬

_ (¬1) راجع "الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبّان" 16/ 40.

مقيّدة بنساء النبيّ -صلى الله عليه وسلم- حتى لا يدخل فيها مثل فاطمة رضي الله عنها جمعًا بين هذا الحديث، وبين حديث: "أفضل نساء الجنّة خديجة وفاطمة ... " الحديث، وقد أخرجه الحاكم بهذا اللفظ في حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما. وفي "الصحيحين" في حديث طويل: "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة" (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 7/ 136 "كتاب الفضائل" رقم (3768 - 3775).

12 - فضل عمر - رضي الله عنه -

12 - (فَضْلُ عُمَرَ -رضي الله عنه-) أي هذا باب في ذكر مزايا عمر بن الخطاب بن نُفَيل -بنون وفاء، مصغرًا- ابن عبد العُزَّى بن رِيَاح -بكسر الراء، بعدها تحتانية، وآخره مهملة- ابن عبد الله بن قُرْط ابن رَزَاح -بفتح الراء، بعدها زاي، وآخره مهملة- ابن عَدِي بن كعب بن لُؤَيّ بن غالب، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في كعب، وعدد ما بينهما من الآباء إلى كعب متفاوت بواحد، بخلاف أبي بكر -رضي الله عنه-، فبين النبي صلى الله عليه وسلم وكعب سبعة آباء، وبين عمر وبين كعب ثمانية، وأم عمر -رضي الله عنه- حَنْتَمَة بنت هاشم بن المغيرة، ابنة عم أبي جهل، والحارث ابني هشام بن المغيرة. ووقع عند ابن منده أنها بنت هشام، أخت أبي جهل، وهو تصحيف، نَبّهَ عليه ابن عبد البر. [تنبيه]: كنية عمر -رضي الله عنه- أَبو حفص (¬1) -كما عند ابن إسحاق في "السير"- كناه النبي صلى الله عليه وسلم ببنته حفصة رضي الله عنها أكبر أولاده. ولقبه الفاروق باتفاق، فقيل: أول من لقبه به النبي صلى الله عليه وسلم، رواه أَبو جعفر بن أبي شيبة في "تاريخه" عن طريق ابن عباس عن عمر -رضي الله عنه-، ورواه ابن سعد من حديث عائشة. وقيل: أهلُ الكتاب، أخرجه ابن سعد عن الزهري. وقيل: جبريل عليه السلام رواه البغوي. أفاده في "الفتح" (¬2)، والله تعالى أعلم بالصواب. 102 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، أَخْبَرَنِي الْجرَيْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَيُّ أَصْحَابِهِ كَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِ؟، قَالَتْ: أَبُو بَكْرٍ، قُلْتُ. ثُمَّ أَيُّهُمْ؟ قَالَتْ: عُمَرُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّهُمْ؟ قَالَتْ: أَبُو عُبَيْدَةَ). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطنافسيّ المذكور في الباب الماضي. ¬

_ (¬1) ليُنظر لماذا حُذفت الهاء؟. (¬2) "الفتح" 7/ 56 "كتاب فضائل أصحاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم-".

2 - (أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة بن زيد القرشيّ الكوفيّ، ثقة ثبتٌ، ربّما دلّس، وكان بآخره يحدّث من كتب غيره، من كبار [9]. روى عن هشام بن عروة، وبُريد بن عبد الله بن أبي بردة، وإسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، ومُجَالد، وكَهْمَس بن الحسن، وابن جريج، وغيرهم. وروى عنه الشافعي، وأحمد بن حنبل، ويحيى، وإسحاق بن راهويه، وإبراهيم الجوهري، والحسن بن علي الحلواني، وأبو خيثمة، وقتيبة، وعليّ بن محمد الطنافسيّ، وغيرهم. قال حنبل بن إسحاق عن أحمد: أَبو أسامة ثقة، كان أعلم الناس بأمور الناس، وأخبار أهل الكوفة، وما كان أرواه عن هشام بن عروة. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: أَبو أسامة أثبت من مائةٍ مثلِ أبي عاصم، كان صحيح الكتاب، ضابطًا للحديث، كَيِّسًا صدوقًا. وقال أيضًا عن أبيه: كان ثبتًا، ما كان أثبته، لا يكاد يُخطىء. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: أَبو أسامة أحب إليك أو عبدة؟ قال: ما منهما إلا ثقة. وقال عبد الله بن عمر بن أبان: سمعت أبا أسامة يقول: كتبت بإصبعي هاتين مائة ألف حديث. وقال ابن عمار: كان أَبو أسامة في زمن الثوري يُعَدّ من النُّسَّاك. وقال ابن سعد: كان ثقةً مأمونًا، كثير الحديث، يُدَلِّس، ويُبَيِّن تدليسه، وكان صاحب سنة وجماعة. وقال العجليّ: كان ثقة، وكان يُعَدّ من حكماء أصحاب الحديث. وقال ابن قانع: كوفي صالح الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الآجري عن أبي داود: قال وكيع: نَهَيتُ أبا أسامة أن يستعير الكتب، وكان دفن كتبه. وحكى الأزدي في "الضعفاء" عن سفيان بن وكيع، قال: كان أَبو أسامة يتتبع كتب الرواة، فيأخذها، ويَنسخها، قال لي ابن نُمير: إن المحسن لأبي أسامة يقول: إنه دفن كتبه، ثم تتبع الأحاديث بعدُ من الناس، قال سفيان بن وكيع: إني لأعجب كيف جاز حديث أبي أسامة؟ كان أمره بَيِّنًا، وكان من أسرق الناس لحديث جيد. قال في "تهذيب التهذيب": حكى الذهبيّ أن الأزدي قال هذا القول عن سفيان

الثوري، وهذا كما ترى لم ينقله الأزدي إلا عن سفيان بن وكيع، وهو به أليق، وسفيان ابن وكيع ضعيف. انتهى (¬1). وقال العجليّ بسنده عن سفيان: ما بالكوفة شاب أعقل من أبي أسامة. قال العجليّ: مات في شوال سنة إحدى ومائتين. وكذا قال البخاري، وزاد: وهو ابن ثمانين سنة فيما قيل. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (100) حديث. 3 - (الْجُرَيْرِيُّ) -بضم الجيم، مصغّرًا- هو: سعيد بن إياس، أَبو مسعود البصريّ، ثقة اختلط قبل موته بثلاث سنين [5]. روى عن أبي الطُّفَيل، وأبي عثمان النَّهْديّ، وعبد الرحمن بن أبي بكرة، وأبي نضرة العبدي، وأبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشِّخَير، وعبد الله بن شقيق، وغيرهم. وروى عنه ابن عُلَيّة، وبشر بن المفضل، وجعفر بن الضبعي، وأبو قُدَامة، والحمادان، والثوري، وشعبة، وابن المبارك، وأبو أسامة، ووهيب، ومعمر، وغيرهم. قال أَبو طالب عن أحمد: الْجُريري محدث أهل البصرة. وقال الدوريّ، عن ابن معين: ثقة. وقال أَبو حاتم: تغير حفظه قبل موته، فمن كتب عنه قديمًا فهو صالح، وهو حسن الحديث. وقال يحيى القطان عن كهمس: أنكرنا الجريري أيام الطاعون. وقال ابن سعد عن يزيد بن هارون: سمعت من الجريري سنة (42)، وهي أول سنة دخلت البصرة، ولم نُنْكِر منه شيئًا، وكان قيل لنا: إنه قد اختلط، وسمع منه إسحاق الأزرق بعدنا. وقال أحمد بن حنبل، عن يزيد بن هارون: ربما ابتدأنا الجريريُّ، وكان قد أُنكر. وقال ابن معين، عن ابن عَدِيّ: لا نَكْذِب الله سمعنا من الجريري وهو مختلط. وقال الآجري، عن أبي داود: أرواهم عن الجريري ابنُ عُلَيّة، وكل من أدرك أيوب فسماعه من الجريري جيد. وقال النسائي: ثقة أُنكر أيام الطاعون. وقال ابن معين: قال يحيى بن ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" 1/ 477.

سعيد لعيسى بن يونس: أسمعت من الجريري؟ قال: نعم، قال: لا ترو عنه -يعني لأنه سمع منه بعد اختلاطه-. وقال الدُّوري عن ابن معين: سمع يحيى بن سعيد من الجريري، وكان لا يروي عنه. وقال ابن سعد: كان ثقة -إن شاء الله- إلا أنه اختلط في آخر عمره. وقاله عبد الله بن أحمد عن أبيه: سألت ابن علية أكان الجريري اختلط؟ فقال: لا، كَبِرَ الشيخ فَرَقّ. وقال النسائي: هو أثبت عندنا من خالد الحذاء. وقال العجلي: بصري ثقة، واختلط بآخره، رَوَى عنه في الاختلاط يزيد بن هارون، وابن المبارك، وابن أبي عديّ، وكُلُّ ما روى عنه مثل هؤلاء الصغار فهو مختلط، إنما الصحيح عنه حماد بن سلمة، والثوري، وشعبة، وابن علية، وعبد الأعلى من أصحهم سماعًا منه قبل أن يختلط بثمان سنين. انتهى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن أحاديث الجريريّ لا تصحّ إلا إذا جاءت من طريق قدماء أصحابه، وهم المذكورون في كلام العجليّ، فتنبّه. والله تعالى أعلم. وقال ابن سعد: قالوا: توفي سنة (144). وكذا أرّخه ابن حبان، وقال: كان قد اختلط قبل أن يموت بثلاث سنين. ورآه يحيى بن سعيد القطان، وهو مختلط، ولم يكن اختلاطه فاحشًا. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا. [تنبيه]: قوله: "الْجُريريّ" -بضم الجيم، وفتح الراء، مصغّرا-: نسبة إلى جُرَير بن عبّاد بن ضُبيعة بن قيس بن ثعلبة، بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل. قال السَّمْعاني: وإنما قيل لسعيد بن إياس: الْجُريريّ؛ لأنه من ولد جُرَير بن عباد أخي الحارث بن عباد، وقد قيل: إنه من مولى بني قيس بن ثعلبة بن بكر بن وائل. انتهى (¬1). والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) راجع "الأنساب" جـ 2 / ص 78.

4 - (عَبْدُ الله بْنُ شَقِيقٍ) العُقيليّ -بالضمّ- أَبو عبد الرحمن، ويقال: أَبو محمد البصريّ، ثقة، فيه نصْبٌ [3]. روى عن أبيه على خلاف فيه، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبي ذر، وأبي هريرة، وعائشة، وابن عباس، وابن عمر، وعبد الله بن أبي الْجَدْعاء، وعبد الله بن سُراقة، وأقرع مؤذن عمر، وغيرهم. وروى عنه ابنه عبد الكريم، ومحمد بن سيرين، وعاصم الأحول، وقتادة، وحميد الطويل، وأيوب السختياني، وبُدَيل بن مَيْسرة العقيليّ، والْجُريريّ، وغيرهم. ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل البصرة، وقال: روى عن عمر، قال: وقالوا: كان عبد الله بن شقيق عثمانيا، وكان ثقة في الحديث، وروى أحاديث صالحة. وقال يحيى بن سيعد: كان سليمان التيمي سيىء الرأي في عبد الله بن شقيق. وقال أحمد بن حنبل: ثقة، وكان يَحْمِل على عليّ. وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة، وكن عثمانيا، يُبغِض عليا. وقال ابن عدي: ما بأحاديثه بأس -إن شاء الله تعالى-. قال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: ثقة. وقال العجلي: ثقة، وكان يَحْمِل على عليّ. وقال الْجُرَيريّ: كان عبد الله بن شقيق مُجَاب الدعوة، كانت تمر به السحابة، فيقول: اللهم لا تَجُوز كذا وكذا حتى تُمْطِر، فلا تجوز ذلك الموضع حتى تمطر، حكاه ابن أبي خيثمة في "تاريخه". قال الهيثم بن عديّ، ومحمد بن سعد: تُوُفي في ولاية الحجاج على العراق. وقال خليفة: مات بعد المائة. وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة (108). أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، برقم (102) و (1150) و (1158) و (1164) و (1228) و (1228) و (4316). 5 - (عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت في 2/ 14، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، فتفرّد به هو والنسائيّ في "مسند عليّ -رضي الله عنه-". 3 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. 4 - (ومنها): أن فيه عائشة الصدّيقة بنت الصدّيق رضي الله عنهما حبيبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبنت حبيبه، ومن المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ الله بْنِ شَقِيقٍ) رحمه الله، أنه (قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَيُّ أَصْحَابِهِ) الضمير للنبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وفي رواية الترمذيّ: "قلت لعائشة أي أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" (كَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِ؟) -صلى الله عليه وسلم- (قَالَتْ: أَبُو بَكْرٍ) -رضي الله عنه- مبتدأ محذوف الخبر، أو بالعكس: أي أَبو بكر أحب إليه، أو أحبّ أصحابه إليه أَبو بكر -رضي الله عنه- (قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّهُمْ؟) أي ثم بعد أبي بكر -رضي الله عنه- أي أصحابه -صلى الله عليه وسلم- أحبّ إليه (قَالَتْ: عُمَرُ) -رضي الله عنه- (قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّهُمْ؟ قَالَتْ: أَبُو عُبَيْدَة) بن الجرّاح -رضي الله عنه- ستأتي ترجمته برقم (135) إن شاء الله تعالى. زاد في رواية الترمذيّ من طريق إسماعيل ابن عليّة، عن الْجُريريّ: "قلت: ثم من؟ قال: فسكتت"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده الْجُريريّ، وقد اختلط قبل موته بثلاث سنين، والراوي عنه هنا أَبو أسامة، ولم يُعَدّ فيمن روى عنه قبل الاختلاط؟. [قلت]: لم ينفرد به أَبو أسامة، بل تابعه عليه إسماعيل ابن عليّة، وهو ممن روى

عنه قبل الاختلاط، كما أسلفناه في ترجمة الْجُريريّ، وروايته أخرجها الترمذيّ في "جامعه"، فقال: حدثنا أحمد بن إبراهيم الدَّوْرقيّ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن الجريريّ، عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة: أي أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أحب إلى رسول الله؟، قالت: أَبو بكر، قلت: ثم من؟ قالت: عمر، قلت: ثم من؟ قالت: ثم أَبو عبيدة ابن الجراح. قال أَبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) رحمه الله هنا (12/ 102) بهذا السند فقط، وأخرجه الترمذيّ في "المناقب" (3657) و (النسائيّ) في "فضائل الصحابة" من "الكبرى" (8144) و (أحمد) في "مسنده" (25829) و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار" (8064). وفوائد الحديث تقدّمت في الباب الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 103 - (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْحِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ خِرَاشٍ الْحَوْشَبِيُّ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لمَّا أَسلَمَ عُمَرُ نَزَلَ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ لَقَدِ اسْتَبْشَرَ أَهْلُ السَّمَاءِ بِإِسْلَامِ عُمَرَ). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْحِيُّ (¬1)) هو: إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن محمد ابن يحيى بن زكريا بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي الطَّلْحي الكوفي، صدوقٌ يَهِم [10]. ¬

_ (¬1) بفتح الطاء، وسكون اللام هذه النسبة إلى طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه-، قاله في "الأنساب" 4/ 48.

روى عن أبي بكر بن عياش، ووكيع، ورَوْح بن عُبادة، وداود بن عطاء المدني، وعبد الله بن خِرَاش الْحَوشبي، وجماعة. وروى عنه ابن ماجه، وأبو زرعة، ومطين، وقال: مات سنة (232) (¬1)، وكان ثقة، وعمرو بن عبد الله الأودي، وابن أبي عاصم، وعدة. قال أَبو حاتم: ضعيف. وذكره ابن حبان في "الثقات". تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (103) و (104) و (350) و (1333) و (3369). 2 - (عَبْدُ الله بْنُ خِرَاشٍ الْحَوْشَبِيُّ (¬2)) هو: عبد الله بن خِراش -بالخاء المعجمة- ابن حَوْشب الشيبَاني الحوشبي، أَبو جعفر الكوفي، أخو نَهّار بن خراش، ضعيف، وأطلق عليه ابن عمّار الكذب (¬3). روى عن عمه العوّام، ومرثد بن عبد الله الشيباني، وموسى بن عقبة، وواسط بن الحارث، ويزيد بن أبي يزيد. وروى عنه بشر بن الحكم العبدي، وإسماعيل بن محمد الطلحي، وأبو سعيد الأشجّ، وعمر بن حفص بن غياث، ومسعود بن جويرية الموصلي، وغيرهم. قال أَبو زرعة: ليس بشيء ضعيف. وقال أَبو حاتم: منكر الحديث، ذاهب الحديث، ضعيف الحديث. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أَبو أحمد بن عدي: عامة مما يرويه غير محفوظ. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أخطأ. وقال الساجي: ضعيف الحديث جدّا، ليس بشيء، كان يضع الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الدارقطني: ضعيف. وذكره البخاري في "الأوسط" في "فصل من مات من ¬

_ (¬1) وقيل: مات سنة (233). (¬2) بفتح الحاء المهملة، وسكون الواو، وفتح الشين العجمة: نسبة إلى حَوْشَب، وهو جد. (¬3) لم يذكر له في "التقريب" طبقة، والظاهر أنه من التاسعة.

الستين إلى السبعين ومائة"، وقال محمد بن عمار الموصليّ: كذاب. تفرّد به المصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (103) و (2472) "المسلمون شركاء في ثلاث ... ". 3 - (الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ) بن يزيد بن الحارث الشيباني الرَّبَعِيّ، أَبو عيسى الواسطي، أسلم جده على يد عليّ -رضي الله عنه-، فوهب له جارية، فولدت له حوشبًا، فكان على شرطته (¬1). روى العوام عن أبي إسحاق السبيعي، ومجاهد، وسعيد بن جُمْهان، وإبراهيم بن عبد الرحمن السَّكْسَكيّ، وسلمه بن كهيل، وغيرهم. وروى عنه ابنه سلمة، وابنا أخيه: عبد الله، وشهاب، وشعبة، وسفيان بن حبيب، وحفص بن عمر الرازي، وهشيم، ويزيد بن هارون، وغيرهم. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة ثقة. وقال ابن معين، وأبو زرعة: ثقة. وقال أَبو حاتم: صالح ليس به بأس. وقال العجلي: شَيْبَاني من أنفسهم ثقة صاحب سنة ثبت صالح، وكان أبوه على شُرْطه الحجاج، روى نحوًا من مائتي حديث. وقال ابن سعد عن يزيد بن هارون: كان صاحب أمر بالعروف ونهي عن المنكر، مات سنة ثمان وأربعين ومائة، وكان ثقة. وذكر أسلم بن سهل في "تاريخ واسط" أن اسم جده يزيد ابن رُويم، وروى ذلك بإسناده عنه، وكذا سماه ابن حبان لمّا ذكر العوام في "الثقات". وقال الحاكم: العوام، ويوسف، وطلاب، أولاد حَوْشب ثقات، يُجْمَع حديثهم. وعن هشيم قال: ما رأيت أَقْوَلَ بالحق من العوام. ¬

_ (¬1) قال الحافظ في "تهذيب التهذيب" 3/ 335: لم يتجه لي المعنى في قوله: "وكان على شرطته" هل يعني به أن يزيد الذي أسلم على يد عليّ كان على شرطَة عليّ أم لا؟، لأنه إن عَنَى حوشبًا، وهو الظاهر فهو من المحال؛ لقصر مدة عليّ أن يُسَلم فيها رجل على يده، ثم يولد له، ثم يكبر الولد حي يصير صاحب شرطته، ثم تبين لي أنه سقط منه شيء، وأنه كان: ولدت له حوشبًا، فكان على شرطة الحجاج. والله أعلم. انتهى.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط برقم (103) و (1606) و (2472) و (4081). 4 - (مجاهد) بن جَبْر، أَبو الحجاج المخزومي مولاهم المكيّ، ثقة ثبت إمام [3] تقدّم في 9/ 74. 5 - (ابن عبّاس) هو: عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما تقدّم في 3/ 27، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: لَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ) بن الخطّاب -رضي الله عنه- (نَزَلَ جِبْرِيلُ) وفي رواية ابن حبّان: "أتى جبريل صلوات الله عليه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ... " (فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ لَقَدِ اسْتَبْشَرَ أَهْلُ السَّمَاءِ) وفي نسخة: "السماوات" (بِإِسْلَامِ عُمَرَ) أي لقد أظهرت الملائكة الفرح والسرور بإسلامه، لأنه سبب لتقوية الحقّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه الرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا ضعيفٌ جدّا؛ لأن في سنده عبد الله بن خراش مجمع على ضعفه، بل كذّبه بعضهم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (12/ 103) بهذا السند فقط، وقد تفرّد به، فلم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (الحاكم) في "المستدرك" (3/ 84) من طريق عبد الله بن خراش، عن العوّام بن حوشب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لمّا أسلم عمر أتاني جبريل، فقال: استبشر أهل السماء بإسلام عمر"، وصححه، فتعقّبه الذهبيّ بقوله: عبد الله ضعفه الدارقطنيّ (¬1)، وأخرجه ¬

_ (¬1) في ذكر الذهبي قول الداقطنيّ فقط فيه قصور؛ لأن كلام غيره من الأئمة أغلظ =

(الطبرانيّ) في "المعجم الكبير" (11/ 80) الحديث (11109)، ومن طريقه الحافظ المزّيّ في "تهذيب الكمال" (14/ 455) وأخرجه (ابن عديّ) في "الكامل" (4/ 1525) من طريق عبد الله بن عمرو بن أبان، عن عبد الله بن خراش، بهذا الإسناد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 104 - (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْحِيُّ، أَنْبَأَنَا دَاوُدُ بْنُ عَطَاءٍ الْمَدِينِيُّ، عَنْ صَالِح بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَوَّلُ مَنْ يُصَافِحُهُ الْحَقُّ عُمَرُ، وَأَوَّلُ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَأْخُذُ بِيَدِهِ فَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْحِيُّ) المذكور في السند الماضي. 2 - (دَاوُدُ بْنُ عَطَاءٍ الْمَدِينِيُّ) هو: داود بن عطاء الْمُزنيّ مولاهم، ويقال: مولى الزبير، أَبو سليمان المدني، أو المكيّ، ضعيف [8]. روى عن موسى بن عقبة، وهشام بن عروة، وصالح بن كيسان، وغيرهم. وروى عنه الأوزاعي، وهو من شيوخه، وإبراهيم بن المنذر الحزامي، وإسماعيل ابن محمد الطلحي، وغيرهم. قال عبد الله بن أحمد (¬1): سمعت عبد الله بن محمد بن إسحاق الأَذْرَمِيّ سأل أبي عنه، فقال: لا يُحَدَّث عنه، قال: وسمعته -يعني أباه- يقول: ليس بشيء، قد رأيته قبل أن يموت بأيّام. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: ليس بالقويّ، ضعيف الحديث ¬

_ = فكان الأولى ذكره، فتنبّه. (¬1) في نسخ "تهذيب التهذيب" 1/ 567 في ترجمة داود بن عطاء هذا خلل ينبغي مقابلتها بما في "تهذيب الكمال" 8/ 419 - 420، فليُتنبّه.

منكر الحديث، قلت: يُكتب حديثه؟ قال: من شاء كتب حديثه زَحْفًا. وقال البخاري: قال أحمد: رأيته، وليس بشيء. وقال البخاريّ، وأبو زرعة: منكر الحديث. وقال النسائيّ: ضعيف. وقال ابن عدي: ليس حديثه بالكثير، وفي حديثه بعض النُّكْرة. وقال الدارقطنيّ: متروك، وهو من أهل مكة، كذا قال. وقال ابن حبان: من أهل المدينة، وهو الذي يقال له: داود بن أبي عطاء، كثير الوهم في الأخبار، لا يُحتَجّ به بحال؛ لكثرة خطئه، وغلبته على صوابه. تفرّد به المصنّف، وليس له عنده في هذا الكتاب سوى حديثين فقط، برقم (104) و (1743). 3 - (صَالِحُ بْنُ كيْسَانَ) أَبو محمد، ويقال: أَبو الحارث المدنيّ، مُؤَدِّب وَلَد عمر بن عبد العزيز، ثقة ثبتٌ فقيهٌ [4]. رأى ابن عمر، وابن الزبير، وقال ابن معين: سمع منهما، وروى عن سليمان بن أبي حَثْمَة، وسالم بن عبد الله بن عمر، وإسماعيل بن محمد بن سعد، والأعرج، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعروة بن الزبير، ونافع مولى بن عمر، ونافع مولى أبي قتادة، ونافع بن جبير بن مطعم، والزهريّ، وأبي الزناد، وابن عجلان، والثلاثة أصغر منه، وغيرهم. وروى عنه مالك، وابن إسحاق، وابن جريج، ومعمر، وإبراهيم بن سعد، وحماد بن زيد، وسليمان بن بلال، وابن عيينة، وغيرهم. قال مصعب الزبيريّ: كان جامعًا بين الحديث والفقه والمروءة. وقال حرب: سئل عنه أحمد: فقال: بخ بخ. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: صالح أكبر من الزهري. وقال إسماعيل القاضي، عن ابن المديني: صالح أسنّ من الزهري، قد رأى ابن عمر وابن الزبير، وقال ابن معين: صالح أكبر من الزهريّ، سمع من ابن عمر وابن الزبير. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: معمر أحب إليّ، وصالح ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: حدثني أحمد بن العباس عن ابن معين: قال: ليس في أصحاب الزهري أثبت من

مالك، ثم صالح بن كيسان. وقال يعقوب: صالح ثقة ثبت. وقال أَبو حاتم: ضالح أحب إلي من عُقيل؛ لأنه حجازي، وهو أسنّ، رأى ابن عمر، وهو ثقة، يُعَدّ في التابعين. وقال النسائي، وابن خِراش: ثقة. قال الهيثم بن عدي: مات في زمن مروان بن محمد. وقال ابن سعد عن الواقدي: مات بعد الأربعين ومائة. وقيل: مَخْرَج محمد بن عبد الله بن حسن، وكان ثقةً، كثير الحديث. وقال الحاكم: مات صالح بن كيسان، وهو ابن مائة ونيف وستين سنة. وكان قد لَقِي جماعة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم بعد ذلك تَلَمّذَ للزهري، وتَلَقَّن عنه العلم، وهو ابن تسعين سنة، ابتدأ بالتعليم، وهو ابن سبعين سنة. وتعقّب الحافظ كلام الحاكم هذا، فقال: هذه مُجازفة قبيحة، مقتضاها أن يكون صالح بن كيسان وُلد قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وما أدري من أين وقع ذلك للحاكم؟ ولو كان طلب العلم كما حدّده الحاكم لكان قد أخذ عن سعد بن أبي وقاص، وعائشة، وقد قال علي بن المديني في "العلل": صالح بن كيسان لم يَلْقَ عقبة بن عامر، كان يروي عن رجل عنه. وقرأت بخط الذهبي "الذي يَظهَر لي أنه ما أكمل التسعين". انتهى. وقال العجليّ: ثقة. ووقع في "كتاب الزكاة" من "صحيح البخاري": صالح أكبر من الزهري أدرك ابن عمر، وقال ابن حبان في "الثقات": كان من فقهاء المدينة، والجامعين للحديث والفقه، من ذوي الهيئة والمروءة، وقد قيل: إنه سمع من ابن عمر، وما أراه محفوظًا. وقال الخليلي في "الإرشاد": كان حافظًا إمامًا، روى عنه من هو أقدم منه، عمرو بن دينار، وكان موسى بن عقبة يَحكِي عنه، وهو من أقرانه. وقال ابن عبد البر: كان كثير الحديث، ثقة حجة فيما حَمَلَ. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (104) و (860). 4 - (ابْنُ شِهَابٍ) تقدّم في 2/ 15. 5 - (سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حَزْن بن أبي وَهْب بن عَمْرو بن عائذ بن عِمْران بن مَخْزوم القرشيّ المخزوميّ، أحد العلماء الأثبات، والفقهاء الكبار، ثقة ثبت فاضل،

اتفقوا على أن مرسلاته أصحّ المراسيل، وقال ابن المدينيّ: لا أعلم في التابعين أوسع علمًا منه، من كبار [3] (¬1). روى عن أبي بكر مرسلا، وعن عمر، وعثمان، وعلي، وسعد بن أبي وقاص، وحكيم بن حِزَام، وابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو بن العاص، وأبيه المسيب، وأبي هريرة، وكان زوج ابنته، وغيرهم. وروى عنه ابنه محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، والزهري، وقتادة، وشريك بن أبي نمر، وأبو الزناد، وغيرهم. قال نافع عن ابن عمر: هو والله أحد المفتين. وعن عمرو بن ميمون بن مهران عن أبيه: قال: قدمت المدينة، فسألت عن أعلم أهل المدينة، فدُفعت إلى سعيد بن المسيب. وقال ابن شهاب: قال لي عبد الله بن ثعلبة بن أبي صُعَير: إن كنت تريد هذا -يعني الفقه- فعليك بهذا الشيخ، سعيد بن المسيب. وقال قتادة: ما رأيت أحدا قط أعلم بالحلال والحرام منه. وقال محمد ابن إسحاق عن مكحول: طفت الأرض كلها في طلب العلم، فما لقيت أعلم منه. وقال سليمان بن موسى: كان أفقه التابعين. وقال البخاري: قال لي علي عن أبي داود، عن شعبة، عن إياس بن معاوية، قال لي سعيد بن المسيب: ممن أنت؟ قلت: من مُزَينة، قال: إني لأذكر يوم نَعَى عمر بن الخطاب النعمان بن مقرن على المنبر. وقال أَبو طالب: قلت لأحمد: سعيد بن المسيب؟ فقال: ومن مثل سعيد؟ ثقة، من أهل الخير، فقلت له: سعيد عن عمر حجة؟ قال: هو عندنا حجة، قد رأى عمر، وسمع منه، وإذا لم يُقبل سعيد عن عمر، فمن يُقْبَل؟. وقال الميموني وحنبل، عن أحمد: مرسلات سعيد صحاح، لا نرى أصح من مرسلاته. وقال ¬

_ (¬1) جعله في "التقريب" "من كبار الثانية"، والظاهر أنه من كبار الثالثة، كما لا يخفى؛ لأنه وُلِد لسنتين مضتا من خلافة عمر -رضي الله عنه- ولم يسمع من بلال، ومن زيد بن ثابت، ولا من عمرو بن العاص، ولا من عبد الله بن زيد صاحب الأذان، ولا من عتّاب بن أَسيد -رضي الله عنه-، واختُلف في سماعه من عمر -رضي الله عنه-، فمثل هذا يكون من كبار الطبقة الثالثة، لا من كبار الطبقة الثانية، فتبصّر. والله تعالى أعلم.

عثمان الحارثي عن أحمد: أفضل التابعين سعيد بن المسيب. وقال ابن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علما من سعيد بن المسيب، قال: وإذا قال: مضت السنة، فحسبك به، قال: هو عندي أجل التابعين. وقال الربيع عن الشافعي: إرسال ابن المسيب عندنا حسن. وقال الليث عن يحيى بن سعيد: كان ابن المسيب يُسَمَّى راوية عمر، كان أحفظ الناس لأحكامه وأقضيته. وقال إبراهيم بن سعد عن أبيه، عن سعيد: ما بقي أحدٌ أعلم بكل قضاء قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل قضاء قضاه أَبو بكر، وكل قضاء قضاه عمر، قال إبراهيم عن أبيه: وأحسبه قال: وكل قضاء قضاه عثمان مني. وقال مالك: بلغني أن عبد الله بن عمر كان يرسل إلى ابن المسيب، يسأله عن بعض شأن عمر وأمره. وقال مالك: لم يدرك عمر، ولكن لما كبر أكب على المسألة عن شأنه وأمره. وقال قتادة: كان الحسن إذا أشكل عليه شيء كتب إلى سعيد بن المسيب. وقال العجلي: كان رجلا صالحا فقيهًا، وكان لا يأخذ العطاء، وكانت له بضاعة يتجر بها في الزيت. وقال أَبو زرعة: مدني، قرشي، ثقة، إمام. وقال أَبو حاتم: ليس في التابعين أنبل منه، وهو أثبتهم في أبي هريرة. وقال ابن حبان في "الثقات": كان من سادات التابعين فقهًا ودينًا وورعًا وعبادةً وفضلًا، وكان أفقه أهل الحجاز، وأعبر الناس لرؤيا، ما نودي بالصلاة من أربعين سنة إلا وسعيد في المسجد، فلما بايع عبد الملك للوليد وسليمان، وأَبَى سعيد ذلك فضربه، هشام بن إسماعيل المخزومي ثلاثين سوطًا، وألبسه ثيابا من شعر، وأمر به فطيف به، ثم سُجِن. قال الواقدي: مات سنة أربع وتسعين، في خلافة الوليد، وهو ابن خمس وسبعين سنة. وقال أَبو نعيم: مات سنة ثلاث وتسعين. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (96) حديثًا. [تنبيه]: المُسَيِّب والد سعيد صحابيّ مشهور، -رضي الله عنه-، وهو بكسر الياء، وفتحها، والكسر أولى، وإن كان الفتح هو المشهور، فقد حكى صاحب "مطالع الأنوار" عن عليّ ابن المديني أنه قال: أهل العراق يفتحون الياء، وأهل المدينة يكسرونها، قال: وحُكي أن

سعيدا كان يكره الفتح. انتهى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كسر الياء هو الأولى؛ لأن أهل المدينة أدرى بضبط أسماء أهل بلدهم، ولأنه رُوي عنه الكراهة للفتح، وحُكي أيضًا أنه دعا على من فتحه. والله تعالى أعلم. وإلى جواز الوجهين أشار الحافظ السيوطيّ رحمه الله تعالى في "ألفية الأثر"، حيث قال: كُلُّ مُسَيَّبٍ فَبِالْفَتْحِ سِوَى ... أَبِي سَعِيدٍ فَلِوَجْهَيْنِ حَوَى وقلت في ترجيح الكسر مذيّلًا لكلامه: قُلْتُ وَكَسْرُهُ أَحَقُّ إِذْ أَتَى ... أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِهِ فَثَبَتَا وَعَنْ سَعِيدٍ كُرْهُهُ الْفَتْحَ وَرَدْ ... بَلْ قِيلَ قَدْ دَعَا عَلَى مَنِ اعْتَمَدْ فَابْعُدْ عَنِ الْفَتْحِ تَكُنْ مُجَانِبَا ... دُعَاءَهُ وَنِعْمَ ذَاكَ مَطْلَبَا [تنبيه آخر]: سعيد بن المسيِّب هو أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، المجموعين في قول بعضهم: إِذَا قِيلَ مَنْ في الْعِلْمِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ... مَقَالَتُهُمْ لَيْسَتْ عَنِ الحقِّ خَارِجَهْ فَقُلْ هُمْ عُبَيْدُ الله عُرْوَةُ قَاسِمٌ ... سَعِيدٌ أَبُو بَكْرٍ سُلَيْمَانُ خَارِجَهْ وقال الحافظ العراقيّ رحمه الله تعالى في "ألفيّة الحديث": وَفي الْكِبَارِ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ ... خَارِجَةُ الْقَاسِمُ ثُمَّ عُرْوَةُ ثُمَّ سُلَيْمَانُ عُبَيْدُ الله ... سَعِيدُ وَالسَّابِعُ ذُو اشْتِبَاهِ إِمَّا أَبُو سَلَمَةٍ أَوْ سَالِمُ ... أَوْ فَأَبُو بَكْرٍ خِلاَفٌ قائِمُ 6 - (أبيّ بن كعْبٍ) بن قيس الأنصاريّ الخزرجيّ، أَبو المنذر، من فضلاء الصحابة -رضي الله عنهم-، سيّد القرّاء، قيل: مات سنة (19) وقيل: (32) وقيل: غير ذلك، تقدّم في 10/ 77، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث: (عَن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-:" أَوَّلُ مَنْ يُصَافِحُهُ الْحَقُّ عُمَرُ، وَأَوَّلُ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَأْخُذُ بِيَدِهِ فَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ) قال السنديّ رحمه الله تعالى في "شرحه": يحتمل أن المراد صاحب الحقّ، وهو الملك الذي كان إلهام الصواب بواسطته، ويحتمل أن المراد بالحقّ ما هو ضدّ الباطل، ومصافحته والتسليم عليه كناية عن ظهوره له قبل غيره في المشورة وغيرها، أو هو مبنيّ على أن الأعراض لها صورٌ تظهر فيها يوم القيامة، ثم إنه يدخل الجنّة بواسطة توفيقه إيّاه، وهو المراد بقوله: وأول من يأخذ بيده إلخ، ومرجع المعنيين إلى الفضل الجزئيّ بواسطة توفيقه للصواب، وحمل الحقّ على الله تعالى مع بعده يستلزم الفضل الكليّ، بل على الأنبياء، فلا وجه له، فليُتأمّل. انتهى كلام السنديّ (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تأويل السنديّ هذا لا يخفى ما فيه من التعسّف لو صحّ الحديث، لكننا استغنينا عن هذا التعسّف والتكلّف حيث كان الحديث منكرًا. قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى -بعد أن أورده في كتابه الكبير "جامع المسانيد والسنن الهادي لأقوم سنن" جـ 1/ ص 72: هذا الحديث منكرٌ جدّا، وما أُبعِد أن يكون موضوعًا، والآفة فيه من داود بن عطاء هذا. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله (¬2). قال الجامع: هذا الذي قاله الإمام ابن كثير رحمه الله تحقيقٌ نفيسٌ جدّا، فما أحقّه بأن يُحكم عليه بالوضع، فإن داود بن عطاء قال عنه أَبو حاتم، والبخاريّ، وأبو زرعة: منكر الحديث. وقال الدارقطنيّ: متروك، وقد تفرّد بهذا الحديث المنكر، فما أحقّه بأن يكون مما عملته يداه. وبالجملة فالحديث لا يستحقّ أن يُشتغل به أكثر من هذا. وقد تفرّد به المصنّف، ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 76. (¬2) راجع "جامع المسانيد والسنن" 1/ 72 في "مسند أبيّ بن كعب" -رضي الله عنه-.

فأخرجه بهذا السند هنا 12/ 104 فقط، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 105 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، أَبُو عُبَيْدٍ الْمَدِينِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ، قَالَ: حَدَّثَنِي الزَّنْجِيُّ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ بْنِ الخطَّابِ خَاصَّةً"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، أَبُو عُبَيْدٍ الْمَدِينِيُّ) التّبّان التيميّ مولاهم، صدوق يُخطىء [10] تقدّم في 7/ 46. 2 - (عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجِشُون التيميّ مولاهم، أَبو مروان المدني الفقيه، مفتي أهل المدينة، صدوق، له أغلاط في الحديث، وكان رفيق الشافعيّ [9]. روى عن أبيه، وخاله يوسف بن يعقوب، ومالك، ومسلم بن خالد الزَّنْجِيّ، وعبد الرحمن بن أبي الزناد، وإبراهيم بن سعد، وغيرهم. وروى عنه أَبو الربيع سليمان بن داود الْمَهْريّ، وعمار بن طالوت، وعمرو بن علي الصَّيرفي، وأبو عُبيد محمد بن عُبيد التَّبّان، وغيرهم. قال مصعب الزبيريّ: كان مفتي أهل المدينة في زمانه. وقال الآجري عن أبي داود: كان لا يَعقِل الحديث. قال ابن الْبَرْقِيّ: دعاني رجل إلى أن أمضي إليه، فجئناه فإذا هو لا يدري الحديث أَيْشٍ هو. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن عبد البر: كان فقيهًا فصيحًا، دارت عليه الفُتْيا، وعلى أبيه قبله، وهو فقيه ابن فقيه، وكان ضرير البصر، وكان مُولَعًا بسماع الغنا. قال: وقال أحمد بن حنبل: قَدِمَ علينا، ومعه من يُغَنِّيه. وقال الساجيّ: ضعيف في الحديث، صاحب رأي، وقد حدّث عن مالك بمناكير، حدثني القاسم، ثنا الأثرم قال: قلت لأحمد: إن عبد الملك بن الماجشون يقول في سند:

أو كذا. قال: مَنْ عبد الملك؟ عبد الملك من أهل العلم؟ من يأخذ من عبد الملك؟. وحدثني محمد بن رَوْح: سمعت أبا مصعب يقول: رأيت مالك بن أنس طرد عبد الملك؛ لأنه كان يُتَّهَم برأي جهم. قال الساجي: وسألت عمرو بن محمد العثماني عنه: فجعل يَذُمُّه. وقال مصعب الزبيري: كان يفتي، وكان ضعيفا في الحديث. وقال يحيى ابن أكثم: كان عبد الملك بَحْرًا لا تُكَدِّره الدِّلاء. وقال أحمد بن المعدّل: كلما تذكرت أن التراب يأكل لسان عبد الملك صَغُرت الدنيا في عيني، فقيل له: أين لسانك من لسانه؟ فقال: كان لسانه إذا تعايا أفصح من لساني إذا تحايا. قيل: مات سنة (212)، وقيل: سنة (214). وقال الشيخ أَبو إسحاق الفزاري في "طبقاته": مات سنة ثلاث عشرة، قال: وكان فصيحًا. أخرج له أَبو داود في "مسند مالك"، والنسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (105) و (905). 3 - (الزَّنْجِيُّ بْنُ خَالِدٍ) هو: مسلم بن خالد بن قَرْقَرَة، ويقال: ابن جَرْجَةَ المخزومي مولاهم، أَبو خالد الزنجي المكي الفقيه، صدوقٌ كثير الأوهام [8]. روى عن زيد بن أسلم، والعلاء بن عبد الرحمن، وهشام بن عروة، والزهري، وعتبة بن مسلم، وداود بن أبي هند، وابن جريج، وغيرهم. وروى عنه ابن وهب، والشافعي، وعبد الملك بن الماجشون، ومروان بن محمد، والقعنبي، وأبو نعيم، وعلي بن الجعد، وغيرهم. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: مسلم بن خالد كذا وكذا. وقال عباس الدوريّ، وابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة. وقال ابن أبي مريم عنه: ليس به بأس. وقال محمد ابن عثمان بن أبي شيبة عن ابن معين: ضعيف. وقال ابن المديني: ليس بشيء. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائيّ: ليس بالقويّ. وقال أَبو حاتم: ليس بذاك القويّ، منكر الحديث، يكتب حديثه، ولا يحتج به، تَعرِف وتُنكِر. وقال ابن عديّ: حسن الحديث، وأرجو أنه لا بأس به. وقال عبد الله بن أحمد: قلت لسُويد بن سعيد: لِمَ

سُمِّي الزنجي؟ قال: كان شديد السواد. وقال إبراهيم الحربي: إنما سمي الزنجي؛ لأنه كان أشقر كالبَصَلة، وكان فقيه أهل مكة. وقال ابن سعد: حدثنا بكر بن محمد المكي: قال كان أبيض مُشْرَبًا بحمرة، وقال ابن أبي حاتم: الزِّنْجيّ إمام في الفقه والعلم، كان أبيض مُشْرَبًا حُمْرةً، وإنما قيل له: الزنجي؛ لمحبته التمر، قالت له جاريته: ما أنت إلا زنجي لأكل التمر، فبقي عليه هذا اللقب. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة، قال عثمان: ويقال: إنه ليس بذاك في الحديث. وقال الساجيّ: صدوق، كان كثير الغلط، وكان يرى القدر. قال الساجي: وقد رُوي عنه ما يَنفِي القدر، حدثنا أحمد بن مُحْرِز، سمعت يحيى بن معين يقول: كان مسلم بن خالد ثقة صالح الحديث. وقال يعقوب بن سفيان: سمدت مشايخ مكة يقولون: كان لمسلم بن خالد حلقة أيام ابن جريج، وكان يَطلُب ويسمع ولا يكتب، فلما احتيج إليه وحَدّث كان يأخذ سماعه الذي قد غاب عنه -يعني فضُعِّفَ حديثه لذلك-. وذكره ابن البرقي في "باب من نُسب إلى الضعف ممن يكتب حديثه". وقال الدارقطني: ثقة. حكاه ابن القطان. وقال ابن سعد: وتوفي في خلافة هارون سنة ثمانين ومائة بمكة، وكان كثير الغلط في حديثه، وكان في هديه نعم الرجل، ولكنه كان يَغْلَط، وكان داود العطار أروج في الحديث منه. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من فقهاء الحجاز، ومنه تعلم الشافعي الفقه قبل أن يَلْقَى مالكًا، وكان مسلم بن خالد يُخطىء أحيانًا، ومات سنة تسع وسبعين. وقيل: سنة ثمانين ومائة. أخرج له أَبو داود، والمصنّف، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، برقم (105) و (1651) و (2243) و (2285) و (2974) و (3281) و (3505). 4 - (هشام بن عروة) الأسديّ، أَبو المنذر المدنيّ، ثقة فقيه، [5]، تقدّم في 8/ 52. 5 - (أبوه) عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أَبو عبد الله المدنيّ، ثقة ثبتٌ فقيه [3] تقدّم في 2/ 15.

6 - (عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت في 2/ 14، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها، أنها (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ خَاصَّةً) أي قوّه، وانصره به، واجعله غالبًا على الكفر، فهو كقوله عز وجل: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} الآية [يس: 14]. وقد استجاب الله سبحانه وتعالى دعاءه -صلى الله عليه وسلم-، فقد أعزّ الله تعالى بإسلامه -رضي الله عنه- الإسلام وأهله؛ لِمَا كان فيه من الجَلَد والقوّة في أمر الله. أخرج الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "ما زِلْنا أَعِزّةً منذ أسلم عمر". وروى ابن أبي شيبة، والطبراني، من طريق القاسم بن عبد الرحمن، قال: قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: كان إسلام عمر عزّا، وهجرته نصرًا، وإمارته رحمةً، والله ما استطعنا أن نصلي حول البيت ظاهرين حتى أسلم عمر. وقد ورد سبب إسلامه مُطَوَّلًا فيما أخرجه الدارقطني، من طريق القاسم بن عثمان، عن أنس -رضي الله عنه- قال: خرج عمر مُتَقَلِّدًا السيف، فلقيه رجل من بني زُهْرة، فذكر قصة دخول عمر على أخته، وإنكاره إسلامها، وإسلام زوجها سعيد بن زيد، وقراءته سورة طه، ورغبته في الإسلام، فخرج خَبّاب -رضي الله عنه-، فقال: أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لك، قال: "اللهم أعز الإسلام بعمر، أو بعمرو بن هشام". وروى أَبو جعفر بن أبي شيبة نحوه في "تاريخه" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفي آخره: فقلت: يا رسول الله، ففيم الاختفاء، فخرجنا في صفين، أنا في أحدهما، وحمزة في الآخر، فنظرت قريش إلينا، فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها. وأخرجه البزار من طريق أسلم مولى عمر، عن عمر مُطَوَّلًا. وروى ابن أبي خيثمة من حديث عمر -رضي الله عنه- نفسه، قال: لقد رأيتني وما أسلم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا تسعة وثلاثون رجلًا، فكَمَلْتُهم أربعين، فأظهر الله دينه، وأعز الإسلام. وروى البزار نحوه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال فيه: فنزل جبريل، فقال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ

حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64]. وفي "فضائل الصحابة" لخيثمة من طريق أبي وائل، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم أيد الإسلام بعمر". ومن حديث علي -رضي الله عنه- مثله، بلفظ: "أَعِزَّ". وفي حديث عائشة رضي الله عنها مثله، أخرجه الحاكم بإسناد صحيح. وأخرجه الترمذي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: "اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك، بأبي جهل، أو بعمر"، قال فكان أحبهما إليه عمر. قال الترمذيّ: حسن صحيح. وصححه ابن حبان أيضًا، وفي إسناده خارجة بن عبد الله، صدوق فيه مقال، لكن له شاهد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أخرجه الترمذي أيضًا، ومن حديث أنس -رضي الله عنه -كما سبق في القصة المطولة، ومن طريق أسلم مولى عمر عن عمر -رضي الله عنه- عن خباب -رضي الله عنه-، وله شاهد مرسل، أخرجه ابن سعد، من طريق سعيد بن المسيب، والإسناد صحيح إليه. وروى ابن سعد أيضًا من حديث صهيب -رضي الله عنه- قال: لمّا أسلم عمر قال المشركون: انتصف القوم منا. وروى البزار والطبراني من حديث ابن عباس نحوه. ذكر هذا كله في "الفتح" (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها هذا تفرّد به المصنّف، وهو صحيح، دون قوله: "خاصّة". [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده عبد الملك بن الماجشون، والزنجيّ بن خالد، وكلاهما قد عرفت أقوال أهل العلم فيهما؟. [قلت]: إنما صحّ؛ لشواهده؛ فقد رُوي من حديث ابن عمر، وابن مسعود -رضي الله عنه-، ¬

_ (¬1) "الفتح" 7/ 61 - 62 "كتاب فضائل أصحاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم-" رقم الحديث (3684).

وابن عبّاس -رضي الله عنهم-، ومن مرسل سعيد بن المسيّب، والحسن البصري. فأما حديث ابن عمر، فأخرجه الترمذيّ، فقال: حدثنا محمد بن بشار، ومحمد بن رافع، قالا: حدثنا أَبو عامر العقدي، حدثنا خارجة بن عبد الله الأنصاري، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك، بأبي جهل، أو بعمر بن الخطاب"، قال: وكان أحبهما إليه عمر. قال أَبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب، من حديث ابن عمر. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير خارجة ابن عبد الله الأنصاريّ، وهو حسن الحديث، فقد روى عن جماعة، وروى عنه جماعة، وقال ابن معين: ليس به بأس، وقال أَبو حاتم: شيخ، حديثه صالح، وقال أَبو داود: شيخ، وقال ابن عديّ: لا بأس به، وبرواياته عندي، وقال الأزديّ: اختلفوا فيه، ولا بأس به، وحديثه مقبول، كثير المنكر، وهو إلى الصدق أقرب. وضعّفه أحمد، والدارقطنيّ (¬1). فمثل هذا أقلّ أحواله أن يكون حسن الحديث. وأما حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- فقد أخرجه الطبرانيّ في "الكبير"، فقال: حدثنا محمد ابن العباس الأصبهانيّ، ثنا عمر بن محمد بن الحسن الأسديّ، ثنا أبي، ثنا يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة، عن مجالد، عن الشعبيّ، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهمّ أعزّ الإسلام بعمر بن الخطاب، أو بأبي جهل بن هشام"، فجعل الله دعوة رسوله -صلى الله عليه وسلم- لعمر بن الخطاب، بُني عليه الإسلام، وهُدم به الأوثان (¬2). قال الحافظ أَبو بكر الْهيثميّ رحمه الله: رجاله رجال الصحيح، غير مجالد بن ¬

_ (¬1) راجع ترجمته في "تهذيب التهذيب" 1/ 512. (¬2) راجع "المعجم الكبير" 10/ 197 رقم الحديث (10314).

سعيد، وقد وُثّق. انتهى (¬1). وأخرجه الحاكم في "المستدرك" أيضًا بهذا السند (¬2). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: مجالد ضعفه الأكثرون، وقال البخاريّ: صدوقٌ، وقال العجليّ: جائز الحديث، وقال الساجيّ: قال محمد بن المثنّى: يُحتَمل حديثه لصدقه، وقال يعقوب بن سفيان: تكلّم الناس فيه، وهو صدوق. وقال ابن عديّ: له عن الشعبيّ عن جابر أحاديث صالحة، وعن غير جابر، وعامة ما يرويه غير محفوظ. وعن أحمد قال: قد احتمله الناس. وأخرج له مسلم مقرونًا. ومثل هذا يصلح للاستشهاد. وأخرجه الحاكم أيضًا من حديث ابن عمر، عن ابن عباس -رضي الله عنه-، بلفظ: "اللهم أعزّ الإسلام بعمر"، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبيّ، ولكن في سنده المبارك ابن فضالة، وهو صدوقٌ، لكنه يدلّس، وقد عنعنه. وأما مرسل سعيد، فأخرجه ابن سعد في "الطبقات"، فقال: أخبرنا عفّان بن مسلم، قال: أخبرنا خالد بن الحارث، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد ابن المسيّب، قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى عمر بن الخطاب، أو أبا جهل بن هشام قال: "اللهمّ اشدُد دينك بأحبّهما إليك"، فشدّد دينه بعمر بن الخطاب. وهذا إسناد صحيح، ورجاله رجال الصحيح، وقد اتّفقوا على أن مراسيل سعيد أصحّ المراسيل. وأخرجه أيضًا من مرسل الحسن البصري، بلفظ: "اللهمّ أعزّ الدين بعمر بن الخطّاب" (¬3) وفي إسناده أشعث بن سوّار، وهو ضعيف. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن حديث عائشة رضي الله عنها رضي الله عنها ¬

_ (¬1) "مجمع الزوائد" 9/ 61 - 62. (¬2) راجع "المستدرك" 3/ 83. (¬3) راجع "طبقات ابن سعد" 3/ 202.

المذكور هنا صحيح؛ لهذه الشواهد، ولا سيّما حديث ابن عمر، ومرسل ابن المسيّب، وقد سبق أن قوله: "خاصّة" مما لا شاهد له، فلا يصحّ. وقد ضعّف هذه الأحاديث كلها، الدكتور بشار فيما كتبه على هذا الكتاب، ولم يُعطها حقّها من الدراسة التفصيليّة، فتأمّل ما كتبه بالإنصاف، واحذر طريق الاعتساف. والله تعالى أعلم. [تنبيه]: ذكر الدكتور بشار ما يفيد أن الشيخ الألبانيّ رحمه الله أخطأ في نسبة تصحيح حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي في سنده النضر أَبو عمر (¬1) إلى الترمذيّ، وتصويبِ تصحيحه، وقد أصاب الدكتور في ذلك، فإن الترمذيّ إنما صحّح حديث ابن عمر المتقدّم، لا حديث ابن عباس، فإنه إنما قال فيه: حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه، وقد تكلم بعضهم في النضر أبي عمر وهو يروي مناكير، انتهى، وعادة الترمذيّ أنه إذا قال: حديث غريب فقط، يريد تضعيفه، كما يظهر ذلك بالتتبّع، فتنبّه لذلك، والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان فضل عمر -رضي الله عنه-، وهو واضح. 2 - (ومنها): ما أكرم الله تعالى به نبيّه -صلى الله عليه وسلم- باستجابة دعوته، حيث ظهر آثارها، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر". وأخرج ابن أبي شيبة، والطبرانيّ من حديثه، قال: "كان إسلام عمر عزّا، وهجرته نصرًا، وإمارته رحمةً، والله ما استطعنا أن نُصلي حول البيت ظاهرين حتى أسلم عمر"، ¬

_ (¬1) هو ما أخرجه الترمذيّ في "جامعه"، فقال: (3616) حدثنا أَبو كريب، حدثنا يونس بن بكير، عن النضر أبي عمر، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أعز الإسلام بأبي جهل ابن هشام، أو بعمر"، قال: فأصبح، فغدا عمر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسلم. قال أَبو عيسى: هذا حديث غريب من هذا الوجه، وقد تكلم بعضهم في النضر أبي عمر، وهو يروي مناكير. انتهى.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 106 - (حَدَّثَنَا عِليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللةَ بْنِ سَلِمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- أَبُو بَكْرٍ، وَخَيْرُ الَنَّاسِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ عُمَرُ). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطنافسيّ المذكور أول الباب. 2 - (وَكِيعٌ) بن الْجَرّاح الكوفيّ الحافظ الحجة الثبت [9] 1/ 3. 3 - (شُعْبَةُ) بن الحجّاج البصريّ الإمام العلَم الحجة المشهور [7] 1/ 6. 4 - (عمرو بن مرّة) بن عبد الله بن طارق الْجَمَليّ، أَبو عبد الله الكوفيّ، ثقة عابد لا يُدلّس، ورُمي بالإرجاء [5] 2/ 20. 5 - (عبد الله بن سلمة) -بكسر اللام- المراديّ الكوفيّ، صدوقٌ تغيّر حفظه [2]. روى عن عمر، ومعاذ، وعلي، وابن مسعود، وسعد، وسلمان الفارسيّ، وصفوان ابن عَسّال، وعمار بن ياسر، وعَبِيدة بن عمرو السَّلْمَاني. وروى عنه أَبو إسحاق السبيعي، وعمرو بن مرة. قال أحمد بن حنبل: لا أعلم روى عنه غيرهما. وقال غيره: روى عنه أَبو الزبير أيضًا. وقال النسائي في "الكنى": أَبو العالية عبد الله بن سَلِمة كوفي مرادي. وقال الخطيب: قد رَوَى أَبو إسحاق السبيعي عن أبي العالية عبد الله بن سلمة الهمداني، فزعم أحمد بن حنبل أنه الذي رَوَى عنه عمرو بن مرة. وقال ابن نُمير: ليس به، بل هو آخر. وكان ابن معين يقول: كقول أحمد، ثم رجع عنه. قال البخاري في "تاريخه الصغير" الذي قال ابن نُمَير أصح، والذي روى عنه أَبو إسحاق هو الهمداني، والذي روى عنه عمرو بن مرة هو من رَهْط عمرو بن مرة جَمَلي مُرَادي. وكذا قال ابن معين، والدارقطني، وابن ماكولا. وقال النسائي في المرادي: لا

أعلم أحدًا روى عنه غير عمرو بن مرة. وقال في "الكنى": أنا عبد الله بن أحمد، سألت أبي عن ابن سَلِمة، روى عنه غير عمرو بن مرة؟ فقال: أَبو إسحاق. وقال ابن نُمَير هذا ليس هو ذاك، صاحب عمر ولم يرو عنه إلا عمرو، والذي قاله ابن نُمير أصح، وفرق بينهما أيضا ابن حبان، فقال في الهمداني: عبد الله بن سَلِمة بن الحارث الهمداني، أخو عمرو. وقال في المرادي: عبد الله بن سلمة يروي عن علي، وعنه عمرو بن مرة، يُخطىء. وقد بينه الحاكم أَبو أحمد بيانًا شافيًا في "كتاب الكنى"، وقال: عبد الله بن سلمة مرادي، يروي عن سعد، وعلي، وابن مسعود، وصفوان بن عَسّال، وعنه عمرو بن مرة، وأبو الزبير، حديثه ليس بالقائم، وعبد الله بن سَلِمَة الهمداني إنما يُعرَف له قوله فقط، ولا نعرف له راويًا غير أبي إسحاق السبيعي، ثم قال ما معناه: إن الغلط إنما وقع عند من جعلهما واحدًا بكنية من كنى المرادي أبا العالية -يعني من المتأخرين- وإنما هي كنية الهمداني، قال: ولا أعلم أحدًا كَنّى المرادي، قال: وقد وقع الخطأ فيه لمسلم وغيره. انتهى. وقال شعبة عن عمرو بن مرة: كان عبد الله بن سَلِمة يحدثنا، فنَعرِف ونُنكِر كان قد كَبِر. وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة يُعَدّ في الطبقة الأولى من فقهاء الكوفة بعد الصحابة. وقال البخاري: لا يتابع في حديثه. وقال أَبو حاتم: تَعرِف وتُنكِر. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. له عند أبي داود حديث: "لا يقرأ الجنب ... " الحديث. أخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (106) و (594) و (3705). 6 - (عليّ) بن أبي طالب الخليفة الراشد -رضي الله عنه- تقدّم في 2/ 20، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ الله بْنِ سَلِمَةَ) بكسر اللام، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا) -رضي الله عنه- (يَقُولُ: خَيْرُ

النَّاسِ) أي من هذه الأمة، فلا يلزم منه دخول الأنبياء في الناس؛ لما عُرف من الأدلة الأخرى أن فضله -رضي الله عنه- بعد فضل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فقد تقدّم حديث عليّ رحمه مرفوعًا: "أَبو بكر وعمر سيّدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين، إلا النبيين والمرسلين ... " الحديث (بَعْدَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- أَبُو بَكْرٍ) الصدّيق -رضي الله عنه- (وَخَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ عُمَرُ) الفاروق -رضي الله عنه-. وفي رواية البخاريّ من طريق مُنذِر بن يعلى الثوريّ عن محمد ابن الحنفيّة قال: قلت لأبي: "أيُّ الناس خير؟ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أَبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر، وخشيت أن يقول: عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين". وأخرج الدارقطنيّ من طريق محمد بن سُوقة، عن مُنذر، عن محمد بن علي، قلت لأبي: يا أبتي مَن خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أو ما تعلم يا بُنَيّ؟ قلت: لا، قال: أَبو بكر. وفي رواية الحسن بن محمد ابن الحنفية عن أبيه قال سبحان الله يا بُنَيّ أَبو بكر. وأخرج أحمد، من طريق منصور بن عبد الرحمن الْغُدَاني الأشلّ، عن الشعبيّ، حدثني أَبو جحيفة الذي كان عليّ يُسميه وهب الخير، قال: قال علي -رضي الله عنه- يا أبا جحيفة ألا أخبرك بأفضل هذه الأمة بعد نبيها؟ قال: قلت: بلى، قال: ولم أكن أرى أن أحدًا أفضل منه، قال: أفضل هذه الأمة بعد نبيها -صلى الله عليه وسلم- أَبو بكر، وبعد أبي بكر عمر -رضي الله عنه-، وبعدهما آخر ثالث، ولم يسمه (¬1). وفي رواية للدارقطني في "الفضائل" من طريق أبي الضحى، عن أبي جحيفة: "وإن شئتم أخبرتكم بخير الناس بعد عمر، فلا أدري استحيى أن يذكر نفسه، أو شغله الحديث". ¬

_ (¬1) حديث صحيح، ورجاله ثقات، ومنصور بن عبد الرحمن وثقه ابن معين، وأبو داود، وقال النسائيّ: لا بأس به، وأخرج له مسلم، وقال أحمد: ليس به بأس، يُخالفُ في أحاديث، ووثقه ابن حبّان، ولم ينفرد بهذا الحديث، بل تابعه يحيى بن أيوب البجليّ عن الشعبيّ عند أحمد برقم (834). وله شواهد عنده برقم (833) و (836).

قال في "الفتح": قوله: "وخشيت أن يقول: عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين". وفي رواية محمد بن سوقة: "ثم عَجِلتُ لِلْحَدَاثة، فقلت: ثم أنت يا أبتي؟ فقال: أبوك رجل من المسلمين"، زاد في رواية الحسن بن محمد: "لي ما لهم، وعليّ ما عليهم". وهذا قاله عليّ -رضي الله عنه- تواضعًا، مع معرفته حين المسألة المذكورة أنه خير الناس يومئذٍ؛ لأن ذلك كان بعد قتل عثمان. وأما خشية محمد ابن الحنفية أن يقول: عثمان، فلأن محمدًا كان يعتقد أن أباه أفضل، فخشي أن عليا يقول: عثمان، على سبيل التواضع منه، والهضم لنفسه، فيضطرب حال اعتقاده، ولا سيما وهو في سن الحداثة، كما أشار إليه في الرواية المذكورة. وروى خيثمة في "فضائل الصحابة" من طريق عُبيد بن أبي الجعد، عن أبيه أن عليّا -رضي الله عنه- قال، فذكر هذا الحديث، وزاد: "ثم قال ألا أخبركم بخير أمتكم بعد عمر"، ثم سكت، فظننا أنه يعني نفسه. وفي رواية عبيد خبر عن علي -رضي الله عنه- أنه قال ذلك بعد وقعة النهروان، وكانت في سنة ثمان وثلاثين، وزاد في آخر حديثه: "أحدثنا أمورًا يفعل الله فيها ما يشاء". واخرج ابن عساكر في ترجمة عثمان، من طريق ضعيفة في هذا الحديث: أن عليا قال: "إن الثالث عثمان". ومن طريق أخرى أن أبا جُحيفة قال: "فرجعت الموالي يقولون: كَنَى عن عثمان، والعرب تقول كَنَى عن نفسه". وهذا يبين أنه لم يُصَرِّح بأحد. وقد اختُلِف في أيّ الرجلين أفضل بعد أبي بكر وعمر، عثمان أو عليّ؟، ثم انعقد الإجماع بآخرة بين أهل السنة، أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة -رضي الله عنهم- أجمعين (¬1). ¬

_ (¬1) "الفتح" 7/ 43 "كتاب فضائل أصحاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم-" الحديث رقم (3656 - 3678).

قال القرطبي رحمه الله في "المفهم": ما حاصله: المقطوع به بين أهل السنة أفضلية أبي بكر، ثم عمر، ثم اختلفوا فيمن بعدهما، فالجمهور على تقديم عثمان، وعن مالك التوقف، والمسألة اجتهادية، ومستندها أن هؤلاء الأربعة اختارهم الله تعالى لخلافة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وإقامة دينه، فمنزلتهم عنده بحسب ترتيبهم في الخلافة، إلى ما ينضاف إلى ذلك بما يشهد لكلّ واحد منهم من شهادات النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك تأصيلًا وتفصيلًا. انتهى (¬1). وقد تقدّم تمام البحث في هذا في المسألة العاشرة من المسائل المذكورة في "باب فضائل أصحاب النبيّ" -صلى الله عليه وسلم-، فراجعه تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق، وهو الهادي إلى أقوم طريق، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عليّ -رضي الله عنه- هذا أخرجه البخاريّ في "صحيحه" من رواية محمد ابن الحنفيّة، عنه -رضي الله عنه- بلفظ: قال: قلت لأبي: "أيُّ الناس خير؟ بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: أَبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر، وخشيت أن يقول: عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين"، والله تعالى أعلم. [تنبيه]: قال الدكتور بشار فيما كتبه على هذا الكتاب: إسناده ضعيف، فإن عبد الله بن سَلِمة المرادي الكوفيّ ضعيف يُعتبر به عند المتابعة، ولم يُتابع، وقد ضعفه البخاريّ إلى آخر كلامه. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "ولم يُتابع" فيه نظر لا يخفى، فقد عرفت أن محمد ابن الحنفيّة تابعه، كما هو عند البخاريّ في "صحيحه"، والظاهر أنه ما اطّلع على رواية البخاريّ، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) "المفهم" 6/ 237 - 239.

(المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (12/ 106) بهذا السند، وأخرجه (البخاريّ) في "المناقب" من رواية ابن الحنفيّة، عن عليّ -رضي الله عنه- (3671) و (أَبو داود) في "السنّة" (4013) و (أحمد) في "مسند العشرة" من رواية أبي جُحيفة عليّ رضي الله عنهما (749)، وقد تقدّم لفظه قريبًا، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان فضل عمر -رضي الله عنه-. 2 - (ومنها): أن بيان فضل أبي بكر -رضي الله عنه- أيضًا، وأنه أفضل هذه الأمة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الإطلاق. 3 - (ومنها): أن فيه الردّ على الشيعة والرافضة، حيث إنهم يفترون على عليّ -رضي الله عنه- بأشياء باطلة هو عنها بريء، ويلزقون به ما لا صحة له، فقد بيّن بهذا الحديث بأنه على يقين أن الشيخين يُقدّمان عليه في الفضل، وأنه معترف لهما بذلك، كما بيّنه في هذا النصّ الصحيح الصريح، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس:32]، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]، اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولّنا فيمن تولّيت، وبارك لنا فيما أعطيت"، اللهم أرنا الحقّ حقّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين آمين أمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 107 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ المِصْرِيُّ، أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ المسَيِّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُني في الْجَنَّةِ، فَإِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ تَتَوَضأُ إِلَى جَانِب قَصْرٍ، فَقُلْتُ: لمِنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ فَقَالَتْ: لِعُمَرَ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا"، قَالَ أَبُوَ هُرَيْرَةَ: فَبَكَى

عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: أَعَلَيْكَ بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ الله أَغَارُ). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ الْمِصْرِيُّ) هو: محمد بن الحارث بن راشد بن طارق الأمويّ، مولى عمر بن العزيز، أَبو عبد الله المصري المؤذن بالجامع بمصر، كان يقال له: صُدْرَة. صدوقٌ يُغْرِب [10]. روى عن الليث بن سعد، وابن لَهِيعة، والفضل بن فَضَالة، والحكم بن عَبْدَة، ورِشْدين بن سعد، ويحيى بن راشد المازني، ويعقوب بن عبد الرحمن الإسكندراني، وغيرهم. وروى عنه ابن ماجه، ويعقوب بن سفيان، وأحمد بن محمد بن الحجاج بن رِشدين ابن سعد، وأحمد بن يحيى بن خالد بن حيان الرَّقّيّ، وأبو خيثمة، علي بن عمرو ابن خالد الحراني، ومحمد بن إبراهيم بن زياد الطيالسيّ، وغيرهم. ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يُغْرِب. قال ابن يونس: مات في ذي القعدة سنة إحدى وأربعين ومائتين. تفرّد به المصنّف، روى عنه في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، برقم (107) و (247) و (437) و (920) و (3447) و (3982). 2 - (اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ) بن عبد الرحمن الفَهْميّ، أَبو الحارث المصريّ الإمام الحجة الفقيه المشهور [7] تقدّم في 2/ 15. 3 - (عُقَيْلٌ) -بضم العين المهملة، وفتح القاف، مصغّرًا- ابن خالد بن عَقِيل -بفتح العين، وكسر القاف، مكبّرًا- الأيليّ -بفتح الهمزة، بعدها تحتانيّة ساكنة، ثم لام- أَبو خالد الأُمَوِيُّ، مولى عثمان، ثقة ثبتٌ [6]. روى عن أبيه، وعمه زياد، ونافع مولى ابن عمر، وعكرمة، والحسن، وسعيد بن أبي سعيد الخدري، وسعيد بن سليمان بن زيد بن ثابت، وسلمة بن كُهيل، والزهريّ، وغيرهم.

وروى عنه ابنه إبراهيم، وابن أخيه سلامة بن رَوْح، والمفضل بن فَضَالة، والليث ابن سعد، وابن لَهيعة، وجابر بن إسماعيل، وسعيد بن أبي أيوب، ونافع بن يزيد، ويحيى ابن أيوب، والحجاج بن فَرَافِصَة، وحدث عنه يونس بن يزيد الأيلي، وهو من أقرانه، وغيرهم. قال أحمد، ومحمد بن سعد، والنسائيّ: ثقة. وقال ابن معين: أثبت مَن روى عن الزهري مالك، ثم معمر، ثم عُقيل. وعن ابن معين في رواية الدُّوريّ: أثبت الناس في الزهري: مالك، ومعمر، ويونس، وعقيل، وشعيب، وسفيان. وفي رواية ابن أبي مريم عن ابن معين: عُقيل ثقة حجة. وقال عبد الله بن أحمد: ذُكِر عند أبي أن يحيى بن سعيد قال: عُقيل، وإبراهيم بن سعد، كأنه يُضَعِّفهما، فقال: وأيّ شيء هذا؟ هؤلاء ثقات، لم يَخْبُرهم. وقال العجلي: أَيْليٌّ ثقة. وقال البخاري: قال علي عن ابن عيينة، عن زياد بن سعد: كان عُقيل يَحفَظ. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الْعُقيليّ: صدوق تفرد عن الزهري بأحاديث، قيل: لم يسمع من الزهريّ شيئًا، إنما هو مناولة. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا القول فيه نظرٌ لا يخفى، ويكفي في ردّه ما يأتي عن أبي حاتم. فتبصّر. والله تعالى أعلم. وقال إسحاق بن راهويه: عُقيل حافظ، ويونس صاحب كتاب. وقال أَبو زرعة: صدوق ثقة. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عُقيل أحب إليك أم يونس؟ قال: عقيل أحب إليّ، لا بأس به. قال: وسئل أبي أيما أثبت عُقيل أو معمر؟ فقال: عُقيل أثبت، كان صاحب كتاب، وكان الزهري يكون بأَيْلَة، وللزهري هناك ضَيْعَة، وكان يكتب عنه هناك. قال الماجِشُون: كان عُقيل شُرْطيّا عندنا بالمدينة، ومات بمصر سنة (141). وقال محمد بن عُزَيز الأيلي: مات سنة (2). وقال ابن السَّرْح، عن خاله: مات سنة (44)، وفيها أرّخه ابن يونس. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا.

4 - (أبو هريرة) الصحابيّ الشهير -رضي الله عنه- تقدّم 1/ 1. والباقيان تقدّما قبل حديثين، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به، وهو موثّق. 3 - (ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بثقات المصريين، ونصفه الثاني مسلسل بثقات المدنيين. 4 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: ابن شهاب عن سعيد. 5 - (ومنها): أن فيه أحد الفقهاء السبعة، وهو سعيد. 6 - (ومنها): أن صحابيّه -رضي الله عنه- أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، أنه قال (أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- (قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ) هي "بين الظرفيّة"، أُشبعت فتحتها فتولّدت منها الألف، قال في "اللسان": أصل "بينا" "بَيْنَ"، فأُشبعت الفتحة، فصارت ألفًا، ويقال: "بينا"، و"بينما"، وهما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة، ويُضافان إلى جملة من فعل وفاعل، ومبتدإ وخبر، ويحتاجان إلى جواب يَتِمّ به المعنى، والأفصح في جوابهما أن لا يكون فيه "إذ" و"إذا"، وقد جاءا في الجواب كثيرًا، تقول: بينا زيدٌ جالسٌ دخل عليه عمرو، وإذ دخل عليه، وإذا دخل عليه، ومنه قول الْحُرَقَة بنت النعمان (من الطويل]: فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأَمْرُ أَمْرُنَا ... إِذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ (¬1) ¬

_ (¬1) "لسان العرب" 12/ 66.

(رَأَيْتُنِي في الْجَنَّةِ) وفي حديث جابر -رضي الله عنه- عند الشيخين: "قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: رأيتني دخلت الجنة، فإذا أنا بالرُّمَيصاء، امرأة أبي طلحة، وسعت خَشَفَةً، فقلت: مَنْ هذا؟ فقال: هذا بلال، ورأيت قصرًا بفنائه جاريةً، فقلت: لمن هذا؟ فقال: لعمر، فأردت أن أدخله، فأنظر إليه، فذكرت غَيْرَتك"، فقال عمر: بأبي وأمي يا رسول الله، أعليك أغار؟. و"الرّميصاء" بالتصغير هي أم سُليم والدة أنس رضي الله عنهما، وهو صفة لها؛ لِرَمَصٍ كان بعينها، واسمها سهلة، وقيل: رُميلة، وقيل: غير ذلك. والْحَشَفَة بفتح المعجمتين والفاء كالحركة وزنًا ومعنى. قال الإمام ابن حبّان رحمه الله بعد إخراجه لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: ما نصّه: في هذا الخبر "بينما أنا نائم"، وفي خبر جابر: "أُدخلت الجنة" أُدخل الجنة ليلة أُسري به، فرأى قصر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فسأل عن القصر، فأخبروه أنه لعمر، وبينما النبي -صلى الله عليه وسلم- نائم مرّةً أخرى إذ رأى كأنه أُدخل الجنّة، وإذا امرأة إلى جانب قصر تتوضّأ، فسأل عن القصر، فقالت: لعمر بن الخطّاب، لفظ خبر أبي هريرة بخلاف لفظ خبر جابر، فدلّك ذلك على أنهما خبران في وقتين متباينين، من غير أن يكون هناك تضادّ، ولا تهَاتُر. انتهى كلام ابن حبّان رحمه الله (¬1)، وهو تأويل حسنٌ. والله تعالى أعلم. [تنبيه]: قوله: "رأيتني" فيه وقوع الفاعل والمفعول ضميرين متّصلين لمسمّى واحد، وهو مختصّ بأفعال القلوب، قال الله عز وجل: {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:7]، وألحقت في ذلك رأى الحلميّة والبصريّة بكثرة، نحو {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] وقول الشاعر [من الكامل]: وَلَقَدْ أَرَانِي لِلرِّمَاح دَرِيئَةً ... مِنْ عَنْ يَمِنِي تَارَةً وَأَمَامِي وأُلحقت أيضًا "عَدِمَ"، و"فَقَد"، و"وَجَدَ" بمعنى لقي بقلّة، دون باقي الأفعال، ¬

_ (¬1) راجع "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 15/ 312.

فلا يقال: ضربتني، ولا ظلمتني، لئلا يكون الفاعل مفعولا، بل يقال: ضربت نفسي، وظلمت نفسي؛ ليتغاير اللفظان، وإنما جاز ذلك في أفعال القلوب؛ لأن مفعولها في الحقيقة مضمون الجملة، لا المنصوب بها، فلا ضرر في اتّحاده مع الفاعل (¬1). فتنبّه لهذه القاعدة. والله تعالى أعلم. (فَإِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ) "إذا" هي الفجائيّة، وهي تختصّ بالجملة الاسميّة، كهذا الحديث، ولا تحتاج إلى جواب، ولا تقع في الابتداء، ومعناها الحال، لا الاستقبال، والتقدير هنا: ففجاءني وجود امرأة. وقوله: (تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ) جملة في محلّ جرّ صفة لـ"امرأة". قال في "الفتح": قوله: "تتوضّأ" يحتمل أن يكون على ظاهره، ولا يُنكَر كونها تتوضأ حقيقةً؛ لأن الرؤيا وقعت في زمن التكليف، والجنة وإن كان لا تكليف فيها فذاك في زمن الاستقرار، بل ظاهر قوله: "تتوضأ إلى جانب قصر" أنها تتوضأ خارجةً منه. أو هو على غير الحقيقة، ورؤيا المنام لا تُحمَل دائمًا على الحقيقة، بل تحتمل التأويل، فيكون معنى كونها تتوضأ أنها تحافظ في الدنيا على العبادة، أو المراد بقوله: "تتوضأ": أي تستعمل الماء لأجل الوَضَاءة على مدلوله اللغوي، وفيه بُعْدٌ، وأغرب ابن قتيبة، وتبعه الخطابيّ، فزعم أن قوله: "تتوضأ" تصحيف وتغيير من الناسخ، وإنما الصواب امرأة شَوْهَاء، ولم يَستَنِد في هذه الدعوى إلا على استبعاد أن يَقَع في الجنة وضوء؛ لأنه لا عمل فيها، وعدم الاطلاع على المراد من الخبر، لا يقتضي تغليط الحفاظ. ثم أخذ الخطابي في نقل كلام أهل اللغة في تفسير الشَّوْهاء، فقيل: هي الحسناء، ونقله عن أبي عبيدة، وإنما تكون حسناء إذا وُصفت بها الفرس، قال الجوهريّ: فَرَسٌ شوهاء صفة محمودة، والشوهاء الواسعة الفم، وهو مستحسن في الخيل، والشوهاء ¬

_ (¬1) راجع "حاشية الخضري على شرح ابن عقيل على الخلاصة" 1/ 221 - 222.

من النساء القبيحة، كما جزم به ابن الأعرابي وغيره. وقد تعقب القرطبي كلام الخطابي، لكن نسبه إلى ابن قتيبة فقط، قال ابن قتيبة بدل "تتوضأ" شوهاء، ثم نقل أن الشوهاء تُطلَق على القبيحة والحسناء. قال القرطبيّ: ووضوء هذه المرأة في الجنّة إنما هو لتزداد حُسْنًا ونورًا، لا لتزيل وَسَخًا، ولا قَذَرًا؛ إذ الجنة مُنّزَّهة عن ذلك، وهذا كما قال في الحديث الآخر: "أمشاطهم الذهب، ومَجَامِرُهم الأَلُوّة"، متّفقٌ عليه (¬1). وقال في "الفتح" (¬2): وقد ترجم عليه البخاري في "كتاب التعبير"- "باب الوضوء في المنام"، فبطل ما تخيله الخطابي. انتهى. وقال الكرمانيّ: قوله: "تتوضأ" من الوضاءة، وهي النظافة والحسن، ويحتمل أن يكون من الوضوء، ولا يَمنع من ذلك كون الجنّة ليست دار تكليف؛ لجواز أن يكون على غير التكليف. وقال الحافظ في موضع آخر من "الفتح" (¬3): ويحتمل أن لا يراد وقوع الوضوء منها حقيقة؛ لكونه منامًا، فيكون مثالًا لحالة المرأة المذكور، وقد ثبت أنها أم سليم، وكانت في قيد الحياة حينئذ، فرآها النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في الجنّة إلى جانب قصر عمر -رضي الله عنه-، فيكون تعبيره بأنها من أهل الجنّة؛ لقول الجمهور من أهل التعبير: إن من رأى أنه دخل الجنة أنه يدخلها، فكيف إذا كان الرائي لذلك أصدق الخلق -صلى الله عليه وسلم-، وأما وضوؤها، فيُعبّر بنظافتها حسّا ومعنى، وطهارتها جسمًا وروحًا، وأما كونها إلى جانب قصر عمر -رضي الله عنه-، ففيه إشارة إلى أنها تُدرك خلافته، وكان كذلك. ولا يُعارض هذا ما ثبت من أن رؤيا الأنبياء حقّ، والاستدلال على ذلك بغيرة ¬

_ (¬1) "المفهم" 6/ 257 - 258. (¬2) "الفتح" 7/ 57 - 58. (¬3) هو في "كتاب التعبير" 12/ 519 - 520 الحديث رقم (7023 - 7024).

عمر؛ لأنه لا يلزم من كون المنام على ظاهره أن لا يكون بعضه يفتقر إلى تعبير، فإن رؤيا الأنبياء حقّ -يعني أنها ليست من أضغاث الأحلام- سواء كانت على حقيقتها، أو مثالًا. انتهى كلام الحافظ. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا التأويل الذي ذكره الحافظ رحمه الله هو الأظهر عندي، يؤيّد ذلك أن ما يراه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وإن كان حقّا من نوع الوحي، إلا أن بعضه يقبل التأويل، كما في الحديث الذي أخرجه أحمد، والترمذيّ بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تنفل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيفه ذا الفقار يوم بدر، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد، فقال: رأيت في سيفي ذي الفقار فَلًّا، فأولته فَلًّا يكون فيكم، ورأيت أَنِّي مُرْدِفٌ كَبْشًا فأولته كبش الكَتِيبة، ورأيت أَني في دِرْعٍ حَصِينة فأولتها المدينة، ورأيت بَقَرًا تُذبَح فبقر والله خير، فبقر والله خير، فكان الذي قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقد وقع كل ما ذكره في هذا الحديث على التأويل، فلا يُستبعد أن يكون رؤيته في قصّة وضوء المرأة من هذا القبيل. والله تعالى أعلم. (فَقُلْتُ: لمِنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ فَقَالَتْ: لِعُمَرَ) هذا صريح في أنّ سؤاله -صلى الله عليه وسلم- كان موجّهًا إلى تلك المرأة، ولذا قال: فقالت، ووقع في حديث جابر -رضي الله عنه- عند البخاريّ بلفظ: "فقال"، وفي رواية الكشميهني: "فقالوا"، فقال في "الفتح": والظاهر أن المخاطب له بذلك جبريل أو غيره من الملائكة. انتهى. (فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ) أي شدّة غيرته، وحِدّتها، قال الجرجاني: "الغيرة": كراهة شركة الغير في حقّه. انتهى (¬1). وقال الفيّوميّ: غار الرجل على امرأته، والمرأة على زوجها يَغار، من باب تعب غَيْرًا وغَيْرَةً، قال ابن السّكّيت: ولا يقال: غِيرًا وغِيرَةً بالكسر، فالرجل غيورٌ، والمرأة غَيور أيضًا، وغَيْرَى. انتهى (¬2). ¬

_ (¬1) راجع "التعريفات" للشريف الجرجاني " ص 116". (¬2) "المصباح المنير" 2/ 458.

ووقع في حديث جابر -رضي الله عنه- عند الشيخين بلفظ: "فذكرت غيرتك" بكاف الخطاب، وفي رواية للبخاريّ في "النكاح": "فأردت أن أدخله، فلم يَمنعني إلا علمي بغيرتك". ووقع في رواية ابن عيينة عن ابن المنكدر وعمرو بن دينار جميعا عن جابر، في هذه القصة الأخيرة: "دخلت الجنة، فرأيت فيها قَصْرًا، يُسمَع فيه ضَوْضَاء، فقلت: لمن هذا؟ فقيل: لعمر". و"الضوضاء" -بمعجمتين مفتوحتين، بينهما واو، وبالمد-: أصوات الناس. (فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا) حال مؤكّدٌ لعامله، كما قال في "الخلاصة": وَعَامِلُ الْحَالِ بِهَا قَدْ أُكِّدَا ... في نَحْوِ لا تَعْثُ في الأَرْضِ مُفْسِدَا (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- (فَبَكَى عُمَرُ بْنُ الخطَّابِ) -رضي الله عنه-، وفي رواية للبخاريّ: "فبكى عمر، وهو في المجلس". وعند ابن حبّان: "قال أَبو هريرة: فبكى عمر، ونحن جميعًا في ذلك المجلس ... ". قال ابن بطّال: بكاء عمر -رضي الله عنه- يَحتَمِل أن يكون سرورًا، ويحتمل أن يكون تشوقًا، أو خشوعًا. ووقع في رواية أبي بكر بن عياش، عن حميد، من الزيادة: "فقال عمر: وهل رفعني الله إلا بك، وهل هداني الله إلا بك". قال الحافظ: رويناه في "فوائد عبد العزيز الحربي"، من هذا الوجه، وهي زيادة غريبة. انتهى (¬1). (فَقَالَ: أَعَلَيْكَ) وقوله: (بأَبِي وَأُمِّي) متعلّق بفعل محذوف: أي أَفْديك بأبي وأمي، وهو معترض بين العامل ومعموله، مثل قوله: (يَا رَسُولَ الله أَغَارُ) بفتح الهمزة، من غار يغار، من باب تَعِب، كما قدّمناه آنفًا. والمعنى: أأغار علىَ فعلك؟، أو دخولك؟. وقيل: في الكلام قَلْبٌ، والأصل أعليها أغار منك". وقال الكرمانيّ: لفظ "عليك" ليس متعلّقًا بـ "أغار"، بل التقدير مستعليًا عليك أغار عليها، قال: ودعوى القياس ¬

_ (¬1) "الفتح" 7/ 57.

المذكور ممنوعة؛ إذ لا مُحرج إلى ارتكاب القلب مع وضوح المعنى بدونه. ويحتمل أن يكون أطلق "على" وأراد "مِنْ"، كما قيل: إن حروف الجرّ تتناوب. انتهى (¬1). [تنبيه]: قصّة عمر -رضي الله عنه- هذه رويت من حديث أبي هريرة، وجابر، وأنس، وبريدة ابن الحصيب -رضي الله عنه-: فأما حديث أبي هريرة فقد تقدّم، وأما حديث جابر فأخرجه الشيخان، وغيرهما، ولفظ البخاريّ: من طريق عبيد الله بن عمر، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "دخلت الجنة، فإذا أنا بقصر من ذهب، فقلت لمن هذا؟ فقالوا لرجل من قريش؟ فما منعني أن أدخله يا ابن الخطاب، إلا ما أعلم من غيرتك"، قال: وعليك أغار يا رسول الله". وأما حديث أنس -رضي الله عنه- فأخرجه الترمذيّ من رواية حميد، عن أنس -رضي الله عنه-: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دخلت الجنة، فإذا أنا بقصر من ذهب، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لشاب من قريش، فظننت أني أنا هو، فقلت: ومن هو؟ فقالوا: عمر بن الخطاب". قال أَبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وهو كما قال. وأخرجه أحمد مطوّلًا من رواية قتادة، قال: حدثنا أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما أنا أسير في الجنة، فإذا أنا بقصر، فقلت: لمن هذا يا جبريل؟، ورجوت أن يكون لي، قال: قال: لعمر، قال: ثم سرت ساعة، فإذا أنا بقصر خير من القصر الأول، قال: فقلت: لمن هذا يا جبريل؟ ورجوت أن يكون لي، قال: قال: لعمر، وإن فيه لمن الحور العين يا أبا حفص، وما منعني أن أدخله إلا غيرتك"، قال: فاغرورقت عينا عمر، ثم قال: أما عليك فلم أكن لأغار. وأما حديث بريدة، فأخرجه أحمد، والترمذيّ من طريق عليّ بن الحسين بن واقد، قال: حدثني أبي، حدثني عبد الله بن بريدة، قال: حدثني أبي بريدة، قال: أصبح رسول ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 6/ 52.

الله -صلى الله عليه وسلم-، فدعا بلالًا، فقال: يا بلال بم سبقتني إلى الجنة؟ ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خَشْخَشَتك (¬1) أمامي، دخلت البارحة الجنة، فسمعت خشخشتك أمامي، فأَتيت على قصر مُرَبَّع مُشْرِف من ذهب، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لرجل من العرب، فقلت: أنا عربي، لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من قريش، قلت: أنا قرشي، لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، قلت: أنا محمد -صلى الله عليه وسلم- لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر بن الخطاب، فقال بلال: يا رسول الله ما أَذَّنتُ قط إلا صليت ركعتين، وما أصابني حدث قط إلا توضأت عندها، ورأيت أن لله علي ركعتين، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بهما". قال أَبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب. وهو صحيح كما قال. قال: ومعنى هذا الحديث: أني دخلت البارحة الجنة -يعني رأيت في المنام كأني دخلت الجنة، هكذا رُوي في بعض الحديث، ويُروَى عن ابن عباس أنه قال: "رؤيا الأنبياء وحي"، انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (12/ 107) بهذا السند فقط، وأخرجه (البخاريّ) في "بدء الخلق" (3242) و"المناقب" (3680) و"النكاح" (5225) و"التعبير" (7023) و (مسلم) في "فضائل الصحابة" (2395) و (النسائيّ) في "فضائل الصحابة" (8074) و (أحمد) في "مسنده" 2/ 339 (8265) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (6888). وقد تقدّم من حديث أنس -رضي الله عنه-، أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنّفه" 12/ 27 و (أحمد) ¬

_ (¬1) "الخشخشة": صوت المشي بالنعال.

3/ 107 و 179 و 191 و 263 و (الترمذيّ) في "المناقب" 3688 و (النسائيّ) في "فضائل الصحابة" (8072) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (54 و 6887). ومن حديث جابر -رضي الله عنه- أخرجه (الحميديّ) في "مسنده" (1235) و (1236) و (ابن أبي شيبة) 12/ 28 و (أحمد) 3/ 309 و 372 و 389 و (البخاريّ) 5/ 12 و 7/ 46 و 9/ 50 و (مسلم) 7/ 114 و (النسائيّ) 8070 و 8071 و 8072 و (ابن حبان) (6886) و (البغويّ) في "شرح السنة" (3878)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل عمر -رضي الله عنه-، وهي فضيلة ظاهرة له -رضي الله عنه-. 2 - (ومنها): إثبات البشرى بالرؤيا، ولا سيّما رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، لأن رؤيا الأنبياء وحي، وقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لم يبق من النبوة إلا المبشرات"، قالوا: وما المبشرات؟ قال: "الرؤيا الصالحة". وأخرجا أيضًا عن أنس بن مالك عن عبادة بن الصامت رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة" (¬1). 3 - (ومنها): جواز ذكر الرجل بما عُلِمَ من خلقه، كغيرة عمر -رضي الله عنه-. و (منها): ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من مراعاة حقّ الصحبة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 108 - (حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ يَحْيَى بْنُ خَلَفٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ غُضَيْفِ بْنِ الحارِثِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّ الله وَضَعَ الحقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ يَقُولُ بِهِ"). ¬

_ (¬1) سيأتي للمصنف برقم (3893).

رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (أَبُو سَلمَة يَحْيَى بْنُ خَلفٍ) الباهليُّ البصري، المعروف بالْجُوبَاريّ (¬1) -بضم الجيم، وسكون الواو، ثم موحّدة- صدوقٌ [10]. رَوَى عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى، وعبد الوهاب الثقفيّ، ومعتمر بن سليمان، ومحمد بن أبي عديّ، وعبد الله بن مسلم، وعمر بن علي المقّدّمي، وغيرهم. وروى عنه مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وأبو بكر بن أبي عاصم، وأبو بكر البزار، وأبو بكر بن أبي الدنيا، والمعمري، والحسن بن عُلَيل، وبكر بن محمد البزار، وجعفر بن أحمد بن فارس، وأبو خليفة، وآخرون. ذكره ابن حبان في "الثقات". وقال موسى بن هارون: بلغنا موته بالبصرة سنة اثنتين وأربعين ومائتين. وله في هذا الكتاب (11) حديثًا. 2 - (عَبْدُ الْأَعْلَى) بن عبد الأعلى بن محمد، وقيل: ابن شَرَاحيل القرشيّ البصريّ الساميّ، من بني سامة بن لؤي، أَبو محمد، ويُلَقّب أبا همام، وكان يغضب منه، ثقة [8]. روى عن حميد الطويل، ويحيى بن أبي إسحاق الحضرميّ، وعبيد الله بن عمر، وداود بن أبي هند، وخالد الحذاء، وابن إسحاق، وجماعة. وروى عنه إسحاق بن راهويه، وأبو بكر بن أبي شيبة، وعلي بن المديني، وعمرو ابن علي الصيرفي، وإبراهيم بن موسى الرازي، وعبيد الله بن عمر القواريري، وغيرهم. قال ابن معين، وأبو زرعة: ثقة. وقال أَبو حاتم: صالح الحديث. وقال النسائي: لا بأس به. وقال أحمد: كان يرى القدر. وقال ابن سعد: لم يكن بالقوي. وقال ابن أبي خيثمة: ثنا عبيد الله بن عمر، ثنا عبد الأعلى قال: فرغت من حاجتي من سعيد -يعني ¬

_ (¬1) "الْجُوباريّ": نسبة إلى جُوبار قرية بمرو، وبهراة، وبجُرْجان، وجُوبارة محلة بأصبهان. قاله في "لبّ اللباب" 1/ 218.

ابن أبي عروبة- قبل الطاعون. -يعني أنه سمع منه قبل الاختلاط. وقال العجليّ: بصري ثقة. وقال ابن خلفون: يقال: إنه سمع من سعيد بن أبي عروبة قبل اختلاطه، وهو ثقة. قاله ابن نمير، وابن وضاح، وغيرهما. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان متقنًا في الحديث، داعية إليه. قال عمرو بن علي، وابن حبّان: مات سنة (198) في شعبان. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (47) حديثًا. 3 - (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ) بن يسار المطلبيّ مولاهم، أَبو بكر المدنيّ، نزيل العراق، إمام المغازي، صدوق يدلّس، ورمي بالتشيّع والقدر، من صغار [5] تقدّم في 4/ 35. 4 - (مَكْحُولٌ) الشاميّ، أَبو عبد الله، ويقال: أَبو أيوب، ويقال: أَبو مسلم الدمشقيّ، ثقة فقيهٌ، كثير الإرسال، مشهور [5]. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وعن أبي بن كعب، وثوبان، وعبادة بن الصامت، وأبي هرير،، وعائشة، وأم أيمن، وأبي ثعلبة الْخُشَني مرسلًا أيضًا، وعن أنس، وواثلة ابن الأسقع، وأبي أمامة، ومحمود بن الربيع، وعبيد الله بن محُيريز، وعنبسة بن أبي سفيان، وجبير بن نفير، وسليمان بن يسار، وشرحبيل بن السمط، وغيرهم. وروى عنه الأوزاعيّ، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وثور بن يزيد الحمصي، وسليمان بن موسى، ويزيد بن يزيد بن جابر، ومحمد بن إسحاق، وآخرون. ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من تابعي أهل الشام. وقال الدُّوري عن ابن معين: قال أَبو مسهر: لم يسمع مكحول من عنبسة بن أبي سفيان، ولا أدري أدركه أم لا. وقال أَبو حاتم: قلت لأبي مسهر: هل سمع مكحول من أحد من الصحابة؟ قال: من أنس، قلت: قيل سمع من أبي هند، قال: من رواه؟ قلت: حيوة عن أبي صخرة، عن مكحول أنه سمع أبا هند، فكأنه لم يلتفت إلى ذلك، فقلت له: فواثلة بن الأسقع؟ فقال: من يرويه؟ قلت: حدثنا أَبو صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن العلاء بن

الحارث، عن مكحول، قال: دخلت أنا وأبو الأزهر على واثلة، فكأنه أومى برأسه (¬1). وقال الترمذي: سمع مكحول من واثلة، وأنس، وأبي هند الداريّ، ويقال: إنه لم يسمع من واحد من الصحابة إلا منهم. وقال النسائي: لم يسمع من عنبسة. وقال يحيى بن حمزة عن أبي وهيب الكلاعي، عن مكحولى: عَتَقْتُ بمصر، فلم أَدَع فيها علمًا إلا احتويت عليه فيما أَرَى، ثم أتيت العراق والمدينة والشام، فذكر كذلك. وقال ابن زَبْر عن الزهري: العلماء أربعة، فذكرهم، فقال: ومكحول بالشام. وقال يونس بن بُكير عن ابن إسحاق: سمعت مكحولًا يقول: طُفت الأرض كلها في طلب العلم. وقال أَبو مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز: كان سليمان بن موسى يقول: إذا جاء العلمُ من الشام عن مكحول قبلناه. وقال مروان بن محمد عن سعيد: لم يكن في زمان مكحول أبصر منه بالفتيا. وقال عثمان بن عطاء: كان مكحول أعجميا، وكلُّ ما قال بالشام قُبِل منه. وقال ابن عمار: كان مكحول إمام أهل الشام. وقال العجلي: تابعي ثقة. وقال ابن خِراش: شامي صدوق، وكان يرى القدر. وقال مروان بن محمد، عن الأوزاعي: لم يبلغنا أن أحدًا من التابعين تكلم في القدر إلا هذين الرجلين: الحسن، ومكحول، فكشفنا عن ذلك، فإذا هو باطل. وقال أَبو حاتم: ما أعلم بالشام أفقه من مكحول. وقال ابن سعد: قال بعض أهل العلم: كان مكحول من أهل كابُل، وكانت فيه لُكْنَة، وكان يقول بالقدر، وكان ضعيفًا في حديثه ورأيه. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: قوله: "وكان ضعيفا في حديثه، هذا مما لا يُقبل، فإن مكحولًا مجمع على توثيقه وجلالته، إلا أنه طُعن في رأيه، ولكنه تبرأ منه، فماذا عليه؟. فتبصّر. والله تعالى أعلم. وقال أَبو داود: سألت أحمد، هل أَنكر أهل النظر على مكحول شيئًا، قال: أنكروا ¬

_ (¬1) بقية كلام أبي حاتم كما في "الجرح والتعديل" 8/ 408: كأنه قَبِل ذلك.

عليه مجالسة علان، ورموه به، فبرأ نفسه، بأن نَحّاه. وقال الجوزجاني: يتوهم عليه القدر، وهو ينتفي عنه. وقال يحيى بن معين: كان قدريا ثم رجع. وقال ابن حبان في "الثقات": ربما دلّس. وقال ابن يونس: ذُكر أنه من أهل مصر، ويقال: كان لرجل من هُذيل من أهل مصر، فأعتقه، فسكن الشام، ويقال: كان من آل فارس، ويقال: كان اسم أبيه شهراب، وكان مكحول يُكنى أبا مسلم، وكان فقيهًا عالمًا، رأى أبا أمامة، وأنسا، وسمع من واثلة، يقال: تُوفي سنة ثماني عشرة ومائة. وقال أَبو نعيم: مات سنة اثنتي عشرة، وفيها أرّخه دُحَيم، وغير واحد. قال أَبو مسهر: مات بعد سنة اثنتي عشرة، وعنه: مات سنة ثلاث عشرة، أو أربع عشرة. وكذا قال الحسن بن محمد بن بكار بن بلال. وقال سليمان ابن عبد الرحمن: مات سنة ثلاث عشرة. وقال ابن سعد: مات سنة ست عشرة. وعن عمر بن سعيد الدمشقي: سنة ثمان عشرة. أخرج له البخاريّ في "جزء القراءة"، والباقون، وله في هذا الكتاب (19) حديثًا. 5 - (غُضَيْفُ بْنُ الحارِثِ) ويقال: غُطيف بن الحارث بن زُنَيم السَّكُونيّ الكِنْديّ، ويقال: الثُّمَاليُّ، أَبو أسماء الحمصيّ، مختلف في صحبته. روى عن بلال المؤذن، وعمر بن الخطاب، وأبي عبيدة بن الجراح، وأبي ذر، وأبي الدرداء، وأبي حُمَيضة الْمُزنيّ، وعطية بن بشر، وعائشة. وروى عنه ابنه عياض بن غضيف بن الحارث، ومكحول، وعُبَادة بن نُسَيّ، وسُليم بن عامر، وشُرَحبيل بن مسلم، وأزهر بن سعيد الْحَرَازِيّ، وحبيب بن عبيد الرَّحَبيّ، وعبد الله بن أبي قيس، وعبد الرحمن بن عائذ الثُّماليّ. قال ابن أبي حاتم: قال أبي، وأبو زرعة: غضيف بن الحارث له صحبة. وقال ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام: غضيف بن الحارث الكِنْديّ كان ثقة. وقال العجلي: غضيف بن الحارث شامي، تابعي ثقة. وقال الدارقطني: ثقة من أهل

الشام. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال في حرف العين: عياض بن غُضَيف، وهو الذي يقول فيه سُلَيم بن عامر: غضيف بن الحارث، لم يَضْبِط اسمه. ووقع في رواية النسائي من طريق الوليد بن عبد الرحمن، عن عياض بن غطيف، عن أبي عبيدة بن الجراح، وقال مكحول: عن غطيف بن الحارث مررت بعمر بن الخطاب، فقال: نعم الفتى غطيف بن الحارث. قال الهيثم بن عدي، وخليفة بن خياط: مات في زمن مروان بن الحكم. وقال غيرهما: بقي إلى زمن عبد الملك بن مروان، وهو الصحيح. قال الحافظ رحمه الله: الذي روى عنه ابنه عياض غير صاحب الترجمة، كما سأبينه؛ لأن البخاري قال في "تاريخه الأوسط": حدثنا عبد الله -يعني بن صالح- حدثنا معاوية، عن أزهر بن سعيد، قال: سأل عبد الملك بن مروان غضيفَ بن الحارث الثُّمالي، وهو أَبو أسماء السَّكُوني الشامي، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الثوري في حديثٍ: غضيفُ بن الحارث، وهو وَهَمٌ. وقال في "التاريخ الكبير": قال مَعْنٌ -هو ابن عيسى- عن معاوية -يعني بن صالح- عن يونس بن سيف، عن غضيف بن الحارث، أو الحارث بن غضيف السَّكوني قال: مهما نَسِيت من الأشياء، فإني لم أنس أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واضعًا يده اليمني على اليسرى في الصلاة. وقال ابن حبان في "الصحابة": غضيف بن الحارث الثُّمالي، أَبو أسماء السكوني، من أهل اليمن، رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي واضعًا يده اليمني على اليسرى في الصلاة، سكن الشام، وحديثه عند أهلها، مات في زمن مروان بن الحكم في فتنته، ومن قال: إنه الحارث بن غضيف، فقد وَهِمَ. وقال أَبو بكر بن أبي خيثمة: غضيف بن الحارث، وقيل: الحارث بن غضيف، والصحيح غضيف، وقيل: الحارث، له صحبة، نزل الشام، وهو بالضاد، فأما غطيف الْكِنْديّ، فهو بالطاء، فهو غير هذا، يروي عنه ابنه عياض بن غطيف، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا شرب الرجل الخمر فاجلدوه ... " الحديث. وقال أَبو الفتح الأزدي: غطيف بن الحارث له صحبة، تفرد عنه ابنه عياض.

وممن فرق بينهما أيضًا أَبو القاسم، عبد الصمد القاضي في "تاريخ الصحابة الذين نزلوا حِمْصَ"، وأبو القاسم الطبراني في "المعجم الكبير"، وغيرهما. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر مما قاله الأكثرون أن صاحب الترجمة تابعيّ ثقة، وأما الذي روى عنه ابنه عياض، فرجل آخر صحابيّ، فليُتنبّه. والله تعالى أعلم. أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والنسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (108) و (1354). 6 - (أَبو ذرّ) الْغِفَاريّ، قيل: اسمه جُنْدب بن جُنَادة بن قيس بن عمرو بن مُلَيل ابن صُعَيْر بن حَرَام بن عَفّان، وقيل: اسمه بُرَير بن جُنَادة، وقيل: ابن جُندب، وقيل: ابن عِشْرَقة، وقيل: ابن جُندب بن عبد الله، وقيل: ابن السكن، وكان أخا عَمْرو بن عَبَسة السُّلَميّ لأمه. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه أنس بن مالك، وابن عباس، وخالد بن وُهبان ابن خَالة أبي ذر، وقيل: وهبان بن امرأة أبي ذر، وقيل: ابن أخته، وزيد بن وهب الجهني، وخَرَشة بن الْحُرّ، وجُبير بن نُفير، والأحنف بن قيس، وعبد الله بن الصامت، وزيد بن ظبيان، وعبد الله بن شقيق، وعمرو بن ميمون، وعبد الرحمن بن غَنْم، وقيس بن عُبَاد، وأبو إدريس الخولاني، وأبو أسماء الرحبي، وأبو عثمان النهدي، وأبو الأسود الديلي، والمعرور بن سويد، ويزيد بن شريك التيمي، وأبو بصرة الغفاري، وأبو سالم الجيشاني، أَبو مُرَاوح الغِفَاري، وزِرّ بن حُبَيش، ورِبْعي بن حِرَاش، وعبد الرحمن بن شِمَاسة الْمُهْريّ، وخلق كثير. وقصّة إسلامه مشهورة في "الصحيحين"، ويقال: إن إسلامه كان بعد أربعة، وانصرف إلى بلاد قومه، فأقام بها حتى قدِم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، ومضت بدر وأحدٌ، ولم تتهيّأ له الهجرة إلا بعد ذلك، وكان طويلًا أسمر اللون نحيفًا. وأخرج أحمد في "مسنده" من طريق عِراك بن مالك قال: قال أَبو ذر -رضي الله عنه-: إني

لأقربكم يوم القيامة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أقربكم مني يوم القيامة مَنْ خَرَج من الدنيا كهيئته يوم تركته عليه"، وإنه والله ما منكم من أحد إلا وقد تَشَبّثَ منها بشيء غيري. رجاله ثقات، إلا أن فيه انقطاعًا؛ لأن عراكًا لم يسمع من أبي ذرّ. وأخرج أحمد والترمذيّ عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء، من رجل أصدق لهجة من أبي ذر" (¬1). وفي الباب عن أبي الدرداء، وأبي هريرة، وغيرهما. قال أَبو إسحاق عن هانئ بن هانئ، عن علي -رضي الله عنه-: أَبو ذر وِعاءٌ مُليَء علمًا أُوكِىء عليه، فلم يخرج منه شيء. وقال الآجري عن أبي داود: لم يشهد بدرًا، ولكن عمر ألحقه، وكان يوازي ابن مسعود في العلم. قال خليفة، وعمرو بن علي، وغير واحد: مات بالرَّبَذَة سنة اثنتين وثلاثين، زاد المدائني "وصَلَّى عليه ابن مسعود، ثم مات بعده بيسير. ومناقبه وفضائله كثيرة جدّا. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (37) حديثًا، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله من رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به، وهو صدوقٌ، وغضيف بن الحارث، فتفرد به هو، وأبو داود، والنسائي، وهو ثقة. 3 - (ومنها): أن هذا الباب أول محلّ ذكرهم، غير ابن إسحاق، وجملة ما رواه المصنف لشيخه يحيى (11) ولعبد الأعلى (47) ولمكحول (19) وغضيف حديثان فقط، ولأبي ذرّ -رضي الله عنه- (37) حديثًا. 4 - (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: ابن إسحاق، عن مكحول، عن غضيف. ¬

_ (¬1) حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده" (6341) و"الترمذيّ" (3737).

5 - (ومنها): أن أبا ذرّ -رضي الله عنه- من أوائل من أسلم من الصحابة -رضي الله عنهم-، جَمّ المناقب، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي ذَرٍّ) الغفاريّ -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: إِنَّ الله وَضَعَ الْحَقَّ) وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند الترمذيّ: "إن الله جعل الحقّ على لسان عمر وقلبه". قال الطيبيّ: ضمّن "جعل" معنى "أجرى" فعدّاه بـ"على"، وفيه معنى ظهور الحقّ، واستعلائه على لسانه، وفي وضع الجعل والوَضْعِ موضع أَجْرَى إشعار بأن ذلك كان خلقيّا ثابتًا مستقرّا. انتهى (¬1). (عَلَى لِسَانِ عُمَر) بن الخطاب -رضي الله عنه-، قال السنديّ رحمه الله: قيل تعديته بـ"على" لتضمينه معنى الإجراء، وفيه معنى الظهور. انتهى (¬2). (يَقُولُ بِهِ) أي بالحقّ، أو التقدير: يقول الحقَّ بسبب ذلك الوضع، والجملة استئناف بيانيّ، أو حال. [تنبيه]: أخرج الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" سبب تحديث أبي ذرّ -رضي الله عنه- لغضيف بهذا الحديث، فقال: حدثنا يزيد، حدثنا محمد بن إسحاق، عن مكحول، عن غُضيف بن الحارث، رجلٍ من أيلة، قال: مررت بعمر بن الخطاب، فقال: نعم الغلام، فاتبعني رجل ممن كان عنده، فقال: يا ابن أخي ادع الله لي بخير، قال: قلت: ومن أنت يرحمك الله؟ قال: أنا أَبو ذر صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: غفر الله لك، أنت أحق أن تدعو لي مني لك، قال: يا ابن أخي إني سمعت عمر بن الخطاب حين مررتَ به آنفًا يقول: نعم الغلام، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به" (¬3). وأخرج أيضًا من طريق خارجة بن عبد الله الأنصاري، عن نافع، عن ابن عمر، ¬

_ (¬1) "الكاشف عن حقائق السنن" 12/ 3859. (¬2) "شرح السندي" 1/ 78. (¬3) حديث صحيح.

عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل جعل الحق على قلب عمر ولسانه"، قال: وقال ابن عمر: ما نزل بالناس أمر قط، فقالوا فيه، وقال فيه عمر بن الخطاب، أو قال عمر إلا نزل القرآن على نحو مما قال عمر (¬1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي ذرّ -رضي الله عنه- هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي سنده محمد بن إسحاق، وهو مدلّس، وقد عنعنه؟. [قلت]: لم ينفرد به ابن إسحاق، فقد أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 5/ 145 عن يونس وعفّان قالا: حدّثنا حماد بن سلمة، عن بُرْد أبي العلاء، عن عبادة بن نُسيّ، عن غضيف بن الحارث به، وهذا إسناد صحيح، رواته ثقات، وبرد بن سنان وإن روي تضعيفه عن ابن المدينيّ، إلا أن الجمهور على توثيقه، انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" 1/ 217. وله شواهد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند أحمد، كما ذكرته آنفًا، ومن حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عند أحمد أيضًا برقم (8846). وفي سنده ضعف. والحاصل أن حديث أبي ذرّ -رضي الله عنه- هذا صحيح. والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (12/ 108) بهذا السند فقط، وأخرجه (أَبو داود) في "الخراج والإمارة" (2962) و (أحمد) في "مسند الأنصار" (20484) و (20333) و (20562)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. ¬

_ (¬1) حديث حسن، وخارجة بن عبد الله حسن الحديث، كما حققناه سابقا.

13 - فضل عثمان - رضي الله عنه -

13 - (فضل عثمان -رضي الله عنه-) أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالّة على مزايا عثمان -رضي الله عنه-. وهو: عثمان بن عَفّان بن أبي العاص بن أُمية بن عبد شمس القرشي الأموي، أمير المؤمنين، أَبو عبد الله، وأبو عمر، وأمه أَرْوَى بنت كُرَيز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، أسلمت، وأمها البيضاء بنت عبد المطلب، عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وُلِد بعد الفيل بست سنين على الصحيح، وكان رَبْعَةً، حسن الوجه، رقيق البشرة، عظيم اللحية، بعيد ما بين المنكبين، أسلم قديمًا، قال ابن إسحاق: كان أَبو بكر مؤلّفًا لقومه، فجعل يدعو إلى الإسلام مَن يَثقُ به، فأسلم على يده فيما بلغني: الزبير، وطلحة، وعثمان، وزَوَّجَ النبي صلى الله عليه وسلم ابنته رُقَيّة من عثمان، وماتت عنده في أيام بدر، فزوجه بعدها أختها أم كلثوم، فلذلك كان يلقب ذا النورين. وجاء من أوجه متواترة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بَشّره بالجنة، وعَدّه من أهل الجنة، وشهد له بالشهادة. ورَوَى أَبو خيثمة في "فضائل الصحابة" من طريق الضحاك، عن النّزّال بن سَبْرَة قلنا لعلي: حَدَّثنا عن عثمان، قال ذاك امرؤ يُدْعَى في الملأ الأعلى ذا النورين. وجاء من طرُق كثيرة شهيرة صحيحة عن عثمان -رضي الله عنه- لمّا أن حصروه انتشد الصحابةَ في أشياء، منها: تجهيزه جيش العسرة، ومنها مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم عنه تحت الشجرة لمّا أرسله إلى مكة، ومنها شراؤه بئر رُومة، وغير ذلك. وهو أول من هاجر إلى الحبشة، ومعه زوجته رُقيّة، وتخلف عن بدر لتمريضها، فكتب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، وتخلف عن بيعة الرضوان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعثه إلى مكة، فأُشيع أنهم قتلوه، فكان ذلك سبب البيعة، فضرب إحدى يديه على الأخرى، وقال: هذه عن عثمان. وقال ابن مسعود لمّا بويع: بايعنا خيرنا ولم نَأْلُ. وقال علي -رضي الله عنه-: كان عثمان أوصلنا للرحم. وكذا قالت عائشة لما بلغها قتله: قتلوه، وإنه لأوصلهم للرحم، وأتقاهم للرب. وكان سبب قتله أن أمراء الأمصار كانوا من أقاربه، كان بالشام كلها معاوية،

وبالبصرة سعيد بن العاص، وبمصر عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح، وبخراسان عبد الله ابن عامر، وكان مَنْ حَجّ منهم يشكو من أميره، وكان عثمان لَيِّنَ العَرِيكة (¬1)، كثير الإحسان والحلم، وكان يستبدل ببعض أمرائه فيرضيهم، ثم يعيده بعدُ إلى أن رحل أهل مصر يشكون من ابن أبي سرح، فعزله وكتب له كتابًا بتولية محمد بن أبي بكر الصديق، فرضوا بذلك، فلما كانوا في أثناء الطريق رأوا راكبا على راحلة، فاستخبروه، فأخبرهم أنه من عند عثمان باستقرار ابن أبي سرح، ومعاقبة جماعة من أعيانهم، فأخذوا الكتاب ورجعوا، وواجهوه به، فحلف أنه ما كتب ولا أذن، فقالوا: سَلِّمْنا كاتبك، فخَشِي عليه منهم القتل، وكان كاتبه مروان بن الحكم، وهو ابن عمه، فغضبوا وحصروه بها داره، واجتمع جماعة يَحمُونه منهم، فكان ينهاهم عن القتال إلى أن تسوروا عليه من دار إلى دار، فدخلوا عليه فقتلوه، فعظم ذلك على أهل الخير من الصحابة وغيرهم، وانفتح باب الفتنة، فكان ما كان، والله المستعان (¬2). وقد ساق الإمام ابن حبّان رحمه الله قصّة قتله مطوّلة في "صحيحه"، فقال رحمه الله تعالى: أخبرنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم، مولى ثقيف، حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرقي، وأحمد بن المقدام، قالا: حدّثنا المعتمر بن سليمان، حدثنا أبي، حدثنا أَبو نَضْرَة، عن أبي سعيد، مولى أبي أُسَيد الأنصاري، قال: سمع عثمان أن وفد أهل مصر قد أقبلوا، فاستقبلهم، فلما سمعوا به، أقبلوا نحوه إلى المكان الذي هو فيه، فقالوا له: ادع المصحف، فدعا بالمصحف، فقال له: افتح السابعة، قال: وكانوا يُسَمُّون "سورة يونس" السابعة، فقرأها حتى أتى على هذه الآية: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] قالوا له: قِفْ أرأيت ما حميتَ من الحمى آلله أذن لك به أم على الله ¬

_ (¬1) أي سَلِسَ الْخُلُق. (¬2) راجع "الإصابة" 4/ 377 - 379.

تفتري؟ فقال: أَمضِه نزلت في كذا وكذا، وأما الحمى لإبل الصدقة، فلما ولدت زادت إبل الصدقة، فزدت في الحمى لمّا زاد في إبل الصدقة، أَمِضه، قالوا: فجعلوا يأخذونه بآية آية، فيقول: أَمْضِه نزلت في كذا وكذا، فقال لهم: ما تريدون؟ قالوا: ميثاقك، قال: فكتبوا عليه شرطًا، فأَخَذَ عليهم أن لا يَشُقُّوا عصًا، ولا يفارقوا جماعة، ما قام لهم بشرطهم، وقال لهم: ما تريدون؟ قالوا: نريد أن لا يأخذ أهل المدينة عطاءً، قال: لا، إنما هذا المال لمن قاتل عليه، ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال: فرَضُوا، وأقبلوا معه إلى المدينة راضين. قال: فقام فخطب، فقال: ألا من كان له زرع فليلحق بزرعه، ومن كان له ضرع فليحتلبه، ألا إنه لا مال لكم عندنا، إنما هذا المال لمن قاتل عليه، ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال: فغضب الناس، وقالوا: هذا مكر بني أمية قال: ثم رجع المصريون، فبينما هم في الطريق إذا هم براكب يتعرض لهم، ثم يفارقهم، ثم يرجع إليهم ثم يفارقهم ويسبهم، قالوا: مالك إن لك الأمانَ ما شأنك؟ قال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر، قال: ففتشوه، فإذا هم بالكتاب على لسان عثمان عليه خاتمه إلى عامله بمصر أن يصلبهم أو يقتلهم، أو يقطع أيديهم وأرجلهم، فأقبلوا حتى قدموا المدينة، فأتوا عليّا، فقالوا: ألم تر إلى عدو الله كتب فينا بكذا وكذا، وإن الله قد أحلّ دمه، قم معنا إليه، قال: والله لا أقوم معكم، قالوا: فلم كتبت إلينا؟ قال: والله ما كتبت إليكم كتابًا قطّ، فنظر بعضهم إلى بعض، ثم قال بعضهم إلى بعض: ألهذا تقاتلون؟ أو لهذا تغضبون؟. فانطلق عليّ، فخرج من المدينة إلى قرية، وانطلقوا حتى دخلوا على عثمان، فقالوا: كتبتَ بكذا وكذا: فقال: إنما هما اثنتان: أن تقيموا عليّ رجلين من المسلمين، أو يميني بالله الذي لا إله إلا الله ما كتبت، ولا أمليت، ولا علمت، وقد تعلمون أن الكتاب يُكتَب على لسان الرجل، وقد يُنقَش الخاتم على الخاتم، فقالوا: والله أحل الله دمك، ونقضوا العهد والميثاق، فحاصروه، فأشرف عليهم ذات يوم، فقال: السلام عليكم، فما

أسمع أحدًا من الناس رَدّ عليه السلام، إلا أن يرد رجل في نفسه، فقال: أنشدكم الله هل علمتم أني اشتريت رُومة من مالي، فجعلت رِشائي فيها كرشاء رجل من المسلمين؟، قيل: نعم، قال: فعلام تمنعوني أن أشرب منها، حتى أفطر على ماء البحر؟ أنشدكم الله هل علمتم أني اشتريت كذا وكذا من الأرض، فزدته في المسجد؟ قيل: نعم، قال: فهل علمتم أن أحدًا من الناس مُنِع أن يصلي فيه قبلي؟ أنشدكم الله، هل سمعتم نبي الله -صلى الله عليه وسلم- يذكر كذا وكذا أشياء في شأنه عددها، قال: ورأيته أشرف عليهم مرة أخرى، فوعظهم وذكّرهم، فلم تأخذ منهم الوعظة، وكان الناس تأخذ منهم الموعظة في أول ما يسمعونها، فإذا أعيدت عليهم لم تأخذ منهم. فقال لامرأته: افتحي الباب، ووضع المصحف بين يديه، وذلك أنه رأى من الليل أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- يقول له: "أفطر عندنا الليلةَ"، فدخل عليه رجل، فقال: بيني وبينك كتاب الله، فخرج وتركه، ثم دخل عليه آخر، فقال: بيني وبينك كتاب الله، والمصحف بين يديه، قال: فأهوى له بالسيف، فاتقاه بيده فقطعها، فلا أدري أقطعها ولم يُبِنْها أم أبانها، قال عثمان: أما والله إنها لأول كَفّ خَطّت المفَصَّل -وفي حديث غير أبي سعيد- فدخل عليه التُّجِيبي، فضربه مِشْقَصًا، فنضح الدم على هذه الآية: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137]، قال: وإنها في المصحف ما حُكّت، قال: وأخذت بنت الفُرَافصة -في حديث أبي سعيد- حليها، ووضعته في حجرها، وذلك قبل أن يُقتَل، فلما قُتل تَفَاجّت عليه (¬1) قال بعضهم: قاتلها الله ما أعظم عجيزتها، فعلمتُ أن أعداء الله لم يريدوا إلا الدنيا. انتهى (¬2). وروى البخاري في قصة قتل عمر -رضي الله عنه- أنه عَهِد إلى ستة، وأمرهم أن يختاروا رجلًا، فجعلوا الاختيار إلى عبد الرحمن بن عوف، فاختار عثمان فبايعوه، ويقال: كان ¬

_ (¬1) أي وقته بنفسها، وبالغت في تفريج ما بين الرجلين، ووقعت عليه. (¬2) راجع "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 15/ 356 - 361.

ذلك يوم السبت غُرّة المحرم، سنة أربع وعشرين. وقال ابن إسحاق قُتل على رأس إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرًا واثنين وعشرين يومًا من خلافته، فيكون ذلك في ثاني وعشرين ذي الحجة سنة خمس وثلاثين. وقال غيره: قُتل لسبع عشرة، وقيل: لثمان عشرة، رواه أحمد، عن إسحاق بن الطباع، عن أبي معشر. وقال الزبير بن بكار: بويع يوم الاثنين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وقُتل يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة بعد العصر، ودُفن ليلة السبت بين المغرب والعشاء في حَشّ كَوْكَب، كان عثمان اشتراه، فوسع به البقيع. وقُتل وهو ابن اثنتين وثمانين سنة وأشهر على الصحيح المشهور. وقيل: دون ذلك. وزعم أَبو محمد بن حزم أنه لم يبلغ الثمانين (¬1). روى (146) حديثًا، اتفق الشيخان على ثلاثة، وانفرد البخاريّ بثمانية، ومسلم بخمسة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (23) حديثًا، والله تعالى أعلم بالصواب. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 109 - (حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الْعُثْمَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي عُثْمَانُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَن رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لِكُلِّ نَبِيٍّ رَفِيقٌ في الجُنَّةِ، وَرَفِيقِي فِيهَا عُثْمانُ بْنُ عَفَّانَ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (أَبُو مَرْوَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الْعُثْمَانِيُّ) المدنيّ، نزيل مكة، صدوقٌ يُخطىء [10] تقدّم في 2/ 14. 2 - (أَبوه عُثْمانُ بْنُ خَالِدٍ) بن عمر بن عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان الأمويّ، أَبو عفان المدنيّ، متروك الحديث [10]. ¬

_ (¬1) راجع "الإصابة" 4/ 377 - 379.

روى عن قرينه سعيد بن خالد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، ومالك، وابن أبي الزناد، وغيرهم. وروى عنه ابنه أَبو مروان العثماني محمد، والقاسم بن بشر بن معروف، وأبو علي الحسين بن أبي يزيد الدباغ. قال البخاري: عنده مناكير. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الْعُقيليّ: الغالب على حديثه الوهم. وقال الحاكم أَبو أحمد: منكر الحديث. وقال البخاري في "تاريخه الكبير"، وأبو حاتم: منكر الحديث. وقال الساجي: عنده مناكير غير معروفة. وقال الحاكم أَبو عبد الله، وأبو نعيم الأصبهاني: حَدّث عن مالك وغيره بأحاديث موضوعة. وقال ابن حبان: يروي المقلوبات عن الثقات، لا يجوز الاحتجاج به. وروى له ابن عدي أحاديث، وقال: وله غير ما ذكرت وكلها غير محفوظة. تفرّد به المصنّف وله عنده في هذا الكتاب حديثان فقط برقم (109) و (110). 3 - (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان القرشيّ، مولاهم المدنيّ، صدوق تغيّر حفظه لمّا قدِم بغداد، وكان فقيهًا [7]. روى عن أبيه، وموسى بن عقبة، وهشام بن عروة، وغيرهم. وروى عنه ابن جريج، وزهير بن معاوية، ومعاذ بن معاذ العنبري، والأصمعيّ، وغيرهم. قال مصعب: كان أَبو الزناد أحب أهل المدينة، وابنه، وابن ابنه. وقال سعيد بن أبي مريم عن خاله موسى بن سلمة: قَدِمتُ المدينة، فأتيت مالك بن أنس، فقلت له: إني قَدِمت إليك لأسمع العلم، وأسمع ممن تأمرني به، فقال: عليك بابن أبي الزناد. وقال أَبو داود عن ابن معين: أثبت الناس في هشام بن عروة عبد الرحمن بن أبي الزناد. وقال أَبو طالب عن أحمد: يُروَى عنه، قلت: يُحتَمَل؟ قال: نعم. وقال أيضًا فيما حكاه الساجي: أحاديثه صحاح. وقال ابن معين فيما حكاه الساجي: عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن الأعرج، عن أبي هريرة حجة. وقال الآجري، عن أبي داود: كان عالما بالقرآن، عالما بالأخبار. وقال الترمذي، والعجلي: ثقة. وصحح الترمذي عدةً من أحاديثه.

وقال في "اللباس": ثقة حافظ. وقال ابن عديّ: هو ممن يُكتب حديثه. وقال الحاكم أَبو أحمد: ليس بالحافظ عندهم. وقال الواقدي: كان نبيلًا في علمه، ووَلِيَ خراج المدينة، فكان يستعين بأهل الخير والورع، وكان كثير الحديث، عالمًا. وقال الشافعي: كان ابن أبي الزناد يكاد يجاوز القصد في ذَمّ مذهب مالك. وقال ابن محُرز عن يحيى بن معين: ليس ممن يَحتَجّ به أصحاب الحديث، ليس بشيء. وقال معاوية بن صالح وغيره عن ابن معين: ضعيف. وقال الدُّوري عن ابن معين: لا يحتج بحديثه، وهو دون الدراوردى. وقال صالح بن أحمد عن أبيه: مضطرب الحديث. وقال محمد بن عثمان عن ابن المديني: كان عند أصحابنا ضعيفًا. وقال عبد الله ابن علي بن المديني عن أبيه: ما حدث بالمدينة فهو صحيح، وما حدث ببغداد أفسده البغداديون. ورأيت عبد الرحمن بن مهدي يخط على أحاديثه، وكان يقول: في حديثه عن مشيختهم: فلان وفلان وفلان، قال: ولقنه البغداديون عن فقهائهم. وقال صالح ابن محمد: روى عن أبيه أشياء لم يروها غيره، وتكلم فيه مالك لروايته عن أبيه كتاب السبعة -يعني الفقهاء- وقال: أين كنا عن هذا؟. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صدوق، وفي حديثه ضعف، سمعت علي بن المديني يقول: حديثه بالمدينة مقارب، وما حدث به بالعراق فهو مصطرب، قال علي: وقد نظرت فيما روى عنه سليمان بن داود الهاشمي، فرأيتها مقاربة. وقال عمرو بن علي: فيه ضعف، فما حدث بالمدينة أصح مما حَدّث ببغداد كان عبد الرحمن يخط على حديثه. وقال في موضع آخر: تركه عبد الرحمن. وقال الساجي: فيه ضعف، وما حدث بالمدينة أصح مما حدث ببغداد. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عنه، وعن ورقاء، وشعيب، والمغيرة، أيهم أحب إليك في أبي الزناد؟ قال: كلهم أحب إلي من عبد الرحمن ابن أبي الزناد. وقال النسائي: لا يحتج بحديثه. وقال ابن سعد: قَدِمَ في حاجة، فسمع منه البغداديون، وكان كثير الحديث، وكان يضعف لروايته عن أبيه، وكان يفتي، مات ببغداد سنة أربع وسبعين ومائة، ومولده سنة (100)، وكذا أرخه أَبو موسى.

أخرج له البخاري في التعاليق، ومسلم في "المقدمة" والأربعة، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا. 4 - (أبوه) هو: عبد الله بن ذكوان القرشي، أَبو عبد الرحمن المدني المعروف بأبي الزناد، مولى رملة، وقيل: عائشة بنت شيبة بن ربيعة، وقيل: مولى عائشة بنت عثمان، وقيل: مولى آل عثمان، وقيل: إن أباه كان أخا أبي لؤلؤة، قاتل عمر، وقال ابن عيينة: كان يغضب من أبي الزناد، ثقةٌ، فقيهٌ [5]. روى عن أنس، وعائشة بنت سعد، وأبي أمامة بن سهل بن حنيف، وسعيد بن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وأبان بن عثمان بن عفان، وغيرهم. وروى عنه ابناه: عبد الرحمن، وأبو القاسم، وصالح بن كيسان، وابن أبي مليكة، وخلق كثير. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة. وقال حرب عن أحمد: كان سفيان يسميه أمير المؤمنين. قال: وهو فوق العلاء بن عبد الرحمن، وسهيل بن أبي صالح، ومحمد بن عمرو. وقال أَبو زرعة الدمشقي عن أحمد: أَبو الزناد أعلم من ربيعة. وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: ثقة حجة. وقال ابن المديني: لم يكن بالمدينة بعد كبار التابعين أعلم منه، ومن ابن شهاب، ويحيى بن سعيد، وبكير بن الأشج. وقال العجلي: مدني تابعي ثقة، سمع من أنس. وقال أَبو حاتم: ثقة فقيه صالح الحديث، صاحب سنة، وهو ممن تقوم به الحجة، إذا روى عن الثقات. وقال البخاري: أصح أسانيد أبي هريرة: أَبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة. وقال الليث عن عبد ربه بن سعيد: رأيت أبا الزناد دخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه من الأتباع مثل ما مع السلطان. وقال النسائي، والعجلي، والساجي، وأبو جعفر الطبري: كان ثقة. وقال ابن حبان في "الثقات": كان فقيهًا، صاحب كتاب. وقال ابن عديّ: أحاديثه مستقيمة كلها. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: روى عن أنس مرسلًا، وعن ابن عمر، ولم يره. وقال أَبو يوسف، عن أبي حنيفة: قدمت المدينة، فأتيت أبا الزناد، ورأيت ربيعة، فإذا الناس على ربيعة، وأبو الزناد أفقه الرجلين، فقلت له: أنت أفقه، والعمل

على ربيعة، فقال: ويحك كَفٌّ من حظ، خير من جراب من علم. قال خليفة وغيره: مات سنة ثلاثين ومائة في رمضان، وهو ابن (66) سنة. وكذا قال ابن سعد، وزاد: كان ثقة، كثير الحديث، فصيحًا، بصيرا بالعربية، عالمًا، عاقلا. وقال ابن معين وغيره: مات سنة (31). وقيل: مات سنة (32). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (31) حديثًا. 5 - (الْأَعْرَجُ) هو: عبد الرحمن بن هُرْمُز، أَبو داود المدنيّ، مولى ربيعة بن الحارث، ثقة ثبتٌ فقيه [3] تقدم في 10/ 79. 6 - (أَبو هُرَيْرَة) الصحابيّ الشهير -رضي الله عنه- تقدّم في 1/ 1، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- (أَن رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لِكُلِّ نَبِيٍّ رَفِيقٌ في الْجَنَّةِ، وَرَفِيقِي فِيهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ) -رضي الله عنه-. قال السنديّ رحمهَ الله: أكثر ما يُطلق الرفيق على الصاحب في السفر، وقد يُطلق على الصاحب مطلقًا، وهو المراد هنا، ولعلّ سبب ذلك ما يُشير إليه قوله تعالى: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21]، فتكون بناته -صلى الله عليه وسلم- عنده، وعثمان؛ لكونه زوج البنتين يتبعهما، فيكون عنده، وتخصيص عثمان -رضي الله عنه- إنما هو من أجل أنه ليس من الذرّيّة، وعليّ -رضي الله عنه- لشدّة قرابته، ولكونه نشأ في تربيته معدود في الذريّة، والمقصود هنا هو الإخبار بأنه يكون في الجنّة رفيقًا، لا الحصر. انتهى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا تفرّد به المصنّف، وهو ضعيفٌ؛ لتفرّد عثمان بن خالد به، وهو متروك. قال الحافظ البوصيريّ رحمه الله: وهذا إسناد ضعيف، فيه عثمان بن خالد، وهو ضعيف باتّفاقهم، ورواه الترمذيّ في "الجامع" من طريق (¬1) طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي رفيق، ورفيقي -يعني ¬

_ (¬1) هكذا عبارة البوصيريّ بلفظ "من طريق طلحة"، وكان الأولى التعبير بلفظ "من حديث طلحة"، كما لا يخفى.

في الجنة- عثمان". قال أَبو عيسى: هذا حديث غريب، ليس إسناده بالقويّ، وهو منقطع. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 110 - (حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الْعُثْمَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي عُثْمَانُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَقِيَ عُثْمَانَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا عُثْمَانُ هَذَا جِبْرِيلُ، أَخْبَرَنِي أَنَّ الله قَدْ زَوَّجَكَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِمِثْلِ صَدَاقِ رُقَيَّةَ، عَلَى مِثْلِ صُحْبَتِهَا"). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الإسناد هو الإسناد المذكور في الحديث الماضي، وقد سبق بيان ضعفه، فلا تغفل، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- (أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَقِيَ عُثْمَانَ) بن عفّان -رضي الله عنه- (عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ) أي النبويّ، فـ "أل" عهديّة (فَقالَ) -صلى الله عليه وسلم- (يَا عُثْمَانُ هَذَا جِبْرِيلُ) عليه السَّلام (أَخْبَرَنِي أَنَّ الله قَدْ زَوَّجَكَ) قال السنديّ رحمه الله: ظاهره أنه تعالى كان هو العاقد، كما في أزواج النبيّ -صلى الله عليه وسلم- نحو زينب المذكورة في قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]. انتهى (¬1) (أُمَّ كُلْثُومٍ) بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم، اختُلف هل هي أصغر، أو فاطمة، وتزوجها عثمان بعد موت أختها رُقَيّة -رضي الله عنهم- عنده. قال أَبو عُمَر: كان عتبة بن أبي لهب تزوج أم كلثوم قبل البعثة، فلم يدخل عليها حتى بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أبوه بفراقها، ثم تزوجها عثمان بعد موت أختها سنة ثلاث من الهجرة، وتوفيت عنده أيضًا سنة تسع، ولم تلد له، قال: وهي التي شَهِدَت أم عطية غسلها وتكفينها، وحدثت بذلك. ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 79.

قال الحافظ: المحفوظ أن قصة أم عطية إنما هي في زينب، كما ثبت في "صحيح مسلم"، ويحتمل أن تشهدهما جميعًا. قال ابن سعد: خرجت أم كلثوم إلى المدينة لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم مع فاطمة وغيرها من عيال النبي صلى الله عليه وسلم، فتزوجها عثمان بعد موت أختها رقية في ربيع الأول سنة ثلاث، وماتت عنده في شعبان سنة تسع، ولم تلد له، وساق بسند له عن أسماء بنت عميس قالت: أنا غسلت أمَّ كلثوم وصفية بنت عبد المطلب. ومن طريق عمرة غسلتها نسوة منهن أم عطية. وفي "صحيح البخاري"، وطبقات ابن سعد عن أنس -رضي الله عنه-: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على قبرها، فرأيت عينيه تدمعان، فقال: " فيكم أحدٌ لم يقارف الليلة؟ "، فقال أَبو طلحة: أنا، فقال انزل في قبرها. وقال الواقدي بسند له: نزل في حفرتها عليّ، والفضل، وأسامة بن زيد. وقال غيره: كان عتبة وعتيبة ابنا أبي لهب تزوجا رقية وأم كلثوم ابنتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما نزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] قال أَبو لهب لابنيه: رأسي بين رءوسكما حرام إن لم تطلقا ابنتي محمد، وقالت لهما أمهما حمالة الحطب: إن رقية وأم كلثوم صَبَتَا فطَلِّقاهما، فطَلَّقَاهما قبل الدخول (¬1). [تنبيه]: "الْكُلْثُوم" بضم الكاف وسكون اللام، كزُنْبُور في أصل اللغة: كثير لحم الخدّين والوجه، من الْكَلْثَمة، وهي اجتماع لحم الوجه (¬2). [تنبيه آخر]: ذكر الخضريّ في "حاشية شرح ابن عَقِيل على الخلاصة": ما نصّه: وقع السؤال عن "أمّ كُلثوم"، هل يمنع عجزه من الصرف للعلميّة والتأنيث المعنويّ، كما مُنِع في "أبي هريرة"، و"أبي بكرة" للتأنيث اللفظيّ؟. فأجبت بالفرق بينهما بأن العلة الثانية، وهي التأنيث في "هُريرة" تامّة مستقلّة به قبل التركيب وبعده، فانضمّت لجزء العلميّة الحاصلة بعد التركيب، ومنعته، بخلاف ¬

_ (¬1) راجع "الإصابة" 8/ 460 - 461. (¬2) أفاده في "القاموس"، بزيادة من "حاشية الخضري" 2/ 160.

كلثوم، فإن فيه جزء كلٍّ من العلميّة والتأنيث المعنويّ؛ لأنه مدلول لمجموع الجزأين، لا للعجز وحده، فالظاهر أن لا يُمنع، وهو الجاري على ألسنة المحدّثين، كما في الدمامينيّ على "المغني"؛ لتجزىء كلٍّ من العلّتين فيه، وهذا فرق وجيه. انتهى (¬1). (بِمِثْلِ صَدَاقِ رُقَيَّةَ) بضم الراء، وفتح القاف، وتشديد الياء التحتانيّة: أي بمثل مهر أختها رقيّة بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال الفيّوميّ: صِداق المرأة فيه لغات، أكثرها فتح الصاد، والثانية كسرها، والجمع صُدُقٌ بضمّتين، والثالثة لغة الحجاز صَدُقَةٌ، وتُجمَع على صَدُقات على لفظها، وفي التّنْزِيل: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} الآية [النساء:4]. والرابعة لغة تميم صُدْقةٌ بضم، فسكون، والجمع صُدُقات، مثل غرفة وغرُفات في وجوهها. وصَدْقة بفتح، فسكون لغة خامسة، وجمعها صُدَقٌ، مثل قرية وقُرًى، وأصدقتها: أعطيتها صداقها، وأصدقتها: تزوجتها على صداق. انتهى (¬2). ورقية بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم زوج عثمان بن عفان، وأم ابنه عبد الله -رضي الله عنهم-. قال أَبو عمر: لا أعرف خلافا أن زينب أكبر بنات النبي صلى الله عليه وسلم، واختُلِف في رقية وفاطمة وأم كلثوم، والأكثر أنهن على هذا الترتيب. ونقل أَبو عمر عن الجرجاني أنه صحح أن رقية أصغرهن. وقيل: كانت فاطمة أصغرهن. وقال ابن هشام: تزوج عثمان رقية، وهاجر بها إلى الحبشة، فولدت له عبد الله هناك، فكان يُكنى به. وقال ابن سعد: بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هي وأخواتها، وتزوجها عتبة بن أبي لهب قبل النبوة، فلما بُعِث قال أَبو لهب: رأسي من رأسك حرام إن لم تُطَلِّق ابنته ففارقها، ولم يكن دخل بها فتزوجها عثمان، فأسقطت منه سِقْطًا، ثم ولدت له بعد ذلك ولدًا، فسماه عبد الله، وبه كان يُكنى، ونقره ديك فمات، فلم تلد له بعد ذلك. وأخرج ابن سعد من ¬

_ (¬1) راجع "حاشية الخضري على شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك" في باب "ما لا ينصرف" 2/ 160. (¬2) "المصباح المنير" 1/ 335 - 336.

طريق علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: لما ماتت رقية قال النبي صلى الله عليه وسلم:- "الحقي بسلفنا عثمان بن مظعون"، فبكت النساء على رقية، فجاء عمر بن الخطاب، فجعل يضربهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مهما يكن من العين ومن القلب فمن الله والرحمة، ومهما يكن من اليد واللسان فمن الشيطان"، فقعدت فاطمة على شفير القبر تبكي، فجعل يمسح عن عينها بطرف ثوبه. والظاهر أن هذا وَهَمٌ، ولعلها غيرها من بناته؛ لأن الثابت أن رقية ماتت ببدر، إلا أن يُحمَل على أنه أتى قبرها بعد أن جاء من بدر. وقد روى ابن المبارك عن يونس، عن الزهري قال: تخلف عثمان عن بدر على امرأته رقية، وكانت قد أصابها الْحَصْبة فماتت، وجاء زيد -يعني ابن حارثة- بشيرًا بوقعة بدر، قال: وعثمان على قبر رقية. وذكر السَّرَّاج في "تاريخه" من طريق هشام بن عروة عن أبيه قال: تخلف عثمان وأسامة بن زيد عن بدر، فبينا هم يدفنون رقية سمع عثمان تكبيرًا، فقال: يا أسامة ما هذا، فنظروا فإذا زيد بن حارثة على ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجدْعاء بشيرًا بقتل المشركين يوم بدر (¬1). (عَلَى مِثْلِ صُحْبَتِهَا) بضم، فسكون: أي على أن تصحبها مثل ما صاحبت أختها من حسن العِشرة، وكريم المعاملة، والرفق بها، والتودّد إليها. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث مما انفرد به المصنّف، وهو ضعيف؛ لما أسلفناه في الحديث الذي قبله، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 111 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، قَالَ: ذَكرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِتْنَةً، فَقَرَّبَهَا، فَمَرَّ ¬

_ (¬1) راجع "الإصابة" 8/ 138 - 139.

رَجُل مُقَنَّعٌ رَأْسُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "هَذَا يَوْمَئِذٍ عَلَى الْهُدَى"، فَوَثَبْتُ، فَأَخَذْتُ بِضَبْعَيْ عُثْمَانَ، ثُمَّ اسْتَقْبَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقُلْتُ: هَذَا؟ قَالَ: "هَذَا"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطنافسيّ الكوفيّ، ثقة عابد [10] تقدّم في 9/ 57. 2 - (عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ) بن يزيد الأوديّ، أَبو محمد الكوفيّ، ثقة فقيه عابد [8] تقدّم في 7/ 52. 3 - (هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ) الأزديّ الْقُرْسيّ -بضم القاف، والدال- يقال: كان نازلا في القراديس، ويقال: مولاهم، أبو عبد الله البصريّ، ثقة، من أثبت الناس في ابن سيرين، وفي روايته عن الحسن، وعطاء مقال؛ لأنه قيل: كان يرسل عنهما [6]. رَوَى عن حميد بن هلال، والحسن البصري، ومحمد، وأنس، وحفصة بني سيرين، وغيرهم. وعنه عكرمة بن عمار، وسعيد بن أبي عروبة، وشعبة، وزائدة والحمادان، والسفيانان، وخلق كثير. قال عارم: ثنا حماد بن زيد، عن سعيد بن أبي صدقة، أن محمد بن سيرين قال: هشام منا أهل البيت، قال حماد: وكان أيوب يقول: سل لي هشاما عن حديث كذا. وقال سعيد بن أبي عروبة: ما رأيت أحفظ عن محمد بن سيرين من هشام. وقال نعيم ابن حماد. سمعت ابن عيينة يقول: لقد أتى هشام أمرا عظيما بروايته عن الحسن، قيل لنعيم: لم؟ قال: إنه كان صغيرا، قال نعيم: قال ابن عيينة: وكان هشام أعلم الناس بحديث الحسن. وقال أَبو بكر بن أبي شيبة عن ابن علية: ما كنا نَعُدّ هشام بن حسان في الحسن شيئا. وقال إبراهيم بن مهدي: سمعت حماد بن زيد يقول: أنبأنا هشام وأيوب، وحسبك بهشام. وقال مخلد بن الحسين عن هشام بن حسان: ما كتبت للحسن حديثا قط، إلا حديث الأعماق. وقال علي عن يحيى بن سعيد: هشام بن حسان في ابن سيرين أحب إلي من عاصم الأحول، وخالد الحذاء، وهو عندي في الحسن دون محمد بن عمرو -يعني

الأنصاري. وقال حجاج بن المنهال: كان حماد بن سلمة لا يختار على هشام في ابن سيرين أحدًا. وقال ابن المديني: كان يحيى بن سعيد، وكبار أصحابنا يُثَبِّتون هشام بن حسان، وكان يحيى يضعف حديثه عن عطاء، وكان الناس يرون أنه أخذ حديثه عن حَوْشَب. وقال ابن المديني أيضًا: أما حديث هشام عن محمد فصحاح، وحديثه عن الحسن عامتها يدور على حوشب، وهشام أثبت من خالد الحذاء في ابن سيرين، وهشام ثَبْتٌ. وقال العجلي: بصري ثقة، حسن الحديث، يقال: إن عنده ألف حديث حسن ليست عند غيره. وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله تعالى، كثير الحديث. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: كان ثقة. وقال أَبو داود: إنما تكلموا في حديثه عن الحسن وعطاء؛ لأنه كان يرسل، وكانوا يرون أنه أخذ كتب حَوْشَب. وقال ابن عدي: أحاديثه مستقيمة، ولم أر في حديثه منكرًا، وهو صدوق. وقال أَبو بكر بن أبي شيبة وغيره: مات سنة ست. وقال يحيى القطان وغيره: مات سنة سبع. وقال الترمذي وغيره: مات سنة ثمان وأربعين ومائة. قلت وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة سبع أو ثمان، وكان من العباد الْخُشُن البكائين. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (23) حديثًا. 4 - (مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ) الأنصاريّ، أَبو بكر ابن أبي عمرة البصريّ، ثقة ثبتٌ عابدٌ كبير القدر [3] تقدّم في 3/ 24. 5 - (كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ) بن أُميّة بن عديّ بن عُبيد بن خالد بن عمرو بن عوف بن غَنْم بن سَوَاد بن مُرّيّ بن أراشة الْبَلَويّ، الأنصاري المدنيّ، أَبو محمد، وقيل: أَبو عبد الله، وقيل: أَبو إسحاق، من بني سالم بن عوف، وقيل: من بني سالم بن يَليّ، حليف بني الخزرج. وقيل في نسبه غير ذلك. روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن عمر بن الخطاب، وبلال. وروى عنه بنوه: إسحاق، والربيع، ومحمد، وعبد الملك، وابن عمر، وابن عمرو، وابن عباس، وجابر، وعبد الله ابن مَعْقِل بن مُقَرن الْمُزنِيّ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وأبو وائل، ومحمد بن سيرين، وأبو

عبيدة بن عبد الله بن مسعود، وطارق بن شهاب، ومحمد بن كعب القرظي، وأبو ثُمامة الحناط، وسعيد المقبري، وقيل: بينهما رجل، وإبراهيم، وليس بالنخعي، وعاصم العدوي، وموسى بن وَرْدان، وغيرهم. قال الواقديّ: كان استأخر إسلامه، ثم أسلم، وشهد الشاهد، وهو الذي نزلت فيه بالحديبية الرخصة في حلق رأس المحرم والفدية. وأخرج ابن سعد بسند جيّد عن ثابت بن عبيد أن يد كعب بن عجرة قُطعت في بعض المغازي، ثم سكن الكوفة. قال خليفة: مات سنة إحدى وخمسين. وقال الواقدي، وآخرون: مات سنة (2)، قال بعضهم: وهو ابن خمس، وقيل: سبع وسبعين سنة. روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط برقم (111) و (561) و (904) و (967) و (1064) و (3079) و (3080)، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فِتْنَةً) أي ابتلاءً واختبارًا، والمراد القتال والكفر (فَقَرَّبَهَا) بتشديد الراء من التقريب: أي ذكر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كونها قريبة الوقوع (فَمَرَّ رَجُلٌ مُقَنَّعٌ) بضم الميم، وفتح النون المشدّدة اسم مفعول من التقنيع، وهو ستر الرأس بالرداء، وإلقاء طرفه على الكتف، وهو صفة لـ"رجل"، وقوله (رَأْسُهُ) مرفوع على أنه نائب فاعله، ويحتمل أن يكون "مُقنَّع" مبتدأ، و"رأسه" نائب فاعله؛ لاعتماده على الموصوف، أغنى عن الخبر، والجملة صفة في محل رفع صفة لـ"رجل"، والمعنى أن ذلك الرجل مستتر في ثوب، وقد جعله كالقناع (فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: هَذَا) مشيرًا إلى الرجل المقنّع (يَوْمَئِذٍ) أي يوم وقوع الفتنة (عَلَى الهدَى) أي على الحقّ، وهو من قبيل قوله عز وجل: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [لقمان: 5] (فَوَثَبْتُ) أي قمت مسرعًا (فَأَخَذْتُ بِضَبْعَيْ عُثْمَانَ) تثنية "ضَبْع" بفتح، فسكون: هو العضد، والجمع أَضْباع، مثل فَرْخ وأَفْراخ. (ثُمَّ اسْتَقْبَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-) أي توجهت إليه آخذًا

بضبعي عثمان -رضي الله عنه-، وفي حديث مرة بن كعب -رضي الله عنه- عند الترمذيّ: فقمت إليه، فأقبلت عليه بوجهه، والمعنى أنه أدار وجه عثمان -رضي الله عنه- إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ليتبيّن الأمر عليه (فَقُلْتُ: هَذَا؟) أي أهذا هو الرجل الذي قلتَ: إنه يومئذ على الهدى؟ (قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (هَذَا) خبر لمحذوف: أي هو هذا، أو مبتدأ محذوف الخبر: أي هذا هو المعنيّ. وفيه مبالغة في استحضار القضيّة، وتأكيدها بتحقّق الصورة الجليّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث كعب بن عُجْرة -رضي الله عنه- هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه انقطاع؛ لأن ابن سيرين لم يسمع من كعب بن عجرة -رضي الله عنه-، كما ذكره في "تهذيب التهذيب" 3/ 578 نقلًا عن ابن أبي حاتم عن أبيه، وقال في "المراسيل" جـ 2/ ص 380 - 381 يقال: هذا الحديث عن كعب بن مرّة البهزيّ انتهى؟. [قلت]: إنما صحّ بشواهده، فقد أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، فقال: (18068) حدثنا محمد بن بَكْر -يعني البرساني- أخبرنا وهيب بن خالد، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، قال: قامت خطباء بإيلياء في إمارة معاوية -رضي الله عنه-، فتكلموا، وكان آخر من تكلم مُرّة بن كعب، فقال: لولا حديث سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قمت، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكر فتنة، فقربها، فمر رجل مُتَقَنِّعٌ، فقال: "هذا يومئذ وأصحابه على الحق والهدى"، فقلت: هذا يا رسول الله، وأقبلت بوجهه إليه؟ فقال: "هذا"، فإذا هو عثمان -رضي الله عنه-. وهذا حديث صحيح، رجال إسناده ثقات، رجال الشيخين، غير أبي الأشعث، واسمه شَرَاحيل بن آدة -فمن رجال مسلم، وصحابيّ الحديث لم يُخرج له سوى أصحاب السنن (¬1). ¬

_ (¬1) راجع ما كتبه محقّقوا "المسند" 29/ 609 رقم الحديث (18068).

وقال أيضًا (20372): حدثنا أَبو أسامة، حماد بن أسامة، أخبرنا كهمس، عن عبد الله بن شقيق، حدثني هَرَمِي بن الحارث، وأسامة بن خُرَيم، وكانا يغازيان، فحدثاني حديثًا، ولم يشعر كل واحد منهما أن صاحبه حدثنيه، عن مُرّة الْبَهْزيّ، قال: بينما نحن مع نبي الله قال في طريق من طُرُق المدينة، فقال: "كيف تصنعون في فتنة تثور في أقطار الأرض (¬1) كأنها صياصي بقر؟ (¬2) " قالوا: نصنع ماذا يا نبي الله؟ قال: "عليكم هذا وأصحابه، أو اتبعوا هذا وأصحابه"، قال: فأسرعت حتى عَيِيتُ فلحقت الرجلَ، فقلت: هذا يا رسول الله؟ قال: "هذا"، فإذا هو عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، فقال: "هذا وأصحابه"، وذكره (¬3). وهذا الحديث صحيح أيضًا، والإسناد حسن، وأسامة بن خُريم تفرد بالرواية عنه عبد الله بن شقيق، وقال العجلي: تابعيّ ثقة، وذكره ابن حبّان في "الثقات" (¬4). وهرمي، ويقال: هَرِم مجهول، ذكر هنا مقرونًا بأسامة. والحاصل أن الحديث صحيح. وقال أيضًا (20354): حدثنا يزيد (¬5) أخبرنا كهمس بن الحسن، حدثنا عبد الله ابن شقيق، حدثني رجل من عَنَزَة يقال له: زائدة، أو مزيدة بن حوالة، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر من أسفاره، فنزل الناس منزلًا، ونزل النبي صلى الله عليه وسلم في ظل دَوْحَة، فرآني وأنا مقبلٌ، من حاجة لي، وليس غيره وغير كاتبه، فقال: "أنكتبك يا ابن حوالة؟ "، قلت: علام يا رسول الله؟ قال: فَلَهَا عني، وأقبل على الكاتب، قال: ثم دنوت دون ¬

_ (¬1) أي أنحائها. (¬2) أي قرون البقر. (¬3) رواه أحمد في "مسنده" جـ 33 رقم (20372) وإسناده حسن، لكن الحديث صحيح لشواهده. (¬4) انظر "لسان الميزان" 1/ 341. (¬5) هو ابن هارون.

ذلك، قال: فقال: "أنكتبك يا ابن حوالة؟ " قلت: علام يا رسول الله؟ قال: فلها عني، وأقبل على الكاتب، قال: ثم جئت، فقمت عليهما، فإذا في صدر الكتاب أَبو بكر وعمر، فظننت أنهما لن يُكتبا إلا في خير، فقال: "أنكتبك يا ابن حوالة؟ " فقلت: نعم يا نبي الله، فقال: "يا ابن حوالة، كيف تصنع في فتنة تثور في أقطار الأرض، كأنها صياصي بقر؟ " قال: قلت: أصنع ماذا يا رسول الله؟ قال: "عليك بالشام"، ثم قال: "كيف تصنع في فتنة كأن الأولى فيها نَفْجَة أرنب؟ " قال: فلا أدري كيف قال في الآخرة؟ ولأن أكون علمت كيف قال في الآخرة أحب إلي من كذا وكذا. وهذا إسناد صحيح، رجاله رجال الصحيح، غير صحابيّه زائدة، أو مزيدة بن حوالة، فلم يخرج له إلا أحمد. والحاصل أن حديث كعب بن عُجرة -رضي الله عنه- المذكور في الباب صحيح؛ لهذه الشواهد. فتنبّه. والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (13/ 111) بهذا السند فقط، ولم يخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (ابن أبي شيبة) في "مصنفه" (12/ 41) و (أحمد) في "مسنده" (4/ 242 و 243) و (الترمذيّ) (3704) من حديث كعب بن مرّة، وقال الترمذيّ: حديث حسن صحيح، وقد سبق في المسألة السابقة بقية تخريج أحمد، فلا تنس نصيبك منها، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل عثمان بن عفّان -رضي الله عنه-. 2 - (ومنها): أن فيه علمًا من أعلام النبوّة، ومعجزةً ظاهرة للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- وهو إخباره -صلى الله عليه وسلم- بما سيقع في أمته من الفتن العظام. 3 - (ومنها): ما كان عليه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من الحرص على إرشاد أمته إلى طريق نجاتهم من فتن الدنيا والآخرة، فما من خير يكون في الدنيا والآخر إلا دلّها عليه، وما من شرّ

يقع في الدنيا والآخرة إلا حذّرها منه، فهو -صلى الله عليه وسلم- الموصوف بأبي هو وأمي بقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. 4 - (ومنها): ما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم- من الحرص على التأكّد في تحقيق العلم، حيث إن هذا الصحابي -رضي الله عنه- لم يكتف بإشارة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- على الرجل المتقنّع، بل مشى إليه حتى لحقه، وأخذ بيده، ووجه بوجهه إليه -صلى الله عليه وسلم-، وقال: هذا هو؟. 5 - (ومنها): أنه إذا وقعت الفتن يتعيّن على المسلم أن يلزم أهل الحقّ، ويقوم معهم، إن وجدهم، وإلا اعتزل أهل الفتن كلهم، وقد بيّن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ذلك في غير ما حديث، أخرج الشيخان في "صحيحهما" (¬1) من طريق أبي إدريس الخولاني، أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول: كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: "نعم"، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: "نعم، وفيه دَخَنٌ (¬2) "، قلت: وما دَخَنه؟ قال: "قوم يَهْدُون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر"، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم دُعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قَذَفُوه فيها"، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، فقال: "هم من جِلْدَتنا، ويتكلمون بألسنتنا"، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: "تَلْزَم جماعةَ المسلمين وإمامهم"، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تَعَضَّ بأصل شجرة، حتى يُدركك الموت، وأنت على ذلك". وأخرج أَبو داود، والترمذيّ، والمصنف بإسناد صحيح، عن أبي كبشة، قال: سمعت أبا موسى، يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن بين أيديكم فتنا كقطع الليل المظلم ¬

_ (¬1) سيأتي للمصنّف في "كتاب الفتن" برقم (3979) و (3981). (¬2) بفتحتين: أي شوائب.

يصبح الرجل فيها مؤمنا، ويمسي كافرًا، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي"، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "كونوا أَحْلاس بيوتكم". وهذا إسناد صحيح، رجاله رجال الصحيح، غير أبي كبشة، وهو مجهول العين لم يرو عنه غير عاصم الأحول، لكن لم ينفرد به، بل تابعه هُزيل بن شُرحبيل عند المصنف (3961)، وهو ثقة. اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن بفضلك وكرمك يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين آمين آمين آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 112 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْفَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيِّ، عَنِ النُّعمانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا عُثْمانُ إِنْ وَلَّاكَ الله هَذَا الْأَمْرَ يَوْمًا، فَأَرَادَكَ المنافِقُونَ أَنْ تَخْلَعَ قَمِيصَكَ الَّذِي قَمَّصَكَ الله، فَلَا تَخْلَعْهُ"، يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ النُّعْمَانُ: فَقُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا مَنَعَكِ أَنْ تُعْلِمِي النّاسَ بِهَذَا؟ قَالَتْ: أُنْسِيتُهُ). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطنافسيّ المذكور في السند الماضي. 2 - (أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة، من كبار [9] تقدّم في 1/ 3. 3 - (الْفَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ) بن النعمان بن نُعَيم التَّنُوخي القُضَاعيّ، أَبو فَضَالة الحمصيّ، ويقال: الدمشقيّ، ضعيفٌ [8]. روى عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وأبي سعد صاحب واثلة، وربيعة بن يزيد، وعبد الخبير بن قيس، وعبد الرحمن بن زياد بن أَنْعُم، ولقمان بن عامر، وغيرهم.

وروى عنه ابنه محمد، وشعبة، وهو أكبر منه، وأبو معاوية، ووكيع، ومعاذ بن معاذ، والنضر بن شُميل، وحجاج بن محمد، وغيرهم. قال أَبو داود عن أحمد: إذا حَدّث عن الشاميين فليس به بأس، ولكنه حدث عن يحيى بن سعيد مناكير. وقال أيضًا عنه: يُحَدّث عن ثقاتٍ أحاديث مناكير. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ضعيف الحديث. وقال ابن الجنيد: قال رجل لابن معين: أيما أعجب إليك إسماعيل بن عياش، أو فرج بن فضالة؟ قال: لا، بل إسماعيل، ثم قال: فرج ضعيف الحديث، وأَيْشٍ عند فرج؟. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ليس به بأس. وقال الفلاس عن ابن معين: صالح. وقال ابن أبي شيبة عن ابن المديني: هو وسط، وليس بالقوي. وقال عبد الله بن المديني عن أبيه: ضعيف، لا أحدث عنه. وقال البخاري ومسلم: منكر الحديث. وقال النسائي: ضعيف. وقال أَبو حاتم: صدوق يُكتب حديثه، ولا يحتج به، حديثه عن يحيى بن سعيد فيه نكارة، وهو في غيره أحسن حالًا، وروايته عن ثابت لا تصح. وقال الحاكم أَبو أحمد: حديثه ليس بالقائم. وقال ابن عديّ: وهذه الأحاديث التي أمليتها غير محفوظة، وحديث يحيى بن سعيد عن عمرة لا يرويها عن يحيى غير فرج، وله عن يحيى غيرها مناكير، وله غيرما أمليتُ أحاديث صالحة، وهو مع ضعفه يُكتب حديثه. وقال الدارقطني: ضعيف الحديث، يروي عن يحيى بن سعيد أحاديث لا يُتَابَع عليها. وقال الْبَرْقاني: قلت للدارقطني: حديثه عن يحيى بن سعيد، عن محمد ابن علي، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا عَمِلَت أمتي خمس عشرة خصلة ... " الحديث؟ فقال: هذا باطل، قلت: من جهة الفرج؟ قال: نعم، قلت: يُخَرَّج هذا الحديث؟ قال: لا، قلت: فحديثه عن لقمان بن عامر، عن أبي أمامة؟ قال: هذا كأنه قريب، يُخَرَّج. وقال عمرو بن علي: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: حَدّث فرج بن فضالة عن أهل الحجاز بأحاديث منكرة مقلوبة، قال: وكنا عند يحيى بن سعيد، فقال معاذ: حدثنا فرج ابن فضالة، فرأيت يحيى كَلَحَ وجهه. وقال الساجي: ضعيف الحديث، روى عن يحيى

ابن سعيد مناكير، كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عنه. وقال علي بن عبد العزيز البغوي، عن سليمان بن أحمد: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: ما رأيت شاميا أثبت منه، وما حدثت عنه، وأنا أستخير الله تعالى في التحديث عنه، فقلت: يا أبا سعيد حَدِّثْنِي، فقال: اكتب: حدثني فرج بن فضالة. قال الحافظ: لا يَغتَرّ أحد بهذه الحكاية المروية في توثيق فرج عن ابن مهدي؛ لأنها من رواية سليمان بن أحمد، وهو الواسطيّ، وهو كذّاب، وقد قال البخاري: تركه ابن مهدي. وقد ذكره يعقوب بن سفيان في "باب من يُرغَب عن الرواية عنهم"، والْبَرْقي في "باب من نُسب إلى الضعف لا يَكاد حديثه ممن احتُمِلَت روايته". وقال ابن حبان: يُقَلِّب الأسانيد، ويُلْزِق المتون الواهية بالأسانيد الصحيحة، لا يحل الاحتجاج به. وقال الخليلي في "الإرشاد": ضعفوه، ومنهم من يُقَوِّيه، وينفرد بأحاديث. وقال مسعود السِّجْزيّ، عن الحاكم: هو ممن لا يُحتَجّ به. قال الخطيب: ذَكَر رجل من ولده أن مولده في خلافة الوليد بن عبد الملك، وذلك سنة ثمان وثمانين. وقال ابن سعد: قدم بغداد وولي بيت المال في أول خلافة المهدي، ومات بها سنة سبع وسبعين ومائة. أخرج له أَبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم (112) و (1500). 4 - (رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ) هو: ربيعة بن يزيد الِإيَاديّ، أَبو شعيب القصير، ثقةٌ عابدٌ [4]. روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، والنعمان بن بشير، وواثلة بن الأسقع، وعبد الله بن حَوَالة ولم يدركه، وجبير بن نفير، وأبي كَبْشة السَّلُولي، وغيرهم. وروى عنه عبد الله بن يزيد الدمشقي، وحيوة بن شُريح، والأوزاعي، وسعيد ابن عبد العزيز، ومعاوية بن صالح، والفرج بن فضالة، وغيرهم. قال العجلي، وابن عمار، ويعقوب بن شيبة، ويعقوب بن سفيان، والنسائي: ثقة.

وقال أَبو مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز: لم يكن عندنا أحدٌ أحسنُ سمتًا في العبادة من مكحول، وربيعة بن يزيد. وقال ابن حبان في "الثقات": كان من خيار أهل الشام. وقال ابن سعد: كان ثقة. قال أَبو مسهر: مات بإفريقية في إمارة هشام بن إسماعيل، خرج غازيا فقتله الْبَرْبَر. وقال ابن يونس: قتلته البربر سنة (123). وأرّخه ابن أبي عاصم سنة (21). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط برقم (112) و (825) و (2867) و (3207) و (3377) و (4215). 5 - (النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ) بن سَعْد بن ثَعلبة بن جُلاس بن زيد بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج الأنصاري الخزرجيّ، أَبو عبد الله المدنيّ، له ولأبويه صحبة، وأمه عمرة بنت رَوَاحة. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن خاله عبد الله بن رواحة، وعمر، وعائشة -رضي الله عنهم-. وروى عنه ابنه محمد، ومولاه حبيب بن سالم، والشعبيّ، وعبيد الله بن عبد الله ابن عتبة، وعروة بن الزبير، وأبو قلابة الجرمي، وأبو سلام الأسود، وسالم بن أبي الجعد، وحميد بن عبد الرحمن بن عوف، وخيثمة بن عبد الرحمن، وسماك بن حرب، والْعَيْزار بن حُرَيث، والمفضل بن المهلب بن أبي صُفرة، وأزهر بن عبد الله الحرازيّ، وآخرون. قال الواقدي: وُلد على رأس أربعة عشر شهرًا من الهجرة، وهو أول مولود وُلد في الأنصار بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم، هذا قول الأكثر أنه وُلد هو وابنُ الزبير عام اثنتين من الهجرة، وقيل: غير ذلك. ورُوي نحوُه عن جابر أنه قال: أنا أسنّ منه بنحو من عشرين سنة، وما وُلد قبل بدر إلا بثلاثة أشهر أو أربعة. وقال يحيى بن معين: ليس يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا يقول فيه: "سمعت" إلا في حديث الشعبي: "الجسد مضغة ... "، والباقي من حديثه إنما هو عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه "سمعت". وقال أيضًا: أهل المدينة يقولون: لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل العراق يصححون سماعه منه. وقال أَبو نعيم:

كان أميرًا على الكوفة في عهد معاوية. وقال أَبو حاتم: كان أميرًا على الكوفة تسعة أشهر. وقال أَبو مسهر عن سعيد بن عبد العزيز: كان قاضي دمشق بعد فَضَالة بن عُبيد. وقال سماك بن حرب: استعمله معاوية على الكوفة، وكان من أخطب من سمعت. وقال الهيثم بن عديّ: عزله معاوية عن الكوفة، ثم ولاه حمص. وقال ابن سعد: أُخبرت عن أبي اليمان، عن إسماعيل بن عياش، عن يزيد بن سعيد، عن عبد الملك بن عمير قال: أتى بشير بن سعد بالنعمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ادع له، فقال:. "أما ترضى أن يبلغ ما بلغت، ثم يأتي الشام فيقتله منافق من أهل الشام". وقال أَبو مسهر: كان النعمان بن بشير عاملًا على حمص، فبايع لابن الزبير -يعني بعد موت يزيد بن معاوية- فلما تمرد أهل حمص خرج هاربًا، فاتبعه خالد بن خَلِيّ الكلاعي فقتله. وقال خليفة بن خياط: وفي أول سنة خمس وستين خرج النعمان من حمص، فاتبعه خالد بن خَلِيّ الكلاعي فقتله. وقال المفضل الغلابي وغيره: قُتل سنة ست وستين. أخرج له الجماعة، وروى (124) حديثًا، اتفق الشيخان على خمسة، وانفرد البخاريّ بحديث، ومسلم بأربعة أحاديث، وله في هذا الكتاب (15) حديثًا. 6 - (عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدمت في 2/ 14، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ عَائِشَةَ) -رضي الله عنها-، أنها (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَا عُثْمانُ) وفي رواية الإمام أحمد من طريق عبد الله بن أبي قيس، أن النعمان بن بشير حدثه قال: كتب معي معاوية إلى عائشة، قال: فقدمت على عائشة، فدفعت إليها كتاب معاوية، فقالت يا بُنَيّ ألا أحدثك بشيء سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قلت: بلى، قالت: فإني كنت أنا وحفصة يومًا من ذاك عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: لو كان عندنا رجل يُحدّثنا، فقلت: يا رسول الله ألا أبعث لك إلى أبي بكر، فسَكَتَ، ثم قال: لو كان عندنا رجل يحدثنا، فقالت حفصة: ألا أُرسل لك إلى عمر، فسكت، ثم قال: لا، ثم دعا

رجلَّا، فسارّه بشيء، فما كان إلا أن أقبل عثمان، فأقبل عليه بوجهه وحديثه، فسمعته يقول له: يا عثمان إن الله عز وجل لعله أن يقمصك قميصًا، فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه"، ثلاث مرار، قال: فقلت: يا أم المؤمنين، فأين كنتِ عن هذا الحديث؟ فقالت: يا بُنَيّ والله لقد أُنسيته حتى ما ظننت أني سمعته. (إِنْ) بكسر الهمزة شرطيّة (وَلَّاكَ الله هَذَا الْأَمْرَ يَوْمًا) هو فعل ماض، من التولية: أي جعلك واليًا لهذا الأمر، والمراد أمر الخلافة (فَأَرَادَكَ المنافِقُونَ) فيه دلالة واضحة على أن قتلة عثمان -رضي الله عنه- منافقون، وليسوا بالمؤمنين (أَنْ) بفتح الهمزة مصدريّة، ولذا نُصب بها قوله: (تَخْلَعَ) بفتح أوله، وثالثه، من باب قطع: أي تَنزع. قال السنديّ: قوله: "فأرادك إلخ" أي أرادوا منك الخلع، فهو على نزع الخافض، أو قهروك على الخلع، ويؤيّده ما في بعض النسح: "على أن تخلع"، فتعدية الإرادة إلى المخاطب، وبـ "على" لتضمينها معنى القهر، أو المراد قصدوك لخلعه. انتهى (¬1). (قَمِيصَكَ) قال الطيبيّ: استعار القميص للخلافة، ورشّحها بذكر الخلع، قال في "أسرار البلاغة" ومن المجاز قمّصه الله وَشْيَ الخلافة، وتقمّص لباس العزّ، ومن هذا الباب قوله: "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري" (¬2)، وقولهم: "المجدُ بين ثوبيه، والكَرَم بين بُرْديه". انتهى (¬3). (الَّذِي قَمَّصَكَ الله) بتشديد الميم؛ أي ألبسك الله إياه (فَلَا تَخْلَعْهُ) أي لا تطاوعهم على ذلك، والمعنى أنهم إن قصدوا عزلك، فلا تَعْزِل نفسك عن الخلافة؛ لأجلهم؛ لكونك على الحقّ، وهم على الباطل (يَقُولُ) -صلى الله عليه وسلم- (ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) إنما كرّره تأكيدًا للأمر. ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 80. (¬2) قوله: "الكبرياء ردائي إلخ" حديث أخرجه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والمصنف، ودعوى المجاز فيه محلّ نظر، فيتأمل. (¬3) "الكاشف عن حقائق السنن" 12/ 3877.

(قَالَ النُّعْمَانُ) بن بشير رضي الله عنهما (فَقُلْتُ لِعَائِشَةَ) رضي الله عنهما (مَا مَنَعَكِ أَنْ تُعْلِمِي) بضم أوله، وسكون ثانيه، من الإعلام، أو بضم أوله، وفتح ثانيه، وتشديد ثالثه، من التعليم (النَّاسَ بِهَذَا) الحديث حتى يكونوا على بصيرة من أن الذين قاموا على عثمان -رضي الله عنه- منافقون مبطلون، لا يريدون الحقّ (قَالَتْ: أُنْسِيتُهُ) بضم الهمزة، من الإنساء: أي أنسانيه الشيطان. وأخرج الإمام من طريق عبد الله بن عامر، عن النعمان بن بشير، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عثمان بن عفان، فأقبل عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبلت إحدانا على الأخرى، فكان من آخر كلام كلمه أن ضرب منكبه، وقال: "يا عثمان إن الله عز وجل عسى أن يُلبسك قميصًا، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه، حتى تلقاني، يا عثمان إن الله عسى أن يلبسك قميصًا، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني"، ثلاثًا، فقلت لها: يا أم المؤمنين، فأين كان هذا عنكِ؟ قالت: نسيته، والله فما ذكرته، قال: فأخبرته معاوية بن أبي سفيان، فلم يرض بالذي أخبرته، حتى كتب إلى أم المؤمنين أن اكتبي إلي به، فكتبت إليه به كتابًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عائشة هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي سنده الفرج بن فَضَالة، والأكثرون على تضعيفه؟. [قلت]: الحديث له أسانيد صحاح، فقد أخرجه المصنّف بالسند التالي، وهو إسناد رجاله رجال الصحيح، وأخرجه الإمام أحمد 6/ 149 عن عبد الرحمن بن مهديّ، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد الدمشقيّ، عن عبد الله بن أبي قيس، عن النعمان -رضي الله عنه-. وهذا الإسناد رجاله ثقات. وأخرجه أحمد أيضًا من طريق الوليد بن سليمان، والترمذيّ من طريق معاوية بن

صالح، كلاهما عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الله عامر، عن النعمان بن بشير، عن عائشة" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا عثمان إنه لعل الله يُقَمِّصك قميصًا، فإن أرادوك على خَلْعه فلا تخلعه لهم"، واللفظ للترمذيّ (¬1)، قال: وفي الحديث قصة طويلة (¬2)، ثم قال: هذا حديث حسن غريب. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال إسناد الترمذيّ كلهم ثقات، من رجال الصحيح، وعبد الله بن عامر هو الدمشقيّ المقرىء، أحد البدور السبعة المشهورين، ثقة أخرج له مسلم. والحاصل أن الحديث صحيح، فتبصّر. والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (13/ 112) بهذا السند، وأخرجه أيضًا من طريق قيس بن أبي حازم، عن عائشة رضي الله عنها في السند التالي. وأخرجه (الترمذيّ) في "المناقب" (3705)، و (أحمد) في "مسنده" (6/ 86) و (6/ 149) و (الحاكم) في "المستدرك" (3/ 99 - 100) و (ابن حبّان في "صحيحه" (6915)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل عثمان -رضي الله عنه-، وهو واضح. 2 - (ومنها): أن فيه علمًا من أعلام النبوّة، حيث أخبر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بما يحدُث لعثمان -رضي الله عنه- من اختلاف الناس فيه، وخروجهم عليه، فوقع كما أخبر به. 3 - (ومنها): أن فيه إشارةً إلى أن عثمان -رضي الله عنه- سيلي الخلافة. 4 - (ومنها): بيان أن الذين خرجوا على عثمان -رضي الله عنه- هم منافقون، وليسوا من ¬

_ (¬1) وأما لفظ أحمد فقد تقدّم قريبًا مطوّلًا. (¬2) لعله أراد القصّة التي تقدّمت في رواية أحمد قريبًا.

المؤمنين المخلصين. 5 - (ومنها): أن المحدّث إذا نسي حديثه ثم تذكّره بعدُ، قبل عنه، فقد قبل الصحابة -رضي الله عنهم- حديث عائشة رضي الله عنها، مع أنها حدّثت به بعد النسيان، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 113 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَعِليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بنِ أَبِي حَازِم، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في مَرَضِهِ:" وَدِدْتُ أَنَّ عِنْدِي بَعْضَ أَصْحَابِي"، قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله أَلا نَدْعُو لَكَ أَبَا بَكْرٍ؟، فَسَكَتَ، قُلْنَا: أَلا نَدْعُو لَكَ عُمَرَ؟، فَسَكَتَ، قُلْنَا: أَلا نَدْعُو لَكَ عُثْمَانَ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، فَجَاءَ، فَخَلَا بِهِ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُكَلِّمُهُ، وَوَجْهُ عُثْمَانَ يَتَغَيَّرُ، قَالَ قَيْسٌ: فَحَدَّثَنِى أَبُو سَهْلَةَ، مَوْلَى عُثْمَانَ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قَالَ يَوْمَ الدَّار: إِنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عَهدَ إِلَيَّ عَهْدًا، فَأَنَا صَائِرٌ إِلَيْهِ، وَقَالَ عَلِيٌّ في حَدِيثِهِ: وَأَنَا صَابِرٌ عَلَيْهِ، قَالَ قَيْسٌ: فَكَانُوا يُرَوْنَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ، أَبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقة حافظ فاضل [10] تقدّم في 1/ 4. 2 - (وَعِليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطنافسيّ المذكور قريبًا. 3 - (وَكيعٌ) بن الجرّاح الكوفيّ الحافظ الثقة الثبت، من كبار [9] تقدّم في 1/ 3. 4 - (إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ) الأحمسيّ مولاهم البجليّ الكوفيّ، ثقة ثبت [4]. روى عن أبيه، وأبي جُحَيفة، وعبد الله بن أبي أوفى، وعمرو بن حُريث، وأبي كاهل، وزيد بن وهب، ومحمد بن سَعْد، وقيس بن أبي حازم، وغيرهم. قال ابن المبارك عن الثوري: حفاظ الناس ثلاثة: إسماعيل، وعبد الملك بن أبي سليمان، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهو -يعني إسماعيل- أعلم الناس بالشعبي،

وأثبتهم فيه. وقال مروان بن معاوية: كان إسماعيل يُسَمَّى الميزان. وقال عليّ: قلت ليحيى بن سعيد: ما حملتَ عن إسماعيل عن الشعبي صحاح؟ قال: نعم. وقال البخاري عن علي: له نحو ثلاثمائة حديث. وقال أحمد: أصح الناس حديثًا عن الشعبي ابن أبي خالد. وقال ابن مهدي، وابن معين، والنسائي: ثقة. وقال ابن عمار الموصلي: حجة. وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة، وكان طحّانًا. وقال يعقوب بن شيبة: كان ثقة ثبتًا. وقال أَبو حاتم: لا أُقَدِّم عليه أحدًا من أصحاب الشعبي، وهو ثقة. وقال علي بن المديني: رأى أنسًا رؤية، ولم يسمع منه، ولم يسمع من إبراهيم التيمي، ولم يرو عن أبي وائل شيئًا. وقال يعقوب بن سفيان: كان أُميا حافظًا ثقة. وقال هُشيم: كان إسماعيل فَحِشَ اللحنِ، كان يقول: حدثني فلان عن أبوه. وقال ابن عيينة: كان أقدم طلبًا وأحفط للحديث من الأعمش. وقال العجلي: كان ثبتًا في الحديث، وربما أرسل الشيء عن الشعبي، وإذا وُقِّف أخبر، وكان صاحب سنة، وكان حديثه نحو خمسمائة حديث، وكان لا يروي إلا عن ثقة. وحكى ابن أبي خيثمة في "تاريخه" عن يحيى بن سعيد قال: مرسلات ابن أبي خالد ليست بشيء. وقال أَبو نعيم في ترجمة داود الطائي في "الحلية": أدرك إسماعيل اثني عشر نفسًا من الصحابة، منهم من سمع منه، ومنهم من رآه رؤية. قال البخاري عن أبي نعيم: مات سنة (146). وقال الخطيب: حدّث عنه الحكم ابن عتيبة، ويحيى بن هاشم، وبين وفاتيهما نحو من مائة وعشر سنين. وقال ابن حبان في "الثقات": كان شيخًا صالحًا، مات سنة خمس أو ست وأربعين. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (33) حديثًا. 5 - (قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) واسم أبيه حُصين بن عوف، ويقال: عوف بن عبد الحارث، ويقال: عبد عوف بن الحارث بن عوف البجلي الأحمسي، أَبو عبد الله الكوفيّ، أدرك الجاهلية، ورحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه، فقبض وهو في الطريق، وأبوه له صحبة، ويقال: إن لقيس رؤيةً ولم يثبت، ثقة مخضرم [2].

روى عن أبيه، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسعد، وسعيد، والزبير، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف، وقيل: لم يسمع منه، وأبي عبيدة، وبلال مولى أبي بكر، ومعاذ، وغيرهم. قال علي بن المديني: روى عن بلال ولم يلقه، وعن عقبة بن عامر، ولا أدري سمع منه أم لا، ولم يسمع من أبي الدرداء، ولا من سلمان. وقال إسحاق بن إسماعيل عن ابن عيينة: ما كان بالكوفة أحدٌ أروى عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قيس. وقال الآجري عن أبي داود: أجود التابعين إسنادا قيس بن أبي حازم، رَوَى عن تسعة من العشرة، ولم يرو عن عبد الرحمن بن عوف. وقال يعقوب بن شيبة: وقيس من قدماء التابعين، وقد روى عن أبي بكر فمن دونه، وأدركه وهو رجل كامل، ويقال: إنه ليس أحد من التابعين جمع أَنْ رَوَى عن العشرة مثله، إلا عبد الرحمن بن عوف، فإنا لا نعلمه روى عنه شيئا، ثم قد روى بعد العشرة عن جماعة من الصحابة، وكبرائهم، وهو متقن الرواية، وقد تكلم أصحابنا فيه، فمنهم من رفع قدره وعظمه، وجعل الحديث عنه من أصح الإسناد، ومنهم من حمل عليه، وقال: له أحاديث مناكير، والذين أطروه حملوا هذه الأحاديث على أنها عندهم غير مناكير، وقالوا: هي غرائب، ومنهم من حمل عليه في مذهبه، وقالوا: كان يحمل على علي، والمشهور عنه أنه كان يقدم عثمان، ولذلك تجنب كثير من قدماء الكوفيين الرواية عنه. وقال ابن خِرَاش: كوفي جليل، وليس في التابعين أحد، روى عن العشرة إلا قيس بن أبي حازم. وقال ابن معين: هو أوثق من الزهري، وقال مرة: ثقة. وقال أَبو سعيد الأشج: سمعت أبا خالد الأحمر يقول لعبد الله بن نمير: يا أبا هشام أما تذكر إسماعيل بن أبي خالد، وهو يقول: حدثنا قيس هذه الأُسطوانة -يعني في الثقة؟ -. وقال يحيى بن أبي غنية: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، قال: كبر قيس حتى جاز المائة بسنين كثيرة، حتى خَرِف، وذهب عقله. وقال ابن المديني: قال لي يحيى بن سعيد: قيس بن أبي حازم منكر الحديث، ثم ذكر له يحيى أحاديث مناكير، منها حديث الحوأب.

وقال الذهبي: أجمعوا على الاحتجاج به، ومن تكلم فيه فقد آذى نفسه. كذا قال. قال عمرو بن علي: مات سنة أربع وثمانين. وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: مات سنة سبع، أو ثمان وتسعين. وقال خليفة، وأبو عبيد: سنة ثمان. وقال الهيثم بن عدي: مات في آخر خلافة سليمان. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (18) حديثًا. 6 - (عَائِشَةُ) رضي الله عنها المذكورة في السند الماضي، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه الثاني، فمن أفراده. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين، غير عائشة رضي الله عنها رضي الله عنها فمدنيّة. 4 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: إسماعيل عن قيس. 5 - (ومنها): أن قيسًا هو التابعي المنفرد بالرواية عن العشرة المبشّرين بالجنة -رضي الله عنهم-، ولا يوجد ذلك لغيره من التابعين، وإن ذكر الحاكم ذلك لسعيد بن المسيّب وغيره، لكن خطّأه العلماء في ذلك، وإليه أشار السيوطيّ في "ألفية الحديث" بقوله: وَالتَّابِعُونَ طَبَقَاتٌ عَشَرَهْ ... مَعْ خَمْسَةٍ أَوَّلهُمْ ذُو الْعَشَرَهْ وَذَاكَ قَيْسٌ مَا لَهُ نَظِيرُ ... وَعُدَّ عِنْدَ حَاكِمِ كَثِيرُ 6 - (ومنها): أن عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، وممن اشتهر بالفتوى، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها، أنها (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في مَرَضِهِ) وفي رواية أحمد: "في مرضه الذي مات فيه" (وَدِدْتُ) بكسر الدال الأولى، من باب تَعِب، قال الفيّوميّ: ودِدتُ لو كان كذا وُدّا -بالضمّ- ووَدَادة -بالفتح-: تمنّيته، وفي لغة: وَدَدتُ أَوَدّ بفتحتين، حكاها الكسائيّ، وهو غَلَطٌ عند البصريين، وقال الزجّاج: لم يقل

الكسائيّ إلا ما سمع، ولكنه سمعه ممن لا يوثق بفصاحته. انتهى (¬1) (أَنَّ) بفتح الهمزة، لوقوعها موضع المفرد، حيث إن المصدر المؤوّل مفعول "ودّ" (عِنْدِي بَعْضَ أَصْحَابِي) بنصب "بعض" لأنه اسم "أنّ" مؤخّرًا عن خبرها، وهو الظرف (قُلْنَا) القائلة هي عائشة رضي الله عنها كما تقدّم في رواية أحمد (يَا رَسُولَ الله أَلا نَدْعُو لَكَ أَبَا بَكْرٍ؟) الصدّيق -رضي الله عنه- (فَسَكَتَ) وفي رواية لأحمد: فقال: "لا"، ويُجمع بأنه سكت أوّلًا، ثم قال: لا، ويوضّح ذلك ما في بعض روايات أحمد: "فقالت حفصة: ألا أرسل لك إلى عمر، فسكت، ثم قال: "لا". (قُلْنَا) القائلة هنا هي حفصة رضي الله عنها، كما سبق في رواية أحمد أيضًا (أَلا نَدْعُو لَكَ عُمَرَ؟) بن الخطاب -رضي الله عنه- (فَسَكَتَ، قُلْنَا: أَلا نَدْعُو لَكَ عُثْمَانَ؟ قَالَ: "نَعَمْ") هذا فيه أنهم طلبوا منه أن يدعوا له عثمان، ولكن في رواية أحمد: "ثم دعا رجلًا، فسارّه بشيء، فما كان إلا أن أقبل عثمان .. "، وفي رواية: "ثم دعا وَصِيفًا بين يديه، فسارّه فذهب ... ". ويمكن الجمع بأنهم طلبوا أن يدعوا له، لكنه لمّا رأى الوصيف أمامه بادر بإرساله إليه. والله تعالى أعلم. (فَجَاءَ) أي عثمان -رضي الله عنه- (فَخَلَا بِهِ) أي انفرد النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بعثمان -رضي الله عنه-، لكون الكلام الذي أراد أن يكلّمه به سرّا لا ينبغي إفشاؤه (فَجَعَلَ) أي شرع، وبدأ (النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُكَلِّمُهُ) أي عثمان -رضي الله عنه- (وَوَجْهُ عُثْمَانَ يَتَغَيَّرُ) جملة في محلّ نصب على الحال: أي والحال أن وجه عثمان -رضي الله عنه- يتغيّر؛ لسوء ما سمعه من النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مما سيناله من عداوة المنافقين له، ومحاولتهم خلع خِلْعَة (¬2) الخلافة النبويّة (قَالَ قَيْسٌ) أي ابن أبي حازم الراوي عن عائشة رضي الله عنها، وهو موصول بالسند السابق، وليس معلّقًا. ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" 2/ 653. (¬2) "الْخِلْعة" بكسر، فسكون: ما يُعطيه الإنسان غيره من الثياب منحةً، وجمعها خِلَع. أفاده في "المصباح".

وقد أخرجه أحمد في "مسنده"، فقال: حدثنا يحيى (¬1) عن إسماعيل (¬2) قال: حدثنا قيس (¬3)، عن أبي سَهْلة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ادعوا لي بعض أصحابي"، قلت: أَبو بكر؟ قال: "لا"، قلت: عمر؟ قال: "لا"، قلت: ابنُ عمك عليّ؟، قال: "لا"، قالت: قلت: عثمان؟ قال: "نعم"، فلما جاء، قال: "تَنَحَّيْ"، وجَعَلَ يُسَارُّه، ولون عثمان يتغير، فلما كان يومُ الدار، وحُصِر فيها، قلنا: يا أمير المؤمنين ألا تقاتل؟ قال: لا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَهِدَ إليّ عَهدًا، وإني صابر نفسي عليه. (فَحَدَّثَني أَبُو سَهْلَةَ) بفتح السين المهملة، وسكون الهاء (مَوْلَى عُثْمَانَ) رَوَى عن مولاه، وعائشة، وروى عنه قيس بن أبي حازم، قال أَبو زرعة: لا أعرف اسمه. وقال العجلي: تابعي ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الدارقطني: صَحَّفَ فيه محمد ابن بِشْر، فقال: عن إسماعيل، عن قيس، عن أبي شَهْلَة -بالمعجمة- والصواب بالمهملة. قاله يحيى القطان، وجماعة، عن إسماعيل. تفرّد به الترمذي، والمصنّف، وليس له عندهما غير هذا الحديث. وقال في "التقريب": أَبو سهلة مولى عثمان بن عفّان، ويقال: بالمعجمة، ثقة، من الثالثة. انتهى. (أَنَّ عُثْمانَ بْنَ عَفَّانَ قَالَ يَوْمَ الدَّارِ) أي يوم حُوصر عثمان -رضي الله عنه- في داره بالمدينة، وقد تقدّم ذكر سبب قتله -رضي الله عنه-، في أول الباب، فراجعه تستفد. (إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَهِدَ إِلَيَّ عَهْدًا) أي أوصاني وصيّةً، يقال: عَهِدَ إليه يَعْهَدُ، من باب تَعِبَ: إذا أوصاه. والعهد الوصيّة (¬4). والأولى أن يقال: إنه أراد بالعهد إليه أمره -رضي الله عنه- بعدم خلع قميصه المكنيّ به خِلْعة الخلافة، بقوله: "فإن أرادوك على خلعه، فلا تخلعه لهم"، وكذلك أمره -صلى الله عليه وسلم- له بالصبر، ¬

_ (¬1) هو ابن سعيد القطّان. (¬2) هو ابن أبي خالد. (¬3) هو ابن أبي حازم. (¬4) قاله في "المصباح" 2/ 435.

وعدم المقاتلة، كما بينته رواية أحمد من طريق أبي سهلة، عن عائشة رضي الله عنها، وفيه: "فلما كان يومُ الدار، وحُصِر فيها، قلنا: يا أمير المؤمنين، ألا تُقاتل؟ قال: لا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَهِد إليّ عهدًا، وإني صابر نفسي عليه". (فَأَنَا صَائِرٌ إِلَيْهِ) أي راجع إليه، يقال: صار الأمر إلى كذا: رجع إليه، وإليه مَصِيره: أي مرجعه ومآله. والمعنى: أنه راجع إلى ذلك العهد، ومتمسّك به. (وَقَالَ عَلِيٌّ) يعني شيخه الثاني (في حَدِيثِهِ: وَأَنَا صَابِرٌ عَلَيْهِ) يعني أن شيخه محمد ابن عبد الله بن نمير رواه بلفظ: "فأنا صائر إليه" بالهمزة، وأما شيخه عليّ بن محمد الطنافسيّ، فرواه بلفظ: "فأنا صابر عليه" بالباء الموحّدة بدل الهمزة. والمعنى: أنه حابسٌ نفسه على ذلك العهد، ومتمسّك به. (قَالَ قَيْسٌ) أي ابن أبي حازم (فَكَانُوا) أي الصحابة الموجودون، ومن معهم من التابعين في ذلك الوقت (يُرَوْنَهُ) بضمّ أوله، وفتح ثالثه: أي يظنون ذلك العهد، أو بفتح أوله وثالثه، وهو بمعناه؛ لأن رأى تُستعمل بمعنى اليقين والظن، وقد اجتمعا في قوله عز وجل: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج:6 - 7]، فالأول بمعنى الظنّ، والثاني بمعنى اليقين (ذَلِكَ الْيَوْمَ) بالنصب مفعولا ثانيًا لـ"يرونه". والمعنى أن الناس لمّا رأوا صبر عثمان -رضي الله عنه- على اعتداء الخارجين عليه، وثباته وعدم التعرّض لهم بالمقاتلة والدفاع حينما طُلِب منه ذلك عَرَفوا أن ذلك اليوم هو يوم العهد الذي عهد إليه النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ولقد أصابوا في هذا الظنّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عائشة وعثمان رضي الله عنهما هذان صحيحان. (المسألة الثانية): في تخريجهما: أخرجهما (المصنّف) هنا (13/ 113) بهذا السند فقط، وأخرجهما (الحميديّ) في

"مسنده" (268) و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" (12/ 44 - 45) و (ابن سعد) في "الطبقات" (3/ 66 - 67) و (أحمد) في "مسنده" (6/ 214) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (6918) و (الحاكم) في "المستدرك" (3/ 99) وصححه، ووافقه الذهبيّ. وأخرج القسم الأخير منه (أحمد) (1/ 58 و 69) و (الترمذيّ) (3711) عن وكيع به، وقرن الترمذيّ في روايته يحيى بن سعيد القطّان بوكيع، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن أبي خالد. انتهى. والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل عثمان -رضي الله عنه-، وهو واضح. 2 - (ومنها): شدّة اهتمام النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بأمته عامّة، وبأصحابه خاصّة. 3 - (ومنها): أن فيه علمًا من أعلام النبوّة، حيث أخبر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بما سيقع لعثمان -رضي الله عنه-، فوقع كما أخبر. 4 - (ومنها): قوة إيمان عثمان -رضي الله عنه-، حيث ثبت على ما عهِد إليه النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

14 - فضل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -

14 - (فَضْلُ عَلِيِّ بن أبي طَالِبٍ -رضي الله عنه-) هو: علي بن أبي طالب بن عبد المطلب القرشي الهاشميّ أَبو الحسن، وهو ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، شقيق أبيه، واسمه عبدُ مناف على الصحيح، وُلِد قبل البعثة بعشر سنين على الراجح، وكان قد ربّاه النبي صلى الله عليه وسلم من صغره؛ لقصة مذكورة في السيرة النبوية، فلازمه من صِغَره، فلم يفارقه إلى أن مات. وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وكانت ابن: عمة أبيه، وهي أول هاشمية ولدت لهاشميّ، وقد أسلمت، وصَحِبَت وماتت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. قال أحمد، وإسماعيل القاضي، والنسائي، وأبو علي النيسابوريّ: لم يَرِد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الجياد أكثر مما جاء في علي -رضي الله عنه-، وكأنّ السبب في ذلك أنه تأخر، ووقع الاختلاف في زمانه، وخروج مَنْ خرج عليه، فكان ذلك سببًا لانتشار مناقبه من كثرة من كان بَيَّنَهَا من الصحابة ردّا على من خالفه، فكان الناس طائفتين، لكن المبتدعة قليلة جدّا، ثم كان من أمر عليّ ما كان، فنجمت طائفة أخرى حاربوه، ثم اشتد الْخَطْب، فتنقصوه، واتخذوا لعنه على المنابر سنةً، ووافقهم الخوارج على بغضه، وزادوا حتى كفروه مضمومًا ذلك منهم إلى عثمان، فصار الناس في حق عليّ ثلاثة: أهلَ السنة، والمبتدعةَ من الخوارج والمحاربين له من بني أُمية وأتباعهم، فاحتاج أهل السنة إلى بَثّ فضائله، فكثر الناقل لذلك؛ لكثرة من يخالف ذلك، وإلا فالذي في نفس الأمر أن لكل من الأربعة سنة من الفضائل إذا حُرّر بميزان العدل، لا يخرج عن قول أهل السنة والجماعة أصلًا. وروى يعقوب بن سفيان بإسناد صحيح، عن عروة، قال: أسلم عليّ، وهو ابن ثمان سنين، وقال ابن إسحاق عشر سنين، وهذا أرجحها، وقيل: غير ذلك. ذكره في "الفتح" (¬1). ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 7/ 91 - 92.

[تنبيه]: كانت مبايعة عليّ -رضي الله عنه- بالخلافة سنة خمس وثلاثين من الهجرة، فبايعه المهاجرون والأنصار، وكلُّ من حضر، وكُتب ببيعته إلى الآفاق، فأذعنوا كلهم إلا معاوية في أهل الشام، فكان بينهم بعدُ ما كان (¬1). وقد تقدّمت ترجمته في 2/ 20، فراجعها تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 114 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَكيعٌ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، وعَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْر، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ عِليٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: "عَهِدَ إِليَّ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ لَا يُحِبُّني إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضُنِي إِلَّا مُنَافِقٌ"). رجال هذا الإسناد: ثمانية: 1 - (عَبْدُ اللهَ بْنُ نُمَيْر) -بنون، مصغّرًا- الْهَمْدانيّ، أَبو هشام الكوفيّ، ثقة، صاحب حديث، من أهل السنّة، من كبار [9] تقدّم في 8/ 52. 2 - (الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْرَان الكوفيّ الحافظ الحجة القارىء [5] تقدّم في 1/ 1. 3 - (عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ) الأنصاريّ الكوفيّ، ثقة رُمي بالتشيّع [4]. رَوَى عن أبيه، وجده لأمه عبد الله بن يزيد الخطميّ، والبراء بن عازب، وسليمان ابن صُرَد، وعبد الله بن أبي أوفى، وزيد بن وهب، وزيد بن حبيش، وغيرهم. وروى عنه أَبو إسحاق السبيعي، وأبو إسحاق الشيباني، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والأعمش، وزيد بن أبي أُنيسة، وحجاج بن أَرْطاة، وغيرهم. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة. وقال أَبو حاتم: صدوق، وكان إمام مسجد الشيعة وقاصَّهُم. وقال العجليّ، والنسائيّ: ثقة. قال ابن عبد البر: عُبيد بن عازب هو جد عديّ بن ثابت، وقال غيره: هو عدي بن أبان بن ثابت بن قيس بن الْخَطِيم ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 7/ 92.

الأنصاري الظَّفَريّ، وثابت صحابيّ معروف. قال الْبَرْقانيّ: قلت للدارقطنيّ: فعديّ بن ثابت عن أبيه، عن جده؟ قال: لا يثبت، ولا يعرف أبوه ولا جده، وعدي ثقة. وقال الطبريّ: عدي بن ثابت ممن يجب التثبت في نقله. وقال ابن معين: شيعيٌّ مُفْرِط. وقال الجُوزجاني: مائل عن القصد. وقال عفان: قال شعبة: كان من الرَّفَّاعين. وقال ابن أبي داود: حديث عدي بن ثابت عن أبيه، عن جده معلول. وقال السلمي: قلت للدارقطني: فعدي بن ثابت؟ قال: ثقة، إلا أنه كان غاليًا -يعني في التشيع-. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد: ثقة، إلا أنه كان يتشيع. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في ولاية خالد على العراق. وقال ابن قانع: مات سنة ست عشرة ومائة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا. 4 - (زِرِّ -بكسر الزاي، وتشديد الراء- ابْنِ حُبَيْشٍ) بمهملة، فموحّدة، فمعجمة، مصغّرًا- ابن حُباشة -بضم المهملة، بعدها موحّدة، ثم معجمة- ابن أَوْس ابن بلال، وقيل: هلال الأسديّ، أَبو مريم، ويقال: أَبو مُطَرِّف الكوفيّ، ثقة جليلٌ مخضرمٌ، أدرك الجاهلية [2]. روى عن عمر، وعثمان، وعلي، وأبي ذر، وابن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، والعباس، وسعيد بن زيد، وحذيفة، وأبي بن كعب، وصفوان بن عَسّال، وعائشة -رضي الله عنهم-، وغيرهم. وروى عنه إبراهيم النخعي، وعاصم بن بَهْدَلة، والنهال بن عمرو، وعدي بن ثابت، والشعبي، وزبيد اليامي، وغيرهم. قال ابن معين: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث. وقال عاصم، عن زِرّ: خرجت في وفد من أهل الكوفة، وايم الله إِنْ حَرَّضَني على الوفادة إلا لقاء أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، فلقيت عبدَ الرحمن بن عوف، وأُبَيّ بن كعب، فكانا جَلِيسيَّ. قال

عاصم: وكان زر من أعرب الناس، وكان عبد الله يسأله عن العربية. وقال العجليّ: كان من أصحاب عليّ، وعبد الله، ثقة. وقال أَبو جعفر البغداديّ: قلت لأحمد: فزِرٌّ، وعلقمة، والأسود؟ قال: هؤلاء أصحاب ابن مسعود، وهم الثبت فيه. وقال عاصم: كان أَبو وائل عثمانيا، وكان زِرّ عَلَوِيّا، وكان مصلاهما في مسجد واحد، وكان أَبو وائل معظمًا لزِرّ. وقال ابن عيينة عن إسماعيل: قلت لزر: كم أتى عليك؟ قال: أنا ابن عشرين ومائة. قال أَبو عمر الضرير: مات قبل الجماجم. وقال أَبو عبيد القاسم بن سلام: مات سنة (81). وقال عمرو بن علي: سنة (82). وقال ابن زَبْر: سنة (83). وقال أَبو نعيم: مات وهو ابن (127) سنةً. وصحح ابن عبد البر في "الاستيعاب" سنة (3)، وقال: كان عالمًا بالقرآن، قارئًا فاضلًا. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا. 5 - (عَلِيّ) بن أبي طالب -رضي الله عنه-، تقدّم في 2/ 20 والباقون تقدّموا قبل حديث، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، فتفرّد هو به. 3 - (ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات الكوفيين. 4 - (ومنها): أنه فيه ثلاثة من ثقات التابعين، يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن عديّ، عن زِرّ. 5 - (ومنها): أن عديّا وزِرّا هذا أول محل ذكرهما في الكتاب، وجملة ما رواه المصنّف فيه لعديّ (14) حديثًا، ولزِرّ (16) حديثًا. 6 - (ومنها): أن زِرّا من المعمّرين أدرك الجاهليّة، ومات سنة (82) وهو ابن (120) سنة، وقيل: (122)، وقيل: (127). 7 - (ومنها): أن صحابيّه أحد الخلفاء الراشدين الأربعة، وأحد العشرة المبشّرين

بالجنة، وابن عم المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وزوج ابنته فاطمة، وأبو الحسنين، جم الناقب -رضي الله عنهم- أجمعين، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَليٍّ -رضي الله عنه-) أنه (قَالَ: "عَهِدَ إِلَيَّ) أي أوصاني بذلك، وأخبرني به، والعهد: الوصيّة، والميثاق (النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ -صلى الله عليه وسلم-) قال أَبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: "الأميّ": هو الذي لا يَكتُبُ، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنا أُمة أُميّة لا نكتب ولا نحسُبُ"، متّفق عليه (¬1). وهو منسوب إلى الأمّ؛ لأنه باق على أصل ولادتها؛ إذ لم يتعلّم كتابةً ولا حسابًا. وقيل: يُنسب إلى معظم أمّة العرب؛ إذ الكتابة كانت فيهم نادرةً، وهذا الوصف من الأوصاف التي جعلها الله تعالى من أوصاف كمال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ومدحه بها، وإنما كانت صفة نقص في غيره؛ لأن الكتابة والدراسة والدُّرْبَة (¬2) على ذلك هي الطرق الموصلة إلى العلوم التي بها تشرف نفس الإنسان، ويعظُم قدرها عادةً، فلمّا خصّ الله تعالى نبيّنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بعلوم الأولين والآخرين من غير كتابة ولا مُدارسة، كان ذلك خارقًا للعادة في حقّه، ومن أوصافه الخاصّة به الدالّة على صدقه التي نُعِت بها في الكتب القديمة، وعُرف بها في الأمم السابقة، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ} الآية [الأعراف:157]، فقد صارت الأمّيّة في حقّه من أعظم معجزاته، وأجلّ كراماته، وهي في حقّ غيره نقصٌ ظاهرٌ، وعجزٌ حاضرٌ، فسبحان الذي صيّر نقصنا في حقّه كمالًا، وزاده تشريفًا وجلالًا -صلى الله عليه وسلم-. انتهى (¬3). (أَنَّهُ) الضمير للشأن تُفسّره الجملة بعده (لَا) نافية، ولذا رفع الفعل بعده (يُحِبُّنِي) بضم أوله، من أحبّه رباعيّا، ويجوز فتح أوله، وكسر ثالثه، من حبّه ثلاثيّا، قال ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" 2/ 43 و 52 و 129 والبخاريّ (1913) ومسلم 1080 وأبو داود 2319 و 2320 و 2321 والنسائيّ 4/ 139 و 140 من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬2) الدُّرْبة بالضم: العادة والجرأة على الأمر والحرب اهـ "ق" جـ 1 / ص 66. (¬3) "المفهم" 1/ 267 "كتاب الإيمان".

الفيّومي: أحببت الشيءَ بالألف، فهو مُحَبّ، وحَبَبتُه أَحِبّه، من باب ضرب، والقياس أَحُبُّه بالضمّ، لكنه غير مستعمل (¬1)، وحَبِبْتُهُ أَحَبُّهُ، من باب تَعِب لغة. انتهى (¬2). (إِلَّا مُؤْمِنٌ) أي خالص الإيمان من النفاق. والمراد بحبه الحبّ اللائق به، لا على وجه الإفراط، فإن الخروج عن الحدّ غير مطلوب، وليس من علات الإيمان، بل قد يؤدّي إلى الكفر والطغيان، فإن قومًا قد خرجوا عن الإيمان بالإفراط في حبّ عيسى عليه السلام. قاله السنديّ (¬3). وقال القاري: المعنى: لا يُحبّني حبّا مشروعًا مُطابقًا للواقع من غير زيادة ونقصان؛ ليخرُج النصيريّ (¬4) والخارجيّ. انتهى (¬5). ¬

_ (¬1) هكذا قال، ومثله قول ابن مالك في "لاميّته" حينما يذكر ما خرج عن القياس: فَذُو التَّعَدِّي بِكَسْر حَبَّهُ وَعِ ... ذَا وَجْهَيْنِ هَرَّ وَشَدَّ عَلّهُ عَلَلاَ يعني أن يحبه بالكسر شاذّ، والقياس الضم؛ لأنه مضاعف معدّى. لكن ذكر شراح "اللامية" المذكورة، أنه سمع "يَحُبّه" بالضم أيضًا، فيكون مما فيه الوجهان، فليُتأمّل. والله تعالى أعلم. (¬2) "المصباح المنير" 1/ 117. (¬3) "شرح السنديّ" 1/ 81. (¬4) "النصيريّ" بالتصغير نسبة إلى نُصير اسم رجل، والنصيريّة طائفة من غلاة الشيعة، ينتسبون إلى رجل اسمه نُصير، وكان من جماعة قريبًا من سبعة عشر نفسًا، كانوا يزعمون أن عليّا هو الله، وهؤلاء شرّ الشيعة، وكان ذلك في زمن عليّ، فحذّرهم، وقال: إن لم ترجعوا عن هذا القول، وتجدّدوا إسلامكم، وإلا عاقبتكم عقوبة ما سمعوا مثلها في الإسلام، ثم أمر بأخدود، وحفر في رحبة جامع الكوفة، فأشعل فيه النار، وأمرهم بالرجوع فما رجعوا، فأمر غلامه قنبر حي ألقاهم في النار، فهرب واحد من الجماعة، اسمه نُصير، واشتهر هذا الكفر منه، وأن عليّا لما ألقاهم في النار التفت واحد، وقال: الآن تحقّقت أنه هو الله؛ لأنه بلغنا عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يعذّب بالنار إلا ربها". انتهى "الأنساب" 5/ 498 - 500. (¬5) "المرقاة" 10/ 457.

(وَلَا يُبْغِضُنِي) بضم أوله، وكسر ثالثه رباعيّا من أبغضه بالألف، لا غيرُ، قال الفيّوميّ: وأبغضته إبغاضًا، فهو مُبغَضٌ، قالوا: ولا يُقال: بَغَضته بغير ألف (¬1). انتهى (¬2). (إِلَّا مُنَافِقٌ) أي إلا من ليس مؤمنًا باطنًا، وإن تظاهر بمظهر الإسلام. والمنافق اسم فاعل من النفاق، وهو -كما قال ابن الأثير- اسم إسلاميّ، لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به، وهو الذي يستُر كفره، ويُظهر إيمانه، وإن كان أصله في اللغة معروفًا، يقال: نافق ينافق منافقةً ونِفاقًا، وهو مأخوذ من النافقاء، أحد جِحَر اليربوع، إذا طُلب من واحد هرب إلى الآخر، وخرج منه. وقيل: من النَّفَق، وهو السِّرَب الذي يُستَتر فيه؛ لستره كفره (¬3). والمراد بالبغض هو البغض لأجل مزاياه الدينيّة، وأما البغض الناشىء بسبب أمر دنيويّ يفضي إليه بالطبع، كما يجري في التعامل، فليس نفاقًا أصلًا، وقد سبّ العبّاس عليّا رضي الله عنهما بسبب ما جرى بينهما من التعامل كمجلس عمر -رضي الله عنه- أشدّ سبّ (¬4)، وهو مشهور في "الصحيحين"، وغيرهما، فلم ينقص ذلك من إيمانه -رضي الله عنه- (¬5). وقال القرطبي: من أحبّ عليّا -رضي الله عنه- لسابقته في الإسلام، وقِدَمه في الإيمان، وغَنَائه فيه، وذَوْده عنه، وعن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ولمكانته من النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وقرابته، ومصاهرته، وعلمه، وفضائله، كان ذلك منه دليلًا قاطعًا على صحّة إيمانه ويقينه، ومحبّته للنبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ومن أبغضه لشيء من ذلك كان على العكس. انتهى (¬6)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه ¬

_ (¬1) وقال في "القاموس" و"شرحه" جـ 5 / ص 9: قال أَبو حاتم: وقولهم: أنا أبغُضُه، ويَبْغُضُني بالضمّ لغة رديئة. انتهى. (¬2) "المصباح" 1/ 56. (¬3) راجع "النهاية" 5/ 98. (¬4) ولفظه عند مسلم (1757): فقال عبّاس: "يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن ... " الحديث. (¬5) راجع "شرح السنديّ" 1/ 81. (¬6) "المفهم" 1/ 264 "كتاب الإيمان".

المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عليّ -رضي الله عنه- هذا أخرجه مسلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (14/ 114) بهذا السند فقط، وأخرجه (مسلم) في "الإيمان" (1/ 60) (237) و (الترمذيّ) في "المناقب" (3736) و"النسائيّ" في "الإيمان" (5033) و (5037) و"الكبرى" في "فضائل الصحابة" (8097) وفي "الخصائص" (8431 و 8432 و 8433) و (الحميديّ) في "مسنده" (58) و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" (12/ 56 و 57) و (أحمد) في "مسنده" (1/ 84 و 95 و 128) وفي "فضائل الصحابة" (948) و (961) و (ابن أبي عاصم) في "السنة" (1325) و (أَبو يعلى) في "مسنده" (291) و (ابن حبان) في "صحيحه" (6924) و (البغويّ) في "شرح السنة" (3908) و (3909). ودلالة الحديث على ما ترجم له واضحة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 115 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْن إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ: "أَلا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) العبديّ، أَبو بكر البصريّ المعروف ببندار، ثقة حافظ [10] تقدّم في 1/ 6. 2 - (مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) الْهُذَليّ، أَبو عبد الله البصريّ المعروف بغندر، ثقة، صحيح

الكتاب [9] تقدّم في 1/ 6. 3 - (شُعْبَةُ) بن الحجاج الْعَتكيّ مولاهم، أَبو بِسطام الواسطيّ، ثم البصريّ الإمام الحجة الناقد، أمير المؤمنين في الحديث [7] تقدّم في 1/ 6. 4 - (سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ القاضي، ثقة فاضلٌ عابدٌ [5] تقدّم في 2/ 14. 5 - (إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) الزهري المدني، ثقة [3]. روى عن أبيه، وأسامة بن زيد، وخزيمة بن ثابت. وروى عنه ابن أخته سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وحبيب بن أبي ثابت، وأبو جعفر الباقر. قال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث. وقال العجليّ: مدني تابعي ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: معدود في الطبقة الثانية من فقهاء أهل المدينة، بعد الصحابة. وذكره ابن حبان في "الثقات". أخرج له البخاريّ، ومسلم، والنسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 6 - (أبوه) سعد بن أبي وقّاص مالك بن وُهيب الزهريّ، أَبو إسحاق الصحابيّ الشهير -رضي الله عنه- تقدّم 3/ 29، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. 3 - (ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بثقات البصريين، ونصفه الثاني بثقات المدنيين. 4 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه. 5 - (ومنها): أن صحابيّه أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وآخر من مات منهم بالمدينة، مات سنة (55) على الصحيح، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، وكان مجاب

الدعوة، ومناقبه جمّة، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) الزهريّ، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ) سعد -رضي الله عنه- (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ لِعِليٍّ) بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وهذا القول قاله النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مخرجه إلى غزوة تبوك، فقد أخرج البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" من طريق الحكم، عن مصعب بن سعد، عن أبيه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج إلى تبوك، واستخلف عليا، فقال: أتُخَلِّفُني في الصبيان والنساء، قال: "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه ليس نبي بعدي". وأخرج الحاكم في "الإكليل" من مرسل عطاء بن أبي رباح: فقال: "يا عليّ اخلُفني في أهلي، واضرب، وخذ، وعِظْ"، ثم دعا نساءه، فقال: "اسمعن لعليّ، وأطعن" (¬1). وأخرج النسائيّ في "السنن الكبرى" بسند صحيح، من طريق سعيد بن المسيب، عن سعد بن أبي وقاص قال: لمّا غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غزوة تبوك خَلّف عليا بالمدينة، فقالوا فيه: مَلَّه، وكره صحبته، فتبع عليّ النبي صلى الله عليه وسلم حتى لَحِقه بالطريق، فقال: يا رسول الله خَلّفتني بالمدينة مع الذراري والنساء، حتى قالوا: مَلّه، وكَرِه صحبته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا علي إنما خَلّفتك على أهلي، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبي بعدي" (¬2). وقال التوربشتيّ: كان هذا القول من النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مخرجه إلى غزوة تبوك، وقد خلّف عليّا -رضي الله عنه- على أهله، وأمره بالإقامة فيه، فأرجف به المنافقون، وقالوا: ما خلّفه إلا استثقالًا له، وتخففًا منه، فلما سمع به عليّ -رضي الله عنه- أخذ سلاحه، ثم خرج حتى أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو نازلٌ بالْجُرُف، فقال: يا رسول الله زعم المنافقون كذا، فقال: "كذبوا إنما ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 8/ 716. (¬2) "السنن الكبرى" جـ 7/ 307 رقم الحديث (8082).

خلّفتك لما تركت ورائي، فارجع، فاخلُفني في أهلي وأهلك، أما ترضى يا عليّ أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى"، تأوّل قول الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي في قَوْمِي} [الأعراف: 142] (¬1). (أَلَا) بفتح الهمزة، وتخفيف اللام: أداة استفتاح وتنبيه، وفي نسخة: "أما"، وهي بمعناها (تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى) قال في "الفتح": أي نازلًا مني منزلة هارون من موسى، والباء زائدة. وفي رواية سعيد بن المسيّب، عن سعد: "فقال عليّ: رضيت، رضيتُ"، أخرجه أحمد، ولابن سعد من حديث البراء، وزيد بن أرقم في نحو هذه القصة، قال: "بلى يا رسول الله، قال: فإنه كذلك"، وفي أول حديثهما أنه عليه الصلاة والسلام قال لعلي: "لابد أن أُقيم أو تقيم، فأقام علي، فسمع ناسا يقولون: إنما خلّفه لشيء كرهه منه، فاتبعه، فذكر له ذلك، فقال له ... " الحديث، وإسناده قوي. وقال السنديّ: قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا ترضى أن تكون منّي إلخ" قاله -صلى الله عليه وسلم- حين استخلفه على المدينة في غزوة تبوك، فقال: علي: تُخلّفني في النساء والصبيان؟ كأنه استنقص تركه وراءه، فقال: "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى"، يعني حين استخلفه عند توجّهه إلى الطور، إذ قال له: {اخْلُفْنِي في قَوْمِي وَأَصْلِحْ} الآية، أي ألا ترضى بأني أنزلتك مني في منزل كان ذلك المنزل لهارون من موسى، وليس في هذا الحديث تعرّض لكونه خليفة له -صلى الله عليه وسلم- بعده، وكيف وهارون عليه السلام ما كان خليفة لموسى بعد موت موسى عليه السلام (¬2). [تنبيه]: زاد في الرواية الآتية برقم (121) من طريق عبد الرحمن بن سابط، عن سعد بن أبي وقّاص -رضي الله عنه-، وهي أيضًا رواية للشيخين قوله: "إلا أنه لا نبيّ بعدي". قال القرطبيّ رحمه الله: إنما قاله النبيّ -صلى الله عليه وسلم- تحذيرًا مما وقعت فيه طائفة من غُلاة ¬

_ (¬1) راجع "المرقاة" 10/ 454. (¬2) راجع "شرح السنديّ" 1/ 82.

الرافضة، فإنهم قالوا: إن عليّا نبيّ يوحَى إليه، وقد تناهى بعضهم في الغلوّ إلى أن صار في عليّ إلى ما صارت إليه النصارى في المسيح، فقالوا: إنه الإله، وقد حرّق عليّ -رضي الله عنه- من قال ذلك، فافتتن بذلك جماعة منهم، وزادهم ضلالًا، وقالوا: الآن تحقّقنا أنه الله؛ لأنه لا يعذّب بالنار إلا الله، وهذه كلها أقوال عوامَّ جُهّال، سُخفاء العقول، لا يُبالي أحدهم بما يقول، فلا ينفع معهم البرهان، لكن السيف والسنان. انتهى (¬1). وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: في قوله: "إلا أنه لا نبيّ بعدي" دليل على أن عيسى عليه السلام إذا نزل ينزل حكمًا من حُكّام هذه الأمة، يدعو بشريعة نبيّنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولا ينزل نبيّا. انتهى (¬2). وقال القاري بعد ذكر كلام النوويّ هذا: أقول: لا منافاة بين أن يكون نبيّا ويكون متابعًا لنبينا -صلى الله عليه وسلم- في بيان أحكام شريعته، وإتقان طريقته، ولو بالوحي إليه، كما يُشير إليه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لو كان موسى حيّا لمَا وسعه إلا اتّباعي" (¬3)، أي مع وصف النبوة والرسالة، وإلا فمع سلبهما لا يفيد زيادة المزيّة، فالمعنى أنه لا يحدُثُ بعده نبيّ؛ لأنه خاتم النبيين السابقين، وفيه إيماء إلى أنه لو كان بعد نبيّ لكان عليّا، وهو لا ينافي ما ورد في حقّ عمر -رضي الله عنه- صريحًا (¬4)؛ لأن الحكم فَرْضيّ وتقديريّ، فكأنه قال: لو تُصُوّر بعدي نبيّ ¬

_ (¬1) "المفهم" 6/ 274. (¬2) "شرح مسلم" 15/ 174. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، ولفظه من طريق مُجَالد، عن الشعبي، عن جابر ابن عبد الله: أن عمر بن الخطاب أَتَى النبي -صلى الله عليه وسلم- بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب، فقرأه النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب، فقال: "أَمُتَهَوِّكون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء، فيخبروكم بحق، فتُكَذِّبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسى بيده لو أن موسى -صلى الله عليه وسلم- كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني". وفي سنده مجالد بن سعيد، والأكثرون على تضعيفه. (¬4) هو ما أخرجه أحمد، والترمذيّ بسند حسن من طريق مِشْرَح بن هَاعَان، عن عقبة ابن عامر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب"، =

لكان جماعة من أصحابي أنبياء، ولكن لا نبيّ بعدي، وهذا معنى حديث: "لو عاش إبراهيم لكان صدّيقًا نبيّا" (¬1). وأما حديث: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل"، فقد صرّح الحفّاظ كالزركشيّ، والعسقلانيّ، والدميريّ، والسيوطيّ أنه لا أصل له. قاله القاريّ رحمه الله (¬2). وقال الشيخ الألبانيّ رحمه الله: لا أصل له باتفاق العلماء، وهو مما يَستدلّ به القاديانية الضالّة على بقاء النبوّة بعده -صلى الله عليه وسلم-، ولو صحّ لكان حجة عليهم، كما يظهر بقليل من التأمّل. انتهى (¬3)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث سعد بن أبي وقّاص -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (14/ 115) بهذا السند، وسيعيده مطوّلًا برقم (121)، وأخرجه (البخاريّ) في "فضائل الصحابة" (3706) وفي "المغازي" (4416)، و (مسلم) في "الفضائل" (6168) و (الترمذيّ) في "المناقب" (3731) و (النسائيّ) في "فضائل الصحابة" من "الكبرى" (8085) و (8086) و (أحمد) في "مسنده" (1/ 173 و 175 و 177 و 179) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (6926) و (عبد الرزاق) في ¬

_ = قال الترمذيّ: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث مشرح بن هاعان. (¬1) هذا أثر أنس -رضي الله عنه- أخرجه أحمد بسند حسن، وأخرجه البخاريّ، وأحمد، وابن ماجه، من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: رأيت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: مات صغيرًا، ولو قُضي أن يكون بعد محمد -صلى الله عليه وسلم- نبي عاش ابنه، ولكن لا نبي بعده". (¬2) "المرقاة" 10/ 455 - 456. (¬3) راجع "السلسلة الضعيفة" 1/ 480 رقم الحديث (466).

"مصنّفه" (9745) و (الحميديّ) في "مسنده" (71) و (ابن أبي عاصم) في "السنة" (1335) و (الطيالسيّ) في "مسنده" (209) و (البيهقيّ) في "السنن" (9/ 40) وفي "دلائل النبوة" (5/ 220)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في دَحْضِ استدلال الفرق الضالّة بهذا الحديث على زعمهم الباطل: قال القاضي عياض رحمه الله: هذا الحديث مما تعلقت به الروافض، والإمامية، وسائر فرق الشيعة، في أن الخلافة كانت حقا لعلي، وأنه وصيّ له بها، قال: ثم اختلف هؤلاء، فكفرت الروافض سائر الصحابة في تقديمهم غيره، وزاد بعضهم، فكفر عليا؛ لأنه لم يقم في طلب حقه بزعمهم، وهؤلاء أسخف مذهبًا، وأفسد عقلًا من أن يُرَدّ قولهم، أو يُناظَر. وقال القاضي: ولا شك في كفر من قال هذا؛ لأن من كفر الأمة كلها، والصدر الأول خصوصًا، فقد أبطل نقل الشريعة، وهَدَم الإسلام، وأما من عدا هؤلاء الغُلاة فإنهم لا يسلكون هذا المسلك الشنيع القبيح، ومن ارتكبه منهم ألحقناه بمن تقدّم في التكفير، ومأواه جهنّم، وبئس المصير. وأما الإمامية، وبعض المعتزلة، فيقولون: هم مخطئون في تقديم غيره لا كُفّار، وبعض المعتزلة لا يقول بالتخطئة؛ لجواز تقديم المفضول عندهم. وهذا الحديث لا حجة فيه لأحد منهم، بل فيه إثبات فضيلة لعليّ، ولا تعرض فيه لكونه أفضل من غيره أو مثله، وليس فيه دلالة لاستخلافه بعده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال هذا لعليّ حين استخلفه في المدينة في غزوة تبوك، ويؤيد هذا أن هارون المشبه به لم يكن خليفةً بعد موسى، بل تُوفي في حياة موسى، وقبل وفاة موسى بنحو أربعين سنة، على ما هو مشهور عند أهل الأخبار والقصص، قالوا: وإنما استخلفه حين ذهب لميقات ربه للمناجاة، فلما رجع موسى عليه السلام من مناجاته عاد هارون إلى أول حالاته، على أنه قد كان هارون شُرِّك مع موسى في أصل الرسالة، فلا تكون لهم فيما راموه دلالة. وغاية هذا الحديث أن يدلّ على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما استخلف عليّا -رضي الله عنه- على المدينة

فقط، فلما رجع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من تبوك قعد مقعده، وعاد عليّ -رضي الله عنه- إلى ما كان عليه قبل، وهذا كما استَخلَف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المدينة ابنَ أُمّ مكتوم وغيرَه، ولا يلزم من ذلك استخلافه دائمًا بالاتفاق (¬1). وقال الطيبيّ بعد ما ذكر نحو ما تقدّم: ما نصّه: أقول: وتحريره من جهة علم المعاني أن قوله: "منّي" خبر للمبتدإ، و"من" اتّصاليّة، ومتعلّق الخبر خاصّ، والباء زائدة، كما في قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ} الآية [البقرة:137]: أي فإن آمنوا إيمانًا مثل إيمانكم، يعني أنت متصل بي، ونازل منّي منزلة هارون من موسى، ثم بيّن بقوله: "إلا أنه لا نبي بعدي"، أن اتّصاله به ليس من جهة النبوّة، فبقي الاتّصال من جهة الخلافة؛ لأنها تلي النبوّة في المرتبة، ثم إما أن يكون حال حياته، أو بعد مماته، فخرج من أن يكون بعد مماته؛ لأن هارون عليه السلام مات قبل موسى، فتعيّن أن يكون في حياته عند مسيره إلى غزوة تبوك. انتهى كلام الطيبيّ ببعض تصرف (¬2). وخلاصته أن الخلافة الجزئيّة في حياته لا تدلّ على الخلافة الكلية بعد مماته، لا سيّما وقد عُزل عن تلك الخلافة برجوعه -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة. قاله القاري (¬3). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبين بما سبق بطلان استدلال الشيعة والرافضة بهذا الحديث على أن الخلافة بعد النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لعليّ -رضي الله عنه-، نسأل الله تعالى أن يهدينا إلى الصراط المستقيم، اللهم أرنا الحقّ حقّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، آمين آمين آمين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ¬

_ (¬1) "شرح مسلم" للنوويّ 15/ 174 و"المفهم" للقرطبيّ 6/ 273. (¬2) "الكاشف عن حقائق السنن" 12/ 3882. (¬3) "المرقاة" 10/ 455.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 116 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ، أَخْبَرَنِي حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ ابْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- في حَجَّتِهِ الَّتِي حَجَّ، فَنَزَلَ في بَعْضِ الطَّرِيقِ، فَأَمَرَ الصَّلَاةَ جَامِعَةً، فَأَخَذَ بيَدِ عَليٍّ -رضي الله عنه-، فَقَالَ: "أَلَسْتُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟ " قَالُوا: بَلَى، قَالَ: "أَلَسْتُ أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ؟ " قَالُوا: بَلَى، قَالَ: "فَهَذَا وَلِيُّ مَنْ أَنَا مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، اللَّهُمَّ عَادِ مَنْ عَادَاهُ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطنافسيّ المذكور قبل حديث. 2 - (أَبُو الْحُسَيْنِ) هو: زيد بن الحباب الْعُكْليّ، الكوفيّ، خراسانيّ الأصل، صدوقٌ يُخطىء في حديث الثوريّ [9] تقدّم في 2/ 12. 3 - (حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أَبو سلمة، مولى تميم، ويقال: مولى قريش، وقيل: غير ذلك، ثقة عابدٌ، أثبت الناس في ثابت، وتغيّر حفظه بآخره، من كبار [8] روى عن ثابت البناني، وقتادة، وخاله حميد الطويل، وخلق كثير. وروى عنه ابن جريج، والثوري، وشعبة، وهم أكبر منه، وابن المبارك، وابن مهدي، والقطان، وعفّان بن مسلم، وغيرهم. قال أحمد: حماد بن سلمة أثبت في ثابت من معمر. وقال أيضًا في الحمادين: ما منهما إلا ثقة. وقال حنبل عن أحمد: أسند حماد بن سلمة عن أيوب أحاديث، لا يسندها الناس عنه. وقال أَبو طالب عنه: حماد بن سلمة أعلم الناس بحديث حميد، وأصح حديثا. وقال في موضع آخر: هو أثبت الناس في حميد الطويل، سمع منه قديمًا، يخالف الناس في حديثه. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وقال الدوري عن ابن معين: من خالف حماد بن سلمة في ثابت، فالقول قول حماد. وقال جعفر الطيالسي عنه: من سمع من حماد بن سلمة الأصناف، ففيها اختلاف، ومن سمع منه نسخا فهو صحيح. وقال ابن المديني: لم يكن في أصحاب ثابت أثبت من حماد

ابن سلمة. وقال الأصمعي عن عبد الرحمن بن مهدي: حماد بن سلمة صحيح السماع، حسن اللُّقيّ، أدرك الناس، لم يُتَّهَم بلون من الألوان، ولم يتلبس بشيء، أحسن مَلَكَةَ نفسِهِ ولسانه، ولم يطلقه على أحد، فسَلِمَ حتى مات. وقال ابن المبارك: دخلت البصرة، فما رأيت أحدا أشبه بمسالك الأُوَلِ من حماد بن سلمة. وقال أَبو عمر الجرمي: ما رأيت فقيها أفصح من عبد الوارث، وكان حماد بن سلمة أفصح منه. وقال عفان: قد رأيت من هو أعبد من حماد بن سلمة، ولكن ما رأيت أشد مواظبة على الخير، وقراءة القرآن، والعمل لله من حماد بن سلمة. وقال ابن مهدي: لو قيل لحماد بن سلمة: إنك تموت غدا، ما قدر أن يزيد في العمل شيئًا. وقال ابن حبان: كان من العباد المجابين الدعوة في الأوقات، ولم يُنصِف من جانب حديثه، واحتج في كتابه بأبي بكر بن عياش، فإن كان تَرْكُهُ إياه لِمَا كان يخطىء، فغيره من أقرانه، مثل الثوري وشعبة، كانوا يخطئون، فإن زعم أن خطأه قد كثر حتى تغير، فقد كان ذلك في أبي بكر بن عياش موجودًا، ولم يكن من أقران حماد بن سلمة بالبصرة مثله في الفضل، والدين، والنُّسُك، والعلم، والْكَتْب، والجمع، والصلابة في السنة، والقمع لأهل البدع. قال الحافظ: وقد عَرَّض ابن حبان بالبخاري؛ لمجانبته حديث حماد بن سلمة، حيث يقول: لم يُنصف من عَدَل عن الاحتجاج به إلى الاحتجاج بفُلَيح، وعبد الرحمن ابن عبد الله بن دينار. واعتذر أَبو الفضل بن طاهر عن ذلك، لمَّا ذَكَرَ أن مسلما أخرج أحاديث أقوام، ترك البخاري حديثهم، قال: وكذلك حماد بن سلمة إمام كبير، مدحه الأئمة وأطنبوا، لمّا تكلم بعض منتحلي العرفة، أن بعض الْكَذَبة أدخل في حديثه ما ليس منه، لم يخرج عنه البخاري، مُعْتَمِدًا عليه، بل استشهد به في مواضع؛ لِيُبَيِّن أنه ثقة. وأخرج أحاديثه التي يرويها من حديث أقرانه، كشعبة، وحماد بن زيد، وأبي عوانة، وغيرهم، ومسلم اعتمد عليه؛ لأنه رأى جماعة من أصحابه القدماء والمتأخرين لم يختلفوا، وشاهد مسلم منهم جماعة، وأخذ عنهم، ثم عدالة الرجل في نفسه، وإجماع أئمة أهل النقل على ثقته وأمانته. انتهى. وقال الحاكم: لم يخرج مسلم لحماد بن سلمة في

الأصول، إلا من حديثه عن ثابت، وقد خرج له في الشواهد عن طائفة. وقال البيهقي: هو أحد أئمة المسلمين، إلا أنه لمّا كَبِرَ ساء حفظه، فلذا تركه البخاري، وأما مسلم فاجتهد، وأخرج من حديثه عن ثابت ما سُمِعَ منه قبل تغيره، وما سوى حديثه عن ثابت لا يبلغ اثني عشر حديثًا، أخرجها في الشواهد. وأورد له ابن عدي في "الكامل" عدة أحاديث مما ينفرد به متنا أو إسنادا، قال: وحماد من أجلة المسلمين، وهو مفتي البصرة، وقد حدث عنه من هو أكبر منه سنا، وله أحاديث كثيرة، وأصناف كثيرة، ومشايخ، وهو كما قال ابن المديني: من تكلم في حماد بن سلمة، فاتهموه في الدين. وقال الساجي: كان حافظا ثقة مأمونا. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وربما حدث بالحديث المنكر. وقال العجلي: ثقة، رجل صالح، حسن الحديث، وقال: إن عنده ألفَ حديث حسن ليس عند غيره. قال سليمان بن حرب وغيره: مات سنة (167)، زاد ابن حبان: في ذي الحجة. استشهد به البخاري، وقيل: إنه روى له حديثا واحدا عن أبي الوليد عنه، عن ثابت (¬1)، وأخرج له الباقون، وله في هذا الكتاب (85) حديثًا. 4 - (عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ) هو: علي بن زيد بن عبد الله بن أبي مليكةَ زُهير بن عبد الله بن جُدْعان بن عمرو بن كعب بن سَعْد بن تَيم بن مُرّة التيميّ، أَبو الحسن البصري، أصله من مكة، نُسب أبوه إلى جدّ جده، ضعيف [4]. رَوَى عن أنس بن مالك، وسعيد بن المسيب، وأبي عثمان النَّهْديّ، وأبي نَضْرة العبديّ، وأبي رافع الصائغ، والحسن البصري، وعديّ بن ثابت، وغيرهم. وروى عنه قتادة، ومات قبله، والحمادان، وزائدة، وزهير بن مرزوق، والسفيانان، وسفيان بن حسين، وشعبة، وابن عون، وهشيم، وابن علية، وآخرون. ¬

_ (¬1) الحديث المذكور هو حديث أبي بن كعب -رضي الله عنه- من رواية ثابت، عن أنس، عنه، في "كتاب الرقاق" من "صحيح البخاريّ"، ولفظه: "قال لنا أَبو الوليد، ... فذكره.

قال ابن سعد: وُلد وهو أعمى، وكان كثير الحديث، وفيه ضعف، ولا يحتج به. وقال صالح بن أحمد عن أبيه: ليس بالقوي، وقد رَوَى عنه الناس. وقال عبد الله بن أحمد: سئل أبي سمع الحسن من سراقة، فقال: لا هذا علي بن زيد -يعني يرويه- كأنه لم يَقْنَع به. وقال أحمد: ليس بشيء. وقال حنبل عن أحمد: ضعيف الحديث. وقال معاوية ابن صالح عن يحيى: ضعيف. وقال عثمان الدارمي عن يحيى: ليس بذاك القوي. وقال ابن أبي خيثمة عن يحيى: ضعيف في كل شيء، وفي رواية عنه: ليس بذاك، وفي رواية الدُّوري: ليس بحجة، وقال مرة: ليس بشيء، وقال مرة: هو أحب إلي من ابن عَقِيل، ومن عاصم بن عُبيد الله. وقال العجلي: كان يتشيع، لا بأس به. وقال مرة: يكتب حديثه، وليس بالقوي. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صالح الحديث، وإلى اللين ما هو. وقال الجوزجاني: واهي الحديث، ضعيف، وفيه مَيْل عن القصد، لا يُحتَجّ بحديثه. وقال أَبو زرعة: ليس بقوي. وقال أَبو حاتم: ليس بقوي، يُكتب حديثه، ولا يحتج به، وهو أحب إلي من يزيد ابن أبي زياد، وكان ضريرًا، وكان يتشيع. وقال الترمذي: صدوق، إلا أنه ربما رفع الشيء الذي يوقفه غيره. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن خزيمة: لا أحتج به لسوء حفظه. وقال ابن عدي: لم أر أحدًا من البصريين وغيرهم امتنع من الرواية عنه، وكان يغلو في التشيع، ومع ضعفه يُكتَب حديثه. وقال الحاكم أَبو أحمد: ليس بالمتين عندهم. وقال الدارقطني: أنا أتوقّف فيه، لا يزال عندي فيه لين. وقال معاذ بن معاذ عن شعبة: حدثنا علي بن زيد قبل أن يختلط. وقال أَبو الوليد وغيره عن شعبة: ثنا علي بن زيد، وكان رَفّاعًا. وقال سليمان بن حرب عن حماد بن زيد: ثنا علي بن زيد، وكان يَقْلِب الأحاديث، وفي رواية: كان يحدثنا اليوم بالحديث، ثم يحدثنا غدًا فكأنه ليس ذلك. وقال عمرو بن علي: كان يحيى بن سعيد يتقي الحديث عن علي بن زيد، حدثنا عنه مرة، ثم تركه، وقال: دَعْهُ. وكان عبد الرحمن يحدث عن شيوخه عنه. وقال أَبو معمر القَطِيعيّ، عن ابن عيينة: كَتبت عن علي

ابن زيد كتابًا كثيرًا، فتركته زهدا فيه. وقال يزيد بن زريع: رأيته، ولم أَحْمِل عنه؛ لأنه كان رافضيا. وقال أَبو سلمة: كان وهيب يضعف علي بن زيد. قال أَبو سلمة: فذكرت ذلك لحماد بن سلمة، فقال: ومن أين كان يقدر وهيب على مجالسة علي، إنما كان يجالس عليٌّ وجوهَ الناس. وقال ابن الجنيد: قلت لابن معين: علي بن زيد اختلط؟ قال: ما اختلط قط. وقال موسى بن إسماعيل عن حماد: قال علي بن زيد ربما حدثت الحسن بالحديث، ثم أسمعه منه، فأقول: يا أبا سعيد أتدري من حدثك؟ فيقول: لا أدري إلا أني سمعته من ثقة، فأقول: أنا حدثتك. وقال خالد بن خِدَاش عن حماد بن زيد: سمعت سعيدًا الْجُريري يقول: أصبح فقهاء البصرة عميان: قتادة، وعلي بن زيد، وأشعث الْحُدّاني. وقال ابن قانع: خلط في آخر عمره، وتُرك حديثه. وقال الساجيّ: كان من أهل الصدق، ويُحتَمل لرواية الْجِلّة عنه، وليس يجري مَجْرَى من أُجمِع على ثَبْته. وقال ابن حبان: يَهِم ويخطىء، فكثر ذلك منه، فاستحق الترك. قال الحضرميّ: مات سنة (129). وقال خليفة: مات سنة (31). أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم مقرونًا بغيره، والأربعة، وله في هذا الكتاب (23) حديثًا. 5 - (عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ) الأنصاريّ الكوفيّ المذكور قبل حديث. 6 - (الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ) بن الحارث بن عَدِيّ بن مَجْدَعة بن حارثة بن الحارث بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاريّ الأوسيّ، يُكنى أبا عُمارة، ويقال: أَبو عمرو، ويقال: أَبو الطُّفيل المدني الصحابي ابن الصحابي، نزل الكوفة، ومات بها زَمَنَ مصعب بن الزبير. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعمر، وعلي، وأبي أيوب، وبلال، وغيرهم. وروى عنه عبد الله بن زيد الْخَطْميّ، وأبو جُحَيفة، ولهما صحبة، وعُبيد، والربيع، ويزيد، ولوط، أولاد البراء، وابن أبي ليلى، وعديّ بن ثابت، وأبو إسحاق، ومعاوية بن

سُويد بن مُقَرّن، وأبو بُرْدة، وأبو بكر ابنا أبي موسى، وخلق كثير. قال أحمد: حدّثنا يزيد، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: استصغرني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بَدْر أنا وابن عمر، فردّنا، فلم يشهدها (¬1). وقال أَبو داود الطيالسيّ في "مسنده": حدّثنا شعبة، عن أبي إسحاق، سمع البراء يقول: استُصغرتُ أنا وابن عمر يوم بدر. ورواه عبد الرحمن بن عَوْسَجة عن البراء نحوه، وزاد: "وشهدت أحدًا" أخرجه السّرّاج. ورُوي عنه أنه غزا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربع عشرة غزوة، وفي رواية خمس عشرة. وإسناده صحيح. وعنه قال: سافرت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثمانية عشر سفرًا. أخرجه أَبو ذرّ الْهَرَويّ. وروى أحمد بإسناد صحيح، من طريق الثوريّ، عن أبي إسحاق، عن البراء -رضي الله عنه- قال: ما كلّ ما نُحّدّثكموه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سمعناه منه، حدّثناه أصحابنا، وكان يشغلنا رَعِيّةُ الإبل. وهو الذي افتتح الريّ سنة (24) في قول أبي عمرو الشَّيْبَانيّ، وخالفه غيره. وشهد غزوة تُسْتَر مع أبي موسى، وقيل: هو الذي أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معه السهم إلى قليب الحديبية، فجاش بالريّ، والمشهور أن ذلك ناجية بن جُندب، قال ابن عبد البر: وأول مشاهده أُحُد. وقال العسكري: أول مشاهده الخندق، وشَهِد مع علي الجَمَل وصِفِّين والنَّهْرَوان، ونزل الكوفة، وابتنى بها دارًا، وكان يُلَقَّب ذا الْغُرّة، قال الحافظ: كذا قيل، وعندي أن ذا الغرة آخر. انتهى. وقال ابن حبان: استصغره النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وكان هو وابن عمر لِدَةَ، مات سنة (72). (¬2). أخرج له الجماعة، وروى (305) حديث، اتّفق الشيخان على (22) وانفرد البخاريّ بـ (15) ومسلم بـ (6)، وله في هذا الكتاب (35) حديثًا، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) قال الحافظ الهيثميّ في "الزوائد" 6/ 111: رواه الطبرانيّ، ورجاله رجال الصحيح. (¬2) راجع "الإصابة" 1/ 411 - 412. و"تهذيب التهذيب" 1/ 215 - 216.

شرح الحديث: (عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- في حَجَّتِهِ الَّتِي حَجَّ) هي حجة الوداع بفتح الواو، سُمّيت بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وَدّع فيها أصحابه بالوصيّة التي أوصاهم بها أن لا يرجعوا بعده كفّارًا وغير ذلك من الوصايا التي ذُكرت في خطبته -صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة، وستأتي في "كتاب الحج" إن شاء الله تعالى، وأكّد التوديع بإشهاد الله سبحانه وتعالى عليهم بأنهم شَهِدوا أنه قد بلّغ ما أُرسل إليهم به (فَنَزَلَ في بَعْضِ الطَّرِيقِ) أي بمكان يُسمّى غَدِير خُمّ بضم الخاء المعجمة، وتشديد الميم: اسم غَيضة على ثلاثة أميال من الْجُحفة، عندها غَدير مشهور، يُضاف إلى الغيضة (فَأَمَرَ الصَّلَاةَ جَامِعَةً) أي أمر مناديًا ينادي بقوله: "الصلاة جامعة". وتلك الصلاة هي الظهر، كما ذكره البوصيريّ في الزوائد، وعزاه إلى ابن أبي شيبة في "مسنده" (¬1). [تنبيه]: يجوز في قوله: "الصلاة جامعة" أربعة أوجه: [الأول]: رفعهما على الابتداء والخبر. [والثاني]: نصبهما، الأول على أنه مفعول لفعل مقدّر: أي احضروا الصلاة، والثاني: على الحال. [والثالث]: رفع الأول على أنه مبتدأ حُذف خبره: أي الصلاة محضورة، ونصب الثاني على الحال. [والرابع]: العكس، أي نصب الأول على المفعولية لمقدّر، ورفع الثاني على أنه خبر لمحذوف: أي هي جامعة. والله تعالى أعلم. (فَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ -رضي الله عنه-، فَقَالَ: أَلَسْتُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ) أي بجنسهم (مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟) وفي رواية أحمد: "ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم"، وفيه إيماء إلى قوله عز وجل: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] (قَالُوا) أي الصحابة الحاضرون (بَلَى) أي أنت أولى بهم من أنفسهم، فـ "بلى" حرف إيجاب، فإذا قيل: ما قام زيد، وقلت في الجواب: بلى، فمعناه إثبات القيام، وإذا قيل: أليس كان كذا، وقلت: بلى، فمعناه التقرير والإثبات، ولا تكون إلا بعد نفي، إما في أول الكلام كما تقدّم، وإما ¬

_ (¬1) انظر ما كتبه الشيخ علي حسن في تحقيقه لهذا الكتاب 1/ 73.

في أثنائه كقوله عز وجل: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى} [القيامة:3 - 4] والتقدير: بلى نجمعها، وقد يكون مع النفي استفهام، وقد لا يكون، كما تقدّم، فهو أبدًا يرفع حكم النفي، ويوجب نقيضه، وهو الإثبات. قاله الفيّوميّ (¬1). (قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (أَلَسْتُ أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ) أي بخصوصه (مِنْ نَفْسِهِ؟) أي فضلًا عن بقيّة أهله (قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَهَذَا) إشارة إلى عليّ -رضي الله عنه- (وَلِيُّ مَنْ أَنَا مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، اللَّهُمَّ عَادِ مَنْ عَادَاهُ) وزاد في رواية لأحمد: "وانصر من نصره، واخذُل من خذله". وزاد في رواية أخرى: "فلقيه عمر بعد ذلك، فقال: هنيئًا يا ابن أبي طالب، أصبحتَ وأمسيتَ مولى كل مؤمن ومؤمنة". وقال السنديّ رحمه الله: معناه ألست أحقّ بالمحبّة والتوقير والإخلاص بمنزلة الأب للأولاد؟ يُنبّه على ذلك قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]، وقوله: "فهذا وليّ من أنا مولاه" معناه: محبوب من أنا محبوبه، قال: ويدلّ على هذا المعنى قوله: "اللهم وال من والاه": أي أحبّ من أحبّه بقرينة "اللهم عاد من عاداه"، وعلى هذا فهذا الحديث ليس له تعلّقٌ بالخلافة أصلًا كما زعمت الرافضة، ويدلّ عليه أن العبّاس وعليّا ما فَهِمَا منه ذلك، كيف وقد أَمَر العبّاس عليّا أن يسأل النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أن هذا الأمر فينا أو في غيرنا؟ فقال علي: إن منعنا فلا يُعطينا أحدٌ، أو كما قال. انتهى كلام السنديّ رحمه الله (¬2). وقال القاري رحمه الله: تمسّكت الشيعة بأن هذا الحديث نصّ صريحٌ بخلافة عليّ -رضي الله عنه- حيث قالوا: معنى المولى الأولى بالإمامة، وإلا لما احتاج إلى جمعهم كذلك، وهذه من أقوى شُبَههم، ودَفَعها أهل السنّة بأن المولى بمعنى المحبوب، وعليّ -رضي الله عنه- سيّدنا وحبيبنا، وله معان أُخر، ومنه الناصر، وأمثاله، فخرج عن كونه نصّا، فضلًا عن أن يكون ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" 1/ 62. (¬2) "شرح السنديّ" 1/ 83.

صريحًا، ولو سُلّم أنه بمعنى الأولى بالإمامة، فالمراد به المآل، وإلا لزم أن يكون هو الإمام مع وجوده -صلى الله عليه وسلم-، فتعيّن أن يكون المقصود منه حين يوجد عقد البيعة له، فلا ينافيه تقديم الأئمة الثلاثة عليه؛ لانعقاد إجماع من يُعتدّ به، حتّى من عليّ، ثم سكوته عن الاحتجاج به إلى أيام خلافته قاض على من له أدنى مُسكة بأنه علم منه أنه لا نصّ فيه على خلافته، مع أن عليّا -رضي الله عنه- نفسه صرّح بأنه -صلى الله عليه وسلم- لم ينُصّ عليه ولا على غيره. قال: ثم هذا الحديث مع كونه آحادًا مختلفٌ في صحّته، فكيف ساغ للشيعة أن يخالفوا ما اتّفقوا عليه من اشتراط التواتر في أحاديث الإمامة؟ ما هذا إلا تناقضٌ صريحٌ، وتعارض قبيح. انتهى كلام القاري رحمه الله (¬1)، وهو بحث نفيسٌ. والله تعالى أعلم. [تنبيه]: قيل: إن لهذا الحديث سببًا، وذلك ما أخرجه الإمام الترمذيّ رحمه الله في "جامعه" بإسناد حسن، من طريق الأحوص بن الجوّاب، عن يونس بن أبي إسحق، عن أبي إسحق، عن البراء: أن النبي صلى الله عليه وسلم بَعَثَ جيشين، وأمّر على أحدهما علي بن أبي طالب، وعلى الآخر خالد بن الوليد، فقال: "إذا كان القتال فعليّ"، قال: فافتتح علي حصنًا، فأخذ منه جاريةً، فكتب معي خالد بن الوليد إلى النبي صلى الله عليه وسلم يَشِي به، فقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ الكتاب، فتغير لونه، ثم قال: "ما ترى في رجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله؟ " قال: قلت: أعوذ بالله من غضب الله، وغضب رسوله، وإنما أنا رسول، فسكت. وقال: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث الأحوص بن جوّاب. قوله: "يَشِي به" يعني النميمة. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما هذا صحيح. ¬

_ (¬1) "المرقاة" 10/ 475 - 476.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده علي بن زيد بن جُدْعان، وهو ضعيف؟. [قلت]: إنما صحّ؛ لأنه جاء من طريق آخر عن البراء -رضي الله عنه-، وله أيضًا شواهد، فقد جاء من حديث عدد من الصحابة -رضي الله عنهم-، منهم: زيد بن أرقم، وسعد بن أبي وقّاص، وبُريدة بن الْحُصيب، وابن عبّاس، وأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدريّ، وأبو أيوب الأنصاريّ، وأبو هريرة، وعليّ بن أبي طالب نفسه، -رضي الله عنهم-. فأما حديث البراء -رضي الله عنه- من غير طريق علي بن زيد، فأخرجه أحمد في "مسنده" 4/ 370، فقال: حدثنا حسين بن محمد، وأبو نعيم المعنى، قالا: ثنا فِطْرٌ، عن أبي الطفيل، قال: جمع علي -رضي الله عنه- الناس في الرَّحْبَة، ثم قال لهم: أنشدُ الله كل امرئ مسلم، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غَدِير خُمّ ما سمع لمّا قام، فقام ثلاثون من الناس، وقال أَبو نعيم: فقام ناس كثير، فشهدوا حين أخذه بيده، فقال للناس: "أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ " قالوا: نعم يا رسول الله، قال: "من كنت مولاه فهذا مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه"، قال: فخرجت وكأن في نفسي شيئًا، فلقيت زيد بن أرقم، فقلت له: إني سمعت عليا -رضي الله عنه- يقول: كذا وكذا، قال: فما تنكر؟، قد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ذلك له. وأخرجه ابن حبّان في "صحيحه" (2205) والطبرانيّ (4968). وهذا الإسناد صحيح على شرط البخاريّ. وقد تابع فطرًا سلمةُ بن كهيل، قال: سمعت أبا الطفيل يُحدّث عن أبي سريحة، أو زيد بن أرقم -شكّ شعبة- عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- به مختصرًا: "من كنت مولاه فعليّ مولاه". أخرجه الترمذيّ 2/ 298 وقال: حديث حسن صحيح. وأما حديث زيد بن أرقم -رضي الله عنه-، فقد أخرجه الطبرانيّ في "المعجم الكبير" 5/ 171 - 172 (4986)، والحاكم في "المستدرك" 3/ 109 من طريق يحيى بن جعدة، عن زيد -رضي الله عنه-، قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى انتهينا إلى غدير خُمّ أمر بدوح، فكُسِحَ .... " الحديث مطوّلًا، وصححه الحاكم على شرط الشيخين.

وأما حديث سعد بن أبي وقّاص -رضي الله عنه- فله ثلاث طرق: [أحدها]: ما يأتي للمصنّف بعد أربعة أحاديث برقم (121) بلفظ: "من كنت مولاه فعليّ مولاه"، وهو حديث صحيح. [والثاني]: ما أخرجه النسائيّ في "الخصائص" (16) من طريق عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن سعد -رضي الله عنه- به. وله طريق ثالث، أخرجه الحاكم في "المستدرك" 3/ 116، لكن في سنده مسلم الملائيّ، وهو متروك، فلا تصلح للاستشهاد به. وأما حديث بُريدة بن الْحُصيب -رضي الله عنه-، فله طرق، منها: ما أخرجه أحمد في "مسنده" 5/ 347، والحاكم في "المستدرك" 3/ 110 من طريق عبد الملك بن أبي غنيّة، قال: أخبرنا الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن بريدة، قال: غزوت مع علي اليمن، فرأيت منه جَفْوة، فلما قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكرت عليا، فتنقصته، فرأيت وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتغير، فقال: "يا بريدة ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ " قلت: بلى يا رسول الله، قال: "من كنت مولاه فعلي مولاه". ورجال هذا الإسناد صحيح على شرط الشيخين. وأما حديث عليّ -رضي الله عنه- فله طرق أيضًا، منها: ما أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد "المسند" من طريق شريك، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن وهب، وعن زيد بن يُثَيع قالا: نَشَدَ علي الناس في الرحبة من سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول يوم غدير خم إلا قام ... الحديث، وفيه: "أليس الله أولى بالمؤمنين؟ " قالوا: بلى، قال: "اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه". وزاد فيه من رواية أخرى: "وانصر من نصره، واخذل من خذله". وهذا الإسناد لا بأس به في الشواهد، وشريك هو ابن عبد الله النخعي القاضي. وأما حديث أبي أيوب الأنصاريّ -رضي الله عنه-، فأخرجه أحمد في "مسنده" 5/ 419 والطبراني في "الكبير" (4052) و (4053) من طريق حنش بن الحارث بن لَقِيط النخعي الأشجعي، عن رِيَاح بن الحارث، قال: جاء رهط إلى علي بالرَّحَبَة، فقالوا:

السلام عليك يا مولانا، قال: كيف أكون مولاكم، وأنتم قوم عرب؟، قالوا: سمعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم غَدِير خُمّ يقول: "من كنت مولاه فإن هذا مولاه"، قال رياح: فلما مضوا تبعتهم، فسألت من هؤلاء؟ قالوا: نفر من الأنصار فيهم أَبو أيوب الأنصاري. وإسناد هذا الحديث صحيح، وحنش وثقه أَبو نعيم، وابن سعد، والعجليّ، وابن حبان، وقال أَبو حاتم: صالح الحديث، ما به بأس. وقال البزار: ليس به بأس (¬1). ورياح روى عنه جماعة، ووثقه العجليّ، وابن حبّان (¬2). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذكر من المتابعة، والشواهد أن حديث البراء -رضي الله عنه- هذا صحيح، ولقد أجاد المحدّث الكبير الشيخ الألباني رحمه الله في البحث عن طرق هذا الحديث، وذكر له طرقًا كثيرة في "السلسلة الصحيحة" 4/ 330 - 344، ثم قال: وللحديث طرق أخرى كثيرة، جمع طائفة كبيرة منها الهيثميّ في "المجمع" 9/ 103 - 108، وقد ذكرت، وخرّجت ما تيسّر لي منها مما يَقطع الواقف عليها بعد تحقيق الكلام على أسانيدها بصحّة الحديث يقينًا، وإلا فهي كثيرة جدّا، وقد استوعبها ابن عُقدة في كتاب مفرد، قال الحافظ ابن حجر: منها صحاح، ومنها حسان. وجملة القول أن حديث الترجمة حديث صحيح بشطريه (¬3) بل الأول منه متواتر عنه -صلى الله عليه وسلم-، كما يظهر لمن تتبّع أسانيده، وطرقه، وما ذكرت منها كفاية. قال: وأما قوله في حديث عليّ -رضي الله عنه-: "وانصر من نصره، واخذل من خذله" ففي ثبوته عندي وقفة؛ لعدم ورود ما يجبر ضعفه، وكأنه رواية بالمعنى للشطر الآخر من الحديث: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه. قال: ومثله قول عمر لعليّ: "أصبحت وأمسيت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة" لا ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" 1/ 503. (¬2) "تهذيب التهذيب" 1/ 617. (¬3) يعني قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من كنت مولاه فعليّ مولاه"، وقوله: "اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه".

يصحّ أيضًا؛ لتفرّد علي بن زيد به. قال: إذا عرفت هذا، فقد كان الدافع لتحرير الكلام على الحديث، وبيان صحّته أنني رأيت شيخ الإسلام ابن تيميّة قد ضعّف الشطر الأول من الحديث، وأما الشطر الآخر فزعم أنه كذب (¬1) وهذا من مبالغاته الناتجة في تقديري من تسرّعه في تضعيف الأحاديث قبل أن يجمع طرقها، ويدقّق النظر فيها، والله المستعان. قال: أما ما يذكره الشيعة في هذا الحديث وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في عليّ -رضي الله عنه-: "إنه خليفتي من بعدي"، فلا يصحّ بوجه من الوجوه، بل هو من أباطلهم الكثيرة التي دلّ الواقع التاريخيّ على كذبها؛ لأنه لو فُرض أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قاله لوقع كما قال؛ لأنه وحي يوحى، والله سبحانه وتعالى لا يُخلف وعده. وقد خرّجت بعض أحاديثهم في ذلك في الكتاب الآخر "الضعيفة" (4923 و 4932) في جملة أحاديث لهم احتجّ بها عبد الحسين في "المراجعات" بيّنتُ وهاءها وبطلانها، وكذبه هو في بعضها، وتقوّله على أئمة السنّة فيها. انتهى كلام الشيخ الألباني (¬2). وهو كلام نفيسٌ، وبحث أنيس، والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (14/ 116) بهذا الإسناد فقط، وقد تفرّد به من هذا الوجه، فلم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (4/ 281) و (عبد الله بن أحمد) في زوائده على "مسند أبيه" (4/ 281)، وبقية التخريجات تقدّمت في المسألة الماضية، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، ¬

_ (¬1) انظر "مجموع الفتاوى" 4/ 417 - 418. (¬2) راجع "السلسلة الصحيحة" 4/ 330 - 344 رقم الحديث (1750).

وهو واضح. 2 - (ومنها): عناية النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ببيان فضل أولي الفضل، والإخبار بما خصّهم الله سبحانه وتعالى من المزايا، حتى يظهر للناس فضلهم حتى يقتدوا بهم، ويهتدوا بهديهم، ويعطوهم حقّهم من التبجيل والتكريم. 3 - (ومنها): دعاؤه -صلى الله عليه وسلم- لمن والى عليّا -رضي الله عنه- أن يواليه الله تعالى، وعلى من عاداه بأن يعاديه الله تعالى، وقد سبق أن هذه المعاداة إنما تستوجب معاداة الله إذا كانت من حيث كونه وليا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومحبوبًا لديه، وناصرًا له، وأما إذا نشأت بسبب اختلاف في أمر دنيويّ، فلا تستوجب ذلك، كما سبق أن العباس -رضي الله عنه- عاداه، وسبّه، وقال لعمر -رضي الله عنه-: "احكم بيني هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن"، وذلك بمحضر من كبار الصحابة، فلم ينكر ذلك عليه أحد، لا عمر، ولا غيره من الصحابة الحاضرين -رضي الله عنهم-. فتفطّن، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 117 - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى، حَدَّثَنَا الحكَمُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: كَانَ أَبُو لَيْلَى يَسْمُرُ مَعَ عَلِيٍّ، فَكَانَ يَلْبَسُ ثِيَابَ الصَّيْفِ في الشِّتَاءِ، وَثِيَابَ الشِّتَاءِ في الصَّيْفِ، فَقُلْنَا: لَوْ سَأَلْتُهُ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ إِليّ، وَأَنَا أَرْمَدُ الْعَيْنِ يَوْمَ خَيْبَرَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنِّي أَرْمَدُ الْعَيْنِ، فَتَفَلَ في عَيْنِي، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ"، قَالَ: فَمَا وَجَدْتُ حَرًّا وَلَا بَرْدًا بَعْدَ يَوْمِئِذٍ، وَقَالَ: "لأبْعَثَنَّ رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، لَيْسَ بِفَرَّارٍ"، فَتَشَرَّفَ لَهُ النَّاسُ، فَبَعَثَ إِلَى عَليٍّ، فَأَعْطَاهَا إِيَّاهُ). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن إبراهيم بن عثمان العبسيّ، أَبو الحسن الكوفيّ، ثقة حافظ مشهور، وله أوهام [10]، تقدّم في 5/ 40. 2 - (وَكِيعٌ) بن الجرّاح المذكور قبل حديثين.

3 - (ابْنُ أَبِي لَيْلَى) هو: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاريّ الكوفيّ القاضي، صدوقٌ سيىء الحفظ جدّا [7] تقدّم في 5/ 38. 4 - (الْحَكَمُ) بن عتيبة الكنديّ الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه، ربما دلّس [5] تقدّم في 5/ 38. 5 - (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى) الأنصاريّ المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقة [2] تقدّم في 3/ 25. 6 - (عَلِيّ) بن أبي طالب -رضي الله عنه- المذكور قريبًا، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى) الأنصاريّ، أنه (قَالَ: كَانَ أَبُو لَيْلَى) يعني أباه، صحابيّ اختُلف في اسمه، فقيل: بلال، وقيل: بُليل بالتصغير، وقيل: داود بن بلال، وقيل: أوس بن خَوْلي، وقيل: الْيَسَر. وقيل: لا يُحفظ اسمه. وقيل: اسمه كنيته. وقال الكلبيّ: أَبو ليلى بلال بن بُليل بن أُحيحة بن الْجُلاح بن الْحَرِيش بن جَحْجَبَى بن كُلْفة ابن عوف بن عَمْرو بن عوف بن مالك بن أوس. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن عمر، وعنه ابنه عبد الرحمن، قال ابن عبد البر: شَهِد أحدًا، وما بعدها، وانتقل إلى الكوفة، وشَهِد مع عليّ مشاهده، وقال غيره: قُتِل بصفين مع علي رضي الله عنهما. وحديثه في "السنن"، فمنه عند أبي داود وابن ماجه من رواية ثابت البنانيّ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه: "صلّيت إلى جنب النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في صلاة تطوّع، فسمعته يقول: "أعوذ بالله من النار ... " الحديث. وعند ابن ماجه والبغويّ من رواية أبي جَنَاب الكلبيّ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه قال: كنت جالسًا عند النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، إذ جاء أعرابيّ، فقال: إن لي أخًا وجعًا، قال: وما وجعه؟ قال: به لمَمٌ ... " الحديث. وعند البغويّ من طريق عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه، عن جدّه: "كنت عند النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فجيء بالحسن، فبال عليه ... " الحديث. وعند الدارميّ، والحاكم، من طريق قيس بن

مسلم، عن ابن أبي ليلى، عن أبيه: "شهِدت فتح خيبر، فانهزم المشركون، فوقعنا في رحالهم ... " الحديث (¬1). تفرّد به الأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (1352) و (3549)، وهما الحديثان المذكوران آنفًا. (يَسْمُرُ) بضم الميم: أي يتحدّث ليلًا، يقال: سمر يسمُر، من باب نصر ينصر، سَمْرًا وَسُمُورًا: أي لم يَنَم، والسَّمَر محرّكةَ: المسامرة، وهو الحديث بالليل (¬2) (مَعَ عَلِيٍّ) -رضي الله عنه- (فَكَانَ) أي عليّ -رضي الله عنه- (يَلْبَسُ ثِيَابَ الصَّيْفِ في الشِّتَاءِ) أي الثياب التي تُعَدّ عادةً للبسها في وقت الشتاء، يعني أيام شدّة البرد (وَثيَابَ الشِّتَاءِ في الصَّيْفِ، فَقُلْنَا) أي قال القوم الذين حضروا سمر أبي ليلى مع علي رضي الله عنهما لأبي ليلى (لَوْ سَأَلْتَهُ) أي سألت عليّا -رضي الله عنه- عن سبب مخالفته للناس في اللباس، حيث إنهم لا يلبسون ثياب الشتاء إلا في الشتاء، وثياب الصيف إلا في الصيف؛ إذ لو لم يفعلوا ذلك لتضرَروا، وأما هو فيلبس كيف شاء، ولا يحصل له بذلك ضرر (فَقَالَ) معطوف على مقدّر: أي فسأل أَبو ليلى عليّا رضي الله عنهما عن ذلك، فقال عليّ (إِنَّ) بكسر الهمزة؛ لوقوعها محكيّة بالقول (رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ إِلَيَّ) أي أرسل إلي شخصًا يُحضرني لديه، وسيأتي أن المرسل هو سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- (وَأَنَا أَرْمَدُ الْعَيْنِ) اسم تفضيل من رَمِدت العين بالكسر ترمد، من باب تعب رمَدًا: إذا هاجت، والرمد بفتحتين: وجع العين، وانتفاخها (¬3) (يَوْمَ خَيْبَرَ) منصوب على الظرفيّة لـ "بعث" (قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنِّي أَرْمَدُ الْعَيْنِ، فَتَفَلَ في عَيْنِي) بفتح التاء والفاء: أي نفخ مع أدنى بزاق، قال ابن الأثير رحمه الله: التفل: نفخ معه أدنى بُزاق، وهو أكثر من النفث. انتهى (¬4) وقال الفيّوميّ رحمه الله: تفَلَ تفْلًا من بابي ضرب ¬

_ (¬1) راجع "الإصابة" 7/ 292 - 293. و"تهذيب التهذيب" 4/ 579. (¬2) راجع "لسان العرب" 4/ 378 - 379. (¬3) راجع "لسان العرب" 3/ 185. (¬4) "النهاية" 1/ 192.

وقتل من البزاق، يقال: بَزَق، ثم تَفَلَ، ثم نَفَث. انتهى (¬1). وأخرج الحاكم عن علي -رضي الله عنه- قال: "فوضع رأسي في حَجْره، ثم بزق في ألية (¬2) راحته، فدَلَك بها عيني". وأخرج البيهقي في "الدلائل" عن بريدة -رضي الله عنه-: "فما وَجِعَها عليّ حتى مضى لسبيله"، أي مات. وعند الطبراني من حديث علي -رضي الله عنه-: "فما رَمِدتُّ، ولا صُدِعتُ مُذ دفع النبي صلى الله عليه وسلم إليّ الراية يوم خيبر". وله من وجه آخر: "كما اشتكيتها حتى الساعة". (ثُمَّ قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (اللَّهُمَّ أَذْهِبْ) بفتح أوله، وكسر ثالثه، من الإذهاب رباعيّا (عَنْهُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ) أي ضررهما، فلا يُحسّ بشيء من أذاهما (قَالَ) عليّ -رضي الله عنه- (فما وَجَدْتُ حَرًّا وَلَا بَرْدًا) أي ضررهما مع وجودهما؛ استجابة لدعوته -صلى الله عليه وسلم- (بَعْدَ يَوْمِئِذٍ) أي بعد يوم دعاء النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لي بهذا الدعاء، حيث استجاب الله سبحانه وتعالى دعاءه. (وَقَالَ) - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر أيضًا (لَأَبْعَثَنَّ رَجُلًا) وفي رواية الشيخين: "لأعطينّ الراية غدًا"، وعند أحمد، والنسائي، وابن حبان، والحاكم من حديث بُريدة بن الْحُصَيب -رضي الله عنه- قال: لما كان يوم خيبر أخذ أَبو بكر اللواء، فرجع ولم يُفتَح له، فلما كان الغد أخذه عمر فرجع ولم يفتح له، وقُتِل محمود بن مسلمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأدفعن لوائي غدًا إلى رجل ... " الحديث، وعند ابن إسحاق نحوه من وجه آخر، وفي الباب عن أكثر من عشرة من الصحابة -رضي الله عنهم- سردهم الحاكم في "الإكليل"، وأبو نعيم، والبيهقي في "الدلائل". قاله في "الفتح" (¬3). [تنبيه]: "الراية" بمعنى اللواء، وهو العَلَم الذي في الحرب يُعرَف به موضع صاحب الجيش، وقد يحمله أمير الجيش، وقد يدفعه لمقدم العسكر، وقد صرح جماعة ¬

_ (¬1) "المصباح" 1/ 76. (¬2) أَلْيَة راحته: أي باطن كفّه. (¬3) "الفتح" 7/ 595.

من أهل اللغة بترادفهما، لكن روى أحمد، والترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "كانت راية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سوداء، ولواؤه أبيض"، ومثله عند الطبراني عن بُريدة -رضي الله عنه-، وعند ابن عدي عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، وزاد مكتوبًا فيه: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وهو ظاهر في التغاير، فلعل التفرقة بينهما عرفية. وقد ذكر ابن إسحاق، وكذا أَبو الأسود، عن عروة: أن أول ما وُجدت الرايات يوم خيبر، وما كانوا يعرفون قبل ذلك إلا الألوية. قاله في "الفتح" (¬1). (يُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ الله وَرَسُولُهُ، لَيْسَ بِفَرَّارٍ) بفتح الفاء، وتشديد الراء، وفي حديث بُريدة: "لا يَرجع حتى يفتح الله عليه" (فَتَشَرَّفَ لَهُ النَّاسُ) بتشديد الراء: أي تطلّعوا، وتعرّضوا للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- ليبعثهم لفتح خيبر، وفي نسخة: "فتشَوّف" بالواو المشدّدة بدل الراء، وهو بمعناه. وفي حديث سلمة بن الأكوع عند البخاريّ: "فنحن نرجوها"، وفي حديث سهل بن سعد عنده: "فبات الناس يَدُوكُون ليلتهم أَيُّهم يعطاها". وقوله: "يدوكون" بمهملة مضمومة: أي باتوا في اختلاط واختلاف، والدَّوْكة بالكاف: الاختلاط. وعند مسلم من حديث أبي هريرة: "أن عمر قال: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ"، وفي حديث بُريدة: "فما منا رجل له منزلة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا وهو يرجو أن يكون ذلك الرجل، حتى تطاولتُ أنالها، فدعا عليّا، وهو يشتكي عينه، فمسحها، ثم دفع إليه اللواء". (فَبَعَثَ إِلَى عَليٍّ) -رضي الله عنه-، وعند مسلم من طريق إياس ابن سلمة عن أبيه، قال: "فأرسلني إلى عليّ، قال: فجئت به أقوده، أرمد، فبزق في عينه فبرأ". فبيّن بهذه الرواية أن الذي أرسله النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ليأتي له بعليّ هو سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه-. [تنبيه]: ذكر في "صحيح البخاريّ" قصّة عليّ -رضي الله عنه- في هذه الواقعة، فقال: كان عليّ -رضي الله عنه- تخلّف عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في خيبر، وكان رمدًا، فقال: أنا أتخلّف عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فلحق به. وقوله: "فلحق به" يحتمل أن يكون لحق به قبل أن يصل إلى خيبر، ويحتمل أن ¬

_ (¬1) "الفتح" 7/ 595.

يكون لحق به بعد أن وصل إليها. قاله في "الفتح" (¬1). (فَأَعْطَاهَا إِيَّاهُ) الضمير الأول للراية، وإن لم يجر لها ذكر، بدليل الروايات الأخر، ففي حديث سهل: "فأعطاه الراية"، والضمير الثاني لعليّ: أي أعطى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- الراية لعليّ -رضي الله عنه-. وفي حديث أبي سعيد عند أحمد: "فانطلق حتى فتح الله عليه خيبر وفَدَك، وجاء بعَجْوَتهما". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث علي -رضي الله عنه- هذا صحيح، إلا جملة الدعاء. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده محمد بن أبي ليلى، قال البوصيريّ: ضعيف الحفظ، لا يحتجّ بما ينفرد به؟. [قلت]: إنما صحّ لشواهده، فقد أخرج الشيخان وغيرهما قصة الرَّمَد، وقوله: "لأبعثنّ رجلًا يحب الله الخ" من حديث سهل بن سعد الساعديّ -رضي الله عنه-، من طرق متعدّدة، لكن بلفظ: "لأعطين الراية الخ". ولم أجد شاهدًا صحيحًا لقصّة الدعاء، وقد حسّن الحديث كلّه الشيخ الألباني، وذكر أنه حسنٌ بطريقين أخريين في "المعجم الأوسط" للطبرانيّ، لكن الذي يظهر لي أنهما لا يصلحان للاستشهاد بهما، ففي أحدهما أيوب بن إبراهيم الثقفيّ، وقد تفرّد به، وهو مجهول، لم يرو عنه إلا ابن أخيه هاشم بن مخلد، وقال في "الميزان" مجهول (¬2)، فقول الحافظ الهيثميّ في "مجمع الزوائد"9/ 122 - : إسناده حسن غير حسن. والثاني تفرّد حسن بن حسين، وهو ضعيف، وأيضا كثير من رجاله لم يُعرفوا، ¬

_ (¬1) "الفتح" 7/ 594 - 595. (¬2) راجع "ميزان الاعتدال" 1/ 281.

راجع "مجمع البحرين في زوائد المعجمين" 6/ 274 - 276 بتحقيق عبد القدّوس بن محمد نذير. والحاصل أن الحديث صحيح، سوى جملة الدعاء؛ لتفرّد ابن أبي ليلى بها. والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (14/ 117) بهذا السند فقط، ولم يخرجه غيره من أصحاب الأصول، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (1/ 99 و 133) و (البزّار) في "مسنده" (496) و (النسائيّ) في "الخصائص" (14) و (151) و (ابن أبي شيبة) (12/ 62 و 63 و 14/ 464) و (الحاكم) في "المستدرك" (3/ 37) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (778) و (1117)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده (¬1): 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وهو واضح. 2 - (ومنها): معجزة للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- حيث مسح عين عليّ -رضي الله عنه-، فذهب رمدها في الوقت، ثم لم تُصب بعد ذلك بأذى. 3 - (ومنها): أن فيه أيضًا علمًا من أعلام النبوّة حيث أخبر -صلى الله عليه وسلم- بأن الله تعالى سيفتح حصن خيبر على يدي عليّ -رضي الله عنه-، فوقع كما قال. 4 - (ومنها): أن فيه بيان أن خيبر فتحت عَنْوة، وقد اختلف العلماء هل كان عنوة أو صلحا، وقد وقع في حديث أنس -رضي الله عنه- التصريح بأنه كان عنوة، وبه جزم ابن عبد البر، ورَدّ على من قال فُتحت صلحًا، قال: وإنما دخلت الشبهة على من قال: فُتحت صلحًا ¬

_ (¬1) المراد فوائد الحديث بسياقاته المذكورة عند المصنّف، أو في الشرح، لا خصوص سياق المصنّف، فافهم.

بالحِصْنين اللذين أسلمهما أهلهما لِحَقْن دمائهم، وهو ضرب من الصلح، لكن لم يقع ذلك إلا بحصار وقتال. انتهى. قال الحافظ: والذي يظهر أن الشبهة في ذلك قول ابن عمر: "إن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر، فغَلَب على النخل، وألجأهم إلى القصر، فصالحوه على أن يَجْلُوا منها، وله الصفراء والبيضاء، والحلقة، ولهم ما حَمَلَت ركابهم، على أن لا يكتموا، ولا يُغَيِّبوا ... " الحديث، وفي آخره: "فسبى نساءهم وذرايهم، وقسم أموالهم للنكث الذي نكثوا، وأراد أن يُجليهم، فقالوا: دعنا في هذه الأرض نصلحها ... " الحديث، أخرجه أَبو داود، والبيهقي، وغيرهما، وكذلك أخرجه أَبو الأسود في "المغازي" عن عروة، فعلى هذا كان قد وقع الصلح، ثم حَدَثَ منهم النقض، فزال أثر الصلح، ثم مَنَّ عليهم بترك القتل وإبقائهم عُمّالًا، بالأرض، ليس لهم فيها ملك، ولذلك أجلاهم عمر -رضي الله عنه-، فلو كانوا صولحوا على أرضهم، لم يُجْلَوا منها. انتهى (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 118 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا المعَلَّى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الجنَّةِ، وَأَبُوهُمَا خَيْرٌ مِنْهُمَا"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْوَاسِطِيُّ) هو: محمد بن موسى بن عمران القطّان، أَبو جعفر الواسطيّ، ابن عمة أحمد بن سنان، صدوق [11]. روى عن يزيد بن هارون، وأبي أحمد الزبيري، وأبي عامر العقدي، وأبي سفيان الحميري، ووهب بن جرير بن حازم، ومعلى بن عبد الرحمن الواسطي، وغيرهم. ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 7/ 596 "كتاب المغازي" الحديث (4209 - 4210).

وروى عنه البخاري، ومسلم، وابن ماجه، وأبو إسماعيل السلمي، ومحمد بن عبد الله الحضرمي، وعبد الله بن الدّورقي، وغيرهم. ذكره ابن حبان في الثقات. قال في "الزهرة" روى عنه البخاري أربعة أحاديث، ومسلم حديثين، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (118) و (3086) حديث: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في بيض النعام يصيبه المحرم ثمنه". 2 - (المعَلَّى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الواسطيّ، متّهم بالوضع، وقد رُمي بالرفض [9]. روى عن جرير بن حازم، وابن أبي ذئب، والأعمش، والثوريّ، ومبارك بن فَضَالة، وفضيل بن مرزوق، وجماعة. وروى عنه محمد بن موسى القطان، وإبراهيم بن عبد الرحيم دَنُوقا، وإسحاق ابن شاهين الواسطي، ومحمد بن إسحاق الصغاني، وغيرهم. قال أَبو داود: سمعت يحيى بن معين، وسئل عنه، فقال: أحسن أحواله عندي أنه قيل له عند موته: ألا تستغفر الله تعالى، فقال: ألا أرجو أن يغفر لي، وقد وضعت في فضل علي سبعين حديثًا. وقال عبد الله بن علي بن المديني عن أبيه: ضعيف الحديث، وذهب إلى أنه كان يضع الحديث، قال: ورميت بحديثه، وضعّفه جدّا، وقال في موضع آخر: أخذ أحاديث من حديث أبي الهيثم، عن الليث، وذهب إلى أنه كان يكذب. وقال أَبو زرعة: ذاهب الحديث. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: ضعيف الحديث، كأن حديثه لا أصل له، وقال مرة: متروك الحديث. وقال ابن حبان: يروي عن عبد الحميد بن جعفر المقلوبات، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد. وقال الدارقطني: ضعيف كذاب. وقال محمد بن صاعد: كان الدقيقي يُثني عليه. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. وروى له عدة أحاديث، روى له ابن خزيمة في "الصيام" من "صحيحه" حديثًا، وقال: ليس هذا مما يُحتج به، ولولا أن له أصلا من طريق غيره لم أستجز أن نُبوِّبَ له بابًا. انتهى.

تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط. 3 - (ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ) هو: محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب، واسمه هشام بن شعبة بن عبد الله بن أبي قَيس بن عبد وُدّ بن نصر بن مالك بن حِسْل ابن عامر بن لؤي القرشيّ العامريّ، أَبو الحارث المدنيّ، ثقة فقيه فاضلٌ [7]. روى عن أخيه المغيرة، وخاله الحارث بن عبد الرحمن القرشي، وعبد الله بن السائب بن يزيد، وعكرمة مولى ابن عباس، وخلق كثير. وروى عنه الثوري، ومعمر، وهما من أقرانه، وسعد بن إبراهيم، والوليد بن مسلم، وعبد الله بن نمير، وعبد الله بن المبارك، وخلق كثير. قال أَبو داود: سمعت أحمد يقول: كان ابن أبي ذئب يُشَبَّه بسعيد بن المسيب، قيل لأحمد: خَلّف مثله ببلاده؟ قال: لا ولا بغيرها. قال: وسمعت أحمد يقول: ابن أبي ذئب كان يُعَدّ صدوقًا، أفضل من مالك، إلا أن مالكا أشد تنقيةً للرجال منه، كان ابن أبي ذئب لا يبالي عمن يحدث. وقال البغوي عن أحمد: كان رجلًا صالحًا، يأمر بالمعروف، وكان يُشَبّه بسعيد. وقال أحمد بن سعيد بن أبي مريم عن ابن معين: ابن أبي ذئب ثقة، وكل من روى عنه ابن أبي ذئب ثقة، إلا أبا جابر البياضي، وكل من روى عنه مالك ثقة، إلا عبد الكريم أبا أمية. وقال أَبو داود: سمعت أحمد بن صالح يقول: شيوخ ابن أبي ذئب كلهم ثقات، إلا البياضي، وقال يعقوب بن شيبة: ابن أبي ذئب ثقة صدوقٌ، غير أن روايته عن الزهري خاصة تَكَلَّم فيها بعضهم بالاضطراب. قال: وسمعت أحمد ويحيى يتناظران في ابن أبي ذئب، وعبد الله بن جعفر الْمَخْرَميّ، فقدم أحمد المخرمي على ابن أبي ذئب، فقال يحيى: المخرمي شيخ، وأَيْشٍ رَوَى من الحديث؟ وأطرى ابن أبي ذئب، وقدمه تقديمًا كثيرًا، قال: فقلت لِعَليّ بعدُ: أيهما أحب إليك؟ قال: ابن أبي ذئب، قال: وسألت عليا عن سماعه من الزهري، فقال: هو عرض، قلت: وإن كان عرضا كيف هو؟ قال: مقارب. وقال يونس بن عبد الأعلى عن الشافعي: ما فاتني أحد، فأَسِفت عليه ما أَسِفتُ

على الليث وابن أبي ذئب. وقال النسائي: ثقة. وقال أحمد بن علي الأبار: سألت مصعبًا الزبيري عن ابن أبي ذئب، وقلت له: حَدَّثوني عن أبي عاصم أنه كان قدريا، فقال: معاذ الله، إنما كان في زمن المهدي قد أخذوا أهل القدر، فجاء قوم، فجلسوا إليه، فاعتصموا به، فقال قوم: إنما جلسوا إليه لأنه يرى القدر. وقال الواقدي وغيره: وُلد سنة ثمانين عامَ الْحُجَاف. وقال إبراهيم بن المنذر عن ابن أبي فُدَيك: مات سنة ثمان وخمسين ومائة. وقال أَبو نعيم وغيره: مات سنة تسع وخمسين. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (27) حديثًا. 4 - (نَافِعٌ) مولى ابن عمر المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] تقدّم في 11/ 99. 5 - (ابن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما، تقدّم في 1/ 4، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنِ) عبد الله (بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ) ابنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- (سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الجنَّةِ) "الشباب" بفتح الشين المعجمة، وتخفيف الموحّدة: جمع شابّ، وهو من بلغ إلى ثلاثين. قيل: إضافة الشباب إلى "أهل الجنّة" بيانيّة، فإن أهل الجنّة كلهم شباب، فكأنه قيل: سيّدا أهل الجنّة، وحينئذ لا بدّ من اعتبار الخصوص، أي ما سوى الأنبياء، والخلفاء الراشدين. وقيل: بل المراد أنهما سيّدا كلّ من مات شابّا، ودخل الجنّة، ولا يلزم أنهما ماتا شابّين، حتّى يَرِد أنه لا يصحّ، فإنهما ماتا شيخين. ورُدّ بأنه لا وجه حينئذ لتخصيص فضلهما على من مات شابّا، بل هما أفضل من كثير ممن مات شيخًا. وقد يقال: وجه التخصيص عدّهما ممن مات شابّا، فانظر إلى عدم بلوغهما عند الموت أقصى سنّ الشيخوخة. ولا يجوز أن يقال: عدّهما شابّين نظرًا إلى شبابهما حين الخطاب، لكونهما كانا صغيرين حينئذ، لا شابّين. ذكره السنديّ رحمه الله (¬1). ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 84.

(وَأَبُوهُمَا) عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- (خَيْرٌ مِنْهُمَا). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده المعلّى بن عبد الرحمن، رافضيّ خبيث كذّاب؟. [قلت]: الحديث ثابت مرويّ من حديث عدد من الصحابة، منهم أَبو سعيد الخدريّ، وحذيفة بن اليمان، وعليّ بن أبي طالب، وعمر بن الخطّاب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، والبراء بن عازب، وأبو هريرة، وجابر بن عبد الله -رضي الله عنهم-. فأما حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- رواه عبد الرحمن بن أبي نُعم عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة"، أخرجه الترمذيّ 4/ 339 والحاكم 3/ 166 - 167 والطبرانيّ 1/ 123/ 1 وأبو نعيم في "الحلية" 5/ 71 والخطيب في "التاريخ" 4/ 207 و 11/ 90 وأحمد 3/ 3 و 62 و 64 و 80 و 82 وابن عساكر 18 - 47 - 1 من طرق عنه، وقال الترمذيّ: حديث حسن صحيح، وهو كما قال. وأما حديث حذيفة -رضي الله عنه-، فأخرجه أحمد 5/ 391 والترمذيّ 2/ 307 وابن حبّان في "صحيحه" (2229) من طريق إسرائيل، عن ميسرة النهديّ، عن المنهال بن عمرو، عن زِرّ بن حبيش، عنه، قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فصلّيت معه المغرب، ثم قام يصلي حتى صلّى العشاء، ثم خرج، فاتّبعته، فقال: "عَرَض لي ملك، استأذن ربه أن يسلّم عليّ، ويبشّرني في أن الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة"، وزاد أحمد، والترمذيّ: "وأن فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة"، وقال الترمذيّ: حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث إسرائيل. قال الشيخ الألباني رحمه الله: وهذا إسناد صحيح، ورجاله ثقات رجال الصحيح، غير ميسرة، وهو ابن حبيب، وهو ثقة، وصحّح الحاكم الزيادة، ووافقه

الذهبيّ. انتهى. وأخرجه أحمد أيضًا من طريق أسود بن عامر، عن إسرائيل، عن ابن أبي السفر، عن الشعبيّ، عنه قال، فذكر نحوه دون الزيادة، وقال: فقال حذيفة: فاستغفر لي ولأمي، قال: "غفر الله لك يا حذيفة، ولأمك". وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، واسم أبي السفر عبد الله، قاله الشيخ الألبانيّ رحمه الله. وأما حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-، فأخرجه الحاكم في "المستدرك" 3/ 167 من طريق عليّ بن عاصم، عن زرّ، عن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره، وفيه الزيادة: "وأبوهما خير منهما". وقال صحيح بهذه الزيادة، ووافقه الذهبيّ (¬1). وأما حديث البراء -رضي الله عنه-، فأخرجه الطبرانيّ في "الأوسط" من طريق شريك، عن أشعث بن سوّار، عن عديّ بن ثابت، عنه، قال الحافظ الهيثميّ في "المجمع": وإسناده حسن. انتهى لكن شريك النخعي مختلط، وأشعث ضعيف. وأما حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- فأخرجه الطبرانيّ من طريق محمد بن مروان الذهليّ، عن أبي حازم، عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، فذكره، وفي أوله زيادة: "إن ملكًا من السماء لم يكن زارني، فاستأذن الله عز وجل في زيارتي، فبشّرني أن الحسن ... " الحديث، وإسناده حسن رجاله كلهم ثقات، غير الذهليّ هذا، فروى عنه أَبو أحمد الزبيريّ، وأبو نعيم، ووثقه ابن حبّان، وقال في "التقريب": مقبول. وبقية الطرق ضعاف، ويكفي ما سبق، وقد أجاد الشيخ الألبانيّ رحمه الله حيث أخرج تلك الطرق كلها، وتكلّم عليها، فأفاد. ثم قال: وبالجملة فالحديث صحيح بلا ريب، بل هو متواتر كما نقله المناويّ، ¬

_ (¬1) قال الشيخ الألبانيّ في "الصحيحة" 2/ 445: إنما هو حسن، للخلاف المعروف في عاصم، وهو ابن بهدلة. انتهى.

وكذلك الزيادات التي سبق تخريجها، فهي صحيحة ثابتة. انتهى كلامه (¬1)، وهو بحث نفيس، إلا أن قوله: وهو متواتر محلّ نظر، والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (14/ 118) بهذا السند فقط، ولم يخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (3/ 167) من هذا الوجه، وبقيّة التخريجات قد سبقت في المسألة الماضية، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 119 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَسُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى، قَالُوا: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حُبْشِيِّ بْنِ جُنَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "عَلِيٌّ مِنِّي، وَأَنَا مِنْهُ، وَلَا يُؤَدِّي عَنِّي إِلَّا عَلِيٌّ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) الكوفيّ الحافظ الثبت [10] 1/ 1. 2 - (سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ) الحدثانيّ الْهَرويّ الأصل، صدوق، عمي، فتلقّن ما ليس من حديثه، من قُدماء [10] 4/ 30. 3 - (إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى) الفزاريّ، أَبو محمد الكوفيّ، نسيب السّدّيّ، صدوق يخطىء، ورُمي بالتشيّع [10] 4/ 30. 4 - (شَرِيكٌ) بن عبد الله النخعيّ القاضي الكوفيّ، صدوق يخطىء كثيرًا، وتغير حفظه منذ ولي القضاء [8] 1/ 1. 5 - (أَبو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله السبيعيّ الكوفيّ، ثقة عابد اختلط بآخره، ويدلّس [3] 7/ 45. ¬

_ (¬1) راجع "الصحيحة" 2/ 438 - 448 رقم (796).

6 - (حُبْشِيِّ) -بضم الحاء المهملة، وسكون الموحّدة، ثم معجمة، بعدها ياء ثقيلة- اسم بلفظ النسب (ابْنِ جُنَادَةَ) -بضم الجيم، وتخفيف النون- ابن نصر بن أمامة بن الحارث بن مُعيط بن عمرو بن جَنْدَل بن مُرّة بن صَعْصَعَة السَّلُوليّ -بفتح المهملة، وتخفيف اللام المضمومة- نسبة إلى سلول، وهي أم بني مرّة بن صعصعة، صحابيّ، شهد حجة الوداع، ثم نزل الكوفة، يُكنى أبا الْجَنُوب -بفتح، فضم-. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه أَبو إسحاق، والشعبي، قال البخاري: إسناده فيه نظر. وقال ابن عبد البر: روى عنه ابنه عبد الرحمن. وقال العسكري: شهد مع علي مشاهده. أخرج له الترمذيّ، والنسائيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ حُبْشِيِّ بْنِ جُنَادَةَ) السّلوليّ -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "عَلِيٌّ مِنِّي، وَأَنا مِنْهُ) أي بيننا قرابة كالجزئيّة، قاله السنديّ، وقال القاري: أي في النسب، والمصاهرة، والمسابقة، والمحبّة، وغير ذلك، من المزايا، لا في محض القرابة، وإلا فغيره مشارك له فيها. انتهى (¬1). (وَلَا يُؤَدِّي عَنِّي إِلَّا عَلِيٌّ) أي نبذ العهد الذي بينه وبين قريش، قال التوربشتيّ رحمه الله: كان من دأب العرب أنه إذا كان بينهم مقاولة في نقض، وإبرام، وصلح، ونبذ عهد، أن لا يؤدّيه إلا سيّد القوم، أو من يليه من ذوي قرابته القريبة، ولا يقبلون ممن سواهم، فلما كان العام الذي أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر -رضي الله عنه- أن يحُجّ بالناس، رأى بعد خروجه أن يبعث عليّا -رضي الله عنه- خلفه لينبذ إلى المشركين عهدهم، ويقرأ عليهم "سورة براءة"، وفيها: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبه:28] إلى غير ذلك من الأحكام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) "المرقاة" 10/ 461 - 462.

هذا تكريمًا لعليّ -رضي الله عنه-، واعتذارًا إلى أبي بكر -رضي الله عنه- في مقامه هنالك، ولذا قال الصدّيق لعليّ رضي الله عنهما حين لحقه: أمير أو مأمور؟ فقال: بل مأمور. قال القاري: وفيه إيماء إلى أن إمارته إنما تكون متأخّرة عن خلافة الصدّيق، كما لا يخفى على ذوي التحقيق. انتهى (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث حُبْشيّ بن جُنادة -رضي الله عنه- هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده شريك بن عبد الله النخعيّ، وقد مرّ أنه يخطىء كثيرًا، وتغير بآخره، وفيه أَبو إسحاق مدلّسٌ، وقد عنعنه؟. [قلت]: أما بالنسبة لشريك، فإنه لم ينفرد به، بل تابعه عليه إسرائيل بن يونس، عند أحمد، والترمذيّ، وغيرهما. وأما بالنسبة لتدليس أبي إسحاق، فقد صرّح أَبو إسحاق بسماعه من حبشيّ -رضي الله عنه-، ففي "مسند أحمد" 4/ 164 رقم (17506): قال شريك: قلت لأبي إسحاق: أين سمعته منه؟ قال: وقف علينا على فرس له في مجلسنا في جَبّانة السَّبِيع. انتهى. والحاصل أن الحديث صحيح، فقول محقّق "المسند": إسناده ضعيف، ومتنه منكر، فيه نظر لا يخفى، والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنف) هنا (14/ 19) بهذا الإسناد، ولم يخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (4/ 164) رقم (17505 و 17506 و 17510 و 17511 و 17512) و (النسائيّ) في "الفضائل" (8147) و (الطبرانيّ) في "الكبير" (3512 و 3513)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو ¬

_ (¬1) راجع "المرقاة" 10/ 465.

حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 120 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله بْنُ مُوسَى، أَنْبَأَنَا الْعَلَاءُ ابْنُ صَالِحٍ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: أَنَا عَبْدُ الله، وَأَخُو رَسُولِه -صلى الله عليه وسلم-، وَأَنَا الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ، لَا يَقُولهُا بَعْدِيَ إِلَّا كَذَّابٌ، صَلَّيْتُ قَبْلَ النَّاسِ بِسَبْعِ سِنِينَ). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الرَّازِيُّ) صدوق [11] 9/ 73. 2 - (عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى) بن أبي المختار باذام العبسيّ الكوفيّ، ثقة يتشيع [9] 9/ 70. 3 - (الْعَلَاءُ بْنُ صَالِحٍ) التيميّ، ويقال: الأسديّ الكوفيّ -وسماه أَبو داود في روايته علي بن صالح وهو وَهَمٌ- صدوق له أوهام [7]. رَوَى عن المنهال بن عمرو، وعديّ بن ثابت، وسلمة بن كُهيل، والْحَكَم بن عتيبة، ونَهْشل، وغيرهم، وروى عنه أَبو أحمد الزبيري، وعبد الله بن نمير، وعلي بن هاشم بن الْبَرِيد، وأبو نعيم، وعبيد الله بن موسى، وغيرهم. قال ابن معين، وأبو داود: ثقة. وقال ابن معين أيضًا، وأبو حاتم: لا بأس به. وقال ابن المديني: رَوَى أحاديث مناكير. وقال البخاري: لا يتابع، ووثقه يعقوب بن سفيان، وابن نمير، والعجلي، وقال ابن خزيمة: شيخ. وقال يعقوب بن شيبه: مشهور. وذكره ابن حبان في "الثقات". له عند الترمذيّ حديث وائل في الصلاة، وعند النسائيّ حديث ابن عباس في اتخاذ ذي الروح غَرَضًا، وعند المصنّف هذا الحديث فقط. 4 - (الْمِنْهَال) بن عمرو الأسديّ مولاهم الكوفيّ، صدوق ربما وهم [5]. رَوَى عن أنس، إن كان محفوظًا، وأرسل عن يعلى بن مرة، وزر بن حبيش،

وعبد الله بن الحارث المصري، وزاذان، وسُويد بن غَفَلة، ومحمد ابن الحنفية، وغيرهم. وعنه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، والأعمش، وربيعة بن عُتبة الكناني، والحجاج بن أرطاة، ومنصور، وغيرهم. قال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: ترك شعبة المنهال بن عمرو على عَمْد. قال ابن أبي حاتم: لأنه سمع في داره صوت قراءة بالتطريب. وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: أَبو بشر أحب إلي من المنهال. قلت له: أحبّ إليك من المنهال؟ قال: نعم شديدًا، أَبو بشر أوثق إلا أن المنهال أسنّ. وقال ابن معين، والنسائي: ثقة. وقال وهب بن جرير عن شعبة: أتيت منزل المنهال، فسمعت منه صوت الطنبور، فرجعت ولم أسأله، قلت: فَهَلا سألته عسى كان لا يعلم. وقال ابن المديني عن يحيى بن سعيد: أَتَى شعبة المنهال بن عمرو، فسمع صوتًا فتركه. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا مما عُدّ على شعبة من الغلوّ في التشدّد، فإن المنهال رجل صالح، مما لا يُشكّ في ذلك، ولعله لا يكون حاضرًا في البيت، فعدم تثبّت شعبة في ذلك من التشدّد بمكان، فلا ينبغي الالتفات إليه في هذا. والله تعالى أعلم. وقال العجلي: كوفي ثقة. وقال الدارقطني: صدوق. وقال جرير عن مغيرة: كان حسن الصوت، وكان له لحن يقال له: وزن سبعة. وقال الغلابي: كان ابن معين يَضَعُ من شأن المنهال بن عمرو. وقال الجوزجاني سيء المذهب. وقد جَرَى حديثه. وقال ابن أبي خيثمة: حدثنا سليمان بن أبي شيخ، حدثني محمد بن عمر الحنفي، عن إبراهيم بن عبيد الطنافسي، قال: وَقَفَ المغيرة صاحب إبراهيم على يزيد بن أبي زياد، فقال: ألا تَعْجَب من هذا الأعمش الأحمق، إني نهيته أن يَرْوِي عن المنهال بن عمرو، وعن عَبَاية، ففارقني على أن لا يفعل، ثم هو يروي عنهما، نَشَدتك بالله تعالى، هل كانت تجوز شهادة المنهال على درهمين؟ قال: اللهم لا، قال: وكذا عباية. وذكره ابن حبان في "الثقات". قال الحافظ: محمد بن عمر الحنفي راوي الحكاية فيه نظر.

وقال الحاكم: المنهال بن عمرو غَمَزُهُ يحيى القطان. وقال أَبو الحسن بن القطان: كان أَبو محمد بن حزم يضعف المنهال، ورَدَّ من روايته حديث البراء، وليس على المنهال حَرْجٌ فيما حَكَى ابن أبي حاتم، فذكر حكايته المتقدّمة، قال: فإن هذا ليس بجرح إلا إن تجاوز إلى حد تحريم، ولم يصح ذلك عنه، وجرحه بهذا تعسف ظاهر، وقد وثقه ابن معين، والعجلي، وغيرهما. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الحافظ أَبو الحسن بن القطّان هو الحكم الوسط، والإنصاف في المنهال، فتمسّك به، والله تعالى أعلم. أخرج له الجماعة، إلا مسلمًا، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث فقط برقم 120 و 339 و 615 و 971 و 1548 و 1549 و 2112 و 3525 و 4021. 5 - (عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ الله) الأسديّ الكوفيّ، ضعيف [3]. رَوَى عن علي -رضي الله عنه-، وعنه المنهال بن عمرو، قال البخاري: فيه نظر، وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سعد: له أحاديث، وقال علي بن المديني: ضعيف الحديث. وقال ابن الجوزي: ضَرَبَ ابن حنبل على حديثه عن علي: "أنا الصديق الأكبر"، وقال: هو منكر. وقال ابن حزم: وهو مجهول. تفرّد به النسائي في خصائص علي -رضي الله عنه-، والمصنف أخرجا له هذا الحديث فقط. 6 - (عَلِيٌّ) رضي الله تعالى عنه تقدم في 2/ 20. شرح الحديث: (عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ الله) الأسديّ، أنه (قَالَ: قَالَ عَليٌّ) -رضي الله عنه- (أَنَا عَبْدُ الله) أي من الذين أخلصوا عبادته، ووُفّقَوا لها، وهذا من جملة المدح، ومدح الإنسان نفسه لإظهار منة الله تعالى عليه، أو لداع آخر شرعيٍّ جائز (وَأَخُو رَسُولِه -صلى الله عليه وسلم-) أي أخوّة الإسلام، وأما في النسب فهو ابن عمه (وَأَنَا الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ) أي البليغ في الصدق؛ إذ لم يتوقّف في تصديق الحقّ أصلًا، ولا يكون عادةً إلا ممن غلب عليه الصدقُ، ولذلك سُمّي أَبو بكر -رضي الله عنه- بالصدّيق لمبادته إلى تصديق النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فيما أتى به، فكأنه أراد بهذا الكلام أنه

أسبق إيمانًا من أبي بكر -رضي الله عنه-، وفي "الإصابة" في ترجمة عليّ -رضي الله عنه-: هو أول الناس إسلامًا في قول كثير من أهل العلم (لَا يَقُولهُا) أي هذه الكلمة، أعني الصدّيق الأكبر (بَعْدِي إِلَّا كَذَّابٌ) أي لأنه لم يبق بعده أحد ممن له فضل مثله -رضي الله عنه- (صَلَّيْتُ قَبْلَ النَّاسِ بِسَبْعِ سِنِينَ) قال السنديّ: ولعله أراد به أنه أسلم صغيرًا، وصلى في سنّ الصغر، وكلّ من أسلم من معاصريه ما أسلم في سنّه، بل أقلّ ما تأخّر معاصروه عن سنه سبع سنين، فصار كأنه صلى قبلهم سبع سنين، وهم تأخّروا عنه بهذا القدر، ولم يُرد أنه كان سبع سنين مؤمنًا مصلّيًا، ولم يكن غيره في هذه المدّة مؤمنًا أو مصلّيًا، ثم آمنوا وصلَّوا، ويحتمل أنه قال ذلك حسبما اطّلع عليه، وفيه بُعْد لا يخفى. والله تعالى أعلم، انتهى كلام السنديّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث عليّ -رضي الله عنه- هذا إسناده ضعيف، ومتنه باطلٌ، وإن قال البوصيريّ في "مصباح الزجاجة": وهذا إسناده صحيح رجاله ثقات، رواه أَبو بكر بن أبي شيبة في "مسنده" من طريق أبي سليمان الجهنيّ عن عليّ -رضي الله عنه-، فذكره، وزاد: "لا يقولها قبلي"، ورواه محمد بن يحيى بن أبي عمر في "مسنده" بإسناده ومتنه، وزاد في آخره: فقال له رجل: فأصابته جنّة، ورواه الحاكم في "المستدرك" من طريق المنهال بن عمرو به، وقال: صحيح على شرط الشيخين. انتهى. والجملة الأولى في "جامع الترمذيّ" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: "أنت أخي في الدنيا والآخرة"، وقال: حديث حسن غريب. انتهى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قول البوصيريّ رحمه الله: إسناده صحيح، ورجاله ثقات، محلّ عجب؛ إذ في سنده عباد بن عبد الله الأسديّ الكوفيّ، ضعيف، ولعله التبس عليه بعباد بن عبد الله بن الزبير الأسديّ التابعيّ الثقة المعروف، فلذا وثق رجاله، والحقّ أنه ضعيف، وقدمنا أقوال أهل العلم فيه، فلا تغترّ بقوله، ولا بقول السنديّ بعد أن ذكر له تأويلًا: ما نصّه: فكان من حكم عليه بالوضع حكم عليه لعدم ظهور معناه، لا لأجل خلل في إسناده، وقد ظهر معناه بما ذكرنا -ولله الحمد- انتهى.

فكل هذا غفلة، فلا تغترر به، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 121 - (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ سَابِطٍ -وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ- عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: قَدِمَ مُعَاوِيَةُ في بَعْضِ حَجَّاتِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدٌ، فَذَكَرُوا عَلِيًّا، فَنَالَ مِنْهُ، فَغَضِبَ سَعْدٌ، وَقَالَ: تَقُولُ هَذَا لِرَجُلٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعِليٌّ مَوْلَاهُ"، وَسَمِعْته يَقُولُ: "أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي"، وَسَمِعْته يَقُولُ: "لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ الْيَوْمَ رَجُلًا يُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (عِليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطَّنافسيّ المذكور قريبًا. 2 - (أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمّد بن خازم الضرير الكوفيّ المذكور قريبًا أيضًا. 3 - (مُوسَى بْنُ مُسْلِمٍ) الحِزَاميّ، ويقال له: الشيبانيّ، أبو عيسى الطّحّان، الكوفيّ المعروف بموسى الصغير (¬1)، ثقة (¬2) [7]. رَوَى عن إبراهيم التيمي، وإبراهيم النخعي، وسَلَمَة بن كُهَيل، وعبد الرّحمن بن سابط، وعكرمة، وعبد الملك بن ميسرة، وهلال بن يساف، وعون بن عبد الله بن عتبة. وروى عنه الثّوريّ، وأبو معاوية الضرير، وعبد السّلام بن حرب، ومروان بن ¬

_ (¬1) قال الحافظ: وقال أكثر ما يقع في الرِّواية موسى الصغير. انتهى "تهذيب التهذيب" 4/ 189. (¬2) قال عنه في "التقريب": لا بأس به، وما ذكرناه أولى؛ كما يظهر من ترجمته، فقد وثقة ابن معين، والبزار، وابن حبّان، والذهبي، وقال أحمد: ما أرى به بأسًا، ولم يجرحه أحد، فهذا هو الثقة، فتبصّر، نبّه على هذا الدكتور بشّار في تحقيقه لهذا الكتاب 1/ 136.

معاوية، وعبد الله بن نمير، وغيرهم. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ما أرى به بأسًا. وقال الدُّوري عن ابن معين: موسى الصغير الّذي يَروِي عنه أبو معاوية، هو موسى بن مسلم، وهو موسى الطَّحّان، وهو موسى الصغير ثقة. وقال البزّار: ثقة، روى عنه النَّاس (¬1). وذكره ابن حبّان في الثقات. وقال الذهبيّ: ثقة (¬2). وقال أبو حاتم: يقال: إنّه مات خلف المقام، وهو ساجد. تفرّد به أبو داود، والنَّسائيّ في "خصائص علي -رضي الله عنه-"، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 4 - (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٍ) ويقال: ابن عبد الله بن سابط، وهو الصّحيح، ويقال: ابن عبد الله بن عبد الرّحمن بن سابط بن أبي حُمَيضة بن عمرو بن أُهيب بن حُذافة بن جُمَح الجُمَحيّ المكيّ، ثقة كثير الإرسال [3]. تابعيّ أرسل عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ورَوَى عن عمر، وسعد بن أبي وقّاص، والعباس بن عبد المطلب، وعباس بن أبي ربيعة، ومعاذ بن جبل، وأبي ثعلبة الْخُشَنيّ، وقيل: لم يُدرك واحدًا منهم، وعن أبيه، وله صحبة، وجابر، وغيرهم. وروى عنه ابن جريج، وليث بن أبي سليم، وفِطْر بن خليفة، ويزيد بن أبي زياد، وحنظلة بن أبي سفيان الجُمَحيّ، وعلقمة بن مرثد، وعبد الملك بن ميسرة الزَّرّاد، قيل ليحيى بن معين: سمع عبد الرّحمن من سعد بنَ أبي وقّاص؛ قال: لا، قيل: من أبي أمامة؟ قال: لا، قيل: من جابر؟ قال: لا، هو مرسل، وذكره الهيثم عن عبد الله بن عياش في الفقهاء من أصحاب ابن عبّاس. قال الواقدي وغير واحد: مات سنة ثماني عشرة ومائة. وقال ابن سعد: أجمعوا على ذلك، وكان ثقة، كثير الحديث، له في "صحيح ¬

_ (¬1) راجع "كشف الأستار" رقم (3696). (¬2) راجع "الكاشف" 3/ التّرجمة (5830).

مسلم "حديث واحد في "الفتن". وقال ابن أبي خيثمة: سمعت ابن معين يقول: عبد الرّحمن بن عبد الله بن سابط، ومن قال: عبد الرّحمن بن سابط فقد أخطأ، وكذا ذكره البخاريّ، وأبو حاتم، وابن حبّان في "الثِّقات"، وغير واحد كلهم في عبد الرّحمن ابن عبد الله، وقال العجليّ: تابعي ثقة. أخرج له أبو داود، والترمذي، والنَّسائيّ في "اليوم واللّيلة"، والمصنّف، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم 121 و 1338 و 3110 و 3710. 5 - (سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ) مالك بن وُهيب الصحابي الشهير -رضي الله عنه- تقدّم في 3/ 29، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. 3 - (ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات الكوفيين، غير ابن سابط، فإنّه مكيّ. 4 - (ومنها): أن صحابيّه أحد العشرة المبشّرين بالجنّة -رضي الله عنهم-، وآخر من مات منهم، مات سنة (55 هـ)، وأول من رمى بسهم في سبيل الله -رضي الله عنه-، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) -رضي الله عنه-، أنه قَالَ: (قَدِمَ مُعَاوِيَةُ) بن أبي سفيان الصحابي ابن الصحابيّ الخليفة رضي الله تعالى عنهما، تقدّمت ترجمته في 1/ 9 (في بَعْضِ حَجَّاتِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ) أي على معاوية -رضي الله عنه- (سَعْدٌ) بن أبي وقّاص (فَذَكَرُوا) أي النَّاس الحاضرون عند معاوية -رضي الله عنه- (عَلِيًّا) أي ابن أبي طالب -رضي الله عنه- (فَنَالَ مِنْهُ) أي نال معاوية من عليّ رضي الله عنهما، وفي رواية مسلم: "أمر معاوية بن أبي سفيان سعدًا، فقال: ما منعك أن تسُبّ أبا التراب؟ ". قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلُّ على أن مقدّم بني أُميّة كانوا يسبّون عليّا -رضي الله عنه-، وذلك كان منهم لِمَا وقر في نفوسهم من أنه أعان على قتل عثمان -رضي الله عنه-، وأنه أسلمه لمن

قتله، بناء منهم على أنه كان بالمدينة، وأنه كان متمكّنًا من نُصرته، وكلّ ذلك ظنٌّ وكَذِبٌ، وتأويل باطلٌ غَطَّى التعصّب منه وجه الصواب، وقد ثبت أن عليًّا -رضي الله عنه- أقسم بالله أنه ما قتله، ولا مالأ على قتله، ولا رضيه، ولم يقُل أحدٌ من النِّقَلَة قطّ، ولا سُمِع من أحد أن عليًّا كان مع القَتَلَة، ولا أنه دخل معهم الدَّار عليه، وأما ترك نُصرته فعثمان -رضي الله عنه- أسلم نفسه، ومنع من نُصرته، قال: ومما تشبَثوا به أنهم نسبوا عليّا إلى ترك أخذ القصاص من قَتَلة عثمان -رضي الله عنه-، وإلى أنه منعهم منهم، وأنه قام دونهم، وكلّ ذلك أقوالٌ كاذبة، أنتجت ظنونًا غير صائبة، ترتّب عليها ذلك البلاء، كما سبق به القضاء. انتهى كلام القرطبيّ (¬1). وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: الأحاديث الواردة الّتي في ظاهرها دخل على صحابيّ يجب تأويلها، قالوا: ولا يقع في روايات الثقات إِلَّا ما يُمكن تأويله، فقول معاوية -رضي الله عنه- هذا ليس فيه تصريح بأنه أمر سعدًا بسبّه، وإنما سأله عن السبب المانع له من السبّ كأنه يقول: هل امتنعت تورّعًا أو خوفًا أو غير ذلك، فإن كان تورّعًا وإجلالًا له عن السبّ فأنت مصيب محسنٌ، وإن كان غير ذلك فله جواب آخر، ولعلّ سعدًا قد كان في طائفة يسبّون فلم يسُبّ معهم، وعجز عن الإنكار، وأنكر عليهم فسأله هذا السؤال، قالوا: ويحتمل تأويلًا آخر أن معناه: ما منعك أن تُخطّئه في رأيه واجتهاده، وتُظهر للناس حسن رأينا واجتهادنا، وأنه أخطأ. انتهى كلام النوويّ (¬2). (فَغَضِبَ سَعْدٌ) -رضي الله عنه- (وَقَالَ: تَقُولُ هَذَا لِرَجُلٍ) أي في حقّ رجل، فاللام بمعنى "في" (سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ) أي في شأنه ("مَنْ كنْتُ مَوْلَاهُ فَعَليٌّ مَوْلَاهُ") قيل: معناه: من كنت أتولّاه فعَليّ يتولّاه، من الوليّ ضدّ العدوِّ، أي من كنت أحبه فعليّ يُحبّه، وقيل: من يتولّاني، فعليّ يتولاه. قاله القاري (¬3). ¬

_ (¬1) "المفهم" 6/ 272. (¬2) "شرح مسلم" 15/ 175 - 176. (¬3) "المرقاة" 10/ 463.

وقال ابن الأثير رحمه الله: قد تكرّر ذكر "المولى" في الحديث، وهو اسم يقع على جماعة كثيرة، فهو الربّ، والمالك، والمنعم، والمعتق، والناصر، والمحبّ، والتابع، والجار، وابن العمّ، والحَلِيف، والْعَقِيد، والصِّهْر، والعبد، والمعتق، والمُنْعَمُ عليه. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد نظمت معاني المولى كما ذكره في "القاموس المحيط"، فقلت: وَيُطْلَقُ المَوْلَى عَلَى مَعَانِي ... قَرَّبْتُهَا بِالنَّظْم لِلْمُعَانِي المَالِكُ الْعَبْدُ وَمُعْتِقٌ أَتَى ... بِالْكَسْرِ وَالْفَتْح فَكُلٌّ ثَبَتَا وَالصَّاحِبُ الْقَرِيبُ كَابْنِ الْعَمِّ ... وَالجَارُ وَالنَّزِيلُ عِنْدَ الْقَوْمِ وَالابْنُ وَالحَلِيفُ وَالْوَلِيُّ ... وَالْعَمُّ وَالشَّرِيكُ يَا أُخَيُّ وَالرَّبَّ وَالنَّاصِرُ وَابْنُ الأُخْتِ ... وَالصِّهْرُ وَالمُنْعِمُ كسْرًا يَأْتِي وَمُنْعَمٌ عَلَيْهِ فَتْحًا ثَبَتَا ... وَالتَّابِعُ المُحِبُّ خَاتِمًا أَتَى إِحْدَى وَعِشْرُونَ وَفِي الْقَامُوسِ قَدْ ... سَرَدَهَا فَاحْفَظْ تُوَفَّقْ لِلرَّشَدْ قال ابن الأثير: وأكثرها قد جاء في الحديث، فيُضاف كلُّ واحد إلى ما يقتضيه الحديث الوارد فيه، وكلّ من ولي أمرًا، أو قام به فهو مولاه، ووليّه، وقد تختلف مصادر هذه الأسماء، فالوَلاية بالفتح في النسب، والنصرةِ، والمعتق، والوِلاية بالكسر في الإمارة، والوَلاءُ المعتَقُ، والموالاة مِن والى القوم، ومنه الحديث: "من كنت مولاه فعليّ مولاه"، يُحمل على أكثر الأسماء المذكورة، قال الشّافعيّ -رضي الله عنه-: يعني بذلك وَلاءَ الإسلام، كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11]، وقول عمر لعليّ رضي الله عنهما: "أصبحتَ مولى كلِّ مؤمن"، أي وليّ كلّ مؤمن، وقيل: سبب ذلك أن أُسامة قال لعليّ رضي الله عنهما: لستَ مولاي، إنما مولاي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "من كنتُ مولاه، فعليّ مولاه". انتهى كلام ابن الأثير (¬1). ¬

_ (¬1) "النهاية" 5/ 228 - 229.

(وَسَمِعْتُهُ) أي النبيّ - صلّى الله عليه وسلم - (يَقُولُ: أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى) هذه الجملة تقدّم شرحها في الحديث الثّاني من هذا الباب، وقوله: (إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي) قال بعض العلماء: فيه دليل على أن عيسى -عليه السّلام- إذا نزل ينزل حكمًا من حُكّام هذه الأمة، يدعو بشريعة محمّد - صلّى الله عليه وسلم -، ولا ينزل نبيّا. ذكره النوويّ (¬1). (وَسَمِعْتُهُ) - صلّى الله عليه وسلم - (يَقُولُ: لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ) أي العلم الّتي هي علامة للإمارة (الْيَوْمَ) أي يوم خيبر، وفي رواية "الصحيحين": "غدًا" (رَجُلًا يُحِبّ الله وَرَسُولَه) فيه إيماءٌ إلى قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، الآية. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث صحيح، وهو مشتمل على ثلاثة أحاديث صحاح، فقد تقدّم حديث: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إِلَّا أنه لا نبيّ بعدي" برقم (115)، وحديث: "من كنت مولاه فعليّ مولاه"، برقم (116). وأما حديث: "لأعطينّ الراية إلخ" فقد أخرجه الشيخان في "صحيحيهما"، فأخرجه البخاريّ (2942) و (3009) و (3701) ومسلم (2406) وأخرجه أحمد في "مسنده" (22821) وأبو داود في "سننه" (3661)، والنَّسائيّ في "فضائل الصّحابة" من "الكبرى" (8093) وابن حبّان في "صحيحه" (6933) كلهم أخرجوه من حديث سهل بن سعد الساعديّ -رضي الله عنه-، وفوائد الحديث تقدّمت، فراجعها تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. ¬

_ (¬1) "شرح مسلم" 15/ 174.

15 - فضل الزبير - رضي الله عنه -

15 - (فَضْلُ الزُّبَيْر -رضي الله عنه-) هو الزُّبير بن العوّام بن خُويلد بن أسد بن عبد الْعُزّى بن قُصيّ، يجتمع مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في قُصيّ، وعدد ما بينهما سواءٌ، وأمه صفيّة بنت عبد المطّلب عمة النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، أسلمت، وأسلم الزُّبير، وكان يُكنى أبا عبد الله، وروى الحاكم بإسناد صحيح عن عروة، قال: أسلم الزُّبير، وهو ابن ثمان سنين. انتهى (¬1). وقيل: أسلم وهو ابن ست عشرة سنة، فعذّبه عمّه بالدخان لكي يرجع عن الإسلام فلمَ يفعل، هاجر إلى أرض الحبشة الهجرتين، ولم يتخلّف عن غزوة غزاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو أول من سَلَّ سيفًا في سبيل الله، وكان عليه يوم بدر رَيْطَة (¬2) صفراء، قد اعتجر بها، وكان على الميمنة، فنزلت الملائكة على سيماه، وثبت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد، وبايعه على الموت. وقال في "الفتح": وكان قتل الزُّبير -رضي الله عنه- في شهر رجب سنة ست وثلاثين انصرَفَ من وقعة الجمل تاركًا للقتال، فقتله عمرو بن جُرْمُوز -بضم الجيم والميم بينهما راء ساكنة، وآخره زاي- التَّميميُّ غِيلةً، وجاء إلى علي -رضي الله عنه- متقربًا إليه بذلك، فبَشِّره بالنار، أخرجه أحمد، والترمذي، وغيرهما، وصححه الحاكم، من طُرُق بعضها مرفوع. انتهى (¬3). وقال في "المرقاة": قُتل يوم الجمل، وهو ابن (75) سنة، وقيل: (65)، وقيل: بضع وخمسين، قتله عمرو ابن جُرموز، وكان من أصحاب عليّ - رضي الله عنه -، فأُخبِر عليّ بذلك، فقال: بشّر قاتل ابن صفيّة بالنار، وكان قتله بِسَفَوَان بفتح السين والفاء -من أرض البصرة، ودُفِن بوادي السِّباع، ثمّ حُوّل إلى البصرة. انتهى (¬4). ¬

_ (¬1) "الفتح" 7/ 100. (¬2) "الرَّيطة" هي الملاءة كلها نسيج واحد، وقطعة واحدة، وكلُّ ثوب ليّن رقيق. (¬3) "الفتح" 7/ 102. (¬4) "المرقاة" 10/ 484 - 485.

وروى من الحديث (38) حديثًا، اتفق الشيخان على اثنين، وانفرد البخاريّ بسبعة. والله تعالى أعلم بالصواب. 122 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَكيع، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ، عَنْ جَابر، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ قُرَيْظَةَ: "مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟ " فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، فَقَالَ: "مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟ "، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، ثَلَاثًا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ لِكُلِّ نَبِيًّ حَوَارِيَّ، وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (عليّ بن محمّد) الطَّنافسيّ الكوفيّ، ثقة عابدٌ [10] 9/ 57. 2 - (وكيع) بن الجرّاح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقة إمام حافظ [9] 1/ 3. 3 - (سفيان) بن سعيد الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ الإمام الحجة الثبت [7]، 5/ 41. 4 - (محمّد بن المنكدر) بن عبد الله بن الْهُدَير -مصغّرًا - ابن عبد الْعُزّى بن عامر ابن الحارث بن حارثة بن سعد بن تَيْم بن مُرّة التيميّ المدنيّ، أبو عبد الله، ويقال: أبو بكر، ثقة فاضل [3]. رَوَى عن أبيه، وعمه ربيعة وله صحبة، وأبي هريرة، وعائشة، وأبي أَيّوب، وربيعة بن عباد، وسفينة، وأبي قتادة، وأنس، وجابر، وغيرهم. ورَوَى عنه ابناه: يوسف، والمنكدر، وابن أخيه إبراهيم بن أبي بكر بن المنكدر، وزيد بن أسلم، وعمرو بن دينار، والزهري، وهم من أقرانه، وشعبة، والثوريّ، وأبو عوانة، وابن عيينة، وآخرون. قال إسحاق بن راهويه عن ابن عيينة: كان من معادن الصدق، ويجتمع إليه الصالحون، ولم نُدْرِك أحدًا أجدر أن يَقْبَل النّاسُ منه إذا قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منه. وقال ابن عيينة أيضًا: ما رأيت أحدًا أجدر أن يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يُسأل عمن هو من ابن المنكدر، يعني لتحريه. وقال الحميديّ: ابن المنكدر حافظ. وقال ابن

معين، وأبو حاتم: ثقة. وقال التّرمذيّ: سألت محمدًا سمع محمّد بن المنكدر من عائشة؟ قال: نعم. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: كان من سادات القراء. قال الواقدي وغيره: مات سنة ثلاثين، وقال البخاريّ عن هارون بن محمّد الْفَرْوِيّ: مات سنة إحدى وثلاثين ومائة. وقال ابن المديني عن أبيه: بلغ ستًا وسبعين سنة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (27) حديثًا. 5 - (جابر) بن عبد الله بن عمرو بن حرام الصحابي ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدّم في 1/ 11، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات الكوفيين إلى ابن المنكدر، وهو وجابر مدنيّان. 3 - (ومنها): أن جابرًا -رضي الله عنه- أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ جَابِرٍ) -رضي الله عنه-، أَنَّه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ قُرَيْظَةَ) أي يوم غزوة بني قريظة، وهم قبيلة من اليهود، إخوة بني النضير، كانوا بالمدينة، فأمّا قريظة فقتلت مقاتلتهم، وسُبيت ذراريّهم لنقضهم العهد، وأما بنو النضير فأجلُوا إلى الشّام (مَنْ يَأْتِينَا) هكذا النسخ بإثبات الياء الّتي هي لام الفعل، فإن "مَنْ" هنا موصولة، وقال القاري في "المرقاة": وفي نسخة صحيحة -أي من نسخ المشكاة بحذف الياء تخفيفًا، أو على أن "من" شرطيّة محذوفة الجواب. انتهى (بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟) في رواية وهب بن كيسان عن جابر -رضي الله عنه- عند النَّسائيّ: "لمَّا اشتدَ الأمر يوم بني قُريظة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من يأتينا بخبرهم ... " الحديث، وفيه أن الزُّبير توجّه إلى ذلك ثلاث مرّات، ومنه يظهر أن المراد بالقوم في رواية ابن المنكدر هنا هم بنو قُريظة، وهم الذين نقضوا العهد، وذلك أن

الأحزاب من قريش وغيرهم لما جاءوا إلى المدينة، وحفر النَّبي -صلى الله عليه وسلم- الخندق بلغ المسلمين أن بني قريظة من اليهود نقضوا العهد الّذي كان بينهم وبين السلمين، ووافقوا قريشًا على حرب المسلمين (¬1) (فَقَالَ الزُّبَيْرُ) بن العوّام -رضي الله عنه- (أَنَا) أي أنا آتيك به (فَقَالَ) -صلى الله عليه وسلم- ("مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟ "، فَقَالَ الزُّبَيْرُ) -رضي الله عنه- (أَنَا، ثَلَاثًا) أي ردّد السؤال والجواب ثلاث مرّات (فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيَّ) أي خاصّةً، وناصرًا مخلصًا، وذكر البخاريّ رحمه الله تعليقًا: وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: هو حواريّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وسُمّي الحواريّون لبياض ثيابهم. انتهى، قال في "الفتح": وصله ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس به، وزاد "أنهم كانوا صيّادين"، وإسناده صحيح إليه، وأخرج عن الضحّاك أن الحواريّ هو الغَسّال بالنبطيّة، لكنهم يجعلون الحاء هاء، وعن قتادة أن الحواريّ هو الّذي يصلح للخلافة، وعنه هو الوزير، وعن ابن عيينة هو الناصر، أخرجه الترمذيّ وغيره عنه، وعند الزُّبير بن بكّار من طريق مسلمة بن عبد الله ابن عروة مثله، وهذه الثّلاثة الأخيرة متقاربة، وقال الزُّبير عن محمّد بن سلام: سألت يونس بن حبيب عن الحواريّ، قال: الخالص، وعن ابن الكلبيّ: الحواريّ الخليل. انتهى (¬2). وقال السنديّ رحمه الله: قوله: "حواري" بكسر الراء، وتشديد الياء، لفظه مفرد بمعنى الخالص والناصر، والياء فيه للنسبة، وأصل معناه البياض، فهو منصرف منوّنٌ. انتهى (وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ) قال النووي رحمه الله: قال القاضي عياض: اختُلف في ضبطه، فضبطه جماعة من المحققين بفتح الياء من الثّاني، كمُصْرِخيَّ، وضبطه أكثرهم بكسرها، والحواريّ: الناصر، وقيل: الخاصّة. انتهى (¬3). ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 6/ 62 - 63 "كتاب الجهاد والسير" رقم الحديث (2846). (¬2) راجع "الفتح" 7/ 100 "كتاب فضائل الصّحابة" رقم الحديث (3721). (¬3) "شرح مسلم" 15/ 188.

وقال القاري بعد نقل كلام عياض هذا: ما نصّه: ولا يخفى أن الأخير يحتمل أن يكون بعد الياء المشدّدة ياء الإضافة مفتوحة على وفق القراءة المتواترة في قوله تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ} [الأعراف: 196]، ويحتمل أن تكون ياء الإضافة ساكنةً تُحذَف وصلًا وتثبُتُ وقفًا، ويحتمل أن يكون بالياء المشدّدة المكسورة فقط، كما روى السُّوسيّ في {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ} بكسر الياء المشدّدة، ثمّ لا يخفى أنه على تقدير الياء المشدّدة المفتوحة، أو المكسورة بلا ياء الإضافة ينبغي أن يكون مرسومًا بياء واحدة، كما وجدناه في بعض النسخ المصحّحة، ومنها نسخة الجزريّ، وهو الظّاهر من نقل النوويّ، والموافق للرسم القرآنيّ، ثمّ توجيه المشدّدة بلا ياء بعدها هو أنه جاء الحواري بتخفيف الياء، وقد قُرىء {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} بالتخفيف شاذّا، فالثّانية ياء إضافة، وهي قد تكون مفتوحةً، وقد تكون ساكنةً، وتُكسر لالتقاء الساكنين، هذا وفي "شرح السنة": المراد منه الناصر، وحواريّ عيسى عليه السلام أنصاره، سُمُّوا به لأنهم كانوا يغسلون الثِّياب، فيُحوّرونها، أي يبيّضونها. انتهى كلام القاري (¬1). وقال السنديّ: أصل "حَوَاريّ" بالإضافة إلى ياء المتكلّم، لكن حُذفت الياء اكتفاء بالكسرة، قيل: وقد تُبْدَلُ فتحةً للتخفيف، ويُروى بالكسر والفتح، قال: هذا تخفيف لا يناسب الاكتفاء، والوجه في الفتح أنه اجتمعت ثلاث ياءات، فاستثقلوا، فحذفوا إحدى يائي النسبة، ثمّ أدغموا الثّانية في ياء المتكلّم، وياء المتكلّم تُفتح، سيّما عند التقاء الساكنين، فاختلاف الروايتين مبنيّ على أن المحذوفة ياء المتكلّم، أو إحدى يائي النسبة، والله تعالى أعلم، ومعناه: إن خاصّتي وناصري، وكأنه الخاصّة من بين من كان مطلوبًا بالنِّداء في ذلك الوقت. انتهى كلام السنديّ (¬2)، وقال في "النهاية": معناه: ¬

_ (¬1) "المرقاة" 10/ 484. (¬2) "شرح السندي" 1/ 87.

خاصّتي من أصحابي، وناصري (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث جابر -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنِّف) هنا (15/ 122) فقط، وأخرجه (البخاري) (2846) و (2847) و (9972) و (3719) و (4113) و (7261) و (مسلم) (2415) و (الترمذيّ) (3745) (أحمد) في "مسنده" (14297) و (النسائيّ) في "الكبرى" (8154) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (6985) و (الطحاويّ) في "شرح مشكل الآثار" (3563)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل الزُّبير -رضي الله عنه-. 2 - (ومنها): جواز مدح الإنسان في وجهه إذا لم يُخَف عليه افتتان. 3 - (ومنها): جواز بعث الطَّلِيعة إلى العدوِّ. 4 - (ومنها): جواز استعمال التجسّس في الجهاد. 5 - (ومنها): جواز سفر الرَّجل وحده، وأن النّهي عن السَّفر وحده (¬2) إنّما هو حيث لا تدعو الحاجة إلى ذلك. قال في "الفتح" نقلًا عن ابن المنيّر رحمه الله: السير لمصلحة الحرب أخصّ من ¬

_ (¬1) "النهاية" 2/ 185. (¬2) هو ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو يعلم النَّاس ما في الوَحْدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده".

السَّفر، والخبر ورد في السَّفر، فيؤخذ من حديث جابر جواز السَّفر منفردًا للضرورة والمصلحة الّتي لا تنتظم إِلَّا بالانفراد، كإرسال الجاسوس والطلِيعة، والكراهةُ لما عدا ذلك، ويحتمل أن تكون حالة الجواز مقيّدة بالحاجة عند الأمن، وحالة المنع مقيّدة بالخوف حيث لا ضرورة. قال وقد وقع في كتب المغازي بعثُ كلّ من حذيفة، ونُعيم بن مسعود، وعبد الله ابن أُنيس، وخَوّات بن جُبير، وعمرو بن أُميّة، وسالم بن عُمير، وبسبسة بن عمرو في عدّة مواطن، وبعضها في الصّحيح". انتهى (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 123 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: "لَقَدْ جَمَعَ لِي رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أَبَويهِ يَوْمَ أُحُدٍ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (عليّ بن محمّد) الطنافسيّ المذكور في الحديث الماضي. 2 - (أبو معاوية) محمّد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة، أحفظ النَّاس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره [9] تقدّم في 1/ 3. 3 - (هشام بن عروة) بن الزُّبير الأسديّ المدنيّ الثقة الفقيه [5] تقدّم في 8/ 5. 4 - (أبوه) عروة بن الزُّبير بن العوّام المدنيّ الفقيه الثقة الثبت [3] تقدّم في 2/ 15. 5 - (عبد الله بن الزُّبير) بن العوّام القرشيّ الأسديّ، أبو بكر، أو أبو خُبيب الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدّم في 2/ 15. 6 - (الزُّبير) بن العوّام -رضي الله عنه- المذكور أوّلَ الباب، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 6/ 161 "كتاب الجهاد والسير" رقم الحديث (2997) و (2998).

لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أنه رجاله رجال الصّحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو والنَّسائيّ في "الخصائص". 3 - (ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، وأبي معاوية، فكوفيّان. 4 - (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، عن أخيه، عن أبيهما، ورواية تابعيّ عن تابعيّ، وصحابيّ عن صحابيّ. 5 - (ومنها): أن صحابيه أحد العشرة المبشرين بالجنة -رضي الله عنه-، وحواريّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ الله بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: "لَقَدْ جَمَعَ لِي رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أَبَويهِ يَوْمَ أُحُدٍ") أي في الفداء تعظيمًا لي، وإعلاء لقدري، وذلك أن الإنسان لَا يُفدّي إِلَّا من يُعظّمه، فيبذل نفسه له. قاله الطيبيّ (¬1). وفي الحديث قصّة ساقها الشيخان في "صحيحيهما"، ولفظ البخاريّ من طريق ابن المبارك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزُّبير قال: كنت يوم الأحزاب جُعِلتُ أنا وعمر بن أبي سلمة في النِّساء، فنظرت، فإذا أنا بالزبير على فرسه يَختَلِف إلى بني قُريظة مرتين أو ثلاثًا، فلما رجعت قلت: يا أبت رأيتك تَخْتَلِف، قال: أو هل رأيتني يا بُنّيّ؟ قلت: نعم، قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنِ يأت بني قريظة، فيأتيني بخبرهم، فانطلقت، فلما رجعت جمع لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبويه، فقال: "فداك أبي وأمي". ومن طريق علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزُّبير قال: كنت أنا وعُمر بن أبي سلمة يوم الخندق مع النسوة، في أُطُم حسان، فكان يُطَأْطِئ ¬

_ (¬1) "الكاشف عن حقائق السنن" 12/ 3891.

لي مرّة فأنظر، وأُطَأْطِئ له مرّة فينظر، فكنت أعرف أبي إذا مَرّ على فرسه في السلاح إلى بني قريظة، قال: وأخبرني عبد الله بن عروة عن عبد الله بن الزُّبير قال: فذكرت ذلك لأبي، فقال: ورأيتني يا بُنَيَّ؟، قلت: نعم، قال: أما والله لقد جَمَع لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذ أبويه، فقال: "فَدَاك أبي وأمي". قال القرطبيّ رحمه الله: فداك بفتح الفاء والقصر فعلٌ ماضٍ، فإن كسرت مَدَدْتَ، وهذا الحديث يدلُّ على أن النبيّ -رضي الله عنه- جمع أبويه لغير سعد بن أبي وقّاص - رضي الله عنه -، وحينئذ يُشكل بما رواه الترمذيّ من قول عليّ -رضي الله عنه-: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما جَمَعَ أبويه لأحد إِلَّا لسعد، وقال له يوم أحد: "فداك أبي وأُمّي" (¬1)، ويرتفع الإشكال بأن يُقال: إن عليّا أخبره بما في علمه، ويَحتَمِل أن يُريد به أنه لم يقل ذلك في يوم أحد لأحد غيره. والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث الزُّبير -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (16/ 123) فقط، وأخرجه (البخاريّ) في (3720) و (مسلم) في (2416) و (الترمذيّ) في (3743) و (النَّسائيّ) في "الكبرى" (8156) و (9956) و (9957) و (9958) و (أحمد) في "مسنده" (1408) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (6984) و (ابن أبي شيبة) (12/ 91)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل الزُّبير -رضي الله عنه-. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذيّ برقم (2829) و (3753).

2 - (ومنها): جواز التفدية بالأبوين، وقد عقد الإمام البخاريّ في "كتاب الأدب" من "صحيحه" لذلك بابًا، فقال: "باب قول الرَّجل: جعلني الله فداك، وقال أبو بكر للنبيّ -صلى الله عليه وسلم-: فديناك بآبائنا وأمهاتنا"، ثمّ أخرج بسنده قصة، وفيها قول أبي طلحة للنبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "يا نبيّ الله جعلني الله فداك هل أصابك من شيء؟ ... " الحديث. قال في "الفتح": وقد استوعب الأخبار الدّالّة على جواز التفدية أبو بكر بن أبي عاصم في أول كتابه "آداب الحكماء"، وجزم بجواز ذلك، فقال: للمرء أن يقول ذلك لسلطانه، ولكبيره، ولذوي العلم، ولمن أحبّ من إخوانه غير محظور عليه ذلك، بل يُثاب عليه إذا قصد توقيره واستعطافه، ولو كان ذلك محظورًا لنهى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قائل ذلك، ولأعلمه أن ذلك غير جائز أن يُقال لأحد غيره. انتهى. وقال الطَّبرانيُّ (¬1) بعد أن ساق أحاديث الجواز: في هذه الأحاديث دليلٌ على جواز قول ذلك، وأما ما رواه مبارك بن فَضَالة، عن الحسن قال: دخل الزُّبير على النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وهو شاكٍ، فقال: كيف تجدك جعلني الله فداك؟ قال: "ما تركت أعرابيّتك بعدُ؟ "، ثمّ ساقه من هذا الوجه، ومن وجه آخر، ثمّ قال: لا حجة في ذلك على المنع؛ لأنه لا يقاوم تلك الأحاديث في الصحّة، وعلى تقدير ثبوت ذلك فليس فيه صريح المنع، بل فيه إشارة إلى أنه ترك الأولى في القول للمريض إمّا بالتأنيس والملاطفة، وإما بالدعاء والتوجّع. فإن قيل: إنّما ساغ ذلك لأن الّذي دعا بذلك كان أبواه مشركين، فالجواب أن قول أبي طلحة كان بعد أن أسلم، وكذا أبو ذرّ، وقول أبي بكر كان بعد أن أسلم أبواه. انتهى ملخّصًا. وقال الحافظ: ويمكن أن يُعترض بأنه لا يلزم من تسويغ قول ذلك للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- أن يُسوّغ لغيره؛ لأن نفسه أعزّ من أنفس القائلين وآبائهم، ولو كانوا أسلموا، فالجواب ما ¬

_ (¬1) هكذا نسخة "الفتح"، ولعلّه "الطّبريّ"، فليُحرّر.

تقدّم من كلام ابن أبي عاصم، فإن فيه إشارة إلى أن الأصل عدم الخصوصيّة، وأخرج ابن أبي عاصم من حديث ابن عمر أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال لفاطمة: "فداك أبوك"، ومن حديث ابن مسعود النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه: "فداكم أبي وأمي"، ومن حديث أنس أنه -صلى الله عليه وسلم- قال مثل ذلك للأنصار. انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن ممّا سبق أن الحقّ جواز قول الإنسان: فداك نفسي، أو أبي وأمي؛ لصحة الأحاديث الكثيرة بذلك، وأما حديث الحسن المتقدّم فلا يصحّ؛ لأنه من مرسل الحسن، وفيه فَضَالة يُدلّس، ويسوّي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 124 - (حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، وَهَدِيَّةُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبيهِ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشُةُ: يَا عُرْوَةُ كَانَ أَبَوَاكَ مِنِ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ: أَبُو بَكْرٍ، وَالزُّبَيْرُ). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (هشام بن عمّار) السلميّ الدمشقيّ الخطيب، صدوقٌ مقرىء، كبر فصار يتلقّن، فحديثه القديم أصحّ، من كبار [10] تقدّم في 1/ 5. 2 - (هَدِيَّةُ -بفتح أوله، وكسر ثانيه، وتشديد التحتانيّة- ابْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ) أبو صالح المروزيّ، صدوقٌ، ربّما وَهِمَ [10]. رَوَى عن الفضل بن موسى السِّينَاني، وسعد بن عبد الحميد بن جعفر، وابن عيينة، والوليد بن مسلم، ووكيع، والنضر بن شُميل، وغيرهم. وروى عنه المصنّف، وأبو زرعة، وعثمان بن خُرَّزاذ، وعبد الله بن أحمد، وابن أبي عاصم، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وموسى بن إسحاق الأنصاري، وعبد الله بن أحمد، وجعفر ¬

_ (¬1) "الفتح" 10/ 584 - 585. "كتاب الأدب" رقم الحديث (6185 - 6186).

الفريابي، وآخرون. قال ابن أبي عاصم: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: ربما أخطأ. قال أبو القاسم: مات سنة إحدى وأربعين ومائتين، انفرد به المصنّف، وله عنده في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط برقم 124 و 1290 و 2301 و 2428 و 2949 و 3131 و 3341 و 4087. 3 - (سفيان بن عيينة) الإمام الحافظ الحجة الفقيه، أبو محمّد المكيّ [8] تقدّم في 2/ 13. 4 - (عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت 2/ 14، والباقيان تقدّمان في السند الماضي، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيات المصنِّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجال ثقات. 3 - (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، عن خالته، ورواية تابعيّ عن تابعيّ. 4 - (ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. 5 - (ومنها): أن فيه عروة أحد الفقهاء السبعة، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: عَنْ عروة بن الزُّبير، أنه (قَالَ: قَالَتْ عَائِشُةُ) رضي الله تعالى عنها (يَا عُرْوَةُ كَانَ أَبَوَاكَ مِنِ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا) أي أجابوا، فالسين والتاء زائدتان، كما قال الشاعر: وَدَاعِ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النِّدَا ... فَلَمْ يَسْتجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ أي لم يُجبه (لله وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ) بفتح، فسكون: أي الجراح، وفي رواية البخاريّ من طريق أبي معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا

مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172]، قالت لعروة: يا ابن أختي كان أبواك منهم: الزُّبير، وأبو بكر، لمّا أصاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أصاب يومَ أحد، وانصرف عنه المشركون، خاف أن يرجعوا، قال: "مَنْ يَذهَب في إِثْرهم؟ "، فانتدب منهم سبعون رجلًا، قال: كان فيهم أبو بكر والزبير. قال في "الفتح": وقد سُمّي منهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعمّار بن ياسر، وطلحة، وسعد بن أبي وقّاص، وعبد الرّحمن بن عوف، وأبو عبيدة، وحُذيفة، وابن مسعود، أخرجه الطّبريّ من حديث ابن عبّاس، وعند ابن أبي حاتم من مرسل الحسن ذكر الخمسة الأولين، وعند عبد الرزّاق من مرسل عروة ذكر ابن مسعود. انتهى (¬1). وقال أبو العباس القرطبيّ رحمه الله: أشارت عائشة رضي الله عنها بهذا إلى ما جرى في غزوة حمراء الأسد، وهو موضع على نحو ثمانية أميال من المدينة، وكان من حديثها أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لمّا رجع إلى المدينة من أُحُد بمن بقي من أصحابه، وأكثرهم جريح، وقد بلغ منهم الجَهْد، والمشقّة نهايته، أمرهم بالخروج في إثر العدوِّ مُرهِبًا لهم، وقال: "لا يخرُجنّ إِلَّا من كان شهد أُحدًا"، فخرجوا على ما بهم من الضعف والجراح، وربما كان فيهم المثقل بالجراح لا يستطيع المشيَ، ولا يجد مركوبًا، فربما يُحمَل على الأعناق، كلُّ ذلك امتثال لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورغبة في الجهاد والشهادة حتّى وصلوا إلى حمراء الأسد، فلقيهم نُعيم بن مسعود، فأخبرهم أن أبا سفيان بن حرب، ومن معه من قريش قد جمعوا جُموعَهم، وأجمعوا رأيهم على أن يعودوا إلى المدينة، فيستأصلوا أهلها، فقالوا ما أَخْبَرَنَا الله به عنهم: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] وبينا قريشٌ قد أجمعوا على ذلك، إذ جاءهم معبد الْخُزاعيّ، وكانت خُزَاعة حلفاء النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وعَيْبَة نُصحه، وكان قد رأى حالَ أصحاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وما هم عليه، ولمّا رأى عزم قريش على الرجوع، واستئصال أهل المدينة حَمَلَهُ خوف ذلك، وخالص نُصحه للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- ¬

_ (¬1) "فتح" 7/ 432 - 433. "كتاب المغازي" رقم (4078).

وأصحابه على أن خَوّف قريشًا بأن قال لهم: إنِّي قد تركت محمدًا وأصحابه بحمراء الأسد في جيش عظيم، قد اجتمع له كلّ من تخلّف عنه، وهم قد تحرّقوا عليكم، وكأنهم قد أدركوكم، فالنجاء النجاء، وأنشدهم شعرًا (¬1) يُعظّم فيه جيش محمّد -صلى الله عليه وسلم-، ويُكثّرهم، وهو مذكور في كتب السير، فقذف الله في قلوبهم الرعب، ورجعوا إلى مكّة مُسرعين خائفين، ورجع النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- في أصحاب إلى المدينة مأجورًا منصورًا، كما قال تعالى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 174]، وقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173]، يعني به نُعيم بن مسعود الّذي خوّف أصحاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وقوله: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} الآية يعني به قريشًا. انتهى (¬2). وقوله: (أَبُو بَكْرٍ، وَالزُّبَيْرُ) بدل من "أبواك". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنِّف) هنا (15/ 124) فقط، وأخرجه (البخاريّ) في (4/ 77) و (مسلم) في (2418)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل الزُّبير -رضي الله عنه-. 2 - (ومنها): بيان فضل أبي بكر -رضي الله عنه-. ¬

_ (¬1) انظر السيرة النبوية لابن هشام (2/ 103). (¬2) "المفهم" 6/ 291 - 292.

3 - (ومنها): أن فيه ما كان عليه الصّحابة -رضي الله عنهم- الاستجابة لله وللرسول مع وإن كانوا في حال شدّة ومرض، وضعف شديد. 4 - (ومنها): ما كانوا عليه من شدّة حرصهم للجهاد ورغبتهم في نيل الشّهادة، مع ما بهم من القرح الّذي حصل لهم في أحد. 5 - (ومنها): أن فيه الحثّ على الجهاد في سبيل الله، وإن كانت الأسباب لا تساعد، والوسائل لا تتيسّر، كما قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ في سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [التوبة: 41]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

16 - فضل طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه -

16 - (فَضْلُ طَلْحَةَ بن عُبَيْدِ اللهِ -رضي الله عنه-) هو: طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كعب، يجتمع مع النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- في مُرّة بن كعب، ومع أبي بكر الصديق في تيم بن مُرّة، وعدد ما بينهم من الآباء سَوَاءٌ، يُكنى أبا محمّد، أحد العشرة المبشّرين بالجنة، وهو المسمّى طلحة الفَيّاض، وعن قيس بن أبي حازم: كان يقال: إن طلحة من حكماء قريش، وعنه قال: "صحبت طلحة بن عبيد الله، فما رأيت رجلًا أعطى لجزيل مال عن غير مسألة منه" (¬1). وأمه الصَّعْبَة بنت الحضرمي، أخت العلاء، أسلمت وهاجرت، وعاشت بعد أبيها قليلًا، وروى الطَّبرانيُّ من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: "أسلمت أُمُّ أبي بكر، وأم عثمان، وأم طلحة، وأم عبد الرّحمن بن عوف"، وقُتِل طلحة يوم الجمل سنة ست وثلاثين، رُمِي بسهم جاء من طُرُق كثيرة أن مروان بن الحكم رماه، فأصاب رُكبته، فلم يزل يَنْزِف الدَّم منها حتّى مات، وكان يومئذ أَوّلَ قتيل، واختُلِف في سنه على أقوال، أكثرها أنه خمس وسبعون، وأقلها ثمان وخمسون. وروى من الأحاديت (38) حديثًا، اتفق الشيخان على حديث، وانفرد البخاريّ بحديثين، ومسلم بثلاثة، والله تعالى أعلم بالصواب. وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 125 - (حَدَّثَنَا عليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ الله الْأَوْدِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الصَّلْتُ الْأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ جَابر، أَن طَلْحَةَ مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: "شَهِيدٌ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (عِليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطنافسيّ المذكور في الباب الماضي. ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 7/ 104. "كتاب فضائل الصّحابة".

2 - (عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الله الْأَوْدِيُّ) الكوفيّ، ثقة (¬1) [10] تقدّم في 11/ 96، من أفراد المصنِّف. 3 - (وكيع) بن الجرّاح الإمام المشهور المذكور في الباب الماضي. 4 - (الصَّلت الأزديّ) هو: الصَّلْت -بفتح أوله وآخره مثناة- ابن دينار الأزديّ الْهُنائيّ البصريّ، أبو شُعيب المجنون، مشهور بكنيته، متروك ناصبيّ [6]. رَوَى عن الحسن، ومحمد، وأنس ابني سيرين، وأبي جمرة الضُّبَعيّ، وشهر بن حوشب، وغيرهم، وعنه وكيع، وصالح بن موسى الطَّلْحي، وجعفر بن سليمان الضُّبَعيُّ، ومسلم بن إبراهيم، وغيرهم. قال أحمد: متروك الحديث، ترك النَّاس حديثه. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال عمرو بن علي: كثير الغلط، متروك الحديث، كان يحيى وعبد الرّحمن لا يحدثان عنه. وقال الجوزجاني: ليس بقوي. وقال أبو زرعة ليّن. وقال أبو حاتم: لين الحديث إلى الضعف ما هو، مضطرب الحديث. وقال البخاريّ: كان شعبة يتكلم فيه. وقال أبو داود: ضعيف. وقال التّرمذيّ: تكلم بعض أهل العلم فيه. وقال النَّسائيُّ: ليس بثقة. وقال ابن عديّ: ليس حديثه بالكثير، عامة ما يرويه ممّا لا يتابعه عليه النَّاس. وقال يعقوب بن سفيان: مُرْجىء، ضعيف، ليس بشيء. وقال يحيى بن سعيد: ذهبت أنا وعوف نعوده، فذكر عليا، فنال منه، فقال عوف: لا شفاك الله. وقال عبد الله بن إدريس: عاب شعبة على الثّوريّ روايته عن أبي شعيب. وقال ابن معين في رواية: ضعيف الحديث. وقال البخاريّ في "التاريخ": لا يُحتج بحديثه. وقال ابن سعد: ضعيف ليس بشيء. وقال أبو أحمد الحاكم: متروك الحديث. وقال عبد الله بن أحمد في "العلل": نهاني أبي أن أكتب حديثه. وقال علي بن الجنيد: متروك. وقال ابن حبّان: كان الثّوريّ إذا حدث عنه يقول: ثنا أبو ¬

_ (¬1) هذا يردّ قول من قال: كلّ من انفرد به ابن ماجه فهو ضعيف، فإنّه ثقة، فتنبّه.

شعيب، ولا يسميه، وكان أبو شعيب ينتقص عليا، وينال منه على كثرة المناكير في روايته، تركه أحمد ويحيى. تفرّد به الترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (125) وحديث (311) حديث عثمان -رضي الله عنه-: "ما تغنيت، ولا تمنيت، ولا مستت ذكري بيميني". 5 - (أبو نضرة) بنون، ومعجمة ساكنة، هو: المنذر بن مالك بن قُطَعة -بضم القاف، وفتح المهملة- العبديّ الْعَوَقيّ -بفتح المهملة، والواو، ثمّ قاف- البصريّ، مشهور بكنيته، ثقة [3]. أدرك طلحة، ورَوَى عن علي بن أبي طالب، وأبي موسى الأشعري، وأبي ذر الغفاري، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وابن عبّاس، وابن الزُّبير، وابن عمر، وعمران بن حصين، وسمرة بن جندب، وغيرهم. وروى عنه سليمان التيمي، وأبو مسلم، سعيد بن يزيد، وعبد العزيز بن صهيب، وحميد الطَّويل، وجماعة. قال صالح بن أحمد عن أبيه: ما علمتُ إِلَّا خيرًا، وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة، وكذا قال أبو زرعة، والنَّسائيّ. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي عن أبي نضرة وعطية، فقال: أبو نضرة أحب إلي. وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث، وليس كلّ أحد يحتج به، قيل: مات قبل الحسن، مات في ولاية ابن هُبيرة، حَدَّثَنَا عفّان، حَدَّثَنَا مهدي بن ميمون: شَهِدتُ الحسن حين مات أبو نضرة صلّى بنا على الجنازة. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: كان من فصحاء النَّاس، فُلِجَ في آخر عمره، مات سنة ثمان، أو تسع ومائة، وأوصى أن يصلّي عليه الحسن، وكان ممّن يُخطئ. وقال خليفة ابن خياط: مات سنة ثمان. وقال عمرو بن علي: مات سنة تسع ومائة. وقال البخاريّ: قال يحيى بن سعيد: مات قبل الحسن بقليل. وأورده العقيليّ في "الضعفاء"، ولم يذكر فيه قَدْحًا لأحد، وكذا أورده ابن عدي في "الكامل"، وقال: كان عَرِيفًا لقومه، وأظنُّ

ذلك لما أشار إليه ابن سعد، ولهذا لم يَحتَجَّ به البخاريّ. وقال ابن شاهين في "الثِّقات": قال أحمد بن حنبل: ثقة. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ أنه لا جرح في أبي نفرة، بل هو ثقة، ولا يثبت الجرح بالظنون، ولا يلزم من عدم احتجاج البخاريّ ضعف الراوي، فكم من الثقات لم يحتجّ بهم البخاريّ، وهم ممّن أُجمع على ثقتهم وجلالتهم، فتفطّن، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. روى له البخاريّ في التعاليق، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب (29) حديثًا. 6 - (جابر) بن عبد الله رضي الله عنهما، تقدّم في الباب الماضي، والله تعالى أعلم. شرح الحديث. (عَنْ جَابِرٍ) -رضي الله عنه- (أَنَّ طَلْحَةَ) بن عبيد الله -رضي الله عنه- (مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (شَهِيدٌ) خبر لمبتدأ محذوف، أي هذا شهيد (يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ) المراد أنه سيموت شهيدًا، وقال السنديّ: قيل: إنّه قد ذاق الموت في سبيل الله، وهو حيّ، لما قيل: "موتوا قبل أن تموتوا"، والمراد بالموت على هذا الغيبوبة عن عالم الشّهادة بالاستغراق في ذكر الله وملكوته، والانجذاب إلى جناب قدسه، وقيل: أي إنّه ذاق ألم الموت في الله، وهو حيّ، فهو لمّا ذاق من الشدائد في سبيل الله كأنه مات. وقيل: هو مجاز بالأول، أي إنّه سيموت شهيدًا. انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه الأقوال كلها غير الأخير لا يخفى بعدها عن معنى الحديث، فلا ينبغي الإلتفات إليها، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. ¬

_ (¬1) "شرح السندي" 1/ 88.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث جابر -رضي الله عنه- هذا ضعيف جدًّا. [فإن قلت]: صححه الشّيخ الألبانيّ رحمه الله، فأورده في "صحيح ابن ماجه" 1/ 27 رقم (102) وفي "الصحيحة" 1/ 198 رقم (126) وقال بعد أن ذكر طرقه: وبالجملة فالحديث بهذه الطرق والشواهد يرتقي إلى درجة الصحّة إلى آخر كلامه. [قلت]: هذا عجيب من الشّيخ، فكيف يصحح هذا الحديث؟، وهو بهذا اللّفظ ممّا تفرّد به الصلت بن دينار، وقد عرفت أنه متروك، والشواهد الّتي ذكرها لا تصحّ، ففي بعضها صالح بن موسى، وهو متروك، وفي بعضها إسحاق بن بن يحيى بن طلحة، وهو أيضًا متروك، وفي بعضها سليمان بن أَيّوب الطلحيّ صاحب مناكير وفي سنده أيضًا مجاهل، وبعضها مرسل، ولو صحّت لا تجبر رواية الصلت؛ لأن المتروك لا يقبل الجبر. والحاصل أن هذا الحديث بهذا اللّفظ ضعيف جدًّا، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 126 - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْأَزْهَرِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمانَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَني إِسْحَقُ بْنُ يَحْيىَ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: نَظَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى طَلْحَةَ، فَقَالَ: "هَذَا مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (أحمد بن الأزهر) بن منيع، أبو الأزهر العبديّ النيسابوريّ، صدوقٌ كان يحفظ، ثمّ كبر، فصار كتابه أثبت من حفظه [11] تقدّم في 9/ 71. 2 - (عمرو بن عثمان) بن سيّار الكلابيّ مولاهم، أبو عُمَر، ويقال: أبو عَمْرو، ويقال: أبو سعيد الرَّقّيّ، ضعيف، وكان قد عمي، من كبار [10].

رَوَى عن زهير بن معاوية، وعبيد الله بن عمرو، وموسى بن أعين، وإسماعيل بن عياش، ويونس بن يونس، وأبي شهاب الحناط، وابن عيينة، وغيرهم، وعنه أبو الأزهر النيسابوري، وأحمد بن منصور الرَّمَادي، والحسين بن الحسن المروزي، وغيرهم. قال أبو حاتم: يتكلمون فيه، كان شيخًا أعمى بالرَّقّة يحدث النَّاس من حفظه بأحاديث منكرة، لا يصيبونها في كتبه، أدركته ولم أسمع منه، ورأيت من أصحابنا من أهل العلم من قد كَتَبَ عامة كتبه لا يرضاه، وليس عندهم بذاك. وقال العقيليّ عن أحمد بن علي الأَبَّار: سألت علي بن ميمون الرّقّيّ عنه، فقال: كان عندنا إنسان يقال له: أبو مطر فمات، فجاءني ابنه بكتب أبيه أبيعها له، فقال لي عمرو بن عثمان الكلابي: جئني بشيء منها، فجئته فكان يحدث منها، فلما مات عمرو بن عثمان ردّوها عليّ، فرددتها على أهلها. وقال النَّسائيُّ والأزدي: متروك الحديث. وقال ابن عديّ: له أحاديث صالحة عن زهير وغيره، وقد رَوَى عنه ناس من الثقات، وهو ممّن يُكتَب حديثه. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: مات سنة (219). وقال محمّد بن سعيد الحرانيّ: مات بالرّقّة سنة (17) وقال: ربما أخطأ، وكذا أَرّخ أبو عَرُوبة وفاته عن هِلال بن العلاء، ذكره العقيليّ في "الضعفاء". تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم 126 و 744 و 1007. 3 - (زُهير بن مُعاوية) بن حُدَيج بن الرُّحَيل بن زُهير بن خَيْثَمة، أبو خيثمة الْجُعْفِيّ الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقة ثبتٌ [7]. رَوَى عن أبي إسحاق السبيعيّ، وسليمان التيمي، وعاصم الأحول، والأسود بن قيس، وبيان بن بِشْر، وخُصَيف، وزيد بن جبير، والأعمش، وخلق كثير. وروى عنه ابن مَهْديّ، والقطان، وأبو داود الطيالسي، وأبو النضر هاشم بن القاسم، ويحيى بن آدم، وأسود بن عامر شاذان، والهيثم بن جَميل الأنطاكي، وعمرو بن عثمان الرَّقّيّ، وعبد الله بن محمّد النُّفَيلي، وأبو غسان النهدي، وأبو نعيم، وعبد السّلام ابن عبد الحميد الحَرّانيّ، وهو آخر مَنْ حَدَّث عنه، وجماعة.

قال معاذ بن معاذ: والله ما كان سفيان بأثبت من زهير. وقال شعيب بن حرب: كان زهير أحفظ من عشرين مثل شعبة. وقال بشر بن عمر الزهراني عن ابن عيينة: عليك بزهير بن معاوية، فما بالكوفة مثله. وقال الميموني عن أحمد: كان من معادن الصدق. وقال صالح بن أحمد عن أبيه: زُهير فيما روى عن المشائخ ثَبْتٌ بَخٍ بَخٍ، وفي حديثه عن أبي إسحاق لِين سمع منه بآخره. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة. وقال أبو زُرعة: ثقة إِلَّا أنه سمع من أبي إسحاق بعد الاختلاط. وقال أبو حاتم: زهير أحب إلينا من إسرائيل في كلّ شيء، إِلَّا في حديث أبي إسحاق، فقيل له: فزائدة وزهير؟ قال: زهير أتقن من زائدة، وهو أحفظ من أبي عوانة، وما أشبه حديثه بحديث زيد بن أبي أنيسة، وهو أحفظ من أبي عوانة، وزهير ثقة متقن صاحب سنة، وهو أحب إليّ من جرير، وخالد الواسطي. وقال العجلي: ثقة مأمون. وقال النَّسائيُّ: ثقة ثبت. وقال مطين: مات سنة اثنتين، وقيل: ثلاث وسبعين ومائة. وقال ابن منجويه: مات سنة (177)، وكان حافظًا متقنًا، وكان أهل العراق يُقَدِّمونه في الإتقان على أقرانه. قال الخطيب: حَدّث عنه ابن جريج وعبد السّلام بن عبد الحميد الحرانيّ، وبين وفاتيهما بضع وتسعون سنة، وحَدّث عنه محمّد بن إسحاق وبين وفاتيهما قريب من ذلك. وقال ابن سعد: تُوفّي آخر سنة (72)، وكان ثقةً ثبتًا مأمونًا كثير الحديث. وقال أبو جعفر بن نُفَيل: مات في رجب سنة (73)، وقال أيضًا: وُلد سنة مائة. وقال البزار: ثقة. وقال ابن حبّان في "الثِّقات": تُوفي سنة ثلاث، أو أربع وسبعين ومائة في رجب، وكان حافظًا متقنًا، وكان أهل العراق يقولون في أيّام الثّوريّ: إذا مات الثّوريّ ففي زهير خَلَف، وكانوا يُقَدِّمونه في الإتقان على غيره، وعاب عليه بعضهم أنه كان ممّن يَحْرُس خشبة زيد بن علي لمَّا صُلِب. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أحد عشر حديثًا. 4 - (إسحاق بن يحيى بن طلحة) بن عبيد الله التيميّ، ضعيف [5]. رأى السائب بن يزيد، وروى عن عميه: إسحاق، وموسى ابني طلحة، وعبد

الله بن جعفر بن أبي طالب، وابنه معاوية بن عبد الله، والزهري، ومجاهد، وغيرهم. وروى عنه زهير بن معاوية، وسليمان بن بلال، ومَعْنٌ الْقَزَّاز، وأبو عوانة، وغيرهم. قال علي بن المديني: سألت يحيى بن سعيد عنه، فقال: ذاك شبه لا شيء، قال علي: نحن لا نروي عنه شيئًا. وقال صالح بن أحمد عن أبيه: منكر الحديث، ليس بنثيء. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: متروك الحديث. وقال معاوية بن صالح عن ابن معين: ضعيف. وكذا قال الدُّوريّ عنه، وزاد: ليس بشيء، ولا يكتب حديثه. وقال عمرو بن علي: متروك منكر الحديث. وقال البخاريّ: يتكلمون في حفظه. وقال التّرمذيّ: ليس بذاك القوي عندهم، وقد تكلموا فيه من قِبَل حفظه. وقال النَّسائيُّ: ليس بثقة، وقال في موضع آخر: متروك الحديث. وقال أبو زرعة: واهي الحديث. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، ليس بقوي، ولا بمكانِ أن يُعْتَبر به، وأخوه طلحة بن يحيى أقوى حديثًا منه، ويتكلمون في حفظه، ويُكتَب حديثه. وقال يعقوب بن شيبة: لا بأس به، وحديثه مضطرب جدًّا. وقال ابن سعد: مات بالمدينة في خلافة المهدي، وهو يُستَضْعَف. وقال السراج: مات سنة (164). وذكر ابنُ عساكر أن سنه قريب من سن عمر بن عبد العزيز، قال: ووفد عليه، ونقل الزُّبير بن بكار أن إسحاق بن يحيى تزوج أم يعقوب بنت إسماعيل بن طلحة ثمّ تزوج بنت أبي بكر بن عثمان بن عروة بن الزُّبير، فكان بين تزويجه هذه وهذه خمس وسبعون سنة. وقال ابن حبّان في "الضعفاء": كان ردي الحفظ، سيء الفهم، يُخطِىء ولا يَعْلَم، ويَروي ولا يَفْهَم. وقال في "الثِّقات": يُخطىء ويَهِم، وقد أدخلناه في "الضعفاء" لِمَا كان فيه من الإيهام، ثمّ سَبَرتُ أخباره، فأدَّى الاجتهاد إلى أن يُترَك ما لم يُتابَع عليه، ويُحتج بما وافق الثقات. وقال البخاريّ: يَهِم في الشيء بعد الشيء، إِلَّا أنه صدوق. وقال ابن عديّ: هو خير من إسحاق بن أبي فروة. وقال أبو موسى: كان يحيى وعبد الرّحمن لا يحدثان عنه، وضعفه أيضًا العجليّ، والساجيّ، وأبو داود، والعقيلي،

وأبو العَرَب، والدارقطنيّ، وغيرهم. قال ابن عَمّار الموصلي: صالح. تفردّ به الترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث، والذي بعده فقط. 5 - (موسى بن طلحة) بن عبيد الله القرشيّ التيميّ، أبو عيسى، ويقال: أبو محمّد المدنيّ، نزيل الكوفة، وأمه خَوْلَة بنت الْقَعْقَاع بن سَعِيد بن زُرَارة، ثقة جليل [2]. روى عن أبيه، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وأبي ذر، وأبي أَيّوب، وحكيم بن حزام، وعثمان بن أبي العاص، وأبي هريرة، وغيرهم. ورَوَى عنه ابنه عمران، وحفيده سليمان بن عيسى بن موسى، وابنا أخيه: إسحاق وطلحة ابنا يحيى بن طلحة، وابن أخيه الآخر موسى بن إسحاق بن طلحة، وابن ابن أخيه موسى بن عبد الله بن إسحاق بن طلحة، وعثمان بن موهب، وابنه عمرو، ويحيى ابن سَام، وأبو مالك سَعْد بن طارق الأشجعي، وغيرهم. قال ابن سعد: قال الواقدي: رأيت مَنْ قِبَلنا وأهل بيته يَكْنُونه أبا عيسى، وكان ثقة كثير الحديث. وقال الزُّبير بن بكار: كان من وجوه آل طلحة. وقال المُرُّوذِيّ عن أحمد: ليس به بأس. وقال العجلي: تابعي ثقة، وكان خيارًا، وقال مرّة: كوفي ثقة، رجل صالح. وقال أبو حاتم: يقال: إنّه أفضل ولد طلحة بعد محمّد، كان يُسَمَّى في زمانه المهدي. وقال ابن خِرَاش: كان من أَجِلاء المسلمين، ويقال: إنّه شَهِد الجمل مع أبيه، وأطلقه عليّ بعد أن أُسِر، ويقال: إنّه فَرّ من الكوفة إلى البصرة لمّا ظهر المختار ابن أبي عُبيد. وعن عبد الملك بن عُمير قال: كان فصحاء النَّاس أربعة، فذكره فيهم. وروى الْعَقَديّ عن إسحاق بن يحيى بن طلحة، عن عمه موسى قال: صَحِبتُ عثمان اثنتي عشرة سنة. وقال الهيثم، وابن سعد، وغير واحد: مات سنة ثلاث ومائة. وقال أبو عبيد: مات سنة ثلاث، أو أربع. وقال أبو نعيم وأحمد: مات سنة أربع، ويقال: مات سنة ست. وأرّخه أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو بكر بن عاصم سنة ست. قال ابن عساكر: يقال: إنّه وُلد في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو سَمَّاه. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم 126 و 127

و 940 و 2470. 6 - (معاوية بن أبي سفيان) رضي الله عنهما تقدّم في الباب الماضي، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: نَظَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى طَلْحَةَ) أي ابن عبيد الله -رضي الله عنه- (فَقَالَ: "هَذَا مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ") بفتح النون، وسكون الحاء المهملة، أي وَفَى بنذره، قال ابن الأثير رحمه الله: النّحْبُ: النَّذْر، كأنه ألزم نفسه أن يَصْدُق أعداء الله في الحرب، فوَفَى به، وقيل: النحبُ: الموت، كأنه يُلزم نفسه أن يُقاتِل حتّى يموت. انتهى (¬1). وقال السنديّ رحمه الله: قوله: "ممّن قضى نحبه" أي وَفَى بنذره وعزمه على أنه يموت في سبيل الله تعالى، أو يُحارب أعداء الله تعالى أشدّ المحاربة، فقد مات أو حارب كما نذر، قيل: وكان من الصّحابة من عَزَموا على ذلك، فعدّ طلحة ممّن وَفَى بذلك. انتهى (¬2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما ضعيف بهذا السند؛ لأن إسحاق بن يحيى مجمع على ضعفه، بل قال أحمد، وعمرو الفلّاس، والنَّسائيّ: متروك. وإنّما الصّحيح حديث طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه-، أخرجه الترمذيّ في "الجامع"، قال: 3675 - حَدَّثَنَا أبو كريب محمّد بن العلاء، حَدَّثَنَا يونس بن بكير، حَدَّثَنَا طلحة ابن يحيى، عن موسى وعيسى ابني طلحة، عن أبيهما طلحة، أن أصحاب رسول الله ¬

_ (¬1) "النهاية" 5/ 263. (¬2) "شرح السنديّ 1/ 88.

-رضي الله عنه- قالوا لأعرابي جاهلٍ: سلْهُ عمن قَضَى نحبه من هو؟ وكانوا لا يَجتَرئون هم على مسألته، يُوَقِّرونه ويهابونه، فسأله الأعرابي، فأعرض عنه، ثمّ سأله فأعرض عنه، ثمّ إنِّي اطلعت من باب المسجد، وعلي ثياب خُضْرٌ، فلما رآني رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال: "أين السائل عمن قضى نحبه؟ " قال الأعرابي: أنا يا رسول الله، قال: "هذا ممّن قضى نحبه". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إِلَّا من حديث أبي كريب، عن يونس بن بكير، وقد رواه غير واحد من كبار أهل الحديث، عن أبي كريب هذا الحديث، وسمعت محمّد بن إسماعيل يحدِّث بهذا عن أبي كريب، ووضعه في "كتاب "الفوائد". انتهى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث حسنٌ كما قال الترمذيّ، فإن رجاله ثقات، وقد أخرج لهم مسلم، ويحيى بن طلحة، وإن تكلّم فيه بعضهم من قِبَل حفظه، إِلَّا أنه حسن الحديث، فكان الأولى للمصنّف أن يورده بدلًا من حديث معاوية -رضي الله عنه-. والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل طلحة بن عُبيد الله -رضي الله عنه-، حيث أخبر النبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بأنه ممّن قضى نحبه مع أنه لا يزال حيّا، ينتظر الوفاء بما عاهد الله عليه. 2 - (ومنها): أن فيه علمًا من أعلام النبوّة، حيث أخبر -رضي الله عنه- أنه يُقتل شهيدًا، فقُتل يوم الجمل، فويلٌ لمن قتله. 3 - (ومنها): جواز مدح الإنسان في وجهه إذا لم يُخش عليه فتنة. 4 - (ومنها) أن فيه إشارة إلى قول -عَزَّ وَجَلَّ-: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} الآية [الأحزاب: 23]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 127 - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا إِسْحَاقُ، عَنْ مُوسَى ابْنِ طَلْحَةَ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "طَلْحَةُ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ"). رجال هذا الإسناد: خمسة، تقدّموا في السند الماضي إِلَّا اثنين: 1 - (أحمد بن سنان) بن أسد بن حِبّان -بكسر المهملة، بعدها موحّدة- أبو جعفر القطّان الواسطيّ، ثقة حافظ [11]. رَوَى عن يحيى سعيد القطان، وأبي أحمد الزبيري، وأبي أُسامة، ويزيد بن هارون، والشافعي، وغيرهم. وروى عنه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والنَّسائيّ في حديث مالك، وابن ماجة، وابن خزيمة، وأبو موسى، وهو من أقرانه، وابنه جعفر بن أحمد بن سنان، وزكريا بن يحيى الساجي، وأبو بكر بن أبي داود، وابن أبي حاتم، وابن صاعد، وأبو حاتم، وقال: ثقة صدوق. وقال إبراهيم بن أُورمة: أعدنا عليه ما سمعناه منه من بندار وأبي موسى، يعني لإتقانه وحفظه. وقال النَّسائيُّ: ثقة. قيل: مات سنة (6) وقيل: سنة (8) وقيل: سنة (259) وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: حَدَّثَنَا عنه ابنه جعفر: مات (25) أو قبلها أو بعدها بقليل. وقال الدارقطني: كان من الثقات الأثبات. وقال الآجري: سألت أبا داود عنه، فقدمه على بندار، وليس له عند البخاريّ سوى حديث واحد، وقد روى عنه النَّسائيُّ في "السنن الكبرى" عدة أحاديث في "الحدود"، و"الطّلاق"، وغير ذلك. وله في هذا الكتاب (29) حديثًا. 2 - (يزيد بن هارون) بن زاذي، ويقال: زاذان بن ثابت السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، قيل: أصله بخاريٌّ، ثقة متقنٌ عابدٌ [9]. روى عن سليمان التيمي، وحميد الطَّويل، وعاصم الأحول، وإسماعيل بن أبي

خالد، وأبي مالك الأشجعي، وخلق كثير. وروى عنه بقية بن الوليد، ومات قبله، وآدم بن أبي إياس، وأحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، والذُّهلي، وخلق كثير. قال أبو طالب عن أحمد: كان حافظًا للحديث، صحيح الحديث عن حجاج بن أرطاة، وقال ابن المديني: هو من الثقات، وقال في موضع آخر: ما رأيت أحفظ منه. وقال ابن معين: ثقة. وقال العجلي: ثقة ثبت في الحديث، وكان متعبدًا، حسن الصّلاة جدًّا، وكان يصلّي الضحى ستة عشرة ركعة بها من الجودة غير قليل، وكان قد عمي. وقال أبو زرعة عن أبي بكر بن أبي شيبة: ما رأيت أتقن حفظًا من يزيد. قال أبو زرعة: والإتقان أكثر من حفظ السرد. وقال أبو حاتم: ثقة إمام صدوق لا يُسأل عن مثله. وقال عمرو بن عون عن هشيم ما بالمصرين مثل يزيد. وقال أحمد بن سنان عن عفان: أَخَذَ يزيد عن حماد حفظًا، وهي صحاح بها من الاستواء غير قليل، ومَدَحَها. وقال أيضًا: ما رأيت عالمًا قطّ أحسن صلاة منه، كأنه أسطوانة، لم يكن يَفْتُر عن صلاة اللّيل والنهار، وكان هو وهشيم معروفين بطول الصّلاة. وقال يعقوب بن سفيان عن محمّد بن فضيل البزاز: وُلد يزيد سنة سبع عشرة ومائة. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وُلد سنة ثماني عشرة، وكان يقول: طلبت العلم وحصين حي، وقد نسي، وربما ابتدأني الجريري بالحديث، وكان قد أُنكر، مات في خلافة المأمون في غرة ربيع الآخر سنة ست ومائتين، وفيها أرّخه غير واحد. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (108) أحاديث. وشرح الحديث سبق في الحديث الماضي، وهو بهذا الإسناد ضعيف، وإنّما الحديث حديث طلحة -رضي الله عنه-، وهو حديث حسن، كما سبق بيانه، في الّذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 128 - (حَدَّثَنَا عِليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، قَالَ: رَأَيْتُ يَدَ طَلْحَةَ شَلَّاءَ، وَقَى بِهَا رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ أُحُدٍ). رجال هذا الإسناد: أربعة: 1 - (إسماعيل) بن أبي خالد الأحمسيّ مولاهم البجليّ، ثقة ثبت [4] 13/ 113. 2 - (قيس) بن أبي حازم البجليّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة مخضرم [2] 13/ 113. والباقيان تقدّما قريبًا. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: (منها): أنه من رباعيّات المصنِّف رحمه الله. (ومنها): أن رجاله ثقات، من رجال الجماعة، غير شيخه، فقد تفرد به هو والنَّسائيّ في "مسند عليّ" -رضي الله عنه-. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. (ومنها): أن قيسًا هو التابعي الّذي انفرد بأنه لقي العشرة المبشّرين بالجنة -رضي الله عنه-، وروى عنهم كُلِّهم، على خلاف في عبد الرّحمن بن عوف -رضي الله عنه- والصّحيح أنه روى عنه، وإليه أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفية الأثر"، حيث قال: وَالتَّابِعُونَ طَبَقَاتٌ عَشَرَهْ ... مَعْ خَمْسَةٍ أَوَّلهُمْ ذُو الْعَشَرَهْ وَذَاكَ قَيْسٌ مَا لَهُ نَظِيرُ ... وَعُدَّ عِنْدَ حَاكِمِ كَثِيرُ والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ قَيْس) بن أبي حازم، أنه (قَالَ: رَأَيْتُ يَدَ طَلْحَةَ) أي ابن عبيد الله -رضي الله عنه- (شَلَّاء) -بفتح الشين المعجمة، وتشديد اللام، والمدّ- يقال: شَلَّتْ اليدُ شَلَلًا، من باب تَعِبَ، ويُدغَم المصدر أَيضًا: إذا فَسَدَت عُرُوقُها، فَبَطَلت حركتها، ورجلٌ أشلُّ، وامرأة شَلَّاءُ. قاله الفيّوميّ (¬1). وقال ابن الأثير: اليد الشّلّاءُ هي المنتشرة الْعَصَبِ الّتي لا تُوَاتي ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" 1/ 321.

صاحبها على ما يُريد لما بها من الآفة، يقال: شَلَّت يده تَشَلُّ شَلَلًا، ولا تضمّ الشين. انتهى (¬1). وقال في "الفتح": قوله: "شَلَّت" بفتح المعجمة، ويجوز ضمها في لغة ذكرها اللحيانيّ، وقال ابن دُرُستويه: هي خطأ، والشلل: نقص في الكفّ، وبُطلان لعملها، وليس معناه القطع كما زعم بعضهم. انتهى (¬2). وقوله: (وَقَى بِهَا رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم-) جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا، وهو ما وقع جوابًا عن سؤال مقدّر، تقديره، ما سبب كونها شلاء، فأجاب لكونه وقى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (يَوْمَ أُحُدٍ) متعلّق بـ "وقى"، وفي رواية الطبرانيّ من طريق موسى بن طلحة، عن أبيه أنه أصابه في يده سهم، وفي حديث أنس -رضي الله عنه-: "وقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمّا أراد بعض المشركين أن يضربه"، وفي "مسند الطيالسيّ" عن أبي بكر الصدّيق -رضي الله عنه-، قال: "ثمّ أتينا طلحة -يعني يوم أحد- فوجدنا به بضعًا وسبعين جراحةً، وإذا قد قُطعت إصبعه"، وفي "الجهاد" لابن المبارك من طريق موسى بن طلحة أن إصبعه الّتي أُصيبت هي الّتي تلي الإبهام، وجاء عن يعقوب بن إبراهيم بن محمّد بن طلحة، عن أبيه، قال: "أُصيبت إصبع طلحة البنصر من اليسرى من مفصلها الأسفل، فشُلّت، تَرَّسَ بها على النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. ذكره في "الفتح" (¬3). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث قيس بن أبي حازم رحمه الله تعالى هذا أخرجه البخاريّ. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه المصنّف هنا 16/ 128 و (البخاريّ) (3724) و (ابن سعد) في ¬

_ (¬1) "النهاية" 3/ 287. (¬2) "فتح" 7/ 104 "كتاب فضائل الصّحابة" رقم (3725 - 3728). (¬3) المصدر السابق.

"الطبقات" 3/ 217 و (ابن أبي شيبة) في "المصنِّف" 12/ 90 و (أحمد) في "مسنده" 1313 و"فضائل الصّحابة" 1292 و (سعيد بن منصور) في "سننه" 2850 و (ابن حبّان) في "صحيحه" 6981 و (الطَّبرانيُّ) 192. والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده: (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه-. (ومنها): ما كان عليه الصّحابة -رضي الله عنهم- من حرصهم على وقاية النبيّ - صلّى الله عليه وسلم - بأنْفسهم، عملًا بقوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} الآية [الأحزاب: 6]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

17 - فضل سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -

17 - (فَضْلُ سَعْدٍ بن أبي وَقَّاص -رضي الله عنه-) هو: سعد بن أبي وقّاص، واسمه مالك بن وُهيب، ويقال: أُهيب بن عبد مناف ابن زهرة بن كلاب بن مُرّة، يجتمع مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في كلاب بن مُرّة، وعدد ما بينهما من الآباء متقارب، وأمه حَمْنَة بنت سفيان بن أُميّة بن عبد شمس لم تُسلم، أحد العشرة المبشّرين بالجنة، وآخر من مات منهم، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، مات -رضي الله عنه- بالعقيق سنة (55)، وقيل: بعد ذلك إلى ثمانية وخمسين، وعاش نحوًا من ثمانين سنة. روى من الأحاديث (271) حديثًا، اتفق الشيخان على (15) وانفرد البخاريّ بخمسة، ومسلم بثمانية عشر حديثًا، والله تعالى أعلم بالصواب. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 129 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ عَليٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- جَمَعَ أَبَوَيْهِ لِأَحَدٍ غَيْرَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فَإِنَّهُ قَالَ لَهُ يَوْمَ أُحُدٍ: "ارْمِ سَعْدُ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (محمّد بن بشّار) بُنْدار البصريّ الحافظ الثبت [10] 1/ 6. 2 - (محمّد بن جعفر) غُنْدَر البصريّ الحافظ الثقة [9] 1/ 6. 3 - (شعبة) بن الحجاج الإمام الحافظ الحجة [7] 1/ 6. 4 - (سعد بن إبراهيم) بن عبد الرّحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ القاضي الثقة الفاضل العابد [5] 2/ 14. 5 - (عبد الله بن شدّاد) بن الهاد الليثيّ، أبو الوليد المدنيّ، ثقة فقيه [2]. كان يأتي الكوفة، وأمه سَلْمى بنت عُميس الخثعمية، أخت أسماء، رَوَى عن أبيه، وعمر، ويعلى، وطلحة، ومعاذ، والعباس، وابن مسعود، وابن عبّاس، وابن عمر، وعبد الله بن جعفر، وخالته أسماء بنت عميس، وغيرهم. وروى عنه سعد بن إبراهيم، أبو إسحاق الشيباني، ومعبد بن خالد، والحكم بن

عتيبة، وذَرّ بن عبد الله المُرْهبي، ورِبْعِيّ بن حِرَاش، وغيرهم. قال الميموني: سئل أحمد أسمع عبد الله بن شداد من النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- شيئًا؟ قال: لا. وقال ابن المديني: شَهِد مع علي يوم النَّهْرَوان. وقال العجلي والخطيب: هو من كبار التابعين وثقاتهم. وقال أبو زرعة والنَّسائيّ: ثقة. وقال ابن سعد: كان عثمانيا (¬1) ثقة في الحديث، تُوُفِّي في ولاية الحجاج على العراق. وقال الواقدي: خرج مع القراء أيّام بن الأشعث على الحجاج، فقُتل يوم دُجَيل، وكان ثقة، فقيهًا، كثير الحديث، متشيعًا. وقال ابن نُمير: قُتل بدُجيل سنة (81). وقال يحيى بن بُكير وغير واحد: فُقِد ليلة دُجيل سنة (82). وقال الثّوريّ: فُقد ابن شدّاد، وابنُ أبي ليلى بالجماجم، وكذا قال العجلي، وزاد: اقتَحَمَ بهما فرساهما الماء فذهبا. وقال ابن حبّان في "الثِّقات": غَرِقَ بدُجَيل. وقال ابن عبد البرّ في "الاستيعاب": وُلد على عهد النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-. وقال يعقوب بن شيبة في "مسند عمر": كان يتشيع. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط برقم 129 و 653 و 958 و 1028 و 2734 و 3512 و 3951. 6 - (عليّ) -رضي الله عنه- تقدّم قريبًا، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أن من سداسيات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن نصفه الأوّل مسلسلٌ بالبصربين، والثّاني بالمدنيين. 3 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. 4 - (ومنها): أن صحابيه أحد الخلفاء الأربعة، والعشرة المبشّرين بالجنة، صاحب المناقب الجمة -رضي الله عنه-، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) هكذا قال في "تهذيب الكمال"، وتعقّبه الحافظ في "تهذيب التهذيب" بأن فيه نظرًا فإن يعقوب بن شيبة قال: وكان يتشيّع. انتهى.

شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ الله بْنِ شَدَّاد، عَنْ عَليٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- جَمَعَ أَبَوَيْهِ لِأَحَدٍ غَيْرَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ) وفي هذا الحصر نظر؛ لما تقدّم في ترجمة الزُّبير -صلى الله عليه وسلم- أنه -صلى الله عليه وسلم- جمع له أبويه يوم الخندق، ويُجمَع بينهما بأن عليًّا -رضي الله عنه- لم يطلع على ذلك، أو مراده بذلك بقيد يوم أحد. قاله في "الفتح" (¬1) (فَإِنَّهُ) -رضي الله عنه- (قَالَ لَهُ) أي لسعد -رضي الله عنه- (يَوْمَ أُحُدٍ) أي يوم وقعة أحد (ارْمِ سَعْدُ) بالضم؛ لأنه علم مفرد منادى بحذف حرف النِّداء، أي يا سعد (فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي) مبتدأ وخبره، وفي رواية ابن المسيَّب قال: سمعت سعد بن أبي وقّاص يقول: نَثَلَ لي النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كنانته يوم أحد، قال: "ارم فداك أبي وأمّي"، متّفق عليه. وأخرج مسلم من طريق بُكير بن مِسْمَار، عن عامر بن سعد، عن أبيه، أن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- جَمَعَ له أبويه يوم أحد، قال: كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين، فقال له النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "ارم فداك أبي وأمي"، قال: فَنزعت له بسهم ليس فيه نَصْلٌ، فأصبت جنبه، فسقط فانكشفت عورته، فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتّى نظرت إلى نواجذه. وفي مرسل ابن عائذ عن الوليد بن مسلم، عن يحيى بن حمزة قال: قال سعد: "رميت بسهم، فردّ عليّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- سهمي أعرفه، حتّى واليت بين ثمانية أو تسعة، كلّ ذلك يردّه عليّ، فقلت: هذا سهم دم، فجعلته في كنانتي لا يُفارقني"، وعند الحاكم لهذه القصّة بيان سبب، فأخرج من طريق يونس بن بُكير، وهو في المغازي روايته من طريق عائشة بنت سعد، عن أبيها قال: "لما جال النّاسُ يوم أحد تلك الجَوْلة تنحّيت، فقلت: أذود عن نفسي، فإما أن أنجو، وإما أن أُستشهَد، فإذا رجل محمرّ وجهه، وقد كاد المشركون أن يركبوه، فملأ يده من الحمى، فرماهم، وإذا بيني وبينه المقداد، فأردت أن أسأله عن الرَّجل، فقال لي: يا سعد هذا رسول الله يدعوك، فقمت وكأنه لم يُصبني شيء من الأذى، وأجلسني أمامه، فجعلت أرمي ... " فذكر الحديث (¬2)، والله تعالى أعلم ¬

_ (¬1) "الفتح" 7/ 105. (¬2) راجع "الفتح" 8/ 105 "كتاب الغازي" رقم (4060 و 4063).

بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عليّ -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (17/ 122) فقط، وأخرجه (البخاريّ) في (الجهاد والسير) (20905) و"المغازي" (4058 و 4059) و"الأدب" (6184) و (مسلم) في "فضائل الصّحابة" (2411) و (الترمذيّ) في "الأدب" (2755) و"المناقب" (3686 و 3688) و (أحمد) في "مسنده" (671 و 968 و 1090 و 1286)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل سعد بن أبي وقّاص -رضي الله عنه-. 2 - (ومنها): جواز التفدية بالأبوين، وبه قال جماهير العلماء، وكرهه عمر بن الخطّاب، والحسن البصريّ رضي الله عنهما، وكرهه بعضهم في التفدية بالمسلم من أبويه، والصّحيح الجواز مطلقًا؛ لأنه ليس فيه حقيقة فداء، وإنما هو كلام إلطاف، وإعلام بمحبته له، ومَنْزِلته عنده، وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالتفدية مطلقًا. قال له النووي رحمه الله (¬1). 3 - (ومنها): فضيلة الرمي، والحثّ عليه، والدعاء لمن فعل خيرًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. ¬

_ (¬1) راجع "شرح مسلم" 15/ 184.

وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 130 - (حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْح، أَنْبَأَنَا اللِّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ح وحَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَإِسماعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ يَحْيىَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُوُل: لَقَدْ جَمَعَ لِي رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ أُحُدٍ أَبَوَيْهِ، فَقَالَ: "ارْمِ سَعْدُ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي"). رجال هذا الإسناد: ثمانية: 1 - (محمّد بن رُمح) بن المهاجر التُّجيبيّ مولاهم المصريّ، ثقة ثبت [10] 2/ 15. 2 - (هشام بن عمّار) الدمشقيّ المذكور قبل باب. 3 - (اللَّيث بن سعد) بن عبد الرّحمن الفهميّ، أبو الحارث المصريّ الثقة الثبت الفقيه الإمام المشهور [7] 2/ 15. 4 - (حاتم بن إسماعيل) الحارثيّ مولاهم، أبو الحارث المدنيّ، كوفيّ الأصل، صدوق يَهِم، صحيح الكتاب [8]. روى عن يحيى بن سعيد الأنصاري، ويزيد بن أبي عبيد، وهشام بن عروة، والجعيد بن عبد الرّحمن، وغيرهم. وروى عنه ابن مهدي، وابنا أبي شيبة، وسعيد بن عمرو الأشعثي، وقتيبة، وإسحاق بن راهويه، وإبراهيم بن موسى الرَّازيُّ، وهناد بن السري، ويحيى بن معين، وأبو غريب، وجماعة. قال أحمد: هو أحب إلي من الدَّرَاوردي، وزعموا أن حاتِمًا كان فيه غفلة، إِلَّا أن كتابه صالح. وقال أبو حاتم: هو أحب إلي من سعيد بن سالم. وقال النَّسائيُّ: ليس به بأس. وقال ابن سعد: كان أصله من الكوفة، ولكنه انتقل إلى المدينة فنزلها، ومات بها سنة (186)، وكان ثقةً مأمونًا كثير الحديث. وقال البخاريّ، عن "أبي ثابت المديني: مات سنة (87)، وكذا قال ابن حبّان، وزاد: ليلة الجمعة لتسع ليال مضين من جمادى

الأولى، كذا قال في "الثِّقات"، وكذا عند البخاريّ أيضًا في "التاريخ الكبير"، وفي "الأوسط" أيضًا. وقال العجلي: ثقة. وكذا قال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين. وقال ابن المديني: روى عن جعفر، عن أبيه، أحاديث مراسيل أسندها. وذكر الذهبي في "الميزان" أن النَّسائيُّ قال: ليس بالقوي، انتهى. قال الجامع عفا الله عنه: لعلّ للنسائيّ فيه قولين، والله تعالى أعلم. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب عشرون حديثًا. 5 - (إسماعيل بن عياش) بن سُليم الْعَنْسيّ، أبو عُتْبَة الحمصيّ، صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلّط في غيرهم [8] 9/ 74. 6 - (يحيى بن سعيد) الأنصاريّ، أبو سعيد القاضي المدنيّ، ثقة ثبت [5] 3/ 29. 7 - (سعيد بن المُسَيِّب) القرشيّ المخزوميّ الإمام الحجة الثبت الفقيه المشهور، من كبار [3] 12/ 104. 8 - (سعد بن أبي وقّاص) الصحابيّ المشهور -رضي الله عنه- تقدّم 3/ 29. وقوله: "جمع لي إلخ" ذكره لبيان جواز ذلك شرعًا، أو لمدحه نفسه في مقام اقتضى ذلك شرعًا، قاله السنديّ، وتمام شرح الحديث يُعلم ممّا سبق قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث سعد بن أبي وقّاص -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (17/ 130) فقط، وأخرجه (البخاريّ) في "المغازي" (4055 و 4056 و 4057) و"المناقب" (3725) و (مسلم) في "فضائل الصّحابة" (2412) و (الترمذيّ) في "الأدب" (2755 و 2756) و"المناقب" (3686 و 3687) و (أحمد) في "مسنده" (1413)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو

حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 131 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ إِدْرِيسَ، وَخَالي يَعْلَى، وَوَكيعٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، يَقُولُ: إِنِّي لَأَوَّلُ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ في سَبِيلِ الله). رجال هذا الإسناد: سبعة: 1 - (علي بن محمّد) الطنافسيّ المذكور في الباب الماضي. 2 - (عبد الله بن إدريس) الأَوْديّ الكوفيّ، ثقة فقيه عابدٌ [8] 7/ 52. 3 - (يعلى) بن عبيد بن أبي أُميّة الطنافسيّ، أبو يوسف الكوفيّ خال علي الراوي عنه هنا، ثقة إِلَّا في حديثه عن الثوريّ، ففيه لينٌ، من كبار [9] 10/ 89. 4 - (وكيع) بن الجرّاح الإمام المشهور المذكور في الباب الماضي. 5 - (إسماعيل) بن أبي خالد الْبَجليّ الأحمسيّ الكوفيّ، ثقة ثبت [4] 13/ 113. 6 - (قيس) بن أبي حازم البجليّ الأحمسيّ، ثقة مخضرم [2] 13/ 113، والصحابيّ سبق قريبًا، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين. 3 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعي مخضرم. 4 - (ومنها): أن قيس هو التابعيّ الّذي تفرد بالرواية عن العشرة المبشرين بالجنة -رضي الله عنهم-. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ قَيْس) بن أبي حازم رحمه الله، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ) -رضي الله عنه- (يَقُولُ: إِنّي لَأَوَّلُ الْعَرَبِ) التعريف فيه للجنس، وقوله: (رَمَى) جملة في محل جرّ صفة له

على حدّ قوله: وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي ... فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لَا يَعْنِينِي ذكره الطيبيّ، وحاصله أن "رمى" صفة "أول"، أي أول عربيّ رمى، واللام في "العرب" للجنس المحمول على العهد الذهنيّ. قاله القاري (¬1). وقوله: (بِسَهْمٍ) متفق بـ "رمى"، وكذا قوله: (في سَبِيلِ الله) كان ذلك في سريّة عُبيدة بن الحارث بن المطّلب، وكان القتال فيها أولَ حرب وقعت بين المشركين والمسلمين، وهي أولُ سريّة بعثها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السنة الأولى من الهجرة، بَعَثَ ناسًا من المسلمين إلى رابغ لِيَلْقَوْا عِيرًا لقريش، فترامَوْا بالسهام، ولم يكن بينهم مسايفةٌ، فكان سعد -رضي الله عنه- أولَ من رَمَى، ذكر ذلك الزُّبير بن بكّار بسند له، وقال فيه عن سعد: إنّه أنشد يومئذ [من الوافر]: أَلَا هَل أتَى (¬2) رَسُولَ اللهِ أَنِّي ... حَمَيْتُ صَحَابَتِي بصُدُورِ نَبْلِي وذكرها يونس بن بُكير في زيادة المغازي من طريق الزهريّ نحوه، وابن سعد من وجه آخر عن سعد -رضي الله عنه-: "أنا أول من رمى بسهم، ثمّ خرجنا مع عُبيدة بن الحارث ستين راكبًا" (¬3). [تنبيه]: هذا الحديث في رواية المصنّف مختصر، وقد ساقه البخاريّ مطوّلًا، فقال: 3728 - حَدَّثَنَا عمرو بن عون، حَدَّثَنَا خالد بن عبد الله، عن إسماعيل، عن قيس، قال سمعت سعدًا -رضي الله عنه- يقول: "إنِّي لأول العرب رَمَى بسهم في سبيل الله، وكنا نغزو مع النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وما لنا طعام إِلَّا ورق الشجر، حتّى إن أحدَنا لَيَضَع كما يَضَعُ البعير أو الشاة، ما له خِلْطٌ (¬4)، ثمّ أصبحت بنو أَسَد تُعَزِّرني (¬5) على الإسلام، لقد خِبْتُ إِذًا ¬

_ (¬1) راجع "المرقاة" 10/ 486 - 487. (¬2) بنقل حركة الهمزة إلى لام "هل"، ودرجها للوزن. (¬3) راجع "الفتح" 7/ 106 "كتاب فضائل الصّحابة" رقم (3729). (¬4) بكسر المعجمة، وسكون اللام: أي لا يختلط بعضه ببعض من شدّة جفافه وتفتّته. (¬5) أي تؤدّبني، وتعلمني الصّلاة، أو تعيّرني بأني لا أُحسنها.

وضَلَّ عملي، وكانوا وَشَوْا به إلى عمر، قالوا: لا يُحْسِنُ يصلّي"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث سعد بن أبي وقّاص -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (17/ 131) فقط، وأخرجه (البخاريّ) (3728 و 5412 و 6453) و (مسلم) (2966) و (التّرمذيّ) (2365 و 2366) و (النَّسائيّ) في "الكبرى" (8161) و (أحمد) في "مسنده" (1498) و"ابن حبّان" في "صحيحه" (6989)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل سعد بن أبي وقّاص -رضي الله عنه-.2 - (ومنها): فضل السبق في فعل الخير، وكونه أوّل الناس. 3 - (ومنها): فضل الرمي في سبيل الله. 4 - (ومنها): جواز التحدّث بما فعله الإنسان لله تعالى؛ فلا ينافي الإخلاص، إذا دعت الحاجة إليه، فإن سعدًا -رضي الله عنه- إنّما ذكر هذا لكون أهل الكوفة اتّهموه حتّى رموه بأنه لا يُحسن يُصلّي، فأراد دفع التهم عن نفسه بأنه أول من أعتنق هذا الإسلام، وأخذ تعاليمه من النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قبل كثير من النَّاس، فكيف يتهمه أهل الكوفة الذين ما دخلوا في الإسلام إِلَّا على يديه؟، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 132 - (حَدَّثَنَا مَسْرُوقُ بْنُ المُرْزُبَانِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدةَ، عَنْ هَاشِمِ بْنِ هَاشِم، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ المُسَيَّبِ يَقُولَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: "مَا أَسْلَمَ أحَدٌ في الْيَوْمِ الَّذِي أَسْلَمْتُ فِيهِ، وَلَقَدْ مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَإِنِّي لَثُلُثُ الْإِسْلَامِ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (مسروق بن المُرْزُبَانِ) -بسكون الراء، وضم الزاي، بعدها موحّدة- ابن مسروق ابن معدان الكنديّ، أبو سعيد بن أبي النعمان الكوفيّ، صدوقٌ له أوهام [10]. رَوَى عن أبيه، وأبي الأحوص، وعبد السّلام بن حرب، وأبي بكر بن عَيّاش، وحفص بن غياث، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وابن فضيل، وعِدّة. وروى عنه ابن ماجة، وأبو زرعة، وابن أبي عاصم، وعبدان الأهوازي، ومحمد ابن عمان بن أبي شيبة، وغيرهم. قال أبو حاتم: ليس بالقويّ، يُكتَب حديثه. وقال في أبي هِشَام الرِّفاعيّ: هو مثل مسروق بن المرزُبان. وقال صالح بن محمّد: صدوق. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: مات سنة أربعين ومائتين، أو قبلها بقليل، أو بعدها بقليل. تفردّ به المصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (132) و (2016) حديث: "أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طلّق حفصة، ثمّ راجعها". 2 - (يحيى بن أبي زائدة) هو: يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، واسمه خالد بن ميمون ابن فَيْرُوز الهمْدانيّ الوادعي مولاهم، أبو سعيد الكوفيّ، ثقة متقن، من كبار [9]. رَوَى عن أبيه، والأعمش، وابن عون، وعاصم الأحول، وهشام بن عروة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وداود بن أبي هند، وهاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص، وجماعة. ورَوَى عنه يحيى بن آدم، وأبو داود الحْفَرِيّ، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وابنا أبي شيبة، وعلي بن المديني، وداود بن رُشَيد، ويحيى بن يحيى النيسابوري،

وإبراهيم بن موسى، وأبو كريب، وآخرون. قال إبراهيم بن موسى عن أبي خالد الأحمر: كان جَيِّد الأخذ، وقال عمرو الناقد عن ابن عيينة: ما قَدِمَ علينا مثلُ ابن المبارك ويحيى بن أبي زائدة. وقال الحارث بن سُرَيج عن يحيى القطان: ما خالفني أحد بالكوفة أشد علي من ابن أبي زائدة. وقال أحمد وابن معين: ثقة. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: إسماعيل بن زكريا أحب إليك، أو يحيى ابن أبي زائدة؟ قال: يحيى أحب إلي، قلت: هما أخوان عندك؟ قال: لا. وقال ابن المديني: هو من الثقات، وقال أيضًا: لم يكن بالكوفة بعهد الثّوريّ أثبت منه، وقال انتهى العلم إليه في زمانه. وقال ابن نمير: كان في الإتقان أكثر من ابن إدريس. وقال أبو حاتم: مستقيم الحديث، ثقة، صدوق. وقال النَّسائيُّ: ثقة ثبت. وقال العجلي: ثقة وهو ممّن جُمِع له الفقه والحديث، وكان على قضاء المدائن، ويُعهدّ من حُفّاظ الكوفيين للحديث متقنًا ثبتًا صاحب سنة. ووكيع إنّما صَنّف كُتبه على كُتب يحيى بن أبي زائدة. وذكر ابن أبي حاتم أنه أول من صنف الكتب بالكوفة. وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله تعالى. وقال ابن شاهين في "الثِّقات": قيل ليحيى ابن معين: إن زكريا بن عدي لم يحدث عنه، قال: هو خير من زكريا بن عدي، ومن أهل قريته. قال علي بن المديني: مات سنة اثنتين وثمانين ومائة. وقال ابن سعد وغيره: مات بالمدائن، وهو قاض بها سنة ثلاث وثمانين، وفيها أرّخه غير واحد، زاد يعقوب بن شيبة: وبلغ من السن يوم مات ثلاثا وستين سنة، وقال خليفة، وابن حبّان: مات سنة ثلاث أو أربع، وقال ابن قانع: مات سنة أربع. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (19) حديثًا. 3 - (هاشم بن هاشم) بن عتبة بن أبي وقّاص الزهريّ المدنيّ، ويقال: هاشم بن

هاشم بن هاشم، وهو أصح؛ لأن هاشم بن عتبة قُتِل بِصِفِّين سنة سبع وثلاثين، فيبعد أن يكون صاحبُ التّرجمة ابنَهُ؛ لبعد ما بين وفاتيهما، ثقة [6]. رَوَى عن سعيد بن المسيَّب، وعامر، وعائشة ابني سعد بن أبي وقاص، وعبد الله ابن وهب بن زَمْعة، وعبد الله بن نِسْطَاس، وإسحاق بن عبد الله بن الحارث بن كنانة، وأبي صالح مولى السعديين. وروى عنه مالك، والدِّرَاوردي، ويحيى بن أبي زائدة، وموسى بن يعقوب الزمعي، وأبو أُسامة، وأبو ضمرة، وشجاع بن الوليد، وعبد الله بن نمير، وغيرهم. قال صالح بن أحمد عن أبيه: ليس به بأس. وقال ابن معين والنَّسائيّ: ثقة. وقال العجليّ: هاشم بن هاشم بن عُتبة: عدني ثقة. وقال البزار: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مات سنة أربع وأربعين ومائة. وقال البخاريّ عن مكي: سمعت منه سنة أربع. وقال أحمد بن حنبل عن مكي: سمعت منه سنة سبع وأربعين. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (132) و (2325) حديث: "من حلف بيمين آثمة عند منبري ... " الحديث. والباقيان سبقا قريبًا، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فإنّه من أفراده، وقد وُثّق. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من هاشم، والباقيان كوفيّان. 4 - (ومنها): أن فيه ابن المسيّب أحد الفقهاء السبعة، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ هَاشِمِ بْنِ هَاشِمٍ) بن هاشم بن عتبة، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ المُسَيَّبِ يَقُول: قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبي وَقَّاصٍ) -رضي الله عنه- (مَا أَسْلَمَ أَحَدٌ في الْيَوْمِ الَّذِي أَسْلَمْتُ فِيهِ) هكذا رواية المصنّف، ولا إشكال فيها؛ إذ معناه أنه لم يشاركه أحد في الإسلام يوم أسلم، لكن

وقع رواية البخاريّ بلفظ: "ما أسلم أحدٌ إِلَّا في اليوم الّذي أسلمت فيه"، بزيادة "إِلَّا"، وفيها إشكال، لكن يمكن حمله على أنه قال ذلك على حسب علمه. [تنبيه]: من الغريب أن الحافظ رحمه الله عزا رواية المصنّف هذه إلى ابن منده مع أن عزوها إلى المصنِّف هو الأولى، ولفظه: وقد رأيت في "المعرفة" لابن منده من طريق أبي بدر، عن هاشم، بلفظ: "ما أسلم أحد في اليوم الّذي أسلمتُ فيه"، وهذا لا إشكال فيه؛ إذ لا مانع أن لا يشاركه أحد في الإسلام يوم أسلم، لكن أخرجه الخطيب من الوجه الّذي أخرجه ابن منده، فأثبت فيه "إِلَّا" كبقية الروايات، فتعين الحمل على ما قلته. انتهى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لكن رواية المصنّف تؤيّد ما في "المعرفة"، فلا بدّ من تأويل رواية البخاريّ بما ذُكر، والله تعالى أعلم. (وَلَقَدْ مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَإِنِّي لَثُلُثُ) بضمته، أو بضم فسكون، ويقال: أيضًا ثَلِيث، بفتح، فكسر (الْإِسْلَامِ) قال الطيبيّ: يعني يوم أسلمت كنت ثالث من أسلم، فأكون ثلث أهل الإسلام، وبقيتُ على ما كنت عليه سبعة أيّام، ثمّ أسلم بعد ذلك من أسلم. انتهى (¬1). وإنّما قال ذلك بحسب اطلاعه، والسبب فيه أنّ من كان أسلم في ابتداء الأمر، كان يُخفِي إسلامه، ولعلّه أراد بالاثنين الآخرين: خديجة وأبا بكر، أو النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وأبا بكر، وقد كانت خديجة أسلمت قطعًا فلعلّه خَصّ الرجال، وقد ثبت في حديث عمار -رضي الله عنه-: رأيت النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وما معه إِلَّا خمسة أعبد، وأبو بكر، وهو يعارض حديث سعد -رضي الله عنه- هذا، والجمع بينهما هو ما سبق من أنه قاله بحسب اطّلاعه، أو يُحْمَل قول سعد على الأحرار البالغين؛ ليخرُج الأعبدُ المذكورون، وعلي -رضي الله عنه- أو لم يكن اطّلع على أولئك، ويدلُّ على هذا الأخير أنه وقع عند الإسماعيلي من رواية يحيى بن سعيد الأموي، عن ¬

_ (¬1) "الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3896.

هاشم، بلفظ: "ما أسلم أحد قبلي"، ومثله عند ابن سعد من وجه آخر، عن عامر بن سعد، عن أبيه، وهذا مقتضى رواية الأصيلي، وهي مشكلة؛ لأنه قد أسلم قبله جماعة، لكن يُحمَل ذلك على مقتضى ما كان اتصل بعلمه حينئذ، قاله في "الفتح" (¬1) وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث سعد بن أبي وقّاص -رضي الله عنه- هذا متفقٌ عليه. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (17/ 132) فقط، وأخرجه (البخاريّ) في "المناقب" 3736 (و 3727، و 3858)، وفوائده تعلم ممّا سبق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 7/ 105 - 106 "كتاب فضائل الصّحابة" رقم (3725 - 3728).

18 - فضائل العشرة - رضي الله عنهم -

18 - (فَضَائِلُ الْعَشرَةَ -رضي الله عنهم-) أي: الصّحابة العشرة المبشّرين بالجنّة الذين ذُكروا في سياق حديث واحد، وإلا فالمبشّرون أكثر من العشرة بكثير، ثمّ إن الذين ذُكروا في حديث الباب تسعة، لا عشرة، فكأنه أراد بالعشرة غالبهم، أفاده السنديّ. والعاشر هو: أبو عبيدة بن الجرّاح -رضي الله عنه-، وقد ورد ذكر العشرة كاملًا في حديث أخرجه النَّسائيّ في "الفضائل" من "الكبرى" من طريق عبد الرّحمن بن حميد، عن أبيه، أن سعيد بن زيد حدّثه في نفَر أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "عشرة في الجنَّة، أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وطلحة، والزبير، وعبد الرّحمن، وأبو عبيدة بن الجرّاح، وسعد ابن أبي وقّاص"، قال: فعدّ هؤلاء التسعة، ثمّ سكت عن العاشر، فقال القوم: ننشُدُك الله يا أبا الأعور، أنت العاشر؟ قال: إذ نشدتمُوني بالله، أبو الأعور في الجنّة. وأخرجه الترمذيّ من حديث عبد الرّحمن بن عوف -رضي الله عنهم- أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أبو بكر في الجنّة، وعمر في الجنّة، وعثمان في الجنّة، وعليّ في الجنّة، وطلحة في الجنّة، والزبير في الجنّة، وعبد الرّحمن بن عوف في الجنّة، وسعد بن أبي وقّاص في الجنّة، وسعيد بن زيد في الجنّة، وأبو عُبيدة بن الجرّاح في الجنّة" (¬1). والله تعالى أعلم بالصواب. وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 133 - حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّار، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ المُثَنَّى، أَبُو المُثّنَّى النَّخَعِيُّ، عَنْ جَدِّهِ رِيَاحِ بْنِ الحارِثِ، سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نفيْلٍ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عَاشِرَ عَشَرَةٍ، فَقَالَ: "أَبُو بَكْرٍ في الجنَّةِ، وَعُمَرُ في الجنَّةِ، وَعُثْمانُ في الجنَّةِ، وَعَليٌّ في الجنّةِ، وَطَلْحَةُ في الجنَّةِ، وَالزُّبَيْرُ قِي الجنَّةِ، وَسَعْدٌ في الْجَنَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ في الجنَّةِ"، فَقِيلَ لَهُ مَنِ التَّاسِعُ؟ قَالَ: "أَنَا"). ¬

_ (¬1) حديث صحيح أخرجه الترمذيّ في "المناقب" رقم (6118)، وأحمد في "مسنده" رقم (1675).

رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (هشام بن عمّار) المذكور في الباب الماضي. 2 - (عيسى بن يونس) بن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفيّ، ثقة مأمون [8] 9/ 69. 3 - (صدقة بن المثنّى، أبو المثنّى النخَعيّ) ثقة [6]. رَوَى عن جده، وعنه عيسى بن يونس، وعبد الواحد بن زياد، وحفص بن غياث، وأبو أُسامة، ويحيى القطان، ومحمد بن عبيد، ومحمد بن فضيل، ومحمد بن بِشْر الْعَبْديّ، وجماعة. قال أحمد: شيخ صالح. وقال الآجري عن أبي داود: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". ووثقه العجلي. أخرج له أبو داود، والنَّسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 4 - (جدّه رياح -بكسر الراء، ثمّ التحتانيّة- ابن الحارث) النخعيّ، أبو المثنّى الكوفيّ، ثقة [2]. يقال: إنّه حَجّ مع عمر، ورَوَى عن ابن مسعود، وعلي، وسعيد بن زيد، وعمار ابن ياسر، والحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، والأسود بن يزيد. وروى عنه ابنه جرير، وحفيده صدقة بن المثنى بن رِيَاح، والحسن بن الحكم النخعي، وأبو جَمْرَة الضُّبَعي، وعدة. قال العجليّ: كوفي تابعي ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". أخرج له أبو داود، والنَّسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 5 - (سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل) بن عبد الْعُزَّي العَدَويّ، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأمه فاطمة بنت بَعْجَة بن مُلَيح الْخُزَاعية، كانت من السابقين إلى الإسلام، أسلم قبل دخول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دار الأرقم، وهاجر، وشَهِد أُحدًا، والمشاهد بعدها، ولم يكن بالمدينة زمانَ بدر، فلذلك لم يشهدها. رَوَى عنه من الصّحابة ابنُ عمر، وعمرو بن حريث، وأبو الطفيل، ومن كبار

التابعين أبو عثمان النَّهْديّ، وابن المسيَّب، وقيس بن أبي حازم، وغيرهم. ذَكَرَ عروةُ وابن إسحاق وغيرهم في المغازي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضَرَبَ له بسهمه يوم بدر؛ لأنه كان غائبًا بالشام، وعن عروة أنه ممّن ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سهمه وأجرَه في بدر هو وطلحة، وكان بعثهما يتجسّسان له أمر عِير قريش، فلم يحضُرا بدرًا. وكان إسلامه قديمًا قبل عمر، وكان إسلام عمر عنده في بيته؛ لأنه كان زوج أخته فاطمة؛ ورَوَى البخاريّ من طريق قيس بن أبي حازم، عن سعيد بن زيد قال: لقد رأيتني، وإن عمر لموثقي على الإسلام. وقد شَهِد سعيد بن زيد الْيَرْمُوك، وفتحَ دمشق. وقال سعيد بن حبيب: كان مقام أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وسعد وسعيد وطلحة والزبير وعبد الرّحمن بن عوف مع النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- واحدًا، كانوا أمامه في القتال، وخلفه في الصّلاة. وكان سعيد من فضلاء الصّحابة، وقصته مع أروى بنت أُنيس مشهورة في إجابة دعائه عليها، أخرجها البخاريّ ومسلم وغيرهما. ورَوَى أبو نعيم في "الحلية" في ترجمته من طريق أبي بكر بن حزم أن سعيدًا، قال: اللَّهُمَّ إنها قد زعمت أنها ظُلِمَت، فإن كانت كاذبة فأعمِ بصرها، وألقها في بئرها، وأظهر من حقي نورًا بين المسلمين أني لم أظلمها، قال: فبينما هم على ذلك إذ سأل العقيقُ سيلًا لم يَسِلْ مثله قط، فكُشف عن الحدّ الّذي كانا يختلفان فيه، فإذا سعيد بن زيد في ذلك قد كان صادقًا، ثم لم تَلْبَث إِلَّا يسيرًا حتّى عَمِيَتْ فبينما هي تطوف في أرضها تلك سقطت في بئرها، قال: فكنا ونحن غلمان نسمع الإنسان يقول للآخر: إذا تخاصما أعماك الله عَمَى أروى، فكنا نظن أنه يريد الوحشية، وهو كان يريد ما أصاب أروى بدعوة سعيد بن زيد. قال الواقدي: تُوُفِّي بالعقيق، فحُمل إلى المدينة، وذلك سنة خمسين، وقيل: إحدى وخمسين، وقيل: سنة اثنتين، وعاش بضعًا وسبعين سنة، وكان طوالًا آدمَ أشعَرَ، وهذا هو القول الأصحّ، وزعم الهيثم بن عدي أنه مات بالكوفة، وصلّى عليه المغيرة بن

شعبة، قال: وعاش ثلاثًا وسبعين سنة (¬1). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم 133 و 134 و 398 و 2580 و 3454. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، وشيخه، وإن تكلّم فيه بالتغيّر، إِلَّا أنه موثّق. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فدمشقيّ. 4 - (ومنها): أن فيه رواية الراوي عن جدّه. 5 - (ومنها): أن صحابيّه أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، ومن السابقين إلى الإسلام، ومن البدريين، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ رِيَاحِ) بكسر الراء، وتخفيف التحتانيّة (ابْنِ الحُارِثِ) النخعي، أنه (سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ) -رضي الله عنه- (يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَاشِرَ عَشَرَةٍ) أي واحدًا من عشرة (فَقَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (أَبُو بَكْرٍ) الصّديق، مبتدأ خبره قوله: (في الجَنَّةِ) وكذا ما بعده (وَعُمَرُ) بن الخطّاب (في الجَنَّةِ، وَعُثْمانُ) بن عفّان (في الجنَّةِ، وَعَليٌّ بن أبي طالب في الجنَّةِ، وَطَلْحَةُ) بن عبيد الله (في الجَنَّةِ، وَالزُّبَيْرُ) بن العوّام (في الجنَّةِ، وَسَعْدٌ) ابن أبي وقّاص (في الجَنَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن عوف (في الجنَّةِ، فَقِيلَ لَهُ) أي لسعيد بن زيد -رضي الله عنه- (مَنِ التَّاسِعُ؟ قَالَ: "أَنَا") مبتدأ خبره محذوف، أي أنا تاسعهم، ولعلّ سكوته عن ذكر اسمه تواضعًا؛ لئلا يزكّي نفسه، وفي رواية النَّسائيّ من طريق يحيى القطّان، عن صدقة ابن المثنّى، قال: حدثني جدّي رياح بن الحارث أن سعيد بن زيد قال: أشهد على رسول ¬

_ (¬1) راجع "الإصابة" 2/ 87 - 88.

الله -صلى الله عليه وسلم- بما سمعته أُذناي، ووعاه قلبي، وإني لم أكن لأروي عليه كذبًا يسألني عنه إذا لقيته، أنه قال: أبو بكر في الجنّة، وعمر في الجنّة، وعثمان في الجنّة، وطلحة في الجنّة، والزبير في الجنّة، وعبد الرّحمن بن عوف في الجنّة، وسعد بن مالك في الجنَّة، وتاسع المؤمنين لو شئتُ أن أُسمّيه لسمّيته، فرَجّ أهل المسجد يُناشدونه، يا صاحب رسول الله من التّاسع؟ قال: ناشدتموني بالله العظيم، أنا تاسع المؤمنين، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- العاشر. فتبيّن في هذه الرِّواية أن العاشر هو النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وفي رواية عبد الرّحمن بن حميد السابقة، أن العاشر هو أبو عبيدة، ويُجمع بأنه يمكن أن يكون النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أخبر في مجلسين، ففي مجلس جعل العاشر نفسه، وفي مجلس جعله أبا عبيدة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث سعيد بن زيد -رضي الله عنه- هذا صحيح. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنِّف) هنا (18/ 133) فقط، وأخرجه (أبو داود) (4648 و 4649 و 4650) و (الترمذيّ) (3748 و 3757) و (النَّسائيّ) في "فضائل الصّحابة" (8137) و (أحمد) في "مسنده" (1629) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (6993 و 6996)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 134 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ ظَالِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زيدٍ، قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ الله أَنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "اثْبُتْ حِرَاءُ، فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ، أَوْ صِدِّيقٌ، أَوْ شَهِيدٌ، وَعَدَّهُمْ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدٌ، وَابْنُ عَوْفٍ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ").

رجال هذا الإسناد: سبعة: 1 - (محمّد بن بشّار) بُندار أبو بكر البصريّ، ثقة حافظ [10] 1/ 6. 2 - (ابن أبي عديّ) هو: محمّد بن إبراهيم بن أبي عديّ، ويقال: إن كنيةَ إبراهيم أبو عَدِيّ السُّلَميّ مولاهم، الْقَسْمَلِيّ نزل فيهم، أبو عمرو البصريّ، ثقة [9]. رَوَى عن سليمان التيمي، وحميد الطَّويل، وابن عون، وداود بن أبي هند، وعثمان ابن غياث، وشعبة، وسعيد بن أبي عروبة، وجماعة. ورَوَى عنه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعمرو بن عليّ، وابنا أبي شيبة، وأبو موسى، وبندار، وقتيبة بن سعيد، وغيرهم. قال عمرو بن عليّ: سمعت عبد الرّحمن بن مهدي، وذَكَرَ ابنَ أبي عدي، فأحسن الثّناء عليه، وسمعت معاذ بن معاذ يُحسن الثّناء عليه. وقال أبو حاتم والنسائي: ثقة. وقال: ابن سعد: كان ثقة، مات بالبصرة سنة أربع وتسعين ومائة، وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: يوم الاثنين لعشر بقين من ربيع الآخر منها، وقال: أبو موسى محمّد ابن المثنى: مات سنة (92)، وقال: الْقَرّاب: في وفاته اختلافٌ، وفي سنة أربع أكثر. وفي "الميزان": قال: أبو حاتم مرّة: لا يحتج به، وقال رُسْته: سمعت معاذ بن معاذ يقول: ما رأيت أحدًا أفضل من ابن أبي عدي. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (34) حديثًا. 3 - (شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت المشهور [7] 1/ 6. 4 - (حُصين) بن عبد الرّحمن السُّلَميّ، أبو الْهُذيل الكوفيّ، ابن عم منصور، ثقة تغيّر حفظه في الآخر [5]. رَوَى عن جابر بن سمرة، وعمارة بن رُوَيبة، وعن زيد بن وهب، وعمرو بن ميمون، ومُرّة بن شَرَاحيل، وهلال بن يساف، وأبي وائل، والشعبي، وغيرهم. وروى عنه شعبة، والثوري، وزائدة، وجرير بن حازم، وسليمان التيمي، وخلف ابن خليفة، وجرير بن عبد الحميد، وخالد الواسطي، وغيرهم.

قال أبو حاتم عن أحمد: حصين بن عبد الرّحمن الثقة المأمون من كبار أصحاب الحديث. وقال ابن معين: ثقة. وقال العجلي: ثقة ثبت في الحديث، والواسطيون أروى النَّاس عنه. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عنه، فقال: ثقة، قلت: يُحتج بحديثه؟ قال: إي والله. وقال أبو حاتم: صدوق ثقة في الحديث، وفي آخر عمره ساء حفظه. وقال هشيم: أَتَى عليه (93) سنة، وكان أكبر من الأعمش. وقال علي بن عاصم عن حصين: جاءنا قتل الحسين، فمكثنا ثلاثًا كأن وجوهنا طُلِيت رمادًا، قلت: مثل من أنت يومئذ؟ قال: رجلٌ مُنَاهِد. وقال أسلم بن سهل في "تاريخ واسط": ثنا أحمد بن سنان، سمعت عبد الرّحمن يقول: هشيم عن حصين أحب إلي من سفيان، وهشيم أعلم النَّاس بحديث حصين. وقال علي بن عاصم: قَدِمُت الكوفة يوم مات منصور، فاشتد عليّ، فلقيت حصينًا -يعني وأنا لا أعرفه- فقال: أدلك على مَنْ يذكر يومَ أُهدِيت أم منصور إلى أبيه؟ قلت: مَنْ هو؟ قال: أنا. قال أسلم: قال هشيم: رَوَى حصين عن ستة من الصّحابة، قال أسلم: واتصل بنا أنه رَوَى عن ثمانية وامرأتين، فذكر أبا جحيفة، وعمرو بن حريث، وابن عمر، وأنسًا، وعُمارة بن رُويبة، وجابر بن سمرة، وعُبيد الله بن مُسلم الحضرمي، وأم عاصم امرأة عتبة بن فَرْقد، وأم طارق مولاة سعد، كذا قال، قال الحافظ: وفيه بعض ما فيه. وقال النَّسائيُّ: تغير، وذكره الْعُقيلي، ولم يذكر إِلَّا قول يزيد بن هارون: إنّه نَسِيَ. وقال الحسن -يعني الحلواني- عن يزيد بن هارون: اختلط، وأنكر ذلك ابن المديني في "علوم الحديث"، فقال: ما اختلط، ولكن تغير. وقال ابن عدي: له أحاديث، وأرجو أنه لا بأس به. وذكر ابن أبي خيثمة عن يزيد بن هارون قال: طلبت الحديث، وحصين حَيّ يُقرأ عليه بالمُبَارك (¬1)، وقد نَسِي. وقال ابن حبّان بها أتباع التابعين من "الثِّقات" له: يقال: إنّه سمع من عُمارة بن رُوَيبة، فإن صحّ ذلك فهو من التابعين، وكان قد ذكر في ¬

_ (¬1) اسم موضع.

التابعين حُصين بن عبد الرّحمن السُلَميّ سَمِع عمارة بن رويبة، رَوَى عنه أهل العراق، مات سنة (163) قال الحافظ: فكأنه ظنّ غيرَ هذا، وهو، هو، وإنّما لمّا وقع له الغلط في تاريخ وفاته ظنه آخرَ، والصواب في وسنة فاته -كما قاله مطين- أنه سنة (136). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب عشرة أحاديث، برقم 134 و286 و 899 و 1004 و 1270 و 1735 و 2305 و 3238 و 3513 و 3839. 5 - (هلال بن يساف) -بكسر التحتانيّة، ثمّ فاء- ويقال: ابن إساف الأشجعي مولاهم الكوفيّ، ثقة [3]. رَوَى عن الحسن بن علي، وأبي الدرداء، وأبي مسعود الأنصاري، وسعيد بن زيد، وسمرة بن جندب، وسالم بن عُبيد الأشجعي، وعبد الله بن ظالم، وغيرهم. وروى عنه أبو إسحاق السبيعي، والأعمش، وسلمة بن كهيل، وعبدة بن أبي لبابة، ومنصور، وعلي بن مدرك، وعبد الأعلى بن ميسرة، وحصين بن عبد الرّحمن، وغيرهم. قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة. وقال ابن سعد في الطبقة الثّانية من أهل الكوفة: وكان ثقة، كثير الحديث. وذكره ابن حبّان في "الثقات". أخرج له البخاريّ في التعاليق، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، برقم 134 و 406 و 451 و 1004 و 1257 و 3811 و 3839. 6 - (عبد الله بن ظالم) التيميّ المازنيّ، صدوقٌ، ليّنه البخاريّ [3]. رَوَى عن سعيد بن زيد حديث: "عشرةٌ في الجنَّة"، وعنه سماك بن حرب، وعبد الملك بن ميسرة، وهلال بن يساف، وفلان ابن حيان، وقيل: حيان بن غالب. قال العجلي: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال البخاريّ: ليس له إِلَّا هذا الحديث، وحديث "بِحَسْبِ أصحابي القتلُ"، وقال غيره: روى حديثًا ثالثًا عن أبي هريرة: "إن فساد أُمَّتي على يدي غِلْمة من قريش"، زاد في حديث أبي هريرة: قيل: فيه عبد الله بن

ظالم، وقيل: مالك بن ظالم، فلعلّه عند البخاريّ غير هذا، لكن صحح عمرو بن علي الفلاس أنه عبد الله بن ظالم، لا مالك بن ظالم، فالله أعلم، وحديثه على الوجهين عند أحمد بن حنبل في "مسنده"، والحاكم في "مستدركه"، وقال العقيليّ: عبد الله بن ظالم عن سعيد بن زيد، كوفي لا يصح حديثه، وكذا ذكره ابن عدي عن البخاري. أخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، والصحابيّ تقدّم في السند الماضي، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ سَعِيدِ بْنِ زيدٍ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: أَشهَدُ عَلَى رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- أَنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: اثْبُتْ) بضمّ الموحّدة، أمر من الثبات، وهو الاستقرار، يقال: ثبتَ الأمر من باب نصر ثُبُوتًا: إذا دام واستمرّ (حِرَاءُ) بحذف حرف النِّداء، أي يا حراء، قال في "القاموس": حِرَاءٌ ككتاب، وكَعَلَى، ويؤنّثُ، ويُمنع -أي من الصّرف-: جَبَلٌ بمكة، فيه غارٌ تحَنَّثَ فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-. انتهى. وفي حديث أنس -رضي الله عنه-: فضربه برجله، وقال: "اثبُت"، ونداؤه وخطابه يحتمل المجاز، وحمله على الحقيقة أولى. قاله في "الفتح". وفي حديث أنس -رضي الله عنه- عند البخاريّ: أن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- صَعِدَ أُحُدًا، وأبو بكر، وعمر، وعثَمان، فَرَجَفَ بهم، فقال: "اثبُت أُحُدُ، فإنّما عليك نبيّ، وصدّيقٌ، وشهيدان". قال الحافظ رحمه الله: قوله: "صَعِدَ أحدًا" هو الجبل المعروف بالمدينة، ووقع في رواية لمسلم (¬1) وأبي يعلى "حراء" والأول أصحّ، ولولا اتّحاد المخرج لجوّزتُ تعدد القصّة، ثمّ ظهر لي أن الاختلاف فيه من سعيد، فإني وجدته في مسند الحارث بن أبي ¬

_ (¬1) قال الشّيخ الألبانيّ رحمه الله: الحديث من رواية أنس لم أجده في مسلم، ولم يعزه إليه السيوطيّ في "زيادة جامع الصغير". انتهى. قلت: الظّاهر أن ما قاله الشّيخ هو الحقّ. والله تعالى أعلم.

أُسامة عن روح بن عبادة، عن سعيد -يعني ابن أبي عروبة- فقال فيه: "أحدًا، أو حراء" بالشكّ، وقد أخرجه أحمد من حديث بُريدة بلفظ: "حراء"، وإسناده صحيح، وأخرجه أبو يعلى من حديث سهل بن سعد بلفظ "أحد"، وإسناده صحيح، فقوي احتمال تعدّد القصة، ووقع عند البخاريّ من حديث عثمان -رضي الله عنه-، وفيه "حراء"، وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة -صلى الله عليه وسلم- يؤيّد تعدد القصة، فذكر أنه كان على حراء، ومعه المذكورون هنا، وزاد معهم غيرهم. انتهى كلام الحافظ (¬1). وقال في موضع آخر: يمكن الجمع بالحمل على التعدّد، ثمّ وجدت ما يؤيّده، فعند مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- "قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير، فتحرّكت الصخرة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ... " فذكره، وفي رواية له "وسعد"، وله شاهد من حديث سعيد بن زيد عند التِّرمذيِّ، وآخر عن عليّ عند الدارقطنيّ. انتهى (¬2). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تبيّن بهذا كلّه أن هذه القصّة وقعت مرّتين، مرّة بحراء، ومرّة بأحد. والله تعالى أعلم. (فَمَا عَلَيْكَ) الفاء للتعليل؛ لأنه ليس عليك (إِلَّا نَبِيٌّ) يعني نفسه -رضي الله عنه- (أَوْ صِدِّيقٌ) يعني أبا بكر -رضي الله عنه- (أَوْ شَهِيدٌ) زاد في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عند مسلم: ما نصّه: "وعليه النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقّاص". قال في "الفتح": "أو" للتنويع، و"شهيد" للجنس. انتهى. وقال: القرطبيّ رحمه الله: "أو" هي الّتي للتقسيم والتنويع، فالنبيّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والصدّيق أبو بكر، والشهيد من بقي -رضي الله عنهم-. انتهى (¬3). وفي حديث أنسٌ عند البخاريّ بلفظ: "فإنما عليك نبيّ، وصدّيقٌ، وشهيدان" بالواو. ¬

_ (¬1) "فتح" 7/ 47. (¬2) "فتح" 7/ 72. (¬3) "المفهم" 6/ 290 - 291.

وقوله: (وَعَدَّهُمْ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-) أي عدّ -صلى الله عليه وسلم- المبشّرين بالجنّة، فقال: هم ("أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعِليٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدٌ، وَابْنُ عَوْفٍ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ") رضي الله تعالى عنهم أجمعين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: حديث سعيد بن زيد -رضي الله عنه- هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه عبد الله بن ظالم، وقد تكلّم فيه البخاريّ، وساق له الحديث، وقال: لا يصحّ، وذكره العقيليّ في "الضعفاء": حدثني آدم بن موسى، قال: سمعت البخاريّ قال: عبد الله بن ظالم، عن سعيد بن زيد، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ولا يصحّ، وساق له العقيليّ هذا الحديث بعدّة طرق، وبيّن عللها، وذكره ابن عديّ في "الكامل"، ونقل كلام البخاريّ المذكور؟. [قلت]: إنّما صحّ لأمور: (أحدهما): أن عبد الله بن ظالم روى عنه جماعة، ووثقه العجليّ، وابن حبّان، وكلام البخاريّ في حديثه هذا، فأقلّ أحواله أن يكون حسن الحديث. الثّاني: أنه لم ينفرد به فقد تابعه عبد الرّحمن بن الأخنس -وقد روى عنه اثنان، ووثقه ابن حبّان- عن سعيد بن زيد، فقد أخرجه النَّسائيّ (8100) قال: أَخْبَرَنَا عبدة ابن عبد الله، والقاسم بن زكريّا، عن حسين، عن زائدة، عن الحسن بن عبيد الله، عن الحرّ بن صيّاح، عن عبد الرّحمن بن الأخنس، عن سعيد بن زيد -رضي الله عنه-، قال: اهتزّ حراءٌ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اثبُت حراء، فليس عليك إِلَّا نبيّ، أو صدّيق، أو شهيد"، وعليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وطلحة، والزبير، وعبد الرّحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقّاص، وأنا، وقال الترمذيّ: حديث حسن، وهو كما قال، فإن ابن الأخنس حسن الحديث. والله تعالى أعلم. (الثّالث): أن الحديث مرويّ عن سعيد بن زيد بطرق متعدّدة، ولذا قال

الترمذيّ: حديث حسنٌ صحيح. (الرّابع): أن الحديث ورد من رواية جماعة من الصّحابة -رضي الله عنهم-، منهم: عثمان بن عفّان -رضي الله عنه- عند التِّرمذيِّ، وابن حبّان، وقال التّرمذيّ: حديث حسن صحيح، ومن رواية أنس بن مالك -رضي الله عنه- عند البخاريُّ في "صحيحه"، ومن رواية بُريدة بن الحصيب رواه عبد الله بن أحمد عن أبيه بسند صحيح، ومن رواية أبي هريرة -رضي الله عنه- عند مسلم وغيره، وقد استوفى تخريج هذه الروايات الشّيخ الألبانيّ رحمه الله في "الصحيحة" 2/ 558 - 562 رقم الحديث (875) فراجعه تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق. والحاصل أن الحديث صحيح؛ لما ذكرناه، والله تعالى أعلم. [تنبيه]: ذكر النَّسائيّ في "الكبرى" أن هلال بن يساف لم يسمع هذا الحديث من عبد الله بن ظالم، ثمّ أخرجه بسنده عن منصور، عن هلال بن يِساف، عن ابن حيّان، عن عبد الله بن ظالم، عن سعيد بن زيد ... " الحديث. وقال في "التقريب": ابن حبَّان شيخ لهلال بن يساف لا يُعرف، من السّادسة، يقال: اسمه حيّان بن غالب. انتهى. ولكن مثل هذه الجهالة لا تضرّ بصحّة الحديث؛ لما سمعتَ من الشواهد الكثيرة له، فتنبّه، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (18/ 134) فقط، وأخرجه (الطيالسيّ) (235) و (الحميديّ) في "مسنده" (84) و (أحمد) في "مسنده" (1/ 187 و 188 و 189) و (أبو داود) (4648) و (الترمذيّ) (3757) وقال: حديث حسنٌ صحيح، والظاهر أنه صححه مع أن شيخه البخاريّ ضعّفه لشواهده، كما يدلُّ عليه قوله بعدُ: وقد روي من غير وجه عن سعيد بن زيد -رضي الله عنه-، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. وأخرجه (النَّسائيّ) في "فضائل الصّحابة" من "الكبرى" (8134) و (8136) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (6996) و (الحاكم) في "مستدركه" 3/ 450 و (البغويّ)

في "شرح السنة" (3927). وأخرجه (الترمذيّ) (3748) و (النَّسائيّ) في "الفضائل" (8139) من طريق حميد بن عبد الرّحمن، عن سعيد بن زيد -رضي الله عنه-، وقال الترمذيّ: سمعت محمدًا -يعني البخاريّ- يقول: هو أصحّ من الحديث الأوّل، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضائل العشرة -رضي الله عنهم-. 2 - (ومنها): أن فيه علمًا من أعلام النبوّة، حيث أخبر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بأن هؤلاء شهداء، فماتوا كلهم غير النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وأبي بكر شهداء، فإن عمر وعثمان، وعليًّا، وطلحة، والزبير -رضي الله عنهم- قُتلوا ظلمًا شُهداء، فأمّا عمر، فقتله الْعِلْج، وأما عثمان، فقتل مظلومًا، وأما عليّ فقُتل غِيلةً، وأما طلحة والزبير، فقُتلا يوم الجمل منصرفين عنه تاركين له، وأما أبو عبيدة فمات في الطّاعون، والموت فيه شهادة (¬1)، والمراد شهداء في أحكام الآخرة، وعظيم ثواب الشهداء، وأما في الدنيا فيُغسلون، ويُصلّى عليهم. [فإن قلت]: في الحديث ذكر عبد الرّحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقّاص، وهما لم يُقتلا. [قلت]: أجاب عن هذا بعضهم بأنهما إنّما سميا شهيدًا لأنهما مشهود لهما بالجنّة. والله تعالى أعلم. 3 - (ومنها): جواز التزكية والثناء على الإنسان في وجهه إذا لم يُخَف عليه فتنة بإعجاب ونحوه (¬2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. ¬

_ (¬1) راجع "المفهم" 6/ 291. (¬2) راجع "شرح النوويّ على مسلم" 15/ 190.

19 - فضل أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه -

19 - (فَضْلُ أَبي عُبَيْدَةَ بْنِ الجَرَّاحِ -رضي الله عنه-) هو: أبو عبيدة -رضي الله عنه- اسمه عامر بن عبد الله بن الجَرَّاح بن هلال بن أُهيب بن ضَبّة ابن الحارث بن فِهْر، يجتمع مع النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- في فهر بن مالك، وعَدَدُ ما بينهما من الآباء متفاوت جدًّا بخمسة آباء، فيكون أبو عبيدة من حيث العدد في درجة عبد مناف، ومنهم من أدخل في نسبه بين الجراح وهلال ربيعةَ، فيكون على هذا في درجة هاشم، وبذلك جزم أبو الحسن بن سميع، ولم يذكر غيره. وكان إسلامه هو، وعثمان بن مظعون، وعُبيدة بن الحارث بن المطلب، وعبد الرّحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد، في ساعة واحدة قبل دخول النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- دار الأرقم، ذكره ابن سعد من رواية يزيد بن رُومان، وأنكر الواقدي ذلك، وزعم أن أباه مات قبل الإسلام، وأمه أميمة بنت غَنْم بن جابر بن عبد العزي بن عامر بن عميرة، أحد العشرة السابقين إلى الإسلام، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرًا وما بعدها، وهو الّذي انتزع الحلقتين من وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسقطت ثنيتا أبي عبيدة، وكان أميرًا على الشّام من قبل عمر بن الخطّاب، فكان فتح أكثر الشّام على يده. وقَتَل أباه يوم بدر، ونزلت فيه: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [المجادلة: 22]، وهو فيما أخرجه الطَّبرانيُّ بسند جيد، عن عبد الله بن شَوْذَب قال: جعل والدُ أبي عبيدة يَتَصَدّى لأبي عبيدة يوم بدر، فيَحِيد عنه، فلما أكثر قصده فقتله، فنزلت. وقال الواقديّ: آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين سعد بن معاذ، وهو الّذي قال لعمر: أنفر من قدر الله؟ فقال: لو غيرُك قالها يا أبا عبيدة، نعم نَفِرّ من قدر الله تعالى إلى قدر الله تعالى، وذلك دالّ على جلالة أبي عبيدة عند عمر رضي الله عنهما، وذكره ابن إسحاق في مهاجرة الحبشة، وأسند ابن سعد من طريق مالك بن عامر أنه وَصَفَ أبا عبيدة، فقال: كان رجلًا نحيفًا معروق الوجه، خفيف اللحية، طُوالًا أجنأ، أثرم (¬1). ¬

_ (¬1) "الجَنَأ": ميل في الظهر، وقيل: في العنق. و"الثَّرَم": سقوط الثنية من الأسنان، وقيل: الثنية، =

وعن عبد الله بن شقيق، قال: سألت عائشة رضي الله عنهما مَنْ كان أحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قالت: أبو بكر، ثمّ عمر، ثمّ أبو عبيدة بن الجراح (¬1). وأخرج أحمد عن عبد الله بن شقيق، قلت لعائشة: أَيُّ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أحب إليه؟ قالت: أبو بكر، قلت: ثمّ من؟ قالت: عمر، قلت: ثمّ من؟ قالت: أبو عبيدة ابن الجراح (¬2). وقال يعقوب بن سفيان: حَدَّثَنَا حجاج، حَدَّثَنَا حماد، عن زياد الأعلم، عن الحسن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من أحد من أصحابي إِلَّا لو شئت لأخذت عليه في خُلُقه، ليس أبا عبيدة بن الجراح"، وهذا مرسل، ورجاله ثقات. وأخرج ابن سعد بسند حسن أن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- بلغه أن بعض أهل الشّام استعجز أبا عبيدة أيّام حِصَار دمشق، ورَجَّح خالد بن الوليد، فغضب معاذ، وقال أبأبي عبيدة يُظَنّ، والله إنّه لمن خِيرة من يمشي على الأرض. وقال ابن المبارك في "كتاب الزهد": حَدَّثَنَا معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قدم عمر الشامَ، فتلقاه أُمراء الأجناد، فقال: أين أخي أبو عبيدة؟ فقالوا: يأتي الآن، فجاء على ناقة مخطومة، فسلّم عليه، وساءله حتّى أتى منزله، فلم نر فيه شيئًا إِلَّا سيفه وترسه ورحله، فقال له عمر: لو اتخذت متاعًا، قال: يا أمير المؤمنين إن هذا يبلغنا المَقِيل. وأخرج يعقوب بن سفيان بسند مرسل، أن أبا عبيدة كان يسير في العسكر، فيقول: ألَّا رُبّ مُبَيِّضٍ لثيابه، وهو مدنس لدينه، ألَّا رُبّ مُكْرِمٍ لنفسه، وهو لها مُهين غدًا، ادفعوا السيئات القديمات بالحسنات الحادثات. ¬

_ = والرباعية، وقيل: هو أن تقلع السنّ من أصلها مطلقًا. انتهى "النهاية" 1/ 302 و 210. (¬1) أخرجه أبو يعلى بسند رجال ثقات غير شيخه موسى بن محمّد بن حيان، فوثقه ابن حبّان، وتركه أبوزعة، لكن يشهد له رواية أحمد التالية. (¬2) أخرجه أحمد بسند رجاله ثقات.

وأخرج ابن أبي الدنيا بسند جيد، عن ثابت البناني قال: كان أبو عبيدة أميرًا على الشّام، فخطب، فقال: والله ما منكم أحد يفضلني بتُقيّ إِلَّا وددت أني في سلامة. وأخرج الحاكم في "المستدرك" من طريق عبد الملك بن نوفل بن مساحق، عن أبي سعيد المقبري قال: لمّا طُعن أبو عبيدة، قالوا: يا معاذ صَلّ بالناس، فصلّى ثمّ مات أبو عبيدة، فخطب معاذ، فقال في خطبته: وإنكم فُجِعتم برجل ما أزعم والله أني رأيت من عباد الله قط أقلّ حِقْدًا، ولا أبو صدرًا، ولا أبعد غائلةً، ولا أشد حياء للعاقبة، ولا أنصح للعامة منه، فترحموا عليه. اتفقوا على أنه مات في طاعون عَمَوَاس بالشام سنة ثمان عشرة، وأرخه بعضهم سنة سبع عشرة، وهو شاذ، وجزم ابن منده تبعًا للواقدي والفلاس أنه عاش ثمانيا وخمسين سنة، وأما ابن إسحاق فقال: عاش إحدى وأربعين سنة. وقال ابنُ عائذ: قال الوليد بن مسلم: حدثني من سمع عروة بن رُويم قال: انطلق أبو عبيدة يريد الصّلاة ببيت المقدس، فأدركه أجله، فتوفي هناك، وأوصى أن يُدفَن حيث قَفَى، وذلك بفِحْل من أرض الأردنّ، ويقال: إن قبره بِبَيْسان، وقالوا: إنّه كان يَخضب بالحناء والكتم (¬1). أخرج له الجماعة، وله من الأحاديث (15) حديثًا، انفرد مسلم بحديث منها، ولم يُخرج له البخاريّ، والله تعالى أعلم. وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 135 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَكيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ ح وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي إِسْحَقَ، عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ، عَنْ حُذَيْفَةَ، أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِأَهْلِ نَجْرَانَ: "سَأَبْعَثُ مَعَكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ"، قَالَ: فَتَشَرَّفَ لَهُ النَّاسُ، فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الجَرَّاحِ). ¬

_ (¬1) راجع "الإصابة" 2/ 475 - 478.

رجال هذا الإسناد: تسعة: 1 - (سفيان) بن سعيد الثوريّ الكوفيّ الإمام الحجة الثبت الفقيه [7] 5/ 41. 2 - (أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعيّ الكوفيّ، ثقة عابد اختلط [3] 7/ 45. 3 - (صلة -بكسر أوله، وفتح اللام الخفيفة- ابن زُفَر) -بضم الزاي، وفتح الفاء- الْعَبْسيّ -بالموحّدة- أبو العلاء، ويقال: أبو بكر الكوفيّ، تابعيّ كبير [2]. رَوَى عن عمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، وابن مسعود، وعلي، وابن عبّاس. وروى عنه أبو وائل، وهو أكبر منه، ورِبْعيّ بن حِرَاش، وهو من أقرانه، والمُسْتَوْرِد ابْن الأحنف، وأبو إسحاق السبيعي، وأيوب السختياني، وغيرهم. قال ابن خراش: كوفي ثقة. وقال الخطيب: كان ثقة. وروى ابن أبي حاتم من طريق شعبة، عن أبي إسحاق، عن صلة، عن حذيفة، قال: قَلْبُ صلة بن زفر من ذهب -يعني أنه مُنَوَّرٌ كالذهب. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. ونقل ابن خَلْفُون توثيقه عن ابن نمير، وابن صالح -يعني العجلي-، وقال أبو وائل: لَقِيتُ صلة، وكان ما علمت بَرًّا. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". وقال خليفة: مات في ولاية مُصْعَب بن الزُّبير، وكذا قال ابن سعيد، زاد: وكان ثقة، وله أحاديث. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث 135 و 136 و 897 و 916 و 1351 و 1645. 4 - (حُذيفة) بن اليمان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما 7/ 49، والباقون تقدّموا قريبًا، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصّحيح، بل رجال الجماعة، غير شيخه الأوّل، فهو من أفراده والنَّسائيّ في "مسند عليّ".

3 - (ومنها): أن السند الثّاني مسلسل بالبصريين إلى شعبة، والباقون كوفيّون. 4 - (ومنها): أن شيخه الثّاني أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة. 5 - (ومنها): أن فيه شعبةَ الإمام المتشدّد في المدلّسين، فكان ميزانًا لقبول معنعناتهم، فإذا وُجد شعبة في سند عنعن فيه مدلّس مثل هذا الإسناد، فقد عنعن فيه أبو إسحاق فإنّه مقبول؛ لأنه لا يروي عنهم إِلَّا ما صرّحوا بالتحديث والسماع، وقد كان رحمه الله يقول: كفيتكم تدليس ثلاثة: أبي إسحاق -يعني المذكور في هذا السند- والأعمش، وقتادة، وقال أيضًا: كنت أتفقّد فم قتادة، فإذا قال: حَدَّثَنَا، وسمعت، حفظته، وإذا قال: حدّث فلانٌ تركته. انتهى. فهذه قاعدة مهمة جدًّا، وقلت في منظومتي "الجوهر النَّفْيس في نظم أسماء ومراتب الموصوفين بالتدليس": وَكيْفَ لَا وَقَدْ كفَانَا عَلَنَا ... مِنْ شَرِّ تَدْلِيسِ ثَلَاثَةٍ لَنَا قَتَادَةٍ ثُمَّ السَّبيعِي الأَعْمَشِ ... فَاقْنَعْ بِمَا قَالَ وَلَا تُفَتِّشِ 6 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ حُذَيْفَةَ) -رضي الله عنه- (أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِأَهْلِ نَجْرَانَ) بفتح النون، وسكون الجيم: بلدة من بلاد هَمْدَان من اليمن، قَال البكريّ: سُمّيت باسم بانيها نَجْران بن زيد ابن يَشْجُب بن يَعْرُب بن قحطان. قاله الفيّوميّ (¬1). وقال في "الفتح": نجران بلد كبير، على سبع مراحل من مكّة إلى جهة اليمن، يشتمل على ثلاثة وسبعين قرية، مسيرة يوم للراكب السريع، كذا في زيادات يونس بن بكير بإسناد له في "المغازي"، وذكر ابن إسحاق أنهم وَفَدوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة، وهم حينئذ عشرون رجلًا، لكن أعاد ذكرهم في الوفود بالمدينة، فكأنهم قَدِموا مرتين. وقال ابن سعد: كان النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- كتب إليهم، فخرج إليه وَفْدهم في أربعة عشر رجلًا من ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" 2/ 594.

أشرافهم. وعند ابن إسحاق أيضًا من حديث كُرْز بن علقمة أنهم كانوا أربعة وعشرين رجلًا، وسرد أسماءهم. وقد أخرج البخاريّ في "المغازي" من "صحيحه" هذا الحديث مطوّلًا، فقال: 4385 - حدثني عبّاس بن الحسين، حَدَّثَنَا يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن صِلَة بن زُفَر، عن حذيفة قال: جاء العاقب، والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريدان أن يُلاعناه، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن كَان نبيا فلاعنّا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنا نُعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلًا أمينًا، ولا تبعث معنا إِلَّا أمينًا، فقال: "لأبعثنّ معكم رجلًا أمينًا حَقَّ أمين"، فاستشرف له أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "قم يا أبا عبيدة بن الجراح"، فلما قام قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هذا أمين هذه الأمة". وقوله: "جاء السَّيِّد والعاقب صاحبا نجران"، أما السَّيِّد فكان اسمه الأيهم -بتحتانية ساكنة- ويقال: شُرَحبيل، وكان صاحب رحالهم، ومجتمعهم، ورئيسهم في ذلك، وأما العاقب فاسمه عبد المسيح، وكان صاحب مَشُورتهم، وكان معهم أيضًا أبو الحارث بن علقمة، وكان أُسْقُفَّهم، وحبرهم، وصاحب مِدْراسهم. قال ابن سعد: دعاهم النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فامتنعوا، فقال: "أن أنكرتم ما أقول، فهَلُمّ أُبَاهِلكم"، فانصرفوا على ذلك. وذكر ابن إسحاق بإسناد مرسل أن ثمانين آية من أول سورة آل عمران نزلت في ذلك، يشير إلى قوله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} الآية [آل عمران: 61]. وفي رواية يونس بن بكير أنه صالحهم على ألفي حلة: ألفٍ في رجب، وألف في صفر، ومع كلّ حلة أُوقِيّة، وساق الكتاب الّذي كتبه بينهم مطولًا. وذكر ابن سعد أن السَّيِّد والعاقب رجعا بعد ذلك فأسلما. [تنبيه]: وقع في حديث أنس عند مسلم أن أهل اليمن قَدِمُوا على النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-،

فقالوا: ابعَث معنا رجلًا يُعَلِّمنا السنة والإسلام، فأخذ بيد أبي عبيدة، وقال: "هذا أمين هذه الأمة"، فإن كان الراوي تَجَوّز عن أهل نَجْران بقوله: أهل اليمن؛ لقرب نجران من اليمن، وإلا فهما واقعتان، والأول أرجح. قاله في "الفتح" (¬1). (سَأَبْعَثُ مَعَكُمْ رَجُلًا أَمِينًا) قال القرطبيّ رحمه الله: الأمانة ضدّ الخيانة، وهي عبارة عن قوّة الرَّجل على القيام بحفظ ما يوكَلُ إلى حفظه، ويُخلَّى بينه وبينه، وهي مأخوذة من قولهم: ناقة أَمُون، أي قويّة على الحمل والسير، فكأن الأمين هو الّذي يوثق به في حفظ ما يُوكَلُ إلى أمانته حتّى يؤدّيه لقوّته على ذلك. انتهى (حَقَّ أَمِينٍ) بنصب "حقّ" على أنه مصدر مضاف، وهو في موضع الصِّفَة، تقديره أمينًا محَقَّقًا في أمانته. قاله القرطبيّ (¬2)، وقال غيره: أي بلغ في الأمانة الغاية القصوى، قيل: الأمانة كانت مشتركة بينه وبين غيره من الصّحابة، لكن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- خصّ بعضهم بصفات غلبت عليه، وكان أخصّ بها، وقيل: خصّه بالأمانة؛ لكمال هذه الصِّفَة فيه. قاله السنديّ (¬3) (قَالَ: فَتَشَرَّفَ) أي انتصب، وفي نسخة: "فتشوّف" بالواو: أي انتظر (لَهُ) أي للنبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وفي نسخة: "لها" أي للولاية، وقوله: (النَّاسُ) بالرفع على الفاعليّة، يعني أنهم تطلّعوا عليها، ورغِبوا فيها، حرصًا أن يكونوا أمناء، لا أن يكونوا أمراء، ومنه "لا تتشرفوا للبلاء": أي لا تتطلّعوا إليه، ولا تتوقّعوه. أفاده في "المجمع" (¬4) وفي رواية للبخاريّ: "فأشرف أصحابه"، وفي رواية مسلم والإسماعيلي: "فاستشرف لها أصحاب رسول الله" -صلى الله عليه وسلم-، قال في "الفتح": أي تَطَلّعوا للولاية، ورغبوا فيها حرصًا على تحصيل الصِّفَة المذكورة، وهي الأمانة، لا على الولاية من حيث هي. انتهى. ¬

_ (¬1) "فتح" 7/ 118. (¬2) "المفهم" 6/ 294. (¬3) "شرح السنديّ" 1/ 93. (¬4) "مجمع البحرين" 3/ 206.

وقال القرطبيّ: أي تشوّفوا، وتعرّضوا لمن هو الموجّه معهم، وكلهم يحرص على أن يكون هو المعنيّ، إذ كلّ واحد منهم أمين. انتهى (¬1). ووقع في رواية لأبي يعلى من طريق سالم، عن أبيه، سمعت عمر يقول: "ما أحببت الإمارة قط إِلَّا مَرّة واحدة ... "، فذكر القصة، وقال في الحديث: "فتعرضت أن تُصِيبني، فقال: قم يا أبا عبيدة". (فَبَعَث أبا عُبَيْدة بْنَ الجرَّاحِ) وفي رواية أبي يعلى: "قم يا أبا عبيدة، فأَرْسَلَهُ معهم"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث حُذيفة -رضي الله عنه- هذا متّفق عليه. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه المصنّف هنا 19/ 135 و 136، وأخرجه (البخاريّ) في "المناقب" (3745) و"المغازي" (4380) و" أخبار الآحاد" (7254) و (مسلم) في "فضائل الصحابة" (6204) و (الترمذيّ) في "المناقب" (3790) و (النَّسائيّ) في "الفضائل" (8140 و 8141 و 8142) و (الطيالسيّ) في "مسنده" (412) و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" 12/ 136 و (أحمد) في "مسنده" (23272) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (6999 و 7000) و (البغويّ) في "شرح السنة" (3929)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده (¬2): 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل أبي عبيدة بن الجرَّاح -رضي الله عنه-، ففيه منقبه ظاهرة له -رضي الله عنه- فقد خصّه الله تعالى بالحظ الأكبر والنصيب الأكثر من ¬

_ (¬1) "المفهم" 6/ 294. (¬2) المراد الفوائد الّتي اشتمل عليها الحديث بطوله، كما أسلفته من رواية البخاريُّ مطوّلًا، فتنبّه.

الأمانة، بحيث شهِد له بذلك الرسول المعصوم الّذي لا يفعل إِلَّا حقًّا، ولا يقول إِلَّا صدقًا، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]، وصار له ذلك الاسمَ والعلمَ المعلوم، وقد ظهر ذلك من حاله للعيان (¬1)، حتّى استوى في معرفته كلّ إنسان، وذلك أن عمر -رضي الله عنه- لَمَّا قَدِم الشّام مُتفقّدًا أحوال النَّاس والأُمراء، ودخل منازلهم، وبحث عنهم أراد أن يدخل منزل أبي عبيدة، وهو أمير على الشّام قد فُتحت عليه بلاده، وترادفت عليه فتوحاته وخيراته، واجتمعت له كنوزه وأمواله، فلما كلّمه عمر -رضي الله عنه- في ذلك، قال له: يا أمير المؤمنين والله لئن دخلت منزلي لتعصِرَنّ عينيك، فلما دخل منزله لم يجد فيه شيئًا يرُدّ البصر أكثر من سلاحه، وأداة رحل بعيره، فبكى عمر -رضي الله عنه-، وقال: صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنت أمين هذه الأمّة"، أو كما قال. وكان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر كلّ أحد من أعيان أصحابه -صلى الله عليه وسلم- بما غلب عليه من أوصافه، وإن كانوا كلّهم فضلاء علماء حكماء مختارين لمختار، فقد صحّ عنه -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الترمذيّ، وابن ماجه من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- مرفوعًا: "أرحم أُمَّتي بأمتي أبو بكر، وأشدّهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ، وأفرضهم زيد، وأقرؤهم أُبيّ، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة" (¬2). وأخرج الترمذيّ (3801) وابن ماجة (156) أيضًا من حديث عبد الله بن عمرو: "ما أظلّت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذرّ" (¬3). 2 - (ومنها): أن في قصة أهل نجران هذه أن إقرار الكافر بالنبوة لا يُدخله في الإسلام، حتّى يلتزم أحكام الإسلام. 3 - (ومنها): بعث الإمام الرَّجل العالم الأمين إلى أهل الْهُدْنة في مصلحة الإسلام. ¬

_ (¬1) راجع "المفهم" 6/ 293. (¬2) حديث صحيح. (¬3) حديث صحيح بطرقه، وسيأتي برقم (156).

4 - (ومنها): جواز مجادلة أهل الكتاب، وقد تجب إذا تَعَيَّنت مصلحته. 5 - (ومنها): مشروعية مباهلة المخالف إذا أصرّ بعد ظهور الحجة، وقد دعا ابنُ عبّاس إلى ذلك، ثمّ الأوزاعيّ، ووقع ذلك لجماعة من العلماء، قال الحافظ: ومما عُرِف بالتجربة أن من باهَلَ، وكان مُبطِلًا لا تمضى عليه سنة من يوم المباهلة، ووقع لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة، فلم يُقِمْ شهرين. 6 - (ومنها): مصالحة أهل الذِّمَّة على ما يراه الإمام من أصناف المال، ويَجرِي ذلك مَجْرَى ضرب الجزية عليهم، فإن كُلًّا منهما مال يؤخذ من الكفار على وجه الصَّغَار في كلّ عام. [فإن قلت]: ذكر ابن إسحاق أن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- بعث عليا إلى أهل نجران ليأتيه بصدقاتهم وجزيتهم، فكيف يجمع بينها وبين قصّة أبي عبيدة هذه؟. [أجيب]: بأن قصة أبي عبيدة -رضي الله عنه- هذه غير قصّة عليّ -رضي الله عنه-؛ لأن أبا عبيدة توجه معهم، فقَبَض مال الصلح، ورَجَع، وأما عليّ فأرسله النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك يَقْبِض منهم ما استُحِقّ عليهم من الجزية، ويأخذ ممّن أسلم منهم ما وجب عليه من الصَّدقة. أفاده في "الفتح" (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 136 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيىَ بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ، عَنْ عَبْدِ الله، أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الجَرَّاحِ: "هَذَا أَمِينُ هَذ الْأُمةِ"). رجال هذا الإسناد: ستة، كلهم تقدّموا في السند الماضي، غير: 1 - (يحيى بن آدم) بن سليمان الأمويّ مولاهم، أبو زكريا الكوفيّ، ثقة حافظٌ فاضلٌ، من كبار [9] 11/ 98. ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 8/ 429 "كتاب المغازي" رقم الحديث (4383).

2 - (إِسْرَائِيلُ) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ الْهَمْدانيّ، أبو يوسف الكوفيّ، ثقةٌ [7]. رَوَى عن جدّه، وزِيَاد بن عِلاقة، وزيد بن جُبَير، وعاصم بن بَهْدَلة، وعاصم الأحول، وسِمَاك بن حرب، والأعمش، وإسماعيل السُّدّيّ، ومَجْزأة بن زاهر الأسلميّ، وهشام بن عروة، ويوسف بن أبي بردة، وخلق كثير. ورَوَى عنه ابنه مهديّ، وأبو أحمد الزُبيريّ، والنضر بن شُمَيل، وأبو داود، وأبو الوليد الطيالسيّان، وعبد الرزّاق، ووكيع، ويحيى بن آدم، ومحمد بن سابق، وأبو غَسّان النَّهْديّ، وأبو نعيم، وعلى بن الجعد، وجماعة. قال ابن مهديّ، عن عيسى بن يونس: قال لي إسرائيل، كنت أحفظ حديث أبي إسحاق كما أحفظ السورة في القرآن، وقال على بن المديني، عن يحيى القطان: إسرائيل فوق أبي بكر بن عَيّاش، وقال حرب، عن أحمد بن حنبل: كان شيخنا ثقةً، وجَعَل يتعجب من حفظه، وقال صالح بن أحمد، عن أبيه: إسرائيل، عن أبي إسحاق فيه لِين، سمع منه بأَخَرةٍ، وقال أبو طالب: سئل أحمد أَيُّما أثبت، شريك، أو إسرائيل؟ قال: إسرائيل، كان يؤدِّي ما سمع، كان أثبت من شريك، قلت: مَنْ أحب إليك، يونس، أو إسرائيل، في أبي إسحاق؟ قال: إسرائيل؛ لأنه كان صاحب كتاب، وقال أبو داود: قلت لأحمد بن حنبل: إسرائيل إذا انفرد بحديث، يُحتَجّ به؛ قال: إسرائيل ثبت الحديث، كان يحيى -يعني القطان- يَحْمِل عليه في حال أبي يحيى القَتّات، وقال: رَوَى عنه مناكير، قال أحمد: ما حدث عنه يحيى بشيء، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: كان القطان لا يُحدث عن إسرائيل، ولا عن شريك وقال الدوريّ أيضًا: سئل يحيى بن معين عن إسرائيل، فقال: قال يحيى بن آدم كُنّا نكتب عنده من حفظه، قال يحيى: كان إسرائيل لا يحفظ، ثمّ حَفِظَ بعدُ، وقال أيضًا: إسرائيل أثبت في أبي إسحاق من شيبان، وقال أيضًا إسرائيل أثبت حديثًا من شريك، وقال أبو حاتم: ثقة صدوق، من أتقن أصحاب أبي إسحاق، وقال العجليّ: كوفيّ ثقة، وقال يعقوب بن شيبة: صالح الحديث، وفي حديثه لِينٌ، وقال في موضع آخر: ثقةٌ صدوقٌ، وليس في الحديث بالقويّ، ولا بالساقط، وقال عيسى بن

يونس: كان أصحابنا سفيان، وشريكٌ، وعَدّ قومًا إذا اختلفوا في حديث أبي إسحاق يجيئون إلى أبي، فيقول: اذهبوا إلى ابني إسرائيل، فهو أروى عنه مني، وأتقن لها مني، هو كان قائد جدّه، وقال شَبَابة بن سَوّار: قلت ليونس بن أبي إسحاق: أَمْلِ عليّ حديث أبيك، قال: اكتب عن ابني إسرائيل، فإن أبي أملاه عليه، وقال محمّد بن الحسين بن أبي الحُنَين: سمعت أبا نعيم، سئل أَيُّهما أثبت، إسرائيل، أو أبو عوانة؟ فقال: إسرائيل، وقال أبو داود: إسرائيل أصحّ حديثًا من شريك، وقال النَّسائيّ: ليس به بأس، وروى ابن البراء، عن عليّ بن المديني، إسرائيل ضعيف، وقال ابن أبي خيثمة: قيل ليحيى - يعني ابن معين-: رَوَى عن إبراهيم بن المهاجر ثلاثمائة، وعن أبي يحيى القَتّات ثلاثمائة، فقال: لم يُؤْتَ منه أُتِي منهما جميعًا انتهى. قال الحافظ: فهذا رَدّ لتضعيف القطان له بذلك، وقال محمّد بن عبد الله بن نمير: ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وحَدَّث عنه النَّاس حديثًا كثيرًا، ومنهم من يستضعفه، وقال ابن معين: زكريا، وزهير، وإسرائيل، حديثهم في أبي إسحاق قريب من السواء، إنّما أصحاب أبي إسحاق سفيان، وشعبة، وقال حجاج الأعور: قلنا لشعبة: حَدِّثنا حديث أبي إسحاق، قال: سلوا عنها إسرائيل، فإنّه أثبت فيها مني، وقال ابن مهديّ: إسرائيل في أبي إسحاق أثبت من شعبة والثوري، وقال أبو عيسى الترمذيّ: إسرائيل ثَبْتٌ في أبي إسحاق، حَدَّثني محمّد بن المثنى، سمعت ابن مهديّ يقول: ما فاتني الّذي فاتني من حديث الثوري، عن أبي إسحاق إِلَّا لمّا اتَّكلت به على إسرائيل؛ لأنه كان يأتي به أتمّ، وطَوَّل ابن عديّ ترجمته، وسرد له أحاديث أفرادًا، وقال: هو ممّن يُحْتَجّ به، وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وأطلق ابن حزم ضعف إسرائيل، ورَدَّ به أحاديث من حديثه، فما صنع شيئًا (¬1). ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" 1/ 133 - 134.

وقد تكلّم بعض أهل العلم في إسرائيل، منهم ابن المدينيّ، كما سبق بيانه، ومنهم ابن حزم، وغيرهما، قال الإمام الذهبيّ في "الميزان": إسرائيل اعتمده البخاريّ ومسلم في الأصول، وهو في الثبت كالأسطوانة، فلا يُلتفتُ إلى تضعيف من ضعّفه، وقد طوّل ابن عديّ ترجتمه، وسَرَد له جملة أحاديث أفراد، لكنه قال: ولإسرائيل أخبارٌ كثيرة غير ما ذكرته، وأضعافها عن الشيوخ، يروي عنهم، وحديثه الغالب عليه الاستقامة، وهو ممّن يُكتَب حديثه، ويُحتجّ به. - وقال الذهبيّ في "الميزان" أيضًا: وكان إسرائيل مع حفظه وعلمه صالحًا خاشعًا لله، كبير القدر انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن الحقّ أن إسرائيل ثقة ثبتٌ، كما قال به جلّ الأئمة، ولا حجة لمن ضعّفه، فلا يُلتفت إليه، والله تعالى أعلم. وقال دُبَيس بن حُميد: وُلِد سنة مائة، ومات سنة (161)، وقال أبو نعيم وغيره: مات سنة (160)، وقال خليفة، وابن سعد: مات سنة (162). أخرج الجماعة، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا. 3 - (عبد الله) بن مسعود الصحابيّ الشهير -رضي الله عنه-، تقدّم في 2/ 19. وقوله: "لأبي عبيدة" أي في شأنه، لا أنه خاطبه؛ إذ مقول القول لا يناسب الخطّاب، قاله السنديّ (¬2) وتمام شرح الحديث يُعْلَم ممّا سبق، وفيه: مسألتان: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- هذا صحيح. ¬

_ (¬1) راجع "ميزان الاعتدال" 1/ 209. (¬2) "شرح السنديّ" 1/ 93.

(المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (19/ 136) فقط، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (3930) و (النَّسائيّ) في "الفضائل" (8140)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

20 - فضل عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -

20 - (فَضْلُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُوْدٍ -رضي الله عنه-) هو: عبد الله بن مسعود بن غافل -بمعجمة، وفاء- ابن حبيب بن شَمْخ بن فار ابن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تيم بن سعد بن هُذَيل الهذلي، أبو عبد الرّحمن، حليف بني زهرة، وكان أبوه حالف عبدَ الحارث بن زُهْرة. وأمه أم عبد الله بنت وَدّ بن سَوَاءة، أسلمت، وصَحِبت، أحد السابقين الأولين، أسلم قديمًا، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرًا، والمشاهد بعدها، ولازم النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وكان صاحب نعليه، وحدث عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- بالكثير، وعن عمر، وسعد بن معاذ، وروى عنه ابناه عبد الرّحمن، وأبو عبيدة، وابن أخيه عبد الله بن عتبة، وامرأته زينب الثقفية، وخلق كثير من الصّحابة والتابعين، ومات سنة (32)، وتقدّم تمام ترجمته برقم 2/ 19، والله تعالى أعلم. وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 137 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَقَ، عَنِ الحارِثِ، عَنْ عِليٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْ كُنْتُ مُسْتَخْلِفًا أَحَدًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ لَاسْتَخْلَفْتُ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ"). رجال هذا الإسناد: ستة، وكلهم تقدّموا في الباب الماضي، غير: 1 - (الحارث) بن عبد الله الأعور الكوفيّ، كذّبه الشعبيّ في رأيه، ورُمي بالرفض، وفي حديثه ضعفٌ [2] 11/ 95. 2 - (عليّ) بن أبي طالب -رضي الله عنه- تقدّم في 2/ 20، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَلِيٍّ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْ كُنْتُ مُسْتَخْلِفًا أَحَدًا) أي جاعلًا خليفةً على النَّاس (عَنْ) وفي نسخة بلفظ "من" (غَيْرِ مَشُورَةٍ) أي من دون استشارة أحد، و"الْمَشُورة" فيها لغتان، سكون الشين، وفتح الواو، والثّانية: ضمّ الشين، وسكون الواو، وزانُ مَعُونة، تقول: شاورته في كذا، واستشرتُهُ: إذا راجعته

لترى رأيه فيه، فأشار عليّ بكذا: أراني ما عنده فيه من المصلحة، فكانت إشارةً حسنةً، والاسم الْمَشُورة، ويقال: إن الْمشُورة من شار الدابّةَ: إذا عَرَضَها في "الْمِشْوَار" وهو محلّ إجرائها لعرضها للبيع، ويقال: من شُرْتُ العسلَ من باب قال: إذا جَنَيته، شبّهَ حُسْنَ النصيحة بشرب العسل. أفاده الفيّوميّ (¬1). (لَاسْتَخْلَفْتُ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ) أي عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، فأمّ عبد هي أمّه، اشتهر بالنسبة إليها، وقد سبق أنها أسلمت، وصحِبت. قال التُورِبِشتيّ رحمه الله: لا بدّ أن يأوّل هذا الحديث على أنه -صلى الله عليه وسلم- أراد به تأميره على جيش بعينه، أو استخلافه في أمر من أموره في حال حياته، ولا يجوز أن يُحمل على غير ذلك، فإنّه وإن كان من العلم والعمل بمكان، وله الفضائل الجَمَّة، والسوابق الجليلة، فإنّه لم يكن من قُريش، وقد نصّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن هذا الأمر في قريش، فلا يصلح حمله إِلَّا على الوجه الّذي ذكرناه. انتهى (¬2). وقال السنديّ رحمه الله: يحتمل أن يكون هذا الحديث قبل التنصيص على أن هذا الأمر في قريش، على أن سوق الحديث لإفادة أن ما يُحتاج إلى المشورة ممّا يتوقّف عليه أمر الاستخلاف من الكمالات كلّها موجودة في ابن مسعود وجودًا بيّنًا بحيث لا حاجة في استخلافه إلى مشورة لمعرفة تلك الكمالات، وهذا لا ينافي عدم صحّة استخلافه؛ لعدم كونه من قريش، فليُتأمل. انتهى كلام السنديّ (¬3). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الّذي قاله السنديّ رحمه الله تعالى تحقيقٌ نفيس جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. ¬

_ (¬1) راجع "المصباح المنير" 1/ 327. (¬2) "الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3943. (¬3) "شرح السنديّ" 1/ 93.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عليّ -رضي الله عنه- هذا ضعيف؛ لأجل الكلام في الحارث. [فإن قلت]: لم ينفرد به الحارث، فقد تابعه عاصم بن ضمرة، عن عليّ -رضي الله عنه-، أخرج النَّسائيّ في "الفضائل" من "الكبرى"، من طريق منصور، بن المعتمر، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن عليّ -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو كنتُ مُستخلفًا أحدًا على أُمَّتي من غير مشُورة لاستخلفتُ عليهم عبد الله بن مسعود"، وهذا إسناد رجاله ثقات، وعاصم بن ضمرة السِّلُوليّ الكوفيّ، وإن تكلّم فيه ابن حبّان، وابن عديّ، فقد وثّقه ابن المدينيّ، والعجليّ، ويحيى بن معين، وغيرهم. [قلت]: رواية عاصم أعلها بعضهم بأن زهير بن معاوية خالف القاسم بن معن، عن منصور، فقال: عن أبي إسحاق، عن الحارث، وزهير أوثق من القاسم، وأيضًا روايته موافقة لرواية الثّوريّ، عن أبي إسحاق، عن الحارث، فالحديث له، لا دخل لعاصم فيه، وقد أشار إلى هذا الترمذيّ، حيث قال: "حديث غريب، إنّما نعرفه من حديث الحارث، عن عليّ". انتهى، وكذا قال البغويّ (¬1). والحاصل أن الحديث ضعيف، والله تعالى أعلم. (المسألةُ الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (20/ 137) وأخرجه (الترمذيّ) في "المناقب" (3808) و (3809) و (النَّسائيّ) في "الفضائل" (8210) من طريق عاصم، عن عليّ -رضي الله عنه- و (أحمد) في "مسنده" (566)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. ¬

_ (¬1) راجع "السلسلة الضعيفة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله، 5/ 350 - 351 رقم الحديث (2327).

وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 138 - (حَدَّثَنَا الحسَنُ بْنُ عَليٍّ الخلَّالُ، حَدَّثَنَا يَحْيىَ بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَن زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ بَشَّرَاهُ أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَما أُنزِلَ، فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ"). رجال هذا الإسناد: ثمانية: 1 - (الحسن بن عليّ الْخَلال) هو: الحسن بن علي بن محمّد الْهُذَلي الخلال، أبو علي، وقيل: أبو محمّد الْحُلْوَانيّ -بضمّ المهملة، وسكون اللام- نزيل مكّة، ثقة حافظ، له تصانيف [11]. رَوَى عن عبد الله بن نمير، وأبي أُسامة، ويحيى بن آدم، وزيد بن الحباب، وعبد الصمد بن عبد الوارث، وبشر بن عمر الزهراني، ويعقوب بن إبراهيم، وغيرهم. ورَوَى عنه الجماعة، سوى النَّسائيُّ، وإبراهيمُ الحربيّ، وجعفر الطيالسي، وابن أبي عاصم، ومحمد بن إسحاق السرّاج، ومُطَيَّن، وغيرهم. قال يعقوب بن شيبة: كان ثقة ثبتًا. وقال أبو داود: كان عالمًا بالرجال، وكان لا يستعمل علمه. وقال أيضًا: كان لا ينتقد الرجال. وقال النَّسائيُّ: ثقة. وقال داود بن الحسين البيهقي: بلغني أن الحلواني قال: لا أُكَفّر مَنْ وقف في القرآن، قال داود: فسألت سلمة بن شبيب عن الحلواني، فقال: يُرْمَى في الحش، من لم يَشْهَد بكفر الكافر فهو كافر. وقال الإمام أحمد: ما أعرفه بطلب الحديث، ولا رأيته يطلبه، ولم يحمده، ثمّ قال: يبلغني عنه أشياء أكرهها. وقال مرّة: أهل الثغر عنه غير راضين، أو ما هذا معناه. وقال الخطيب أبو بكر: كان ثقةً حافظًا، وساق بإسناده إليه أنه قال القرآن كلام الله غير مخلوق، ما نعرف غير هذا. قال اللالكائي: مات سنة (242)، وزاد غيره: في ذي الحجة، وهذا قول البخاريّ في "تاريخه"، وقال التّرمذيّ: حَدَّثَنَا الحسن بن علي، وكان حافظًا. وقال ابن عدي: له كتاب صنفه في السنن. وقال الخليلي: كان يُشَبَّهُ بأحمد في سَمْتِه وديانته. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات".

أخرج له البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والمصنّف، وله في هذا الكتاب (24) حديثًا. 2 - (يحيى بن آدم) المذكور في الباب الماضي. 3 - (أبو بكر بن عيّاش) -بتحتانيّة، ومعجمة- ابن سالم الأسديّ الكوفيّ المقرىء الحنّاط -بمهملة، ونون- مولى واصل الأحدب، مشهور بكنيته، والأصحّ أما اسمه، وقيل: اسمه محمّد، أو عبد الله، أو سالم، أو شعبة، أو رؤبة، أو مسلم، أو خِدَاش، أو مُطَرّف، أو حمّاد، أو حبيب، عشرة. أقوال، ثقة، عابدٌ، إِلَّا أنه لمّا كبِر ساء حفظه، وكتابه صحيح [7]. رَوَى عن أبيه، وأبي إسحاق السبيعي، وأبي حَصِين عثمان بن عاصم، وعبد العزيز بن رُفيع، وعبد الملك بن عُمير، ويزيد بن أبي زياد، وغيرهم. وروى عنه الثّوريّ، وابن المبارك، وأبو داود الطيالسي، وأسود بن عامر شاذان، ويحيى بن يحيى بن آدم، وابن مهدي، وأبو نعيم، وابن المديني، وأحمد بن حنبل، وابن معين، وابنا أبي شيبة، وإسماعيل بن أبان الورَّاق، وخلق كثير. قال الحسن بن عيسى: ذكر ابن المبارك أبا بكر بن عياش، فأثنى عليه. وقال صالح بن أحمد عن أبيه: صدوق، صاحب قرآن وخير. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة وربما غَلِط. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: فأبو الأحوص أحب إليك في أبي إسحاق أو أبو بكر بن عياش؟ قال: ما أقربهما، قلت: الحسن بن عياش أخو أبي بكر كيف حديثه؟ قال: هو ثقة، قال عثمان: هما من أهل الصدق والأمانة، وليسا بذاك في الحديث. قال: وسمعت محمّد بن عبد الله بن نمير يُضَعِّف أبا بكر في الحديث، قلت: كيف حاله في الأعمش؟ قال: هو ضعيف في الأعمش وغيره. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن أبي بكر بن عياش وأبي الأحوص، فقال: ما أقربهما، لا أبالي بأيهما بدأت، قال: وسئل إبي عن شريك، وأبي بكر بن عياش أيهما أحفظ؟ فقال: هما في الحفظ سواء، غير أن أبا بكر أصح كتابًا، قلت لأبي: أبو بكر أو عبد الله بن بشر الرَّقّيّ؟ قال: أبو بكر

أحفظ منه وأوثق. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". وقال ابن عدي: أبو بكر هذا كوفي مشهور، وهو يروي عن أجلة النَّاس، وحديثه فيه كثرة، وهو من مشهوري مشايخ الكوفة وقرائهم، وعن عاصم بن بَهْدلة أحذ القراءةَ، وهو في كلّ رواياته عن كلّ مَنْ رَوَى عنه لا بأس به، وذلك أنِّي لم أجد له حديثًا منكرًا إذا روى عنه ثقة، إِلَّا أن يروي عن ضعيف. وقال أحمد بن شَبّويه عن الفضل بن موسى: قلت لأبي بكر بن عياش: ما اسمك؟ قال: وُلدت وقد قُسِمت الأسماء. وقال أبو حاتم الرَّازيُّ: سألت إبراهيم بن أبي بكر بن عياش عن أبيه، فقال: اسمه وكنيته واحد. قال إبراهيم بن شَمّاس: سمعت إبراهيم بن أبي بكر بن عياش قال: لما نُزِل بأبي الموت قلت: يا أبت ما اسمك؟ قال: يا بني إن أباك لم يكن له اسم، وإن أباك أكبر من سفيان بأربع سنين، وإنه لم يأت فاحشة قط، وإنه يختم القرآن من ثلاثين سنة كلّ يوم مرّة. وقال ابن حبّان: اختلفوا في اسمه، والصّحيح أن اسمه كنيته، وكان من العباد الحفاظ المتقنين، وكان يحيى القطان وعلي بن المديني يسيئان الرأي فيه، وذلك أنه لما كَبِر ساء حفظه، فكان يَهِم إذا روى، والخطأ والوهم شيئان لا ينفك عنهما البشر، فمن كان لا يَكثُر ذلك منه فلا يستحق ترك حديثه بعد تقدّم عدالته، وكان شريك يقول: رأيت أبا بكر عند أبي إسحاق يأمر وينهى كأنه رب البيت، مات هو وهارون الرشيد في شهر واحد سنة ثلاث وتسعين ومائة، وكان قد صام سبعين سنة وقامها، وكان لا يُعلم له باللّيل نوم، والصواب في أمره مجانبة ما عُلم أنه أخطأ فيه، والاحتجاج بما يرويه سواءٌ وافق الثقات أو خالفهم. وقال العجلي: كان ثقة قديمًا، صاحب سنة وعبادة، وكان يخطئ بعض الخطأ، تعبد سبعين سنة. وقال ابن سعد: عُمّر حتّى كتب عنه الأحداث، وكان من العباد، نزل بالكوفة في جمادى الأولى في الشهر الّذي مات فيه الرشيد، وكان ثقةً صدوقًا عارفًا بالحديث والعلّم، إِلَّا أنه كثير الغلط. وقال أبو عمر بن عبد البرّ: إن صح له اسم فهو شعبة، وهو

الّذي صححه أبو زرعة لرواية أبي سعيد الأشجّ عن أبي أحمد الزبيري قال: سمعت سفيان الثّوريّ يقول للحسن بن عياش: أَقَدِمَ شعبةُ، وكان أبو بكر غائبًا، قال أبو عمر: كان الثّوريّ، وابن المبارك، وابن مهدي يُثْنُون عليه، وهو عندهم في أبي إسحاق مثل شريك وأبي الأحوص، إِلَّا أنه يَهِمُ في حديثه، وفي حفظه شيء. وقال ابن حبّان أيضًا: مولده سنة خمس أو ست وتسعين. وقال ابن أبي داود: قال أحمد بن حنبل. أحسب أن مولده سنة مائة، وكان يقول: أنا نصف الإسلام، وكان جليلًا. وقال التّرمذيّ: مات سنة اثنتين وتسعين. وقال أبو موسى: مات سنة ثلاث. وقال ابن أبي داود: قال محمّد بن إسماعيل: مات سنة أربع وتسعين. أخرج له البخاريّ، ومسلم في "المقدِّمة"، والأربعة، وله في هذا الكتاب (36) حديثًا. 4 - (عاصم) بن بَهْدلة، وهو ابن أبي النَّجُود -بنون، وجيم- الأسديّ مولاهم الكوفيّ، أبو بكر المقرىء، قال أحمد وغيره: بَهْدَلة هو أبو النجود، وقال عمرو بن علي وغيره: هو اسم أمه، وخطأه أبو بكر بن أبي داود، ثقة يَهِم (¬1)، حجة في القراءة، وحديثه في "الصحيحين" مقرون بغيره [6]. رَوَى عن زر بن حُبيش، وأبي عبد الرّحمن السُّلَمي، وقرأ عليهما القراءات، وأبي وائل، وأبي صالح السمان، وأبي رَزِين، والمسيب بن رافع، ومصعب بن سعد، وغيرهم. وروى عنه الأعمش ومنصور، وهما من أقرانه، وعطاء بن أبي رباح، وهو أكبر منه، وشعبة، والسفيانان، وسعيد بن أبي عروبة، والحمادان، وزائدة، وأبو خيثمة، وشريك، وأبو عوانة، وحفص بن سليمان، وأبو بكر بن عياش، وقرأ عليه، وغيرهم. قال ابن سعد: كان ثقة، إِلَّا أنه كان كثير الخطأ في حديثه. وقال عبد الله بن أحمد ¬

_ (¬1) هذا أولى ممّا في "التقريب":"صدوق له أوهام"؛ لما ستعرفه ممّا يأتي من كلام الأئمة فيه، فتنبّه.

عن أبيه: كان رجلًا صالحًا قارئًا للقرآن، وأهل الكوفة يختارون قراءته، وأنا أختارها، وكان خَيِّرًا، ثقة، والأعمش أحفظ منه، وكان شعبة يختار الأعمش عليه في ثبت الحديث. وقال أيضًا: عاصم صاحب قرآن، وحماد صاحب فقه، وعاصم أحب إلينا. وقال ابن معين: لا بأس به. وقال العجلي: كان صاحب سنة وقراءة، وكان ثقةً، رأسا في القراءة، ويقال: إن الأعمش قرأ عليه، وهو حَدَثٌ، وكان يُخْتَلَف عليه في زر وأبي وائل وقال يعقوب بن سفيان: في حديثه اضطراب، وهو ثقة. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: صالح، وهو أكثر حديثًا من أبي قيس الأودي، وأشهر وأحب إلي منه، وهو أقل اختلافًا عندي من عبد الملك بن عُمير، قال: وسألت أبا زرعة عنه، فقال: ثقة، قال: وذكره أبي، فقال: محله عندي محل الصدق، صالح الحديث، وليس محله أن يقال: هو ثقة، ولم يكن بالحافظ. وقد تكلم فيه ابن عُلَيّة، فقال: كان كلّ من اسمه عاصم سيء الحفظ (¬1). وقال النَّسائيُّ: ليس به بأس. وقال ابن خراش: في حديثه نُكْرة. وقال العقيليّ: لم يكن فيه إِلَّا سوء الحفظ. وقال الدارقطني: في حفظه شيء. وقال أبو بكر بن عياش: سمعت أبا إسحاق يقول: ما رأيت أقرأ من عاصم. وقال شهاب بن عباد عن أبي بكر بن عياش: دخلت على عاصم، وقد احتُضِر، فجعلت أسمعه يُرَدِّد هذه الآية، يُحققها كأنه في المحراب: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 62]، قال خليفة، وابن بكير: مات سنة سبع وعشرين. وقال ابن سعد وغيره: مات سنة ثمان وعشرين ومائة، أخرج له الشيخان مقرونًا بغيره، أخرج له البخاريُّ أربعة أحاديث، برقم (4976 و 4977 و 6576 و 7067) ولم يُخرج له مسلم سوى حديث أبي بن كعب في ليلة القدر برقم (762)، وأخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب (29) حديثًا. ¬

_ (¬1) سيأتي الردّ عليه.

5 - (زِرّ) بن حُبيش بن حُبَاشة الأسديّ، أبو مريم الكوفيّ، ثقة جليل مخضرم [2] 14/ 14. 6 - (عبد الله بن مسعود) -رضي الله عنه- المذكور قريبًا. 7 - (أبو بكر) الصدّيق -رضي الله عنه- تقدّم في 11/ 93. 8 - (عمر) بن الخطّاب -رضي الله عنه- تقدّم في 10/ 102، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصّحيح، وقد عرفت ما مرّ في عاصم. 3 - (ومنها): أن معظمه مسلسل بالكوفيين. 4 - (ومنها): أَنَّ فيه رواية صحابيّ عن صحابيين -رضي الله عنهم-، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُود) -رضي الله عنه- (أَنَّ أَبَا بَكْرِ) الصدّيق -رضي الله عنه- (وَعُمَرَ) بن الخطّاب -رضي الله عنه- (بَشَّرَاهُ) بتخفيف الشين المعجمة، وتشديدها، يقال: بَشَرْتُهُ أَبْشُرُهُ بَشرًا، من باب نصر في لغة تِهَامةَ وما والاها، والاسم منه بُشْرٌ -بضمّ الباء، والتعدية بالتثقيل لغة عامّة العرب، وقرأ السبعة باللغتين، قال ابن مجاهد: قرأ ابن كثير وأبو عمرو {يُبَشِّرُكِ} في كلّ القرآن مشدّدًا إِلَّا في الشُّورى، {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ} [الشورى: 23] فإنهما قرآ بضم الشين مخفّفًا، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم {يُبَشِّركِ} مشدّدًا في جميع القرآن، وقرأ حمزة {يُبَشِرُ} ممّا لم يقع خفيفًا في كلّ القرآن إِلَّا قوله: {فَبِمَ تبشِّرُونَ} [الحجر: 54] وقرأ الكسائيّ {يُبَشِّرُ} مخفّفًا في خمسة مواضع: [آل عمران: 39 و 45]، وفي [الإسراء: 9]، و [الكهف: 2]، وفي [الشورى: 23] (¬1). (أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: مَنْ) شرطيّة، أو موصولة مبتدأ (أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ ¬

_ (¬1) راجع "المصباح المنير" مع هامشه 1/ 49.

غَضًّا) -بفتح الغين، وتشديد الضاد المعجمتين- قال ابن الأثير: "الغضّ": الطريّ الّذي لم يتغيّر، أراد طريقه في القراءة، وهيأته فيها، وقيل: أراد بالآيات الّتي سمعها منه من أول "سورة النِّساء" إلى قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النِّساء: 41]. انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا القول الأخير غير صحيح؛ إذ فيه تخصيص للعامّ من غير دليل، ومما يُبطله ما أخرجه النَّسائيّ بإسناد صحيح من طريق علقمة، وخيثمة كلاهما عن قيس بن مروان، قال: جاء رجل إلى عمر، فقال عمر: من أين جئت؟ قال: من العراق، وتركتُ بها رجلًا يُملي المصحف عن ظهر قلبه، قال: من هو؟ قال: ابن مسعود، قال: ما في النَّاس أحدٌ أحقّ بذلك منه، ثمّ قال: أُحدّثك عن ذلك، سَمَرْنا مع رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - في بيت أبي بكر، فخرجنا، فسمعنا قراءة رجل في المسجد، فتسمّع، فقيل: رجل من المهاجرين يصلّي، قال: "سَلْ تُعْطه" ثلاثًا، ثمّ قال: "من أراد أن يقرأ القرآن رطبًا كما أُنزل، فليقرأه كما يقرأ ابن أمّ عبد"، والله تعالى أعلم. (كَمَا أُنْزِلَ) بالبناء للمفعول، أي على الوجه الّذي أنزله الله -عَزَّ وَجَلَّ- (فَليَقرَأهُ عَلى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ) وفي نسخة: "فليقرأ قراءة ابن أم عبد"، يعني عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي بكر وعمر رضي الله عنهما هذا صحيح، وعاصم ثقة، ولم ينفرد به، فقد أخرجه النَّسائيّ في "الفضائل" من "الكبرى" (8198 و 8199 و 8200) بأسانيد صحيحة، من طريق خيثمة، وعلقمة، كلاهما عن قيس بن مروان، عن عمر -رضي الله عنه-، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) "النهاية" 4/ 271.

(المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (20/ 138) فقط، وهو من أفراده، فلم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (أحمد) 1/ 7 و 445 و 446 و 454 وفي "فضائل الصّحابة" (1554) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (7066) و (7067) و (أبو يعلى) في "مسنده" (16) و (17) و (5058) و (5059) و (البزّار) في "مسنده" 2681 و (الطبرانيّ) (8417)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-. 2 - (ومنها): ما كان عليه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من كشف مزايا أصحابه الكرام، وإبرازه للناس حتّى يعرفوا فضلهم، ويقتدوا بهم. 3 - (ومنها): بيان فضل تحسين قراءة القرآن. 4 - (ومنها): جواز مدح الإنسان بما فيه، تشجيعًا له، وحملًا لغيره على الاقتداء به، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 139 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ الله، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذْنُكَ عَلَيَّ أَنْ تَرْفَعَ الحِجَابَ، وَأَنْ تَسْمَعَ سِوَادِي، حَتَّى أَنهَاكَ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (عليّ بن محمّد) الطنافسيّ المذكور قبل حديث. 2 - (عبد الله بن إدريس) الأوديّ الكوفيّ الثقة الثبت المذكور قبل بابين. 3 - (الحسن بن عبيد الله) بن عروة النخعيّ، أبو عروة الكوفيّ، ثقة فاضل [6]. رَوَى عن إبراهيم بن يزيد، وإبراهيم بن سُوَيْد النخعيين، وإبراهيم بن يزيد التيمي، وزيد بن وهب، وأبي عمرو الشيباني، وغيرهم.

وروى عنه شعبة، والسفيانان، وزائدة، وأبو إسحاق الفزاري، وعبد الله بن إدريس، وعبد الواحد بن زياد، وجرير بن عبد الحميد، وجعفر بن غياث، ومحمد بن فضيل، وغيرهم. قال ابن المديني: له نحو ثلاثين حديثًا أو أكثر. وقال ابن معين: ثقة صالح. وقال العجلي، وأبو حاتم: ثقة. وقال الساجيّ: صدوق. وقال ابن المديني: قلت ليحيى بن سعيد: أيما أعجب إليك، الحسن بن عبيد الله، أو الحسن بن عمرو؟ قال: الحسن بن عمرو أثبتهما، وهما جميعًا ثقتان صدوقان. وقال يعقوب بن سفيان: كان من خيار أهل الكوفة. وقال البخاريّ: لم أُخرج حديث الحسن بن عبيد الله؛ لأن عامة حديثه مضطرب. وضعفه الدارقطني بالنسبة للأعمش، فقال في "العلل" بعد أن ذكر حديثًا للحسن خالفه فيه الأعمش: الحسن ليس بالقوي، ولا يقاس بالأعمش. قال عمرو بن علي: مات سنة (139) وكذا قال ابن حبّان في "الثِّقات"، وزاد: وقيل سنة (42). أخرج له مسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (139) وحديث رقم (1767). 4 - (إبراهيم بن سُويد) النخعيّ الكوفيّ الأعور ثقة [6]. رَوَى عن الأسود بن يزيد، وعبد الرّحمن بن يزيد، وعلقمة بن قيس. ورَوَى عنه الحسن بن عبد الله النخعي، وزبيد بن الحارث اليامي، وسلمة بن كهيل. قال ابن معين: مشهور. وقال النَّسائيُّ: ثقة. ونقل صاحب "الميزان" تبعًا لابن الجوزي أن النَّسائيُّ ضعفه، ولكن لم يثبُت هذا عن النَّسائيّ (¬1). وقال الدارقطني: ليس في حديثه شيء منكر، إنّما هو حديث السّهو، وحديث الدعا (¬2). قال العجليّ: ثقة. ¬

_ (¬1) راجع "تقريب التهذيب" ص 20. (¬2) وقع في نسخة "تهذيب التهذيب" "حديث الرفا" والظاهر أنه تصحيف، والصواب "حديث الدُّعاء"، وهو ما أخرجه مسلم في "صحيحه" برقم (2723) وحديث السّهو =

وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". أخرج له مسلم الحديثين المذكورين، والأربعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 5 - (عبد الرّحمن بن يزيد) بن قيس النخعيّ، أبو بكر الكوفيّ، ثقة من كبار [3]. رَوَى عن أخيه الأسود، وعمه علقمة، وعن حذيفة، وعثمان، وابن مسعود، وسَلْمان، وأبي مسعود الأنصاري، وأبي موسى، وعائشة، والأشتر النخعي. ورَوى عنه ابنه محمّد، وإبراهيم بن يزيد النخعي، وعُمارة بن عمير، وأبو إسحاق السبيعي، وإبراهيم ابن مهاجر، وسلمة بن كهيل، وغيرهم. قال: ابن معين: ثقة. وقال: العجليّ: كوفي تابعي ثقة. وقال: الدارقطنيّ: هو أخو الأسود، وابن أخي علقمة، وكلهم ثقات. وقال: ابن سعد: كان ثقةً، وله أحاديث كثيرة، تُوُفِّي في ولاية الحجاج قبل الجماجم. وقال يحيى ابن بكير سنة (73)، وقال عمرو بن علي: مات في الجماجم سنة ثلاث وثمانين. وقال: ابن حبّان في "الثِّقات": قتل في الجماجم سنة (83). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث برقم 139 و 316 و 1368 و 1369 و 1586 و 1840 و3030 و 3346. 6 - (عبد الله) بن مسعود -رضي الله عنه- المذكور قريبًا، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيّات المصنّف. 2 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين. 3 - (ومنها): أن رجاله رجال الصّحيح، غير شيخه، وهو ثقة. 4 - (ومنها): أن رواية الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم بن سُويد من رواية الأقران؛ لأنهما من الطبقة السّادسة، والله تعالى أعلم. ¬

_ = أخرجه برقم (572).

شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ الله) بن مسعود -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذْنُكَ عَلَيَّ) بالرفع خبر مقدّم لـ "أن ترفع"، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره "أن ترفع"، والأول أولى؛ لأن ما سُبك من "أن" و"أن" بمنزلة الضمير (أَنْ تَرْفَعَ الحجَابَ) ببناء الفعل للفاعل، والفاعل ضمير عبد الله، و"الحجاب" منصوب على المفعوليّة، والمعنى إذني لك في حال الدخول عليّ أن ترفع الحجاب، أي أذنت لك في رفع الحجاب، وسَمَاعِ السِّرَار. وقال في "المجمع": أي إذنك الجمع بين رفع الحجاب ومعرفتك أني في الدَّار، ولو كنت مُسارًا لغيري، فهذا شأنك مستمرًا إلى أن أنهاك، وفيه دلالة على شرفه، وليس فيه أنه يدخل في عليّ حال حتّى على نسائه ومحارمه. وقال في "المفاتيح": أي أذنت لك أن تدخل عليّ، وأن ترفع حجابي بلا استئذان، وأن تسمع سِرَاري حتّى أنهاك عن الدخول والسماع. انتهى (¬1). ووقع عند مسلم بلفظ: "أن يُرفع الحجابُ"، قال القرطبيّ رحمه الله: مبنيّ لما لم يُسمّ فاعله، ولا يجوز غيره، وسببه أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- جعل لعبد الله إذنًا خاصًّا به، وهو أنه إذا جاء بيت النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فوجد الستر قد رُفع دخل من غير إذن بالقول، ولم يَجعل ذلك لغيره إِلَّا بالقول، كما قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} الآية [النور: 27]، وقال تعالى: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} الآية [الأحزاب: 53]، ولذلك كانت الصّحابة -رضي الله عنهم- تذكر ذلك في فضائل ابن مسعود -رضي الله عنه-، فتقول: كان ابن مسعود يؤذن له إذا حُجِبنا، وكأنّ ابن مسعود كان له من التبسّط في بيت النبيّ -صلى الله عليه وسلم- والانبساط ما لم يكن لغيره؛ لما علمه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من حاله، ومن خُلُقه، ومن إِلْفِه لبيته. انتهى (¬2). (وَأَنْ تَسْمَعَ) وفي نسخة: "تستمع" (سِوَادِي) قال النوويّ رحمه الله: "السِّواد" ¬

_ (¬1) "مجمع بحار الأنوار" 3/ 143 - 144. (¬2) "المفهم" 5/ 499.

بكسر السين المهملة، وبالدال، واتّفق العلماء على أن المراد به السِّرَار بكسر السين، وبالراء المكرّرة، وهو السّرّ والمساور، يقال: ساودت الرجلَ مساودةً: إذا ساررته، قالوا: وهو مأخوذ من إدناء سَوَادك من سوَاده عند المساررة، أي شخصك من شخصه، والسَّوَاد اسم لكلّ شخص. انتهى (¬1). وقوله: (حَتَّى أَنْهَاكَ) غاية للإذن، أي أنت في حلّ من رفع الحجاب والدخول عليّ إلى أن أمنعك من ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- هذا أخرجه مسلم. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (20/ 139) فقط، وأخرجه (مسلم) في "كتاب السّلام" (2169) و (النَّسائيّ) في "الفضائل" (8204) و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" 12/ 112 و (ابن سعد) في "الطبقات" 3/ 153 و (أحمد) في "مسنده" (3833) و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار" (1585) و (أبو يعلى) في "مسنده" (5356) و (5357) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (7068) و (الطبرانيّ) (8449) و (8450)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل عبد الله بن مسعود، حيث إنّه -صلى الله عليه وسلم- جعله يرفع الحجاب بلا استئذان، ويسمع مسارّته لغيره، ولهذا كان الصّحابة -رضي الله عنهم- يعدّون هذا له منقبة عظيمة، فقد أخرج الشيخان من حديث أبي موسى الأشعريّ -رضي الله عنه-، قال: "قدِمتُ أنا وأخي من اليمن، فكنّا حينًا وما نرى ابن مسعود وأمّه ¬

_ (¬1) "شرح مسلم" 14/ 150.

إِلَّا من أهل بيت النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من كثرة دخولهم، ولزومهم له". وأخرج مسلم من طريق أبي إسحق، قال: سمعت أبا الأحوص، قال: شهدت أبا موسى وأبا مسعود، حين مات ابن مسعود، فقال أحدهما لصاحبه: أتُراه تَرَك بعده مثله؟ فقال: إن قلت ذاك، إن كان ليؤذن له إذا حُجِبنا، ويشهد إذا غِبْنَا. وأخرج أيضًا من طريق مالك بن الحارث، عن أبي الأحوص قال: كنا في دار أبي موسى، مع نفر من أصحاب عبد الله، وهم ينظرون في مصحف، فقام عبد الله، فقال أبو مسعود: ما أعلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تَرَك بعده أعلم بما أنزل الله من هذا القائم، فقال: أبو موسى: أَمَا لئن قلت ذاك، لقد كان يشهد إذا غِبْنَا، ويؤذن له إذا حُجِبْنَا. 2 - (ومنها): جواز الاعتماد على العلّامة في الإذن في الدخول، فإذا جعل الأمير، أو القاضي، أو غيرهم رفع الستر الّذي على بابه علامةً في الإذن في الدخول عليه للناس عامّة، أو لطائفة خاصّة، أو لشخص، أو جعل علامة غير ذلك جاز اعتمادها، والدخول إذا وُجدت بغير استئذان، وكذا إذا جعل الرَّجل ذلك علامة بينه وبين خَدَمه ومماليكه، وكبار أولاده وأهله، فمتى أرخى حجابه فلا دخول عليه إِلَّا باستئذانه، فإذا رفعه جاز بلا استئذان. قاله النوويّ رحمه الله (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. ¬

_ (¬1) "شرح مسلم" 14/ 150 "كتاب السّلام".

21 - فضل العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -

21 - (فَضْلُ الْعَبَّاس بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -رضي الله عنه-) هو: العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القُرَشيُّ الهاشميّ، عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أبو الفضل، أمه نُتَيْلَةُ بنت جَنَاب بن كلب، وُلِد قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسنتين، وضَاعَ وهو صغير، فنَذَرَت أمه إن وجدته أن تكسو البيت الحرير، فوجدته فكست البيت الحرير، فهي أول من كساه ذلك، وكان إليه في الجاهلية السِّقَاية والعِمَارة، وحضر بيعة العقبة مع الأنصار قبل أن يُسلِم، وشهد بدرًا مع المشركين مكرهًا، فأُسِر، فافتدى نفسه، وافتدى ابن أخيه عقيل بن أبي طالب، ورجع إلى مكّة، فيقال: إنّه أسلم وكتم قومه ذلك، وصار يكتب إلى النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- بالأخبار، ثم هاجر قبل الفتح بقليل، وشَهِد الفتح، وثبت يوم حنين، وقال النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "من آذى العباس فقد آذاني، فإنّما عَمُّ الرَّجل صِنْوُ أبيه"، أخرجه التّرمذيّ في قصة (¬1). وقد حَدَّث عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- بأحاديث، رَوَى عنه أولاده، وعامر بن سعد، والأحنف بن قيس، وعبد الله بن الحارث، وغيرهم. وقال ابن المسيَّب عن سعد: كنا مع النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فأقبل العباس، فقال: "هذا العباس أجود قريش كَفّا، وأوصلها"، أخرجه النَّسائيُّ (¬2)، وأخرج البغوي في ترجمة أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بسند له إلى الشّعبيّ، عن أبي هَيّاج عن أبي سفيان بن الحارث، عن أبيه، قال: كان العباس أعظم النَّاس عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا، والصحابة يعترفون للعباس بفضله، ويشاورونه، ويأخذون رأيه، ومات بالمدينة في رجب، أو رمضان سنة اثنتين وثلاثين، وكان طويلًا جميلًا أبيض (¬3)، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) حديث ضعيف في سنده يزيد بن أبي زياد متكلّم فيه. (¬2) حديث صحيح. (¬3) راجع "الإصابة" 3/ 511 - 512.

وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 140 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَرِيفٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي سَبْرَةَ النَّخَعِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْب الْقُرَظِيِّ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المطَّلِبِ، قَالَ: كُنَّا نَلْقَى النّفرَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ، فَيَقْطَعُونَ حَدِيثَهُمْ، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ، فَقَالَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَحَدَّثُونَ، فَإذَا رَأَوُا الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي قَطَعُوا حَدِيثَهُمْ، وَالله لَا يَدْخُلُ قَلْبَ رَجُلٍ الْإِيمَانُ حَتَّى يُحِبَّهُمْ للهِ، وَلقَرَابَتِهِمْ مِنِّي"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (محمّد بن طريف) بن خَلِيفة البجليّ، أبو جعفر الكوفيّ، صدوقٌ، من صغار [10]. رَوَى عن أبيه، وعبد الله بن إدريس، وأبي بكر بن عياش، وعمران، وإبراهيم ابني عيينة، وأبي أُسامة، وأبي معاوية، ووكيع، ومحمد بن فضيل، وغيرهم. ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجة، وابنه، وأبو زيد، أحمد بن محمّد ابن طَريف، وأبو حاتم، وموسى بن هارون، وغيرهم. قال أبو زرعة: محله الصدق، وقال في موضع آخر: لا بأس به، صاحب حديث، كان ابن نُمَير يُثْنِي عليه. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". وقال الخطيب: كان ثقة. وقال الحضرمي: مات سنة اثنتين وأربعين ومائتين، زاد غيره في صفر، وهو قول القراب في "تاريخه"، وأما ابن قانع، فأرخه سنة (37)، وفي "الزهرة"، رَوَى عنه مسلم ستة أحاديث. أخرجه له مسلم، وأبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا. 2 - (محمّد بن فُضيل) بن غَزْوان الضبيّ مولاهم، أبو عبد الرّحمن الكوفيّ، صدوق، رُمي بالتشيّع [9] 2/ 21. 3 - (الأعمش) سليمان بن مِهْران الإمام الحجة الثبت المشهور [5] 1/ 1.

4 - (أبو سَبْرة -بسكون الموحّدة- النخعيّ) الكوفيّ، يقال: اسمه عبد الله بن عابس، مقبول [3]. رَوَى عن عمر بن الخطّاب، يقال: مرسل، وفَرْوَة بن مُسَيك، ومحمد بن كعب الْقُرَظيّ. وعنه الأعمش والحسن بن الحكم النخعي والحسن بن مسافر قال ابن معين لا أعرفه وذكره بن حبّان في الثقات وقد قيل إن الراوي عن فروة بن الراوي عن محمّد بن كعب القرظي فالله تعالى أعلم. أخرج له أبو داود، والترمذي، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 5 - (محمّد بن كعب) بن سُليم بن أسد الْقُرَظيّ، أبو حمزة، وقيل: أبو عبد الله المدنيّ، من حُلَفَاء الأوس، وكان أبوه من سَبْي قُرَيظة، سَكَن الكوفة مدّة، ثمّ المدينة، ثقة عالم [3]. رَوَى عن العباس بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وعمرو بن العاص، وأبي ذّر، وأبي الدرداء، يقال: إن الجميع مرسل، وعن فضالة بن عبيد، والمغيرة ابْن شعبة، ومعاوية، وكعب بن عُجْرة، وأبي هريرة، وغيرهم. ورَوَى عنه أخوه عثمان، والحكم بن عتيبة، ويزيد بن أبي زياد، وابن عجلان، وموسى بن عبيدة، وأبو معشر، وأبو جعفر الْخَطْميّ، ويزيد بن الهاد، وغيرهم. قال ابن سعد: كان ثقة عالمًا كثير الحديث، ورعًا. وقال العجلي: مدني تابعي ثقة، رجل صالح عالم بالقرآن. وقال ابن المديني، وأبو زرعة: ثقة. وقال البخاريّ: إن أباه كان ممّن لم يُنْبِت يوم قريظة، فَتُرِك (¬1)، ثمّ ساق بإسناده عن محمّد بن كعب قال: سمعت ابن مسعود، فذكر حديثًا، وقال: لا أدري أحفظه أم لا؟. وقال أبو داود: سمع من علي، ومعاوية، وابن مسعود. ¬

_ (¬1) فما ذكره بعضهم من أن محمّد بن كعب وُلد في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- غلط، فإن الّذي وُلد في حياته -صلى الله عليه وسلم- هو أبوه، كما ذكره البخاريّ هنا، فتنبّه. راجع "تهذيب التهذيب" 3/ 685.

وقال يعقوب بن شيبة: وُلِد في آخر خلافة علي سنة أربعين، ولم يسمع من العباس. وقال عون بن عبد الله: ما رأيت أحدًا أعلم بتأويل القرآن منه. وقال ابن حبّان: كان من أفاضل أهل المدينة علمًا وفقهًا، وكان يَقُصّ في المسجد فسقط عليه وعلى أصحابه سَقْفٌ فمات هو وجماعة معه تحت الهدم سنة ثماني عشرة، وأرخه أبو بكر بن أبي شيبة وغير واحد سنة ثمان ومائة. وقال يعقوب بن شيبة وغيره: مات سنة سبع عشرة، وهو ابن ثمان وسبعين سنة. وقال ابن نمير: مات سنة تسع عشرة. وقال ابن سعد وغيره: مات سنة عشرين، وقيل: غير ذلك. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث 140 و 959 و1181 و 2575 و 3080 و 3866 و 4182. 6 - (العبّاس بن عبد المطّلب) -رضي الله عنه- المذكور آنفًا. شرح الحديث: (عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المطَّلِبِ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: كنَّا نَلْقَى) بفتح أوله وثالثه، مضارع لَقِي بكسر القاف، من باب تَعِب (النَّفَرَ) بفتحتين: أي الجماعة (مِنْ قُرَيْشٍ، وَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ) جملة في محلّ نصب على الحال من المفعول (فَيَقْطَعُونَ) بفتح أوله وثالثه (حَدِيثَهُمْ) أي عند لقائنا لهم غضبًا وعداوةً لنا، لا إخفاءً للحديث عنّا لكونه سرًّا، وإلا فلا لوم على إخفاء الأسرار. قاله السنديّ (¬1) (فَذَكَرْنَا ذَلِكَ) أي صنيعهم هذا (لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ) -صلى الله عليه وسلم- ("مَا) أي استفهاميّة (بَالُ) أي حال (أَقْوَامٍ يَتَحَدَّثُونَ) جملة في محلّ جرّ صفة لـ "أقوام" (فَإِذَا رَأَوُا الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي قَطَعُوا حَدِيثَهُمْ) أي خوفًا من سماعه (وَالله) جملة قسميّة، أي أُقسم بالله (لَا يَدْخُلُ قَلْبَ رَجُلٍ الْإِيمَانُ) بنصب "قلب" على المفعوليّة، ورفع الإيمان على الفاعليّة (حَتَّى يُحِبَّهُمْ) أي أهل بيته -صلى الله عليه وسلم- (لله) أي لأجله، لا ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 94 - 95.

لأمر دنيويّ، كما قال تعالى: {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبَى} الآية [الشورى: 23]، (وَلقَرَابَتِهِمْ مِنِّي) أي ولأجل قرابتهم من النبيّ -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن محبتهم ناشئة من محبته، ومحبته من أعظم شعب الإيمان، كما قال -رضي الله عنه- فيما أخرجه الشيخان في "صحيحيهما": "لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى) في درجته: حديث العبّاس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وهو مرسلٌ، فإن محمّد بن كعب لم يلقَ العبّاس -رضي الله عنه-؟. [قلت]: إنّما صحّ بشواهده، فقد أخرج ابن أبي شيبة في "مصنّفه" رقم (32203) قال: حَدَّثَنَا ابن نُمير، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضّحى مسلم بن صُبَيح، قال: قال العبّاس يا رسول الله إنا لنرى وجوه قوم من وقائع أوقعتها فيهم، فقال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "لن يصيبوا خيرًا حتّى يُحبّوكم لله، ولقرابتي ... " الحديث (¬1). وهذا مرسل صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين، يشهد لحديث الباب. وأخرج الترمذيّ (3691) من طريق أبي عوانة، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، حدثني عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، أن العباس ابن عبد المطلب دخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مُغْضَبًا، وأنا عنده، فقال: "ما أغضبك؟ "، قال: يا رسول الله ما لنا ولقريش، إذا تلاقَوْا بينهم تلاقوا بوجوه مُبْشَرَةٍ، وإذا لَقُونا لَقُونا بغير ذلك؟ قال: فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتّى احمر وجهه، ثمّ قال: "والذي نفسي بيده لا يدخل قلبَ رجلٍ الإيمانُ حتّى يُحِبَّكم لله، ولرسوله"، ثمّ قال: "يا أيها النَّاس من ¬

_ (¬1) راجع "مصنّف عبد الرزّاق" 6/ 385 رقم (32203).

آذى عمي فقد آذاني، فإنّما عَمُّ الرَّجل صنو أبيه"، قال: هذا حديث حسن صحيح. هذا الحديث في سنده يزيد بن أبي زياد الهاشميّ ضعيف، إِلَّا أنه لا بأس به في المتابعة، والشواهد، ولذا أخرج له مسلم متابعةً، فحديثه يشهد لحديث الباب، والظاهر أن التّرمذيّ صححه لهذا، وليس ممّا تساهل فيه، كما قاله بعضهم. والحاصل أن الحديث صحيح؛ لما ذُكر، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (21/ 140) فقط، وقد تفرّد به، فلم يُخرجه أحد من أصحاب الأصول، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (1677) وأخرجه (الترمذيّ) برقم (3691) و (أحمد) برقم (16860 و 16861) من حديث عبد المطلب بن ربيعة، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): من أغرب ما وقع للمصنّف أنه عقد بابًا في فضل العبّاس -رضي الله عنه-، ثمّ أرود حديثين: أحدهما هذا، وهو وإن صححناه لشواهده إِلَّا أنه مرسل في نفسه، والثّاني موضوع، وهو التالي، كأنه لم يثبت للعباس -رضي الله عنه- شيء من الفضائل، مع أنه وردت أحاديث صحيحة في فضائله، ولعلّها ما وصلت إليه، فلذا أحببت أن أذكر بعض تلك الأحاديث لئلا يخلو الباب عن الأحاديث الصحيحة. (فمن ذلك): ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" (3710) من طريق ثُمامة بن عبد الله بن أنس، عن أنس -رضي الله عنه- أن عمر بن الخطّاب كان إذا قَحَطُوا استسقى بالعباس ابن عبد المطلب، فقال: اللَّهُمَّ إنا كنا نتوسل إليك بنبينا -صلى الله عليه وسلم-، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبيّنا، فاسقنا، قال: فيسقون. (ومنها): ما أخرجه مسلم في "صحيحه" (983). من طريق الأعرج، عن أبي هريرة قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمر على الصَّدقة، فقيل: مَنَعَ ابنُ جميل، وخالد بن الوليد، والعباس عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما يَنقِم ابنُ جَمِيل إِلَّا أنه كان فقيرًا، فأغناه الله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا،

قد احتبَسَ أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأما العباس فهي عليّ ومثلُها معها"، ثمّ قال: "يا عمر أما شَعَرتَ أن عَمَّ الرَّجل صِنْوُ أبيه". (ومنها): ما أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 1/ 293 رقم (1524) بإسناد صحيح من طريق سعيد بن المسيَّب، عن سعد بن أبي وقّاص قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للعباس: "هذا العباس بن عبد المطلب أجودُ قريشٍ كفًّا، وأوصلها". وغير ذلك ممّا ثبت له من المناقب، وقد جمعت في ذلك أم شعيب زوجة المحدّث الحافظ المحقق الكبير الشّيخ مقبل بن هادي رحمه الله حيث كتبت الصّحيح السند من فضائل أهل بيت النبوّة، فأجادت وأفادت، وفي ضمنه باب عقد لفضائل العبّاس -رضي الله عنه-، وقد قدّم لها الشّيخ رحمه الله والكتاب مطبوع، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 141 - (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الضَّحَّاكِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ الحَضْرَمِيِّ، عَنْ عَبْدِ الله ابْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الله اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، فَمَنْزِلِي وَمَنْزِلُ إِبْرَاهِيمَ في الجنَّةِ يّوْمَ الْقِيَامَةِ تُجَاهَيْنِ، وَالْعَبَّاسُ بَيْنَنَا مُؤْمِنٌ بَيْنَ خَلِيلَيْنِ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (عبد الوهّاب بن الضّحّاك) بن أبان الْعُرْضيّ -بضم المهملة، وسكون الراء، بعدها معجمة- أبو الحارث الحمصيّ، نزيل سَلَمْيَةَ، متروك، كذّبه أبو حاتم [10]. روى عن إسماعيل بن عياش، وبقية بن الوليد، وعيسى بن يونس، وغيرهم. وروى عنه ابن ماجة، وعبد الوهّاب بن نَجْدة، وهو من أقرانه، وابن أبي عاصم، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وغيرهم. قال البخاريّ: عنده عجائب. وقال أبو داود: كان يضع الحديث قد رأيته. وقال

النَّسائيُّ: ليس بثقة متروك. وقال العقيليّ، والدارقطنيّ، والبيهقيّ: متروك. وقال صالح ابن محمّد الحافظ: منكر الحديث، عامة حديثه كَذِبٌ. وقال ابن أبي حاتم: سمع منه أبي بسَلَمْيَةَ، وترك حديثه والرواية عنه هذا قاص. وقال محمّد بن عوف: قيل له: إنّه كان يأخذ فوائد أبي اليمان فيحدث بها، عن إسماعيل بن عياش، وحدث بأحاديث كثيرة موضوعة. قال: فخرجتُ إليه، فقلت: ألا تخاف الله، فضمن لي أن لا يُحَدِّث بها بعد ذلك. وقال ابن عدي: وأظن قال عبدان: كان البغداديون يلقّنونه فمنعتهم. وقال الجوزجاني: أَقدَم وجَسَرَ فأراح النَّاس. وقال ابن عدي: وبعضُ حديثه لا يتابع عليه. وقال الدارقطني في موضع آخر: له عن إسماعيل بن عياش وغيره مقلوباتٌ وبواطيلُ. وقال الآجري عن أبي داود: غير ثقة ولا مأمون. وقال ابن حبّان: كان يسرق الحديث، لا يحل الاحتجاج به. وقال الحاكم وأبو نعيم: روى أحاديث موضوعة. قال ابن أبي عاصم: مات سنة خمس وأربعين ومائتين. تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط برقم 141 و 772 و 1165 و 1317 و 2014 و 2247 و 3340. [تنبيه]: قوله: "الْعُرْضيّ": نسبة إلى عُرْض قال ابن السمعاني: ناحية بدمشق، وتعقّبه ابن الأثير، فقال: بل هي مدينة صغيرة بين الفرات ودمشق، وهي من أعمال حلب. وسَلَمْيَةُ مُسكّنة الميم، مخفّفة الياء: اسم بلد. قاله في "القاموس". والله تعالى أعلم. 2 - (إسماعيل بن عيّاش) الْعَنسيّ، أبو عُتبة الحمصيّ، صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلّط في غيرهم [8] 9/ 74. 3 - (صفوان بن عمرو) بن هَرِم السَّكْسَكيّ، أبو عمرو الحِمْصيّ، ثقة [5]. رَوَى عن عبد الله بن بُسْر المازني الصحابي، وعبد الرّحمن جُبير بن نُفَير، وشُرَيح

ابن عبيد الحضرمي، وراشد بن سعد، وجماعة. ورَوى عنه ابن المبارك، وأبو إسحاق الفزاري، وبقية، وإسماعيل بن عياش، ومعاوية بن صالح الحضرمي، وغيرهم. قال العجلي، ودُحيم، وأبو حاتم، والنَّسائيّ: ثقة، زاد أبو حاتم: لا بأس به. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا. وقال أبو زرعة الدمشقي: قلت لدُحيم: مَنْ أَثْبَتُ بِحِمْصَ؟ قال: صفوانُ، وسَمَّى جماعةً. وقال أبو حاتم: سمعت دُحيمًا يقول: صفوان أكبر من حَرِيز وقَدَّمَهُ. وقال ابن خِرَاش: كان ابن المبارك وغيره يوثقه. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". وقال النَّسائيُّ في "التمييز": له حديث منكر في عمار بن ياسر. وقال أبو اليمان عن صفوان: أدركت من خلافة عبد الملك، وخَرَجْنا في بعث سنة (94). وقال يزيد بن عبد ربه مات سنة (155). وقال سليمان بن سَلَمَة: مات سنة (8). وعلّق له البخاريّ أثرًا، وأخرج له في "الأدب المفرد"، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط برقم 141 و 1317 و 3568 و 3992. 4 - (عبد الرّحمن بن جُبير -بجيم، فموحّدة، مصغّرًا- ابن نُفير) -بنون، ففاء، مصغّرًا أيضًا- أبو حميد، ويقال أبو حِمْيَر الحضرميّ الحمصيّ، ثقة [4]. روى عن أبيه، وأنس بن مالك، وخالد بن معدان، وكثير بن مرّة، وغيرهم. ورَوَى عنه يحيى بن جابر الطائي، ومعاوية بن صالح، وثور بن يزيد، وزهير بن سالم، وصفوان بن عمرو، وغيرهم. قال أبو زرعة، النَّسائيُّ: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". وقال ابن سعد: كان ثقة، وبعض النَّاس يستنكر حديثه، ومات سنة ثماني عشرة ومائة في خلافة هشام. أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط برقم 141 و 1219 و 4075 و 4076.

5 - (كثير بن مرّة الحضرميّ) الحمصيّ، ثقة [2] ووهِمَ من عدّه في الصّحابة 1/ 7. 6 - (عبد الله بن عمرو) بن العاص رضي الله عنهما تقدّم في 8/ 52، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -: إِنَّ الله اتَّخَذَنِي خَلِيلًا) "الخليل": الصديق، فَعِيلٌ بمعنى مُفاعل، وقد يكون بمعنى مفعول، والْخُلّة بالضم: الصداقة والمحبّة الّتي تخلّلت القلب، فصارت خلاله، أي في باطنه. قاله ابن الأثير (¬1) (كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ) -عليه السّلام- (خَلِيلًا) حيث قال -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]، (فَمَنْزِلِي وَمَنْزِلُ إِبْرَاهِيمَ في الجنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُجَاهَيْنِ) أي متقابلين، والتاء فيه بدلٌ من واو وجاه، قال في "القاموس": تجاهك، ووجاهك مثلّثين: تلقاء وجهك. انتهى (وَالْعَبَّاسُ بَيْنَنَا) مبتدأ وخبره (مُؤْمِنٌ) خبر لمحذوف، أي هو مؤمن، حال كونه كائنًا (بَيْنَ خَلِيلَيْنِ). مسألة: هذا الحديث موضوع، وآفته عبد الوهّاب شيخ المصنّف، فقد سبق أنه من الوضاعين، وهو من أفراد المصنّف، فلم يُخرجه أحد غيره، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. ¬

_ (¬1) "النهاية" 2/ 305.

22 - فضل الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم -

22 - (فَضْلُ الْحَسَنِ وَالْحُسيْنِ ابْنَي عَلِيٍّ بْنِ أَبي طَالِبٍ -رضي الله عنهم-) قال الجامع عفا الله تعالى عنه: إنّما جمعهما في باب واحد لما وقع لهما من الاشتراك في كثير من الفضائل. فأمّا الحسن فهو: ابن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الهاشمي، سبط رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورَيحانته، أمير المؤمنين، أبو محمّد، وُلِد في نصف شهر رمضان، سنةَ ثلاث من الهجرة، قاله ابن سعد، وابن الْبَرْقِيّ، وغير واحد، وقيل: في شعبان منها، وقيل: وُلد سنة أربع، وقيل: سنة خمس، والأول أثبت، وروى عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أحاديث حفظها عنه، ومات بالمدينة مسمومًا سنة خمسين، ويقال: قبلها، ويقال: بعدها. وأما الحسين فهو: ابن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي، أبو عبد الله، سبط رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وريحانته، قال الزُّبير وغيره: وُلد في شعبان سنة أربع، وقيل: سنة ست، وقيل: سنة سبع، وليس بشيء، قال جعفر بن محمّد: لم يكن بين الحمل بالحسين بعد ولادة الحسن إِلَّا طهر واحد، وقد حَفِظَ الحسين أيضًا عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ورَوَى عنه. وقُتل يوم عاشوراء سنة إحدى وستّين بكربلاء من أرض العراق، وكان أهل الكوفة لمّا مات معاوية، واستُخلِف يزيد كاتبوا الحسين بأنهم في طاعته، فخرج الحسين إليهم، فسبقه عُبيد الله بن زياد إلى الكوفة، فخَذّل غالب النَّاس عنه، فتأخّروا رغبةً ورهبةً، وقُتل ابن عمّه مسلم بن عَقِيل، وكان الحسين قد قدّمه قبله يُبايع له النَّاس، ثمّ جهّز إليه عسكرًا، فقاتلوه إلى أن قُتل هو وجماعة من أهل بيته، والقصّة في ذلك مشهورة (¬1)، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" في "كتاب الفضائل" 7/ 120.

وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 142 - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُبَيْدِ الله بْنِ أَبي يَزِيدَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِلْحَسَنِ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبَّهُ فَأَحِبَّهُ، وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ"، قَالَ: وَضَمَّهُ إِلَى صَدْرِهِ). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (أحمد بن عَبْدة) الضبّيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقة رُمي بالنصب [10] 3/ 28. 2 - (سفيان بن عُيينة) الإمام الحجة الثبت المكيّ الشهير [8] 2/ 13. 3 - (عُبيد الله بن أبي يزيد) المكيّ، مولى آل قارظ بن شيبة، ثقة كثير الحديث [4]. رَوَى عن ابن عبّاس، وابن عمر، وابن الزُّبير، وأبي لبابة بن عبد المنذر، ونافع بن جبير بن مطعم، وغيرهم. ورَوَى عنه ابنه محمّد، وابن المنكدر، وهو أكبر منه، وابن جريج، وورقاء بن عمر، وحماد بن زيد، وسفيان بن عيينة، وآخرون. قال ابن المديني، وابن معين، والعجلى، وأبو زرعة، والنَّسائيّ: ثقة. وقال ابن سعد: ثقة، كثير الحديث. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". وقال ابن عيينة: مات سنة ست وعشرين ومائتين، وله (86) سنة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط برقم 142 و 1035 و 2005 و 3162 و 3364 و 3896. 4 - (نافع بن جُبير) بن مُطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف النوفليّ، أبو محمّد، أو أبو عبد الله المدنيّ، ثقة فاضلٌ [3]. رَوَى عن أبيه، والعباس بن عبد المطلب، والزبير بن العوّام، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن أبي العاص، وأبي هريرة، وغيرهم. ورَوَى عنه عروة بن الزُّبير، وسعيد بن إبراهيم، والزهري، وعبيد الله بن أبي

يزيد، وآخرون. قال ابن سعد: قال محمّد بن عمر: روى عن أبي هريرة، وكان ثقة، أكثر حديثًا من أخيه. وقال العجلي: مدني تابعي ثقة. وقال أبو زرعة: ثقة. وقال ابن خِرَاش: ثقة مشهور، أحد الأئمة. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: من خيار النَّاس، كان يحج ماشيًا، وناقته تُقاد. وقال أبو الحسن بن البراء عن علي بن المديني: أصحاب زيد بن ثابت الذين كانوا يأخذون عنه، ويفتون بفتواه، فذكره فيهم. قال الزُّبير بن بكار وغير واحد: مات في خلافة سليمان بن عبد الملك. وقال الواقدي عن ابن أبي الزِّناد: مات سنة تسع وتسعين. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث برقم 142 و 545 و 807 و 1720 و 1870 و 2907 و 3522 و 3672 و 4065. 5 - (أبو هريرة) -رضي الله عنه- تقدّم 1/ 1، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه خماسيّات المصنِّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصّحيح. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات المدنيين، غير شيخه، فبصريّ، وسفيان، فكوفيّ، ثمّ مكيّ. 4 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. 5 - (ومنها): أن صحابيّه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-) أنه (قَالَ لِلْحَسَنِ) أي في شأنه، فاللام بمعنى "في"، والحديث مختصرٌ، وقد بساقه الشيخان في "صحيحيهما" بطوله، فلفظ البخاريّ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كنت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سوق من أسواق المدينة، فانصرف،

فانصرفت، فقال: "أين لُكَعُ" (¬1) ثلاثًا، ادْعُ الحسن بن علي، فقام الحسن بن علي يمشي، وفي عنقه السِّخَاب (¬2)، فقال النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- بيده هكذا، فقال الحسن بيده هكذا فالتزمه، فقال: "اللَّهُمَّ إنِّي أُحِبُّه فأحبه، وأَحِبَّ مَنْ يُحبه"، وقال أبو هريرة: فما كان أحدٌ أحب إلي من الحسن بن علي بعد ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قال. ولفظ مسلم عن أبي هريرة، قال: خرجت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في طائفة من النهار، لا يُكَلِّمني ولا أكلمه، حتّى جاء سُوق بني قُينقاع، ثمّ انصرف، حتّى أتى خِبَاء فاطمة، فقال: "أَثَمَّ لُكَعُ، أَثَمَّ لُكَعُ" -يعني حسنًا- فظننا أنه إنّما تحبسه أمه لأن تُغَسِّلَه، وتُلْبِسه سِخَابًا، فلم يَلْبَث أن جاء يَسْعَى، حتّى اعتَنَقَ كلُّ واحد منهما صاحبه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ إنِّي أُحبه فأَحِبَّه، وأَحْبِبْ من يُحِبه". ("اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَه، وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ"، قَالَ) أي أبو هريرة (وَضَمَّهُ) أي ضمّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- الحسن (إِلَى صَدْرِهِ) هذا معنى الالتزام الّذي مرّ آنفًا في رواية البخاريّ، وبمعنى رواية مسلم: "حتّى اعتنق كلّ واحد منهما صاحبه"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (22/ 142) وأخرجه (البخاريّ) في "البيوع" (2122) و"اللباس" (5884) وفي "الأدب المفرد" (1152) و (مسلم) في "فضائل الصّحابة" (2421) و (الحميديّ) في "مسنده" (1043) و (أحمد) في "مسنده" (7091) ¬

_ (¬1) "اللكع": الصغير في لغة تميم. (¬2) "السخاب": خيط فيه خرزٌ يُنظم، ويُجعل في عنق الصبيّ.

و (8030) و (10471) وفي "فضائل الصّحابة" (1349) و (النَّسائيّ) في "الفضائل" من "الكبرى" (8108) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (6963) و (البغويّ) في "شرح السنّة" (3933)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده (¬1): 1 - (ومنها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل الحسن -رضي الله عنه-. 2 - (منها): بيان فضل محبّة الحسن -رضي الله عنه-. 3 - (ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من التواضع والشفقة بالصغار. 4 - (ومنها): جواز معانقة الصغار، قال القرطبيّ رحمه الله: ولا خلاف -فيما أحسب- في جوازه، كما فعل النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وإنّما اختُلف في عِنَاق الكبير في حالة السّلام، وكرهه مالك، وأجازه سفيان بن عُيينة وغيره، واحتجّ سفيان على مالك في ذلك بعِنَاق النبيّ -صلى الله عليه وسلم- جعفرًا لمّا قَدِم عليه، فقال مالك: ذلك مخصوصٌ بجعفر، فقال سفيان: ما يخُصّ جعفرًا يعُمّنا، فسكت مالك، ويدلُّ سكوت مالك على أنه ظهر له ما قاله سفيان من جواز ذلك، قال القاضي عياض: وهو الحقّ حتّى يدلُّ دليل على تخصيص جعفر بذلك. انتهى، وهو تحقيق حسنٌ جدًّا. والله تعالى أعلم. 5 - (ومنها): جواز حمل الصبيان، وترك التعمّق في التحفّظ ممّا يكون منهم من المخاط، والبول، وغير ذلك، فلا يُجتنب إِلَّا ما ظهرت عينه، أو تحقّق، أو تفاحش، وكان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يعملون على مقتضى الحنيفيّة السمحة، فيمشون حُفاةً في الطين، ويجلسون على الأرض، وتكون عليهم الثِّياب الوسِخَة الّتي ليست بنجسة، ويلعقون أصابعهم، والقصعَةَ، ولا يَعِيبون شيئًا من ذلك، وكلّ ذلك فيه ردّ على غلاة العباد الموسوسين الذين يحافظون على نظافة ظاهرهم، وبواطنهم وسِخَة بمخالفة ¬

_ (¬1) المراد الفوائد الّتي اشتمل عليها الحديث بطوله، كما أوردته من رواية الشيخين، لا خصوص سياق المصنّف، فتنبّه.

السنة، والتلبّس بأنواع البدع والخرافات {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]، اللَّهُمَّ أرنا الحقّ حقّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 143 - (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَكيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي عَوْفٍ أَبِي الجحَّافِ، وَكانَ مَرْضِيًّا، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَحَبَّ الحسَنَ وَالْحُسَيْنَ، فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (داود بن أبي عَوْف أبو الجحاف) -بفتح الجيم، وتشديد الحاء المهملة- واسم أبي عوف سُويد التميميّ الْبُرْجُميّ -بضم الموحّدة، والجيم- مولاهم، مشهور بكنيته، صدوقٌ شيعيّ ربّما أخطأ [6]. رَوَى عن إبراهيم بن عبد الرّحمن بن صُبَيح مولى أم سلمة، وجُمَيع بن عُمير، وأبي حازم سلمان الأشجعي، وعكرمة، وقيس الخارفي، وغيرهم. وروى عنه السفيانان، وشريك، وإسرائيل، وعبد السّلام بن حرب، وجماعة. قال عبد الله بن داود: كان سفيان يوثقه ويعظمه. وقال وكيع عن سفيان عن أبي الجحاف: وكان مرضيًّا. وقال ابن عيينة: كان من الشيعة. وقال أحمد وابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم صالح الحديث. وقال النَّسائيُّ: ليس به بأس. وقال ابن عديّ: له أحاديث، وهو من غالية التشيع، وعامة حديثه في أهل البيت، وهو عندي ليس بالقوي، ولا ممّن يُحتجّ به. وقال العقيليّ: كان من غُلاة الشيعة. وقال الأزدي: زائغ ضعيف. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: يخطىء. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: يتبيّن ممّا سبق من الأقوال أن أبا الجحّاف صدوقٌ حسن الحديث، والله تعالى أعلم.

تفرّد به الترمذيّ، والنَّسائيّ، والمصنّف، وله عندهم هذا الحديث فقط. 2 - (أبو حازم) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ، ثقة [3]. رَوَى عن مولاته عَزَّة الأشجعية، وابن عمر، وأبي هريرة، والحسن، والحسين، وابن الزبير، وغيرهم. وروى عنه الأعمش، ومنصور، وأبو مالك الأشجعي، وعدي بن ثابت، وفضيل بن غَزْوان وميسرة الأشجعي، ومحمد بن جُحَادة، ومحمد بن عجلان، وغيرهم. قال أحمد، وابن معين، وأبو داود: ثقة. وقال بعض النَّاس: مات في خلافة عمر ابن عبد العزيز. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث صالحة. وقال العجلي: ثقة. وقال ابن عبد البرّ: أجمعوا على أنه ثقة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (19) حديثًا. 3 - (أبو هريرة) الصحابيّ الشهير -رضي الله عنه- 1/ 1، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي عَوْفٍ أَبِي الجُحَّافِ) بالجرّ بدل من "داود" (وَكَانَ مَرْضِيًّا) هذا من كلام وكيع، كما هو ظاهر سياق "التهذيب" فيما سبق في ترجمته آنفًا (عَنْ أَبِي حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَحَبَّ الحسَنَ وَالحُسَيْنَ، فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي") فيه بيانَ أن حبهما فرض لا يتمّ الإيمان إِلَّا به كما أن محبته كذلك، وبالعكس بغضهما، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا حسن؛ من أجل الاختلاف في أبي الجحّاف، فهو وإن تكلموا فيه، إِلَّا أنه لا ينزل حديثه عن درجة الحسن، كما يتبيّن ذلك من أقوال العلماء

فيه، كما أسلفناه في ترجمته. فقول البوصيريّ: هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات محلّ نظر؛ لما عرفت من الكلام فيه، قال: وأخرجه النَّسائيّ في "المناقب" عن عمرو بن منصور، عن أبي نُعيم، عن سفيان به. انتهى. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (22/ 143) فقط، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (7876) و (النَّسائيّ) في "الفضائل" (8112)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المُتّصل إلي الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 144 - (حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ كَاسِبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيىَ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ الله ابْنِ عُثْمانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ، أَنَّ يَعْلَى بْنَ مُرَّةَ حَدَّثَهُمْ، أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى طَعَامٍ دُعُوا لَهُ، فَإِذَا حُسَيْنٌ يَلْعَبُ في السِّكَّةِ، قَالَ: فَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَمَامَ الْقَوْمِ، وَبَسَطَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ الْغُلَامُ يَفِرُّ هَا هُنَا وَهَا هُنَا، وَيُضَاحِكُهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى أَخَذَهُ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ تَحْتَ ذَقَنِهِ، وَالْأُخْرَى في فَأْسِ رَأْسِهِ فَقَبَّلَهُ، وَقَالَ: "حُسَيْنٌ مِنِّي، وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ، أَحَبَّ الله مَنْ أَحَبَّ حُسَيْنًا، حُسَيْنٌ سِبْطٌ مِنَ الْأَسْبَاطِ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ كَاسِبٍ) المدنيّ، نزيل مكّة، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [10]، 1/ 9. 2 - (يَحْيىَ بْنُ سُلَيْمٍ) الطائفيّ، نزيل مكّة، ابن محمّد، ويقال: أبو زكريا الحَذّاء الخَزّاز، صدوقٌ، سيّء الحفظ [9]. رَوَى عن عبيد الله بن عمر العمري، وموسى بن عقبة، وداود بن أبي هند، وابن جريج، وإسماعيل بن أمية، وعبد الله بن عثمان بن خُثَيم، وغيرهم. وروى عنه وكيع، وهو من أقرانه، والشّافعيّ، وابن المبارك، ومات قبله، وأبو

بكر بن أبي شيبة، وبشر بن عُبيس، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم. قال الميموني عن أحمد بن حنبل: سمعت منه حديثًا واحدًا. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: يحيى بن سليم كذا وكذا، والله إن حديثه -يعني فيه شيء- وكأنه لم يحمده، وقال في موضع آخر: كان قد أتقن حديث ابن خُثَيم، فقلنا له: أعطنا كتابك، فقال: أعطوني رَهْنًا. وقال الدُّوري عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: شيخ صالح محله الصدق، ولم يكن بالحافظ، يُكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال النَّسائيُّ: ليس به بأس، وهو منكر الحديث عن عبيد الله بن عمر. وقال الدُّولابي: ليس بالقوي. وقال الشّافعيّ: فاضل كُنّا نَعُدّه من الأبدال. وقال العجلي: ثقة. وقال يعقوب بن سفيان: سُنيّ رجل صالح، وكتابه لا بأس به، وإذا حدث من كتابه فحديثه حسن، وإذا حدث حفظًا فيُعرِف ويُنكِر. وقال النَّسائيُّ في "الكنى": ليس بالقوي. وقال العقيليّ: قال أحمد بن حنبل: أتيته فكتبت عنه شيئًا، فرأيته يَخلِط في الأحاديث فتركته، وفيه شيء. قال أبو جعفر: ولَيَّنَ أمره. وقال الساجي: صدوق يَهِمُ في الحديث، وأخطأ في أحاديث رواها عن عبيد الله بن عمر لم يحمده أحمد. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالحافظ عندهم. وقال الدارقطني: سيء الحفظ. وقال البخاريّ في "تاريخه" في ترجمة عبد الرّحمن بن نافع: ما حَدّث الحميدي عن يحيى بن سُليم فهو صحيح. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: يخطئ، مات سنة ثلاث أو أربع وتسعين ومائة. وقال البخاريّ عن أحمد بن محمّد بن القاسم ابن أبي بَزّة: مات سنة خمس وتسعين، وهو مكي كان يختلف إلى الطائف، فنسب إليه. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا. 3 - (عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم) -بالخاء المعجمة، والثاء المثلّثة، مصغّرًا- القارىء المكيّ، أبو عثمان، حَلِيف بني زُهرة، صدوقٌ [5]. رَوَى عن أبي الطفيل، وصفية بنت شيبة، وقَيلة أم بني أنمار، ولها صحبة،

وعطاء، وسعيد بن جُبير، وأبي الزبير، وغيرهم. ورَوى عنه السفيانان، وابن جريج، ومعمر، وحماد بن سلمة، وحفص بن غياث، وفُضيل بن سليمان، ووهيب، ويحيى بن سليم، وغيرهم. قال ابن أبي مريم عن ابن معين: ثقة حجة. وقال العجلي: ثقة. وقال أبو حاتم: ما به بأس، صالح الحديث. وقال النَّسائيُّ: ثقة، وقال مرّة: ليس بالقوي. وقال عبد الله ابن الدَّوْرقي عن ابن معين: أحاديثه ليست بالقوية، نقله ابنُ عدي، وقال: وهو عزيز الحديث، وأحاديثه أحاديث حسان. وقال ابن سعد: تُوُفّي في آخر خلافة أبي العباس، أو أول خلافة أبي جعفر، وكان ثقة، وله أحاديث حسنة. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، قال: وكان يخطىء. قال عمرو بن علي: مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة. أخرج له البخاريّ في التعاليق، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب (19) حديثًا. 4 - (سعيد بن أبي راشد) ويقال: ابن راشد، مقبول [3]. رَوَى عن يعلى بن مُرّة الثقفي، وعن التَّنُوخيُّ النصراني رسولِ قيصر، ويقال: رسول هِرَقْل، وعنه عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، ذكره ابن حبّان في "الثِّقات". تفرّد به التّرمذيّ، وله عنده هذا الحديث فقط، والمصنّف، وله عنده حديثان فقط، هذا (144) و (3666) حديث: "الولد مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَة". 5 - (يعلى بن مُرّة) بن وهب بن جابر بن عَتّاب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف الثقفيّ، أبو مُرَازِم -بضم أوله (¬1)، وتخفيف الراء، وكسر الزاي- وأمه سِيَابة -بكسر المهملة، وتخفيف التحتلانيّة، ثمّ موحّدة-. قال يحيى بن معي: شَهِد خيبر، وبيعة الشجرة، والفتح، وهوازن، والطائف. قال ¬

_ (¬1) هكذا ضبطه في "التقريب"، وضبطه في "الإصابة" بفتح الميم والراء، وكسر الزاي المنقوطة بعد الألف.

أبو عمر: كان من أفاضل الصّحابة، رَوَى عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- أحاديث، وعن علي، ورَوَى عنه ابناه: عبد الله وعثمان، وروى عنه أيضًا راشد بن سعد جَدّ سعيد بن راشد، وعبد الله ابن حفص بن نَهِيك وآخرون. قال ابن سعد: أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يَقْطَعَ أعناب ثقيف فقطعها. أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو داود في "القدر"، والترمذيّ، والنَّسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط برقم (144) و (333) و (339) و (3666). والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ، أَنَّ يَعْلَى بْنَ مُرَّةَ) -رضي الله عنه- حَدَّثَهُمْ) أي حدّث سعيدًا ومن معه (أَنَّهُمْ) أي أن يعلى ومن معه من الصّحابة (خَرَجُوا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى طَعَامٍ دُعُوا لَهُ) ببناء الفعل للمفعول (فَإِذَا حُسَيْنٌ يَلْعَبُ) أي ابن عليّ سبط رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فـ "إذا" هي الفُجائيّة، و"حسين" مبتدأ خبره جملة "يلعب"، وقوله: (في السِّكَّةِ) متعقق به، و"السّكّة" بكسر السين المهملة، وتشديد الكاف: تطلق على الزُّقاق لاصطفاف الدور فيها، وعلى الطريق المصطفّة من النخل (¬1) (قَالَ) يعلى (فَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَمَامَ الْقَوْمِ) بفتح الهمزة، أي قُدّامهم (وَبَسَطَ يَدَيْهِ) قال السنديّ: كأنه يريد أن يأخذه بينهما (فَجَعَلَ الْغُلَامُ يَفِرُّ) بكسر الفاء من باب ضرب، أي شرع حسين -صلى الله عليه وسلم- يهرب كعادة الصغار إذا أراد أحدٌ أن يأخذهم (هَا هُنَا وَهَا هُنَا) أي من ناحية اليمين والشمال، ونحوهما (وَيُضَاحِكُهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-) أي مُداعبة له (حَتَى أَخَذَهُ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ تَحْتَ ذَقَنِهِ) بفتحتين هو من الإنسان مجُتمع لَحْييه، وجمع القلّة أَذْقان، مثلُ سَبَب وأسباب، وجمعُ الكثرة ذُقُون، مثلُ أَسَد وأُسُود (¬2). (وَالْأُخْرَى في فَأْسِ رَأْسِهِ) بالهمزة، هو طرف مؤخّره المشرف على القفا، ¬

_ (¬1) راجع "المجمع" 13/ 92 و"المصباح المنير" 1/ 282. (¬2) "المصباح المنير" 1/ 208.

وجمعه أفؤس، وفؤوس (¬1). (فَقَبَّلَهُ، وَقَالَ) - صلّى الله عليه وسلم - (حُسَيْنٌ مِنِّي، وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ) قال الطيبيّ: كأنه - صلّى الله عليه وسلم - علم بنور الوحي ما سيحدث بينه وبين القوم، فخصه بالذكر وبين أنهما كالشيء الواحد في وجوب المحبّة، وحرمة التعرّض والمحاربة، وأكّد ذلك بقوله: (أَحَبَّ اللهُ مَنْ أَحَبَّ حُسَيْنًا) فإن محبته -رضي الله عنه- محبة الرسول - صلّى الله عليه وسلم -، ومحبة الرسول محبة الله -عَزَّ وَجَلَّ-. انتهى (¬2) (حُسَيْنٌ سِبْطٌ مِنَ الْأَسْبَاطِ) "السِّبْط" بكسر، فسكون، جمعه أَسباط، مثلُ حِمْلٍ وأحمال، ولد الولد، والمعنى هنا: أنه أمّة من الأمم (¬3). وقال السنديّ: "السبط": ولد الولد، خرج تأكيدا للاتّحاد والبعضيّة، وتقريرًا لها، ويحتمل أن يكون فائدة الإخبار بيان أنه حقيق بذلك، وأهلٌ له، وليس من الأولاد الذين يُنفى نسبهم عن الآباء، كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} الآية [هود:46]، وقيل: يُطلق السبط على القبيلة، وهو المراد هاهنا، والمقصود الإخبار ببقائه، وكثرة أولاده، وقيل: المراد أنه أمّة من الأمم في الخير، على حدّ قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} الآية [النحل: 120]. انتهى (¬4). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: حديث يعلى بن مرّة - رضي الله عنه - هذا حسنٌ (¬5). [فإن قلت]: كيف يُحَسّن وفي إسناده سعيد بن بن أبي راشد، وهو مجهول، كما سبق في ترجمته؟. ¬

_ (¬1) "مجمع البحار" 4/ 86 - 87. (¬2) "الكاشف" 12/ 3914. (¬3) راجع "القاموس المحيط" ص 602. (¬4) "شرح السنديّ" 1/ 97. (¬5) حسن الحديث الشّيخ الألباني رحمه اللَة في "صحيح ابن ماجه" رقم (118) وفي "الصحيحة" رقم (1227).

[قلت]: لم ينفرد به سعيد بن أبي راشد، بل تابعه راشد بن سعد، فقد أخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد" (364) قال: حَدَّثَنَا عبد الله بن صالح، حَدَّثَنَا معاوية بن صالح، عن راشد بن سعد، عن يعلى بن مرّة به، وهكذا رواه في "التاريخ" أيضًا، وساق عقبه رواية ابن خثيم عن سعيد بن أبي راشد المتقدّمة، وقال: والأول أصحّ". انتهى. فهذا الإسناد جيّد، ورجاله ثقات، وفي عبد الله بن صالح، وهو كاتب الليث كلام لا يضرّ في المتابعة، والشواهد، وقد حسّن الحديث الترمذيّ، وصحّح الإسناد الحاكم، ولم يتعقّبه الذهبيّ، ولكن في تصحيحه نظر؛ لأن سعيد بن أبي راشد لم يرو عنه غير ابن خثيم، ولم يوثقه غير ابن حبّان، ولذا قال في "التقريب": مقبول، أي عند المتابعة. وكذا قول البوصيري: هذا إسناد حسن، رجاله ثقات محلّ نظر؛ لما ذكرناه. وخلاصة القول أن الحديث حسن؛ لمتابعة راشد بن سعد لسعيد بن أبي راشد، فقول الدكتور بشّار بعد إيراده رواية راشد هذه: ولولا أن هذا السند ضعيف من أجل ضعف عبد الله بن صالح لصار راشد بن سعد، وهو ثقة متابعًا لسعيد بن أبي راشد محلّ نظر أيضًا؛ لأن عبد الله بن صالح ليس مجمعا على ضعفه، كما يوهمه كلامه، بل وثّقه ابن معين، وقال أبو زرعة: حسن الحديث، وقوّاه غيرهما، والحقّ فيه ما قال الحافظ ابن القطان الفاسيّ: هو صدوقٌ، ولم يثبُت عليه ما يُسْقَطُ به حديثُهُ، إِلَّا أنه مختلف فيه، فحديثه حسن. انتهى (¬1). والحاصل أن الحديث لا يَنْزِل عن درجة الحسن، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم. [تنبيه]: قال البوصيريّ في "مصباح الزجاجة": بعد أن ذكر إخراج أحمد والترمذيّ له: ما نصّه: ورواه الحاكم في "المستدرك" من طريق المنهال بن عمرو، عن ¬

_ (¬1) راجع ترجمته في "تهذيب التهذيب" 2/ 354 - 357.

يعلى بن مرّة، عن أبيه، قال شيخنا أبو الفضل العسقلانيّ -يعني الحافظ ابن حجر- في "الأطراف" -يعني النكت الظراف-: كذا فيه، وأظنه عن ابن يعلى ابن مرّة عن أبيه، ويكون من مسند يعلى، قال: ولست أعرف لمرّة صحبة، ولا أدرك المنهال يعلى، انتهى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الكلام لا يوجد في "النكت الظراف" الّتي بأيدينا، فالله تعالى أعلم أين ذكره الحافظ؟. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنِّف) هنا (22/ 144) فقط، وأخرجه (الترمذيّ) في "المناقب" (3775) و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" (22/ 101 و 103) و (أحمد) في "مسنده" (3/ 177 و 4/ 172) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (6971). [تنبيه]: يوجد في النسخ المطبوعة بعد هذا الحديث: ما نصّه: (حَدَّثَنَا عِليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَكيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ مِثْلَهُ) ولا يوجد في النسخة الهنديّة، ولم يذكره الحافظ المزيّ في "تحفة الأشراف"، ولا الحافظ البوصيريّ في "مصباح الزجاجة"، ولا علاقة له أيضًا بهذا الحديث، فلا ينبغي إثباته هنا، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 145 - (حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ عَليٍّ الخلَّالُ، وَعَليُّ بْنُ الْمُنْذِرِ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ صُبَيْح مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- لَعَليٍّ وَفَاطِمَةَ وَالحَسَنِ وَالحُسَيْنِ: "أَنَا سِلْمٌ لمَنْ سَالَمْتُمْ، وَحَرْبٌ لمِنْ حَارَبْتُمْ"). رجال هذا الإسناد: سبعة: 1 - (الحسن بن عليّ الخلال) الحُلْوانيّ، نزيل مكّة، ثقة حافظ [10] 1/ 138. 2 - (عليّ بن المُنذر) الطَّرِيقيّ الكوفيّ، صدوقٌ يتشيّع [10] 2/ 21. 3 - (أبو غسّان) مالك بن إسماعيل النَّهْديّ الكوفيّ، ثقة متقنٌ عابدٌ، صحيح

الكتاب، من صغار [9] 10/ 84. 4 - (أسباط بن نصر) الْهَمْدانيّ، أبو يوسف، ويقال: أبو نصر الكوفيّ، صدوق، كثير الخطإ يُغْرب [8]. رَوَى عن سماك بن حرب، وإسماعيل السُّدِّيّ، ومنصور، وغيرهم. ورَوَى عنه أحمد بن المفضل الحَفَري الكُوفيُّ، وعمرو بن حماد القَنّاد، وأبو غسان النَّهْدي، ويونس بن بكير، وعبد الله بن صالح العجلي، وغيرهم. قال حرب: قلت لأحمد: كيف حديثه؟ قال: ما أدري، وكأنه ضعّفه. وقال أبو حاتم: سمعت أبا نُعيم يُضَعِّفه، وقال: أحاديثه عامّتُهُ سَقَطٌ، مقلوب الأسانيد. وقال النَّسائيُّ: ليس بالقوي. وقال البخاريّ في "تاريخه الأوسط": صدوق. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". وأنكر أبو زرعة على مسلم إخراجه في "صحيحه" لحديث أسباط هذا. وقال: الساجي في "الضعفاء": رَوَى أحاديث لا يُتابَعُ عليها عن سماك بن حرب. وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال مرّة: ثقة. وقال موسى بن هارون: لم يكن به بأس. روى له البخاريّ في التعاليق، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذه (145) و (1822) و (4127). 5 - (السّدّيّ) -بضم السين، وتشديد الدال المهملتين- هو: إسماعيل بن عبد الرّحمن بن أبي كَرِيمة، أبو محمّد الكوفيّ الأعور، وهو السُّدّيّ الكبير، كان يقعد في سُدّة باب الجامع، فسُمِّى السُّدّيّ، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالتشيّع [4]. رَوَى عن أنس، وابن عبّاس، ورأى ابن عمر، والحسن بن علي، وأبا هريرة، وأبا سعيد، ورَوَى عن أبيه، ويحيى بن عباد، وأبي صالح مولى أم هاني، وغيرهم. وروى عنه شعبة، والثوري، والحسن بن صالح، وزائدة، وأبو عوانة، وأبو بكر ابن عياش، وغيرهم. قال سَلْمُ بن عبد الرّحمن: مَرّ إبراهيمُ النخعي بالسدي، وهو يفسر لهم القرآن، فقال: أَمَا إنّه يفسر تفسير القوم. وقال عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت: سمعت الشّعبيّ،

وقيل له: إن السَّدِّيِّ قد أُعطِيَ حظّا من علم القرآن، فقال: قد أُعْطِي حظا من جَهْلٍ بالقرآن. وقال علي عن القطان: لا بأس به، ما سمعت أحدًا يذكره إِلَّا بخير، وما تركه أحد. وقال أبو طالب عن أحمد: ثقة. وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي قال: قال يحيى ابن معين يومًا عند عبد الرّحمن بن مهدي، وذَكَر إبراهيم بن مهاجر، والسُّدّيّ، فقال يحيى: ضعيفان، فغضب عبد الرّحمن، وكره ما قال. قال عبد الله: سألت يحيى عنهما، فقال: متقاربان في الضعف. وقال الدُّوري عن يحيى: في حديثه ضعف. وقال الجوزجاني: هو كذّاب شَتّام. وقال أبو زرعة: لين. وقال أبو حاتم: يُكتَب حديثه ولا يُحتَجّ به. وقال النَّسائيُّ في "الكنى": صالح. وقال في موضع آخر: ليس به بأس. وقال ابن عدي: له أحاديث يرويها عن عدة شيوخ، وهو عندي مستقيم الحديث، صدوقٌ، لا بأس به. وقال حسين بن واقد: سمعت من السُّدّيّ، فما قمت حتّى سمعته يتناول أبا بكر وعمر، فلم أَعُد إليه. وقال العجلي: ثقة، عالم بالتفسير، راوِيَةٌ له. وقال العقيليّ: ضعيف، وكان يتناول الشيخين. وقال الساجي: صدوق فيه نظر. وقال الحاكم في "المدخل" في "باب الرواة الذين عِيب على مسلم إخراج حديثهم": تعديلُ عبد الرّحمن ابن مهدي أقوى عند مسلم ممّن جرحه بجرح غير مُفَسَّر. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". وقال الطّبريّ: لا يُحتَجّ بحديثه. وقال أبو جعفر بن الأخرم: لا يُنكَر له ابنُ عبّاس، قد رأى سَعْدَ بن أبي وقّاص. وقال خليفة: مات سنة (127). أخرج له مسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (145) و (1822) و (4127). 6 - (صُبيح) -مصغّرًا -مولى أم سلمة زوج النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ويقال: مولى زيد بن أرقم، مقبول [6]. روى عن زيد بن أرقم، وأم سلمة، ورَوَى عنه ابنُ ابنِهِ إبراهيم بن عبد الرّحمن بن صُبيح، وإسماعيل بن عبد الرّحمن السُّدّيّ، قال البخاريّ: لم يَذكُر سماعًا من زيد.

وذكره ابنُ حبّان في "الثِّقات". أخرج له أبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 7 - (زيد بن أرقم) بن زيد بن قيس الأنصاريّ الخزرجي الصحابيّ المشهور، أول مشاهده الخندق، وأنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- تصديقه في "سورة المنافقون"، مات سنة ست، أو ثمان وستين، وتقدّمت ترجمته في 3/ 25. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- لَعَليٍّ وَفَاطِمَةَ وَالحسَنِ وَالحُسَيْنِ) أي قال في حقّهم، أو لأجلهم (أَنَا سِلْمٌ) بكسر السين المهملة، وفتحها، وسكون اللام: أي صُلْح، بمعنى مسالمٌ، ومصالح، من إطلاق المصدر، وإرادة اسم الفاعل، ويأتي مثله في "حرب" (لمِنْ سَالمتُمْ) أي صالحتموه (وَحَرْبٌ) بفتح، فسكون، أي محارب (لمِنْ حَارَبْتُمْ) أي حاربتموه، جعل -صلى الله عليه وسلم- نفسه نفس الصلح والحرب مبالغةً، كما يقال: زيد عدل، أي عادل (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث زيد بن أرقم هذا ضعيف؛ لأن في سنده صُبيحًا مولى أم سلمة مجهول الحال، وأسباط بن نصر صدوقٌ كثير الخطإ يُغرب. وقال الحافظ المزيّ رحمه الله في "تحفة الأشراف": رواه الحسين بن الحسن الْعُرَنيّ، عن عليّ بن هاشم بن الْبَرِيد، عن أبي الجَحّاف، عن مسلم بن صَبِيح، عن زيد بن أرقم. انتهى. والحسين بن الحسن العرنيّ ضعيف من الشيعة الشتّامين، والأكثرون على ¬

_ (¬1) راجع "الكاشف عن حقائق السنن" 12/ 3910.

تضعيفه، بل منهم من كذّبه، وعليّ بن هاشم بن البريد شيعيّ معروف، وكذلك أبوه. وفي الباب عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عند أحمد في "المسند" 2/ 442 و"الفضائل" (1350) و (الطبرانيّ) (2621) والحاكم في "المستدرك" 3/ 149 من رواية تَلِيد بن سليمان، عن أبي الجحّاف، عن أبي حازم، عنه، وتَلِيد رافضيّ ضعيف، وكانوا يسمّونه بَلِيدًا بالموحّدة، قال ابن معين: كذاب يشتم عثمان، وكل من شتم عثمان، أو طلحة، أو أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دجّال لا يُكتب عنه، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وقال أبو داود: رافضيّ رجل سوء، يشتم أبا بكر وعمر، وكذلك قال يعقوب ابن سفيان، وكذبه أحمد. ومع هذا كله فقد قال الحاكم عن هذا الحديث: حديث حسن، وقال الهيثميّ في "مجمع الزوائد" 9/ 169: فيه تليد بن سليمان، وفيه خلاف، وبقية رجاله رجال الصّحيح، وهذا من العجائب. والحاصل أن الحديث واه بمرّة، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (22/ 145) وأخرجه (الترمذيّ) في "المناقب" (3870) و (ابن أبي شيبة) في "مصنفه" 12/ 97 و (الطبرانيّ) (2619) و (2620) و (5030) و (5031) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (5031) و (الحاكم) في "مستدركه" 3/ 149، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

23 - فضل عمار بن ياسر - رضي الله عنه -

23 - (فضْلُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرِ -رضي الله عنه-) هو: عمّار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحصين بن الوَذِيم بن ثعلبة بن عوف بن حارثة بن عامر بن بام بن عَنْس -بنون ساكنة- ابن مالك العنسي، أبو اليَقْظَان، حليف بني مخزوم، وأمه سُمَيّة مولاة لهم، كان من السابقين الأولين هو وأبوه، وكانوا ممّن يُعَذَّب في الله، فكان النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - يَمُرّ عليهم، فيقول: "صبرا آل ياسر موعدكم الجنَّة"، واختُلف في هجرته إلى الحبشة، وهاجر إلى المدينة، وشهد المشاهد كلها، ثمّ شهد اليمامة، فقطعت أذنه بها، ثمّ استَعمَله عمر -رضي الله عنه- علي الكوفة، وكَتَبَ إليهم أنه من النجباء، من أصحاب محمّد - صلّى الله عليه وسلم -. وتواترت الأحاديث عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أن عمارا تقتله الفئة الباغية، وأجمعوا على أنه قُتل مع علي -رضي الله عنه- بصِفِّين سنة سبع وثمانين في ربيع، وله ثلاث وتسعون سنة، واتفقوا على أنه نزل فيه قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] (¬1)، وروى عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- (62) حديثًا، اتفق الشيخان على حديثين، وانفرد البخاريّ بثلاثة، ومسلم بحديث، وله عند المصنّف في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط، برقم 294 و 429 و 565 و 566 و 569 و 571 و 916 و 1645، والله تعالى أعلم بالصواب. وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 146 - (حَدَّثَنَا عُثْمانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ هَانِئِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ عِليِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: كنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَاسْتَأْذَنَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "ائْذَنُوا لَهُ، مَرْحَبًا بِالطَّيِّبِ المطيَّبِ"). رجال هذا الإسناد: سبعة: 1 - (عثمان بن أبي شيبة) العبسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقة حافظ شهير [10] 5/ 40. ¬

_ (¬1) راجع "الإصابة" 4/ 473 - 474.

2 - (أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعيّ الكوفيّ، ثقة عابد يدلس، واختلط بآخره [3] 7/ 45. 3 - (هانيء بن هانيء) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، مستور [3]. روى عن عليّ، وعنه أبو إسحاق السبيعيّ وحده، قال النَّسائيّ: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل الكوفة، قال: وكان يتشيّع. وقال ابن المدينيّ: مجهول. وقال حرملة عن الشّافعيّ: هانىء بن هانىء لا يُعرف، وأهل العلم بالحديث لا يَنسبُون حديثه لجهالة حاله. أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والترمذيّ، والنَّسائيّ في "الخصائص"، والمصنف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث، والذي يليه فقط. 4 - (علي) بن أبي طالب -رضي الله عنه- 2/ 20. والباقون تقدّموا في الباب الماضي. شرح الحديث: (عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) -رضي الله عنه- أنه (قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَاسْتَأْذَنَ) أي طلب الإذن في الدخول على النبيّ -صلى الله عليه وسلم- (عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ) رضي الله عنهما (فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "ائْذَنُوا لَه) بإبداء الهمزة ياء؛ لوقوعها إثر كسرة، هذا في حالة الابتداء، وأما في حالة الدرج، فيقرأ بالهمزة (مَرْحَبًا) قال في "اللسان": وقولهم في تحيّة الوارد: أهلًا ومرحبًا، أي أتيت سعةً، وأتيت أهلًا، فاستأنس، ولا تستوحش، وقال اللَّيث: قولهم: مرحبًا: انزل في الرحب والسعة، وأقم، فلك عندنا ذلك، وسُئل الخليل عن نصبه، فقال: بفعل محذوف، أي انزل، أو أقم، وقال ابن الأعرابيّ: تقول العرب: لا مرحبًا بك: أي لا رحُبت عليك بلادك، وهي من المصادر الّتي تقع في الدُّعاء للرجل وعليه، نحو سقيًا ورَعْيًا، وجَدْعًا وعَقْرًا، يريدون سقاك الله، ورعاك،، وقال الفرّاء: معناه رَحّبَ الله بك مَرْحَبًا، كأنه وُضع موضعَ الترحيب. انتهى ملخّصًا (¬1) (بِالطَيِّبِ المُطَيَّبِ) أي الطّاهر ¬

_ (¬1) "لسان العرب" 1/ 414.

المطهّر (¬1) وفيه مبالغة، كظلّ ظَلِيل (¬2). وقال السندي: قوله: "بالطيّب المطيّب" كأنه جُبل على الاستقامة والسلامة، ثمّ زاده الله تعالى ذلك بما أعطاه من علم الكتاب والسُّنَّة، فقيل: الطيّب المطيَّب. انتهى (¬3)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: حديث عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- هذا ضعيف؛ لجهالة هانيء بن هانيء؛ لأنه لم يرو عنه إِلَّا أبو إسحاق، ولعنعنة أبي إسحاق، فإنّه مدلّس. [تنبيه]: صحّح الشّيخ الألباني هذا الحديث كما في "صحيح ابن ماجه" 1/ 30 و"الصحيحة" 2/ 466 وقد عرفت ما فيه، ومن الغريب أنه أورد له في "الصحيحة" شاهدًا أخرجه أبو نعيم في "الحلية"، ثمّ قال: وإسناده ضعيف، مسلسل بالضعفاء. انتهى. فكيف يستشهد بمثل هذا؟، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 147 - (حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عِليٍّ الجهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا عَثَّامُ بْنُ عَليٍّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبي إِسْحَاقَ، عَنْ هَانِئِ بْنِ هَانئ قَالَ: دَخَلَ عَمَّارٌ عَلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالطَيِّبِ الْمُطَيَّبِ، سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مُلِئَ عَمَّارٌ إِيمَانًا إِلَى مُشَاشِهِ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (نصر بن عليّ الْجَهْضَميّ) البصريّ، ثقة ثبتٌ [10] 1/ 13. 2 - (عَثّام بن عليّ) بن هُجير -بجيم مصغّرًا- ابن بُجَير بن زُرْعة بن عَمْرو بن مالك بن خالد بن ربيعة بن الْوَحِيد، وهو عامر بن كعب بن عامر بن كِلاب العامريّ ¬

_ (¬1) "لسان العرب" 1/ 563. (¬2) "المرقاة" 10/ 606. (¬3) "شرح السنديّ" 1/ 98.

الكلابيّ، أبو عليّ الكوفيّ، ثقة (¬1)، من كبار [9]. رَوَى عن الأعمش، وهشام بن عروة، وإسماعيل بن أبي خالد، والثوري، ويونس بن أبي إسحاق، وسُعَير بن الخِمْس، وغيرهم. وروى عنه محمّد بن أبي بكر المُقَدَّميّ، ومسدد، ومحمد بن عبد الأعلى الصنعاني، وعمر بن حفص بن غياث، ونصر بن علي الجهضمي، وغيرهم. قال الآجري عن أبي داود: سمعت أحمد يقول: عَثّام رجل صالح، قال: وسألت أبا داود عنه، فجعل يُثْنِي عليه، ويقول قولًا جميلًا. وقال النَّسائيُّ: ليس به بأس. وقال أبو زرعة: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق، وهو أحمب إلي من يحيى بن عيسى الرَّمليّ. وقال ابن سعد: كان ثقة. وقال الحاكم عن الدارقطني: ثقة. وذكره ابن شاهين في "الثِّقات". وقال: قال عثمان بن أبي شيبة: كان صدوقًا. وذكر له البزار حديثًا، تفرد به، وقال: وهو ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". قال ابن نُمير، والترمذيّ: مات سنة (4)، وقال ابن سعد، وأبو داود: مات سنة خمس وتسعين. أخرج له البخاريّ، والأربعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (147) و (288) و (1321)، والباقون تقدّموا في السند الماضي، وتقدّم الأعمش قبل باب، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ هَانِئِ بْنِ هَانِيءٍ) أنه (قَالَ: دَخَلَ عَمَّارٌ) بن ياسر رضي الله عنهما (عَلَى عَليٍّ) ابن أبي طالب -رضي الله عنه- (فَقَالَ) أي عليّ -رضي الله عنه- (مَرْحَبًا بِالطَّيِّبِ المطيَّبِ) هذا موقوف في هذه الرِّواية، وقد سبق مرفوعًا في الرِّواية الماضية، لكنه ضعيف، فالصحيح وقفه (سَمِعْتُ ¬

_ (¬1) قال في "التقريب": صدوق، والحقّ ما قلته، كما يتبيّن لك من أقوال العلماء بعدُ، فتأمل. والله تعالى أعلم.

رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: مُلِئَ) بضم أوله مبنيّا للمفعول، ونائب فاعله قوله: (عَمَّارٌ) -رضي الله عنه- إِيمَانًا) منصوب على التمييز (إِلَى مُشَاشِهِ) وفي رواية أبي نُعيم في "الحلية": "من قرنه إلى قدمه". و"الْمُشَاش" -بضم الميم، وتخفيف المعجمتين: هي رؤوس العظام، كالمرفقين، والكتفين، والركبتين، وقال الجوهريّ: هي رؤوس العظام الليّنة الّتي يمكن مَضْغُها. انتهى (¬1). وقال السنديّ بعد ما ذكر نحو هذا: وعلى هذا فيمكن أن يقال: إنّه طيّب بأصل الخلقة، ومطيّب باعتبار أن الله تعالى زاد فيه ذلك بحيث ملأه منه (¬2). وقال في "إنجاح الحاجة": أي دخل الإيمان في قلبه، وتفسّح في صدره حتّى سرى إلى عروقه وعظامه في سائر الجسد، وكان -صلى الله عليه وسلم- يدعو "اللَّهُمَّ اجعل في قلبي نورًا، وفي سمعي نورًا، وفي بصري نورًا" حتّى يقول: "واجعلني نورًا"، والمراد به نور الإيمان، انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عليّ -رضي الله عنه- هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه العلّة المذكورة في الحديث السابق؟. [قلت]: إنّما صحّ لأن له شاهدًا، وهو ما أخرجه النَّسائيّ في "الفضائل" من "الكبرى" (8215) قال: أَخْبَرَنَا إسحاق بن منصور، قال: أَخْبَرَنَا عبد الرّحمن، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي عمّار، عن عمرو بن شُرَحبيل، قال: حَدَّثَنَا رجلٌ من أصحاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مُلىء عمّار بن ياسر إيمانًا إلى مشاشه" (¬3). ¬

_ (¬1) "النهاية" 5/ 161. (¬2) "شرح السنديّ" 1/ 98. (¬3) راجع "السنن الكبرى" 7/ 358 رقم الحديث (8215).

وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، رجال الشيخين، غير أبي عمّار، واسمه عَرِيب -بفتح أوله، وكسر الراء- ابن حُمَيد الهمدانيّ، وهو ثقة، وعبد الرّحمن هو ابن مهديّ. وأخرجه الحاكم في "مستدركه" 3/ 392 - 393 من طريق محمّد بن أبي يعقوب -وهو ثقة- عن عبد الرّحمن بن مهديّ بإسناد النَّسائيّ، وسمّى الصحابيّ عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-. والحاصل أن الحديث صحيح؛ لما ذكرناه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 148 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى ح وحَدَّثَنَا عِليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ الله، قَالَا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ سِيَاهٍ، عَنْ حَبيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "عمَارٌ مَا عُرِضَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ، إِلا اخْتَارَ الْأَرْشَدَ مِنْهُمَا"). رجال هذا الإسناد: تسعة: 1 - (أبو بكر بن أبي شيبة) هو: عبد الله بن محمّد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسيّ الكوفيّ، ثقة حافظ صاحب تصانيف، أكثر عنه المصنّف [10] 1/ 1. 2 - (عمرو بن عبد الله) بن حَنَش، ويقال: ابن محمّد بن حَنَش الأوديّ الكوفيّ، ثقة [10] 11/ 96 من أفراد المصنّف (¬1). 3 - (عبيد الله بن موسى) بن أبي المختار باذام العبسيّ، أبو محمّد الكوفيّ، ثقة كان يتشيع [9] 9/ 70. 4 - (عبد العزيز بن سياه) -بكسر المهملة، وتخفيف التحتانيّة- الأَسَدي الكوفيّ، ثقة (¬2) يتشيّع [7]. ¬

_ (¬1) هذا ممّا يفنّد قول من يقول: إن من انفرد بهم ابن ماجه من الرواة ضعفاء، فتنبّه. (¬2) قال في "التقريب": صدوق، والحقّ ما قلناه، كما يتبين من أقوال أهل العلم في =

وليس له في هذا الكتاب إِلَّا هذا الحديث. 5 - (حبيب بن أبي ثابت) قيس، ويقال: هند بن دينار الأسديّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، ثقة فقيه جليلٌ، كثير الإرسال والتدليس [3] 5/ 41. 6 - (عطاء بن يسار) الهلاليّ، أبو محمّد المدنيّ، مولى ميمونة، ثقة فاضل صاحب مواعظ وعبادة، من صغار [3] 9/ 60. 7 - (عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها 2/ 14، والباقيان تقدّما قبل حديث، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات من رجال الصّحيح، غير شيخيه، وهما ثقات. 3 - (ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير عطاء، وعائشة، فمدنيان. (ومنها): أن فيه (ح) وهو كناية عن تحويل الإسناد، فللمصنّف في هذا الحديث سندان، أحدهما أبو بكر بن أبي شيبة، عن عبيد الله بن موسى -والثّاني عن علي بن محمّد، وعمرو بن عبد الله جميعًا عن وكيع- وكلاهما يرويان عن عبد العزيز بن سياه ... 4 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: حبيب عن عطاء. 5 - (ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها، أنها (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: عَمَّارٌ) مبتدأ خبره جملة قوله: (مَا) نافية (عُرِضَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ) ببناء الفعل للمفعول، وفي رواية التِّرمذيِّ: ¬

_ = ترجمته من "تهذيب التهذيب".

"ما خُيّر عمّار ... " (إِلَّا اخْتَارَ) لما جُبِل عليه من الاستقامة والسداد (الْأَرْشَدَ) أي الأصلح (مِنْهُما) أي من الأمرين، وفي رواية النَّسائيّ بلفظ "أشدّهما" بالشين المعجمة، أي أصعبهما، قال القاري: فقيل: هذا بالنظر إلى نفسه، والأول بالنظر إلى غيره، فلا تنافي بين الروايتين، وفي نسخة: "أسدّهما" بالسين المهملة، أي أصوبهما، والأظهر في الجمع بين الروايات أنه كان يختار أصلحهما وأصوبهما فيما تبيّن ترجيحه، وإلا اختار أيسرهما. انتهى (¬1). وقال في "الإنجاح": وكان السلف يحبّون أن يعملوا لأنفسهم ما كان أقرب إلى الاحتياط، ويأمرون غيرهم ما كان أسهل لهم، فإنّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنّما بُعثتم ميسّرين، ولم تُبعثوا معسّرين"، انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها هذا صحيح. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (23/ 148) فقط، وأخرجه (الترمذيّ) في "المناقب" (3799) و (النَّسائيّ) في "فضائل الصّحابة" (8218) و (أحمد) في "مسنده" (24820)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل عمّار بن ياسر رضي الله عنهما. 2 - (ومنها): مشروعيّة مدح الإنسان بما فيه من المزايا الفاضلة، والخصال ¬

_ (¬1) "المرقاة" 10/ 606.

المحمودة؛ لأن فيه تشجيعًا له، وتثبيتًا، وحثًّا لغيره على الاقتداء به. 3 - (ومنها): الحث على أن الإنسان إذا خُيّر بين أمرين جائزين شرعًا يختار الأصلح له، ولغيره ممّا يعود نفعه عليه في الدنيا والآخرة. 4 - (ومنها): أنه استُدلّ بهذا الحديث على أن الرشد مع عليّ -رضي الله عنه-، في خلافته، وأن معاوية -رضي الله عنه- أخطأ اجتهاده، ولم يكن على الرشد، لأن عمّارًا -رضي الله عنه- اختار مرافقة عليّ -رضي الله عنه- وكان معه يوم صفّين حتّى استُشهد في تلك الحرب، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "ويح عمار تقتله الفئة الباغية"، متّفق عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

24 - فضل سلمان، وأبي ذر والمقداد - رضي الله عنهم -

24 - (فَضْلُ سَلْمَان، وأبي ذَرٍّ وَالْمِقْدَادِ) -رضي الله عنهم- أما سلمان -رضي الله عنه-، فهو: سلمان أبو عبد الله، ويقال له: سلمان ابن الإسلام، وسلمان الخير، وقال ابن حِبّان من زعم أن سلمان الخير آخر فقد وَهِمَ، أصله من رَامَهُرْمُز، وقيل: من أصبهان، وكان قد سمع بأن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- سيُبعَث، فخرج في طلب ذلك، فأُسِر، وبيع بالمدينة، فاشتغل بالرِّقّ حتّى كان أول مشاهده الخندق، وشهد بَقِيّة المشاهد، وفتوح العراق، وولي المدائن، وقال ابن عبد البرّ: يقال: إنّه شهد بدرًا، وكان عالمًا زاهدًا، رَوَى عنه أنس، وكعب بن عُجْرَة، وابن عبّاس، وأبو سعيد، وغيرهم من الصّحابة، ومن التابعين أبو عثمان النَّهْدي، وطارق بن شهاب، وسعيد بن وهب، وآخرون بعدهم. قيل: كان اسمه ما به -بكسر الموحدة- ابن بود، قاله ابن منده بسنده، وساق له نسبًا، وقيل: اسمه بهبود، ويقال: إنّه أدرك عيسى ابن مريم، وقيل: بل أدرك وَصِيّ عيسى عليه السلام. ورُويت قصته من طرق كثيرة، من أصحها ما أخرجه أحمد من حديثه نفسه، وأخرجها الحاكم من وجه آخر عنه أيضًا، وأخرجه الحاكم من حديث بريدة، وعلق البخاريّ طرفًا منها، وفي سياق قصته في إسلامه اختلاف يَتَعَسّر الجمع فيه، ورَوَى البخاريّ في "صحيحه" عن سلمان أنه تداوله بضعة عشر سيدًا، قال الذهبي: وجدت الأقوال في سِنِّهِ كلها دالةً على أنه جاوز المائتين وخمسين، والاختلاف إنّما هو في الزائد، قال: ثمّ رجعت عن ذلك، وظهر لي أنه ما زاد على الثمانين. قال الحافظ: لم يذكر مستنده في ذلك، وأظنه أخذه من شهود سلمان الفتوح بعد النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وتزوجه امرأة من كِندَة، وغير ذلك ممّا يدلُّ على بقاء بعض النشاط، لكن إن ثبت ما ذكروه يكون ذلك من خوارق العادات في حقه، وما المانع من ذلك، فقد رَوَى أبو الشّيخ في "طبقات الأصبهانيين" من طريق العباس بن يزيد، قال: أهلُ العلم يقولون: عاش سلمان ثلاثمائة وخمسين سنة، فأمّا مائتان وخمسون فلا يشكون فيها، قال أبو ربيعة الإيادي عن أبي بُريدة، عن أبيه، أن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله يحب من أصحابي

أربعة ... "، فذكره فيهم، وقال سلمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال: "آخى النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- بين أبي الدرداء وسلمان ... "، ونحوه في البخاريّ، من حديث أبي جُحيفة في قصته، ووقع في هذه القصة، فقال النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- لأبي الدرداء: "سلمان أفقه منك"، مات سنة ست وثلاثين في قول أبي عبيد، أو سبع في قول خليفة، وروى عبد الرزّاق، عن جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس -رضي الله عنه- دخل ابن مسعود على سلمان رضي الله عنهما، عند الموت، فهذا يدلُّ على أنه مات قبل ابن مسعود، ومات ابن مسعود قبل سنة أربع وثلاثين، فكأنه مات سنة ثلاث، أو سنة اثنتين، وكان سلمان بيته إذا خَرَجَ عطاؤه تصدّق به، ويَنسُج الْخُوصَ، ويأكل من كسب يده، روى من الأحاديث (60) حديثًا، اتفق الشيخان على ثلاثة، وانفرد البخاريّ بحديث، ومسلم بثلاثة، أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا. وأما أبو ذرّ -رضي الله عنه-، فهو: جُندب بن جُنادة على الصّحيح من الأقوال في اسمه واسم أبيه الغفاري، الزاهد المشهور، الصادق اللَّهْجَة تقدّمت ترجمته -رضي الله عنه- في 12/ 108. وأما المقداد، فهو: ابن الأسود الكِنْديّ، هو ابن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن عامر بن مَطْرُود الْبَهْرَانيّ، وقيل: الحضرميّ، قال ابن الكلبيّ: كان عمرو بن ثعلبة أصاب دمًا في قومه، فَلَحِقَ بحضرموت، فحالف كِندَة، فكان يقال له: الكنديّ، وتزوج هناك امرأة، فوَلَدت له المقداد، فلما كَبِر المقداد وقع بينه وبين أبي شمر بن حجر الكنديّ، فضرب رجله بالسيف، وهَرَبَ إلى مكّة، فحالف الأسود بن عبد يغوث الزّهريُّ، وكتب إلى أبيه، فَقَدِمَ عليه، فتبنى الأسودُ المقدادَ، فصار يقال: المقداد بن الأسود، وغَلَبت عليه، واشتَهَر بذلك، فلما نزلت: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} قيل له: المقداد بن عمرو، واشتهرت شهرته بابن الأسود، وكان المقداد يُكنى أبا الأسود، وقيل: كنيته أبو عمرو، وقيل: أبو سعيد، وأسلم قديمًا، وتزوج ضُبَاعة بنت الزُّبير بن عبد المطلب، ابنة عم النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرًا، والمشاهد بعدها، وكان فارسًا يوم بدر، حتّى إنّه لم يَثْبُت أنه كان فيها على فرس غيره، وقال زِرّ بن حُبَيش، عن

عبد الله بن مسعود: أول من أظهر إسلامه سبعة ... " فذكره فيهم، وقال مخارق بن طارق، عن ابن مسعود: شهدت مع المقداد مَشْهَدًا لأن أكون صاحبه أحب إلي ممّا عُدِل به، وذكر الْبَغَوِيّ من طريق أبي بكر بن عياش عن عاصم، عن زِرّ أول من قاتل على فرس في سبيل الله المقداد بن الأسود، وعن المدائني قال: كان المقداد طويلا آدم كثير الشعر أعين مقرونا يُصَفِّر لحيته. واتفقوا على أنه مات سنة ثلاث وثلاثين في خلافة عثمان، قيل: وهو ابن سبعين سنة. أخرج له الجماعة، وروى عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- (42) حديثًا، اتفق الشيخان على حديث، وانفرد مسلم بثلاثة أحاديث، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (505) و (2508) و (3742)، والله تعالى أعلم بالصواب. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 149 - (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى، وَسُويدُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي رَبِيعَةَ الإِيَادِيِّ، عَنِ ابْنِ بُرَيْد، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الله أَمَرَنِي بِحُبِّ أَرْبَعَةٍ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ يُحِبّهمْ"، قِيلَ: يَا رَسُولَ الله مَنْ هُمْ؟، قَالَ: "عَليٌّ مِنْهُمْ" -يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثًا- " وأَبُو ذَرٍّ، وَسَلْمَانُ، وَالمقْدَادُ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (إسماعيل بن موسى) الْفَزَاريّ، أبو محمّد، أو أبو إسحاق الكوفيّ، نَسِيب السدّيّ، أو ابن بنته، أو ابن أخته، صدوقٌ يُخطىء، ورُمي بالرفض [10] 4/ 30. 2 - (سُويد بن سعيد) الحدَثَانيّ الهرويّ الأصل، صدوق في نفسه، إِلَّا أنه عَمِي فتلقّن، من قُدماء [10] 4/ 30. 3 - (شريك) بن عبد الله النخعيّ، أبو عبد الله الكُوفيُّ القاضي، صدوقٌ يخطىء كثيرًا، وتغيّر حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، وكان عادلًا فَاضلًا عابدًا شديدًا على أهل البِدَع [8] 1/ 1.

4 - (أبو ربيعة الإياديّ) (¬1) مقبول [6]. قيل: اسمه عُمر بن ربيعة، قاله ابن منده، روى عن عبد الله بن بُريدة، والحسن البصريّ، وعنه الحسن وعليّ ابنا صالح بن حَيّ، ومالك بن مِغْوَل، وشريك بن عبد الله النخعيّ، حسّن الترمذيّ بعض أفراده. وقال: ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: منكر الحديث، ثمّ نقل عن الدارميّ أنه قال: سألت يحيى بن معين عن أبي ربيعة الّذي يروي عنه شريك، فقال: كوفيّ ثقة (¬2). تفرد به أبو داود له عنده حديث واحد فقط (¬3)، والترمذيّ له عنده ثلاثة أحاديث (¬4)، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث. 5 - (ابن بُريدة) هو: عبد الله بن بُريد بن الْحُصيب الأسلميّ، أبو سَهْل المروزيّ قاضيها، ثقة [3] 9/ 63. 6 - (أبوه) بُريدة بن الْحُصيب بن عبد الله بن الحارث بن الأعرج بن سَعْد بن رَزَاح بن عَدِيّ بن سَهْم بن مازن بن الحارث بن سَلامان بن أَفْصى الأسلميّ الصحابيّ المشهور، قال: ابن السكن: أسلم حين مَرّ به النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- مُهاجرًا بالغَمِيم، وأقام في موضعه حتّى مَضَت بدرٌ وأُحُدٌ، ثمّ قَدِمَ بعد ذلك، وقيل: أسلم بعد مُنصَرَف النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- من بدر، ¬

_ (¬1) بكسر الهمزة بوزن الإماميّ: نسبة إلى إياد بن نِزَار بن مَعَدّ بن عدنان. قاله في "لبّ اللباب" 1/ 83. (¬2) "الجرح والتعديل" 6/ التّرجمة (575). وراجع ما كتبه محقق "تهذيب الكمال" 33/ 305 تزدد علمًا. (¬3) 1837 - حَدَّثَنَا إسماعيل بن موسى الفزاري، أَخْبَرَنَا شريك، عن أبي ربيعة الإيادي، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي: "يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة". (¬4) حديث الباب، وحديث أبي داود المذكور، وحديث (3732) أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الجنَّة لتشتاق إلى ثلاثة: علي، وعمار، وسلمان"، قال هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إِلَّا من حديث الحسن بن صالح.

وسكن البصرة لما فُتحت، وفي "الصحيحين" عنه أنه غزا مع النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- ست عشرة غزوةً، وقال أبو علي الطوسيّ، أحمد بن عثمان، صاحب ابن المبارك: اسم بريدة عامر، وبُريَدة لقب، وأخبار بريدة كثيرة، ومناقبة مشهورة، وكان غَزَا خُرَاسان في زمن عثمان، ثمّ تحول إلى مَرْوَ، فسكنها إلى أن مات في خلافة يزيد بن معاوية، قال ابن سعد: مات سنة ثلاث وستين. أخرج له الجماعة، وروى من الأحاديث (164) حديثًا اتفق الشيخان على حديث، وانفرد البخاريّ بحديثين، ومسلم بأحد عشر حديثًا، وله في هذا الكتاب (31) حديثًا، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَن) عبد الله (بْنِ بُرَيْدة، عَنْ أَبِيهِ) بُريدة بن الحصيب -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الله) تبارك وتعالى (أَمَرَنِي) قال السنديّ: الظّاهر أنه أمر إيجاب، ويحتمل الندب، وعلى الوجهين فما أُمر به النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فقد أُمر به أمته، فينبغي للناس أن يُحبّوا هؤلاء الأربعة خصوصًا. انتهى (¬1) (بِحُبِّ أَرْبَعَةٍ) أي أربعة أشخاص بخصوصهم (وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ) -صلى الله عليه وسلم- (يُحِبّهمْ، قِيلَ: يَا رَسُولَ الله مَنْ هُمْ؟) أي من هؤلاء الأربعة؟ حتّى نحبّهم نحن تبعا لمحبّة الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وفي رواية الترمذيّ: "سَمّهم لنا" (قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (عَليٌّ) أي ابن أبي طالب -رضي الله عنه- (مِنْهُمْ) أي من الأربعة (يَقُولُ) أي النبيّ -صلى الله عليه وسلم- (ذَلِكَ) أي قوله: "عليّ منهم" (ثَلَاثًا) إنّما كرّره للإشعار بأنه أفضلهم، أو يُحبّه قدر ثلاثتهم. قاله القاري (وَأَبُو ذَرٍّ) الغفاريّ (وَسَلْمَانُ) الفارسيّ (وَالمقْدَادُ) بن الأسود -رضي الله عنهم-، زاد في رواية الترمذيّ: "أمرني بحبّهم، وأخبرني أنه يُحبّهم"، قال القاري رحمه الله: هذا فَذْلَكة مفيدة لتأكيد ما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 99.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأوَّلى): في درجته: حديث بُريدة -رضي الله عنه- هذا ضعيف؛ من أجل شريك القاضي، فإنّه كثير الخطإ، وتغيّر حفظه، وشيخه قاله عنه في "التقريب": مقبول، أي حيث يُتابع، وقد تفرّد به (¬1). والله تعالى أعلم. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (24/ 149) فقط، وأخرجه (الترمذيّ) (3718)، وقال: حسنٌ غريب، ولكن من أين له الحسن؟ فتنبّه، و (أحمد) في "مسنده" 5/ 351 و 356، و (أبو نعيم) في "الحلية" 1/ 172 و (الحاكم) في "مستدركه" 3/ 130، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 150 - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيىَ بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ سَبْعَةٌ: رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّارٌ، وأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَالمقْدَادُ، فَأَمَّا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فَمَنَعَهُ الله بِعَمِّهِ أَبِي طَالِب، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ الله بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الحدِيدِ، وَصَهَرُوهُمْ في الشَّمْسِ، فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا، إِلَّا بِلَالًا، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ في الله، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَخَذُوهُ فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ، فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ في شِعَابِ مَكَّةَ، وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (أحمد بن سعيد الدارميّ) هو: أحمد بن سعيد بن صخر الدارميّ، أبو جعفر ¬

_ (¬1) ووثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: منكر الحديث، كما سبق بيانه في ترجمته.

السَّرَخسيّ، ثمّ النيسابوريّ، سَرَدَ الخطيبُ نسبه إلى دارم، وقال: كان أحد المذكورين بالفقه ومعرفة الحديث والحفظ له، ثقة حافظٌ [11]. روى عن النضر بن شميل، وأبي عامر العَقَدي، وعلي بن الحسين المروزي، وعثمان بن عمرو أبي عاصم، ويحيى بن أبي بكير، وغيرهم. وروى عنه الجماعة، سوى النَّسائيُّ، والفلاس، وأبو موسى، وهما أكبر منه، ووهب بن جرير، وهو من شيوخه، وزكريا السجزي، وأبو عوانة، وابن أبي الدنيا، وإبراهيم بن أبي طالب، وعثمان بن خُرَّزاذ، وجماعة. قال أحمد: ما قَدِم إلى خراسان أفقه بَدَنًا منه، وعظّمه حجاج الشاعر. وقال يحيى ابن زكريا النيسابوري: كان ثقة جليلًا. وكتب إليه أحمد بن حنبل: لأبي جعفر أكرمه الله من أحمد بن حنبل. وقال أحمد بن محمّد بن سعيد بن عُقْدة: أَقْدَمه الطاهريّةُ هَرَاةَ، وكان أحد حفاظ الحديث المتقن الثقة العالم بالحديث وبالرواة، تولى قَضَاء سرخس، ثمّ انصرف إلى نيسابور، إلى أن مات بها سنة (253). وقال ابن حبّان: كان ثقة ثبتًا، صاحب حديث، يحفظ، مات سنة (265)، أو قبلها، أو بعدها بقليل. روى عنه الجماعة، سوى النَّسائيّ، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا. 2 - (يحيى بن أبي بُكير) واسمه نَسْر -بفتح النون، وسكون المهملة- الأسدي القيسي، أبو زكريا الكرمانيّ، كوفيّ الأصل، نزيل بغداد، ثقة [9]. رَوَى عن حريز بن عثمان، وإبراهيم بن طهمان، وإبراهيم بن نافع المكي، وإسرائيل، وزائدة، وزهير بن محمّد، وزهير بن معاوية، وشعبة، وسفيان، وأبي جعفر الرازي، وغيرهم. وروى عنه حفيده عبد الله بن محمّد بن يحيى، وعبد الله بن الحارث البغدادي، وأبو بكر بن أبي شيبة، ويعقوب بن إبراهيم الدَّوْرَقيّ، ومحمد بن أحمد بن أبي خَلَف، وأبو خيثمة، وأبو موسى، وأحمد بن سعيد الدارمي، وغيرهم. قال الأثرم عن أحمد: كان كَيّسًا. وقال حرب بن إسماعيل: سمعت أحمد يُثْنِي

عليه. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال العجلي: كوفي ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه، قال علي بن المديني: ابن أبي بكير ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: مات بعد المائتين. وقال أبو موسى: مات سنة ثمان. وقال ابن قانع: مات سنة تسع ومائتين. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا. 3 - (زائدة بن قُدامة) الثقفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقة ثبتٌ، صاحب سنّة [7]. رَوَى عن أبي إسحاق السبيعي، وعبد الملك بن عُمير، وسليمان التيمي، وإسماعيل بن أبي خالد، وإسماعيل السُّدّي، وحميد الطَّويل، وزياد بن عِلاقة، وغيرهم. وروى عنه ابن المبارك، وأبو أُسامة، وحسين بن علي الجعفي، وابن عيينة، وأبو إسحاق الفزاري، وأبو سعيد مولى بني هاشم، والطيالسيان، وغيرهم. قال عثمان بن زائدة: قَدِمت الكوفة، فقلت للثوري: ممّن أسمع؟ قال: عليك بزائدة. وقال أبو أُسامة: حَدَّثَنَا زائدة، وكان من أصدق النَّاس وأبره. وقال أبو داود الطيالسي، وسفيان بن عيينة: حَدَّثَنَا زائدة بن قدامة، وكان لا يحدث قَدَرِيًّا، ولا صاحب بدعة. وقال أحمد: المتثبتون في الحديث أربعة: سفيان، وشعبة، وزهير، وزائدة. وقال أيضًا: إذا سمعت الحديث عن زائدة وزهير فلا تبالِ أن لا تسمعه عن غيرهما، إِلَّا حديث أبي إسحاق. وقال أبو زرعة: صدوق من أهل العلم. وقال أبو حاتم: كان ثقةً، صاحبَ سنة، وهو أحب إلي من أبي عوانة، وأحفظ من شريك، وأبي بكر بن عياش. وقال العجلي: كان ثقةً، صاحب سنة. وقال أحمد بن يونس: رأيت زهير بن معاوية جاء إلى زائدة، فكلمه في رجل يحدثه، فقال: من أهل السنة هو؟ قال: ما أعرفه ببدعة، فقال: من أهل السنة هو؟ فقال زهير: متى كان النَّاس هكذا؟ فقال زائدة: متى كان النَّاس يشتمون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما؟. وقال النَّسائيُّ: ثقة. وقال أبو نعيم: كان زائدة لا يُكَلِّم أحدًا حتّى يمتحنه، فأتاه وكيع، فلم يحدثه. وقال عثمان بن سعيد: قلت

ليحيى: زهير أحب إليك من الأعمش أو زائدة؟ فقال: كلاهما ثقة. وقال الدارقطني: من الأثبات الأئمة. وقال أبو داود الطيالسي: لم يكن زائدة بالأستاذ في حديث أبي إسحاق. وقال الذهلي: ثقة حافظ. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا صاحبَ سنة. وقال ابن حبّان في "الثِّقات": كان من الحفاظ المتقنين، لا يَعُدُّ سماعًا حتّى يسمعه ثلاث مرات. وقال محمّد بن عبد الله الحضرمي: مات في أرض الروم غازيّا سنة ستين أو إحدى وستين ومائة، وكذا قال ابن سعد، وأرّخه القرّاب تبعًا لعلي بن الجعد سنة (63)، وقال ابن حبّان: مات سنة إحدى، وكذا أرّخه ابن قانع. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (16). 4 - (عاصم بن أبي النَّجُود) وهو ابن بَهْدلة، المقرىء، ثقة (¬1) له أوهام، حجة في القراءة، وحديثه في "الصحيحين" مقرون [6] 20/ 138. 5 - (زِرّ بن حُبيش) الأسديّ، أبو مريم الكوفيّ، ثقة جليل مخضرم [2] 14/ 114. 6 - (عبد الله بن مسعود) -رضي الله عنه- 2/ 19، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سُداسيات المصنّف. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصّحيح، وعاصم وإن قرنه الشيخان بغيره فإنّه ثقة. 3 - (ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير شيخه، فسرخسيّ، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: كَانَ أَوَّلَ) بالنصب خبرًا مقدّمًا لـ "كان" ¬

_ (¬1) وقال في "التقريب": صدوق، وما هنا أولى، كما يظهر من مراجعة ترجمته في "التهذيب"، فتنبّه.

(مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ سَبْعَةٌ) بالرفع على أنه اسم "كان"، وقوله: (رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-) بدل تفصيل من "سبعة" (وأَبُو بَكْرٍ) الصدّيق -رضي الله عنه- (وَعمّارٌ) بن ياسر (وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ) بضم أوله مصغّرًا، روي أما رُبطت بين بعيرين، ووُجىء قُبُلُها بحربة، وقيل لها: أسلمت من أجل الرجال، فقُتلت، وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين في الإسلام (¬1) (وَصُهَيْبٌ) ابن سنان (وَبِلَالٌ) بن رباح المؤذّن (وَالمقْدَادُ) بن عمرو -رضي الله عنهما- (فَأَمَّا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فَمَنَعَهُ الله) أي عصمه من أذاهم (بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ) أي بسبب حمايته له (وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ) -رضي الله عنه- (فَمَنَعَهُ الله بِقَوْمِهِ) بني تيم بن مُرّة (وَأَمَّا سَائِرُهُمْ) أي بقيّتهم، قال ابن الأثير: السائر مهموز: الباقي، والناس يستعملونه في معنى الجميع، وليس بصحيح، وقد تكرّرت هذه اللفظة في الحديث، وكلها بمعنى باقي الشيء. انتهى (¬2). وقال المجد في "القاموس": "والسائر الباقي، لا الجميع كما توهّمه جماعات (¬3)، أو قد يستعمل له. انتهى. قال الشارح: ما معناه: أشار بهذا الكلام إلى أن في "السائر" قولين: الأوّل وهو قول الجمهور من أئمة اللُّغة، وأرباب الاشتقاق أنه بمعنى الباقي، ولا نزاع بينهم، واشتقاقه من السؤر، وهو البقيّة. والثّاني بمعنى الجميع، وقد أثبته جماعة، وصوّبوه، وإليه ذهب الجوهريّ، والجواليقيّ، وحقّقه ابن بَرّيّ في "حواشي الدّرّة"، وأنشد عليه شواهد كثيرة، وأدلّة ظاهرة، وانتصر لهم الشّيخ النوويّ في مواضع من مصنّفاته، وسبقهم إمام العربيّة، أبو عليّ الفارسيّ، ونقله بعضٌ عن تلميذه ابن جني، واختلفوا في الاشتقاق، فقيل: من السير، وهو مذهب الجوهريّ والفارسيّ، ومن وافقهما، أو من السور المحيط بالبلد، كما ¬

_ (¬1) "تفسير القرطبي" 10/ 180. (¬2) "النهاية" 2/ 327. (¬3) أي اعتمادًا على قول الحريري في "دُرّة الغواص في أوهام الخَوَاصّ"، وقال في "التكملة" سائر النَّاس بقيّتهم، وليس معناه جماعتهم كما زَعَمَ من قصرت معرفته. انتهى.

قاله آخرون، والظاهر أن صاحب "القاموس" أيضًا منتصر للقول الثّاني؛ لأنه أورد له شاهدًا ومَثَلين. انتهى ملخّصًا (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بنا سبق أن "السائر" يُستعمل بمعنى الباقي، وهو قول الجمهور، وهو الأكثر استعمالًا، وبمعنى الجميع، وهو قول جماعات. والحاصل أن استعمال "السائر" بالمعنيين هو الحقّ، فتبصّر، والله تعالى أعلم. (فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ) أي لأنهم لا قرابة لهم بمكة تحميهم منهم، لأن بلالًا وصُهيبًا وعمّارًا كانوا من الموالي، والمقداد من الحلفاء؛ لأنه من كندة (وَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الحدِيدِ) بفتح الهمزة، جمع دِرْع، بكسر فسكون، كحِمل وأحماله، قال: الفيّوميّ: دِرْع الحديد مؤنّثة في الأكثر، وتُصغّر على دُرَيع بغير هاء على غير قياس، وجاز أن يكون التصغير على لغة من ذَكّر، وربّما قيل: دُرَيْعَةٌ بالهاء، وجمعها أدرُعٌ، ودُرُوعٌ، وأَدْرَاعٌ، قال ابن الأثير: وهي الزَّرَديّة، ودِرْع المرأة قميصها مذكّر. انتهى. (وَصَهَرُوهُمْ في الشَّمسِ) بفتح الصاد والهاء، من باب منع: أي ألقوهم فيها ليذوب شحمهم، والصَّهْرُ: الإذابةُ، قاله في "الدرّ النثير" عذّبوهم، وأذابوهم بها (فَمَا مِنْهُمْ مِنْ) زائدة (أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وَاتَاهُمْ) كذا في النسخ الصحيحة بالواو، من المواتاة، وهي الموافقة، قال ابن الأثير: المواتاة: حسن المطاوعة والموافقة، وأصله الهمز، فخُفّف، وكَثُر حتّى صار يقال بالواو الخالصة، وليس بالوجه. انتهى (¬2). وقال في "الصحاح": تقول: آتيته على ذلك الأمر مواتاةً: إذا وافقته وطاوعته، والعامّة تقول: واتيته. انتهى. وقال في "المصباح": آتيته على الأمر: إذا وافقته، وفي لغة لأهل اليمن تُبدل الهمزة واوًا، فيقال: واتيته على الأمر مواتاةً، وهو المشهور على ألسنة النَّاس. انتهى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن المواتاة بالواو لغة، كان كان ¬

_ (¬1) راجع "تاج العروس من جواهر القاموس" 3/ 351. (¬2) "النهاية" 1/ 102.

الأكثر في الاستعمال بالهمزة، والمعنى: أنهم وافقوهم (عَلَى مَا أَرَادُوا) أي المشركون من ترك إظهار الإسلام تقيّةً، والتقيّة في مثل هذا جائزة، لقوله -عَزَّ وَجَلَّ- {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، (إِلَّا بِلَالًا) -رضي الله عنه- (فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ في الله) أي صغُرت، وحقرت عنده لأجل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أخذًا بالعزيمة (وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ) أي فلَم يمنعوه؛ لأنه ليس من أنفسهم، وإنّما هو من الموالي (فَأَخَذُوهُ) أي أخذه مواليه من المشركين (فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ) بكسر الواو، وسكون اللام، جمع وَليد، أي الصبيان، والعبيد (فَجَعَلُوا) أي شرع الولدان (يَطُوفُونَ بِهِ في شِعَابِ مَكَّةَ) بكسر الشين المعجمة، جمع شِعْب بكسر فسكون، وهو الطريق في الجبل، أو مسيل الماء في بطن أرض، أو ما انفرج بين الجبلين، قاله في "القاموس" (وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ) جملة في محلّ نصب على الحال، أي والحال أن بلالًا يقول في حال طوافهم به: أحدٌ أحدٌ، أي ربي أحد، لا رب لي سواه، فلا أعبد ما تعبدون، ولا أوافقكم فيما طلبتموه، بل كان يقول لهم: والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها، وقال ابن إسحاق: كان أُمَيّة بن خَلَف يخرج بلالًا إذا حَمِيَت الظهيرة، فَيَطْرَحه على ظهره في بطحاء مكّة، ثمّ يأمر بالصخرة العظيمة على صدره، ثمّ يقول: لا يزال على ذلك حتّى يموت، أو يكفر بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، فيقول، وهو في ذلك: أحدٌ أحدٌ، فَمَرّ به أبو بكر -رضي الله عنه-، فاشتراه منه بعبد له أسود جَلْدٍ. انتهى، رضي الله تعالى عنه وأرضاه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- هذا صحيح. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) رحمه الله هنا (24/ 150) فقط، وهو من أفراده، فلم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" 12/ 149 و (أحمد) في "مسنده" 1/ 404 وفي "فضائل الصّحابة" (191) و (ابن حبّان) في "صحيحه"

(7083) و (الحاكم) في "مستدركه" (3/ 284) و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة" (2/ 281 - 282) وصحح الحاكم إسناده، ووافقه الذهبيّ، وهو كما قالا، وقال البوصيريّ في "مصباح الزجاجة": هذا إسناد رجاله ثقات، انتهى، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضائل الصّحابة المذكورين -رضي الله عنهم-. 2 - (ومنها): بيان فضل السابقة في إظهار شعائر الدين. 3 - (ومنها): الصبر على الأذى في سبيل الله. 4 - (ومنها): فضل الله -عَزَّ وَجَلَّ- في حفظ أوليائه بأعدائه، ونصرهم على أعدائهم بسببهم، وإن لم ينتفعوا به، فقد أخرج الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: "إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- ليؤيّد هذا الدين بالرجل الفاجر". 5 - (ومنها): بيان سماحة هذه الشّريعة الغرّاء، حيث وسّعت على الأمة في مواضع الضّرورة، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنّما بُعثتُم ميسّرين، ولم تُبعثوا معسّرين". 6 - (ومنها): جواز التقيّة عند الضّرورة، بالتلفّظ بكلمة الكفر، مع اطمئنان القلب؛ عملًا برخصة الله تعالى، حيث يقول: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]. 7 - (ومنها): أن الأفضل الأخذ بالعزيمة، كما فعل بلال -رضي الله عنه-. 8 - (ومنها): ما قاله أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله: لما سمح الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالكفر به، وهو أصل الشّريعة عند الإكراه، ولم يؤأخذ به، حَمَلَ العلّماءُ عليه فروعَ الشّريعة كلها، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به، ولم يترتب عليه حكم، وبه جاء الأثر المشهور عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "رُفِع عن أُمَّتي الخطأ والنِّسيان، وما استكرهوا عليه"، الحديث، والخبر وإن لم يصح سنده فإن معناه صحيح باتِّفاق من العلماء قاله القاضي أبو بكر بن العربي: وذكر أبو محمّد عبد الحق أن إسناده صحيح (¬1)، قال: وقد ذكره أبو بكر الأصيلي في ¬

_ (¬1) بل صحّ الحديث بلفظ: "وُضِع عن أُمَّتي ... " الحديث، راجع "صحيح الجامع" =

"الفوائد"، وابن المنذر في "كتاب الإقناع". انتهى (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الرّابعة): أجمع أهل العلم على أن من أُكره على الكفر حتّى خَشِيَ على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر، وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تَبِين منه زوجته، ولا يُحكَم عليه بحكم الكفر، هذا قول مالك، والكوفيين، والشّافعيّ، غير محمّد بن الحسن، فإنّه قال: إذا أظهر الشرك كان مُرتدًا في الظّاهر، وفيما بينه وبين الله تعالى على الإسلام، وتبين منه امرأته، ولا يُصَلَّى عليه إن مات، ولا يرث أباه إن مات مسلمًا، وهذا قول يرده الكتاب والسُّنَّة، قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} الآية [النحل: 106]، وقال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ في الْأَرْضِ} الآية [النساء: 97]، وقال: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} الآية [النساء: 98]، فعَذَرَ الله المستضعفين الذين يمتنعون من ترك ما أمر الله به، والمكره لا يكون إِلَّا مستضعفًا غير ممتنع من فعل ما أُمِر به. وقال الحسن: التقيّة إلى يوم القيامة. وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما فيمن يُكرِهه اللصوص، فيُطلق: ليس بشيء، وبه قال ابن عمر، وابن الزُّبير، والشعبيّ، والحسن، وقال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "الأعمال بالنيّة". ذكره الإمام البخاريّ في "صحيحه" (¬2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الخامسة): ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الرُّخصة إنّما جاءت في القول، وأما في الفعل فلا رخصة فيه، مثل أن يُكرِهوا على السجود لغير الله، أو الصّلاة لغير القبلة، أو قتل مسلم، أو ضربه، أو أكل ماله، أو الزنى، وشرب الخمْرِ، وأكل الرِّبَا، ¬

_ = للشيخ الألباني رحمه الله 1/ 659 رقم الحديث (3515). (¬1) "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 181 - 182. (¬2) "صحيح البخاريّ" 12/ 389 "كتاب الإكراه" بنسخة "الفتح".

يُرْوَى هذا عن الحسن البصري رحمه الله، وهو قول الأوزاعي، وسحنون من المالكيّة، وقال محمّد بن الحسن: إذا قيل للأسير: اسجد لهذا الصنم، وإلا قتلتك، فقال: إن كان الصنم مقابل القبلة فليسجد، ويكون نيته لله تعالى، وإن كان لغير القبلة فلا يسجد وإن قتلوه، والصّحيح أنه يسجد، وإن كان لغير القبلة، وما أحراه بالسجود حينئذ، ففي "الصحيح" عن ابن عمر قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلّي، وهو مقبل من مكّة إلى المدينة على راحلته، حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} الآية [البقرة: 115]، وفي رواية: ويوتر عليها، غير أنه لا يصلّي عليها المكتوبة، فإذا كان هذا مباحًا في السَّفر في حالة الأمن؛ لتعب النزول عن الدابة للتنفل، فكيف بهذا، واحتج من قَصَرَ الرُّخصة على القول بقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: ما من كلام يَدْرَأ عني سوطين من ذي سلطان إِلَّا كنت متكلما به، فَقَصَرَ الرُّخصة على القوله، ولم يذكر الفعل، وهذا لا حجة فيه؛ لأنه يحتمل أن يَجعَل للكلام مثالا، وهو يريد أن الفعل في حكمه. وقالت طائفة: الإكراه في الفعل والقول سواء إذا أسر الإيمان، رُوِي ذلك عن عمر بن الخطّاب، ومكحول، وهو قول مالك، وطائفة من أهل العراق، رَوَى ابن القاسم عن مالك أن من أُكره على شرب الخمْرِ، وترك الصّلاة، أو الإفطار في رمضان أن الإثم عنه مرفوع، ذكره القرطبيّ. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح عندي القول الثّاني، فيجري الإكراه في الفعل كما يجري في القول؛ لوضوح حجته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة السّادسة): أجمع العلماء على أن من أُكره على الكفر فاختار القتل أنه أعظم أجرًا عند الله ممّن اختار الرُّخصة، واختلفوا فيمن أُكره على غير القتل من فعل ما لا يحل له، فقال: أصحاب مالك: الأخذ بالشدة في ذلك، واختيار القتل والضرب أفضل عند الله من الأخذ بالرخصة، ذكره ابن حبيب، وسحنون، وذكر ابن سحنون عن أهل العراق أنه إذا تُهُدّد بقتل أو قطع أو ضرب يخاف منه التلف، فله أن يفعل ما

أُكره عليه من شرب خمر، أو أكل خنزير، فإن لم يفعل حتّى قُتل خِفْنَا أن يكون آثما؛ لأنه كالمضطر، ورَوَى خباب بن الأرت -رضي الله عنه- قال: شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلت: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان مَنْ قبلكم يؤخذ الرَّجل، فيُحفَر له في الأرض، فيُجعَل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويُمشَط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يَصُدُّه ذلك عن دينه، والله لَيَتِمَّن هذا الأمرُ حتّى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إِلَّا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" (¬1). فوصفه -صلى الله عليه وسلم- هذا عن الأمم السالفة على جهة المدح لهم، والصبر على المكروه في ذات الله، وأنهم لم يكفروا في الظّاهر، وتبطنوا الإيمان ليدفعوا العذاب عن أنفسهم، وهذه حجة من آثر الضرب والقتل والهَوَان على الرُّخصة والمقام بدار الجنان. وذكر أبو بكر محمّد بن محمّد بن الفرج البغدادي، قال: حَدَّثَنَا شريح بن يونس، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن يونس بن عبيد، عن الحسن أن عيونًا لمسيلمة أخذوا رجلين من أصحاب النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فذهبوا بهما إلى مسيلمة، فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟، قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول الله؟، قال: نعم، فَخَلَّى عنه، وقال للآخر: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟، قال: نعم، قال: وتشهد أني رسول الله؟، قال: أنا أصمّ لا أسمع، فقدمه وضرب عنقه، فجاء هذا إلى النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فقال: هلكت، قال: "وما أهلكك؟ "، فذكر الحديث، قال: "أما صاحبك فأخذ بالثقة، وأما أنت فأخذت بالرخصة، على ما أنت عليه السّاعة؟ " قال: أشهد أنك رسول الله، قال: "أنت على ما أنت عليه"، ذكره القرطبيّ (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ في "صحيحه" رقم (3612) وأبو داود (2278) وأحمد في "مسنده" (20148). (¬2) "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 188 - 189.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحاصل أن الأخذ بالعزيمة هو الأولى، ولكن الترخّص مشروع، غير مذموم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة السابعة): اختلف العلماء في حَدّ الإكراه، فروي عن عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- أنه قال: ليس الرَّجل آمَنَ على نفسه إذا أخفته، أو أوثقته، أو ضربته. وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: ما كلام يَدْرَأ عني سوطين إِلَّا كنت متكلما به. وقال الحسن: التَّقِيّة جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة، إِلَّا أن الله تبارك وتعالى ليس يَجْعَل في قتل تقية. وقال النخعي: القيد إكراه، والسجن إكراه، وهذا قول مالك، إِلَّا أنه قال: والوعيد المخَوِّف إكراه، وإن لم يقع، إذا تحقق ظلم المعتدي، وإنفاذه لما يتوعد به، وليس عند مالك وأصحابه في الضرب والسجن توقيت، إنّما هو ما كان يؤلم من الضرب، وما كان من سجن يَدخُل منه الضِّيقُ على المُكْرَه، وإكراه السلطان وغيره عند مالك إكراه، وتناقض الكوفيون، فلم يَجعَلُوا السجن والقيد إكراهًا على شرب الخّمْرِ، وأكل الميتة؛ لأنه لا يَخاف منهما التلف، وجعلوهما إكراهًا في إقراره لفلان عندي ألف درهم. قال ابن سحنون: وفي إجماعهم على أن الألم والوجع الشديد إكراه، ما يدلُّ على أن الإكراه يكون من غير تَلَفِ نفسٍ، وذهبَ مالك إلى أن مَنْ أُكره على يمين بوعيد أو سجن أو ضرب أنه يَحلِف، ولا حنث عليه، وهو قول الشّافعيّ وأحمد وأبي ثور، وأكثر العلماء. ذكره القرطبيّ أيضًا (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الإمام مالك وأكثر أهل العلم من أن الإكراه يكون بغير القتل، من السجن والضرب، ونحوهما هو الأرجح عندي؛ لإطلاق النصّ {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} الآية، فلم يخصّ نوعًا من الإكراه حتّى نخصه به، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ¬

_ (¬1) "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 190 - 191 و"فتح الباري" 12/ 389 - 394 "كتاب الإكراه".

وبالسند المُتّصل إلى الإمام أبي مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 151 - (حَدَّثَنَا عَلي بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَقَدْ أُوذِيتُ في اللهَ، وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُخِفْتُ في الله، وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَليَّ ثَالِثَةٌ، وَمَا لِي وَلبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلَّا مَا وَارَى إبِطُ بِلَالٍ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (حمّاد بن سلمة) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقة عابدٌ، أثبت النَّاس في ثابت، وتغيّر حفظه بآخره، من كبار [8] 14/ 116. 2 - (ثابت) بن أسلم البنانيّ، أبو محمّد البصريّ، ثقة عابدٌ [4]. رَوَى عن أنس، وابن الزُّبير، وابن عمر، وعبد الله بن مُغَفَّل، وعمر بن أبي سلمة، وشعيب والد عمرو، وابنه عمرو، وهو أكبر منه، وغيرهم. وروى عنه حميد الطَّويل، وشعبة، وجرير بن حازم، والحمادان، ومعمر، وهمام، وأبو عوانة، وجعفر بن سليمان، وسليمان بن المغيرة، وداود بن أبي هند، والأعمش، وغيرهم. قال: البخاريّ عن ابن المدينيّ: له نحو مائتين وخمبسين حديثًا. وقال: أبو طالب عن أحمد: ثابت يَتَثَبَّتُ في الحديث، وكان يَقُصّ، وقتادة كان يقص، وكان أَذْكَرَ. وقال العجلي: ثقة رجل صالح. وقال: النَّسائيُّ: ثقة. وقال: أبو حاتم: أثبت أصحاب أنس الزّهريُّ، ثمّ ثابت، ثمّ قتادة. وقال: ابن عديّ: أروى النَّاس عنه حمادُ بنُ سلمة، وأحاديثه مستقيمة إذا روى عنه ثقة، وما وقع في حديثه من النُّكرَة إنّما هو من الراوي عنه. وقال حماد بن سلمة: كنت أسمع أن القُصَّاص لا يحفظون الحديث، فكنت أقلب على ثابت الأحاديث، أجعل أنسا لابن أبي ليلى، وأجعل ابن أبي ليلى لأنس، أُشَوِّشها عليه، فيجيء بها على الاستواء. وقال شعبة: كان ثابت يقرأ القرآن في كلّ يوم وليلة، ويصوم الدهر. وقال بكر المزني: ما أدركنا أعبد منه. وقال: ابن حبّان في "الثِّقات": كان

من أعبد أهل البصرة. وقال ابن سعد: كان ثقةً مأمونًا، توفي في ولاية خالد القسريّ. وفي سؤالات أبي جعفر محمّد بن الحسين البغدادي لأحمد بن حنبل: سئل أبو عبد الله عن ثابت وحميد أيهما أثبت في أنس؟ فقال: قال يحيى القطان: ثابت اخْتَلَط، وحميد أثبت في أنس منه. وفي "الكامل" لابن عديّ عن القطان عَجَبٌ لأيوب يَدَعُ ثابتا البناني، لا يكتب عنه. وقال أبو بكر الْبَرْدِيجِيّ: ثابت عن أنس صحيح من حديث شعبة، والحمادين، وسليمان بن المغيرة، فهؤلاء ثقات، ما لم يكن الحديث مضطربًا. وفي "المراسيل" لابن أبي حاتم: ثابت عن أبي هريرة، قال أبو زرعة: مرسل. قال ابن علية: مات ثابت سنة (127). وقال جعفر بن سليمان: سنة (23) حكاهما البخاريّ في "الأوسط"، وحَكَى عن ثابت، قال: صَحِبْتُ أنسًا أربعين سنة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (43) حديثًا. 3 - (أنس بن مالك) الصحابيّ المشهور -رضي الله عنه- 3/ 24، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصّحيح، بل رجال الجماعة، غير شيخه، فمن أفراده، والنَّسائيّ في "مسند عليّ -صلى الله عليه وسلم-". 3 - (ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات البصريين، غير شيخه، ووكيع، فكوفيّان. 4 - (ومنها): أن فيه حمادًا، فإنّه أثبت من روى عن ثابت، وثابتًا، فإنّه ألزم من روى عن أنس، فقد لزمه أربعين سنة. 5 - (ومنها): أن فيه أنسًا -رضي الله عنه- من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصّحابة -رضي الله عنه- في البصرة، مات سنة (3) أو (92)، وهو من المعمّرين، فقد جاوز عمرهُ مائة سنة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث: (عَنْ أَنَس بْنِ مَالِكٍ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: لَقَدْ أُوذِيتُ) بضمّ أوله، وكسر ثالثه، فعلٌ ونائب فاعله (في الله) أي في سبيل الدعوة إلى الله تعالى (وَمَا يُؤْذَى) بالبناء للمفعول (أَحَدٌ) أي منكم، وذلكَ لكون منزلته عند الله أرفع المنازله، فأُوذي على قدر رفعة منزلته، فقد أخرج الترمذيّ في "كتاب الزهد" (2322) والمصنّف في "كتاب الفتن" (4023) بإسناد صحيح، من طريق مُصْعَب بن سعد، عن أبيه -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله أيُّ النَّاس أشد بلاءً؟، قال: الأنبياء، ثمّ الأمثل فالأمثل، يُبتَلى العبد على حسب دينه، فإن كان في دينه صلْبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رِقًّةٌ ابتُلي على حسب دينه، فما يَبْرَح البلاء بالعبد، حتّى يتركه يمشي على الأرض، وما عليه من "خطيئة". قال الترمذيّ: حديث حسن صحيح. (وَلَقَدْ أُخِفْتُ) فعل ونائب فاعله أيضًا (في الله، وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَالِثَةٌ) أي ليلة ثالثة، ولفظ الترمذيّ: "ولقد أتت عليّ ثَلاثون ما بين يوم وليلة ... " (وَمَا لِي وَلبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كبِدٍ) بفتح، فكسر: أي يأكله حيّ (إِلَّا مَا وَارَى) من المواراة، أي إِلَّا ما أخفاه (إِبِطُ بِلَالٍ) بكسر الهمزة، وسكون الباء الموحدة: ما تحت الجناح، ويُذكّر ويؤنثُ، فيقال: هو الإبط، وهي الإبط، والجمع آباط، مثلُ حِمْلٍ وأَحْمال، ويزعُمُ بعض المتأخّرين أن كسر الباء لغةٌ، وهو غير ثابت. قاله الفيّوميّ (¬1). قال: الإمام الترمذيّ رحمه الله بعد إيراد الحديث: ما نصّه: ومعنى الحديث هذا حين خرج النبيّ -صلى الله عليه وسلم- هاربًا من مكّة، ومعه بلالٌ إنّما كان مع بلال من الطّعام ما يحمله تحت إبطه. انتهى (¬2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" 1/ 3. (¬2) "الجامع" 4/ 645 رقم الحديث (2472).

مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- هذا صحيح. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (24/ 151) فقط، وأخرجه (الترمذيّ) (2472) وفي "الشمائل" (375) و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" 11/ 464 و 14/ 300 و (أحمد) في "مسنده" 3/ 120 و 286 و (عبد بن حُميد) في "مسنده" (1317) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (6560) و (أبو يعلى) في "مسنده" (3423) و (أبو نعيم) في "الحلية" 1/ 150، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده: 1 - (منها): بيان فضل بلال -رضي الله عنه-، حيث كان يصحب النبيّ - صلّى الله عليه وسلم - ويخدُمه في وقت رمته قريش إِلَّا من شاء الله من قوس واحدة بالعداوة والأذى، فكان بلال -رضي الله عنه- يصيبه ما أصابه - صلّى الله عليه وسلم -، وهو صابر محتسبٌ في الله -عَزَّ وَجَلَّ-. 2 - (ومنها): بيان ما كان النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- يلاقيه من قومه من الأذى، والإخافة في سبيل الدّعوة إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-. 3 - (ومنها): ما كان عليه من الصبر على قلّة العيش، وألم الجوع. 4 - (ومنها): الحثّ على الصبر فيما يُصيب الإنسان في سبيل الدّعوة إلى الله تعالى، فإنّه -عَزَّ وَجَلَّ- ما أخبر بهذه المحنة إِلَّا لتقتدي به أمته في ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

25 - فضائل بلال - رضي الله عنه -

25 - (فَضَائلُ بِلَالٍ) -رضي الله عنه- قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا جميع النسخ الّتي بين أيدينا جعلت هذه الترجمة هنا، وكان المناسب أن تُكتب قبل الحديث رقم (150) لأن ذلك الحديث والذي بعده من فضائل بلال -رضي الله عنه-، وأيضًا تعبيره بلفظ "فضائل" يدلُّ على أنه أورد في الباب أكثر من فضيلة، ولعلّ بعض النُّساخ تصرّف فيه، والله تعالى أعلم. أما بلال -رضي الله عنه-، فهو: بلال بن رَبَاح الحبشي المؤذِّن، أبو عبد الله، ويقال: أبو عبد الرّحمن، وقيل: غير ذلك في كنيته، وهو بلال ابن حَمَامَة، وهي أمه، اشتراه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- من المشركين لمّا كانوا يُعَذِّبونه على التّوحيد، فأعتقه، فلزِم النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وأَذّن له، وشهد معه جميع المشاهد، وآخى النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين أبي عبيدة بن الجرّاح، ثمّ خرج بلال -رضي الله عنه- بعد النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- مجاهدًا إلى أن مات بالشام، وقال البخاريّ: بلال بن رباح أخو خالد، وغُفْرة، مات بالشام زمن عمر -رضي الله عنه-، وقال أبو نعيم: كان تِرْبَ أبي بكر، وكان خازن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورَوَى أبو إسحاق الْجُوزَجَانيّ، في "تاريخه" من طريق منصور، عن مجاهد قال: قال عَمّار: كُلٌّ قد قال ما أرادوا -يعني المشركين- غيرَ بلال. ومناقبه كثيرة مشهورة، وقال ابن إسحاق: كان لبعض بني جُمَح مُوَلَّد من مُوَلَّديهم، واسم أمه حَمَامة، قال البخاريّ: مات بالشام زمنَ عمر -رضي الله عنه-، وقال ابن بكير: مات بدمشق في طاعون عَمَوَاس سنة (17) أو (18)، وقال عمرو بن عليّ: مات سنة عشرين، وهو ابن بضع وستّين سنة، وقال ابن زَبْر: مات بِدَارِيَا، وحُمل على رقاب الرجال، فدُفن بباب كَيْسَان، وقيل: دُفن بباب الصغير، وفي "المعرفة" لابن منده أنه دُفِنَ بحلب رضي الله تعالى عنه، وأرضاه (¬1). أخرج له الجماعة، وروى من الأحاديث (44) حديثًا، اتفق الشيخان على حديث، وانفرد البخاريّ بحديثين، مسلم بحديث، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث ¬

_ (¬1) راجع "الإصابة" 1/ 455 - 456، و"تهذيب التهذيب" 1/ 253 - 254.

فقط برقم (561) و (715) و (716) و (3024) و (3063)، والله تعالى أعلم بالصواب. وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 152 - (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَمْزَةَ، عَنْ سَالمٍ، أَنَّ شَاعِرًا مَدَحَ بِلَالَ بْنَ عَبْدِ الله، فَقَالَ: بِلَالُ بْنُ عَبْدِ الله خَيْرُ بِلَالٍ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَذَبْتَ لَا، بَلْ بِلَالُ رَسُولِ الله خَيْرُ بِلَالٍ). رجال هذا الإسناد: أربعة: 1 - (علي بن محمّد) الطنافسيّ المذكور في السند الماضي. 2 - (أبو أُسامة) حماد بن أُسامة القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبتٌ، ربّما دلّس، من كبار [9] 12/ 102. 3 - (عمر بن حمزة) بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب الْعُمَريّ المدنيّ، ضعيف [6]. رَوَى عن عمه سالم بن عبد الله، وحصين بن مُصْعَب، والعباس بن عبد الرّحمن ابن ميناء، وأبي غطفان بن طَرِيف الْمُرّيّ، ومحمد بن كعب الْقُرَظيّ، وغيرهم. ورَوَى عنه مروان بن معاوية الْفَزَاريّ، وأحمد بن بَشِير الكُوفيُّ، وأبو عَقِيل عبد الله بن عقيل الثقفي، وأبو أُسامة، وأبو عَقِيل يحيى بن المتوكل. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: أحاديثه مناكير. وقال الدُّوريّ عن ابن معين: عمر ابن حمزة أضعف من عمر بن محمّد بن زيد. وقال النَّسائيُّ: ضعيف. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: كان ممّن يخطىء. وقال ابن عدي: هو ممّن يُكتَب حديثه. وأخرج الحاكم حديثه في "المستدرك"، وقال: أحاديثه لكلها مستقيمة. أخرج له البخاريّ في التعاليق، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (152) و (1272). 4 - (سالم) بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب العدويّ المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت عابد فاضلٌ، من كبار [3] 2/ 16، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث: (عَنْ سَالم) بن عبد الله رحمه الله (أَنَّ شَاعِرًا مَدَحَ بِلَالَ بْنَ عَبْدِ الله) بن عمر بن الخطّاب القرشيّ الْعَدويّ ثقة من الطبقة الثّالثة، روى عن أبيه حديث: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله". وروى عنه كعب بن عَلْقَمة، وعبد الله بن هُبيرة، وعبد الملك بن فارع. قال أبو زرعة: مدنيّ ثقة. وقال حمزة الكنانيّ: لا أعلم له غير هذا الحديث. وذكره مسلم في الطبقة الأولى من المدنيين. وعدّه يحيى القطّان في فقهاء المدينة. وذكره ابن حبّان في الثقات. تفرّد به مسلم بالحديث المذكور (¬1). وبلال هذا هو الّذي غضب عليه ابن عمر رضي الله عنه حين ذكر حديث: "لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنّكم إليها"، فقال بلال بن عبد الله: "والله لنمنعهن"، فأقبل عليه عبد الله، فسبّه سبّا سيئًا، وقال: أخبرك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتقول: "والله لنمنعهنّ"، أخرجه مسلم. (فَقَالَ) أي الشاعر في مدحه (بِلَالُ بْنُ عَبْدِ الله خَيْرُ بِلَالٍ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما (كَذَبْتَ) أي في قولك: خير بلال (لَا) أي ليس الأمر كما قلت (بَلْ بِلَالُ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-)، أضافه إليه لحصول الشرف له بسبب اتباعه (خَيْرُ بِلَالٍ) أي لأنه من أوائل المسلمين، ممّن أسهم كثيرًا في سبيل الدّعوة إلى الله، وضحّى بنفسه كما سبق بيان ما لقيه من تعذيب المشركين له -رضي الله عنه- وأرضاه. [تنبيه]: أثر ابن عمر رضي الله عنهما هذا ضعيف؛ لضعف بن حمزة بن عبد الله، كما سبق أقوال أهل العلم فيه، وهو من أفراد المصنّف رحمه الله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. ¬

_ (¬1) راجع "تهذيب التهذيب" 1/ 254.

26 - فضائل خباب - رضي الله عنه -

26 - (فَضَائلُ خَبَّابٍ) -رضي الله عنه- وفي نسخة "فضائل عمّار". وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 153 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ الله، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَقَ، عَنْ أَبِي لَيْلَى الْكِنْدِيِّ، قَالَ: جَاءَ خَبَّابٌ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: ادْنُ، فَمَا أَحَدٌ أَحَقَّ بِهَذَا المَجْلِسِ مِنْكَ، إِلَّا عَمَّارٌ، فَجَعَلَ خَبَّابٌ يُرِيهِ آثَارًا بِظَهْرِهِ مِمَا عَذَّبَهُ الْمُشْرِكُونَ). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (عمرو بن عبد الله) بن حَنَش الأوديّ الكوفيّ المذكور قبل بابين. 2 - (سفيان) بن سعيد الثّوريّ الإمام الحجة الثبت [7] 5/ 41. 3 - (أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعيّ الكوفيّ، ثقة عابد مكثرٌ، مدلّسٌ، واختلط بآخره [3] 7/ 45. 4 - (أبو ليلى الكنديّ) يقال: مولاهم الكوفيّ، يقال: اسمه سَلَمة بن معاوية، وقيل: بالعكس، وقيل: سعيد بن أشرف بن سنان، وقيل: المُعَلَّى، ثقة [2]. رَوَى عن عثمان، وخَبّاب بن الأرت، وأم سلمة، وسُويد بن غَفَلَة، وغيرهم. وروى عنه أبو إسحاق السبيعي، وعثمان بن أبي زُرْعة، وعبد الملك بن أبي سليمان، وأبو جعفر الفرّاء. قال أحمد بن سعيد بن أبي مريم عن ابن معين: ثقة مشهور. وفرق الحاكم أبو أحمد بين أبي ليلى الكنديّ، سلمة بن معاوية، وقيل: معاوية بن سلمة، رَوَى عن سلمان، وعنه أبو إسحاق، وبين أبي ليلى الكنديّ، عن سُويد بن غَفَلة، وعنه عثمان بن أبي زرعة، وقال: إن هذا الثّاني لم نقف على اسمه، ثمّ رَوَى عن محمّد بن عثمان بن أبي شيبة قال: سمعت ابن معين، وسئل عن أبي ليلى الكنديّ، فقال: كان ضعيفًا. وقال العجلي: أبو ليلى الكنديّ، كوفي تابعي ثقة.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والنَّسائيّ في "اليوم واللّيلة"، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (153) وحديث (1801) "لا يُجمَع بين متفرّق، ولا يُفرّق بين مجتمع"، والباقيان تقدّما في الباب الماضي، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي لَيْلَى الْكِنْدِيِّ) أنه (قَالَ: جَاءَ خَبَّاب) بن الأرتّ -رضي الله عنه- (إِلَى عُمَرَ) بن الخطّاب - رضي الله عنه - (فَقَالَ) أي عمر لخبّاب رضي الله عنهما (ادْنُ) أمر من الدنوّ، وهو القرب، أي اقرب إلى مجلسي، وفي "تحفة الأشراف" 3/ 120: "ادنه" بزيادة هاء السكت (فما) نافيةٌ حجازيّة، ترفع الاسم وتنصب الخبر، واسمها قوله: (أَحَدٌ) وخبرها قوله: (أَحَقَّ بِهَذا الْمَجْلِسِ مِنْكَ) أي لما لك من السابقيّة، والبلاء والإبلاء في الإسلام (إِلَّا عَمَّارٌ) -رضي الله عنه-، بالرفع على البدليّة من "أحدٌ"، ويجوز في مثله النصب، فيجوز أن ينصب، ويُعتذر عن ترك الألف بأنه مبنيّ على مسامحة أهل الحديث في الكتابة، وهو اعتذار مشهور، لكن ههنا غير مستحسن؛ لعدم الحاجة إليه. قاله السنديّ (¬1). وقوله: "لعدم الحاجة إليه"، أي لأن الرفع على البدليّة وجه صحيح، بل هو المختار، كما قال في "الخلاصة": وَبَعْدَ نَفْي أَوْ كَنَفْي انْتُخِبْ ... إِتْبَاعُ مَا اتَّصَلَ ................... فلا ضرورة تدعوا إلى النصب. والله تعالى أعلم. وفيه أن عمر -رضي الله عنه- يُقدِّم في مجلسه أولي الفضل من الصّحابة -رضي الله عنهم- من سبقت لهم السوابق في الإسلام من التكاليف الشّاقّة، وكان عمّار ممّن عُذّب في الله تعالى عذابًا شديدًا، ولذا قدّمه في الرتبة على خبّاب (فَجَعَلَ خَبَّابٌ يُرِيهِ) بضم أوله من الإراءة، أي يظهر له حتّى يراه تصديقًا لعمر -رضي الله عنه- (آثَارًا بِظَهْرِهِ مِمَّا عَذَّبَهُ الْمُشْرِكُونَ) أي من أجله، و"ما" مصدريّة، أي من أجل تعذيب المشركين له حتّى يرجع عن دينه، فكأن خبّابًا -رضي الله عنه- ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 101.

لما قاله عمر: "إِلَّا عمّارٌ" عرَّض عليه بأنه لو كان سبب التقدّم في مجلسك التعذيب في الله تعالى، فأنا كذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: أثر عمر -رضي الله عنه- هذا صحيح، وهو من أفراد المصنّف، أخرجه هنا بهذا السند فقط. (المسألة الثّانية): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل خبّاب -رضي الله عنه-. 2 - (ومنها): أن فيه جوازَ مدح الرَّجل في وجهه إن كان لا يُخاف على دينه. 3 - (ومنها): جواز إظهار بعض الأعمال الصالحة؛ تحدّثًا بالنعم الإلهيّة؛ عملًا بقوله -رضي الله عنه-: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]. (ومنها): تقديم أولي الفضل من أهل العلم والشرف في المجالس وغيرها؛ تكريمًا لهم، وهو من هدي النبيّ -رضي الله عنه-، فإنّه كان يليه أكابر المهاجرين والأنصار، وقال: -عَزَّ وَجَلَّ- "لِيَلِيَنّي منكم أولو الأحلام والنُّهَى"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

27 - فضائل زيد بن ثابت - رضي الله عنه -

27 - (فَضَائِل زَيِدٍ بْنِ ثَابِتٍ) -رضي الله عنه- قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا كتب هذا العنوان في النسخة الّتي حقّقها الدكتور بشار، وكتب الشّيخ علي عبد الحميد في نسخته "فضائل صحابة آخرين"، ولم يشر أيّ منهما من أي نسخة أخذ العنوان، ووقع في النسخة الهنديّة هذا الحديث تحت العنوان السابق، "فضائل خباب"، فعلّق في الهامش: ما نصّه: ليس لهذا الحديث مناسبة بما قبله، ولا مطابقة بالترجمة، لعلّ ترجمة هذا سقط من بعض النسّاخ، "إنجاح"، انتهى. وقد تقدّمت ترجمة زيد بن ثابت -رضي الله عنه- في 10/ 77، فراجعها تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 154 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ الحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ في دِينِ الله عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَقْضَاهُمْ عَليُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَاب الله أُبَيُّ بْنُ كعْبٍ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا، وَأَمِينُ هَذه الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجرَّاحِ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (محمّد بن المثنى) الزَّمِن، أبو موسى البصريّ، ثقة ثبتٌ [10] 9/ 66. 2 - (عبد الوهّاب بن عبد المجيد) الثقفيّ، أبو محمّد البَصْريُّ، ثقة تغيّر قبل موته بثلاث سنين [8] 2/ 17. 3 - (خالد الحذّاء) -بفتح المهملة، وتشديد الذال المعجمة- هو: خالد بن مِهْران، مولى قريش، وقيل: مولى بني مجُاشع، أبو المنازل -بفتح الميم، وقيل: بضمها، وكسر الزاي- البصريّ، ثقة يرسل [5]. رَأَى أنس بن مالك، ورَوَى عن عبد الله بن شقيق، وأبي رجاء العُطَارديّ، وأبي عثمان النَّهْدي، وأبي قلابة، وأنس، ومحمد، وحفصة أولاد سيرين، وغيرهم.

ورَوَى عنه الحمادان، والثوري، وشعبة، وابن علية، وسعيد بن أبي عروبة، وخالد بن عبد الله الواسطي، وعبد الوهّاب الثقفي، وبشر بن المفضل، وغيرهم. قال الأثرم عن أحمد: ثَبْت. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة، وكذا قال النَّسائيُّ، وقال أبو حاتم: يُكتَب حديثه، ولا يحتج به. وقال العجلي: بصري ثقة. وقال أبو الوليد الباجي: قرأت على أبي ذر الهروي في "كتاب الكنى" لمسلم: خالدٌ الحذاء أبو المنازل -بفتح الميم-، قال أبو الوليد: والضم أشهر. وقال ابن سعد: لم يكن خالد بِحَذّاء، ولكن كان يجلس إليهم، قال: وقال فهد بن حَيّان: إنّما كان يقول: احْذُ على هذا النحو، فلُقِّب الحذاء، قال: وكان خالد ثقةً، مَهِيبًا، كثير الحديث، توفي سنة (141)، وكان قد استُعْمِل على العشور بالبصرة. وقال محمّد ابن المثنى عن قُريش بن أنس: مات سنة (142) أو أكثر، وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وحكى القولين في تاريخ وفاته. أخرج الجماعة، وله في هذا الكتاب (33) حديثًا. 4 - (أبو قلابة) عبد الله بن زيد بن عمرو البصريّ، ثقة فاضل كثير الإرسال، فيه نصب يسير [3] 1/ 10. 5 - (أنس بن مالك) الصحابيّ الجليل -رضي الله عنه- 3/ 24، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصّحيح، بل رجال الجماعة. 3 - (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة. 4 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين. 5 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: خالد الحذاء عن أبي قلابة. 6 - (ومنها): أن صحابيّه هو المشهور بخدمة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- خدمه عشر سنين، وأنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وأنه آخر من مات من الصّحابة -رضي الله عنهم-

بالبصرة، مات سنة (2) أو (93) سنة، وأنه من المعمّرين، عاش أكثر من مائة سنة -رضي الله عنه-، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَنَس بْنِ مَالِكٍ) -رضي الله عنه- (أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: أَرْحَمُ) أي أكثرهم رحمة (أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ في دِينِ الله) أي أَقواهم في دين الله كما في رواية (عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً) أي أكثرهم حياءً، فإن الأكثر حياءً يكون أدقّ في إظهار آثاره (عُثْمانُ، وَأَقْضَاهُمْ) قيل: هذه منقبة عظيمة؛ لأن القضاء بالحقّ، والفصل بينه وبين الباطل يقتضي علمًا كثيرًا، وقوّةً في النفس (¬1) (عَليُّ بْنُ أَبِي طَالِب، وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ الله) أي أرجحهم، وأعلمهم بقراءة القرآن (أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالحلَالِ وَالحرَام مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَفْرَضُهُمْ) أي أكثرهم علمًا بالفرائض (زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا) أي مبالغًا في الأمانة (وَأَمِينُ هَذ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْد بْنُ الجرَّاحِ) رضي الله تعالى عنهم أجمعين. قال الطحاويّ رحمه الله في "شرح مشكل الآثار": ما حاصله: إن سأل سائل عن المراد بما ذُكر به كلُّ واحد من أُبيّ، وزيد، ومعاذ في هذا الحديث، وهل يوجب ذلك له أن يكون في معناه الّذي ذُكر به فوق الخلفاء الراشدين المهديين، ومن سواهم من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجمعين؟ فكان جوابنا له في ذلك أن من جَلَّت رتبته في معنى من المعاني جاز أن يقال: إنّه أفضل النَّاس في ذلك المعنى، وإن كان فيهم من هو مثله، أو من هو فوقه. انتهى كلام الطحاويّ رحمه الله (¬2). وقال البغويّ رحمه الله في "شرح السنّة": قال أبو حاتم السجستانيّ: هذه ألفاظ أُطلقت بحذف "من"، يريد من أرحم أُمَّتي، ومن أشدّهم، ومن أصدقهم، ومن أفرضهم، وأقرئهم، يريد أن هؤلاء من جماعة فيهم تلك الفضائل، كقوله -صلى الله عليه وسلم- للأنصار: ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 102. (¬2) "شرح مشكل الآثار" 2/ 280 - 281 رقم الحديث (808 - 810).

"أنتم أحبّ النَّاس إليّ"، أي من أحبّ النَّاس. انتهى (¬1). وقال السنديّ رحمه الله: هذا الحديث صريحٌ في تعدّد جهات الخير في الصّحابة -رضي الله عنهم-، واختصاص بعضها ببعض، لكن الفضيلة بمعنى كثرة الثّواب عند الله على التّرتيب، وذلك شيء آخر. (¬2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- هذا صحيح. (المسألةُ الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (26/ 154) بهذا السند، والسند التالي 26/ 155، وأخرجه (الترمذيّ) في "المناقب" (3790 و 3791) و (الطيالسيّ) في "مسنده" (2096) و (أحمد) في "مسنده" 3/ 184 رقم (12904) و (النَّسائيّ) في "فضائل الصّحابة" (8185) و (8229) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (7131) و (7137) و (7252) و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار" (808) و (أبو نعيم) في "الحلية" 3/ 122 و (الحاكم) في "المستدرك " 3/ 422 و (البيهقيّ) في "السنن الكبرى" 6/ 210 و (البغويّ) في "شرح السنة" (3930)، وقال الترمذيّ: حديث حسنٌ صحيح، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ¬

_ (¬1) "شرح السنة" 14/ 132 رقم (3930). (¬2) "شرح السنديّ" 1/ 102.

وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 155 - (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ خَالِدٍ الحذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، مِثْلَهُ عِنْدَ ابْنِ قُدَامَةَ، غَيْرَ أَنَّهُ يَقُولُ في حَقِّ زَيْدٍ: "وَأَعْلَمُهُمْ بِالْفَرَائِضِ"). رجال هذا الإسناد خمسة، وهم ثقات، وقد تقدّموا إلى سفيان في الباب الماضي، والباقيان ذُكروا في السند الماضي. وقوله: "مثله" أي مثل حديث عبد الوهّاب بن عبد المجيد. وقوله: "غير أنه يقول إلخ" الضمير لسفيان، وهو الثوريّ، أي يقول في روايته بدل قوله: "وأفرضهم وأعلمهم بالفرائض". [تنبيه]: وقع في النسخة الّتي حققها محمّد فؤاد عبد الباقي، وتبعه الدكتور بشّار بعد قوله: "عن أبي قلابة مثله": ما نصّه: "عِنْدَ ابْنِ قُدَامَةَ، غَيْرَ أَنَّهُ يَقُولُ في حَقِّ زَيْدٍ: "وَأَعْلَمُهُمْ بِالْفَرَائِضِ"، ولا يوجد في النسخة الهنديّة، ولا في النسخة الّتي حقّقها الشّيخ علي حسن، وهو غلطٌ فاحشٌ دون شكّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

28 - فضل أبي ذر - رضي الله عنه -

28 - (فَضْلُ أَبِي ذَرٍّ) -رضي الله عنه- هو: جندب بن جُنادة على الأصحّ، تقدّم إسلامه، وتأخّرت هجرته، فلم يشهد بدرًا، ومناقبه -رضي الله عنه- جمّة، مات سنة (32) في خلافة عثمان -رضي الله عنه-، وتقدّمت ترجمته في 12/ 108. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 156 - (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عُثْمانَ ابْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ الدِّيْليِّ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَا أَقلَّتِ الْغَبْرَاءُ، وَلَا أَظَلَّتِ الخضْرَاءُ، مَنْ رَجُلٍ أَصْدَقَ لهجَةً مِنْ أَبِي ذَرٍّ"). رجال هذا الإسناد: ستة: (عثمان بن عمير) -بالتصغير- ويقال: ابن قيس، والصواب أن قيسًا جدّ أبيه، وهو عثمان بن أبي حميد أيضًا البجليّ، أبو اليقظان الكُوفيُّ الأعمى، ضعيفٌ، واختلط، وكان يُدلّس، ويغلو في التشيّع [7]. رَوَى عن أنس، وزيد بن وهب، وأبي الطفيل، وأبي حرب بن أبي الأسود، وغيرهم. وروى عنه حصين بن عبد الرّحمن، وهو من أقرانه، والأعمش، وغيرهم. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال أبي: عثمان بن عمير أبو اليقظان، ويقال: عثمان ابن قيس، ضعيف الحديث، كان ابن مهدي ترك حديثه. وقال أبي: خرج في الفتنة مع إبراهيم بن عبد الله بن حسن. وقال عمرو بن علي: لم يرض يحيى، ولا عبد الرّحمن أبا اليقظان. وقال الدُّوري عن ابن معين: ليس حديثه بشيء. وقال ابن أبي حاتم: ثنا أبي، سألت محمّد بن عبد الله بن نمير، عن عثمان بن عمير فضعفه، قال: وسألت أبي عنه، فقال: ضعيف الحديث، منكر الحديث، كان شعبة لا يرضاه، وذكر أنه حضره، فروى عن شيخ، فقال له شعبة: كم سِنُّك؟ فقال: كذا، فإذا قد مات الشّيخ،

وهو ابن سنتين. وقال إبراهيم بن عرعرة، عن أبي أحمد الزبيري: كان الحارث بن حُصَين، وأبو اليقظان يؤمنان بالرجعة، ويقال: كان يغلو في التشيع. ونسبه أحمد بن حنبل، فقال: هو عثمان بن عمير بن عمرو بن قيس البجلي، وقد يُنسَب إلى جد أبيه، ذكره البخاريّ في "الأوسط" في "فصل من مات ما بين العشرين ومائة إلى الثلاثين"، وقال: منكر الحدّيث، ولم يسمع من أنس، وقال في "الكبير": كان يحيى وعبد الرّحمن لا يحدثان عنه، وهو ابن قيس البجلي، وهو عثمان بن أبي حُميد الكُوفيُّ. وقال الجوزجاني عن أحمد: منكر الحدّيث، وفيه ذلك الداء، قال: وهو على المذهب منكر الحديث. وقال الْبَرْقاني عن الدارقطني: متروك. وقال الحاكم عن الدارقطني: زائغ، لم يُحتجّ به. وقال ابن عبد البرّ: كلهم ضعفوه. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. وقال ابن حبّان: اختلط حتّى كان لا يَدرِي ما يقول، لا يجوز الاحتجاج به. وقال ابن عدي: رديء المذهب، غال في التشيع، يؤمن بالرجعة، ويكتب حديثه مع ضعفه. أخرج له أبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (156) و (625) و (969) و (1555). (أبو حرب) بن أبي الأسود الدِّيليّ البصريّ، ثقة، قيل: اسمه مِحْجَن، وقيل: عطاء، وقيل: اسمه كنيته، ثقة [3]. رَوَى عن أبيه، وأبي ذرّ، والصّحيح عن أبيه، وعن عمه، وعن محجن عنه، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن فَضَالة الليثيُّ، وغيرهم. وروى عنه قتادة، وداود بن أبي هند، والقطان، وعثمان بن عمير البجلي، وعثمان ابن قيس البجلي، وغيرهم. ذكره ابن سعد في الطبقة الثّانية من قراء أهل البصرة، وقال: كان معروفًا، وله أحاديث. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال هو وعمرو بن علي: مات سنة تسع ومائة. وقال النَّسائيُّ: ما علمت أن ابن جريج سمع من أبي حرب. وقال خليفة في

"الطبقات": إن اسمه كنيته، وذكر أنه مات سنة ثمان ومائة. وذكر عبد الواحد بن علي في "أخبار النحاة"، عن أبي حاتم السجستاني قال: تَعَلَّمَ النحوَ من أبي الأسود ابنه عطاء، فإن صح هذا فيَحتَمِل أن يكون هو اسم أبي حرب؛ لأنهم لم يذكروا لأبي الأسود ولدًا غيره. وقال ابن قُتَيْبَةُ: كان أبو حرب شاعرًا عاقلًا ولّاه الحجاج جُوخَا، فلم يزل عليها حتّى مات الحجاج. وقال ابن عبد البرّ في "الكنى": هو بصري ثقة. أخرج له مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنَّسائيّ في "خصائص علي"، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم (156) و (525)، والباقون تقدّموا، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو) بن العاص رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَا) نافية (أَقَلَّتِ) أي حملت (الْغَبْرَاءُ) أي الأرض (وَلَا أَظَلَّتِ الخضْرَاءُ) أي السَّماء؛ سميت الأرض بالغبراء، والسماء بالخضراء للونهما، قاله في "النهاية" (¬1) (مِنْ رَجُلٍ) "من" زائدة، و"رجل" منصوب على المفعولية، على سبيل التنازع لـ "أقلّت"، و"أظلّت" (أَصْدَقَ) صفة لـ "رجل" (لهْجَةً) منصوب على التمييز، و"اللهجة" -بفتح اللام، وسكون الهاء-: اللسان، وما يُنطق به من الكلامِ (مِنْ أَبِي ذَرٍّ) قال الهرويّ: لم يُرد عليه السلام أنه أصدق من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولكنه على اتّساع الكلام، المعنى أنه متناه في الصدق. انتهى. وقال ابن الأثير: أراد أنه متناه في الصدق إلى الغاية، فجاء به على اتساع الكلام والمجاز. انتهى (¬2). وقال: السنديّ: وليس المراد أنه فاضل في الصدق على غيره حتّى على الأنبياء عليهم الصّلاة والسلام، بل المراد به أنه بلغ في الصدق نهايته، والمرتبة الأعلى بحيث لم ¬

_ (¬1) "النهاية" 4/ 227. (¬2) "النهاية" 4/ 227.

يكن يفضّل عليه في وصف الصدق، وهو لا يمنع المساواة، وهذا مبنيّ على أن المساواة في وصف الصدق مع الأنبياء جائزة، ولا بُعد فيها عقلًا، أو المراد أنه لا يزيد عليه أحد من جنسه في الصدق، وأما الأنبياء فلا كلام فيهم، بل معلومون برتبتهم. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الاحتمال الأخير هو الصواب، وأما الّذي قبله، فليس بشيء، فتأمّله بإنصاف. والله تعالى أعلم. وقيل: يمكن أن يُراد به أنه لا يذهب إلى التورية والمعاريض في الكلام، فلا يرخي عِنَان كلامه، ولا يُواري مع النَّاس، ولا يسامحهم، ويُظهر لهم الحقّ البحت، والصدق المحض. انتهى (¬1). وفيه منقبة عظيمة لأبي ذرٍّ -رضي الله عنه-، وأنه كان ناطقًا بالحقّ، لا يخاف في الله لومة لائم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما هذا صحيحٌ. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه عثمان بن عمير، وهو ضعيف، كما سبق في ترجمته؟ [قلت]: إنّما صحّ؛ لشواهده، فقد روي من حديث أبي ذرّ -رضي الله عنه- نفسه، وأبي الدرداء، وأبي هريرة، وعليّ -رضي الله عنه-: فأما حديث أبي ذرّ -رضي الله عنه-، فأخرجه الترمذيّ (3802) وابن حبَّان (7132) والحاكم 3/ 342 من طريق مالك بن مرثد بن عبد الله، عن أبيه، عنه، وقال الترمذيّ: حسن غريب، وصحّحه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبيّ، وفيه نظر؛ لأن مرثد ابن عبد الله الزِّمّانيّ، ويقال: الذِّماريّ، مجهول، تفرّد بالروية عنه ابنه، وذكره العقيليّ في ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 103.

"الضعفاء"، وقال: لا يُتابع على حديثه، وقال الذهبيّ: فيه جهالة (¬1)، ووثقه ابن حبّان، والعجليّ. وأما حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- فأخرجه الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال: 20731 - (حَدَّثَنَا أبو النَّضْر حَدَّثَنَا عبد الحميد بن بَهْرام، حَدَّثَنَا شهر بن حوشب، حَدَّثَنَا عبد الرّحمن بن غَنْم أنه زار أبا الدرداء بحمص، فمكث عنده ليالي، وأمر بحماره فأُوكف، فقال أبو الدرداء: ما أَرَاني إِلَّا متبعك، فأمر بحماره، فأُسرج فسارا جميعا على حماريهما، فلقيا رجلًا شهد الجمعة بالأمس عند معاوية بالجابية، فعرفهما الرَّجل، ولم يعرفاه، فأخبرهما خبر النَّاس، ثمّ إن الرَّجل قال: وخبر آخر كَرِهتُ أن أخبركما أراكما تكرهانه، فقال أبو الدرداء: فلعلّ أبا ذر نُفِيَ، قال: نعم والله، فاسترجع أبو الدرداء وصاحبه قريبا من عشر مرات، ثمّ قال أبو الدرداء: ارتقبهم واصطبر كما قيل لأصحاب الناقة، اللَّهُمَّ إن كذبوا أبا ذر فإني لا أكذبه، اللَّهُمَّ وإن اتهموه، فإني لا أتهمه، اللَّهُمَّ وإن استغَشُّوه فإني لا أستَغِشُّهُ، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأتمنه حين لا يأتمن أحدًا، ويُسِرُّ إليه حين لا يُسِرُّ إلى أحد، أما والذي نفس أبي الدرداء بيده، لو أن أبا ذر قطع يميني ما أبغضته بَعْدَ الّذي سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لُهجَة أصدق من أبي ذر". وهذا إسناد حسنٌ، وفي شهر كلام لا يضرّه، فإن الصّحيح أنه حسن الحديث. وأخرجه ابن سعد 4/ 228، وابن أبي شيبة 12/ 125، والبزار (2713)، والحاكم 3/ 342 من طريق حماد بن سلمة، عن عليّ بن زيد بن جُدعان، عن بلال بن أبي الدرداء، عنه، وإسناده ضعيف؛ لضعف عين بن زيد. وأما حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، فأخرجه ابن سعد 4/ 228 من طريق أبي أميّة بن يعلى -وهو ضعيف- عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عنه. ¬

_ (¬1) راجع "ميزان الاعتدال" 4/ 78.

وحديث عليّ -رضي الله عنه- فأخرجه أبو نعيم في "الحلية" 4/ 172 وسنده ضعيف جدًّا، فيه بشر بن مهران، وهو متروك. وأخرجه ابن سعد عن مالك بن دينار مرسلًا، وعن محمّد بن سيرين مرسلًا أَيضًا. والحاصل أن الحديث بمجموع هذه الطرق صحيح، فتبصّر بإنصاف. والله تعالى أعلم. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (27/ 156) فقط، وأخرجه (ابن سعد) 4/ 228 و (ابن أبي شيبة) 12/ 124 و (أحمد) 2/ 163 و 175 و 223 و (الترمذيّ) (3801) و (الحاكم) 3/ 342، وقال الترمذيّ: حسن، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

29 - فضل سعد بن معاذ - رضي الله عنه -

29 - (فَضْلُ سَعْدٍ بْنِ مُعَاذٍ) -رضي الله عنه- هو: سعد بن مُعاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جُشَم ابن الحارث بن الخزرج بن النَّبِيت بن مالك بن الأوس الأنصاري الأشهليّ، وأمه كبشة بنت رافع لها صحبة، ويُكنَى أبا عمرو، شَهِدَ بدرًا باتِّفاق، ورُمِي بسهم يوم الخندق، فعاش بعد ذلك شهرًا حتّى حَكَم في بني قُريظة، وأجيبت دعوته في ذلك، ثمّ انتقض جرحه فمات، أخرج ذلك البخاريّ، وذلك سنة خمس. وقال المنافقون لمّا خَرَجت جنازته: ما أخفها؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الملائكة حملته"، أخرجه البخاريّ. وفي "الصحيحين" وغيرهما من طُرُق أن النّبيّ -رضي الله عنه- قال: "اهتز العرش لموت سعد ابن معاذ". ورَوَى يحيى بن عَبّاد بن عبد الله بن الزُّبير، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان في بني عبد الأشهل ثلاثة، لم يكن أحدٌ أفضلَ منهم: سعد بن معاذ، وأُسيد بن حُضير، وعباد بن بشر. وذكر ابن إسحاق أنه لمّا أسلم على يد مُصْعَب بن عمير قال لبني عبد الأشهل: كلامُ رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتّى تُسلموا، فأسلموا فكان من أعظم النَّاس بركةً في الإسلام. وهو سيّد الأوس، كما أن سعد بن عبادة سيّد الخزرج، وإياهما أراد الشاعر بقوله [من الطَّويل]: فَإِنْ يُسْلِمِ السَّعْدَانِ يُصْبِحْ مُحَمَّدُ ... بِمَكَّةَ لَا يَخْشَى خِلَافَ الْمُخَالِفِ ورَوَى ابنُ إسحاق في قصة الخندق عن عائشة قالت: كنتُ في حِصن بني حارثة، وأم سعد بن معاذ معي، فَمَرَّ سعدُ بن معاذ، وهو يقول [من الرجز]: لَبِّثْ قَلِيلًا يَلْحَقِ الْهَيْجَا حَمَلْ ... مَا أَحْسَنَ الْمَوْتَ إَذَا حَانَ الأَجَلْ فقالت له أمه: الحَقْ يا بُنَيّ، فقد تأخرت، فقلتُ: يا أم سعد لَوَدِدتُ أن دِرْعَ سعد

أسبغ ممّا هي، قال: فأصابه السهم حيث خافت عليه، وقال الّذي رماه: خُذْها وأنا ابن الْعَرِقَة، فقالى: عَرَّقَ اللهُ وجهك في النّار، وابنُ العَرِقة اسمه حِبَّان بن عبد مناف، من بني عامر بن لؤيّ، والعرقة أمه، وقيل: إن الّذي أصاب سعدًا أبو أمامة الْجُشَمِيُّ. وروى البخاريّ من حديث أبي سعيد الخدري أن بَنِي قريظة لمَّا نَزَلُوا على حكم سعد، وجاء على حمار، فقال النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "قُوموا إلى سيدكم". وأخرج ابن إسحاق بغير سند أن أم سعد لما مات قالت: وَيْلُ أمِّ سَعْدٍ سَعْدًا حَزَامَةً ... وَجَدَّا وَسَيِّدًا سُدَّ بِهِ مَسَدَّا فقال النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "كلُّ نادبة تكذب إِلَّا نادبة سعد". وأخرجه الطَّبرانيُّ (¬1) بسند ضعيف عن ابن عبّاس، قال: جعلت أم سعد تقول: وَيْلُ أمِّ سَعْدٍ سَعْدَا ... حَزَامَةً وَجَدّا فقال النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزيدي على هذا، كان -والله ما علمتُ- حازمًا، وفي أمر الله قويًّا (¬2) "، والله تعالى أعلم بالصواب. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 157 - (حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَقَ، عَنِ الْبَرَاءِ ابْنِ عَازِبٍ، قَالَ: أُهْدِيَ لِرَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- سَرَقَةٌ مِنْ حَرِيرٍ، فَجَعَلَ الْقَوْمُ يَتَدَاوَلُونَهَا بَيْنَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَتَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا؟ "، فَقَالُوا لَهُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ الله، قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لمنادِيل سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ في الجنَّةِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا"). رجال هذا الإسناد: أربعة: 1 - (هنّاد بن السريّ) بن مُصعب التميميّ، الكوفيّ، ثقة [10] 2/ 22. 2 - (أبو الأحوص) سلّام بن سُليم الحنفيّ مولاهم الكوفيّ الحافظ، ثقة متقن، ¬

_ (¬1) أخرجه الطبرانيّ في "الكبير" 6/ 10. (¬2) راجع "الإصابة" 3/ 70 - 72.

صاحب حديث [7]. روى عن أبي إسحاق السبيعي، وعاصم بن سليمان، وسماك بن حرب، وشَبِيب ابن غَرْقَدة، وزياد بن عِلاقة، وآدم بن علي، وغيرهم. وروى عنه يحيى بن آدم، ووكيع، وابن مهدي، وأبو نعيم، ويحيى بن يحيى، وسعيد بن منصور، وقتيبة بن سعيد، وهَنَّاد بن السَّرِيِّ، وغيرهم. قال ابن مهدي: أبو الأحوص أثبت من شَريك. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة متقن. وقال عثمان بن سعيد الدارمي: قلت ليحيى: أبو الأحوص أحب إليك أو أبو بكر بن عياش؟ قال: ما أقربهما. وكذا قال أبو حاتم. وقال العجلي: كان ثقة، صاحب سنة واتباع. وقال أبو زرعة، والنَّسائيّ: ثقة. وقال عبد الرّحمن بن أبي حاتم عن أبيه: صدوق، دون زائدة وزهير في الإتقان. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، صالحا فيه. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". ونقل ابن خلفون توثيقه عن ابن نمير. وقال البخاريّ: حدثني عبد الله بن أبي الأسود، قال: مات سنة تسع وسبعين -يعني ومائة-. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (47) حديثًا. 3 - (أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله الهمدانيّ السبيعيّ الكوفيّ، ثقة عابد اختلط بآخره، وكان يدلّس [3] 7/ 45. 4 - (البراء بن عازب) الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنها 14/ 116، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من رباعيّات المصنّف. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصّحيح، بل رجال الجماعة.

3 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: أُهْدِيَ) بالبناء للمفعول، أهداها له أُكيدر دُومة، كما بُيّن في حديث أنس -رضي الله عنه- (لِرَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- سَرَقَة) بفتحتين أي قطعة من جيّد الحرير، وجمعها سَرَقٌ، قاله ابن الأثير (¬1) وقالَ في "القاموس": السَّرَقُ مُحَرَّكَةً: شُقَقُ الحرير الأبيض، أو الحرير عامّةً، الواحدة بهاء. انتهى، فقوله: (مِنْ حَرِيرٍ) مؤكّدٌ. وفي "المعجم الكبير" للطبراني، في حديث أنس -رضي الله عنه- من طريق عبد الله بن سالم الحمصيّ، عن الزُّبيدي، عن الزهريّ، عن أنس قال: أُهدي للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- حُلّة من إستبرق، فجعل ناس يلمسونها بأيديهم، ويتعجّبون منها، فقال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "تُعجبكم هذه؟ فوالله لمناديل سعد في الجنَّة أحسن منها". قال الدارقطنيّ في "الأفراد": لم يروه عن الزبيدي إِلَّا عبد الله بن سالم. قاله في "الفتح" (¬2). (فَجَعَلَ الْقَوْمُ) أي الصّحابة -رضي الله عنهم- (يَتَدَاوَلُونَهَا بَيْنَهُمْ) أي يأخذها بعضهم من بعض تعجّبًا من لِينها وحسنها، فخاف -صلى الله عليه وسلم- عليهم الميل إلى الدنيا، فزهّدهم فيها، ورغّبهم في الآخرة بما أشار إليه بقوله: (فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَتَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا؟ "، فَقَالُوا لَهُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ الله، قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه" قَسَمٌ أقسم به النبيّ -صلى الله عليه وسلم- تأكيدًا للأمر، وقوله: (لمنَادِيلُ سَعْدَ بْنِ مُعَاذٍ) بفتح اللام، وهو جمع منديل، وهو هذا الّذي يُحمل في اليد، قال ابن الأعرابيّ وغيره: هو مشتقّ من الندل، وهو النقل؛ لأنه يُنقل من واحد إلى واحد، وقيل: من الندل، وهو الوَسَخُ، لأنه يُندل به. وقال الخطابيّ رحمه الله: إنّما ضرب النبيّ -صلى الله عليه وسلم- المثل بالمناديل؛ لأنها ليست من عِلّيّة الثِّياب، بل هي تُبتذل في أنواع من المرافق، ¬

_ (¬1) "النهاية" 2/ 362. (¬2) "الفتح" 11/ 471.

فتمسح بها الأيدي، وينفض بها الغبار عن البدن، ويُعطي به ما يُهدى في الأطباق، وتتخذ لِفافًا للثياب، فصار سبيلها سبيل الخادم، وسبيل سائر الثِّياب سبيل الخدوم، فإذا كان أدناها هكذا، فما الظَّنُّ بعلّيّتها. انتهى (¬1) (في الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا) قال القرطبيّ رحمه الله: هذه إشارة إلى أدنى ثياب سعد؛ لأن المناديل إنّما هي مُمتهنة مُتخذةٌ لمسح الأيدي بها من الدنس والوسخ، وإذا كان هذا حال المنديل، فما ظنك بالعمامة والحلّة؟. ولا يُظنّ أن طعام الجنّة وشَرابها فيهما ما يُدنّس يدَ المتناول حتّى يُحتاج إلى منديل، فإن هذا ظنّ من لا يعرف الجنّة، ولا طعامها، ولا شرابها؛ إذ قد نزّه الله الجنّة عن ذلك كلّه، وإنما ذلك إخبار بأن الله أعدّ في الجنّة كلّ ما كان يُحتاج إليه في الدنيا، لكن هي على حالة هي أعلى وأشرف، فأَعدَّ فيها أمشاطًا، ومَجَامرَ، وأُلُوّةً، ومناديل، وأسواقًا، وغير ذلك ممّا تعارفناه في الدنيا، وإن لم نحتج له في الجنّة إتمامًا للنعمة، وإكمالًا للمنّة. انتهى (¬2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (28/ 157) فقط، وأخرجه (البخاريّ) (3249) و (3802) و (5836) و (6640) و (مسلم) في (2468) و (الترمذي) (3847) و (النَّسائيُّ) في "فضائل الصّحابة" (8164) و (الطيالسيّ) في "مسنده" (710) و (ابن سعد) في "الطبقات" 3/ 435 و (أحمد) في "مسنده" في (18544) و (ابن حبّان) في ¬

_ (¬1) "الكاشف عن حقائق السنن" 12/ 3930 - 3931. (¬2) "المفهم" 6/ 384.

(7035) و (7036) و (البغويّ) في "شرح السنّة في (3981)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل سعد بن معاذ -رضي الله عنه-. 2 - (ومنها): أن في الجنَّة كلّ ما تشتهيه النفس، وتلذّ الأعين، من كلّ ما يحتاجه النَّاس في الدنيا. 3 - (ومنها): التزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة. 4 - (ومنها): ما كان عليه النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - من المحافظة على أمته حتّى لا يغترّوا بزخارف الدنيا، وينسوا الآخرة، وقد أخرج الشيخان في "صحيحيهما" من حديث عمرو بن عوف -رضي الله عنه-، في حديثه الطَّويل، وفيه: "فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسَط عليكم الدنيا كما بُسِطَت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتُهلككم كما أهلكتهم"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 158 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم -: "اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ -عَزَّ وَجَلَّ- لمِوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذِ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (عليّ بن محمّد) الطنافسيّ المذكور في الباب الماضي. 2 - (أبو معاوية) محمّد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة حافظ، من كبار [9] 1/ 3. 3 - (الأعمش) سليمان بن مِهْران المذكور في الباب الماضي. 4 - (أبو سفيان) طلحة بن نافع القُرَشيُّ مولاهم الإسكاف الواسطيّ، نزيل مكّة، صدوقٌ [4]. رَوَى عن جابر بن عبد الله، وأبي أَيّوب الأنصاري، وابن عمر، وابن عبّاس، وابن الزُّبير، وأنس، وعبيد بن عمير، وغيرهم.

وروى عنه الأعمش، وهو راويته، وأبو بِشر جعفر بن أبي وحشية، والمثنى بن سعيد، وحصين بن عبد الرّحمن، وابن إسحاق، وأبو بِشْر الوليد بن مسلم العنبري، وشعبة حديثًا واحدًا، وغيرهم. قال أحمد: ليس به بأس. وقال أبو زرعة: روى عنه النَّاس، قيل له: أبو الزُّبير أحب إليك أو هو؟ قال: أبو الزُّبير أشهر، فعاوده بعضُ من حَضر، فقال: الثقة شعبة وسفيان. وقال أبو حاتم: أبو الزُّبير أحب إلي منه. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: لا شيء. وقال أبو خيثمة عن ابن عيينة: حديث أبي سفيان عن جابر إنّما هي صحيفة، وكذا قال وكيع عن شعبة. وعند البخاريّ قال مسدد، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان: جاورت جابرًا بمكة ستة أشهر. وقال النَّسائيُّ: ليس به بأس. وقال ابن عديّ: لا بأس به، روى عنه الأعمش أحاديث مستقيمة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وروى له البخاري مقرونًا بغيره. وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل": قال أبي: لم يسمع من أبي أَيّوب. وفي "العلل الكبير" لعلّي بن الديني: أبو سفيان لم يَسْمَع من جابر إِلَّا أربعة أحاديث، وقال فيها: أبو سفيان يُكْتَب حديثه، وليس بالقوي. وقال أبو حاتم عن شعبة: لم يسمع أبو سفيان من جابر إِلَّا أربعة أحاديث. قال الحافظ: لم يُخرج البخاريّ له سوى أربعة أحاديث عن جابر، وأظنها الّتي عناها شيخه علي بن المديني، منها حديثان في "الأشربة" قَرَنه بأبي صالح، وفي "الفضائل" حديث "اهتز العرش" كذلك، والرّابع في تفسير "سورة الجمعة" قَرَنه بسالم ابن أبي الجعد. وقال أبو بكر البزار: هو في نفسه ثقة. أخرج الجماعة، وله في هذا الكتاب (26) حديثًا. 5 - (جابر) بن عبد الله الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما 1/ 11، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، إِلَّا شيخه، فتفرّد به هو والنَّسائيّ في "مسند عليّ - رضي الله عنه - ". 3 - (ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات الكوفيين، إلى الأعمش، وأبو سفيان واسطيّ، ثمّ مكيّ، وجابر -رضي الله عنه- مدنيّ ثمّ مكيّ. 4 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعي. 5 - (ومنها): أن فيه جابرًا -رضي الله عنه- أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ جَابِرٍ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ -عَزَّ وَجَلَّ- لمِوْتِ سَعْدِ ابْنِ مُعَاذ") أي فرَحًا بقدومه -رضي الله عنه-. قال النوويّ رحمه الله: اختلف العلماء في تأويله، فقالت طائفة: هو على ظاهره، واهتزاز العرش تحرُّكه فرَحًا بقدوم روح سعد، وجعل الله تعالى في العرش تمييزًا حصل به هذا، ولا مانع منه كما قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74]، وهذا القول هو ظاهر الحديث، وهو المختار. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الّذي قاله النوويّ رحمه الله حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم. وقال المازري: قال بعضهم: هو على حقيقته، وأن العرش تحرك لموته، قال: وهذا لا يُنكَر من جهة العقل؛ لأن العرش جسم من الأجسام، يَقْبَل الحركة والسكون، قال: لكن لا تحصل فضيلة سعد بذلك إِلَّا أن يقال: إن الله تعالى جَعَل حركته علامة للملائكة على موته. وقال آخرون: المراد اهتزاز أهل العرش، وهم حملته، وغيرهم من الملائكة،

والمراد بالاهتزاز الاستبشار والقبول، ومنه قول العرب: فلان يهتز للمكارم، لا يُريدون اضطراب جسمه وحركته، وإنما يريدون ارتياحه إليها، وإقباله عليها. وقال الحربيّ: هو كناية عن تعظيم شأن وفاته، والعرب تَنسُب الشيءَ المُعَظَّم إلى أعظم الأشياء، فيقولون: أظلمت لموت فلان الأرض، وقامت له القيامة. وقال جماعة: المراد اهتزاز سرير الجنازة، وهو النعش، وهذا القول باطلُ يَرُدُّه صريح هذه الروايات الّتي ذكرها مسلم: "اهتزّ لموته عرش الرّحمن"، وإنّما قال هؤلاء هذا التّأويل؛ لكونهم لم تبلغهم هذه الروايات الّتي في مسلم. والله أعلم. (¬1). [تنبيه]: أخرج الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى في "صحيحه" بعد إخراج حديث جابر -رضي الله عنه- هذا من طريق فُضيل بن مُسَاور خَتَن أبي عوانة، عن أبي عوانة، عن الأعمش، فقال: "وعن الأعمش حَدَّثَنَا أبو صالح، عن جابر، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مثله، فقال رجل لجابر: فإنّ البراء يقول: اهتزّ السرير، فقال: إنّه بين هذين الحيين ضَغَائنُ، سمعت النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اهتر عرش الرّحمن لموت سعد بن معاذ". قال في "الفتح": قوله: فقال رجل لجابر، لم أقف على اسمه، وقوله: فإن البراء يقول: اهتز السرير، أي الّذي حُمِل عليه، وقوله: إنّه كان بين هذين الحيين، أي الأوس والخزرج، قوله: ضغائن -بالضاد، والغين المعجمتين، جمع ضغينة- وهي الحقد، قال الخطابي: إنّما قال جابر ذلك؛ لأن سعدًا كان من الأوس، والبراء خزرجي، والخزرج لا تُقِرّ للأوس بفضل. قال الحافظ: كذا قال، وهو خطأ فاحش، فإن البراء أيضًا أوسيٌّ؛ لأنه ابن عازب ابن الحارث بن عَدِيّ بن مَجْدَعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس، يجتمع مع سعد بن معاذ في الحارث بن الخزرج، والخزرج والد الحارث بن الخزرج، وليس هو الخزرج الّذي يقابل الأوس، وإنّما سُمِّي على اسمه. ¬

_ (¬1) "شرح مسلم" 16/ 22.

نعم الّذي من الخزرج الذين هم مقابلو الأوس جابر، وإنما قال: جابر ذلك إظهارًا للحق، واعترافًا بالفضل لأهله، فكأنه تعجب من البراء، كيف قال ذلك مع أنه أوسيّ؟، ثمّ قال: أنا وإن كنت خزرجيا، وكان بين الأوس والخزرج ما كان لا يمنعني ذلك أن أقول الحق، فذكر الحديث. والعذر للبراء أنه لم يَقصِد تغطية فضل سعد بن معاذ، وإنّما فَهِمَ ذلك، فجَزَم به، هذا الّذي يَلِيق أن يُظَنَّ به، وهو دالّ على عدم تعصبه. ولما جَزَم الخطابي بما تقدّم احتاج هو ومن تبعه إلى الاعتذار عما صدر من جابر في حق البراء، وقالوا في ذلك: ما مُحَصَّلُهُ: إن البراء معذور، لأنه لم يَقُل ذلك على سبيل العداوة لسعد، وإنّما فَهِمَ شيئا محتملًا، فحمل الحديث عليه، والعذر لجابر أنه ظن أن البراء أراد الغض من سعد، فساغ له أن ينتصر له. والله أعلم. وقد أنكر ابنُ عمر ما أنكره البراء، فقال: إن العرش لا يهتز لأحد، ثمّ رجع عن ذلك، وجزم بأنه اهتز له عرش الرّحمن، أخرج ذلك ابن حبّان من طريق مجاهد عنه. والمراد باهتزاز العرش استبشاره وسروره بقدوم روحه، يقال لكل من فَرِحَ بقدوم قادم عليه اهتز له، ومنه اهتزت الأرض بالنبات، إذا اخضَرَّت، وحَسُنت، ووقع ذلك من حديث ابن عمر عند الحاكم بلفظ: "اهتَزّ العرش فرحا به"، لكنه تأوله كما تأوله البراء بن عازب، فقال: اهتز العرش فرحًا بلقاء الله سعدًا حتّى تفسخت أعواده على عواتقنا، قال ابن عمر -يعني عرش سعد الّذي حُمِل عليه- وهذا من رواية عطاء ابن السائب، عن مجاهد، عن ابن عمر، وفي حديث عطاء مقال، لأنه ممّن اختلط في آخر عمره، ويعارض روايته أيضًا ما صححه التّرمذيّ، من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: لمّا حُملت جنازة سعد بن معاذ، قال المنافقون: ما أخفّ جنازته؟ فقال النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "إن الملائكة كانت تحمله". قال الحاكم:. الأحاديث الّتي تُصَرِّح باهتزاز عرش الرّحمن مُخَرَّجة في "الصحيحين"، وليس لمعارضها في الصّحيح ذكر، انتهى.

وقيل: المراد باهتزاز العرش اهتزاز حملة العرش، ويؤيده حديث: "إن جبريل قال: من هذا الميِّت الّذي فُتحت له أبواب السَّماء، واستبشر به أهلها"، أخرجه الحاكم. وقيل: هي علامةٌ نَصَبَها الله لموت من يموت من أوليائه لِيُشعِر ملائكته بفضله. وقال الحربيّ: إذا عَظَّموا الأمر نسبوه إلى عظيم، كما يقولون: قامت لموت فلان القيامة، وأظلمت الدنيا، ونحو ذلك. وفي هذه منقبة عظيمة لسعد -رضي الله عنه-، وأما تأويل البراء -رضي الله عنه- على أنه أراد بالعرش السرير الّذي حُمِل عليه، فلا يستلزم ذلك فضلا له؛ لأنه يَشْرَكُه في ذلك كلُّ ميت إِلَّا أن يريد اهتز حملةُ السرير فرحًا بقدومه على ربه فيتجه. ووقع لمالك نحوُ ما وقع لابن عمر أوّلًا، فذكر صاحب "العتبية" فيها أن مالكا سُئل عن هذا الحديث، فقال: أنهاك أن تقوله، وما يدعو المرءَ أن يتكلم بهذا، وما يدري ما فيه من الغُرور، قال أبو الوليد بن رُشْد في "شرح العتبية": إنّما نَهَى مالك لئلا يَسبِق إلى وهم الجاهل أن العرش إذا تحرك يتحرك الله بحركته كما يقع للجالس منا على كرسيه، وليس العرش بموضع استقرار الله تبارك الله وتَنَزّه عن مشابهة خلقه، انتهى ملخصا. قال الحافظ: والذي يظهر أن مالكا ما نَهَى عنه لهذا؛ إذ لو خشي من هذا لما أسند في "الموطإ" حديث: "يَنْزل الله إلى سماء الدنيا ... " لأنه أصرح في الحركة من اهتزاز العرش، ومع ذلك فمعتقد سلف الأئمة، وعلماء السنة من الخلف أن الله مُنَزَّه عن الحركة والتحول والحلول، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]. ويحتمل الفرق بأن حديث سعد ما ثبت عنده، فأمر بالكف عن التحدث به، بخلاف حديث النزول، فإنّه ثابت، فرواه ووَكَلَ أمره إلى فهم أولي العلم الذين يسمعون في القران {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] ونحو ذلك. وقد جاء حديث اهتزاز العرش لسعد بن معاذ -رضي الله عنه- عن عشرة من الصّحابة -رضي الله عنهم-، أو

أكثر، وثبت في "الصحيحين" فلا معنى لإنكاره (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث جابر -رضي الله عنه- هذا متّفق عليه. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (28/ 158) فقط، وأخرجه (سعيد بن منصور) (2963) و (ابن سعد) في "الطبقات" 3/ 433 - 434 و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" 2/ 142 و (عبد الرزّاق) في "مصنفه" (6747) و (أحمد) في "مسنده" 3/ 316 و 295 و 349 و (البخاريّ) 5/ 44 و (مسلم) 7/ 150 و (التِّرمذيِّ) (3848) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (7031 و 7029) و (الطَّبرانيُّ) (5335 و 5337 و 5338 و 5339) و (البغويّ) في "شرح السنة" (3980)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. ¬

_ (¬1) "فتح" 7/ 154 - 156.

30 - فضل جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه -

30 - (فَضْلُ جَرِيرٍ بْنِ عَبْدِ الله الْبَجَلِيِّ) -رضي الله عنه- هو: جرير بن عبد الله بن جابر بن مالك بن نَضْر بن ثَعْلبة بن جُشَم بن عَوْف بن خزيمة بن حرب بن علي البجلي الصحابي الشهير، يُكنى أبا عمرو، وقيل: يُكنى أبا عبد الله، اختُلف في وقت إسلامه، ففي الطَّبرانيُّ "الأوسط" من طريق حُصين بن عمر الأحمسي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير، قال: لمّا بُعِث النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- أتيته، فقال: "ما جاء بك؟ "، قلت: جئت لأسلم، فألقى إليَّ كساءه، وقال: "إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه"، حصين فيه ضعف، ولو صح لَحُمِل على المجاز، أي لمّا بلغنا خبر بعث النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، أو على الحذف، أي لما بُعِث النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ثمّ دعا إلى الله، ثمّ قدم المدينة، ثمّ حارب قريشًا وغيرهم، ثمّ فَتَحَ مكّة، ثمّ وَفَدت عليه الوفود. وجزم ابنُ عبد البرّ عنه بأنه أسلم قبل وفاة النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- بأربعين يومًا، وهو غلط، ففي "الصحيحين" عنه أن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال له: "استَنْصِتِ الناسَ" في حجة الوداع، وجزم الواقدي بأنه وَفَد على النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- شهر رمضان سنة عشر، وأن بعثه إلى ذي الْخَلَصَة كان بعد ذلك، وأنه وافي مع النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع من عامه. قال الحافظ: وفيه عندي نظر؛ لأن شريكًا حدَّث عن الشيباني، عن الشّعبيّ، عن جرير قال: قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أخاكم النجاشي قد مات ... " الحديث، أخرجه الطَّبرانيُّ، فهذا يدلُّ على أن إسلام جرير كان قبل سنة عشر، لأن النجاشي مات قبل ذلك. قاله في "الإصابة". وقال في "الفتح": والصّحيح أنه أسلم سنة الوفود سنة تسع، ووَهِمَ من قال: إنّه أسلم قبل موت النبي -صلى الله عليه وسلم- بأربعين يومًا؛ لما ثبت في "الصّحيح" أن النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال له: "استنصت النَّاس" في حجة الوداع، وذلك قبل موته -صلى الله عليه وسلم- بأكثر من ثمانين يومًا. انتهى (¬1). وكان جرير جَمِيلًا، قال عمر: هو يوسف هذه الأمة، وقَدَّمه عمر في حروب ¬

_ (¬1) "الفتح" 7/ 164.

العراق على جميع بَجِيلة، وكان لهم أثرٌ عظيمٌ في فتح القادسية، ثمّ سكن جرير الكوفة، وأرسله عليٌّ رسولا إلى معاوية، ثمّ اعتزل الفريقين، وسكن قرقيسيا حتّى مات سنة إحدى، وقيل: أربع وخمسين. وفي "الصّحيح" أنه -صلى الله عليه وسلم- بعثه إلى ذي الْخَلَصة، فهدمها، وفيه عنه قال: ما حجبني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذ أسلمت، ولا رآني إِلَّا تبسم. وروى البغوي من طريق قيس، عن جرير قال: رآني عمر مُتَجَرِّدًا، فقال: ما أرى أحدًا من النَّاس صُوِّر صورة هذا إِلَّا ما ذُكر من يوسف. ومن طريق إبراهيم بن إسماعيل الكهيليّ، قال: كان طول جرير ستة أذرع. وروى الطَّبرانيُّ من حديث عليّ مرفوعًا: "جرير منا أهل البيت ... ". وروى عنه من الصّحابة أنسُ بن مالك، قال: كان جرير يَخدُمني، وهو أكبر مني، أخرجه الشيخان (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 159 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِم، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الله الْبَجَليِّ، قَالَ: مَا حَجَبَنِي رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَا رَآنِي إِلا تَبَسَّمَ في وَجْهِي، وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ أَنِّي لَا أثبُتُ عَلَى الخَيْلِ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ في صَدْرِي، فَقَالَ: "اللِّهُمَّ ثَبِّتْهُ، وَاجْعَلْهُ هَادِيّا مَهْدِيًّا"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (محمّد بن عبد الله بن نُمير) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقة حافظ فاضلٌ [10] 1/ 4. 2 - (عبد الله بن إدريس) الأوديّ، أبو محمّد الكوفيّ، ثقة فقيهُ عابدٌ [8] 7/ 52. 3 - (إسماعيل بن أبي خالد) الْبَجَليّ الأحصيّ مولاهم، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة ثبتٌ [4] 13/ 13. ¬

_ (¬1) راجع "الإصابة" 1/ 581 - 583.

4 - (قيس بن أبي حازم) البجليّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة مخضرم [2] 13/ 13. 5 - (جرير بن عبد الله) الصحابيّ المذكور -رضي الله عنه-. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنِّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات الكوفيين. 3 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعي مخضرم. 4 - (ومنها): أن قيسًا هو الّذي اجتمع له الرِّواية عن العشرة المبشّرين بالجنّة -رضي الله عنهم- كلّهم، ولا يوجد من التابعين من اتّفق له ذلك غيره. 5 - (ومنها): أن صحابيّه -رضي الله عنه- كان يقال له: يوسف هذه الأمة في الجمال، والله تعالى أعلم. شرح الحديث (عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الله) -رضي الله عنه- (الْبَجَليِّ) بفتحتين نسبة إلى قبيلة بَجِيلة -بفتح، فكسر- وهو ابن أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث أخي الأسد بن الغوث، وقيل: إن بَجِيلة اسم أمهم، وهي من سعد الْعَشِيرة، وأختها باهلة، وَلَدتا قبيلتين عظيمتين، نزلت بالكوفة. قاله السمعانيّ (¬1)، أنه (قَالَ: مَا حَجَبَني رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-) معناه: ما منعني الدخول عليه في وقت من الأوقات. قاله النوويّ رحمه الله (¬2). وقال القرطبي رحمه الله: يعني أنه -صلى الله عليه وسلم- ما كان يحتجب منه، بل بنفس ما يعلم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- باستئذانه ترك كلَّ ما يكون فيه، وأذِن له، مبادرًا لذلك مبالغةً في إكرامه، ولا يُفهم من هذا أن جريرًا كان يدخل على النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بيته من غير إذن، فإن ذلك لا يصحّ؛ لحرمة بيت النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ولما يُفضي ذلك إليه من الاطّلاع على ما لا يجوز من عورات البيوت. ¬

_ (¬1) "الأنساب" 1/ 297. (¬2) "شرح مسلم" 16/ 34 - 35.

انتهى (¬1). وقال في "الفتح": قوله: "ما حجبني إلخ": أي ما منعني من الدخول إليه إذا كان في بيته، فاستأذنت عليه، وليس كما حمله بعضهم على إطلاقه، فقال: كيف جاز له أن يدخل على غير محرم بغير حجاب؟ ثمّ تكلّف في الجواب أن المراد مجلسه المختصّ بالرجال، أو أن المراد بالحجاب منه ما يطلبه منه، قال الحافظ: قوله: "ما حجبني" يتناول الجميع مع بُعد إرادة الأخير. انتهى (¬2). قوله: (مُنْذُ أَسْلَمْتُ) ظرف لـ "حجبني" (وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ في وَجْهِي) وفي رواية البخاريُّ: "إِلَّا ضحك"، ومعنى "ضحِك" تبسّم، وفعل ذلك إكرامًا ولُطفَا، وبَشَاشةً، قاله النووي، وقال القرطبيّ: هذا منه -صلى الله عليه وسلم- فَرَحٌ به، وبشاشةٌ للقائه، وإعجابٌ برؤيته، فإنّه كان من كَمَلَة الرجال خَلْقًا وخُلُقًا. انتهى (¬3). وأخرج الإمام أحمد في "مسنده" بسند صحيح، عن المغيرة بن شِبْل قال: قال جرير: لمّا دَنَوت من المدينة أَنخْتُ راحلتي، ثمّ حَلَلت عَيْبتي، ثمّ لبست حُلَّتي، ثمّ دخلت المسجد، فإذا النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- يخطب، فرماني النَّاس بالحَدَق، قال: فقلت لجليسي: يا عبد الله هل ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أمري شيئًا؟ قال: نعم ذكرك بأحسن الذكر، بينما هو يخطب إذ عرض له في خطبته، فقال: "إنّه سيدخل عليكم من هذا الْفَجّ من خير ذي يمن، أَلَا وإن على وجهه مَسْحَةَ مَلَك"، قال جرير: فحمدت الله -عَزَّ وَجَلَّ- على ما أبلاني (¬4). (وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ) أي إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- (أَنِّي) بفتح الهمزة؛ لوقوعها مفعولًا به (لَا أَثْبُتُ عَلَى الخَيْلِ) يعني أنه كان يسقط، أو يخاف السقوط من على ظهورها حالة ¬

_ (¬1) "المفهم" 6/ 403. (¬2) "الفتح" 7/ 164. (¬3) "المفهم " 6/ 403. (¬4) رواه أحمد في "مسنده" 4/ 360 - 364 والحميديّ في "مسنده" (800).

إجرائها. قاله القرطبيّ رحمه الله (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "أو يخاف السقوط إلخ" فيه نظر؛ إذ ظاهر النصّ لا يساعده. والله تعالى أعلم. (فَضَرَبَ) -صلى الله عليه وسلم- (بِيَدِهِ في صَدْرِي) وفي حديث البراء -رضي الله عنه- عند الحاكم: "فشكا جرير إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الْقَلَع، فقال: ادْنُ منّي، فدنا منه، فوضع يده على رأسه، ثمّ أرسلها على وجهه وصدره حتّى بلغ عانته، ثمّ وضع يده على رأسه وأرسلها على ظهره حتّى انتهت إلى أبيته، وهو يقول مثل قوله الأوّل"، فكان ذلك للتبرّك بيده المباركة. [فائدة]: "القلع" بالقاف، ثمّ اللام قال في "القاموس": القلع محّركةً مصدر قَلِعَ كفَرِحَ قَلَعَةً محرَّكةً، فهو قِلْعٌ بالكسر، وكَكَتِفٍ، وطُرْفَةٍ، وهُمَزَةٍ، وجُبُنَّةٍ، وشَدَّاد: إذا لم يثبت على السرج، أو لم يثبُت قدمه عند الصراع، أو لم يفهم الكلام بلادةً. انتهى باختصار (¬2). (فَقَالَ) -صلى الله عليه وسلم- ووقع في حديث البراء - رضي الله عنه - أنه قال ذلك في حال إمرار يده عليه في المرّتين. ("اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ، وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا") زاد في حديث البراء: "وبارك فيه، وفي ذرّيّته"، قيل: في الكلام تقديم وتأخير؛ لأنه لا يكون هاديًا حتّى يكون مهديًّا، وقيل: معناه كاملًا مكمّلًا. قاله في "الفتح" (¬3). قال القرطبيّ رحمه الله: دعا له النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بأكثر ممّا طلب، بالثبوت مطلقًا، وبأن يجعله هاديًا لغيره، ومهديًّا في نفسه، فكان كلُّ ذلك، وظهر عليه جميع ما دعا له به، وأوّل ذلك أنه نَفَرَ في خمسين ومائة فارس لذي الْخَلَصَة، فحرّقها، وعَمِلَ فيها عَمَلًا لا يعمله خمسة آلاف، وبعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لذي الْكَلاع، وذِي رُعَين، وله المقامات المشهورة. ¬

_ (¬1) "المفهم" 6/ 403 - 404. (¬2) ما نقله في "الفتح" عن الجوهريّ وغيره يحتاج إلى تحرير، وكذا وقع في "النهاية" لابن الأثير، فتأمل. (¬3) "الفتح" 8/ 91.

[تنبيه]: قصّة ذي الْخَلَصة لم يسقها المصنّف، وقد ساقها الشيخان في "صحيحيهما"، قال الإمام البخاريّ رحمه الله: 3076 - حَدَّثَنَا محمّد بن المثنى، حَدَّثَنَا يحيى، حَدَّثَنَا إسماعيل، قال: حدثني قيس، قال: قال لي جرير بن عبد الله -رضي الله عنه-: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألَّا تريحني من ذي الخلصة؟ ". وكان بيتًا في خَثْعَم يُسَمَّى كعبة اليمانية، فانطلقت في خمسين ومائة من أحمس، وكانوا أصحاب خيل، فأخبرت النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- أني لا أثبت على الخيل، فضرب في صدري حتّى رأيت أثر أصابعه في صدري، فقال: "اللَّهُمَّ ثَبِّته، واجعله هاديًا مهديًّا"، فانطلق إليها فكسرها وحرقها، فأرسل إلى النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- يبشره، فقال رسول جرير لرسول الله: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما جئتك حتّى تركتها كأنها جَمَلٌ أجرب، فبارك على خيل أَحْمَسَ ورجالها خمس مرات. وقال الإمام مسلم: 2476 - حَدَّثَنَا إسحاق بن إبراهيم، أَخْبَرَنَا جرير، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله البجلي قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا جرير ألَّا تُرِيحني من ذي الْخَلَصَة؟ " بيت لخثعم، كان يُدعى كعبة اليمانية، قال: فنفرت في خمسين ومائة فارس، وكنتُ لا أثبت على الخيل، فذكرت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فضرب يده في صدري، فقال: "اللَّهُمَّ ثَبِّته، واجعله هاديًا مهديًّا". قال: فانطلق فحرقها بالنار، ثمّ بَعَثَ جرير إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلًا يبشره، يكنى أبا أرطاة -منا- فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال له: ما جئتك حتّى تركناها كأنها جمل أجرب، فَبَرَّك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على خيل أحمس ورجالها خمس مرات. وقال في رواية: فجاء بشير جرير، أبو أرطاة حُصَين بن رَبِيعة يبشر النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: "يدعى كعبة اليمانية" سموها بذلك مضاهة للكعبة الشريفة، وهي

بالنسبة لمن يكون جهة اليمن شاميّة، فسمّوها شاميّة للفرق بينهما (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع المآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث جرير بن عبد الله هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (29/ 159) بهذا السند فقط، وأخرجه (البخاريّ) في 4/ 79 و5/ 94 و 8/ 29 وفي "الأدب المفرد" له (520) و (مسلم) في 7/ 157 و (الترمذيّ) في (3820 و 3821) وفي "الشمائل" له (230 و 231) و (النَّسائيّ) في "الفضائل" (198) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (7200 و 7201) و (الطبرانيّ) (2219 و 2220 و 2222 و 2223 و 2254)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل جرير بن عبد الله -رضي الله عنه-. 2 - (ومنها): ما كان عليه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من حسن الخلق، وطيب المعاملة للناس، فكان يُنزل كلَّ أحد منزلته، فلما كان جرير -رضي الله عنه- شريفًا في قومه خصّه بمزايا اللطف والإكرام، فكان لا يحجُبُه إذا جاءه، ويتبسّم في وجهه إذا رآه. 3 - (ومنها): أن فيه معجزة للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- حيث دعا لجرير -رضي الله عنه- بأن يثبت على الخيل، فما أصابه بعد سقوط ولا ميل. 4 - (ومنها): أن فيه منقبة لقبيلة أحمس، حيث دعا النَّبي -صلى الله عليه وسلم- لخليها ورجالها خمس مرّات، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" جـ 8 ص 90 ففيه بحث نفيس.

31 - فضل أهل بدر - رضي الله عنه -

31 - (فَضْلُ أَهْلِ بَدْرٍ) -رضي الله عنه- أي هذا باب بيان فضل من حضر بدرًا مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مقاتلًا للمشركين، قال في "الفتح" عند قول البخاريّ: "باب فضل من شَهِد بدرًا": ما نصّه: وكأن المراد بيان أفضليّتهم، لا مطلق فضلهم، انتهى (¬1). و"بَدْرٌ" -بفتح الموحّدة، وسكون الدال المهملة-: اسم قرية مشهورة، نُسبت إلى بدر بن مخلد بن النضر بن كِنَانة، كان نزلها، ويُقال: بدر بن الحارث، ويقال: بدر اسم البئر الّتي بها، سُمّيت بذلك لاستدارتها، أو لصفاء مائها، فكان البدر يُرى فيها، وحَكَى الواقديّ إنكار ذلك كلّه عن غير واحد من شُيُوخ بني غِفَار، وإنّما هي مأوانا ومنازلنا، وما ملكها أحد قط يقال له: بدر، وإنّما هو عَلَمٌ عليها كغيرها من البلاد. قاله في "الفتح" (¬2)، والله تعالى بالصواب. وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 160 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ، أَوْ مَلَكٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: مَا تَعُدُّونَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا فِيكُمْ؟ قَالُوا: "خِيَارَنَا"، قَالَ: كَذَلِكَ هُمْ عِنْدَنَا خِيَارُ المُلَائِكَةِ"). رجال هذا الإسناد: سبعة: 1 - (أبو كُريب) محمّد بن العلاء الهمدانيّ الكوفيّ، ثقة ثبت حافظ [10] 8/ 52. 2 - (يحيى بن سعيد) الأنصاريّ المدنيّ القاضي، ثقة ثبت [5] 3/ 29. 3 - (عباية -بفتح أوّله، والموحّدة الخفيفة، وبعد الألف تحتانيّة خفيفة- ابن رِفَاعة) ابن رافع بن خَدِيج الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو رِفَاعة المدنيّ، ثقة [3]. ¬

_ (¬1) "الفتح" 7/ 381. (¬2) "الفتح" 7/ 356.

رَوَى عن جده، وعن أبيه عن جده على خلاف في ذلك، وعن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأبي عَبْس بن جَبْر. ورَوَى عنه سعيد بن مسروق الثّوريّ، وأبو حَيّان يحيى بن سعيد التيميّ، ويزيد ابن أبي مريم الشامي، وأبو بِشْر جعفر بن أبي وَحْشِيّة، وعاصم بن كُليب، ومحُارب بن دِثَار وجماعة. قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة، وكذا قال النَّسائيُّ. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط برقم 160 و 3137 و 3178 و 3183 و 3473. 4 - (جدّه) رافع بن خَدِيج بن رافع بن عَدِيّ بن يزيد بن جُشَم بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاريّ الأوسيّ الحارثيّ، أبو عبد الله، ويقال: أبو خَدِيج، أمّه حليمة بنت مسعود بن سنان بن عامر من بني بياضة، عُرض على النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يوم بَدْر، فاستصغره، وأجازه يوم أحد، فخرج بها، وشَهِد ما بعدها. وروى عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وعن عمه ظهير بن رافع، وعم آخر لم يسمه، وعن أبي رافع، ولعلّه عمه الآخر، وعنه ابنه عبد الرّحمن، وابنه رفاعة على خلاف فيه، وحُفَداؤه: عبايةُ بن رفاعة، وعيسى، ويقال: عثمان بن سهل، وهُرَير بن عبد الرّحمن، وابن أخيه يحيى بن إسحاق، وابن عمه، ويقال: ابن أخيه أُسيد بن ظُهير، وثابت بن أنس بن ظُهير، ومولاه أبو النجاشيّ، والسائب بن يزيد، وسعيد بن المسيَّب، وسليمان بن يسار، وحنظلة بن قيس، ونافع مولى ابن عمر، ونافع بن جبير بن مطعم، وواسع ابن حَبّان، ومحمد بن يحيى بن حَبّان، ومحمود بن لبيد، وأبو سلمة بن عبد الرّحمن، وعبد الله بن عمرو بن عثمان، وغيرهم، وأرسل عنه الزّهريُّ. قال يحيى بن بكير: مات أول سنة (73)، وقال الواقديّ: مات في أول سنة (74) وحَضَر ابنُ عمر جنازته، وكذا أَرَّخه خليفةُ، وابنُ نُمَير. وقال البخاريّ في "تاريخه":

مات في زمن معاوية، وذكره في "التاريخ الأوسط" في فصل من مات من الخمسين إلى الستين، وأَرَّخه ابنُ قانع سنة (59). فالله أعلم. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (19) حديثًا. وأما عليّ بن محمّد شيخ المصنّف فقد تقدّم قبل باب، وأما وكيع، وسفيان -وهو الثوريّ- فقد تقدّما قبل ثلاثة أبواب، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سُداسيات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين إلى سفيان، وما بعده مسلسل بالمدنيين. 3 - (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعي: يحيى عن عباية، ورواية الراوي عن جدّه. 4 - (ومنها): أن عباية وجدّه هذا أول محلّ ذكرهما من الكتاب، وروى المصنّف لعباية خمسة أحاديث فقط، ولجدّه (19) حديثًا، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَبَايَةَ) بفتح العين المهملة، وتخفيف الموحّدة (ابْنِ رِفَاعَةَ) بكسر الراء (عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) بفتح الخاء المعجمة، وكسر الدال، أنه (قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ) عليه السلام (أَوْ) للشكّ من الراوي (مَلَكٌ) هو جبريل، وفي رواية البخاريّ من طريق يحيى، عن معاذ بن رفاعة بن رافع، عن أبيه، قال: جاء جبريل بدون شكّ (إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: مَا) استفهاميّة (تَعُدُّونَ) بفتح أوله، وضم ثانيه، من العدّ (مَنْ شَهِدَ) بكسر الهاء (بَدْرًا) أي وقعة بدر (فِيكُمْ؟) أي في المسلمين (قَالُوا) هكذا عند المصنّف بواو الجماعة، وعند البخاريّ: "قال" بالإفراد، وهو واضح، أي قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ولما هنا أيضًا وجه، وهو أنه لما أجاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فكأن الصّحابة أجابوا معه، حيث إنهم مصدّقون له فيما يقوله ("خِيَارَنَا") بالنصب مفعول لفعل محذوف دلّ عليه السؤال، أي نعدّهم خيارنا، ويحتمل أن يكون بالرفع خبرًا لمبتدإ محذوف، أي هم خيارنا، ولفظ البخاريّ: "من

أفضل المسلمين" أو كلمة نحوها (قَالَ) أي جبريل عليه السلام، أو ذلك الملك (كَذَلِكَ هُمْ) أي الملائكة الذين حضروا بدرًا (عِنْدَنَا) أي معاشر الملائكة (خِيَارُ الْمُلَائِكَةِ) عليهم السّلام، ولفظ البخاريّ: "وكذلك من شَهِد بدرًا من الملائكة"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث رافع بن خديج رضي الله عنها هذا أخرجه البخاريّ، من طريق جرير بن عبد الحميد، عن يحيى بن سعيد، عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزُّرقيّ، عن أبيه -وكان أبوه من أهل بدر- وأخرجه أيضًا من طريق حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد بالإسناد المذكور، وأخرجه أيضًا من طريق يزيد بن هارون، عن يحيى بالإسناد المذكور. قال الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" 16/ 207 - 208 بعد أن أخرج الحديث من طريق سفيان بسند المصنّف: ما نصّه: قال أبو حاتم: رَوَى الخبر جرير بن عبد الحميد، عن يحيى بن سعيد، عن معاذ بن رِفاعة بن رافع، عن أبيه -وكان أبوه وجدّه من أهل العقبة- قال: أتى جبريل النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وقد رواه سفيان الثوريّ، عن يحيى ابن سعيد، عن عباية بن رفاعة، عن جدّه رافع بن خَدِيج، وسفيانُ أحفظ من جرير، وأتقن، وأفقه، كان إذا حفظ الشيء لم يُبالِ بمن خالفه. انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أنه لا وجه لترجيح ابن حبّان رواية سفيان، فإن جريرًا لم ينفرد في ذلك، بل تابعه عليه حماد بن زيد، ويزيد بن هارون، ولذا أخرجه البخاريّ من طريقهم، فتأمّل. وقال البوصيريّ رحمه الله: بعد أن ساق حديث المصنّف: ما نصّه أخرجه البخاريّ في "باب فضل من شهِدَ بدرًا" من حديث يحيى بن سعيد، عن معاذ بن رفاعة ¬

_ (¬1) "الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبّان" 16/ 207 - 208.

ابن رافع، عن أبيه، فإن كان محفوظًا، فيجوز أن يكون ليحيى بن سعيد فيه شيخان، فإن الجميع ثقات. انتهى (¬1). والحاصل أن الحديث صحيح بالطريقين، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (30/ 160) بهذا السند فقط، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" 3/ 465 و (عبد بن حُميد) في "مسنده" (425) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (7224) و (الطبرانيّ) في "الكبير" 5/ 401 حديث (3704). وأخرجه (البخاريّ) من حديث رفاعة بن رافع الزرقيّ (5/ 103) و (البغوي) في "شرح السنّة" (3993) و (الطبرانيّ) (4455)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل أهل بدر -رضي الله عنهم- على سائر الصّحابة -رضي الله عنهم-. 2 - (ومنها): أن جبريل وغيره من الملائكة قد حضروا وقعة بدر، وفي "صحيح البخاريّ" من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال يوم بدر: "هذا جبريل آخذ برأس فرسه، عليه أداة الحرب"، وذكر ابن إسحاق أن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- في يوم بدر خَفَقَ خَفْقَةً، ثمّ انتبه، فقال: "أَبْشِر يا أبا بكر أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه الغبار"، وأخرج سعيد بن منصور من مرسل عطية بن قيس: "أنّ جبريل أتى النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- بعد ما فرغ من بدر، على فرس حمراء، معقودة الناصية، قد تخضب الغبار بثنيته، عليه درعه، وقال: يا محمّد إن الله بعثني إليك، وأمرني أن لا أُفارقك حتّى ترضى، أفرضيت؟ قال: نعم". وأخرج يونس بن بكير في زيادات "المغازي" والبيهقي من طريق الربيع بن أنس قال: كان النَّاس يوم بدر يعرفون قَتْلَى الملائكة من قَتْلَى النَّاس ¬

_ (¬1) "مصباح الزجاجة" ص 50.

بضرب فوق الأعناق، وعلى البنان، مثل وَسْمِ النّار، وفي "مسند إسحاق" عن جُبير بن مُطْعِم قال: رأيت قبل هَزِيمة القوم ببدر مثل النجاد الأسود، أقبل من السَّماء كالنمل، فلم أشك أنها الملائكة، فلم يكن إِلَّا هزيمة القوم، وعند مسلم من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما بينما رجل مسلم يَشْتَدّ في أثر رجل مشرك إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس ... الحديث، وفيه: فقال: النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "ذلك مَدَدٌ من السَّماء الثّالثة". وعند ابن إسحاق من حديث أبي واقد الليثيُّ -رضي الله عنه- قال: إنِّي لأَتَّبعُ يوم بدر رجلًا من المشركين لأضربه فوقع رأسه قبل أن يَصِلَ إليه سيفي، وعند البيهقي من طريق ابن محمّد بن جُبير بن مطعم أنه سمع عليا -رضي الله عنه- يقول: هَبَّت ريح شديدة لم أَرَ مثلها، ثمّ هبت ريح شديدة وأظنه ذكر ثالثة، فكانت الأولى جبريل، والثّانية ميكائيل، والثالثة إسرافيل، وكان ميكائيل عن يمين النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وفيها أبو بكر، وإسرافيل عن يساره وأنا فيها، ومن طريق أبي صالح عن علي -رضي الله عنه- قال: "قيل لي ولأبي بكر يوم بدر مع أحدكما جبريل، ومع الآخر ميكائيل، وإسرافيل ملك عظيم يحضر الصف ويشهد القتال"، وأخرجه أحمد، وأبو يعلى، وصححه الحاكم. [فائدة]: قال: الشّيخ تقي الدين السبكي رحمه الله: سئلت عن الحكمة في قتال الملائكة مع النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- مع أن جبريل عليه السلام قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه، فقلت: وقع ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم-، وتكون الملائكة مَدَدًا على عادة مَدَدِ الجيوش رعايةً لصورة الأسباب وسنتها الّتي أجراها الله تعالى في عباده، والله تعالى هو فاعل الجميع، انتهى (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 7/ 390 - 391.

31 - فضائل الصحابة -رضي الله عنهم -

31 (*) - (فَضَائِلُ الصَّحَابَةَ -رضي الله عنهم-) هكذا وقع في بعض النسخ، كما أشار إليه في النسخة الهنديّة، وهو الأولى، ووقع في بعض النسخ دون ترجمة، وفي نسخة "مصباح الزجاجة": "فضائل جميع الصّحابة"، والله تعالى أعلم بالصواب. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 161 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ (ح) وحَدَّثَنَا عِليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ جَمِيعًا عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ"). رجال هذا الإسناد: تسعة: 1 - (محمّد بن الصبّاح) بن سفيان الْجَرْجَرَائيّ، أبو جعفر التاجر، صدوقٌ [10] 1/ 2. 2 - (جرير) بن عبد الحميد الضبّيّ الكوفيّ، قاضي الرّيّ، ثقة، صحيح الكتاب [8] 1/ 2. 3 - (أبو كُريب) محمّد بن العلاء الهمدانيّ الكوفيّ، ثقة حافظ [10] 8/ 52. 4 - (أبو صالح) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقة ثبتٌ [3] 1/ 1. 5 - (أبو سعيد الخدريّ) سعد بن مالك بن سنان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما 4/ 37. [تنبيه]: وقع في بعض النسخ "عن أبي هريرة" بدل "عن أبي سعيد"، وهو غلط، كما سيأتي تحقيقه قريبًا، إن شاء الله تعالى. وأما الباقون فقد تقدّموا قريبًا، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف.

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: كذا بالمطبوع، والباب الذي قبله رقمه (31) أيضا

2 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين إلى الأعمش، وشيخه جرجرائيّ بلد بين واسط وبغداد، والباقيان مدنيّان. 3 - (ومنها:) أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. 4 - (ومنها): أن شيخه أبا غريب أحد مشايخ الجماعة من غير واسطة. 5 - (ومنها): أن شيخه محمّد بن الصبّاح من أفراده. 6 - (ومنها): أن فيه كتابةَ (ح) إشارة إلى الانتقال من سند إلى سند آخر، فللمصنّف في هذا الحديث ثلاثة أسانيد: محمّد بن الصبّاح، عن جرير، وعليّ بن محمّد، عن وكيع، وأبو كُريب، عن أبي معاوية، وكلٌّ من جرير، ووكيع، وأبي معاوية يروي عن الأعمش، وقد تقدّم تمام البحث في هذه الحاء، فلا تغفل. 7 - (ومنها): أن فيه أبا معاوية أحفظ من روى لحديث الأعمش، إِلَّا أن يكون الثوريّ، والأعمش من أكثر من روى عن أبي صالح، يقال: روى عنه ألف حديث. 8 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. 9 - (ومنها): أن أبا سعيد -رضي الله عنه- أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدْرِيِّ) -رضي الله عنه-. [تنبيه]: وقع في هذا الإسناد اختلاف، ففي بعض النسخ "عن أبي سعيد"، وفي بعضها "عن أبي هريرة"، والأول هو الصواب، كما حقّقه الحافظ أبو الحجاج المزيّ رحمه الله في "تحفة الأشراف" 3/ 342 - 344، والحافظ في "الفتح" 7/ 44 - 46، وقد أحببتُ إيراد بحثه؛ لأنه أجمع وأوعب، فدونك عبارته: قال رحمه الله عند قول الإمام البخاريّ رحمه الله بعد إخراج الحديث عن آدم بن أبي إياس، عن شعبة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه-، قال: قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "لا تسبّوا أصحابي ... الحديث: ما نصّه:

تابعه جريرٌ، وعبد الله بن داود، وأبو مُعاوية، ومُحاضر، عن الأعمش. انتهى. قال الحافظ: قوله: تابعه جرير، هو ابن عبد الحميد، وعبد الله بن داود، هو الْخُريبيّ -بالمعجمة والموحدة، مصغرٌ- وأبو معاوية هو الضرير، ومحُاضر -بمهملة، ثمّ معجمة بوزن مجاهد- عن الأعمش، أي عن أبي صالح، عن أبي سعيد. فأمّا رواية جرير فوصلها مسلم، وابن ماجة، وأبو يعلى، وغيرهم. وأما رواية محُاضر فرويناها موصولة في "فوائد أبي الفتح الحداد" من طريق أحمد ابن يونس الضبيّ، عن محاضر المذكور، فذكره مثل رواية جرير، لكن قال: "بين خالد ابن الوليد وبين أبي بكر، بدل عبد الرّحمن بن عوف"، وقول جرير أصح. وقد وقع كذلك في رواية عاصم عن أبي صالح الآتي ذكرها. وأما رواية عبد الله بن داود فوصلها مسدد في "مسنده" عنه، وليس فيه القصة، وكذا أخرجها أبو داود عن مسدد. وأما رواية أبي معاوية فوصلها أحمد عنه هكذا، وقد أخرجه مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة، وأبي كريب، ويحيى بن يحيى، ثلاثتهم عن أبي معاوية، لكن قال فيه: "عن أبي هريرة"، بدل "أبي سعيد"، وهو وَهَمٌ، كما جزم به خَلَفٌ، وأبو مسعود، وأبو علي الجَيّانيّ، وغيرهم، قال المزي: كأن مسلما وَهِمَ في حال كتابته، فإنّه بدأ بطريق أبي معاوية، ثمّ ثَنَّى بحديث جرير، فساقه بإسناده ومتنه، ثمّ ثَلَّثَ بحديث وكيع، ورَبَّعَ بحديث شعبة، ولم يسق إسنادهما، بل قال: بإسناد جرير وأبي معاوية، فلولا إن إسناد جرير وأبي معاوية عنده واحد، لما أحال عليهما معًا، فإن طريق وكيع وشعبة جميعًا تنتهي إلى أبي سعيد، دون أبي هريرة اتفاقًا. انتهى كلامه. وقد أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة أحدُ شيوخ مسلم فيه في "مسنده"، و"مُصَنَّفه" عن أبي معاوية، فقال: "عن أبي سعيد" كما قال أحمد، وكذا رويناه من طريق أبي نعيم في "المستخرج" من رواية عُبيد بن غَنّام، عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأخرجه أبو نعيم أيضًا من رواية أحمد، ويحيى بن عبد الحميد، وأبي خيثمة، وأحمد بن جَوّاس، كلهم عن أبي

معاوية، فقال: "عن أبي سعيد"، وقال بعده: أخرجه مسلم عن أبي بكر، وأبي كريب، ويحيى بن يحيى، فدل على أن الْوَهَمَ وقع فيه ممّن دون مسلم؛ إذ لو كان عنده "عن أبي هريرة" لَبَيّنه أبو نعيم. ويُقَوِّي ذلك أيضًا أن الدارقطني مع جزمه في "العلل" بأن الصواب أنه من حديث أبي سعيد، لم يتعرض في تتبعه أوهام الشيخين إلى رواية أبي معاوية هذه. وقد أخرجه أبو عبيدة في "غريب الحديث"، والجَوْزقيّ من طريق عبد الله بن هاشم، وخيثمة من طريق سعيد بن يحيى، والإسماعيلي، وابن حبّان من طريق علي بن الجعد، كلهم عن أبي معاوية، فقالوا: "عن أبي سعيد". وأخرجه ابنُ ماجه عن أبي كريب أحد شيوخ مسلم فيه أيضًا، عن أبي معاوية، فقال: "عن أبي سعيد"، كما قال الجماعة، إِلَّا أنه وقع في بعض النسخ عن ابن ماجة اختلاف، ففي بعضها "عن أبي هريرة"، وفي بعضها "عن أبي سعيد"، والصواب "عن أبي سعيد"؛ لأن ابن ماجة جَمَعَ في سياقه بين جرير ووكيع وأبي معاوية، ولم يقل أحدٌ في رواية وكيع وجرير: إنها "عن أبي هريرة"، وكل من أخرجها من المصنفين والمخَرِّجين أورده عنهما من حديث أبي سعيد. قال: وقد وجدته في نسخة قديمة جدًّا، قُرِئت في سنة بضع وسبعين وثلثمائة، وهي في غاية الإتقان، وفيها: "عن أبي سعيد"، واحتمال كون الحديث عند أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد وأبي هريرة جميعًا مُستَبْعَدٌ؛ إذ لو كان كذلك لجمعهما، ولو مَرّةً، فلما كان غالب ما وُجِد عنه ذكرَ أبي سعيد دون ذكر أبي هريرة دَلّ على أن في قول من قال عنه عن أبي هريرة شذوذًا، والله أعلم. قال: وقد جمعهما أبو عوانة عن الأعمش، ذكره الدارقطني وقال في "العلل": رواه مسدد، وأبو كامل، وشيبان عن أبي عوانة كذلك، ورواه عفان ويحيى بن حماد عن أبي عوانة، فلم يَذكُرا فيه أبا سعيد، قال: ورواه زيد بن أبي أُنيسة عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، وكذلك قال نصر بن عليّ، عن عبد الله بن داود، قال:

والصواب من روايات الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، لا عن أبي هريرة، قال: وقد رواه عاصم عن أبي صالح، فقال: عن أبي هريرة، والصّحيح عن أبي صالح، عن أبي سعيد، انتهى. وقد سبق إلى ذلك عليّ بن المديني، فقال في "العلل": رواه الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، ورواه عاصم عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: والأعمش أثبت في أبي صالح من عاصم. فعُرِف من كلامه أن من قال فيه عن أبي صالح، عن أبي هريرة، فقد شَذّ، وكان سبب ذلك شهرة أبي صالح بالرواية عن أبي هريرة، فيسبق إليه الوَهْمُ ممّن ليس بحافظ، وأما الحفاظ فيميزون ذلك. ورواية زيد بن أبي أُنيسة الّتي أشار إليها الدارقطني أخرجها الطَّبرانيُّ في "الأوسط"، قال: ولم يروه عن الأعمش إِلَّا زيد بن أبي أُنيسة، ورواه شعبة وغيره عن الأعمش، فقالوا: "عن أبي سعيد"، انتهى. وأما رواية عاصم فأخرجها النَّسائيُّ في "الكبرى"، والبزار في "مسنده"، وقال: ولم يروه عن عاصم إِلَّا زائدة، وممن رواه عن الأعمش، فقال: عن أبي سعيد، أبو بكر ابن عياش عند عبد بن حميد، ويحي بن عيسى الرَّمْليّ عند أبي عوانة، وأبو الأحوص عند ابن أبي خيثمة، وإسرائيل عند تمام الرَّازيُّ. وأما ما حكاه الدارقطني عن رواية أبي عوانة، فقد وقع لي من رواية مسدد، وأبي كامل، وشيبان عنه على الشك، قال في روايته: عن أبي سعيد، أو أبي هريرة، وأبو عوانة كان يحدث من حفظه، فربما وَهِمَ، وحديثه من كتابه أثبت، ومن لم يشكّ أحق بالتقديم ممّن شك، والله أعلم. قال: وقد أمليت على هذا الموضع جزءًا مفردًا لَخَّصْتُ مقاصده هنا بعون الله تعالى، انتهى كلام الحافظ. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الّذي حقّقه الحافظ تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، قد تبيّن

لنا منه أن الصّحيح في رواية ابن ماجه ما وقع في بعض النسخ من قوله: "عن أبي سعيد"، لا ما وقع في بعضها من قوله: "عن أبي هريرة"، فإنّه غلطٌ، وتبيّنّا منه أيضًا أن ما وقع في "صحيح مسلم" من قوله: "عن أبي هريرة" الغلط فيه ممّن دون مسلم، لا منه، لما ذكره الحافظ من الحجج، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي) وقع في رواية جرير ومحاضر، عن الأعمش، وكذا في رواية عاصم، عن أبي صالح، ذِكرُ سببٍ لهذا الحديث، وهو ما وقع في أوله، قال: "كان بين خالد بن الوليد، وعبد الرّحمن بن عوف شيءٌ، فَسَبَّهُ خالد ... " فذكر الحديث. (فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) أقسم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- تعظيمًا للأمر الّذي نَهَى عنه، فإنّه خطيرٌ جدًّا؛ إذ منصب الصّحابة -رضي الله عنهم- أرفع وأعلى، كما أشار إليه بقوله: (لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ) فيه إشعار بأن المراد بقوله أوَّلًا: "أصحابي" أصحاب مخصوصون، وإلا فالخطاب كان للصحابة، وقد قال: "لو أنّ أحدكم أنفق"، وهذا كقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} الآية [الحديد: 10]، ومع ذلك فنَهْيُ بعضِ من أدرك النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وخاطبه بذلك عن سب من سبقه يَقتَضِي زجرَ من لم يدرك النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ولم يخاطبه عن سب من سبقه من باب الأولى، وغَفَل مَنْ قال: إن الخطّاب بذلك لغير الصّحابة، وإنما المراد من سيوجد من المسلمين المفروضين في العقل تَنْزيلًا لمن سيوجد مَنْزلة الموجود؛ للقطع بوقوعه، ووجه التعقب عليه وقوعُ التصريح في نفس الخبر بأن المخاطب بذلك خالد بن الوليد، وهو من الصّحابة الموجودين إذ ذاك بالاتفاق. (أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا) زادْ الْبَرْقَانيّ في "المصافحة" من طريق أبي بكر بن عياش، عن الأعمش: "كُلَّ يوم"، قال: وهي زيادة حسنة. (مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ) "المد" بضم الميم: مكيال معروف، وحكى الخطابي أنه رُوي بفتح الميم، قال: والمراد به الفضل والطَّوْل. قاله في "الفتح": وقال في "المصباح": "المدّ" بالضمّ كيلٌ، وهو رطلٌ وثُلُث عند أهل الحجاز، فهو ربع صاع؛ لأن الصاع خمسة

أرطال وثلُث، والمدّ رطلان عند أهل العراق، والجمع أمداد، ومِداد بالكسر. انتهى (¬1). وقال ابن الأثير رحمه الله: ما: نصّه: وفي حديث فضل الصّحابة: "ما أدرك مُدَّ أحدهم، ولا نَصِيفه": المدّ في الأصل ربع الصاع، وإنما قدّره به؛ لأنه أقلّ ما كانوا يتصدَّقون به في العادة. ويُروى بفتح الميم، وهو الغاية. وقد تكرّر ذكرُ المدّ في الحديث: وهو رطلٌ وثُلُثٌ عند الشّافعيّ، وأهل الحجاز، وهو رطلان عند أبي حنيفة، وأهل العراق. وقيل: إن أصل المدّ مُقَدَّر بأن يَمُدّ الرَّجل يديه، فيملأَ كفّيه طعامًا. انتهى (¬2). (وَلَا نَصِيفَهُ) أي ولا نصيف المد من كلّ شيء، و"النَّصِيف" بوزن رغيف، هو النّصف، كما يقال: عُشْر وعَشِير، وثُمُن وثَمِين، وقيل: "النَّصِيف": مكيال دون المد. قاله في "الفتح" (¬3). وقال النووي في "شرح مسلم" جـ: 16 ص: 93: قال أهل اللُّغة: "النَّصِيف": النّصف، وفيه أربع لغات: نِصْف -بكسر النون- ونُصْفٌ -بضمها- ونَصْف -بفتحها- ونَصِيف بزيادة الياء، حكاهنّ القاضي عياض في "المشارق" عن الخطابي. وقال في "القاموس": "النّصفُ": مُثَلَّثَةً: أحد شقّي الشيء، كالنَّصِيف، جمعه أَنصافٌ، انتهى. وقال "الشارح": قوله: "مُثَلّثة" قال شيخنا: أفصحها الكسر، وأقيسها الضمّ؛ لأنه الجاري على بقيّة الأجزاء، كالربع، والخمس، والسدس، ثمّ الفتح، وقرأ زيد بن ثابت -رضي الله عنه-: {فَلَهَا الْنِّصْفُ} [النِّساء: 11] بالضمّ. انتهى. قال في "الفتح": وقد تقدّم في أول "باب فضائل الصّحابة" تقرير أفضلية الصّحابة عمن بعدهم، وهذا الحديث دالّ لما وقع الاختيار له ممّا تقدّم من الاختلاف. ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" 2/ 566. (¬2) "النهاية" 4/ 308. و"لسان العرب" 3/ 400. (¬3) "الفتح" 7/ 44.

والله أعلم. وقال البيضاوي رحمه الله: معنى الحديث: لا ينال أحدكم بإنفاق مثل أحد ذهبًا من الفضل والأجر ما ينال أحدهم بإنفاق مُدِّ طعام أو نصيفه، وسببُ التفاوت ما يقارن الأفضل من مزيد الإخلاص، وصدق النية. قال الحافظ: وأعظم من ذلك في سبب الأفضلية عِظَمُ مَوْقِع ذلك لشدة الاحتياج إليه، وأشار بالأفضلية بسبب الإنفاق إلى الأفضلية بسبب القتال، كما وقع في الآية: {مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ} [الحديد: 10]، فإن فيها إشارة إلى موقع السبب الّذي ذكرته، وذلك أن الإنفاق والقتال كان قبل فتح مكّة عظيمًا؛ لشدة الحاجة إليه، وقِلَّة المعتني به، بخلاف ما وقع بعد ذلك؛ لأن المسلمين كَثُرُوا بعد الفتح، ودخل النَّاس في دين الله أفواجًا، فإنّه لا يقع ذلك الموقع المتقدم. والله أعلم، انتهى كلام الحافظ (¬1). وقال النوويّ رحمه الله في "شرح مسلم" (جـ: 16 ص: 93): معنى الحديث: لو أنفق أحدكم مثل أُحد ذهبًا ما بلغ ثوابه في ذلك ثواب نفقة أَحَد أصحابي مُدّا، ولا نَصف مُدّ، قال القاضي عياض: ويؤيد هذا ما قدمناه في أول "باب فضائل الصّحابة" عن الجمهور من تفضيل الصّحابة كلهم على جميع مَنْ بَعْدهم، وسبب تفضيل نفقتهم أنها كانت في وقت الضّرورة، وضِيق الحال، بخلاف غيرهم، ولأن إنفاقهم كان في نصرته -صلى الله عليه وسلم-، وحمايته، وذلك معدوم بعده، وكذا جهادهم، وسائر طاعاتهم، وقد قال الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً} الآية [الحديد: 10]، هذا كله مع ما كان في أنفسهم من الشفقة والتودد والخشوع والتواضع والإيثار والجهاد في الله حَقَّ جهاده، وفضيلةُ الصحبة ولو لحظةً لا يوازيها عملٌ، ولا تُنال درجتها بشيء، والفضائل لا تؤخذ بقياس، ذلك فضل الله يؤتيه من ¬

_ (¬1) "الفتح" 7/ 44.

يشاء. (¬1). قال أبو العبّاس القرطبيّ -بعد ذكره سبب الحديث- وهو قصة ما جرى بين خالد بن الوليد وبين عبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنهما، كما سبق بيانه -: ما نصّه: فأظهر ذلك السبب أن مقصود هذا الخبر زجر خالد، ومن كان على مثل حاله ممّن سُبِقَ بالإسلام، وإظهار خصوصيّة السابق بالنبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وأن السابقين لا يَلْحَقهم أحد في درجتهم، وإن كان أكثر نفقةً وعملًا منهم، وهذا نحو قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً} [الحديد: 10]، ويدلُّ على صحّة هذا المقصود أن خالدًا وإن كان من الصّحابة -رضي الله عنهم- لكنه متأخّر الإسلام، قيل: أسلم سنة خمس، وقيل: سنة ثمان، لكنه -صلى الله عليه وسلم- لمّا عدل عن غير (¬2) خالد وعبد الرّحمن إلى التعميم دل ذلك على أنه قصد مع ذلك تقعيد قاعدةِ تغليظ تحريم سبّ الصّحابة مطلقًا، فيحرُمُ ذلك من صحابيّ وغيره؛ لأنه إذا حُرِّم على صحابيّ، فتحريمه على غيره أولى، وأيضًا فإن خطابه -صلى الله عليه وسلم- للواحد خطاب للجميع، وخطابه للحاضرين خطاب للغائبين إلى يوم القيامة، انتهى كلام القرطبيّ، وهو كلام نفيسٌ جدًّا (¬3). وقال القاضي عياض: ومن أصحاب الحديث من يقول: هذه الفضيلة مختصة بمن طالت صحبته، وقاتل معه، وأنفق، وهاجر، ونصر، لا لمن رآه مَرّةً، كَوُفُود الإعراب، أو صَحِبَه آخرًا بعد الفتح، وبعد إعزاز الدين، ممّن لم يوجد له هجرة، ولا أَثَرٌ في الدين، ومنفعة المسلمين، قال: والصّحيح هو الأوّل، وعليه الأكثرون، والله أعلم، انتهى (¬4). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الّذي قاله عياض من تصحيح رأي الجمهور ¬

_ (¬1) "شرح مسلم" 16/ 93 - 94. (¬2) هكذا نسخة "المفهم"، ولعلّ الأولى إسقاط لفظة "غير"، فليُتأمّل. (¬3) "المفهم" 6/ 494 - 495. (¬4) "شرح مسلم" 16/ 93 - 94.

في أن فضل الصحبة يعمّ جميع الصّحابة -رضي الله عنهم- هو الحقّ؛ لكثرة الأدلّة على ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (30/ 161) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (البخاريّ) في 5/ 10 (3673) و (مسلم) 7/ 188 (2541) و (أبو داود) (4658) و (الترمذيّ) (3861) و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده" (2183) و (عليّ بن الجعد) في "مسنده" (760) و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" 12/ 174 - 175 و (أحمد) 3/ 11 و 54 و 55 و 63 وفي "الفضائل" له (5 و 6 و 7 و 1735) و (عبد بن حُميد) في "مسنده" (918) و (ابن أبي عاصم) (988 و 989 و 990 و 991) و (البزّار) في "مسنده" (2768) و (النَّسائيّ) في "الفضائل" (203 و 204) و (أبو يعلى) في "مسنده" (1087 و 1198) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (6994 و 7253 و 7255) و (أبو نعيم) في "تاريخ أصبهان" (2/ 122) و (الخطيب) في "تاريخ بغداد" (7/ 144) و (البغويّ) في "شرح السنة" (359)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضائل الصّحابة -رضي الله عنهم-. 2 - (ومنها): بيان تفاوت مراتب الصّحابة في الفضل والأجر عند الله تعالى. 3 - (ومنها): بيان أن الفضل والمنزلة عند الله ليس من الأمور القياسيّة، بل محض فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، فقد يُعطي على عمل قليل ما لا ينال بالعمل الكثير. 4 - (ومنها): بيان أن الإنفاق في وقت الحاجة أفضل من الإنفاق في غيرها.

5 - (ومنها): بيان وجوب احترام الصّحابة له، والنهي عن سبّهم. 6 - (ومنها): أن فيه دلالة واضحةً على أن الصّحابة -رضي الله عنهم- لا يلحقهم أحدٌ ممّن بعدهم في فضلهم، وإن عمل ما عمل من أفعال الخير، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الرّابعة): في أقوال أهل العلم فيمن سبّ الصّحابة -رضي الله عنهم-: قال النووي: اعلم أنّ سَبّ الصّحابة -رضي الله عنهم- حرام، من فَوَاحش المحرمات، سواء من لابس الفتن منهم وغيرهم؛ لأنهم مجتهدون في تلك الحروب، متأولون، قال القاضي عياض رحمه الله: سب أحدهم من المعاصي الكبائر، ومذهبنا ومذهب الجمهور أنه يُعَزَّر، ولا يُقتَل، وقال بعض المالكية: يُقْتَل. انتهى (¬1). وقال في "الفتح": اختُلِفَ في سابّ الصحابي -رضي الله عنهم-، فقال عياض: ذهب الجمهور إلى أنه يُعَزَّر، وعن بعض المالكية: يُقْتَل، وخَصَّ بعض الشّافعيّة ذلك بالشيخين، والحَسَنين، فحَكَى القاضي حسين في ذلك وجهين، وقَوّاه السبكي في حق من كَفَّر الشيخين، وكذا من كَفَّرَ مَنْ صَرَّحَ النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- بإيمانه، أو تبشيره بالجنة، إذا تواتر الخبر بذلك عنه؛ لما تَضَمَّن من تكذيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انتهى (¬2). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الّذي فصّله السبكيّ رحمه الله هو الأرجح عندي؛ لوضوح حجته، والله تعالى أعلم. وقال أبو العبّاس القرطبيّ: من المعلوم الّذي لا يُشكّ فيه أن الله تعالى اختار أصحاب نبيّه لنبيّه -صلى الله عليه وسلم-، ولإقامة دينه، فجميعُ ما نحن فيه من العلوم والأعمال والفضائل والأحوال والممتلكات والأموال والعزّ والسلطان والدين والإيمان وغير ذلك من النعم الّتي لا يُحصيها لسان، ولا يتّسع لتقديرها زمان إنّما كان بسببهم، ولمّا ¬

_ (¬1) "شرح مسلم" 16/ 93. (¬2) "الفتح" 7/ 46.

كان ذلك وجب علينا الاعتراف بحقوقهم، والشكر لهم على عظيم أياديهم، قيامًا بما أوجبه الله تعالى من شكر النعم، واجتنابًا لِمَا حرَمه من كُفران حقّه، هذا مع ما تحقّقنا من ثناء الله تعالى عليهم، وتشريفه لهم، ورضاه عنهم، كقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} إلى قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 18 - 29]، وقوله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 100]، وقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8]، إلى غير ذلك، وكقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين" إلى غير ذلك من الأحاديث المتضمّنة للثناء عليهم -رضي الله عنهم- أجمعين. وعلى هذا فمن تعرَّضَ لسبّهم، وجَحَدَ عظيم حقِّهِم، فقد انسلخ من الإيمان، وقابل الشكر بالكفران، ويكفي في هذا الباب ما رواه الترمذيّ من حديث عبد الله بن مُغَفَّل -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهَ اللهَ في أصحابي، لا تتّخِذوهم غَرَضًا بعدي، فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه"، قال الترمذيّ: حديث غريب، وهذا الحديث وإن كان غريب السند، فهو صحيح المتن؛ لأنه معضود بما قدّمناه من الكتاب والسنّة، والمعلوم من دين الأمّة؛ إذ لا خلاف في وجوب احترامهم، وتحريم سبّهم، ولا يُختَلف في أن من قال: إنهم كانوا على كفر أو ضلال كافر يُقتَل؛ لأنه أنكر معلومًا ضروريًّا من الشّرع، فقد كذّب الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فيما أخبرا به عنهم، وكذلك الحكم فيمن كفّر أحد الخلفاء الأربعة، أو ضلَّلَهم، وهل حكمه حكم المرتدّ، فيُستتاب، أو حكم الزنديق فلا يُستتاب، ويُقتل على كلّ حال؟ هذا ممّا يُختلَف فيه، فأمّا من سبّهم بغير ذلك، فإن كان سبّا يُوجب حدّا كالقذف حُدّ حَدَّه، ثمّ يُنكَّل التنكيل الشديد من الحبس والتخليد فيه، والإهانة ما خلا عائشة رضي الله عنها، فإن قاذفها يُقتَل؛ لأنه مكذّب لما جاء في الكتاب والسنّة من براءتها، قاله

مالك وغيره، واخْتُلِفَ في غيرها من أزواج النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فقيل: يُقتَل قاذفها؛ لأن ذلك أذًى للنبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وقيل: يُحدّ ويُنكَّل، كما ذكرناه على قولين، وأما من سبّهم بغير القذف فإنّه يُجْلَد الجلدَ الموجع، ويُنكَّل التنكيل الشديدَ، قال ابن حبيب: ويُخلَّد سَجْنه إلى أن يموت، وقد رُوي عن مالك: من سبّ عائشة رضي الله عنها قُتِل مطلقًا، ويُمكن حمله على السبّ بالقذف، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الّذي ذكره القرطبيّ رحمه الله تحقيق نفيس جدًّا، وخلاصته تشديد العقوبة على من انتهك حرمات الصّحابة -صلى الله عليه وسلم-، وأنَّه يُقتل على التفصيل الّذي ذكره، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الخامسة): في ذكر قصيدة لبديع الزّمان الْهَمَذَانيّ (¬2) رحمه الله يمدح بها الصّحابة -رضي الله عنهم-، ويهجو أبا بكر الخوارزميّ، ويُجيبه عن قصيدة رُويت له في الطعن عليهم قال [من الرجز]: وَكَّلَنِي بِالهَمِّ وَالْكَآبهْ ... طَعَّانَةٌ لَعَّانَةٌ سَبَّابَه لِلسَّلَفِ الصَّالِح وَالصَّحَابَهْ ... أَسَاءَ سَمْعًا فَأَسَاءَ جَابَهْ تَأَمَّلُوا يَا كُبَرَاءَ الشِّيعَهْ ... لِعِشرَةِ الإِسْلَامِ وَالشَّرِيعَه أَتُسْتَحَلُّ هَذِهِ الْوَقِيعَهْ ... في بِيَع الْكُفْرِ وَأَهْلِ الْبِيعَه فَكَيْفَ مَنْ صَدَّقَ بِالرِّسَالَهْ ... وَقَامَ لِلدِّينِ بِكُلِّ آلَهْ وَأَحْرَزَ اللهُ يَدَ الْعُقْبَى لَهْ ... ذَالِكُمُ الصِّدِّيقُ لَا مَحَالَه إِمَامُ مَنْ أُجْمِعَ في السَّقِيفَهْ ... قَطْعًا عَلَيْهِ أَنَّهُ الخلِيفَهْ ¬

_ (¬1) "المفهم" 6/ 492 - 494. (¬2) هو أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد الملقّب ببديع الزّمان، سكن هَرَاة، وكان أحد الفضلاء والفصحاء، متعصّبًا لأهل الحديث والسنّة، ما أخرجت هَمَذَان بعده مثله، توفي سنة (398 هـ). "معجم الأدباء" 1/ 234.

نَاهِيكَ مِنْ آثَارِهِ الشَّرِيفَهْ ... في رَدِّهِ كيْدَ بَنِي حَنِيفَه سَلِ الجبَالَ الشُّمَّ وَالْبِحَارَا ... وَسَائِلِ الْمِنْبَرَ وَالْمَنَارَا وَاسْتَعْلِمِ الآفَاقَ وَالأَقْطَارَا ... مَنْ أَظْهَرَ الدِّينَ بِهَا شِعَارَا ثُمَّ سَلِ الْفُرْسَ وَبَيْتَ النَّار ... مَنْ الَّذِي فَلَّ شَبَا الْكُفَّارِ هَلْ هَذِهِ الْبِيْضُ مِنَ الآثَارِ ... إِلَّا لِثَانِي الْمُصْطَفَى في الْغَارِ وَسَائِلِ الإِسْلَامَ مَنْ قَوَّاهُ ... وَقَالَ إِذْ لَمْ تَقُلِ الأَفْوَاه وَاسْتَنْجَزَ الْوَعْدَ فَأَوْمَى اللهُ ... مَنْ قَامَ لمَّا قَعَدُوا إِلَّا هُو ثَانِي النَّبِيِّ في سِنِي الْوِلَادَهْ ... ثَانِيهِ في الْغَارَةِ بَعْدَ الْعَادَهْ ثَانِيهِ والدعْوَةِ وَالشَّهَادَهْ ... ثَانِيهِ في الْقَبْرِ بِلَا وِسَادَهْ ثَانِيهِ في مَنْزِلَةِ الزَّعَامَه ... نُبُوَّةٌ أَفْضَتْ إِلَى إِمَامَهْ أَتَأْمُلُ الجنَّةَ يَا شَتَّامَهْ ... لَيْسَتْ بِمَأْوَاكَ وَلَا كَرَامَه إِنَّ امْرَءًا أَثْنَى عَلَيْهِ الْمُصْطَفَى ... ثُمَّتَ وَالَاهُ الْوَصِيُّ الْمُرْتَضَى وَاجْتَمَعَتْ عَلَى مَعَالِيهِ الْوَرَى ... وَاخْتَارَهُ خَليفَةً رَبُّ الْعُلَى وَاتَّبَعْتْهُ أُمِّه الأُمِّيِّ ... وَبَايَعَتْهُ رَاحَةُ الْوَصِيِّ وَبِاسْمِهِ اسْتَسْقَى حَيَا الْوَسْمِيِّ ... مَا ضَرَّهُ هَجْوُ الخُوَارَزْمِيِّ سُبْحَانَ مَنْ لَمْ يُلْقِمِ الصَّخْرَ فَمَهْ ... وَلم يُعِدْهُ حَجَرًا مَا أَحْلَمَه يَا نُذْلُ يَا مَأْبُونُ أَفْطَرْتَ فَمَهْ ... لَشَدَّ مَا اشْتَاقَتْ إِلَيْكَ الْحُطَمَهْ إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُرْتَضَى ... وَجَعْفَرَ الصَّادِقَ أَوْ مُوسَى الرِّضَا لَوْ سمِعُوكَ بِالْخَنَا مُعَرِّضَا ... مَا ادَّخَرُوا عَنْكَ الحُسَامَ المُنْتَضَى وَيْلَكَ لَمْ تَنْبَحُ يَا كلْبَ الْقَمَرْ ... مَا لَكَ يَا مَأْبُونُ تَغْتَابُ عُمَرْ سيِّدَ مَنْ صَامَ وَحَجَّ وَاعْتَمَرْ ... صَرِّحْ بِإِلحادِكَ لَا تَمْشِ الخَمَرْ

يَا مَنْ هَجَا الصِّدِّيقَ وَالْفَارُوقَا ... كَيْمَا يُقِيمَ عِنْدَ قَوْمِ سُوقَا نَفَخْتَ يَا طَبْلُ عَلَيْنَا بُوقَا ... فَمَا لَكَ الْيَوْمَ كَذَا مَوْهُوقَا (¬1) إِنَّكَ في الطَّعْنِ عَلَى الشَّيْخَيْنِ ... وَالْقَدْح في السَّيِّدِ ذِي النُّورَيْنِ لَوَاهِنُ الظَّهْرِ سَخِينُ الْعَيْنِ ... مُعْتَرِضٌ لِلْحَيْنِ بَعْدَ الحِيْنِ هَلَّا شُغِلْتَ بِاسْتِكَ الْمَغْلُومَهْ ... وَهَامَةٍ تَحْمِلُهَا مَشْؤُومَهْ هَلَّا نَهَتْكَ الْوَجْنَةُ الْمَشْمُومَهْ ... عَنْ مُشْتَرِي الخُلْدِ بِبِئْرِ رُومَهْ كفَى مِنَ الْغِيبَةِ أَدْنَى شَمَّهْ ... مَنِ اسْتَجَازَ الْقَدْحَ في الأَئِمَّهْ وَلَمْ يُعَظِّمْ أُمَنَاءَ الأُمَّهْ ... فَلَا تَلُومُوهُ وَلُومُوا أُمَّهْ مَا لَكَ يَا نُذْلُ وَللزَّكِيَّهْ ... عَائِشَةَ الرَّضِيَةِ الْمَرْضِيَّهْ يَا سَاقِطَ الْغَيْرَةِ وَالحمِيَّهْ ... أَلمْ تَكُنْ لِلْمُصْطَفَى حَظِيَّهْ مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي الخوَارَزْمِيَّا ... يُخْبِرُهُ أَنَّ ابْنَهُ عَلِيَّا قَدِ اشْتَرَيْنَا مِنْهُ لحمًا نِيَّا ... بِشَرْطِ أَنْ يُفْهِمَنَا الْمَعْنِيَّا يَا أَسَدَ الخلْوَةِ خِنْزِيرَ الْمَلَا ... مَا لَكَ في الحَرَّى تَقُودُ الجمَلَا يَا ذَا الَّذِي يَثْلُبُنِي إِذَا خَلَا ... وَفي الْخَلَا أُطْعِمُهُ مَا فِي الْخَلَا وَقُلْتُ لمَّا احْتَفَلَ الْمِضْمَارُ ... وَاحْتَفَّتِ الأَسْمَاعُ وَالأَبْصَارُ سَوْفَ تَرَى إِذَا انْجَلَى الْغبارُ ... أفرَسٌ تَحْتِيَ أَمْ حِمَارُ (¬2) قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد بديع الزّمان رحمه الله تعالى في هذه القصيدة وحيث دافع عن خيار الأمة رضي الله عنهم، فجزاه الله خير الجزاء. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. ¬

_ (¬1) وهقه عنه كوعده: حبسه. (¬2) راجع "معجم الأدباء" لياقوت الحمويّ 1/ 249 - 251.

(المسألة السّادسة): في بيان حكم سابّ الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (اعلم): بأن السبّ والشتم إهانة واستخفاف للمسبوب، فكلّ سابّ مستخفّ بمن سبّه، ومستهزئ به، فإذا حصل في القلب امتنع أن يكون معه انقياد واستسلام؛ لأنه لا يسبّ، إِلَّا وهو جاحد له. قال القاضي عياض: من سبّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، أو تنقصه، فقد ظهرت عليه علامة مرض قلبه، وبرهان سرّ طويّته، وكفره، انتهى. وقال أيضًا: إن مسألة سابّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أقوى لا يُتصوّر فيها الخلاف؛ لأنه حقّ متعلّقٌ بالنبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وبأمته بسببه، لا تسقطه التوبة، كسائل حقوق الآدميين انتهى (¬1). وقال الحافظ: من سبّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ممّا هو قذف صريح كفر باتّفاق العلماء، فلو تاب لم يسقط عنه القتل؛ لأن حدّ قذفه القتلُ، وحدّ القذف لا يسقط بالتوبة انتهى (¬2). وقال الإمام ابن القيّم رحمه الله خلال كلامه: فذلك أن الحقّ له -صلى الله عليه وسلم-، فله أن يستوفيه، وله أن يتركه، وليس لأمته ترك استيفاء حقّه -صلى الله عليه وسلم- انتهى (¬3). وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله في "كتابه العديم النظير في بابه "الصارم المسلول على شاتم الرسول -صلى الله عليه وسلم-": إن سبّ الله تعالى، أو سبّ رسوله -صلى الله عليه وسلم- كفرٌ ظاهرًا وباطنًا، وسواءٌ كان السابّ يعتقد أن ذلك محرّم، أو كان مستحلًا له، أو كان ذاهلًا عن اعتقاده. هذا مذهب الفقهاء، وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعملٌ. وقد قال الإمام أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظليّ المعروف بابن راهويه، وهو أحد الأئمة يَعْدِل بالشّافعيّ وأحمد: قد أجمع المسلمون على أن من سبّ الله تعالى، ¬

_ (¬1) "الشفا" 2/ 223 و255. (¬2) "الفتح" 12/ 294. (¬3) "زاد المعاد" 5/ 61.

أو سب رسوله -صلى الله عليه وسلم-، أو دفع شيئًا ممّا أنزل الله، أو قتل نبيّا من أنبياء الله أنه كافر بذلك، وإن كان مُقِرّا بكل ما أنزل الله. وكذلك قال محمّد بن سحنون، وهو أحد الأئمة من أصحاب مالك، وزمنه قريب من هذه الطبقة: أجمع العلماء أن شاتم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- المنتقص له كافرٌ، والوعيد جارٍ عليه بعذاب الله، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شكّ في كفره وعذابه كَفَرَ .. وقد نَصّ على مثل هذا غير واحد من الأئمة، قال أحمد في رواية عبد الله في رجل قال لرجل: يا ابن كذا وكذا أعني أنت ومن خلقك: هذا مرتدّ عن الإسلام، يُضرَب عنقه، وقال في رواية عبد الله، وأبي طالب: من شتم النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- قُتِل، وذلك أنه إذا شتم، فقد ارتد عن الإسلام، ولا يشتم مسلم النبيّ -عَزَّ وَجَلَّ-، فبين أن هذا مرتدّ، وأن المسلم لا يُتَصَوَّر أن يشتم وهو مسلم. وكذلك نُقِل عن الشّافعيّ أنه سئل عمن هَزَل بشيء من آيات الله تعالى أنه قال: هو كافرٌ، واستدل بقول الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} الآية [التوبة: 65، 66]. وكذلك قال أصحابنا -يعني الحنبليّة- وغيرهم: مَنْ سَبّ الله كَفَرَ، سواء كان مازحًا أو جادّا؛ لهذه الآية، وهذا هو الصواب المقطوع به. وقال القاضي أبو يعلى في "المعتمد": مَنْ سَبَّ الله تعالى، أو سب رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فإنّه يكفر، سواء استحلّ سبه، أو لم يستحله، فإن قال: لم أستحلّ ذلك، لم يقبل منه في ظاهر الحكم، روايةً واحدةً، وكان مرتدّا؛ لأن الظّاهر خلاف ما أخبر؛ لأنه لا غَرَضَ له في سبّ الله تعالى، وسبّ رسوله -صلى الله عليه وسلم- إِلَّا لأنه غير معتقد لعبادته، غير مصدّق بما جاء به النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ويفارق الشارب، والقاتل، والسارق، إذا قال: أنا غير مستحلّ لذلك أنه يصدق في الحكم؛ لأن له غرضًا في فعل هذه الأشياء مع اعتقاد تحريمها، وهو ما يتعجل من اللَّذَّة، قال: وإذا حكمنا بكفره، فإنّما نحكم به في ظاهر الحكم، فأمّا في الباطن، فإن كان صادقًا فيما قال، فهو مسلم، كما قلنا في الزنديق: لا تقبل توبته في ظاهر

الحكم، وذكر القاضي عن الفقهاء أن سابّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إن كان مستحلا كفر، وإن لم يكن مستحلًا فسق، ولم يكفر كسابّ الصّحابة -رضي الله عنهم-، وهذا نظير ما يُحكى أن بعض الفقهاء من أهل العراق أفتى هارون أمير المؤمنين، فيمن سب النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أن يجلده حتّى أنكر ذلك مالك، ورَدّ هذه الفتيا، وهو نظير ما حكاه أبو محمّد ابن حزم أن بعض النَّاس لم يُكَفِّر المستخفّ به. وقد ذكر القاضي عياض بعد أن رد هذه الحكاية عن بعض فقهاء العراق، والخلاف الّذي ذكره ابن حزم بما نقله من الإجماع عن غير واحد، وحمل الحكاية على أن أولئك لم يكونوا ممّن شُهِر بالعلّم، أو لم يكونوا ممّن يوثق بفتواه لميل الهوى به، أو أن الفتيا كانت في كلمة اختُلِف في كونها سبًّا، أو كانت فيمن تاب. وذكر أن السابّ إذا أقرّ بالسبّ، ولم يتب منه قُتل كفرًا؛ لأن قوله إمّا صريح كفر كالتكذيب ونحوه، أو هو من كلمات الاستهزاء، أو الذمّ، فاعترافه بها، وترك توبته منها، دليل على استحلاله لذلك، وهو كفر أيضًا، قال: فهذا كافر بلا خلاف (¬1). وقال (¬2) في موضع آخر: إن مَنْ قَتَله بلا استتابة فهو لم يره ردّةً، وإنّما يوجب القتل فيه حدّا، وإنّما يقول ذلك مع إنكاره ما شُهِد عليه به، أو إظهاره الإقلاع عنه والتوبة، ونَقْتُلُه حدّا، كالزنديق إذا تاب، قال: ونحن إن أثبتنا له حكم الكافر في القتل، فلا نقطع عليه بذلك؛ لإقراره بالتوحيد والنبوة، وإنكاره ما شُهِد به عليه، أو زعمه أن ذلك كان منه ذُهُولًا ومعصية، وأنه مقلع عن ذلك، نادمًا عليه. قال: وأما مَنْ عُلم أنه سبه معتقدًا لاستحلاله، فلا شك في كفره بذلك، وكذلك إن كان سبه في نفسه كفرًا، كتكذيبه، أو تكفيره ونحوه، فهذا ما لا إشكال فيه، وكذلك من لم يُظهِر التوبة، واعتَرَف بما شُهِد به، وصَمَّم عليه فهو كافر بقوله، واستحلاله هتكَ ¬

_ (¬1) راجع "الشفا" 2/ 223 - 224. (¬2) أي القاضي أبو يعلى في كتابه "المعتمد" أيضًا.

حرمة الله تعالى، أو حرمة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وهذا أيضًا تشبثٌ منه بأن السب يكفر به؛ لأجل استحلاله له إذا لم يكن في نفسه تكذيبًا صريحًا. وهذا موضع لا بُدّ من تحريره، ويجب أن يُعلَم أن القول بأن كفر السابّ في نفس الأمر إنّما هو لاستحلاله السبّ زلةٌ منكرةٌ، وهفوةٌ عظيمةٌ. ويرحم الله القاضي أبا يعلي قد ذَكَر في غير موضع من كتبه ما يُناقض ما قاله هنا، وإنّما أوقع من وقع في هذه الْمَهْوَاة ما تلقَّوه من كلام طائفة من متأخري المتكلمين، وهم الجهمية الإناث الذين ذهبوا مذهب الجهمية الأولى في أن الإيمان هو مجرد التصديق الّذي في القَلب، وإن لم يقترن به قول اللسان، ولم يقتض عملًا في القلب، ولا في الجوارح، وصَرَّح القاضي أبو يعلى بذلك هنا، قال عقيب أن ذكر ما حكيناه عنه: وعلى هذا لو قال الكافر: أنا مُعْتَقِدٌ بقلبي معرفة الله وتوحيده، لكني لا آتي بالشهادتين، كما لا آتي غيرها من العبادات كسلًا لم يحكم بإسلامه في الظّاهر، ويحكم به باطنًا، قال: وقول الإمام أحمد: مَنْ قال: إن المعرفة تنفع في القلب من غير أن يَتَلَفَّظ بها، فهو جهميٌّ محمول على أحد وجهين: أحدهما أنه جهمي في ظاهر الحكم، والثّاني على أنه يمتنع من الشهادتين عنادًا؛ لأنه احتجّ أحمد في ذلك بأن إبليس عَرَفَ ربة بقلبه، ولم يكن مؤمنًا، ومعلوم أن إبليس اعتَقَد أنه لا يلزم امتثال أمره تعالى بالسجود لآدم. وقد ذَكَر القاضي في غير موضع أنه لا يكون مؤمنًا حتّى يُصَدِّق بلسانه مع القدرة وبقلبه، وأن الإيمان قول وعمل، كما هو مذهب الأئمة كلِّهم: مالكٍ وسفيان، والأوزاعيّ، والليث، والشّافعيّ، وأحمد، وإسحاق، ومن قبلهم وبعدهم من أعيان الأمة. وليس الغرض هنا استيفاء الكلام في هذا الأصل، وإنّما الغرض التنيبه على ما يَختص بهذه المسألة، وذلك من وجوه: [أحدها]: أن الحكاية المذكورة عن الفقهاء أنه إن كان مستحلًا كَفَر، وإلا فلا، ليس لها أصلٌ، وإنّما نقلها القاضي من كتاب بعض المتكلمين الذين حَكَوها عن

الفقهاء، وهؤلاء نَقَلوا قول الفقهاء بما ظَنّوه جاريّا في أصولهم، أو بما قد سَمِعوه من بعض المنتسبين إلى الفقه، ممّن لا يُعَدّ قوله قولًا، وقد حكينا نصوص أئمة الفقهاء، وحكاية إجماعهم ممّن هو أعلم النَّاس بمذاهبهم، فلا يَظُنّ ظانّ أن في المسألة خلافًا، يَجعل المسألة من مسائل الخلاف والاجتهاد، وإنّما ذلك غَلَطٌ لا يستطيع أحد أن يَحكي عن واحد من الفقهاء، أئمة الفتوى هذا التفصيل البتة. [الوجه الثّاني]: أن الكفر إذا كان هو الاستحلال، فإنّما معناه اعتقاد أن السب حلالٌ، فإنّه لمّا اعتَقَد أن ما حرَّمه الله تعالى حلالٌ كَفَر، ولا ريب أن من اعتقد في المحرمات المعلوم تحريمها أما حلال كَفَر، لكن لا فرق في ذلك بين سبّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وبين قذف المؤمنين، والكذب عليهم، والغيبة لهم، إلى غير ذلك من الأقوال الّتي عُلِم أن الله حرّمها، فإنّه مَنْ فَعَل شيئًا من ذلك مستحلًا كَفَر، مع أنه لا يجوز أن يقال: مَنْ قَذَف مسلمًا، أو اغتابه كَفَر، ويُعنْىَ بذلك إذا استحله. [الوجه الثّالث]: أن اعتقاد حِلِّ السبّ كفرٌ، سواء اقترن به وجود السبّ، أو لم يقترن، فإذن لا أثر للسبّ في التكفير وجودًا وعدمًا، وإنّما المؤثر هو الاعتقاد، وهو خلاف ما أَجمَع عليه العلماء. [الوجه الرّابع]: أنه إذا كان المكفِّر هو اعتقادَ الحل، فليس في السبّ ما يدلُّ على أن السابّ مستحلّ، فيجب أن لا يُكَفر، لا سيما إذا قال: أنا أعتقد أن هذا حرامٌ، وإنما قلته غيظًا، وسَفَهًا، أو عَبَثًا، أو لَعِبًا، كما قال المنافقون: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65]، كما إذا قال: إنّما قذفت هذا، أو كذَبْتُ عليه لَعِبًا وعبثًا، فإن قيل: لا يكونون كفارًا، فهو خلاف نصّ القرآن، وإن قيل: يكونون كفارًا، فهو تكفير بغير مُوجِبٍ، إذا لم يُجْعَل نفسُ السبّ مُكَفِّرًا، وقول القائل: أنا لا أصدِّقه في هذا، لا يستقيم، فإن التكفير لا يكون بأمر محُتمِلٍ، فإذا كان قد قال: أنا أعتقد أن ذلك ذنب ومعصية، وأنا أفعله، فكيف يُكَفَّر إن لم يكن ذلك كفرًا، ولهذا قال سبحانه وتعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66]، ولم يقل: قد كذبتم في قولكم: {إِنَّمَا كُنَّا

نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}، فلم يكذبهم في هذا العذر، كما كذَّبهم في سائر ما أظهروه من العذر الّذي يوجب براءتهم من الكفر، كما لو كانوا صادقين، بل بَيَّن أنهم كفروا بعد إيمانهم بهذا الخوض واللعب. وإذا تَبَيَّن أن مذهب سلف الأمة، ومن اتبعهم من الخلف أن هذه المقالة في نفسها كُفْرٌ، استحَلَّها صاحبها أو لم يستحلها، فالدّليل على ذلك جميعُ ما قدمناه في المسألة الأولى، من الدّليل على كفر السابّ، مثل قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} الآية [التوبة: 61]، وقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [الأحزاب: 57]، وقوله تعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} الآية [التوبة: 66]، وما ذكرناه من الأحاديث والآثار، فإنها أدلّة بَيِّنة في أن نفس أذى الله ورسوله كُفْرٌ، مع قطع النظر عن اعتقاد التّحريم وجودًا وعدمًا (¬1). وقال أيضًا في موضع آخر: قد ثبت أن كلّ سبّ وشتم يبيح الدم، فهو كفرٌ، وإن لم يكن كلّ كفرٌ سبًّا، ونحن نذكر عبارات العلماء في هذه المسألة: قال الإمام أحمد: كلّ من شتم النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، أو تنقّصه، مسلمًا كان، أو كافرًا، فعليه القتل، وأرى أن يُقْتَل ولا يستتاب، وقال في موضع آخر: كلُّ من ذكر شيئًا يُعَرض بذكر الربّ تبارك وتعالى، فعليه القتل مسلمًا كان، أو كافرًا، وهذا مذهب أهل المدينة. وقال أصحابنا -يعني الحنبلية-: التعرض بسبّ الله تعالى، وسبّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رِدّةٌ، وهو موجب للقتل كالتصريح، ولا يختلف أصحابنا أن قذف أُمّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جملة سبه الموجب للقتل، وأغلظ؛ لأن ذلك يُفضي إلى القدح في نسبه، وفي عبارة بعضهم إطلاق القول بأن من سب أُمّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يُقتل مسلمًا كان، أو كافرًا، وينبغي أن يكون مرادهم بالسبّ هنا القذف، كما صرح به الجمهور؛ لما فيه من سب النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. وقال القاضي عياض: جميعُ مَنْ سَبَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، أو عابه، أو ألحق به نقصًا في ¬

_ (¬1) "الصارم المسلول على شاتم الرسول -صلى الله عليه وسلم-" (3/ 955 - 964).

نفسه، أو نسبه، أو دينه، أو خصلةً من خصاله، أو عَرّض به، أو شبهه بشيء على طريق السبّ له، والإزراء عليه، أو البغض منه، والعيب له، فهو سابّ له، والحكم فيه حكمُ السابّ، يُقْتَلُ ولا نَسْتَثْنِ فصلًا من فصول هذا الباب عن هذا المقصد، ولا نَمْتَرِ فيه تصريحًا كان، أو تلويحًا، وكذلك مَنْ لعنه، أو تَمَنَّى مَضَرَّةً له، أو دعا عليه، أو نَسَب إليه ما لا يَليق بمنصبه على طريق الذمّ، أو عَيَّبَهُ في جهته العزيزة بِسُخْف من الكلام، وهُجْر، ومُنكَر من القول، وزورٍ، أو عَيَّره بشيء ممّا يجري من البلاء والمحنة عليه، أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة، والمعهودة لديه، قال: هذا كله إجماع من العلماء، وأئمة الفتوى من لدن، صحابه، وهَلُمَّ جَرّا (¬1). وقال ابن القاسم، عن مالك: مَنْ سَبّ النبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قُتِل، ولم يُسْتَتَب، قال ابن القاسم: أو شتمه، أو عابه، أو تنقّصه، فإنّه يُقْتَل كالزنديق، وقد فَرَض الله توقيره وبِرّه، وكذلك قال مالك في رواية المدنبين عنه: مَنْ سَبّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، أو شتمه، أو عابه، أو تنقّصه قُتِل، مسلمًا كان أو كافرًا، ولا يستتاب. وذكر القاضي عياض أجوبة جماعة من فقهاء المالكية المشاهير بالقتل بلا استتابة في قضايا متعددة، أفتى في كلّ قضية بعضهم، إلى آخر كلام شيخ الإسلام المفصّل والمبيّن بالأدلّة الواضحة (¬2). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: خلاصة ما يُفيده كلام شيخ الإسلام ابن تيميّة، وما ذكره من نصوص العلماء، وأدلّتهم صريح في أن سابّ النبيّ - صلّى الله عليه وسلم - لا توبة له، بل يُقتل وإن تاب تنكيلًا له، وزجرًا لغيره، وأن توبته إن صدقت تنفعه فيما بينه وبين ربّه -عَزَّ وَجَلَّ-، وهذا هو بحثٌ نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيسٌ. ¬

_ (¬1) "الشفا" 2/ 214. (¬2) "راجع" الصارم المسلول على شاتم الرسول -صلى الله عليه وسلم-3/ 955 - 980.

وقد ذكر محقّق كتاب "الصارم المسلول على شاتم الرسول" في تقدمته للكتاب (¬1) طائفة من زنادقة العصر الذين جنوا بسبّ الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، واعتدوا على الله، منهم الرَّجل الضالّ، بل الشيطان الرجيم المسمّى سلمان رشدي، وعبد العزيز المقالح، وعبد الوهّاب البيّاتي، ومحمود درويش، وأونيس السوريّ، وصلاح عبد الصبور المصريّ، وغيرهم، لا كثّر الله وجودهم بين العباد، وكسر شوكتهم في جميع البلاد، فهؤلاء وأمثالهم قد تفوّهوا بكلام الإلحاد والزندقة، قاتلهم الله أنى يؤفكون، اللَّهُمَّ اكف الإسلام والمسلمين شرّهم وفسادهم بما شئت، وكيف شئت، إنك على كلّ شيء قدير، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 162 - (حَدَّثَنَا عِليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ الله قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيع، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ نُسَيْرِ بْنِ ذُعْلُوقٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُول: "لَا تَسُبُّوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ، فَلَمُقَامُ أَحَدِهِمْ سَاعَةً خَيرٌ مِنْ عَمَلِ أَحَدِكُمْ عُمْرَهُ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (عمرو بن عبد الله) بن حَنَشٍ، ويقال: ابن محمّد بن حَنَش (¬2) الأوديّ الكوفيّ، ثقة [10] 11/ 96 من أفراد المصنّف. 2 - (نُسَير -مصغّرًا- ابن ذُعْلُوق) -بضم الذال المعجمة، واللام، بينهما عين مهملة ساكنة- الثوريّ مولاهم، أبو طُعْمة الكوفيّ، ثقة (¬3)، لم يُصب من ضعّفه [4]. رَوَى عن أبيه، وابن عمر، وبكر بن ماعز، وخُليد الثوريّ، وسعيد بن جبير، والربيع بن حثيم، وعبد الله بن قيس الغفاريّ، وعَمْرو بن راشد الأشجعيّ، ومسلم بن ¬

_ (¬1) راجع جـ 1 ص 215 - 222. (¬2) "حَنَش" بفتح الحاء المهملة، والنون، بعدها معجمة. اهـ "ت". (¬3) هذا هو الأولى من قول "التقريب": صدوق؛ لأن الأئمة وثّقوه، كما سيأتي، فتنبّه.

عياض، ونَوْف، وهُبيرة بن خُزَيمة. ورَوَى عنه سعيد عبد الله بن الربيع بن خُثَيْم، وسفيان الثوريّ، وعُبيدة بن مُعتّب الضبيّ، وابنه عَمْرو بن نُسير بن ذُعلُوق، وقيس بن الربيع، ومُبارك بن سعيد الثوريّ (¬1)، وإسرائيل بن يونس، كما ذكره في الرواة عنه ابن حبّان (¬2). قال ابنُ أبي حاتم عن أبيه، عن إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: نُسَير بن ذُعْلُوق ثقة، قال: وقال أبي: نُسَير صالح الحديث. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة. وقال البرقانيّ عن الدارقطنيّ: ثقة. وقال ابنُ عبد البرّ: هو عندهم من ثقات الكوفيين. وذكره ابنُ حبّان في الثقات. وقال ابنُ حزم: لا شيءَ، وتبعه عبد الحق في ذلك (¬3)، وتُعُقّبا بأن الأئمة وثّقُوه، ولم يتكلّم فيه أحد، فقد شذّا في ذلك، فلا التفات إليهما، كما أشار إلى ذلك الحافظ في "التقريب"، فتنبّه. وهو من أفراد المصنّف، أخرج له هذا الحديث فقط. 3 - (ابن عمر) هو عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنها 4/ 1. وأما الباقون فقد تقدّموا قريبًا، و"سفيان" هو الثوريّ، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين، إِلَّا الصحابيّ، فمدنيّ. 3 - (ومنها): أن "نُسير بن ذُعلوق" هذا أول محلّ ذكره، وهو من أفراد المصنّف، أخرج له هذا الحديث فقط، وهو ثقة باتّفاق الأئمة، وإن شذّ ابن حزم بتضعيفه، كما تقدّم ردّه، وهذا يفند زعم من زعم أن كلّ من انفرد جهم ابن ماجة من الرجال ضعاف، ¬

_ (¬1) راجع "تهذيب الكمال" 29/ 339. (¬2) راجع "الثِّقات" 5/ 486 و 7/ 547. (¬3) راجع "تهذيب التهذيب" 4/ 216.

وكذا شيخه عمرو بن عبد الله أيضًا من أفراده، وهو ثقة باتّفاق، كما سبق في ترجمته 11/ 96. 4 - (ومنها): ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وأحد المشهورين بالفتوى من الصّحابة له، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ نُسَيْرِ بْنِ ذُعْلُوقٍ) تقدّم آنفًا ضبط اسمه، واسم أبيه، فلا تغفُل، أنه (قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما (يَقُولُ: "لَا تَسُبُّوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ) -صلى الله عليه وسلم-، أي لشرفهم، ورفعة مقامهم عند الله تعالى، كما أشار إليه بقوله (فَلَمَقَامُ أَحَدِهِمْ) الفاء فصيحيّة، واللام مفتوحة، وهي لام الابتداء، و"المقام" بفتح الميم مبتدأ خبره "خيرٌ"، وأراد به هنا المصدر، أي قيام أحدهم في الجهاد في سبيل الله، وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- (سَاعَةً) ظرف لـ "مقام" (خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ أَحَدِكُمْ عُمْرَهُ) هذا وإن كان موقوفًا إِلَّا أن له حكم الرفع؛ لأن مثل هذا لا يقال بالرأي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. (مسألة): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا صحيح، قال البوصيريّ رحمه الله: إسناده صحيح، وهو من أفراد المصنّف رحمه الله، وفوائده تقدّمت في شرح حديث أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه-، فراجعها تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

32 - فضل الأنصار - رضي الله عنهم -

32 - (فَضْلُ الأَنْصَارِ -رضي الله عنهم-) " الأنصار": -بفتح الهمزة، وسكون النون، وفتح الصاد المهملة، وفي آخره راء- في الأصل جمع نَصِير كشريف وأشراف، قال في "القاموس"، و"شرحه": وأنصار النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من الأوس والخزرج نصروه في ساعة العسرة، غلبت عليهم الصِّفَة، فجرى مَجْرَى الأسماء، وصار كأنه اسم الحيّ، ولذلك أضيف إليه بلفظ الجمع، فقيل: أنصاريّ، انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "أضيف إليه بلفظ الجمع" أشار به إلى قاعدة النسب، وهي أنه إذا نُسب إلى المثنّى، أو الجمع وجب ردّه إلى واحده، إن لم يجر مجرى المفرد، كما في الأنصاريّ، قال في "الخلاصة": وَالْوَاحِدَ اذْكُرْ نَاسِبًا لِلْجَمْع ... إِنْ لَمْ يُشَابِهْ وَاحِدًا بِالْوَضْع وقال في "الفتح": اسم إسلاميّ، سَمَّى به النبيّ -صلى الله عليه وسلم- الأوسَ والخزرجَ، وحُلفاءهم، والأوس يُنسبون إلى أوس بن حارثة، والخزرج يُنسبون إلى الخزرج بن حارثة، وهما ابنا قَيْلَةَ، وهو اسم أمّهم، وأبوهم هو حارثة بن عمرو بن عامر الّذي يجتمع إليه أنساب الأزد. انتهى (¬2). وقال السمعانيّ رحمه الله: هم جماعة من أهل المدينة من الصّحابة من أولاد الأوس والخزرج، قيل لهم: الأنصار، لنصرتهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} الآية [الأنفال: 72]، وقال عزّ من قائل: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} الآية [التوبة: 117]، وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} الآية [التوبة: 100]، ¬

_ (¬1) "تاج العروس" 3/ 568. (¬2) "الفتح" 7/ 140.

وفيهم كثرة وشُهْرة على اختلاف بطونهم وأفخاذهم، انتهى (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 163 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ الله، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَحَبَّ الأَنْصَارَ أَحَبَّهُ الله، وَمَنْ أَبْغَضَ الأَنْصَارَ أَبْغَضَهُ الله". قَالَ شُعْبَةُ لِعَدِيٍّ: أَسَمِعْته مِنَ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ؟ قَالَ: إِيَّايَ حَدَّثَ). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة المشهور [7] 1/ 6. 2 - (عديّ بن ثابت) الأنصاريّ الكوفيّ، ثقة رُمي بالتشيّع [4] 14/ 114. 3 - (البراء بن عازب) الأنصاريّ الأوسيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، نزيل الكوفة 14/ 116. وأما الباقون فتقدّموا في الباب الماضي. والله تعالى أعلم. 1 - لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف. 2 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين، غير شعبة، فبصريّ، والصحابيّ -رضي الله عنه- ممّن نزل الكوفة، كما مرّ آنفًا، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَحَبَّ الأَنْصَارَ) "منْ" شرطيّة، أو موصولة مبتدأ خبرها قوله: (أَحَبَّهُ الله) أراد بمحبّتهم -والله أعلم- محبتهم لنصرة دين الله تعالى، وكذلك بغضهم إذا كان لذلك، وإلا فكثيرًا ¬

_ (¬1) "الأنساب" 1/ 228.

ما تجري معاملة تؤدّي إلى المحبّة والبغض، وهما خارجان عما يقتضيه المقام. أفاده السنديّ رحمه الله (¬1). وقال ابن التين رحمه الله: المراد حبّ جميعهم، وبغض جميعهم؛ لأن ذلك إنّما يكون للدين، ومن أبغض بعضهم لمعنى يسوغ البغض له، فليس داخلًا في ذلك، وهو تقرير حسنٌ، كما قاله في "الفتح" (¬2). (وَمَنْ أَبْغَضَ الْأَنْصَارَ أَبْغَضَهُ الله) قال القرطبيّ: هذا على مقابلة اللّفظ باللفظ، ومعناه أن من أحبّهم جازاه الله على ذلك جزاء المحبوب المحبّ من الإكرام، والترفيع، والتشفيع، وعكس ذلك في البغض، وظاهر هذا الكلام أنه خبرٌ عن مآل كلِّ واحد من الصنفين، ويصلح أن يُقال: إن ذلك الخبر خرج مخرج الدُّعاء لكلّ واحد من الصنفين، فكأنه قال: اللَّهُمَّ افعل بهم ذلك، كما قال: صلّى الله على محمّد وآله، والله أعلم، انتهى (¬3). [تنبيه]: هذا الحديث مختصر، وقد ساقه الشيخان في "صحيحيهما" بتمامه، ولفظ البخاريّ من طريق حجاج بن منهال، عن شعبة: "قال النبيّ": "الأنصار لا يُحبّهم إِلَّا مؤمن، ولا يُبغضهم إِلَّا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله"، وفي حديث أنسٍ -رضي الله عنه-، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "آية الإيمان حبّ الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار"، وقد استوفيت ما يتعلّق بهذا الحديث من مباحث نفيسة فيما كتبته على النَّسائيّ، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق. (قَالَ شُعْبَةُ) بن الحجاج (لِعَدِيٍّ: أَسَمِعْتَهُ مِنَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ؟) رضي الله عنهما (قَالَ) عديّ (إِيَّايَ حَدَّثَ) هذا تأكّد من شبعة رحمه الله، واستيثاق، لا شكّ في صدق ¬

_ (¬1) "شرح السندي" 1/ 106. (¬2) "الفتح" 7/ 144. (¬3) "المفهم" 1/ 266.

عديّ رحمه الله، ولذا قدّم عديّ المفعول، لإفادة الحصر، ويحتمل أنه إنّما سأله لاحتمال أن يكون بينهما واسطة، حيث لم يُصرّح بالتحديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (32/ 163) بهذا السند فقط، وأخرجه (البخاريّ) في (5/ 39) و (مسلم) في (1/ 60) و (الترمذي) في (2900) و (النَّسائيّ) في "فضائل الصّحابة" (229) و (علي بن الجعد) في "مسنده" (493) و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" 12/ 157 و (أحمد) في "مسنده" 4/ 283 و 292 و (ابن حبّان) في "صحيحه" (7272) و (البغويّ) في "شرح السنّة" (3967)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل الأنصار -رضي الله عنهم-. 2 - (ومنها): أن محبة الأنضار سبب لمحبّة الله تعالى، وبغضهم سبب لبغضه -نعوذ بالله من بغضه-. 3 - (ومنها): أن الجزاء من جنس العمل، فإن الأنصار لمّا أحبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأصحابه -رضي الله عنهم- جازاهم الله تعالى بأن جعل حبهم علامة الإيمان وبغضهم علامة النفاق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 164 - (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنْ عَبْدِ الْمُهَيْمِنِ ابْنِ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الأَنْصَارُ شِعَارٌ، وَالنَّاسُ دِثَار، وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ اسْتَقْبَلُوا وَادِيّا أَوْ شِعْبًا، وَاسْتَقبَلَتِ الأَنْصَارُ وَادِيًا، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ، وَلَوْلَا الهجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (عبد الرّحمن بن إبراهيم) العثمانيّ مولاهم، أبو سعيد الدمشقيّ المعروف بدُحَيم ابن اليتيم، ثقة حافظ متقنٌ [10] 7/ 51. 2 - (ابن أبي فُديك) محمّد بن إسماعيل بن مسلم الديلي مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، صدوقٌ، من صغار [8] 7/ 51. 3 - (عبد المهيمن عبّاس بن سهل بن سعد) السّاعديّ الأنصاريّ المدنيّ، ضعيفٌ [8]. رَوَى عن أبيه عن جده، وعن أبي حازم بن دينار، وامرأة لم تُسَمَّ. رَوَى عنه ابنه عبّاس، وعبد الله بن نافع، وابنُ أبي فُديك، ويعقوب بن محمّد الزّهريُّ، وذُؤيب بن غَمَامة، ويحيى بن محمّد الجاريّ، ويعقوب بن حميد بن كاسب، وعلي بن بحر بن بَرّيّ، وأبو مُصْعَب، وغيرهم. قال البخاريّ: منكر الحديث. وقال النَّسائيّ: ليس بثقة. وقال ابن عدي: له عشرة أحاديث، أو أقلُّ. وقال ابن حبّان: لمّا فَحُش الوهم في روايته بطل الاحتجاج به. وقال علي بن الجنيد: ضعيف الحديث. وقال النَّسائيُّ في موضع آخر: متروك الحديث. وقال أبو حاتم: منكر الحديث. وقال الساجي: عنده نسخة عن أبيه عن جده فيها مناكير. وقال الحربي: غيرة أوثق منه. وقال الدُّوريّ عن ابن معين: أُبَيٌّ وعبد المهيمن أخوان، وأُبَيّ أقومهما. وذكره ابن الْبَرْقي في طبقة من كان الأغلب على روايته الضعف.

وقال الدارقطنيّ: ليس بالقويّ. وقال مرّة: ضعيف. وقال أبو نعيم الأصبهانيّ: رَوَى عن آبائه أحاديث منكرة لا شيء. وأخرج الحاكم حديثه في "المستدرك"، فَوَهِمَ. وذكره البخاريّ في فصل من مات ما بين الثمانين إلى التسعين ومائة. أخرج له الترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، برقم 164 و 400 و 500 و 547 و 918 و 3465. 4 - (أبوه) عبّاس بن سهل بن سعد الساعديّ الأنصاريّ المدنيّ، ثقة [4]. أدرك زمن عثمان، وروى عن أبيه، وأبي أُسيد، وأبي حُميد الساعديين، وأبي هريرة، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل، وعبد الله بن الزُّبير، وجابر، وعبد الله بن حنظلة، وغيرهم. ورَوَى عنه ابناه: أُبيِّ، وعبد الجهيمن، وعمرو بن يحيى بن عُمارة، وعبد الرّحمن بن سليمان ابن الغسيل، وعمارة بن غَزِيَّة، وابن إسحاق، والعلاء بن عبد الرّحمن، ومحمد ابن عمرو بن عطاء، وفُليح بن سليمان، وابنُ أبي ذئب، وجماعة. قال ابن معين والنَّسائيّ: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". وقال الهيثم بن عديّ: توفي بالمدينة زمن الوليد بن عبد الملك. قال الحافظ المزّيّ: كذا قال، والأشبه أن يكون زمن الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وذلك قريب من سنة عشرين ومائة. قال الحافظ: وقد أَرَّخَ وفاته في زمن الوليد بن عبد الملك كما قال الهيثم محمّد بن سعد عن شيخه الواقدي وغيره، وخليفةُ بن خياط، ويعقوب بن سفيان، وابن حبّان، وزاد سنة تسعين، وزاد ابن سعد وُلِد في عهد عمر، وقُتِلَ عُثمانُ وهو ابن خمس عشرة سنة، وكان منقطعا إلى ابن الزُّبير. أخرج له البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، برقم 164 و 400 و 500 و 547 و 863 و 918 و 3465. 5 - (جدّه) سهل بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن

الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاريّ الساعديّ، أبو العباس، ويقال: أبو يحيى الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما. رَوَى عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وعن أُبَيّ بن كعب، وعاصم بن عدي، وعمرو بن عَبَسَة، ومروان بن الحكم، وهو دونه. ورَوَى عنه ابنه عبّاس، والزهري، وأبو حازم بن دينار، ووَفَاء بن شُريح الحَضْرميّ، ويحيى بن ميمون الحضرمي، وعبد الله بن عبد الرّحمن بن أبي ذُبَاب، وعمرو بن جابر الحضرميّ، وغيرهم. قال شعيب، عن الزّهريّ، عن سهل بن سعد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تُوُفِّي، وهو ابن (15) سنة، قال أبو نعيم وغير واحد: مات سنة (88)، زاد بعضهم: وهو ابن (96) سنة، وقال الواقدي وغيره: مات سنة (91)، وهو ابن مائة سنة، وهو آخر من مات بالمدينة من الصّحابة. قال الحافظ: رواية شعيب صحيحة، وهي المعتمدة في مولده، فيكون مولده قبل الهجرة بخمس سنين، فأيّ سنة مات يضاف إليها الخمس، فيخرج مبلغ عمره على الصِّحَّة، وما يخالف ذلك لا يُعَوَّل عليه. وقال ابن حبّان: كان اسمه حَزْنًا فسماه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سَهْلًا. وقال أبو حاتم الرَّازيُّ: عاش مائة سنة، أو أكثر، فعلى هذا يكون تأخر إلى سنة (96) أو بعدها، وزعم قتادة أنه مات بمصر، وزعم أبو بكر بن أبي داود أنه مات بالإسكندرية، قال الحافظ: وهذا عندي أنه وَلَدُهُ عبّاس بن سهل انتقل الذهن إليه، وأما سهل فموته بالمدينة. انتهى (¬1). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (30) حديثًا، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" 2/ 124.

شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ الْمُهَيْمِنِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ) عبّاس (عَنْ جَدِّهِ) سهل -رضي الله عنه- (أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ) هذا الحديث له سبب، اختصره المصنّف، وساقه الشيخان في "صحيحيهما" بطوله، وهذا لفظ الإمام البخاريّ رحمه الله في "كتاب المغازي"، قال رحمه الله: 4330 - حَدَّثَنَا موسى بن إسماعيل، حَدَّثَنَا وهيب، حَدَّثَنَا عمرو بن يحيى، عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد بن عاصم، قال لمّا أفاء الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين، قسم في النَّاس، في المؤلفة قلوبهم، ولم يُعْط الأنصار شيئًا، فكأنهم وَجَدُوا إذ لم يُصِبْهم ما أصاب الناس، فخطبهم، فقال: "يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضُلَّالًا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين، فألّفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي"، كُلَّما قال شيئًا قالوا: الله ورسوله أَمَنُّ، قال: "ما يَمنَعُكم أن تجيبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ "، قال: كلما قال شيئًا، قالوا: الله ورسوله أَمَنُّ، قال: "لو شئتم قلتم: جئتنا كذا وكذا"، أترضون أن يذهب النَّاس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إلى رِحَالكم، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك النَّاس واديّا وشِعْبًا، لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شِعَار، والناس دِثَار، إنكم ستلقون بعدي أَثَرَةً، فاصبروا حتّى تلقوني على الحوض". وقال في "كتاب الغازي" أيضًا: 4331 - حدثني عبد الله بن محمّد، حَدَّثَنَا هشام، أَخْبَرَنَا معمر، عن الزهريّ، -رضي الله عنه- قال: أخبرني أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال ناس من الأنصار حين أفاء الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- ما أفاء من أموال هَوَازن، فطفق النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- يُعطي رجالًا المائة من الإبل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطي قريشًا ويتركنا، وسيوفُنا تَقْطُرُ من دمائهم، قال أنس: فَحُدِّث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار، فجمعهم في قُبَّةٍ من أَدَم، ولم يَدْعُ معهم غيرَهم، فلما اجتمعوا قام النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "ما حديث بلغني عنكم؟ "، فقال فقهاء

الأنصار: أما رؤساؤنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئًا، وأما ناس منا حديثةٌ أسنانهم، فقالوا: يغفر الله لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُعطي قريشًا ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر، أَتَألَّفُهُم، أما ترضون أن يذهب النَّاس بالأموال، وتذهبون بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إلى رحالكم؛ فوالله لمَا تنقلبون به خير ممّا ينقلبون به"، قالوا: يا رسول الله قد رضينا، فقال لهم النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "ستجدون أَثَرَةً شديدةً، فاصبروا حتّى تلقوا الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، فإني على الحوض"، قال أنس: فلم يصبروا. انتهى. (الأنْصَارُ شِعَارٌ) بكسر الشين المعجمة، بعدها عين مهملة خفيفة: الثّوب الّذي يلي الجلد من الجسد (وَالنَّاسُ دِثَار) بكسر الدّال المهملة، ومثلّثة خفيفة: الّذي يلبس فوق الشعار، وهي استعارة لطيفة لِفَرْط قربهم منه، وأراد أيضًا أنهم بِطَانته، وخاصّته، وأنهم ألصق به، وأقرب إليه من غيرهم، قاله في "الفتح" (¬1). وقال النوويّ في "شرحه": قال أهل اللُّغة: الشِّعَار الثّوب الّذي يلي الجسد، والدثار فوقه، ومعنى الحديث أن الأنصار هو البطانة، والخاصّة، والأصفياء، وألصق بي من سائر النَّاس، وهذا من مناقبهم الظاهرة، وفضائلهم الباهرة. انتهى (¬2). (وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ اسْتَقْبَلُوا وَادِيًا) قال القرطبيّ: هو مجرى الماء المتّسع (¬3)، وقال في "الفتح": هو المكان المنخفض، وقيل: الّذي فيه ماء، والمراد هنا بلدهم (أَوْ شِعْبًا) بكسر الشين المعجمة: اسم لما انفرج بين جبلين، وقيل: الطريق في الجبل، وأراد -صلى الله عليه وسلم- بهذا التنبيه على جزيل ما حصل لهم من ثواب النصرة، والقناعة بالله ورسوله عن الدنيا، ومَنْ هذا وصفه، فحقّه أن يُسلَك طريقه، ويُتَّبَع حاله، قاله في "الفتح". (وَاسْتَقْبَلَتِ الأَنْصَارُ وَادِيًا، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأنْصَارِ) يعني أنه لا يفارقهم، ولا ¬

_ (¬1) "الفتح" 8/ 65. (¬2) "شرح مسلم" 7/ 157. (¬3) "المفهم" 3/ 105.

يسكن إِلَّا معهم، وفيه إبطال لزعم بعضهم أنه سيسكن مكّة بعد فتحها. وقال الخطّابيّ رحمه الله: لمّا كانت العادة أن المرء يكون في نزوله، وارتحاله مع قومه، وأرض الحجاز كثيرة الأودية والشِّعَاب، فإذا تفرّقت في السَّفر الطرُقُ سلك كلُّ قوم منهم واديّا وشِعْبًا، فأراد أنه مع الأنصار، قال: ويحتمل أن يُريد بالوادي المذهب كما يقال: فلان في وادي فلان، وأنا في واد. انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: المعنى الأوّل هو الظّاهر، فتأمّله، والله تعالى أعلم. (وَلَوْلَا الهجْرَةُ) أي لولا شرفها، وجلالة قدرها عند الله تعالى (لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصارِ") أي لعددت نفسي واحدًا منهم؛ لكمال فضلهم وشرفهم بعد فضل الهجرة وشرفها، والمقصود الإخبار بما لهم من المزيّة بعد مزيّة الهجرة، وأنها مزيّة يرضى بها مثله، وإلا فالانتقال لا يُتصوّر، سيّما الانتساب، فإنّه حرام دينًا أيضًا (¬2). وقال الخطابيّ رحمه الله: أراد بهذا الكلام تألُّفَ الأنصار، واستطابة نفوسهم، والثناء عليهم في دينهم، حتّى رضي أن يكون واحدًا منهم، لولا ما يمنعه من الهجرة الّتي لا يجوز تبديلها، ونسبةُ الإنسان تقع على وجوه: منها: الولادة، والبِلادية، والاعتقادية، والصناعية، ولا شك أنه لم يُرِد الانتقال عن نسب آبائه؛ لأنه ممتنع قطعًا، وأما الاعتقاديّ فلا معنى للانتقال فيه، فلم يبق إِلَّا القسمان الأخيران، وكانت المدينة دار الأنصار، والهجرة إليها أمرًا واجبًا، أي لولا أن النسبة الهجرية لا يَسَعُني تركها لانتسبت إلى داركم، قال: ويحتمل أنه لمّا كانوا أخواله؛ لكون أم عبد المطلب منهم، أراد أن ينتسب إليهم بهذه الولادة، لولا مانع الهجرة. وقال ابن الجوزيّ رحمه الله: لم يرد -صلى الله عليه وسلم- تَغيِيرَ نسبه، ولا مَحْوَ هجرته، وإنما أراد أنه لولا ما سبق من كونه هاجر لانتسب إلى المدينة، وإلى نصرة الدين، فالتقدير لولا أن ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 8/ 65. (¬2) "شرح السنديّ" 1/ 107.

الهجرة نسبة دينية، لا يَسَعُ تركها لانتسبت إلى داركم. وقال القرطبي رحمه الله: معناه: لتسميت باسمكم، وانتسبت إليكم، كما كانوا ينتسبون بالحلف، لكن خصوصية الهجرة وتربيتها سبقت، فمنعت من ذلك، وهي أعلى وأشرف، فلا تَتبَدَّل بغيرها. وقيل: معناه: لكنت من الأنصار في الأحكام والعِدَاد. وقيل: التقدير: لولا أن ثواب الهجرة أعظم لاخترت أن يكون ثوابي ثواب الأنصار، ولم يُرِد ظاهر النسب أصلًا. وقيل: لولا التزامي بشروط الهجرة، ومنها ترك الإقامة بمكة فوق ثلاث، لاخترت أن أكون من الأنصار، فيباح لي ذلك. ذكر هذا كلّه في "الفتح" (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لا تخالف بين هذه الأقوال، وأظهرها ما قاله القرطبيّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. (مسألة): حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما بهذا الإسناد من أفراد المصنّف، وهو ضعيف بهذا الإسناد؛ لضعف عبد المهيمن، كما سبق في ترجمته. قال البوصيريّ رحمه الله: هذا إسناد ضعيف، والآفة فيه من عبد المهيمن بن عبّاس، وباقي رجاله ثقات. قال: رواه الترمذيّ في "الجامع" من حديث أُبيّ بن كعب -رضي الله عنه-، لكنه لم يذكر: "الأنصار شعار، والناس دِثَار"، وقال: "ولو سلك النَّاس" بدل "ولو استقبلوا"، والباقي نحوه، وقال: حديث حسن. انتهى (¬2). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحديث بهذا الإسناد ضعيف، كما عرفت، لكنه ¬

_ (¬1) "الفتح" 8/ 64 - 65. (¬2) "مصباح الزجاجة" ص 50.

متّفق عليه من حديث أنس، وعبد الله بن زيد بن عاصم، وأخرجه البخاريّ من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وصحيح أيضًا من حديث أبي قتادة، وأبي بن كعب -رضي الله عنه-، فاقتصار البوصيريّ على حديث أبيّ -رضي الله عنه- فقط تقصير منه، لإشعاره أنه لم يروه غير أُبيّ بن كعب عند الترمذيّ، مع أنه متّفقٌ عليه من حديث الأولين، وأخرجه البخاريّ من حديث الثّالث، وصحيح أيضًا من حديث أبي قتادة -رضي الله عنه-. فأمّا حديث أنس -رضي الله عنه- فأخرجه (البخاريّ) في "المغازي" (3146 و 3147 و 3163 و 3528 و 3778 و 3793 و 4333) و (مسلم) في "الزكاة" 1059 و (الترمذيّ) في "المناقب" (3836) و (النَّسائيّ) في "الزَّكاة" (2610 و 2611) و (أحمد) في "مسنده" (11642 و 11742 و 12147 و 12235 و 12245 و (الدارميّ) في "مسنده" (2415). وأما حديث عبد الله بن زيد -رضي الله عنه- فأخرجه (البخاريّ) 5/ 200 و 9/ 106 و (مسلم) في 3/ 108. وأما حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- فأخرجه (البخاريّ) في 5/ 38 و 9/ 106 و (الدارميّ) (2517) و (أحمد) في 2/ 315 و 410 و 414 و 469 و 501 و 3/ 67. وأما حديث أبي قتادة -رضي الله عنه- فأخرجه (أحمد) 5/ 307 و (الحاكم) في "المستدرك" 4/ 79 بإسناد صحيح. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبّين بهذا كلّه أن الحديث وإن كان ضعيف الإسناد من حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما، لكنه صحيح من أحاديث هؤلاء الصّحابة -رضي الله عنهم-. ودلالة الحديث على ما ترجم له المصنّف، وهو بيان فضل الأنصار -رضي الله عنهم- واضحة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 165 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَني كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "رَحِمَ الله الأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الأَنْصارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصارِ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (أبو بكر بن أبي شيبة) هو: عبد الله بن محمّد بن أبي شيبة إبراهيم عثمان العبسيّ الكوفيّ، ثقة حافظ [10] 1/ 1. 2 - (خالد بن مَخْلد) الْقَطَوَانيّ -بفتح القاف والطاء- أبو الْهَيْثَم البجليّ مولاهم الكوفيّ، وقَطَوَان موضع بالكوفة، صدوقٌ يتشيّع، وله أفراد، من كبار [10]. رَوَى عن سليمان بن بلال، وعبد الله بن عُمر العُمَريّ، ومحمد بن جعفر بن أبي كثير، ومالك، وعبد الرّحمن بن أبي الموال، وإسحاق بن حازم المدني، وغيرهم. ورَوَى عنه البخاريّ، وروى له مسلم، وأبو داود في "مسند مالك"، والباقون بواسطة محمّد بن عثمان بن كَرَاَمة، وأبي كريب، وابن نمير، والقاسم بن زكريا، وعبد بن حميد، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأحمد بن عثمان بن حكيم الأودي، وجماعة. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: له أحاديث مناكير. وقال أبو حاتم: يُكتَب حديثه. وقال الآجري عن أبي داود: صدوقٌ، ولكنه يَتَشَيَّع. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ما به بأس. وقال ابن عديّ: هو من المكثرين، وهو عندي -إن شاء الله- لا بأس به. وقال أيضًا بعد أن ساق له أحاديث: لم أجد في حديثه أنكر ممّا ذكرته، ولعلّها تَوَهُّمًا منه، أو حملًا على حفظه. وقال ابن سعد: كان متشيعا منكر الحديث مُفْرِطًا في التشيع، وكتبوا عنه للضرورة. وقال العجلي: ثقة، فيه قليل تشيع، وكان كثير الحديث. وقال صالح بن محمّد جَزَرَة: ثقة في الحديث، إِلَّا أنه كان مُتَّهَمًا بالغلوّ. وقال الجوزجاني: كان شَتّامًا مُعْلِنًا لسوء مذهبه. وقال الأعين: قلت له: عندك أحاديث في مناقب الصحابة؟ قال: قل: في المثالب، أو المثاقب -يعني بالمثلثة، لا بالنون-. وحكى أبو الوليد الباجي

في رجال البخاريّ، عن أبي حاتم أنه قال: لخالد بن مخلد أحاديث مناكير، ويكتب حديثه. وفي "الميزان" للذهبي: قال أبو أحمد: يكتب حديثه، ولا يحتج به. وقال الأزديّ: في حديثه بعض المناكير، وهو عندنا في عداد أهل الصدق. وقال ابن شاهين في "الثِّقات": قال عثمان بن أبي شيبة: هو ثقة صدوق. وذكره الساجي والعقيلي في "الضعفاء". وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: كان يكره أن يقال له: الْقَطَوَانيّ. وقال البخاريّ في "تاريخه": كان يغضب من القَطَوَاني، ويقال: إنما قَطَوَان بَقّال. وزعم الباجي أن قَطَوان قرية بالقرب من الكوفة، وبه جزم ابن السمعاني. قال مطين: مات سنة (213) وكذا أرخه ابن سعد، وقال ابن قانع: سنة (14)، وذكره البخاريّ في "الأوسط" فيمن مات فيما بين سنة (11) إلى (15). أخرج له البخاريّ، ومسلم، وأبو داود في "مسند مالك"، والترمذيّ، والنَّسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب (19) حديثًا. 3 - (كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف) بن زيد بن مِلْحَة اليشكري المزنيّ المدنيّ، ضعيف [7]. رَوَى عن أبيه، ومحمد بن كعب القرظيّ، ونافع مولى ابن عمر، وبكير بن عبد الرّحمن المزني، وجماعة. ورَوَى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، وأبو أويس، وزيد بن الحُبَاب، وعبد الله ابن وهب، وعبد الله بن نافع، وإبراهيم بن علي الرافعي، وغيرهم. قال أبو طالب عن أحمد: منكر الحديث ليس بشيء. وقال عبد الله بن أحمد: ضرب أبي على حديث كثير بن عبد الله في "المسند"، ولم يُحدّثنا عنه. وقال أبو خيثمة: قال لي أحمد: لا تحدث عنه شيئًا. وقال الدُّوري عن ابن معين: لجده صحبة، وهو ضعيف الحديث، وقال مرّة: ليس بشيء. وقال الدارمي عن ابن معين أيضًا: ليس بشيء. وقال الآجري: سئل أبو داود عنه: فقال كان أحد الكذابين، سمعت محمّد بن

الوزير المصري يقول: سمعت الشّافعيّ، وذكر كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، فقال: ذاك أحد الكذابين، أو أحد أركان الكذب. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عنه، فقال: واهي الحديث، ليس بقوي، قلت له: بهز بن حكيم، وعبد المهيمن، وكثير أيهم أحب إليك؟ قال: بهز وعبد المهيمن أحب إلي منه. وقال أبو حاتم: ليس بالمتين. وقال التّرمذيّ: قلت لمحمد في حديث كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده في السّاعة الّتي تُرْجَى في يوم الجمعة: كيف هو؟ قال: هو حديث حسن، إِلَّا أن أحمد كان يَحْمِل على كثير يضعفه، وقد روى يحيى بن سعيد الأنصاري عنه. وقال النَّسائيُّ، والدارقطني: متروك الحديث. وقال النَّسائيُّ في موضع آخر: ليس بثقة. وقال ابن حبّان: روى عن أبيه عن جده نسخة موضوعة، لا يحل ذكرها في الكتب، ولا الرِّواية إِلَّا على جهة التعجب. وقال ابن عديّ: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. وقال إبراهيم بن المنذر عن مُطَرّف: رأيته وكان كثير الخصومة، ولم يكن أحد من أصحابنا يأخذ عنه. وقال له ابن عمران القاضي: يا كثير أنت رجل بَطّال تخاصم فيما لا تَعْرِف، وتَدَّعِي ما ليس لك، وليس عندك ما يُطْلَب. وقال أبو نعيم: ضعفه علي ابن المديني. وقال ابن سعد: كان قليل الحديث، يُستَضعف. وقال ابن السكن: يروي عن أبيه، عن جده أحاديث فيها نظر. وقال الحاكم: حدَّث عن أبيه عن جده نسخة فيها مناكير. وضعفة الساجيّ، ويعقوب بن سفيان، وابن الْبَرْقيّ. وقال ابنُ عبد البرّ: مجمع على ضعفه. وذكره البخاريّ في "الأوسط" في فصل من مات من الخمسين ومائة إلى الستين. روى له البخاريّ في "جزء القراءة"، والترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا. 4 - (أبوه) عبد الله بن عمرو بن عوف بن زيد بن مِلْحَة المزنيّ المدنيّ، مقبول [3]. رَوَى عن أبيه، وعنه ابنه كثير، وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". قال الحافظ: ووقع في سند الحديث الّذي علقه البخاريّ لوالده ذكره ضِمْنًا، وهو في "كتاب الغصب".

روى له البخاريّ في خلق "أفعال العباد"، وفي "جزء القراءة"، وأبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا أيضًا. 5 - (جدّه) عمرو بن عوف بن زيد بن مِلْحَة -بكسر أوّله، ومهملة- ابن عمرو ابن بكر بن أفرك بن عثمان بن عمرو بن أُدّ بن طابخة، أبو عبد الله المزنيّ، قال ابن سعد: كان قديم الإسلام، رَوَى عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ورَوَى حديثه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه عن جده، وكثير ضعيف، وذكر أبو حاتم ابن حبّان في "الصّحابة" أنه مات في ولاية معاوية. وقال الواقديّ: استعمله النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- على حرم المدينة. وقال البخاريّ في "التاريخ": قال لنا ابن أبي أويس: حَدَّثَنَا كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، قال: كنا مع النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- حين قَدِمَ المدينة، فصلّى نحو بيت المقدس سبعة عشر شهرًا. ورَوَى ابن سعد عنه أن أول غزوة غزاها الأبواء. روى له البخاريّ في التعاليق، وأبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا أيضًا، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: عن (عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -رضي الله عنه-: "رَحِمَ الله الأَنْصَارَ) جملة فعلية خبريّة اللّفظ، إنشائية المعنى؛ لأن المراد بها الدعاء بالرّحمة لهم، لا الإخبار بذلك، ويدلُّ على ذلك ما وقع عند الشيخين في حديث زيد بن أرقم -رضي الله عنه- بلفظ: "اللَّهُمَّ اغفر للأنصار ... " الحديث (وَأَبْنَاءَ الْأنْصَارِ) قال السنديّ رحمه الله أراد بالأبناء الصلبيّة في الموضعين، إذ لو أراد أعمّ لما احتاج "إلى قوله: (وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ") قال: ويحتمل على بُعْد أن المراد العموم في أبناء الأبناء، ثمّ الظّاهر أن المراد بالأبناء الأولاد، فالدعاء شاملٌ للذكور والإناث. انتهى (¬1). ولفظ الشيخين من حديث زيد بن أرقم -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهمّ ¬

_ (¬1) "المفهم" 1/ 107.

اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار". ولفظ مسلم من حديث أنس -رضي الله عنه-: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استغفر للأنصار -قال: وأحسبه قال-: "ولذرَاريّ الأنصار، ولموالي الأنصار" لا أشكّ فيه. قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهره الانتهاء بالاستغفار إلى البطن الثّالث، فيمكن أن يكون ذلك؛ لأنهم من القرون الّتي قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خير أُمَّتي قرني، ثمّ الذين يلونهم، ثمّ الذين يلونهم" متّفقٌ عليه. ويمكن أن تشمل بركة هذا الاستغفار المؤمنين من نسل الأنصار إلى يوم القيامة مبالغةً في إكرام الأنصار، لا سيّما إذا كانت نيّة الأولاد فعل مثال ما سبق إليه الأجداد، ويؤيّد ذلك قوله في الرِّواية الأخرى: "ولذرَارِيّ الأنصار". انتهى (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. (مسألة): حديث عمرو بن عوف -رضي الله عنه- هذا ضعيف بهذا الإسناد؛ لاتفاقهم على ترك كثير بن عبد الله، فقد تركه النَّسائيّ، والدراقطنيّ، وضعّفه غير واحد، واتّهمه الشّافعي وأبو داود بالكذب، كما سبق في ترجمته، قال: البوصيريّ: هذا إسناد ضعيف، فيه كثير بن عبد الله، وهو متّهمٌ، ورواه البخاريّ ومسلم من حديث زيد بن أرقم -رضي الله عنه- بلفظ "اللَّهُمَّ اغفر للأنصار"، والباقي مثله، وهو في "جامع الترمذيّ" من حديث أنس -رضي الله عنه -كما هو في "الصحيحين"، وقال: حسنٌ غريبٌ من هذا الوجه. انتهى (¬2). والحاصل أن الحديث صحيح، من حديث زيد بن أرقم، ومن حديث أنس -رضي الله عنه-. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. ¬

_ (¬1) "المفهم" 6/ 469. (¬2) "مصباح الزجاجة" ص 51.

33 - فضل ابن عباس رضي الله عنهما

33 - (فَضْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما) هو: عبد الله بن عبّاس بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف، ابن عمّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وُلد قبل الهجرة بثلاث سنين، ودعا له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالفهم في القرآن، فكان يدعى بترجمان القرآن، والبحر والحبر لسعة علمه، قال عمر -رضي الله عنه-: لو أدرك ابن عبّاس أسناننا ما عاشره منا أحدٌ، وهو أحد العبادة الأربعة، والمكثرين السبعة، مات سنة (68 هـ) بالطائف، وتقدّمت ترجمته مستوفاة في 3/ 27، فراجعها تستفد، وبالله تعالى التوفيق. وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 166 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، وأَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ الْبَاهِليُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ضَمَّنِي رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِ، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ، وَتَأْوِيلَ الْكِتَابِ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (محمّد بن المثنّى) بن عُبيد الْعَنَزيّ، أبو موسى البصريّ المعروف بالزَّمِن، ثقة ثبتٌ [10] 9/ 66. 2 - (أبو بكر بن خلاد الباهليّ) هو: محمّد بن خلّاد بن كثير البصريّ، ثقة [10] 2/ 19. 3 - (عبد الوهّاب) بن عبد المجيد بن الصَّلْت الثقفيّ، أبو محمّد البصريّ، ثقة تغيّر قبل موته بثلاث سنين [8] 2/ 17. 4 - (خالد الحذّاء) هو: ابن مِهْران، أبو المُنَازل البصريّ، ثقة يرسل [5] 26/ 154. 5 - (عكرمة) أبو عبد الله المدنيّ، مولى ابن عبّاس، بربريّ الأصل، ثقة ثبتٌ، لا يثبت عنه بدعة [3] 9/ 62. 6 - (ابن عبّاس م) تقدّم أول الباب. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف. 2 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين. 3 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصّحيح، بل من رجال الجماعة، غير شيخه أبي بكر فأخرج له مسلم، وأبو داود، والنَّسائيّ، والمصنّف. 4 - (ومنها): أن شيخه محمّد بن المثنّى أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، وهم تسعة، وقد تقدّموا غير مرّة. 5 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: خالد عن عكرمة. 6 - (ومنها): أن صحابيّه أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وأحد المشهورين بالفتوى من الصّحابة -رضي الله عنهم-، وهو ترجمان القرآن، وحبر الأمة، وبحرها. والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ضَمَّنِي رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِ) وفي رواية للبخاريّ في "المناقب": "إلى صدره"، وكان ابن عبّاس إذ ذَاك غلامًا مميزًا، فيستفاد منه جواز احتضان الصبي القريب على سبيل الشفقة (وَقَالَ: "اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ) بين البخاريّ رحمه الله في روايته في "كتاب الطّهارة" من طريق عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عبّاس رضي الله عنهما سبب هذا الدُّعاء، ولفظه: "دخل النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- الخلاء، فوضعت له وَضُوءًا"، زاد مسلم: "فلما خرج قال: من وضع هذا؟ فأُخبر"، ولمسلم: "قالوا: ابنُ عبّاس"، ولأحمد وابن حبّان من طريق سعيد بن جبير عنه أن ميمونة رضي الله عنها هي الّتي أخبرته بذلك، وأن ذلك كان في بيتها ليلًا، ولعلّ ذلك كان في اللَّيلة الّتي بات ابن عبّاس فيها عندها ليرى صلاة النّبيّ -صلى الله عليه وسلم -كما سيأتي في موضعه -إن شاء الله تعالى-، وقد أخرج أحمد من طريق عمرو بن دينار، عن غريب، عن ابن عبّاس في قيامه خلف النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- في صلاة اللّيل، وفيه: "فقال لي: ما بالك أجعلك حذائي، فتخلفني؟ فقلت: أَوَ ينبغي لأحد أن

يُصَلِّي حذاءك، وأنت رسول الله؟ فدعا لي أن يزيدني الله فهمًا وعلمًا". (الحكْمَةَ) ولفظ البخاريّ: "اللَّهُمَّ علمه الكتاب"، قال في "الفتح": المراد بالكتاب القرآن؛ لأن العرف الشرعي عليه، والمراد بالتعليم ما هو أعم من حفظه، والتفهم فيه، ووقع في رواية مسدد "الحكمة" بدل "الكتاب"، وذكر الإسماعيلي أن ذلك هو الثابت في الطرق كلها عن خالد الحذاء، كذا قال، وفيه نظر؛ لأن البخاريّ أخرجه أيضًا من حديث وهيب عن خالد بلفظ "الكتاب" أيضًا، فيُحْمَل على أن المراد بالحكمة أيضًا القرآن، فيكون بعضهم رواه بالمعنى، وللنسائيّ والترمذي من طريق عطاء، عن ابن عبّاس قال: "دعا لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أَنْ أُوتَى الحكمة مرتين". فيَحْتَمِل تعدد الواقعة، فيكون المراد بالكتاب القرآن، وبالحكمة السنة، ويؤيده أن في رواية عبيد الله بن أبي يزيد عند الشيخين: "اللَّهُمَّ فقهه في الدين"، لكن لم يقع عند مسلم "في الدين"، وذكر الحميدي في "الجمع" أن أبا مسعود ذكره في "أطراف الصحيحين" بلفظ: "اللَّهُمَّ فقهه في الدين، وعلمه التّأويل"، قال الحميدي: وهذه الزِيادة ليست في "الصحيحين". قال الحافظ: وهو كما قال، نعم هي في رواية سعيد بن جبير عند أحمد، وابن حبّان، والطبراني، ورواها ابن سعد من وجه آخر عن عكرمة مرسلًا، وأخرج البغوي في "معجم الصّحابة" من طريق زيد بن أسلم، عن ابن عمر: "كان عمر يدعو ابن عبّاس، ويُقَرِّبه، ويقول: إنِّي رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعاك يومًا، فمسح رأسك، وقال: اللَّهُمَّ فقهه في الدين، وعلمه التّأويل". واختلف الشراح في المراد بالحكمة هنا، فقيل: القرآن بهما تقدّم، وقيل: العمل به، وقيل: السنة، وقيل: الإصابة في القول، وقيل: الخشية، وقيل: الفهم عن الله، وقيل: العقل، وقيل: ما يَشْهَد العقل بصحته، وقيل: نُورٌ يُفَرَّق به بين الإلهام والوسواس، وقيل: سرعة الجواب مع الإصابة، وبعض هذه الأقوال ذكرها بعض أهل التفسير في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12]، والأقرب أن المراد بها

في حديث ابن عبّاس اللهم في القرآن. قاله في "الفتح". (¬1). وزاد في "كتاب المناقب": ما نصّه: وكان ابن عبّاس من أعلم الصّحابة بتفسير القرآن. ورَوَى يعقوب بن سفيان في "تاريخه" بإسناد صحيح عن ابن مسعود قال: لو أدرك ابن عبّاس أسناننا ما عاشره منا رجل، وكان يقول: نعم ترجمان القرآن ابن عبّاس. ورَوَى هذه الزيادة ابن سعد من وجه آخر عن عبد الله بن مسعود. ورَوَى أبو زرعة الدمشقي في "تاريخه" عن ابن عمر قال: هو أعلم بما أنزل الله على محمّد -صلى الله عليه وسلم-، وأخرج ابن أبي خيثمة نحوه بإسناد حسن. ورَوَى يعقوب أيضًا بإسناد صحيح عن أبي وائل قال: قرأ ابن عبّاس "سورة النور"، ثمّ جعل يُفَسِّرها، فقال رجل: لو سمعت هذا الديلم لأسلمت، ورواه أبو نعيم في "الحلية" من وجه آخر بلفظ "سورة البقرة"، وزاد: إنّه كان علي الموسم -يعني سنة خمس وثلاثين كان عثمان أرسله لما حصر-. انتهى (¬2). (وَتَأوِيلَ الْكِتَابِ) هكذا النسخ الّتي عندنا بهذه الزيادة، لكن من الغريب عزاها "الفتح" إلى بعض النسخ، ودونك نصّه: قال: ووقع في بعض نسخ ابن ماجه من طريق عبد الوهّاب الثقفي، عن خالد الحذاء، في حديث الباب بلفظ: "اللَّهُمَّ علمه الحكمة، وتأويلَ الكتاب"، وهذه الزيادة مُستغرَبةٌ من هذا الوجه، فقد رواه الترمذيّ، والإسماعيليّ، وغيرهما من طريق عبد الوهّاب بدونها. قال: وقد وجدتها عند ابن سعد من وجه آخر، عن طاوس، عن ابن عبّاس، قال: دعاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمسح على ناصيتي، وقال: "اللَّهُمَّ علمه الحكمة، وتأويل الكتاب"، وقد رواه أحمد عن هُشيم، عن خالد، في حديث الباب بلفظ: "مسح على رأسي". وهذه الدّعوة ممّا تَحَقَّقَ إجابةُ النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- فيها، لِمَا عُلِم من حال ابن عبّاس في معرفة ¬

_ (¬1) "الفتح" 1/ 223 - 224 "كتاب العلم" رقم الحديث (75). (¬2) "الفتح" "كتاب المغازي" 127 رقم الحديث (3756).

التفسير، والفقه في الدين، رضي الله تعالى عنه (¬1). [تنبيه]: قال في "الفتح": وهذه اللفظة -يعني قوله: "وعلّمه التّأويل" اشتَهَرت على الألسنة "اللَّهُمَّ فقهه في الدين، وعَلِّمه التّأويل"، حتّى نسبها بعضهم في "الصحيحين"، ولم يُصِب، والحديث عند أحمد بهذا اللّفظ من طريق ابن خُيثم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، وعند الطَّبرانيُّ من وجهين آخرين، وأوله في "صحيح البخاريّ" من طريق عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عبّاس دون قوله: "وعلمه التّأويل"، وأخرجها البزار من طريق شعيب بن بشر، عن عكرمة، بلفظ: "اللَّهُمَّ علمه تأويل القرآن"، وعند أحمد من وجه آخر عن عكرمة: "اللَّهُمَّ أعط ابن عبّاس الحكمة، وعلمه التّأويل". انتهى (¬2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا أخرجه البخاريّ. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (33/ 166) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه البخاريّ في (1/ 2/ 29 و5/ 34 و 9/ 113) و (الترمذي) في (3824) و (النَّسائيّ) في "الفضائل" (76) و (أحمد) في "مسنده" (1/ 214 و 269 و 359) وفي "فضائل الصّحابة" له (1835 و 1883 و 1923) و (يعقوب بن سفيان) في "المعرفة" (1/ 518) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (7054) و"الطبرانيّ" في "الكبير" (10588 و 11531 و 11961)، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) فتح الباري جـ: 1 ص: 224 رقم (75). (¬2) "الفتح" 7/ 127 "كتاب المناقب" حديث (3756).

(المسألة الثّالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل ابن عبَّاس رضي الله عنهما. 2 - (ومنها): بركة دعاء النبيّ -صلى الله عليه وسلم- حيث كان ابن عبّاس رضي الله عنهما ترجمان القرآن، وحبر الأمة وبحرها لهذه الدّعوة المباركة. 3 - (ومنها): استحباب خدمة الأكابر؛ لأن ابن عبّاس حصل ذلك بسبب أنه وضع للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- ماء للوضوء لما دخل الخلاء، كما سبق بيانها. 4 - (ومنها): جواز ضمّ الطفل محبّة وشفقة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. ولما أنهى الكلام على فضائل الصّحابة الكرام -رضي الله عنهم-، أتبعه ببيان قبائح الفِرَق الضالّة اللئام؛ للمناسبة الضدّيّة، ولأنهم أول ما خرجوا على الأمة خرجوا على إمام العدل عثمان -رضي الله عنه- حتّى قتلوه، ثمّ عليّ -رضي الله عنه-، فحملوا السلاح على المسلمين، وعلى مقدّمتهم الصّحابة الذين مضى ذكر فضائلهم، فقاتلوهم بالحجة والسيف، فأول من قام بالحجة هو ابن عبّاس رضي الله عنهما لمّا بعثه عليّ -رضي الله عنه-، فَحَاجَّهم، فرجع كثير منهم كما سيأتي بيان ذلك، ولذا ناسب ذكرهم بعد ترجمته رضي الله عنه، والله تعالى أعلم. قال رحمه الله:

34 - باب في الخوارج

34 - (بَابٌ في الْخَوَارِجِ) قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في هذه التّرجمة مسألتان: (المسألة الأولى): في معنى الخوارج، ومتى خرجوا؟، وبيان سبب خروجهم: (اعلم): أن الخوارج جمع خارجة، أي طائفة، وهم قوم مبتدعون، سُمُّوا بذلك لخروجهم عن الدين، وخروجهم على خيار المسلمين، وأصل بدعتهم فيما حكاه الرافعي في "الشرح الكبير" أنهم خرجوا على علي -رضي الله عنه- حيث اعتقدوا أنه يَعْرِف قَتَلَة عثمان -رضي الله عنه- ويَقْدِر عليهم، ولا يَقْتَصّ منهم لرضاه بقتله، أو مواطأته إياهم، كذا قال، وهو خلاف ما أطبق عليه أهل الأخبار، فإنّه لا نزاع عندهم أن الخوارج لم يطلبوا بدم عثمان، بل كانوا ينكرون عليه أشياء، ويتبرءون منه، وأصل ذلك أن بعض أهل العراق أنكروا سِيرة بعض أقارب عثمان، فطَعَنوا على عثمان بذلك، وكان يقال لهم: القراء لشدة اجتهادهم في التلاوة والعبادة، إِلَّا أنهم كانوا يتأولون القرآن المراد منه ويستبدون برأيهم، ويتنطعون في الزهد والخشوع، وغير ذلك، فلما قُتِل عثمان قاتلوا مع علي، واعتقدوا كُفْرَ عثمان ومن تابعه، واعتقدوا إمامة علي وكفر من قاتله من أهل الجمل الّذي كان رئيسهم طلحة والزبير، فإنهما خرجا إلى مكّة بعد أن بايعا عليا، فلقيا عائشة وكانت حجت تلك السنة، فاتفقوا على طلب قَتَلَة عثمان. وخرجوا إلى البصرة يدعون النَّاس إلى ذلك، فبلغ عليا، فخرج إليهم، فوقعت بينهم وقعة الجمل المشهورة، وانتصر على، وقُتل طلحة في المعركة، وقُتل الزُّبير بعد أن انصرف من الوقعة، فهذه الطائفة هي الّتي كانت تطلب بدم عثمان بالاتفاق، ثمّ قام معاوية بالشام في مثل ذلك، وكان أمير الشّام إذ ذاك، وكان عليٌّ أرسل إليه لأن يبايع له أهل الشّام، فاعتَلَّ بأن عثمان قُتل مظلومًا، وتجب المبادرة إلى الاقتصاص من قَتَلته، وأنه أقوى النَّاس على الطلب بذلك، ويلتمس من علي أن يُمَكِّنه منهم، ثمّ يبايع له بعد ذلك، وعلي يقول: ادخل فيما دخل فيه النَّاس، وحاكمهم إليّ أحكم فيهم بالحق، فلما طال الأمر خرج علي في أهل العراق طالبًا قتال أهل الشّام، فخرج معاوية في أهل الشّام

قاصدًا إلى قتاله، فالتقيا بصِفِّين، فدامت الحرب بينهما أشهرًا، وكاد أهل الشّام أن ينكسروا، فرفعوا المصاحف على الرماح، ونادَوْا ندعوكم إلى كتاب الله تعالى، وكان ذلك بإشارة عمرو بن العاص، وهو مع معاوية، فترك جمع كثير ممّن كان مع علي، وخُصُوصًا القراءُ القتالَ بسبب ذلك تديُّنًا، واحتجوا بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} الآية [آل عمران: 23]، فراسلوا أهل الشّام في ذلك، فقالوا: ابعثوا حَكَمًا منكم، وحَكَمًا مِنّا، ويحضر معهما من لم يباشر القتال، فمن رأوا الحق معه أطاعوه، فأجاب عليّ ومن معه إلى ذلك، وأنكرت ذلك تلك الطائفة الّتي صاروا خوارج، وكتب علي بينه وبين معاوية كتاب الحكومة بين أهل العراق والشام، هذا ما قاضى عليه أمير المؤمنين على معاوية، فامتنع أهل الشّام من ذلك، وقالوا: اكتبوا اسمه واسم أبيه، فأجاب عليّ إلى ذلك، فأنكره عليه الخوارج أيضًا، ثمّ انفصل الفريقان على أن يحضر الحكمان، ومن معهما بعد مدة عينوها في مكان وسط بين الشّام والعراق، ويرجع العسكران إلى بلادهم إلى أن يقع الحكم، فرجع معاوية إلى الشّام، ورجع علي إلى الكوفة، ففارقه الخوارج، وهم ثمانية آلاف، وقيل: كانوا أكثر من عشرة آلاف. وقيل: ستة آلاف، ونزلوا مكانًا، يقال له: حَرُوراء -بفتح المهملة، وراءين الأولى مضمومة- ومن ثَمَّ قيل لهم: الحرورية، وكان كبيرهم عبد الله بن الْكَوَّاء -بفتح الكاف، وتشديد الواو، مع المد- اليشكريّ، وشَبَث -بفتح المعجمة، والموحدة، بعدها مثلثة- التميميّ، فأرسل إليهم عليٌّ ابنَ عبّاس، فناظرهم فرجع كثير منهم معه، ثمّ خرج إليهم عليّ فأطاعوه، ودخلوا معه الكوفة، معهم رئيساهم المذكوران، ثمّ أشاعوا أن عليا تاب من الحكومة، ولذلك رجعوا معه، فبلغ ذلك عليًّا، فخطب وأنكر ذلك، فتنادوا من جوانب المسجد لا حكم إِلَّا لله، فقال: كلمة حق يراد بها باطل، فقال لهم: لكم علينا ثلاث، أن لا نَمنعكم من المساجد، ولا من رزقكم من الفيء، ولا نبدؤكم بقتال ما لم تُحْدِثوا فسادًا، وخرجوا شيئًا بعد شيء إلى أن اجتمعوا بالمدائن، فراسلهم في

الرجوع، فأصروا على الامتناع حتّى يُشْهِد على نفسه بالكفر؛ لرضاه بالتحكيم، ويتوب، ثمّ راسلهم أيضًا فاستعرضوا النَّاس، فقتلوا من اجتاز بهم من المسلمين، ومر بهم عبد الله بن خباب بن الأرت، وكان واليًا لعلي على بعض تلك البلاد، ومعه سُرِّيَّة وهي حامل، فقتلوه وبَقَروا بطن سُرِّيته عن ولد، فبلغ عليا فخرج إليهم في الجيش الّذي كان هيأه للخروج إلى الشّام، فأوقع بهم بالنَّهْرَوان، ولم ينج منهم إِلَّا دون العشرة، ولا قُتل ممّن معه إِلَّا نحو العشرة، فهذا ملخص أول أمرهم. ثمّ انضم إلى من بقي منهم مَنْ مال إلى رأيهم، فكانوا مختفين في خلافة علي، حتّى كان منهم عبد الرّحمن بن مُلْجِم الّذي قَتَل عليا بعد أن دخل علي في صلاة الصُّبح، ثمّ لمّا وقع صلح الحسن ومعاوية ثارت منهم طائفة، فأوقع بهم عسكر الشّام بمكان يقال له: النجيلة، ثمّ كانوا منقمعين في إمارة زياد وابنه عبيد الله على العراق، طول مدة معاوية وولده يزيد، وظفر زياد وابنه منهم بجماعة فأبادهم بين قتل وحبس طويل، فلما مات يزيد ووقع الافتراق، وولى الخلافة عبد الله بن الزبير، وأطاعه أهل الأمصار إِلَّا بعض أهل الشّام ثار مروان، فادَّعَى الخلافة، وغلب على جميع الشّام إلى مصر، فظهر الخوارج حينئذ بالعراق مع نافع بن الأزرق، وباليمامة مع نَجْدَة بن عامر، وزاد نَجْدة على مُعتَقَد الخوارج أن من لم يخرج ويحارب المسلمين فهو كافر، ولو اعتقد معتقدهم، وعَظُم البلاء بهم، وتوسعوا في معتقدهم الفاسد، فأبطلوا رجم المحصن، وقطعوا يد السارق من الإبط، وأوجبوا الصّلاة على الحائض في حال حيضها، وكَفَّروا من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن كان قادرًا. وإن لم يكن قادرًا فقد ارتكب كبيرة، وحُكْمُ مرتكب الكبيرة عندهم حكم الكافر، وكَفُّوا عن أموال أهل الذِّمَّة، وعن التعرض لهم مطلقًا، وفَتَكُوا فيمن ينسب إلى الإسلام بالقتل والسبي والنَّهْب، فمنهم من يفعل ذلك مطلقًا بغير دعوة منهم، ومنهم من يدعو أولا ثمّ يَفتِك، ولم يزل البلاء بهم يزيد إلى أن أُمِّرَ المُهَلَّب بن أبي صُفْرة على قتالهم فطاولهم حتّى ظفر بهم، وتقلل جمعهم، ثمّ لم يزل منهم بقايا في طول الدولة

الأموية وصدر الدولة العباسية، ودخلت طائفة منهم المغرب. وقد صنف في أخبارهم أبو مِخْنَف -بكسر الميم، وسكون المعجمة، وفتح النون، بعدها فاء- واسمه لوط بن يحيى كتابا لخصه الطّبريّ في "تاريخه"، وصنف في أخبارهم أيضًا الهيثم بن عديّ كتابًا، ومحمد بن قدامة الجوهري أحد شيوخ البخاريّ خارج "الصّحيح" كتابا كبيرًا، وجَمَعَ أخبارهم أبو العباس المبرد في كتابه "الكامل" لكن بغير أسانيد بخلاف المذكورين قبله. قال القاضي أبو بكر بن العربي: الخوارج صنفان: أحدهما يزعم أن عثمان وعليا وأصحاب الْجَمَل وصِفِّين وكلُّ من رَضِي بالتحكيم كفار، والآخر يزعم أن كلّ من أتى كبيرة فهو كافر مخلد في النّار أبدًا. وقال غيره: بل الصنف الأوّل مُفَرَّع عن الصنف الثّاني، لأن الحامل لهم على تكفير أولئك كونهم أذنبوا فيما فعلوه بزعمهم. وقال ابن حزم: ذهب نَجْدة بن عامر من الخوارج إلى أن من أتى صغيرة عُذِّب بغير النّار، ومن أَدْمَن على صغيرة فهو كمرتكب الكبيرة في التخليد في النّار، وذكر أن منهم من غلا في معتقدهم الفاسد، فأنكر الصلوات الخمس، وقال: الواجب صلاة بالغداة، وصلاة بالعشي، ومنهم من جوّز نكاح بنت الابن، وبنت الأخ والأخت، ومنهم من أنكر أن تكون "سورة يوسف" من القرآن، وأن من قال: لا إله إِلَّا الله فهو مؤمن عند الله ولو اعتقد الكفر بقلبه. وقال أبو منصور البغدادي في "المقالات": عِدَّة فِرَق الخوارج عشرون فرقة. وقال ابن حزم: أسوؤهم حالًا الغلاة المذكورون، وأقربهم إلى قول أهل الحق الإباضية، منهم بقية بالمغرب. وقد وردت بما ذُكِر من أصل حال الخوارج أخبار جياد، منها ما أخرجه عبد الرزّاق، عن معمر، وأخرجه الطّبريّ من طريق يونس كلاهما عن الزّهريّ، قال: لمّا نشر أهل الشّام المصاحف بمشورة عمرو بن العاص، حين كاد أهل العراق أن يغلبوهم،

هاب أهل الشّام ذلك إلى أن آل الأمر إلى التحكيم، ورجع كلّ إلى بلده إلى أن اجتمع الحكمان في العام المقبل بدُومَة الجندل، وافترقا عن غير شيء، فلمّا رجعوا خالفت الحرورية عليا، وقالوا: لا حكم إِلَّا لله. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق أبي رَزِين قال: لمَّا وقع الرضا بالتحكيم، ورجع علي إلى الكوفة اعتزلت الخوارج بحروراء، فبعث لهم عبدَ الله بنَ عبّاس فناظرهم، فلما رجعوا جاء رجل إلى علي، فقال: إنهم يتحدثون أنك أقررت لهم بالكفر؛ لرضاك بالتحكيم، فخطب وأنكر ذلك، فتنادوا من جوانب المسجد لا حكم إِلَّا لله. ومن وجه آخر أن رءوسهم حينئذ الذين اجتمعوا بالنهروان: عبدُ الله بن وهب الراسبي، وزيد بن حِصْن الطائي، وحُرْقُوص بن زهير السعدي، فاتفقوا على تأمير عبد الله بن وهب. ذكر هذا كلّه في "الفتح" (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب. (المسأله الثّانية): في اختلاف أهل العلم في تكفير الخوارج: قال في "الفتح": استدل به -أي بحديث أبي سعيد الآتي بعد حديث- لمن قال بتكفير الخوارج، وهو مقتضى صنيع البخاريّ، حيث قَرَنهم بالملحدين، وأفرد عنهم المتأولين بترجمة، وبذلك صَرّح القاضي أبو بكر بن العربي في "شرح التّرمذيّ"، فقال: الصّحيح أنهم كُفّار لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "يَمْرُقون من الإسلام"، ولقوله: "لأَقتُلَنَّهم قتل عاد"، وفي لفظ "ثمود" وكل منهما إنّما هلك بالكفر، وبقوله: "هم شر الخلق"، ولا يوصف بذلك إِلَّا الكفار، ولقوله: "إنهم أبغض الخلق إلى الله تعالى"، ولحكمهم على كلّ من خالف مُعتَقَدَهم بالكفر، والتخليدِ في النّار، فكانوا هم أحقَّ بالاسم منهم. وممن جنح إلى ذلك من أئمة المتأخرين الشّيخ تقي الدين السبكي، فقال في "فتاويه": احتَجَّ من كَفَّر الخوارج، وغُلاة الروافض بتكفيرهم أعلامَ الصّحابة؛ لتضمنه تكذيب النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- في شهادته لهم بالجنة، قال: وهو عندي احتجاجٌ صحيحٌ، قال واحتَجَّ ¬

_ (¬1) "الفتح" 12/ 354 - 357 "كتاب استتابة المرتدين" رقم الحديث (6930 - 6932).

من لم يكفرهم بأن الحكم بتكفيرهم يَستَدْعِي تقدُّم علمهم بالشهادة المذكورة علمًا قطعيًّا، وفيه نظر؛ لأنا نعلم تزكية من كفَّروه علمًا قطعيا إلى حين موته، وذلك كاف في اعتقادنا تكفير من كفَّرهم، ويؤيده حديث: "مَنْ قال لأخيه يا كافر، فقد باء به أحدهما"، وفي لفظ مسلم: "مَنْ رَمَى مسلما بالكفر، أو قال: عدو الله إِلَّا حار عليه"، قال: وهؤلاء قد تحقق منهم أنهم يرمون جماعة بالكفر، ممّن حصل عندنا القطع بإيمانهم، فيجب أن يُحكَم بكفرهم بمقتضى خبر الشارع، وهو نحو ما قالوه فيمن سَجَدَ للصنم ونحوه، ممّن لا تصريح بالجحود فيه بعد أن فَسَّروا الكفر بالجحود، فإن احتجوا بقيام الإجماع على تكفير فاعل ذلك، قلنا: وهذه الأخبار الواردة في حق هؤلاء تقتضي كفرهم، ولو لم يعتقدوا تزكية من كَفَّروه علمًا قطعيًّا، ولا يُنجيهم اعتقاد الإسلام إجمالًا، والعملُ بالواجبات عن الحكم بكفرهم، كما لا يُنجي الساجد للصنم ذلك. وممن جَنَحَ إلى بعض هذا البحث الطّبريّ في "تهذيبه"، فقال بعد أن سرد أحاديث الباب: فيه الردُّ على قول من قال: لا يَخرُج أحد من الإسلام من أهل القبلة بعد استحقاقه حكمه إِلَّا بقصد الخروج منه عالمًا فإنّه مبطل، لقوله في الحديث: "يقولون الحقّ، ويقرءون القرآن، ويَمرُقون من الإسلام، ولا يتعلّقون منه بشيء"، ومن المعلوم أنهم لم يرتكبوا استحلالَ دماء المسلمين وأموالهم إِلَّا بخطإ منهم فيما تأولوه من آي القرآن المرادَ منه، ثمّ أخرج بسند صحيح عن ابن عبّاس، وَذُكِرَ عنده الخوارج، وما يَلْقَون عند قراءة القرآن، فقال: يؤمنون بمحكمه، ويَهْلِكون عند متشابهه. ويؤيد القول المذكور الأمرُ بقتلهم مع ما تقدّم من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-: "لا يحل قتل امرئ مسلم إِلَّا بإحدى ثلاث"، وفيه: "التارك لدينه المفارقُ للجماعة". قال القرطبي في "المفهم": يؤيد القول بتكفيرهم التمثيل المذكور في حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- يعني الآتي بعد حديث، فإن ظاهر مقصوده أنهم خَرَجُوا من الإسلام، ولم يتعلّقوا منه بشيء، كما خرج السهم من الرَّمِيَّة؛ لسرعته، وقُوَّة راميه، بحيث لم يتعلّق من الرَّمِيَّة بشيء، وقد أشار إلى ذلك بقوله: "سَبَقَ الفَرْثَ والدمَ".

وقال صاحب "الشفاء" فيه: وكذا نقطع بكفر كُلِّ من قال قولًا يتوصل به إلى تضليل الأمة، أو تكفير الصّحابة، وحكاه صاحب "الروضة" في "كتاب الردة" عنه، وأقرّه. وذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فُسَّاق، وأن حكم الإسلام يجري عليهم؛ لتلفظهم بالشهادتين، ومواظبتهم على أركان الإسلام، وإنما فَسَقُوا بتكفيرهم المسلمين، مُستندين إلى تأويل فاسد، وجَرَّهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم، وأموالهم، والشهادة عليهم بالكفر والشرك. وقال الخطابي: أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج مع ضلالتهم فرقة من فِرَق المسلمين، وأجازوا مناكحتهم، وأكل ذبائحهم، وأنهم لا يُكَفَّرون ما داموا متمسكين بأصل الإسلام. وقال عياض: كادت هذه المسألة تكون أشدَّ إشكالا عند المتكلمين من غيرها، حتّى سأل الفقيه عبد الحق الإمامَ أبا المعالي عنها، فاعتذر بأن إدخال كافر في الملة، وإخراج مسلم عنها عظيم في الدين، قال: وقد توقف قبله القاضي أبو بكر الباقلاني، وقال: لم يُصَرِّح القوم بالكفر، وإنّما قالوا أقوالا تؤدي إلى الكفر. وقال الغزالي في "كتاب التفرقة بين الإيمان والزندقة": والذي ينبغي الاحترازُ عن التكفير ما وَجَدَ إليه سبيلًا، فإن استباحة دماء المصلّين المقرين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد. ومما احتج به من لم يُكَفِّرهم قوله في حديث أبي سعيد أيضًا بعد وصفهم بالمروق من الدين كمروق السهم: "فينظر الرامي إلى سهمه ... " إلى أن قال: "فيتمارى في الفُوقة هل عَلِقَ بها شيء". قال ابن بطّال: ذهب جمهور العلماء إلى أن الخوارج غير خارجين عن جملة المسلمين؛ لقوله: "يتمارى في الفُوق"؛ لأن التماري من الشك، وإذا وقع الشك في ذلك لم يُقطَع عليهم بالخروج من الإسلام؛ لأن من ثبت له عقد الإسلام بيقين، لم يَخرُج منه

إِلَّا بيقين، قال: وقد سئل علي -رضي الله عنه- عن أهل النَّهْرَوان، هل كفروا؟ فقال: مِنَ الكفر فَرُّوا. قال الحافظ: وهذا إن ثبت عن علي -رضي الله عنه- حُمِل على أنه لم يكن يتحقق على معتقدهم الّذي أوجب تكفيرهم عند من كَفَّرهم، وفي احتجاجه بقوله: "يتمارى في الفوق" نظر؛ فإن في بعض طرق الحديث المذكور: "لم يَعلَق منه بشيء"، وفي بعضها: "سَبقَ الفرث والدم". وطريق الجمع بينهما أنه تردد هل في الفوق شيء أو لا؟ ثمّ تحقق أنه لم يَعلَق بالسهم ولا بشيء منه من الرمي بشيء. ويمكن أن يُحمَل الاختلاف فيه على اختلاف أشخاص منهم، ويكون في قوله: "يتمارى" إشارة إلى أن بعضهم قد يبقى معه من الإسلام شيء. قال القرطبي في "المفهم": والقول بتكفيرهم أظهر في الحديث، قال: فعلى القول بتكفيرهم يُقاتَلون، ويُقتلون، وتُسبَى أموالهم، وهو قول طائفة من أهل الحديث في أموال الخوارج، وعلى القول بعدم تكفيرهم يُسلَك بهم مسلك أهل البغي إذا شَقُّوا العصا، ونَصَبُوا الحرب، فأمّا من استسرّ منهم ببدعة، فإذا ظهر عليه هل يُقتَل بعد الاستتابة، أو لا يُقتَل بل يُجتَهد في رد بدعته، اختُلِف فيه بحسب الاختلاف في تكفيرهم، قال: وباب التكفير باب خطر، ولا نَعْدِل بالسلامة شيئا، انتهى، وقد سبق تحقيق القول في هذه المسألة في المسائل المذكورة أوّلَ "باب القدر"، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 167 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: وَذَكرَ الخوَارِجَ، فَقَالَ: فِيهِمْ رَجُلٌ مُخْدَجُ الْيَدِ، أَوْ مَوْدُونُ الْيَدِ، أَوْ مَثْدُونُ الْيَدِ، وَلَوْلَا أَنْ تَبْطَرُوا لحَدَّثْتُكُمْ بِما وَعَدَ الله الَّذِينَ يَقْتُلُونَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، قُلْتُ: أَنْتَ سَمِعْته مِنْ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-؟، قَالَ: إِي وَرَبِّ

الْكَعْبَةِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (أبو بكر بن أبي شيبة) المذكور قبل باب. 2 - (إسماعيل ابن عُلَيَّةَ) هو: إسماعيل بن إبراهيم بن مِقْسَم الأسديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ، و"عُلَيّة" أمه، ثقة ثبت حافظ [8] 7/ 47. 3 - (أَيّوب) بن أبي تَمِيمة كيسان السَّختيانيّ، أبو بكر البَصْريُّ، ثقة ثبت حجة، من كبار الفقهاء العبّاد [5] 2/ 17. 4 - (محمّد بن سيرين) الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر بن أبي عَمْرة البصريّ، ثقة ثبت عابد كبير القدر [3] 3/ 24. 5 - (عَبِيدة) بن عَمْرو، ويقال: ابن قيس بن عمرو السَّلْمانيّ -بسكون اللام، ويقال: بفتحها- المراديّ، أبو عمرو الكوفيّ، تابعيّ كبير مخضرم، ثقة ثبت [2]. رَوَى عن علي، وابن مسعود، وابن الزُّبير، ورَوَى عنه عبد الله بن سَلِمة المرادي، وإبراهيم النخعي، وأبو إسحاق السبيعي، ومحمد بن سيرين، وأبو حسان الأعرج، وأبو الْبَخْتريّ الطائي، وعامر الشّعبيّ، وغيرهم. قال الشّعبيّ: كان شُرَيح أعلمهم بالقضاء، وكان عَبِيدة يوازيه، وقال أشعث عن محمّد بن سيرين: أدركت الكوفة، وبها أربعة ممّن يُعَدّ في الفقه، فمن بدأ بالحارث ثَنّى بعبيدة، أو العكس، ثمّ علقمة الثّالث، وشُريح الرّابع، ثمّ يقول: وأن أربعة أحسنهم شُريح لخِيَار. وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة جاهلي، أسلم قبل وفاة النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- بسنتين ولم يره، وكان من أصحاب علي وعبد الله، وكان ابن سيرين من أروى النَّاس عنه، وقال ابن نُمير: كان شُريح إذا أشكل عليه الأمر كتب إلى عَبِيدة، ويُروَى عن ابن سيرين: ما رأيت رجلًا أشدّ توقيّا منه، وكل شيء رَوَى عن إبراهيم عن عَبِيدة سوى رأيه، فإنّه عن عبد الله إِلَّا حديثًا واحدًا. وقال محمّد بن سعد: قال محمّد بن عمر: هاجر عَبِيدة زَمَنَ عمر -رضي الله عنه-. وقال ابن

معين: كان عيسى بن يونس يقول: السَّلَمَاني مفتوحة. وعَدَّه علي بن المديني في الفقهاء من أصحاب ابن مسعود -رضي الله عنه-. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة لا يُسأل عن مثله. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: علقمة أحبُّ إليك أو عَبِيدة؟ فلم يُخَيَّر، قال عثمان: هما ثقتان. وقال علي بن المديني، وعمرو بن علي الفلاس: أصحُّ الأسانيد محمّد بن سيرين، عن عَبِيدة عن علي. وقال العجلي: كلّ شيءٍ رَوَى محمدٌ (¬1) عن عَبِيدة، سوى رأيه فهو عن علي، وكلُّ شيء رَوَى عن إبراهيم، فذكر مثل ما تقدّم. قال ابن نُمير وغيرُ واحد: مات سنة اثنتين وسبعين، وقال قعنب: مات سنة (2) أو (3). وقال التّرمذيّ: سنة (3)، وقال أبو بكر بن أبي شيبة: سنة (74) وكذا أرّخه ابن حبّان في "الثِّقات"، وصححه، وقد قال البخاريّ في "تاريخه": حَدَّثَنَا ابن بشار، ثنا ابن مهدي، ثنا شعبة، عن أبي حَصين قال: أوصى عَبيدة أن يصلّي عليه الأسود، خَشِي أن يصلّي عليه المختار، فبادر فصلّى عليه، وهذا إسناد صحيح، رواه ابن سعد أيضًا عن أبي داود، عن شعبة، ومقتضاه أن عَبِيدة مات قبل سنة تسعين بمدة؛ لأن المختار قُتِل سنة (67) بلا خلاف. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم 167 و 2362 و 4339. 6 - (عليّ بن أبي طالب) الخليفة الراشد -رضي الله عنه- 2/ 20، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصّحيح. 3 - (ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات البصريين إلى ابن سيرين، إِلَّا شيخه فكوفيّ، كالباقيين. ¬

_ (¬1) أي ابن سيرين.

4 - (ومنها): أن فيه ثلاثة من ثقات التابعين يروي بعضهم عن بعض: أَيّوب، عن محمّد، عن عبيدة. 5 - (ومنها): ما تقدّم عن ابن المدينيّ والفلاس أن أصحّ الأسانيد ابن سيرين، عن عبيدة، عليّ -رضي الله عنه-. 6 - (ومنها): أن صحابيّه أحد الخلفاء الأربعة، والعشرة المبشّرين بالجنّة، وزوج بنت الرسول -رضي الله عنه-، وابن عمه، جمّ المناقب -رضي الله عنه-. [تنبيه]: رَوَى هذا الحديث في الخوارج عن علي -رضي الله عنه- تامًّا ومختصرًا مع عَبِيدة بن عمرو المذكور هنا: عبيدُ الله بن أبي رافع، وسُويد بن غَفَلة، وزيد بن وهب، وكُليب الجرمي، وطارق بن زياد، وأبو مريم، وأبو وَضِى، وأبو كثير، وأبو موسى، وأبو وائل في "مسند إسحاق بن راهويه"، والطبراني، وأبو جحيفة، عند البزار، وأبو جعفر الفراء، مولى علي -رضي الله عنه-، أخرجه الطَّبرانيُّ في "الأوسط"، وكثير بن نُمير، وعاصم بن ضمرة. أفاده في "الفتح" (¬1)، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: وَذَكَرَ الْخَوَارجَ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (فَقَالَ: فِيهِمْ) أي الخوارج (رَجُلٌ مُخدَجُ الْيَدِ) بضم الميم، وإسكان الخاء المعجمة، وفتح الدال-: أي ناقص اليد (أَوْ) للشكّ من الراوي (مَوْدُونُ الْيَدِ) بضم الميم، وإسكان الواو، وفتح الدال، ويقال: بالهمزة، وبتركه، وهو ناقص اليد، ويقال أيضًا: وَدِينُ (أَوْ) للشكّ أيضًا (مَثْدُونُ الْيَدِ) بفتح الميم، وثاء مثلّة ساكنة، وهو صغير اليد، مُجْتمِعها، كثَنْدُوة الثَّدْي، وهي بفتح الثاء بلا همز، وبضمّها مع الهمز، وكان أصله مثنود، فقُدِّمت الدال على النون، كما قالوا: جَبَذَ وجَدبَ، وعاثَ في الأرض، وعَثَا. قاله النوويّ رحمه الله (¬2). ¬

_ (¬1) "الفتح" 12/ 377. (¬2) "شرح النوويّ " 7/ 171 - 172.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ما معناه: قوله: "فيهم رجل مُخْدَج اليد، أو مودن اليد، أو مُثدن اليد" على لفظ الشكّ لجميع الرواة، وقال بعضهم: "مَثْدُون"، وكذا هو عند العُذْريّ، والطّبريّ، والباجيّ. فأمّا "مُخْدَجُ اليد" فناقصها، و"مُثدَنُ اليد" و"مثدونها" صغيرها، ومُجْتَمعها بمنزلة ثندوة الرَّجل، وكان أصله مثند، فقدّمت الدال على النون، كما قالوا: جبذ وجذب، وقيل: معناه كثير اللّحم، قال ابن دريد: ثدن الرَّجل ثدنًا: إذا كثُر لحمه وثَقُل، وعلى هذا فلا يكون في الجرف قلبٌ. وأما "مودن"، فقال أبو مروان بن سرّاج: يُهمز ولا يُهمز، قال ابن دُريد: رجل مودنٌ ناقص الخلق، وودن ومودن، وكلّه بالدال المهملة. والذي يجمع شَتَات هذه الأحاديث في صفة يد هذا المخدج، ويُبيّن صفتها ما جاء في حديث زيد بن وهب الّذي قال فيه: "وآية ذلك أن فيهم رجلًا له عَضُدٌ ليس له ذراعٌ، على رأس عضده مثل حَلَمَة الثدي، عليه شَعَرَاتٌ بِيضٌ"، وهذه الرِّواية هي أحسن الروايات، وأكملها، وأبينها. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله (¬1). (وَلَوْلَا أَنْ تَبْطَرُوا) كتفرَحُوا وزنًا ومعنًى، أي لولا خشيةُ أن تفرحوا بكثرة الثّواب، وعظيم الأجر فرَحًا يؤدّي إلى ترك الأعمال، وكثرة الطغيان (لحَدَّثْتكُمْ بِمَا وَعَدَ الله) فعل وفاعل، ومفعوله قوله: (الَّذِينَ يَقْتُلُونَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -) متعلّق بـ "وعد"، وفي رواية زيد بن وهب عند مسلم: "لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قُضِيَ لهم على لسان نبيهم لَنكلُوا عن العمل". قال عَبِيدة لعلّيّ -رضي الله عنه- مستثبتًا لا شكّا فيه: (قُلْتُ: أَنْتَ سَمِعْته مِنْ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -؟) أي سمعت هذا الثّواب الّذي وعده الله -عَزَّ وَجَلَّ- لقاتليهم؟ (قَالَ) عليّ -رضي الله عنه- (إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ) "إِيْ" -بكسر الهمزة، وسكون الياء- حرف جواب، كنَعَم، قال ابن هشام في "مغنيه": ¬

_ (¬1) "المفهم" 3/ 115 - 116.

"إِيْ" بالكسر والسكون حرف جواب بمعنى "نَعَم"، فيكون لتصديق المخبِر، ولإعلام المستخبر، ولوعد الطالب، فتقع بعد "قام زيد"، و"هل قام زيد"، و"اضرب زيدًا"، ونحوهنّ، كما تقع "نَعَمْ" بعدهنّ، وزعم ابن الحاجب أنها إنّما تقع بعد الاستفهام، نحو قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} الآية [يونس: 53]، ولا تقع عند الجميع إِلَّا قبل القسم، وإذا قيل: "إي والله"، ثمّ أسقطت الواو جاز سكون الياء وفتحها وحذفها، وعلى الأوّل فيلتقي ساكنان على غير حدّهما. انتهى كلام ابن هشام رحمه الله (¬1). (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) أي قال هذا الكلام ثلاث مرّات تأكيدًا له. ولمسلم في رواية زيد بن وهب في قصة قتل الخوارج أن عليًّا -رضي الله عنه- لمَّا قتلهم قال: صدق الله، وبَلَّغَ رسوله، فقام إليه عَبِيدة، فقال يا أمير المؤمنين: اللهِ الّذي لا إله إِلَّا هو لقد سمعت هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: إي والله الّذي لا إله إِلَّا هو، حتّى استحلفه ثلاثا. قال النووي رحمه الله: إنّما استحلفه ليؤكد الأمر عند السامعين، ولتظهر معجزة النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وأن عليًّا ومن معه على الحق. قال الحافظ رحمه الله: وليطمئن قلب المستحلف لإزالة توهم ما أشار إليه عليّ أن الحرب خُدْعَة، فَخَشِي أن يكون لم يسمع في ذلك شيئًا منصوصًا، وإلى ذلك يشير قول عائشة لعبد الله بن شداد، قالت له: ما قال علي حينئذ؟ قال: سمعته يقول: صدق الله ورسوله، قالت: رحم الله عليا إنّه كان لا يرى شيئًا يعجبه إِلَّا قال: صدق الله ورسوله، فيذهب أهل العراق فَيِكْذِبُون عليه، ويزيدونه، فَمِنْ هذا أراد عَبيدة بن عمرو التثبت في هذه القصة بخصوصها، وأن فيها نقلًا منصوصًا مرفوعًا. وأخرج أحمد نحو هذا الحديث عن علي -رضي الله عنه-، وزاد في آخره: "قتالهُم حق على كلّ مسلم. ¬

_ (¬1) "مغني اللبيب" 1/ 159.

ووقع سبب تحديث علي بهذا الحديث في رواية عبيد الله بن أبي رافع، فيما أخرجه مسلم من رواية بشر بن سعيد عنه، قال: إن الحرورية لمّا خرجت، وهو مع علي، قالوا: لا حُكْمَ إِلَّا لله تعالى، فقال علي: "كلمةُ حَقٍّ أريد بها باطل، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وَصَفَ ناسًا إنِّي لأعرف صفتهم في هؤلاء، يقولون الحق بألسنتهم، ولا يجاوز هذا منهم -وأشار بحلقه- مِنْ أبغض خلق الله إليه". ذكره في "الفتح" (¬1). وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- هذا أخرجه مسلم. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (34/ 167) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (مسلم) في (3/ 114) و (أبو داود) (4763) و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده" (166) و (عبد الرزاق) في "مصنفه" (18652 و 18653) و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" 15/ 303 - 304 و (أحمد) في "مسنده" (1/ 83 و 95 و 144 و 155) و (عبد الله بن أحمد) في زياداته على "المسند" (1/ 113 و 121 و 122)، وزياداته على "الفضائل" (1046) و (ابن أبي عاصم) في "السنّة" (912) و (النَّسائيّ) في "الخصائص" (187 و 188) و (أبو يعلى) في "مسنده" (337) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (6938) و (الطبرانيّ) في "الصغير" (969 و 1002) و (البيهقيّ) في "الكبرى" 8/ 188، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده (¬2): 1 - (منها): أن فيه بيان علامة الخوارج في أول خروجهم، وذلك الرَّجل ¬

_ (¬1) "الفتح" 12360 رقم الحديث (6930 - 6931). (¬2) المراد حديث قصّة الخوارج بجميع طرقه الّذي أوردناها في الشرح، لا خصوص سياق المصنّف، فتنبّه.

الموصوف بأنه مخدوج اليد. 2 - (ومنها): الحثّ على قتالهم. 3 - (ومنها): بيان الأجر العظيم لمن قتلهم. 4 - (ومنها): أنه ينبغي للعالم أن لا يذكر فضائل بعض الأعمال، إذا خشي على بعض النَّاس أن يغترّوا بها، فيتركوا العمل اتّكالًا عليها، وهذا نظير ما أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ومعاذ رديفه على الرَّحْل، قال: "يا معاذ بن جبل"، قال لَبَّيْكَ يا رسول الله وسعديك، قال: "يا معاذ"، قال لَبَّيْكَ يا رسول الله وسعديك ثلاثًا، قال: "ما من أحد يشهد أن لا إله إِلَّا الله، وأن محمدا رسول الله، صدقًا من قلبه إِلَّا حرمه الله على النّار"، قال: يا رسول الله أفلا أخبر به النَّاس، فيستبشروا؟ قال: "إِذًا يَتَّكِلُوا"، وأخبر بها معاذ عند موته تأثُّمًا. وقد ترجم الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" على هذا، فقال: "باب من خَصَّ بالعلّم قوفا دون قوم كراهيةَ أن لا يفهموا، وقال عليّ: حدّثوا النَّاس بما يعرفون، أتحبّون أن يُكذّب الله ورسوله"، ثمّ أخرج حديث أنس -رضي الله عنه- المذكور. 5 - (ومنها): جواز الحلف على الخبر للتأكيد، وإن كان الشخص لا يُتّهم. 6 - (ومنها): أن فيه علمًا من أعلام النبوة، حيث أخبر -صلى الله عليه وسلم- بما وقع قبل أن يقع، وذلك أن الخوارج لما حَكَمُوا بكفر من خالفهم، واستباحوا دماءهم، وتركوا أهل الذِّمَّة، فقالوا نَفِي لهم بعهدهم، وتركوا قتال المشركين، واشتغلوا بقتال المسلمين، وهذا كله من آثار عبادة الجهال الذين لم تنشرح صدورهم بنور العلم، ولم يتمسكوا بحبل وثيق من العلم، وكفى أن رأسهم رَدّ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره، ونسبه إلى الجور، نسأل الله السلامة. 7 - (ومنها): ما قال ابن هُبَيرة رحمه الله: وفي الحديث أن قتال الخوارج أولى من قتال المشركين، والحكمة فيه أن في قتالهم حفظ رأس مال الإسلام، وفي قتال أهل الشرك طلب الربح، وحفظُ رأس المال أولى.

8 - (ومنها): أن فيه الزجرَ عن الأخذ بظواهر جميع الآيات القابلة للتأويل الّتي يُفضي القول بظواهرها إلى مخالفة إجماع السلف. 9 - (ومنها): أن فيه التحذيرَ من الغلو في الديانة، والتنطع في العبادة بالحمل على النفس فيما لم يأذن فيه الشّرع، وقد وصف النبيّ -صلى الله عليه وسلم- الشّريعة بأنها سهلة سمحة، وإنّما ندب إلى الشدة على الكفار، وإلى الرأفة على بالمؤمنين، فعكس ذلك الخوارج. 10 - (ومنها): أن فيه جوازَ قتال من خرج عن طاعة الإمام العادل، ومن نصب الحرب فقاتل على اعتقاد فاسد، ومن خرج يقطع الطرق، ويخيف السبيل، ويسعى في الأرض بالفساد، وأما من خرج عن طاعة إمام جائر، أراد الغلبة على ماله أو نفسه أو أهله فهو معذور، ولا يحل قتاله، وله أن يدفع عن نفسه وماله وأهله بقدر طاقته. وقد أخرج الطّبريّ بسند صحيح، عن عبد الله بن الحارث، عن رجل من بني نضر، عن عليّ، وذكر الخوارج، فقال: إن خالفوا إمامًا عدلًا فقاتلوهم، وإن خالفوا إمامًا جائرًا فلا تقاتلوهم، فإن لهم مقالًا. قال الحافظ رحمه الله: وعلى ذلك يحمل ما وقع للحسين بن علي، ثمّ لأهل المدينة في الحرَّة، ثمّ لعبد الله بن الزُّبير، ثمّ للقراء الذين خرجوا على الحجاج في قصة عبد الرّحمن بن محمّد بن الأشعث. والله أعلم. 11 - (ومنها): ما قيل: إن فيه ذمَّ استئصال شعر الرّأس، لكن فيه نظر؛ لاحتمال أن يكون المراد بيان صفتهم الواقعة، لا لإرادة ذمها، وترجم أبو عوانة في "صحيحه" لهذه الأحاديث: "بيانُ أن سبب خروج الخوارج كان بسبب الأَثَرَة في القسمة مع كونها كانت صوابًا، فخفي عنهم ذلك". 12 - (ومنها): أن فيه أن من المسلمين من يخرج من الدين من غير أن يقصد الحزوج منه، ومن غير أن يختار دينًا على دين الإسلام. 13 - (ومنها): أن الخوارج شرُّ الفرق المبتدعة من الأمة المحمدية، ومن اليهود

والنصارى. والأخير مبني على القول بتكفيرهم مطلقًا. 14 - (ومنها): أنه لا يُكتَفَى في التعديل بظاهر الحال، ولو بلغ المشهود بتعديله الغاية في العبادة والتقشف والورع حتّى يُخْتَبَر باطن حاله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الرّابعة): في حكم قتال الخوارج: قال النوويّ رحمه الله في "شرح مسلم": قال القاضي عياض: أجمع العلماء على أن الخوارج وأشباههم من أهل البدع والبغي متى خَرَجُوا على الإمام، وخالفوا رأي الجماعة، وشَقُّوا العصا وجب قتالهم بعد إنذارهم، والاعتذار إليهم، قال الله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]، لكن لا يُجَهَّز على جريحهم، ولا يُتَّبَع مُنهزمهم، ولا يَقتُل أسيرهم، ولا تباح أموالهم، وما لم يخرجوا عن الطّاعة، وينتصبوا للحرب لا يقاتَلُون، بل يوعظون، ويستتابون من بدعتهم وباطلهم، وهذا كله ما لم يُكَفَّروا ببدعتهم، فإن كانت بدعةً ممّا يُكَفَّرون به جَرَت عليهم أحكام المرتدين. وأما البغاة الذين لا يُكَفَّرون، فَيَرِثُون ويورثون، ودمهم في حال القتال هَدَرٌ، وكذا أموالهم الّتي تُتْلَفُ في القتال، والأصح أنهم لا يُضَمَّنُون أيضًا ما أتلفوه على أهل العدل في حال القتال من نفس ومال، وما أتلفوه في غير حال القتال من نفس ومال ضمِنُوه، ولا يحل الانتفاع بشيء من دوابهم وسلاحهم في حال الحرب عندنا، وعند الجمهور، وجوزه أبو حنيفة. والله أعلم. انتهى كلام النووي (¬1) وهو تفصيل حسنٌ. وقال في "الفتح" نقلًا عن الغزالي في "الوسيط" تبعًا لغيره: في حكم الخوارج وجهان: أحدهما أنه كحكم أهل الردة، والثّاني: أنه كحكم أهل البغي، ورجح الرافعي ¬

_ (¬1) "شرح النوويّ" 7/ 170.

الأوّل، وليس الّذي قاله مُطَّرِدًا في كلّ خارجي، فإنهم على قسمين: أحدهما: من تقدّم ذكره، والثّاني من خرج في طلب الملك، لا للدعاء إلى معتقده، وهم على قسمين أيضًا: قسم أخرجوا غضبًا للدين، من أجل جَوْر الولاة، وترك عملهم بالسُّنَّة النبوية، فهؤلاء أهل حقّ، ومنهم الحسن بن على، وأهل المدينة في الحرة، والقراء الذين خرجوا على الحجاج، وقسم أخرجوا لطلب الملك فقط، سواء كانت فيهم شبهة أم لا، وهم البغاة. انتهى (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 168 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ الله بْنُ عَامِرِ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "يَخْرُجُ في آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ النَّاسِ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإسْلَامِ، كَمَا يَمْرُقُ الْسَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَمَنْ لَقِيَهُمْ فَلْيَقْتُلْهُمْ، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ عِنْدَ الله لمِنْ قَتَلَهُمْ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (أبو بكر بن أبي شيبة) المذكور قريبًا. 2 - (عبد الله بن عامر بن زُرَارة) الحضرميّ مولاهم، أبو محمّد الكوفيّ، صدوق [10] 4/ 30. 3 - (أبو بكر بن عيّاش) بن سالم الأسديّ الكوفيّ المُقرئ الحنّاط، مشهور بكنية، والأصحّ أنها اسمه، ثقة عابدٌ إِلَّا أنه لمّا كبِر ساء حفظه، وكتابه صحيح [7] 20/ 138. 4 - (عاصم) بن بَهدلة، وهو ابن أبي النَّجُود الأسديّ مولاهم الكوفيّ المُقرئ، صدوق له أوهام (¬2)، حجة في القراءة [6] 2/ 138. ¬

_ (¬1) "الفتح" 12/ 357 "كتاب استتابة المرتدّين" الحديث (6930 - 6931). (¬2) هكذا قال في "التقريب"، وهو الحق عندي، وأما ما تعقّبه به بشار قائلًا إنه ثقة إلى آخر كلامه، ففيه نظر لا يخفى لمن تأمّل ترجمته، وكلام أهل العلم فيه، فما قاله =

5 - (زِرّ) بن حُبيش بن حُبَاشة الأسديّ، أبو مريم الكوفيّ، ثقة جليل مخضرم [2] 14/ 114. 6 - (عبد الله بن مسعود) الصحابيّ الشهير -رضي الله عنه- 2/ 19، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله موثقون، بل أخرج البخاريّ لأبي بكر بن عياش، وأخرجا لعاصم مقرونًا. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "يَخْرُجُ في آخِرِ الزَّمَانِ) كذا وقع في هذا الحديث، وفي حديث أبي برزة عند النسائي بلفظ: "يَخرُج في آخر الزّمان قوم"، وهذا قد يخالف حديث أبي سعيد له، فإن مقتضاه انهم خرجوا في خلافة علي -رضي الله عنه-، وكذا أكثر الأحاديث الواردة أمرهم. وقد أجاب ابن التين رحمه الله بأن المراد زمان الصّحابة، وفيه نظر؛ لأن آخر زمان الصّحابة كان على رأس المائة، وهم قد خرجوا قبل ذلك بأكثر من ستين سنة. ويمكن الجمع بأن المراد بآخر الزّمان زمان خلافة النبوة، فإن في حديث سفينة المُخَرَّج في "السنن"، و"صحيح ابن حبّان"، وغيره مرفوعًا: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثمّ تصير مُلْكًا"، وكانت قصة الخوارج، وقتلهم بالنهروان في أواخر خلافة علي -رضي الله عنه- سنة ثمان وعشرين بعد النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- بدون الثلاثين بنحو سنتين. قاله في "الفتح" (¬1). ¬

_ = الحافظ في "التقريب" هو الّذي يدلّ عليه كلامهم، فتأمله بإنصاف، ولا تكن أسير التقليد. والله تعالى أعلم. (¬1) "الفتح" 12/ 359.

(قَوْمٌ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ) بمهملة، ثمّ مثلثة، جمع حَدَث بفتحتين، والحدث هو الصغير السن، قال في "الفتح" في شرح حديث عليّ -رضي الله عنه-: هكذا أكثر الروايات، ووقع هنا للمستملي والسرخسي "حُدَّاث" بضم أوله، وتشديد الدال، قال في "المطالع": معناه شَبَابٌ، جمع حَدِيث السن، أو جمع حَدَث، قال ابن التين: حِدَاث جمع حَدِيث، مثل كِرَام جمع كريم، وكِبَار جمع كبير، والحديث الجديد من كلّ شيء، ويطلق على الصغير بهذا الاعتبار، وتقدم في "التفسير حُدَّاث" مثل هذا اللّفظ، لكنه هناك جمع قياس، والمراد سُمّار يتحدثون، قاله في "النهاية"، وتقدم في "علامات النبوة" بلفظ: "حُدَثاء" بوزن سُفَهاء، وهو جمع حديث، كما تقدّم تقريره. و"الأسنان" جمع سِنٍّ، والمراد به العمر، والمراد أنهم شباب. (سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ) جمع حِلْم بكسر أوله، والمراد به العقل، والمعنى أن عقولهم رديئة، قال النووي: يستفاد منه أن التثبت، وقوة البصيرة تكون عند كمال السنّ، وكثرة التجارب، وقوة العقل. وتعقّبه الحافظ، فقال: ولم يظهر لي وجه الأخذ منه، فإن هذا معلوم بالعادة، لا من خصوص كون هؤلاء كانوا بهذه الصِّفَة. انتهى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه عندي أن تعقّب الحافظ ممّا لا وجه له، فاستنباط النوويّ ظاهر، فتأمله بإنصاف. والله تعالى أعلم. (يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ النَّاسِ) أي يقولون قولًا هو من خير قول النَّاس، أي ظاهرًا، قيل: أراد قولهم: "لا حكم إِلَّا لله" حين التحكيم، ولذلك قال عليّ -رضي الله عنه- في جوابهم: "كلمة حقّ أريد بها باطل"، وكذا دعاؤهم إلى كتاب الله، وبالجملة فالمراد أنهم يتكلّمون ببعض الأقوال الّتي هي من خيار قول النَّاس في الظّاهر (¬1). وأفاد في "الفتح" أنه قيل: إنّه مقلوب، وأن الأصل "من قول خير النَّاس"، وأن ¬

_ (¬1) راجع "شرح السنديّ" 1/ 109.

المراد به القرآن، قال: ويحتمل أن يكون على ظاهره، والمراد القول الحسن في الظّاهر، وباطنه على خلاف ذلك، كقولهم: "لا حكم إِلَّا لله" في جواب علي - رضي الله عنه -، وقد وقع عند الطّبريّ من رواية طارق بن زياد قال: "خرجنا مع علي ... فذكر الحديث، وفيه: "يخرج قوم يتكلمون كلمة حق، لا تجاوز حلوقهم"، وفي حديث أنس عن أبي سعيد عند أبي داود والطبراني: "يُحسنون القول، ويسيئون الفعل"، ونحوه في حديث عبد الله بن عمرو عند أحمد، وفي حديث مسلم عن علي -رضي الله عنه-: "يقولون الحقّ، لا يجاوز هذا"، وأشار إلى حلقه (¬1). (يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ) وفي حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- عند مسلم: "يتلون كتاب الله رَطْبًا" قال القرطبيّ رحمه الله: فيه ثلاثة أقوال: أحدها: الحِذْق بالتلاوة، والمعنى أنهم يأتون به على أحسن أحواله. والثّاني: المواظبة على تلاوته، فلا تزال ألسنتهم رطبةً به. والثّالث: حسن الصوت بالقراءة. انتهى (¬2). (لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ) قال ابن الأثير رحمه الله: "التراقي" جمع تَرْقُوَة بفتح أوله، وسكون الراء، وضم القاف، وفتح الواو، وهي العظم الّذي بين ثُغْرَة النَّحْر والعاتق، وهما تَرْقُوَتان من الجانبين، ووزْنُهَا فَعْلُوةٌ بالفتح، والمعنى أن قراءتهم لا يرفعها الله تعالى، ولا يَقبَلها، فكأنها لم تتجاوز حُلْقُومهم، وقيل: المعنى أنهم لا يعملون بالقرآن، ولا يُثَابون على قراءته، فلا يَحصُلُ لهم غير القراءة. انتهى بزيادة يسيرة من "الفتح" (¬3). وقال السنديّ رِحمه الله: أي لا يُجاوز حُلْقومهم بالصعود إلى محلّ القبول، أو النزول إلى القلوب؛ ليؤثِّر في قلوبهم. انتهى (¬4). ¬

_ (¬1) "الفتح" 359. (¬2) "المفهم" 3/ 114. (¬3) "النهاية" 1/ 187 و"الفتح" 12/ 367. (¬4) "شرح السنديّ" 1/ 109.

وقال في "الفتح": المعنى أن قراءتهم لا يرفعها الله ولا يقبلها، وقيل: لا يعملون بالقرآن، فلا يثابون على قراءته، فلا يحصل لهم إِلَّا سَرْدُ. وقال النووي: المراد أنهم ليس لهم فيه حظ إِلَّا مروره على لسانهم، لا يصل إلى حلوقهم فضلًا عن أن يصل إلى قلوبهم؛ لأن المطلوب تعقله وتدبره بوقوعه في القلب. انتهى. قال الحافظ: هو مثل قوله فيهم أيضًا: "لا يجاوز إيمانهم حناجرهم"، أي ينطقون بالشهادتين، ولا يعرفونها بقلوبهم، ووقع في رواية لمسلم: "يقرءون القرآن رطبا"، قيل المراد الحِذْق في التلاوة، أي يأتون به على أحسن أحواله، وقيل: المراد أنهم يُواظبون على تلاوته، فلا تزال ألسنتهم رطبة به، وقيل: هو كناية عن حسن الصوت به، حكاها القرطبي، ويرجح الأوّل ما وقع في رواية أبي الوَدّاك عن أبي سعيد عند مسدد: "يقرءون القرآن كأحسن ما يقرؤه النَّاس"، ويؤيد الآخر قوله في رواية مسلم عن أبي بكرة عن أبيه: "قوم أشدّاء أحدّاء، ذَلِقَةٌ ألسنتهم بالقرآن"، أخرجه الطّبريّ، وزاد في رواية عبد الرّحمن بن أبي نُعْم عن أبي سعيد: "يقتلون أهل الإسلام، ويَدَعُون أهل الأوثان، يمرقون"، وأرجحها الثالث. انتهى. وفي رواية البخاريّ في حديث عليّ -رضي الله عنه-: "لا يجاوز إيمانهم حناجرهم"، قال في "الفتح": في رواية الكشميهني: "لا يجوز"، و"الحناجر" بالحاء المهملة، ثمّ الجيم، جمع حنجرة بوزن قَسْوَرَة، وهي الحلقوم والبلعوم، وكله يُطلَق على مَجْرَى النَّفَس، وهو طَرَف الْمَرِيء ممّا يلي الفم، ووقع في رواية مسلم من رواية زيد بن وهب عن علي -رضي الله عنه-: "لا تجاوز صلاتهم تراقيهم"، فكأنه أَطلق الإيمان على الصّلاة، وله في حديث أبي ذر -رضي الله عنه-: "لا يجاوز إيمانهم حلاقيمهم"، والمراد أنهم يؤمنون بالنطق لا بالقلب، وفي رواية عبيد الله بن أبي رافع عن علي -رضي الله عنه- عند مسلم: "يقولون الحق بألسنتهم، لا يجاوز هذا منهم"، وأشار إلى حلقه، وهذه المجاوزة غير المجاوزة في حديث أبي سعيد -رضي الله عنه-. انتهى. (يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ) أي يَجُوزُونه، ويخرقونه، ويتعدَّونه، ويخرُجون منه،

يقال: مرق السهم من الرَّمِيّة، من باب قعد: خرج منه من غير مدخله. قاله في "النهاية"، و"المصباح" (¬1)، وأصل المروق: الخروج عند أهل اللُّغة، يقال: مَرَقَ السهم من الْغَرَض: إذا أصابه، ثمّ نَفَذَ منه، فهو يَمْرُقُ منه مَرْقًا ومُرُوقًا، وانمرق منه، وأمرقه الرامي إذا فعل ذلك به. قال القرطبيّ: وبهذا اللّفظ سُمُّوا المارقة؛ لأنهم مَرَقُوا من الدين، وخرجوا على خيار المسلمين. انتهى (¬2). (كَمَا يَمْرُقُ) أي كما يخرُج (السَّهْمُ) بفتح، فسكون: واحد من النَّبْلِ، وقيل: هو نفس النصل. قاله في "المصباح" (مِنَ الرَّمِيَّةِ) بفتح الراء، وكسر الميم، وتشديد الياء، فَعِيلة بمعنى مفعولة، من الرَّمْي، والمراد الصَّيد المرميّ، كالغَزَالة المرمية مثلًا. قاله في "الفتح"، وقال في موضع آخر: قوله: "من الرمية" -بكسر الميم، وتشديد التحتانية- فَعِيلة بمعنى مفعولة، فأدخلت فيها الهاء، وإن كان فَعِيل بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث؛ للإشارة لنقلها من الوصفية إلى الاسمية، وقيل: إن شرط استواء المذكر والمؤنث أن يكون الموصوف مذكورًا معه، وقيل: شرطه سقوط الهاء من المؤنث قبل وقوع الوصف، تقول: خُذْ ذَبِيحتك، أي الشاة الّتي تريد ذبحها، فإذا ذبحتها قيل لها حينئذ: ذَبِيح. انتهى (¬3). زاد في حديث أبي ذرّ -رضي الله عنه- الآتي: "ثمّ لا يعودون فيه، هم شرار الخلق والخليقة"، وفي رواية معبد بن سيرين، عن أبي سعيد عند البخاريّ في آخر "كتاب التّوحيد": "لا يعودون فيه حتّى يعود السهم إلى فُوقِهِ". (فَمَنْ لَقِيَهُمْ فَلْيَقْتُلْهُمْ) فيه الأمر بقتلهم، وأنه متعيّنٌ إِلَّا إذا تابوا (فَإِنَّ قَتْلَهُمْ) الفاء تعليليّة، أي لأن قتلهم (أَجْرٌ) أي ذو أجر عظيم، فالتنوين للتعظيم، وقوله: (عِنْدَ ¬

_ (¬1) "النهاية" 4/ 320، و"المصباح" 2/ 569. (¬2) "المفهم" 3/ 109. (¬3) "الفتح" 12/ 362.

الله) تعالى متعلّق بصفة لـ "أجر"، وقوله: (لمَنْ قَتَلَهُمْ) متعلّق بصفة أيضًا، أو بحال مقدّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه أبو بكر بن عيّاش، وقد تقدّم الكلام فيه، فهو حسن الحديث، وكذا الكلام في عاصم؟. [قلت]: إنما صحّ بشواهده، فقد جاء من حديث جماعة من الصّحابة -رضي الله عنهم-، عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- منهم: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبو ذرّ، وابن عبّاس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وابن عمر، وأبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وحذيفة، وأبو بكرة، وعائشة، وجابر، وأبو برزة، وأبو أمامة، وعبد الله بن أبي أوفى، وسهل بن حنيف، وسلمان الفارسيّ، ورافع بن عمرو، وسعد بن أبي وقّاص، وعمار بن ياسر، وجندب بن عبد الله البجلي، وعبد الرّحمن بن عُدَيس، وعقبة بن عامر، وطلق بن علي، وأبو هريرة، أخرجه الطَّبرانيُّ في "الأوسط" بسند جيد من طريق الفرزدق الشاعر أنه سمع أبا هريرة وأبا سعيد، وسألهما، فقال: إنِّي رجل من أهل المشرق، وأن قومًا يخرجون علينا، يقتلون من قال: لا إله إِلَّا الله، ويُؤَمِّنُون مَنْ سِوَاهم، فقالا لي: سمعنا النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من قتلهم فله أجر شهيد، ومن قتلوه فله أجر شهيد". قال الحافظ رحمه الله: فهؤلاء خمسة وعشرون نفسًا من الصّحابة، والطرق إلى كثير منهم متعددة، كعلي، وأبي سعيد، وعبد الله بن عمر، وأبي بكرة، وأبي برزة، وأبي ذرّ، فيفيد مجموع خبرهم القطع بصحة ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أفاده في "الفتح" (¬1). فتبين بهذا أن الحديث صحيح، بل هو متواتر، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) "الفتح" 12/ 377.

(المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (34/ 168) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (الترمذي) في (2188) و (أحمد) في "مسنده" (1/ 404). وأما فوائده فقد تقدّم بعضها، ويأتي قريبًا بعضها -إن شاء الله تعالى-، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 169 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي سَعِيدٍ الخدْرِيِّ: هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَذْكُرُ في الْحُرُورِيَّةِ شَيْئًا؟ فَقَالَ: سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ قَوْمًا يَتَعَبَّدُونَ يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصَوْمَهُ مَعَ صَوْمهِمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، أَخَذَ سَهْمَهُ فَنَظَرَ في نَصْلِهِ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَنَظَرَ في رِصَافِهِ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَنَظَرَ في قِدْحِهِ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَنَظَرَ في الْقُذَذِ فَتَمَارَى هَلْ يَرَى شَيْئًا أَمْ لَا؟ "). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (أبو بكر بن أبي شيبة) المذكور قبله. 2 - (يزيد بن هارون) السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقة متقنٌ عابد [9] 16/ 127. 3 - (محمّد بن عمرو) بن علقمة بن وقّاص الليثيّ المدنيّ، صدوقٌ له أوهام [6] 2/ 22. 4 - (أبو سلمة) بن عبد الرّحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقة فقيه [3] 2/ 22. 5 - (أبو سعيد الخدريّ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنهما المذكور قبل باب، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، ومحمد بن عمرو أخرج له البخاريّ مقرونًا بغيره، ومسلم في المتابعات. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من محمّد بن عمرو. 4 - (ومنها): أن أبا سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وهو مشهور بكنيته، بل الصّحيح أنها اسمه، وقيل: اسمه عبد الله، وقيل إسماعيل. 5 - (ومنها): أن أبا سعيد - رضي الله عنه - أحد المكثرين السبعة، كما سبق قريبًا، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) وفي رواية البخاريّ من طريق محمّد بن إبراهيم التيميّ، عن أبي سلمة وعطاء بن يسار أنهما أتيا أبا سعيد الخدريّ، فسألاه عن الحروريّة ... (قالَ) أبو سلمة (قُلْتُ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) -رضي الله عنه- (هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَذْكُرُ في الْحُرُورِيَّةِ شَيْئًا؟) زاد في رواية للبخاريّ: "لا أدري ما الحروريّة؟ "، قالَ في "الفتح": هذا يغاير قوله في أول حديث الباب الّذي يليه: "وأشهد أن عليّا قتلهم، وأنا معه"، فإن مقتضى الأوّل أنه لا يدري هل ورد الحديث الّذي ساقه في الحروريّة أولا؟، ومقتضى الثّاني أنه ورد فيهم. ويمكن الجمع بأن مراده بالنَّفْي هنا أنه لم يحفظ فيهم نصًّا بلفظ الحروريّة، وإنّما سمع قصّتهم الّتي دلّ وجود علامتهم في الحروريّة بأنهم هم. انتهى. (فَقَالَ) أبو سعيد -رضي الله عنه- (سَمِعْته) أي النبيّ -صلى الله عليه وسلم- (يَذْكُرُ قَوْمًا) وفي رواية البخاريّ: "سمعت النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: يخرج في هذه الأمة -ولم يقل: منها ... "، قال في "الفتح": لم تختلف الطرق الصحيحة على أبي سعيد في ذلك، فعند مسلم حن رواية أبي نضرة، عن أبي سعيد "أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ذكر قومًا يكونون في أمته"، وله من وجه آخر "تمرُق مارقة عند

فُرقة من المسلمين"، وله من رواية الضحاك المِشْرَقِيّ، عن أبي سعيد نحوه، وأما ما أخرجه الطّبريّ من وجه آخر عن أبي سعيد بلفظ "من أُمَّتي"، فسنده ضعيف، لكن وقع عند مسلم من حديث أبي ذرّ -رضي الله عنه- بلفظ: "سيكون بعدي من أُمَّتي قوم"، وله من طريق زيد بن وهب، عن عليّ -رضي الله عنه-: يخرُج قوم من أُمَّتي. ويجمع بينه وبين حديث أبي سعيد بأن المراد بالأمة في حديث أبي سعيد أمة الإجابة، وفي رواية غيره أمة الدّعوة. قال النوويّ رحمه الله: وفيه دلالة على فقه الصّحابة -رضي الله عنهم-، وتحريرهم الألفاظ، وفيه إشارة من أبي سعيد -رضي الله عنه- إلى تكفير الخوارج، وأنهم من غير هذه الأمة. انتهى. (يَتَعَبَّدُونَ) أي يتعمّقون في العبادة، ويتكلّفون فيها، (يَحْقِرُ) بفتح أوله من باب ضرب: أي يستقلّ، واللازم من باب كَرُمَ (أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتهِمْ، وَصَوْمَهُ مَعَ صَوْمِهِمْ) وفي رواية عاصم بن شميخ، عن أبي سعيد: "تحقرون أعمالكم مع أعمالهم"، ووصف عاصم أصحاب نَجْدَة الحروريّ بأنهم يصومون النهار، ويقومون اللّيل، ويأخذون الصدقات على السنّة، أخرجه الطّبريّ، ومثله عنده من رواية يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، وفي رواية محمّد بن عمرو، عن أبي سلمة عنده "يتعبّدون، يحقر أحدكم صلاته وصيامه مع صلاتهم وصيامهم"، ومثله من رواية أنس عن أبي سعيد، وزاد في رواية الأسود بن العلاء، عن أبي سلمة: "وأعمالكم مع أعمالهم"، وفي رواية سلمة بن كهيل، عن زيد بن وهب، عن علي -رضي الله عنه-: "ليست قراءتكم إلى قراءتهم شيئًا، ولا صلاتكم إلى صلاتهم شيئًا"، أخرجه مسلم، والطّبريّ، وعنده من طريق سليمان التيمي، عن أنس -رضي الله عنه-: ذُكِر لي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إن فيكم قومًا يَدْأَبُون، ويَعمَلُون حتّى يُعجِبُوا النَّاس وتُعجِبهم أنفسهم"، ومن طريق حفص ابن أخي أنس عن عمه بلفظ: "يتعمقون في الدين"، وفي حديث ابن عبّاس عند الطَّبرانيُّ في قصة مناظرته للخوارج قال: "فأتيتهم فدخلت على قوم لم أَرَ أَشَدَّ اجتهادًا منهم، أيديهم كأنها ثفن الإبل، ووجوههم معلمة من آثار السجود"، وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عبّاس أنه

ذُكِر عنده الخوارج، واجتهادُهم في العبادة، فقال: ليسوا أَشَدَّ اجتهادًا من الرهبان. (يَمْرُقُونَ) من باب نصر، أي يخرجون (مِنَ الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) تقدّم الكلام على هذه الجملة في الحديث الماضي. (أَخَذَ) أي الرامي (سَهْمَهُ) تقدّم معنى السهم (فَنَظَرَ) وفي رواية البخاريّ: "فينظر الرامي إلى سهمه، إلى نصله" والجارّ والمجرور بدل من الأوّل، أي ينظر إليه جملة، ثمّ تفصيلًا، وفي رواية عند الطّبريّ: "ينظر إلى سهمه، فلا يرى شيئًا، ثمّ ينظر إلى نَصْلِه، ثمّ إلى رُصَافه". (في نَصْلِهِ) أي نصل السهم، وهو بفتح النون، وسكون الصاد، ويقال: له النَّصْلانُ: حديدة السهم والرُّمْحِ والسيف ما لم يكن له مَقْبِضٌ. قاله في "القاموس". (فَلَمْ يَرَ شَيْئًا) أي من الدم ونحوه ملصوقًا به؛ لسرعة خروجه (فَنَظَرَ في رِصَافِهِ) بكسر الراء، قيل: وبالضمّ، وبالصاد المهملة، جمع رَصَفَة بفتحين، وهو عَصَبٌ يُلْوَى على مدخل النصل في السهم (فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَنَظَرَ في قِدْحِهِ) بكسر القاف، وسكون الدال المهملة، بعدها حاء مهملة: عُود السهم (فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَنَظَرَ في الْقُذَذِ) بضم القاف، وبذالين معجمتين، الأولى مفتوحة: هو رِيشُ السهم، واحدها قُذّة بالضمّ (فَتَمَارَى) أي تشكّك (هَلْ يَرَى شَيْئًا أَمْ لَا؟) أي هل بقي محلّ فيه شيء من الدم. وفي رواية لمسلم: "فينظر الرامي إلى سهمه، إلى نصله، إلى رِصَافه، فيتمارى في الْفُوقَة، هل عَلِقَ بها من الدم شيء"، وفي رواية له: "ينظر إلى نَصْله فلا يوجد فيه شيء، ثمّ ينظر إلى رِصَافهِ فلا يوجد فيه شيء، ثمّ ينظر إلى نَضِيِّهِ فلا يوجد فيه شيء، ثمّ ينظر إلى قُذَذِه فلا يوجد فيه شيء، سَبَقَ الْفَرْثَ والدم ... "، وفي رواية: "قال: فضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم مَثَلًا، أو قال قولًا: الرَّجل يرمي الرَّميّة، أو قال: الْغَرَضَ، فينظر في النصل فلا يرى بَصِيرة، وينظر في النَّضِيّ فلا يرى بصيرة، وينظر في الْفُوق فلا يرى بصيرة ... ". و"الْفُوقة" بضم الفاء وزان قُفْل: الموضع الّذي يجعل فيه الْوَتَر، والجمع أفواق، مثل قُفْل وأقفال، و"النَّضِيّ" بفتح النون، وكسر الضاد المعجمة، وتشديد الياء: هو

الْقِدحُ كذا جاء مفسّرًا في "صحيح مسلم"، وكذا قاله الأصمعيّ، وأما "البَصِيرة" فبفتح الباء الموحّدة، وكسر الصاد المهملة، وهو الشيء من الدم، أي لا يرى شيئًا من الدم يستدلّ به على إصابة الرَّمِيّة. (¬1). وقال القرطبيّ رحمه الله: مقصود هذا التمثيل أن هذه الطائفة خرجت من دين الإسلام، ولم يتعلّق بها منه شيء، كما خرج هذا السهم من هذه الرميّة الّذي لشدّة النزع، وسُرْعة السهم سبق خروجه الدم، بحيث لا يتعلّق به شيء ظاهر، كما قال: "سَبَقَ الْفَرْثَ والدم. انتهى (¬2). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (34/ 169) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (البخاريّ) في (4/ 243 و 6/ 244 و 8/ 47 و 9/ 21) وفي "خلق أفعال العباد" له (22) و (مسلم) في (3/ 112) (مالك) في "الموطّإ" (144) و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه" (18649) و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" (15/ 315 - 316 و 322 و 329) و (أحمد) في "مسنده" (3/ 33 و 56 و 60 و 65) و (النَّسائيّ) في "فضائل القرآن" (124) و"التفسير" (240) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (6737) و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة" (6/ 427) و (البغويّ) في "شرح السنة" (2552 و 2553). وأما فوائده، فقد تقدّمت، في شرح حديث عليّ -رضي الله عنه-، فراجعها تستفد، والله تعالى ¬

_ (¬1) راجع "شرح مسلم" 7/ 165، و"المصباح المنير" 2/ 483. (¬2) "المفهم" 3/ 110.

أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 175 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِن بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي، أَوْ سَيَكُونُ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ، هُمْ شِرَارُ الْخَلْقِ وَالخلِيقَةِ". قَالَ عَبْدُ الله بْنُ الصَّامِتِ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَافِعِ بْنِ عَمْرٍو، أَخِي الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ، فَقَالَ: وَأَنَا أَيْضًا قَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-). رجال هذا الإسناد: سبعة: 1 - (أبو بكر بن أبي شيبة) المذكور قريبًا. 2 - (أبو أُسامة) هو: حماد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت ربما دلّس، من كبار [9] 12/ 102. 3 - (سليمان بن المغيرة) الْقَيْسيّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقة [7]. رَوَى عن أبيه، وثابت البنانيّ، وحميد بن هلال، والحسن، وابن سيرين، والجريري، وأبي موسى الهلالي. ورَوَى عنه الثّوريّ، وشعبة، وماتا قبله، وبهز بن أسد، وحَبَّان بن هلال، وأبو أسامة، وأبو داود، وأبو الوليد الطيالسيان، وغيرهم. قال قراد أبو نوح: سمعت شعبة يقول: سليمان بن المغيرة سيد أهل البصرة. وقال أبو داود الطيالسي: ثنا سليمان بن المغيرة، وكان خيارًا من الرجال. وقال عبد الله ابن داود الخُريبيّ: ما رأيت بالبصرة أفضل من سليمان بن المغيرة، ومرحوم بن عبد العزيز. وقال أبو طالب عن أحمد: ثبت ثبت. وقال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: ثقة ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة ثبتا. وقال ابن المديني: لم يكن في أصحاب

ثابت أثبت من حماد بن سلمة، ثمّ بعده سليمان بن المغيرة، ثمّ بعده حماد بن زيد. وقال النَّسائيُّ: ثقة. وذكر أبو زرعة الدمشقي عن سليمان بن حرب أنه قال: ثنا سليمان بن المغيرة الثقة المأمون. وقال يعقوب بن شيبة: سمعت عبد الله بن مسلمة بن قعنب يقول: ما رأيت بصريا أفضل منه. وقال ابن شاهين في "الثِّقات": قال عثمان بن أبي شيبة: هو ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". ونَقَلَ ابن خلفون عن ابن نمير والعجلي وغيرهما توثيقه. وقال أبو مسعود الدمشقي في "الأطراف" في مسند أنس: ليس لسليمان بن المغيرة عند البخاريّ غير هذا الحديث الواحد، وقرنه بغيره. وقال البزار: كان من ثقات أهل البصرة. وقال البخاريّ عن محمّد بن محبوب: مات سنة خمس وستين ومائة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم 170 و 1635 و 3210 و 3551. 4 - (حُمَيد بن هلال) بن هُبَيرة، ويقال: ابن سُويد بن هُبيرة الْعَدَويّ، أبو نصر البصريّ، ثقة عالم [3]. رَوَى عن عبد الله بن مُغَفّل، وعبد الرّحمن بن سَمُرة، وأنس، وهشام بن عامر الأنصاري، وابنه سعد بن هشام، وعبد الله بن الصامت، وغيرهم. ورَوَى عنه أَيّوب السختياني، وعاصم الأحول، وحجاج بن أبي عثمان، وحبيب ابن الشهيد، وقتادة، وأبو هلال الراسبي، وسليمان بن المغيرة، وغيرهم. قال القطان: كان ابن سيرين لا يرضاه، قال ابن أبي حاتم عن أبيه: لأنه دخل في عمل السلطان، وكان في الحديث ثقة. وقال ابن معين والنَّسائيّ: ثقة. وقال أبو هلال الراسبي: ما كان بالبصرة أعلم منه. وقال ابن عديّ: له أحاديث كثيرة، وقد حَدّث عنه الأئمة، وأحاديثه مستقيمة. وقال ابن سعد: كان ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". وقال البزار في "مسنده": لم يسمع من أبي ذرّ. وقال أبو حاتم: لم يَلْقَ هشام بن عامر، والحفاظ لا يُدخلون بينهما أحدًا، حماد بن زيد وغيره، وهو الأصح. وقال ابن المديني:

لم يَلْقَ عندي أبا رفاعة العدوي. ووَثّقه العجلي، وفي أحاديث القهقهة من "السنن" للدارقطني من طريق وهيب عن ابن عون عن ابن سيرين قال: كان أربعة يُصَدِّقُون مَنْ حدَّثهم، ولا يبالون ممّن يسمعون: الحسن، وأبو العالية، وحُميد بن هلال، ولم يذكر الرّابع، وفي بعض النسخ منه وداود بن أبي هند. قال ابن سعد مات في ولاية خالد على العراق. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط برقم 170 و 952 و 1560 و 2654 و 3210 و 3551 و 3796 و 3981. 5 - (عبد الله بن الصامت) الغفاريّ البصريّ، ثقة [3]. رَوَى عن عمه أبي ذرّ، وعمر، وعثمان، والحكم، ورافع ابني عمرو، وحذيفة، وابن عمر، وعائشة. ورَوَى عنه حميد بن هلال، وأبو العالية البرّاء، وأبو عمران الجْوْني، وسَوَادة بن عاصم، ومحمد بن واسع، وغيرهم. قال النَّسائيُّ: ثقة. وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". وقال ابن سعد يُكنى أبا النضر، وكان ثقة، وله أحاديث. وقال العجلي: بصري تابعي ثقة. ذكره البخاريّ في "الأوسط" في فصل من مات ما بين السبعين إلى الثمانين. ونقل الذهبي أن بعضهم قال ليس بحجة. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله بعضهم ممّا لا يُلتفت إليه؛ لأنه لم يعتمد على حجة، فعبد الله بن الصامت ثقة، كما سمعته آنفًا في كلام الأئمة. والله تعالى أعلم. أخرج له البخاريّ في التعاليق، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث برقم 170 و 952 و 1256 و 2862 و 3210 و 3362 و 3958 و 4225. 6 - (أبو ذرّ) جندب بن جُنَادة الغفاريّ الصحابيّ الشهير -رضي الله عنه- 12/ 108. 7 - (رافع بن عمرو) الغفاري يُكنى أبا جبير صحابي عِدَاده في أهل البصرة، رَوَى عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وعنه ابنه عمران، وعبد الله بن الصامت، وأبو جُبير مولى أخيه

الحكم بن عمرو. أخرج له مسلم، وأبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (170) وحديث (2299) "فلا ترمي النخل، وكل ممّا يسقط في أسافلها". والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سُداسيّات المصنّف. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصّحيح. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين، غير شيخه، وأبي أُسامة فكوفيّان. 4 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، ورواية الراوي عن عمه، فأبو ذرّ -رضي الله عنه- عم عبد الله بن الصامت، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ الله بْنِ الصَّامِتِ) الغفاريّ رحمه الله (عَنْ) عفه (أَبِي ذَرٍّ) جندب بن جُنَادة -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ بَعْدِي) أي بعد موتي (مِنْ أُمَّتِي، أَوْ) للشكّ من الراوي (سَيَكُونُ بَعْدِي مِن أُمَّتِي قَوْمًا) بالنصب على أنه اسم "إنّ" مؤخّرًا، وخبرها الظرف "بعدي"، ومن أُمَّتي" متعلّق بحال مقدّر (يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ) بضم الحاء الهملة، واللام، جمع حَلْق بفتح، فسكون، قال في "المصباح": "الحَلْق" من الحيَوان جمعه حُلُوقٌ، مثلُ فَلْس وفُلُوس، وهو مذكّرٌ، قال ابن الأنباريّ: ويجوز في القياس أَحْلُقٌ، مثلُ أَفْلُس، لكنه لم يُسمع من العرب، وربّما قيل حُلُقٌ بضمتين، مثلُ رَهْنٍ ورُهُن، والْحُلْقُوم هو الْحَلْق، وميمه زائدة، والجمع حَلَاقِيم بالياء، وحذفُه تخفيفٌ. انتهى (¬1) (يَمْرُقُونَ) أي يخرجون، وتقدّم أنه من باب ضرب (مِنَ الدِّينِ كَما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ). ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" 1/ 146.

قال ابن الأثير: "الرمِيّة": الصَّيد الّذي تَرميه، فتقصده، ويَنفُذ فيه سَهْمُك، وقيل: هي كلّ دابة مَرْمِيَّة. انتهى (¬1). وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الرميّة" ما يُرمى من الحيوان ذكرًا كان أو أنثى، والجمع رَمِيّات، ورَمَايَا، مثلُ عطيّة وعَطِيّات وعَطَايَا، وأصلها فَعِيلةٌ بمعنى مفعولة. انتهى (¬2). (ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ) أي لا يرجعون إلى الدين (هُمْ شِرَارُ) بكسر الشين المعجمة، هكذا في رواية المصنّف، ووقع عند مسلم وغيره بلفظ "شَرّ الخلق والجلِيقة"، و"الشَّرُّ" بفتح الشين، ويجوز ضمها: نقيض الخير، جمعه شُرُور، أفاده في "القاموس"، ولم أجد "الشرار" بمعنى الشرّ في كتب اللُّغة الّتي بين يديّ، وإنّما هو بمعنى آخر، قال في "القاموس" ما حاصله: "الشِّرَار" كَكِتَاب، وجَبَلٍ: ما يتطاير من النّار، واحدتها بهاء. انتهى، ولعلّ المراد هنا أنهم كشِرَار النّار من حيث إلحاق الضرر بالأمة، والله تعالى أعلم (الخَلْقِ) أي النَّاس (وَالخَلِيقَةِ) أي البهائم، وقيل: هما بمعنى، أراد بهما جميع الخلق، واحتجّ بهذا من قال بتكفيرهم، وتأوله الجمهور بأن معناه هو شرّ المسلمين، ونحو ذلك، وبعده لا يخفى. (قَالَ عَبْدُ الله بْنُ الصَّامِتِ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ) أي الحديث الّذي سمعه من أبي ذرّ - رضي الله عنه - في الخوارج (لِرَافِعِ بْنِ عَمْرٍو) الغِفَاريّ -رضي الله عنه- تقدّمت ترجمته آنفًا (أَخِي الحكَمِ بْنِ عَمْرٍو) ابن مُجَدَّع، ويقال له: الحكم بن الأقرع، قال ابن سعد: صَحِب النبيّ -صلى الله عليه وسلم- حتّى مات، ثمّ تحوّل إلى البصرة، فنزلها، روى عنه أبو الشعثاء، والحسن البصريّ، وابن سيرين، وأبو حاجب، وعبد الله بن الصامت، وأبو تميمة الْهُجَيميّ، والصّحيح أن بينهما دَلجَة بن قيس، ولّاه زياد خُرَاسان، فسكن مروَ، ومات بها، وقال أوس بن عبد الله بن بُريدة، عن أخيه سَهْل، عن أبيه: إن معاوية وجَهه عاملًا على خُراسان، ثمّ عَتَبَ عليه في شيء، ¬

_ (¬1) "النهاية" 2/ 268. (¬2) "المصباح المنير" 1/ 240.

فأرسل عاملًا غيره، فحَبَسَ الحكم وقيّده، فمات في قيوده، قيل: مات سنة (45) وقال ابن ماكولا: سنة (50) وقال العسكريّ: سنة (51)، وذكر الحاكم أنه لمّا ورد عليه كتاب زياد دعا على نفسه بالموت فمات. أخرج له البخاريّ، والأربعة، له حديث واحد حديث رقم (373). وقوله: (الْغِفَارِيِّ) بكسر الفاء، وتخفيف الفاء نسبة إلى غِفَار بن مليك بن ضَمْرة ابن بكر بن عبد مناة بن كِنَانة. قاله في "اللبّ" (¬1). (فَقَالَ) رافع -رضي الله عنه- (وَأَنا أَيْضًا قَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-) أي سمعت هذا الحديث في الخوارج منه -صلى الله عليه وسلم-. فثبت بهذا أن هذا الحديث ممّا سمعه كلّ من أبي ذرّ، ورافع ابن عمرو من النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وسمعه منهما عبد الله بن الصامت رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي ذرّ -رضي الله عنه- هذا أخرجه مسلم. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (34/ 170) بهذا السند فقط، وأخرجه (مسلم) في (3/ 116) و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده" (448) و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" (15/ 306) و (أحمد) في "مسنده" (5/ 31 و 176) و (الدارميّ) في "مسنده" (2439) و (ابن أبي عاصم) في "السنّة" (921 و 922) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (6738) و (الطبرانيّ) في "الكبير" (4461) و (الحاكم) في "مستدركه" (3/ 444) و (البيهقي) في "دلائل النبوّة" (6/ 429)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ¬

_ (¬1) "لبّ اللباب"2/ 134.

وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 171 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَسُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَيَقْرَأَنَّ الْقُرْآنَ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ، كمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (أبو بكر بن أبي شيبة) الحافظ الحجة المشهور المذكور قريبًا. 2 - (سُويد بن سعيد) بن سهل الهَرَويّ الأصل، ثمّ الحدَثانيّ، ويقال له: الأنباريّ، أبو محمّد، صدوقٌ في نفسه، إِلَّا أنه عَمِيَ فصار يتلقّن ما ليس من حديثه، وأفحش ألقول فيه ابن معين، من قدماء [10] 4/ 30. 3 - (أبو الأحوص) سلّام بن سُلَيم الحنفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة متقنٌ [7] 2/ 157. 4 - (سماك) بن حرب الذهليّ البكريّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوقٌ، وروايته عن عكرمة خاصّةً مضطربةٌ، وقد تغيّر بآخره، فكان ربّما تلقّن [4] 4/ 30. و"عكرمة" مولى ابن عبّاس، و"ابن عبّاس" تقدّما في الباب الماضي، وشرح الحديث، وفوائده تعلم ممّا سبق. والله تعالى أعلم. (مسألة): إسناد هذا الحديث ضعيف؛ لما سبق من الكلام في رواية سماك عن عكرمة، قال البوصيريّ رحمه الله: هذا إسناد ضعيفٌ، والعلّة فيه من سماك، قال النَّسائيّ، ويعقوب بن شيبة: روايته عن عكرمة مضطربة، وروايته عن غيره صالحة. انتهى. وأما المتن فصحيح؛ بالأسانيد السابقة واللاحقة. [تنبيه]: هذا الحديث من أفراد المصنّف، أخرجه هنا (34/ 171) بهذا السند فقط، ولم يخرجه من أصحاب الأصول غيره. وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (1/ 256)، والله تعالي أعلم بالصواب، وإليه

المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 172 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَاحِ، أنبَأَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ ابْنِ عَبْدِ الله قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بالجعْرَانَةِ، وَهُوَ يَقْسِمُ التِّبْرَ وَالْغَنَائِمَ، وَهُوَ في حِجْرِ بلَالٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ، فَإِنَّك لَمْ تَعْدِلْ، فَقَالَ: "وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ بَعْدِي إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ "، فَقَالَ عُمَرُ: دَعْني يَا رَسُولَ الله حَتَّى أَضرِبَ عُنُقَ هَذَا المنافِقِ، فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ هَذَا في أَصْحَابٍ" أَوْ "أُصَيْحَابٍ لَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ"). رجال هذا الإسناد: أربعة: 1 - (محمّد بن الصبّاح) بن سفيان الجرْجَرَائيّ، أبو جعفر التاجر، صدوقٌ [10] 1/ 2. [تنبيه]: محمّد بن الصبّاح في الكتب الستة اثنان: (أحدهما): الجرجرائي المذكور هنا، رَوَى عنه أبو داود، والمصنّف بغير واسطة، وروى عنه في هذا الكتاب (146) حديثًا. (والثّاني): محمّد بن الصبّاح الدُّولابيّ، روى عنه المصنّف حديثًا واحدًا برقم (193) بواسطة محمّد بن يحيى الذهليّ، وقد تقدّم بيان هذا في أوائل هذا الشرح، وإنّما أعدته تذكيرًا؛ لطول العهد به، فتنبّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. 2 - (سفيان بن عُيينة) الإمام الحجة الثقة الثبت [8] 2/ 13. 3 - (أبو الزُّبير) محمّد بن مسلم بن تدرُس المكيّ، صدوقٌ يدلِّس [4] 4/ 34. 4 - (جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ السَّلميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما 1/ 11.

لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من رباعيّات المصنّف. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصّحيح، غير شيخه، وهو ثقة، وأبو الزُّبير، وإن كان مدلّسًا إِلَّا أنه صرّح بالسماع في "صحيح مسلم"، فزالت تهمة التدليس. 3 - (ومنها): أنه مسلسلٌ بالمكيين، غير شيخه، فجرجرائيّ، نسبة إلى جَرْجَرايا بلد بين واسط وبغداد، وجابر -رضي الله عنه- سكن مكّة، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله) رضي الله عنهما، وفي رواية لمسلم من طريق يحيى بن سعيد الأنصاريّ، قال: أخبرني أبو الزُّبير، أنه سمع جابر بن عبد الله (قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بِالجعْرَانَةِ) قال ابن الأثير رحمه الله: هو: موضعٌ قريبٌ من مكّة، وهو في الحلّ، وميقات للإحرام، وهي بتسكين العين، والتخفيف، وقد تُكسر العين، وتُشَدَّد الراء. انتهى (¬1). وقال الفيّوميّ رحمه الله: هو موضع بين مكّة والطائف، وهي على سبعة أميال من مكّة، وهي بالتخفيف، واقتصر عليه في "البارع"، ونقَلَه جماعة عن الأصمعيّ، وهو مضبوط كذلك في "الْمُحْكَمِ"، وعن ابن المدينيّ: العراقيّون يُثَقِّلُون الجعْرَانة، والحُدَيبيَةَ، والحجازيّون يُخَفِّفُونهما، فأخَذَ به المحدّثون على أن هذا اللّفظ ليس فيه تصريح بأن التثقيل مسموع من العرب، وليس للتثقيل ذكرٌ في الأصول المعتمدة إِلَّا ما حكاه في "المحكم" تقليدًا له في الحديبية، وفي "الْعُبَاب": والجعْرَانَة بسكون العين، وقال الشّافعيّ: المحدّثون يُخطئون في تشديدها، وكذلك قال الخطّابيّ. انتهى (¬2). زاد في رواية مسلم: "مُنْصَرَفه من حُنَيْنٍ"، يعني أنه كان وقت انصرافه من غزوة ¬

_ (¬1) "النهاية" 1/ 276. (¬2) "المصباح المنير" 1/ 102.

حُنين، وكان ذلك في ذي القعدة سنة ثمان من الهجرة (وَهُوَ) -صلى الله عليه وسلم- جملة في محلّ نصب على الحال، أي والحال أنه -صلى الله عليه وسلم- (يَقْسِمُ) بفتح أوله، وكسر ثالثه، من باب ضرب (التِّبْرَ) بكسو التاء المثنّاة الفوقية، وسكون الموحّدة-: هو الذهب والفضّة قبل أن يُضرَبَا دنانير ودراهم، فإذا ضُرِبَا كانا عَيْنًا، وقد يُطلَق التبر على غيرهما من المعدنيّات، كالنحاس والحديد والرَّصاص، وأكثر اختصاصه بالذهب، ومنهم من يَجعله في الذهب أصلًا، وفي غيره فرعًا ومجازًا. أفاده في "النهاية" (¬1). (وَالْغَنَائِمَ) بالفتح جمع غنيمة، وهو ما أُصيب من أموال أهل الحرب، وأوجف عليه المسلمون بالخيل والركاب. قاله في "النهاية" (¬2)، وقال في "المصباح": "الغنيمة": ما نِيل من أهل الشرك عَنْوَةً، والحربُ قائمةٌ، و"الْفَيْءُ": ما نِيل منهم بعد أن تَضَعَ الحرب أوزارها. انتهى (¬3). (وَهُوَ) الواو للحال، أي والحال أن ذلك التبر موضوع (في حِجْرِ بِلَالٍ) الصحابيّ المؤذّن المشهور -رضي الله عنه-، و"الحَجْر" بفتح الحاء المهملة، وكسرها، وسكون الجيم: الثّوب، والحِضْنُ، قاله في "النهاية" (¬4)، وظاهرة عبارة "القاموس" أنه بكسر الحاء فقط، وفسّره بما بين يديك من ثوبك، والله تعالى أعلم. (فَقَالَ رَجُلٌ) قيل: هو ذو الخويصرة، وفيه كلام سيأتي تحقيقه قريبًا -إن شاء الله تعالى- (اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ، فَإِنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ) وفي لفظ منْ حديث أبي سعيد: "اتّق الله يا محمّد"، وفي حديث عبد الله بن عمرو عند البزّار والحاكم: "فقال: يا محمّد والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما أراك تعدل"، ووقع في رواية: "فقال: يا محمّد قد رأيتُ الّذي ¬

_ (¬1) "النهاية" 1/ 179. (¬2) "النهاية" 3/ 389. (¬3) "المصباح المنير" 2/ 455. (¬4) "النهاية" 1/ 342.

صنعتَ، قال: وكيف رأيتَ؟ قال: لم أرك عدلت" (فَقَالَ) -صلى الله عليه وسلم- ("وَيْلَكَ) وفي حديث أبي سعيد: "ويحك" (وَمَنْ يَعْدِلُ) "من" استفهامية، والاستفهام للإنكار، أي لا أحد يعدل (بَعْدِي إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ ") يعني أنهم أمروا باتباعه -صلى الله عليه وسلم-، فإذا لم يعدل المتبع فمن الّذي يعدل بعده؟، ولفظ البخاريّ من طريق عمرو بن دينار، عن جابر -رضي الله عنه- قال: "بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَقسم غنيمةً بالجعرانة، إذ قال له رجل: اعدل، قال: لقد شقيت إن لم أعدل". وقوله: "لقد شقيت" بضم المثناة للأكثر، ومعناه ظاهر، ولا محذور فيه، والشرط لا يستلزم الوقوع؛ لأنه ليس ممّن لا يعدل حتّى يحصل له الشقاء، بل هو عادل فلا يَشقَى، وحكى عياض فتحها، ورجحه النووي، وحكاه الإسماعيليّ عن رواية شيخه المنيعيّ من طريق عثمان بن عمر، عن قُرّة، والمعنى: لقد شقيتَ، أي ضللتَ أنت أيها التابع حيث تقتدي بمن لا يعدل، أو حيث تعتقد في نبيّك هذا القول الّذي لا يصدُر عن مؤمن. قاله في "الفتح" (¬1). ولفظ مسلم: "قال: ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خِبْتُ وخَسِرتُ إن لم أكن أعدل"، وفي حديث أبي سعيد: "ومن يُطع الله إذا لم أُطعه"، وفي لفظ: "أو لست أحقّ أهل الأرض أن أطيع الله"، وفي حديث عبد الله بن عمرو: "عند مَنْ يُلْتَمسُ العدل بعدي؟ "، وفي رواية عنه: "فغضب -صلى الله عليه وسلم- وقال: العدل إذا لم يكن عندي فعند من يكون"، وفي حديث أبي بكرة: "فغضب حتّى احمرّت وجنتاه"، وفي حديث أبي برزة: "فغضب غضبًا شديدًا، وقال: والله لا تجدون بعدي رجلًا هو أعدل عليكم منّي". (فَقَالَ عُمَرُ) بن الخطّاب -رضي الله عنه-، وهذا صريح في أن الّذي طلب قتله عمر -رضي الله عنه-، وكذا هو في حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- عند البخاريّ، لكن وقع عند مسلم في حديث أبي سعيد أن الّذي طلب هو خالد بن الوليد، ويُمكن الجمع بأن كلا منهما طلب ذلك، ويؤيّد هذا الجمع ما في رواية لمسلم أيضًا من طريق جرير، عن عمارة بن القعقاع، عن ¬

_ (¬1) "الفتح" 6/ 291 "كتاب فرض الخمس" الحديث (3138).

عبد الرّحمن بن أبي نُعم عنه، وفيه: "فقام عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ قال: لا، ثمّ أدبر، فقام إليه خالد بن الوليد سيف الله، فقال: يا رسول الله أضرب عنقه؟، قال: لا"، فهذا نصّ صريح في أن كلا منهما سأل. هذا بالنسبة لحديث أبي سعيد -رضي الله عنه-، وأمّا في حديث جابر -رضي الله عنه- المذكور هنا، وكذا حديث عبد الله بن عمرو فالسائل هو عمر -رضي الله عنه-، لكن المعترض واحد في الموضعين. أفاده في "الفتح" (¬1). (دَعْنِي) أي اتركني (يَا رَسُولَ الله حَتَّى أَضْرِبَ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ) وفي رواية مسلم بيان سبب الأمر بتركه، ولفظه: "فقال: معاذ الله أن يتحدَّث النَّاس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن ... " الحديث، وأخرج أحمد، والطّبريّ من طريق بلال ابن بقطر، عن أبي بكرة قال: "أُتِيَ النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- بِمُوَيْلٍ، فقعد يقسمه، فأتاه رجل، وهو على تلك الحال ... " فذكر الحديث، وفيه: "فقال أصحابه ألَّا تضرب عنقه؟، فقال: لا أريد أن يسمع المشركون أني أقتل أصحابي". [تنبيه]: القصة الّتي في حديث جابر المذكور هنا صُرِّح فيه بأنها كانت منصرف النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- من الجعرانة، وكان ذلك في ذي القعدة سنة ثمان، وكان الّذي قسمه النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- حينئذ تبرًا كان في حجر بلال -رضي الله عنه-، وكان يعطي كلّ من جاء منها، والقصة الّتي في حديث أبي سعيد صرح في رواية أبي نعيم عنه أنها كانت بعد بحث علي -رضي الله عنه- إلى اليمن، وكان ذلك في سنة تسع، وكان المقسوم فيها ذهبًا وخص به أربعة أنفس، فهما قصتان في وقتين، اتَّفَقَ في كلّ منهما إنكار القائل، وصرح في حديث أبي سعيد أنه ذو الخويصرة التَّميميّ، ولم يُسَمَّ القائل في حديث جابر. قال الحافظ: ووَهِمَ من سماه ذا الخويصرة ظانّا اتحاد القصتين، قال: ووجدت لحديث جابر -رضي الله عنه- شاهدًا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنه أتاه رجل يوم حنين، وهو يَقْسِم شيئًا، فقال: يا محمّد اعْدِل، ولم يُسَمِّ الرَّجل أيضًا، وسماه ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 12/ 366.

محمّد بن إسحاق بسند حسن، عن عبد الله بن عمر، وأخرجه أحمد، والطّبريّ أيضًا، ولفظه: "أتى ذو الخويصرة التَّميميُّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو يَقْسِم الغنائم بحنين، فقال يا محمّد ... فذكر نحو هذا الحديث المذكور، فيمكن أن يكون تكرر ذلك منه في الموضعين، عند قسمة غنائم حنين، وعند قسمة الذهب الّذي بعثه علي. انتهى كلام الحافظ (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: آخر كلام الحافظ رحمه الله يعارض أوله؛ لأنه قال: ووهم من سمّاه ذا الخويصرة إلخ، ثمّ قرّر أخيرًا بإمكان أن يتكرّر ذلك منه، وهذا هو الّذي يظهر لي، والله تعالى أعلم. (فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ هَذَا في أَصْحَابٍ) أي مع أصحاب، ففي بمعنى: "مع"، والمعنى أنه ليس بواحد حتّى يندفع شرّه بقتله، بل له أصحاب، وأمثال (¬2)، ورواية مسلم المذكورة: "إن هذا وأصحابه يقرءون ... " (أَوْ) للشكّ من الراوي ("أُصَيْحَابٍ) بالتصغير (لَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ ترَاقِيَهُمْ) بمثناة، وقاف جمع تَرْقُوة -بفتح أوله، وسكون الراء، وضم القاف، وفتح الواو- وهي العظم الّذي بين نُقرة النَّحر والعاتق، والمعنى أن قراءتهم لا يرفعها الله، ولا يقبلها، وقيل: لا يعملون بالقرآن، فلا يثابون على قراءته، فلا يحصُل لهم إِلَّا سَرْده (يَمْرُقُونَ) أي يخرجون (مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ") فَعِيلة بمعنى مفعولة، أي الغزالة المرميّة مثلًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفق عليه. ¬

_ (¬1) "الفتح" 12/ 363 - 364. (¬2) "شرح السنديّ" 1/ 112.

(المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (34/ 172) بهذا السند فقط، وأخرجه (البخاريّ) بها "صحيحه" (4/ 111 و 3138) مختصرًا و (مسلم) في "صحيحه" (3/ 109 و 110) و (الحميديّ) في "مسنده" (1271) و (أحمد) في "مسنده" (3/ 353 و 354) و (البخاريّ) في "الأدب المفرد" (774) و (النَّسائيّ) في "فضائل القرآن" (112 و 113) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (4819) و (البيهقي) في "دلائل النبوّة" (5/ 185 - 186)، وفوائد الحديث تعلم ممّا سبق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول االكتاب قال: 173 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا إِسْحَقُ الْأَزْرَقُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "الخَوَارِجُ كِلَابُ النَّارِ"). رجال هذا الإسناد: أربعة: 1 - (إسحاق الأزرق) هو: إسحاق بن يوسف بن مِرْداس المخزوميّ الواسطي المعروف بالأزرق، ثقة [9]. رَوَى عن ابن عون، والأعمش، وشريك، والثوري، ومسعر، وعُمَر بن ذَرّ، وعوف، وغيرهم. ورَوَى عنه أحمد بن حنبل، وأبو خيثمة، وأبو بكر بن أبي شيبة، ودُحَيم، وقتيبة، وعمرو الناقد، ويحيى بن معين، وجماعة، آخرهم سَعْدَان بن نصر البزاز. قيل لأحمد: إسحاق الأزرق ثقة؟ فقال: إِي والله ثقة. وقال ابن معين والعجلي: ثقة. وقال أبو حاتم: صحيح الحديث، صدوق، لا بأس به. وقال يعقوب بن شيبة: كان من أعلمهم بحديث شريك. وقال الخطيب: كان من الثقات المأمونين. وقال وهب بن بقية: وُلِد سنة (117)، وقال خليفة، ومحمد بن سعد، وغير واحد: مات سنة (195) زاد ابن سعد: وكان ثقة، وربما غَلِطَ. وذكر ابن حبّان في "الثِّقات" أنه روى عن

إسماعيل بن أبي خالد، وقال البزار: كان ثقة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث برقم 173 و 667 و 680 و 1224 و 1606 و 2392 و 2617 و 3405 و 4032. 2 - (الأعمش) سليمان بن مِهْرَان، أبو محمّد الكوفيّ الحافظ الحجة المشهور [5] 1/ 1. 3 - (ابن أبي أوفى) هو: عبد الله بن أبي أوفى، واسمه علقمة بن خالد بن الحارث ابن أبي أسيد بن رِفاعة بن ثعلبة بن هوازن بن أسلم بن أفصَى بن حارثة الأسلمي، أبو إبراهيم، وبه جزم البخاريّ، وقيل: أبو محمّد، وقيل: أبو معاوية، وله ولأبيه صحبة، وشَهِدَ عبد الله بيعة الرضوان، ثم نزل الكوفة ومات بها. رَوَى عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وعنه إبراهيم بن عبد الرّحمن السَّكْسَكِيُّ، وإبراهيم بن مسلم الْهَجَريّ، وإسماعيل بن أبي خالد، والحكم بن عُتيبة، وسالم أبو النضر فيما كتب إليه، وسلمة بن كُهيل، والأعمش -يقال مرسل- وطارق بن عبد الرّحمن البجلي، وطلحة بن مُصَرِّف، وعبد الله، ويقال: محمّد بن أبي المُجَالد، وعُبيد بن الحسن، وعدي ابن ثابت، وعطاء بن السائب، وعمرو بن مرّة، وفائد أبو الورقاء، والقاسم بن عوف الشيباني، ومَجْزأة بن زاهر، والوليد بن سَرِيع، ويحيى بن عَقِيل، وأبو آدم المحاربي، وأبو إسحاق الشيباني، وأبو المختار الأسدي، وأبو يعفور العبدي، وشَعْثاء الكوفية. وأخرج أحمد عن يزيد، عن إسماعيل: رأيت على ساعد عبد الله بن أبي أوفى ضربة، فقال: ضُربتها يوم حُنين، فقلت: أشهد حُنينًا؟ قال: نعم، وقبل ذلك. وفي "الصّحيح" عن عمرو بن مرّة قال: سمعت ابن أبي أوفى، وكان من أصحاب الشجرة. وفي "الصّحيح" عنه قال: غزوت مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ست غزوات نأكل الجراد، وفي رواية سبع غزوات، قال سفيان وعطاء -هو ابن السائب-: رأيت عبد الله بن أبي أوفى بعد ما ذهب بصره (¬1). ¬

_ (¬1) راجع "الإصابة" 4/ 16 - 17.

قال يحيى بن بكير وغيره: مات سنة ست وثمانين. وقال البخاريّ عن أبي نعيم: مات سنة (87). وقال الذهلي عن أبي نعيم: مات سنة سبع أو ثمان وثمانين. قال عمرو ابن علي: وهو آخر من مات بالكوفة من الصّحابة، وهو أخو زيد بن أبي أوفي، لكن منع ذلك أبو أحمد العسكري وغيره، وفي "كتاب الجهاد" من البخاريّ ما يدلُّ على أنه شهد الخندق (¬1). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (17) حديثًا. وشيخ المصنّف سبق قريبًا، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَن) عبد الله (ابْنِ أَبِي أَوْفَى) علقمة بن خالد الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- "الخوَارِجُ كِلَابُ النَّارِ) مبتدأ وخبره، والمعنى: هم كلاب أهلها، ويحتمل أن يكونَ أنهم على صورة كلاب فيها (¬2). والحديث ساقه الإمام أحمد رحمه الله وغيره مطوّلًا، ولفظ أحمد: 18600 - حَدَّثَنَا أبو النضر، حَدَّثَنَا الحَشْرج بن نُبَاتة العبسي كوفي، حدثني سعيد ابن جُمْهان، قال: لقيت عبد الله بن أبي أوفى، وهو محجوب البصر، فسلمت عليه، قال لي: من أنت؟ فقلت: أنا سعيد بن جُمْهان، قال: فما فَعَل والدك؟ قال: قلت: قتلته الأزارقة (¬3) قال: لعن الله الأزارقة، لعن الله الأزارقة، حَدَّثَنَا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم كلاب النّار، قال: قلت: الأزارقة وحدهم أم الخوارج كلها؟ قال: بلى الخوارج كلها، قال: قلت: فإن السلطان يَظْلِم الناسَ، ويفعل بهم، قال: فتناول يدي فغَمَزَها بيده غَمْزة شديدة، ثمّ قال: ويحك يا ابن جُمْهان عليك بالسواد الأعظم، عليك بالسواد الأعظم، إن كان السلطان يَسمَع منك فأته في بيته فأخبره بما تعلم، فإن قَبِل منك وإلا فدعه، ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" 2/ 304 - 305. (¬2) راجع "المرقاة" 7/ 120. (¬3) هم أتباع نافع بن الأزرق الخارجيّ المشهور.

فإنك لست بأعلم منه. وهذا إسناد صحيح، فإن الحَشْرَج وثقه أحمد، وابن معين، وأبو داود، وقال أبو زرعة: لا بأس به، مستقيم الحديث، وقال النَّسائيُّ: ليس به بأس، وسعيد بن جمهان وثقه أحمد، وابن معين، وأبو داود، وابن حبّان، وأبو النضر هاشم ابن القاسم حافظ حجة مشهور من رجال الجماعة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه الرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث ابن أبي أوفى رضي الله عنهما هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه انقطاع، فإن الأعمش لم يسمع من ابن أبي أوفى؟. [قلت]: إنّما صحّ لشواهده، فقد تقدّم آنفًا أن أحمد أخرجه من طريق الحشْرَج بن نُباتة، عن سعيد بن جمهان، عنه، وهو إسناد صحيح على الصواب. والله تعالى أعلم. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (34/ 173) بهذا الإسناد فقط، ولم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (4/ 355 و 19434) و (الحاكم) في "المستدرك" (3/ 571) و (ابن أبي عاصم) في "السنة" (904) و (عبد الله بن أحمد) في "السنة" (1513) و (أبو نعيم) في "الحلية" (5/ 56) و (الخطيب) في "التاريخ" (6/ 319). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 174 - حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيىَ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "يَنْشَأُ نَشْءٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يجاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، كُلَّمَا خَرَجَ قَرْنٌ قُطِعَ"، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "كُلَّمَا خَرَجَ قَرْنٌ قُطِعَ" -أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ مَرَّةً- "حَتَّى يَخْرُجَ في عِرَاضِهِمُ الدَّجَّالُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (هشام بن عمّار) السلميّ الدمشقيّ الخطيب، صدوقٌ مقرىء، كبر فصار يتلقّن، فحديثه القديم أصحّ، من كبار [10] 1/ 5. 2 - (يحيى بن حمزة) بن واقد الحضرميّ، أبو عبد الرّحمن الدمشقي القاضي، ثقة رُمي بالقدر [8] 1/ 7. 3 - (الأوزاعيِّ) عبد الرّحمن بن عمرو، أبو عمرو الدمشقيّ الفقيه الثقة الحجة [7] 5/ 8. 4 - (نافع) مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدنيّ الفقيه الثقة الثبت [3] 11/ 99. 5 - (ابن عمر) بن الخطّاب رضي الله عنهما 1/ 4، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيات المصنّف. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصّحيح. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالدمشقيين، إلى نافع، وهو ومولاه مدنيان. 4 - (ومنها): أن ابن عمر أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهورين بالفتوى من الصّحابة -رضي الله عنهم-، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنِ) عبد الله (ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "يَنْشَأُ نَشْءٌ) أي يتجدّد أحداثٌ من الشباب، قال في "المصباح": ونَشَأَ الشيَءُ يَنْشَأُ نَشْأً مهموز من باب نَفَعَ: حَدَثَ وتَجَدَّد، وأنشأتُهُ أحدثته، والاسم النَّشْأَةُ، والنَّشَاءَة، وزانُ التّمرة والضلالة. انتهى (¬1)، وقال في "النهاية": ما حاصله: الناشىءُ السَّحَابُ لم يتكامل اجتماعه واصطحابه، ومنه نَشَأَ الصبيّ نَشْأً فهو ناشىء: إذا كَبِرَ وشَبَّ، ولم يتكامل، ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" 2/ 606.

ومنه حديث "نَشَأٌ يتخذون القرآن مَزَاميرَ" يُروى بفتح الشين، جمع ناشىء، كخادم وخَدَم، يريد جماعة أحداثًا، قال أبو موسى: والمحفوظ بسكون الشين، كأنه تسمية بالمصدر. انتهى (¬1). (يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ) أي حُلُوقهم بالصعود إلى محلّ القبول، أو النزول إلى القلوب ليؤثّر فيها (كُلَّمَا خَرَجَ قَرْنٌ) فعل وفاعل: أي كلما ظهرت طائفة منهم (قُطِعَ) بالبناء للمفعول: أي استحق أن يُقطع، وكثيرًا ما يُقطع أيضًا، كالحروريّة قطعهم عليّ -رضي الله عنه-. هكذا قاله السندي في "شرحه" (¬2). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الّذي يظهر لي أن معناه إخبار بأنهم يقطعهم الله، يدلُّ على ذلك ما في رواية الإمام أحمد في "مسنده" بلفظ: "كلما طلع منهم قرنٌ قطعه الله -عَزَّ وَجَلَّ-". (قَالَ ابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما (سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "كلمَا خَرَجَ قَرْنٌ قُطِعَ" -أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ مَرَّةً-) يعني أنه ردّده كثيرًا حتّى جَاوز عشرين، ولفظ أحمد من طريق شهر بن حَوْشب، عن ابن عمر رضي الله عنهما: "فردّد ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشرين مرّة أو أكثر، وأنا أسمع" ("حَتَى يَخْرُجَ في عِرَاضِهِمُ الدَّجَّالُ) بكسر العين المهملة، جمع عُرْض، بضم فسكون، وهو الناحية، هكذا يُستفاد من عبارة "القاموس" (¬3)، والمعنى أن الدجّال يخرج في جملة هؤلاء النَّشْءِ الخارجين. وقال السنديّ: أي خِدَاعهم، أي أن آخرهم يقابلهم، ويناظرهم في الأعمال، وفي بعض النسخ "أعراضهم" وهو جمع عَرْض، بفتح فسكون بمعنى الجيش العظيم، وهو ¬

_ (¬1) "النهاية" 5/ 51 - 52. (¬2) "شرح السنديّ" 1/ 112. (¬3) فقد قال: "العِراض" بالكسر سِمَةٌ، أو خطٌّ في فخذ البعير عَرْضًا قال: وحديدةٌ يؤثّر بها أخفاف الإبل لتعرف آثارها، والناحية، والشِّقُّ، جمعُ عُرْضٍ. انتهى، والمناسب هنا هو معنى الناحية، فتأمله. والله تعالى أعلم.

مستعار من العرض بمعنى ناحية الجبل، أو بمعنى السحاب الّذي يسدّ الأُفُقِ، وهذه النسخة أظهر معنى. انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "أي خداعهم إلخ" لا يظهر لي معناه، ولا أدري من أين له هذا المعنى، بل المعنى الّذي قدّمته هو الأوضح، فتأمله. والله تعالى أعلم. وقال صاحب "إنجاح الحاجة" (¬2): ما نصُّه: قوله: "كلما خرج قرن قُطِع إلخ" أي أُهلك، ودُمِّر، ولفظ "عشرين مرّةً" يحتمل أن يكون مقولة ابن عمر، فيكون سماع ابن عمر هذا الكلام منه -صلى الله عليه وسلم- أكثر من عشرين مرّة، ويحتمل أن يكون من مقولة النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- فالمراد منه -والله أعلم- أن أهل الحقّ يقاتلونهم، ويقطعون دابرهم أكثر من عشرين مرّة في كلّ قرن، ومع ذلك يبقى منهم فرقة حتّى يخرج في عراضهم ومواجهتهم الدجّال، والحاصل أن أهل الأهواء وإن قاتلهم أهل الحقّ في قرن واحد أكثر من عشرين مرّة لا يتركون أهواءهم. انتهى. قال الجامع عفا الله عنه: قوله: ويحتمل أن يكون من مقولة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إلخ ممّا لا وجه له، بل الاحتمال الأوّل هو الصواب، فقد سبق في رواية أحمد بيانه، حيث رواه بلفظ: "فردّد ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشرين مرّة أو أكثر، وأنا أسمع"، فهذا صريح في كونه من كلام ابن عمر رضي الله عنهما، فلا وجه لترديد الاحتمالات، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 112. (¬2) هو الشّيخ عبد الغني المجددي الدهلويّ المدنيّ المتوفّى سنة (1295 هـ).

وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 175 - (حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ خَلَفٍ أَبُو بشْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "يَخْرُجُ قَوْمٌ في آخِرِ الزَّمَانِ" أَوْ "في هَذِهِ الْأُمَّةِ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ ترَاقِيَهُمْ"، أَوْ "حُلُوقَهُمْ، سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ، إِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ" أَوْ "إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ""). رجال هذا الإسناد خمسة: 1 - (بكر بن خَلَف أبو بِشْر) البصريّ، خَتَنُ أبي عبد الرّحمن المقرىء، ثقةٌ (¬1) [10]. روى عن غندر، ومحمد بن بكر الْبُرْساني، وإبراهيم بن خالد الصنعاني، وابن عيينة، وأبي عاصم، ومعتمر بن سليمان، ويزيد بن زريع، وجماعة. ورَوَى عنه البخاريّ تعليقًا، وأبو داود، وابن ماجه، وعبد الله بن أحمد، وحنبل ابن إسحاق، وزكرياء السجزي، وأبو بكر محمّد بن إدريس بن عمر ورّاق الحميدي، وغيرهم. قال ابن أبي خيثمة عن يحيى: ما به بأس. وقال هاشم بن مَرْثَد عنه: صدوق. وقال أبو حاتم: ثقة. ووثقه مسلمة بن قاسم الأندلسيّ، وابن خلفون. وقال عبيد الله ابن واصل: رأيت محمّد بن إسماعيل يَخْتَلِف إلى محمّد بن المهَلَّب يكتب عنه أحاديث أبي بِشْر بن خَلَف، وكنت أَتَوَهَّم أن أبا بشر قد مات، فلما قدمت مكّة إذا هو حي فلزمته. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: تُوُفّي سنة (240)، وكذا ذكر ابن يونس وفاته في "تاريخ الغرباء"، وقال أبو داود: أمرني أحمد بن حنبل أن أكتُب عنه. أخرج له البخاريّ في التعاليق، وأبو داود، والمصنّف، وله في هذا الكتاب ¬

_ (¬1) هذا أولى ممّا قال في "التقريب": صدوق، لأنه وثقه أبو حاتم الرازيّ، ومسلمة بن قاسم الأندلسيّ، وابن خَلْفون، وابن حبَّان، وأخرج حديثه في "صحيحه"، والذهبيّ، وقال ابن معين وحده: صدوق، ولا يعلم لأحد جرحُهُ، راجع ما كتبه دكتور بشار في تعليقه على "تهذيب الكمال" 4/ 208 وعلى "التقريب" 1/ 180.

(67) حديثًا. 2 - (عبد الرزّاق) بن همّام بن نافع، أبو بكر الصنعاني، ثقة حافظ مصنّف شهير، عَمِي في آخر عمره فتغيّر، وكان يتشيّع [9] 2/ 16. 3 - (معمر) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقة ثبت فاضل، من كبار [7] 2/ 16. 4 - (قتاد) بن دِعَامة السدوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقة ثبت يدلّس [4] 1/ 10. 5 - (أنس) بن مالك الصحابيّ الشهير -رضي الله عنه- 3/ 23، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصّحيح، وشيخه أخرج له البخاريّ في التعاليق. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين. 4 - (ومنها): أن فيه أنسًا -رضي الله عنه- أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصّحابة بالبصرة، خدم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، وهو من المعمّرين عاش أكثر من مائة سنة - رضي الله عنه -، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَنَس بْنِ مَالِكٍ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "يَخْرُجُ قَوْمٌ في آخِرِ الزَّمَانِ") تقدّم أن المختار في معناه آخر زمان خلافة النبوة؛ لما في حديث سفينة -رضي الله عنه- عند أصحاب السنن و"صحيح ابن حبّان" مرفوعًا: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثمّ تصير ملكًا"، وكانت قصّة خروج الخوارج وقتلهم بالنهروان في أواخر خلافة عليّ -رضي الله عنه- سنة ثمان وعشرين بعد وفاة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بدون الثلاثين بنحو سنتين. وهذا الحديث أخرجه أبو داود في "سننه" بإسناد صحيح، من طريق قتادة، عن أبي سعيد الخدري، وأنس رضي الله عنهما مطوّلًا، ولفظه:

4137 - حَدَّثَنَا نصر بن عاصم الأنطاكي، حَدَّثَنَا الوليد ومبشر -يعني ابن إسماعيل الحلبي- عن أبي عمرو (¬1) قال -يعني الوليد- حَدَّثَنَا أبو عمرو، قال: حدثني قتادة عن أبي سعيد الخدري وأنس بن مالك، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "سيكون في أُمَّتي اختلاف وفُرْقة، قوم يحسنون القيل، ويسيئون الفعل، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرَّمِيّة، لا يرجعون حتّى يَرْتَدّ على فُوقه، هم شر الخلق والخليقة، طُوبَى لمن قتلهم وقتلوه، يدعون إلى كتاب الله، وليسوا منه في شيء، مَنْ قاتلهم كان أولى بالله منهم"، قالوا: يا رسول الله ما سيماهم؟ قال: "التحليق". حَدَّثَنَا الحسن بن علي، حَدَّثَنَا عبد الرزّاق، أَخْبَرَنَا معمر، عن قتادة، عن أنس، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نحوه قال: "سيماهم التحليق والتسبيد، فإذا رأيتموهم فأَنِيموهم"، قال أبو داود: "التسبيد": استئصالُ الشعر. (أَوْ) للشكّ من الراوي ("في هَذه الْأُمَّةِ) سبق الجمع بينه وبين رواية "من أُمَّتي" بأن المراد من قوله: "في هذه الأمة" أمة الإجابة، ومن قوله: "من أُمَّتي" أمة الدّعوة، فافهم (يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ ترَاقِيَهُمْ"، أَوْ) للشكّ أيضًا ("حُلُوقَهُمْ) بضمتين، وهو بمعنى التراقي (سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ) قال النوويّ رحمه الله: "السيما" العلامة، وفيها ثلاث لغات: القصر، وهو الأفصح، وبه جاء القرآن، والمدّ، والثالثة السيمياء بزيادة ياء مع المدّ لا غير، والمراد به تحليق الرؤوس، واستدلّ به بعض النَّاس على كراهة حلق الرّأس، ولا دلالة فيه، وإنّما هو علامة لهم، والعلامة قد تكون بحرام، وقد تكون بمباح كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "آيتهم رجلٌ أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة"، ومعلوم أن هذا ليس بحرام، وقد ثبت في "سنن أبي داود" بإسناد صحيح على شرط البخاريّ ومسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى صبيّا قد حُلق بعض رأسه، فقال: "احلقوه كله، أو اتركوه كلّه"، وهذا صريح في إباحة حلق الرّأس لا يحتمل تأويلًا، قال أصحابنا -يعني الشّافعيّة-: حلق الرّأس ¬

_ (¬1) هو الأوزاعيّ.

جائز بكلّ حال، لكن إن شقّ عليه تعهّده بالدَّهْن والتسريح استُحِبّ حلقه، وإن لم يشقّ استُحبّ تركه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا. والله تعالى أعلم. وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "سيماهم التحليق": أي جعلوا ذلك علامةً لهم على رَفْضهم زينة الدنيا، وشِعَارًا لِيُعرَفوا به كما يَفعَل بعض رُهْبان النصارى يفحصون عن أوساط رؤوسهم، وقد جاء في وصفهم مرفوعًا: "سيماهم التسبيد" (¬1)، أي الحلق، يقال: سبد رأسه حلقه، وهذا كلّه منهم جهل بما يُزهَد فيه، وما لا يُزهد فيه، وابتداعٌ منهم في دين الله تعالى شيئًا كان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدون وأتباعهم على خلافه، فلم يُرْوَ عن أحد منهم أنهم اتَّسموا بذلك، ولا حَلَقُوا رؤوسهم في غير إحلال، ولا حاجة، وقد كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- شعرٌ، فتارة فرقه، وتارة صيّره جُمّةً، وأُخرى لِمَّةً، وقد رُوي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من كانت له شعرة، أو جُمّة فليُكرمها" (¬2)، وقد كره مالك الحلق في غير إحرام، ولا حاجة ضروريّة. انتهى (¬3). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بكراهة الحلق ممّا لا وجه له؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "احلقوه كله، أو اتركوه كله"، وهو حديث صحيح، كما مرّ آنفًا، فالحقّ ما سبق تحقيقه عن النوويّ رحمه الله. والله تعالى أعلم. (إِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ أَوْ) للشكّ من الراوي ("إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ") فيه الأمر بقتل الخوارج، وقد تقدّم تحقيقه، وأقوال أهل العلم فيهم، فلا تغفُل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه أحمد 3/ 64 وأبو داود (4766) راجع "صحيح أبي داود" للشيخ الألباني رحمه الله 3/ 904. (¬2) رواه أبو داود (4163) بلفظ: "من كان له شعرٌ فليُكرمه" راجع "صحيح أبي داود" 785 للشيخ الألباني رحمه الله. (¬3) "المفهم" 3/ 122 "كتاب الزَّكاة".

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- هذا صحيح. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه المصنّف هنا 34/ 175 بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (3/ 197 و 224)، و (أبو داود) (4765 و 4766). وفوائده، وسائر متعلّقاته، قد تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 176 - (حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي غَالِبٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، يَقُولُ: "شَرُّ قَتْلَى قُتِلُوا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ، وَخَيْرُ قَتِيلٍ مَنْ قَتَلُوا، كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ، قَدْ كَانَ هَؤُلَاءِ مُسْلِمِينَ، فَصَارُوا كُفَّارًا"، قُلْتُ: يَا أَبَا أُسَامَةَ هَذَا شَيْءٌ تَقُولُهُ؟ قَالَ" بَلْ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-). رجال هذا الإسناد: أربعة: 1 - (سَهْلُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ) هو: سهل بن زَنْجَلَة بن أبي الصغْديّ الرازيّ، أبو عمر الخيّاط الأشتر، ثقةٌ (¬1) [10] 9/ 58. 2 - (سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) الإمام الحجة الثبت المكيّ [8] 2/ 13. 3 - (أبو غَالِبٍ) قيل: اسمه حَزَوَّر، وقيل: سعيد بن الحَزوّر، وقيل: نافع، بصريّ، نزل أصبهان، لا بأس به [5] 7/ 48. 4 - (أبو أُمَامَةَ) صُديّ بن عَجلان الباهليّ الصحابيّ المشهور -رضي الله عنه- 7/ 48، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) هذا أولى ممّا في "التقريب" "صدوق"، لأنه روى عنه جماعة، ووثقه جماعة، ولا يُعلم فيه جرح لأحد. انظر ما كتبه د / بشار والشيخ شعيب على "التقريب" 2/ 87.

شرح الحديث: (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ) صُديّ بن عجلان -رضي الله عنه- (يَقُولُ) هكذا رواية المصنّف، ويقدّر قبله "سمعته"، أي سمعته يقول إلخ، ويوضح ذلك رواية الإمام أحمد، ولفظه: 21159 - حَدَّثَنَا عبد الرزّاق، أَخْبَرَنَا معمر، قال: سمعت أبا غالب يقول: لمّا أُتي برءوس الأزارقة، فنُصِبت على درج دمشق، جاء أبو أمامة، فلَمّا رآهم دَمَعَتْ عيناه، فقال: كلاب النّار ثلاث مرات، هؤلاء شَرُّ قَتْلَى قُتِلوا تحت أديم السَّماء، وخَيْرُ قَتْلَى قَتَلُوا تحت أديم السَّماء الذين قَتَلَهم هؤلاء، قال: فقلت: فما شأنك دَمَعَت عيناك؟ قال: رحمةً لهم، إنهم كانوا من أهل الإسلام، قال: قلنا: أبرأيك قلت: هؤلاء كلاب النّار، أو شيء سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟، قال: إنِّي لجريء، بل سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غير مرّة، ولا ثنتين، ولا ثلاث، قال: فَعَدَّ مِرَارًا. 21282 - حَدَّثَنَا أنس بن عياض، قال: سمعت صفوان بن سليم يقول: دخل أبو أمامة الباهلي دمشق، فرأى رءوس حروراء، قد نُصِبت، فقال: كلاب النّار، كلاب النّار، ثلاثا، شَرُّ قتلى تحت ظل السَّماء، خير قتلى مَنْ قَتَلُوا، ثمّ بكى، فقام إليه رجل، فقال: يا أبا أمامة هذا الّذي تقول من رأيك أم سمعته؟ قال: إنِّي إذا لجريء، كيف أقول هذا عن رأي؟ قال: قد سمعته غير مرّة ولا مرتين، قال: فما يبكيك؟ قال أبكي لخروجهم من الإسلام، هؤلاء الذين تفرقوا، واتخذوا دينهم شيعًا. 21130 - حَدَّثَنَا أبو سعيد، حَدَّثَنَا عبد الله بن بَحِير، حَدَّثَنَا سيار، قال: جيء برءوس من قبل العراق، فنُصبت عند باب المسجد، وجاء أبو أمامة، فدخل المسجد، فركع ركعتين، ثمّ خرج إليهم، فنظر إليهم فرفع رأسه، دقال: شَرُّ قتلى تحت ظل السَّماء ثلاثا، وخير قتلى تحت ظل السَّماء مَنْ قَتَلُوه، وقال: كلاب النّار ثلاثا، ثمّ إنّه بكى، ثم انصرف عنهم، فقال له قائل: يا أبا أمامة أرأيت هذا الحديث حيث قلت كلاب النّار شيء سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو شيء تقوله برأيك؟ قال: سبحان الله، إنِّي إذا لجريء، لو سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرّة أو مرتين حتّى ذكر سبعًا لخلت أن لا أذكره، فقال

الرَّجل: لأي شيء بكيت؟ قال: رحمة لهم، أو من رحمتهم. (شَرُّ قَتْلَى) خبر لمبتدإ محذوف، أي هم شر قتلى، والضمير للخوارج (قُتِلُوا) بالبناء للمفعول جملة في محل جرّ صفة لـ "قَتْلَى" (تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ) ظرف لـ "قُتِلُوا"، و"أديم السَّماء" بالفتح: ما يظهر منه (وَخَيْرُ قَتِيلٍ مَنْ قَتَلُوا) بالبناء للفاعل، والعائد محذوف، أي من قتلوه، يعني أن من قتله الخوارج خير مقتول، أي من خير المقتولين ظلمًا، فلا يردّ أنه يكون خيرًا ممّن قُتل مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في غزواته (كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ) خبر لمحذوف أيضًا، أي هم كلاب أهل النّار (قَدْ كَانَ هَؤُلَاءِ مُسْلِمِينَ، فَصَارُوا كُفَّارًا") فيه دليل لمن قال بكفر الخوارج، وقد سبق أنه الظّاهر، وإن كان الجمهور على خلافه، حيث إنهم يؤوّلونه، بما فيه تكلّف وتعسّف. والله تعالى أعلم. (قُلْتُ) القائل هو أبو غالب (يَا أَبَا أُمَامَةَ هَذَا شَيْءٌ تَقُولُهُ؟) بتقدير الاستفهام، أي أهذا تقوله من عندك استنباطًا؟ أم لك فيه نصّ؟ (قَالَ) أبو أمامة -رضي الله عنه- (بَلْ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-) يعني أن لديه نصّا صريحًا بذلك، وليس من عنده استنباطًا، واجتهادًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي أُمامة -رضي الله عنه- هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي سنده أبو غالب، وقد تكلّم فيه بعضهم؟. [قلت]: هو وإن تكلّم فيه أبو حاتم، والنَّسائيّ، وابن حبّان، فقد روي عنه جماعة، ووثقه الدارقطني، وقال ابن معين: صالح الحديث، وقال ابن عديّ: لا بأس به، وأقلّ أحواله أن يكون حسن الحديث، وأيضًا لم ينفرد به، فقد رواه معه عن أبي أمامة صفوان بن سُليم، وهو ثقة، وسيّار الشاميّ، وهو صدوق، كما سبق آنفًا. والحاصل أن الحديث صحيح. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (34/ 176) بهذا السند فقط، وأخرجه (الحميديّ) في "مسنده" (908) و (أحمد) في مسنده" (5/ 250 و 253 و 256 و 269) و (الترمذيّ) (3000). وفوائد الحديث، وسائر متعلّقاته قد تقدّمت، فلا تغفل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. قال الجامع الفقير إلى رحمة ربه القدير: محمّد ابن الشّيخ علي بن آدم بن موسى الإتيوبي -عفا الله عنه وعن والديه آمين-: انتهى الجزء الثّالث: من شرح سنن الإمام الحافظ الحجة أبي عبد الله محمّد بن يزيد ابن ماجه رحمه الله تعالى المسمى "مشارق الأنوار الوهاجة، ومطالع الأسرار البهاجة في شرح سنن الإمام ابن ماجه". وآخر دعوانا {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. "اللَّهُمَّ صل على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللَّهُمَّ بارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد"، "السّلام على النّبيّ ورحمة الله وبركاته". ويليه الجزء الرّابع مفتتحا بـ (25) (باب فيما أنكرت الجهمية). رقم الحديث (177). أسأل الله تعالى أن يوفقني لإتمامه كله كما وفقني لهذا، إنّه جواد كريم رءوف رحيم. "سبحانك اللَّهُمَّ وبحمدك أشهد أن لا إله إِلَّا أنت وحدك لا شريك لك أستغفرك وأتوب إليك".

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مَشَارِقُ الْأَنْوَارِ الوهَّاجَة وَمَطَالع الْأَسْرَار البهَّاجَة فِي شَرح سُنَن الإِمَام ابْن مَاجَه

حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة الطَّبعة الأولى 1427 هـ - 2006 م (ح) دَار الْمُغنِي للنشر والتوزيع، 1426 هـ فهرسة مكتبة الْملك فَهد الوطنية أثْنَاء النشر الأثيوبي، مُحَمَّد عَليّ آدم مَشَارِق الْأَنْوَار الوهاجة ومطالع الْأَسْرَار البهاجة فِي شرح سنَن الإِمَام ابْن مَاجَه ... / مُحَمَّد عَليّ آدم الأثيوبي. - الرياض، 1426 هـ 4 مج. 555 ص، 17.5 × 25 سم ردمك: 8 - 54 - 762 - 9960 (مَجْمُوعَة) 0 - 58 - 762 - 9660 (جـ 4) 1 - الحَدِيث - سنَن أ. العنوان ديوي 235.6 - 7404/ 1426 رقم الْإِيدَاع: 7404/ 1426 ردمك: 8 - 54 - 762 - 9960 (مَجْمُوعَة) 0 - 58 - 762 - 9660 (جـ 4) دَار الْمُغنِي للنشر والتوزيع 238 شَارِع الْمَدِينَة المنورة - ظهرة البديعة ص. ب: 154041 الرياض: 11748 هَاتِف ناسوخ: 0096614257019

35 - باب فيما أنكرت الجهمية

35 - (بَابُ فِيمَا أَنْكَرتِ الْجَهْمِيَّةَ) قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "الجهميّة" -بفتح الجيم، وسكون الهاء- طائفة من المبتدعة يخالفون أهل السنّة والجماعة في كثير من الأصول، كمسألة الرؤية، وإثبات الصفات لله -عَزَّ وَجَلَّ-، يُنسبون إلى جهم بن صفوان رجل ضالّ من أهل الكوفة. قال الكرماني رحمه الله: "الجْهْمِيَّة" فرقة من المبتدعة ينتسبون إلى جَهْم بن صفوان، مُقَدَّم الطائفة القائلة: أَنْ لا قدرة للعبد أصلًا، وهم "الجبْرِية" -بفتح الجيم، وسكون الموحدة- ومات مقتولًا في زمن هشام بن عبد الملك انتهى. قال الحافظ رحمه الله متعقّبًا على كلام الكرمانيّ هذا: ما نصّه: وليس الّذي أنكروه على الجهمية مذهب الجبر خاصّة، وإنما الّذي أطبق السلف على ذمهم بسببه إنكار الصفات، حتّى قالوا: إن القرآن ليس كلام الله، وإنه مخلوق، وقد ذكر الأستاذ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التَّميميُّ البغدادي في كتابه "الْفَرْق بين الْفِرَق": إن رءوس المبتدعة أربعة ... إلى أن قال: والجهمية أتباع جهم بن صفوان الّذي قال بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال، وقال: لا فعل لأحد غير الله تعالى، وإنما يُنسَب الفعل إلى العبد مجازًا من أن يكون فاعلًا أو مستطيعًا لشيء، وزعم أن علم الله حادث، وامتنع مِن وصف الله تعالى بأنه شيء، أو حي، أو عالم، أو مريد، حتّى قال: لا أصفه بوصف يجوز إطلاقه على غيره، قال: وأصفه بأنه خالق، ومحي، ومميت، ومُوَحَّد -بفتح المهملة الثقيلة-؛ لأن هذه الأوصاف خاصّة به، وزعم أن كلام الله حادث، ولم يُسَمِّ الله متكلمًا به، قال: وكان جهم يَحْمِل السلاح، ويقاتل، وخرج مع الحارث بن سُرَيج -وهو بمهملة وجيم مصغرًا- لمَّا قام على نصر بن سَيّار عامل بني أمية بخراسان، فآل أمره إلى أن قتله سَلْم بن أحوز -وهو بفتح السين المهملة، وسكون اللام، وأبوه بمهملة، وآخره زاي، وِزانُ أعور- وكان صاحب شُرْطة نصر، وقال البخاريّ في "كتاب خلق أفعال العباد": بلغني أن جهما كان يأخذ عن الجَعْد بن درهم، وكان خالد الْقَسْرِيُّ، وهو أمير العراق خطب، فقال: إنِّي مُضَحٍّ بالجعد بن درهم؛ لأنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم

خليلًا، ولم يُكَلِّم موسى تكليمًا. قال الحافظ: وكان ذلك في خلافة هشام بن عبد الملك، فكأنّ الكرماني انتقل ذهنه من الجعد إلى الجهم، فإنّ قتل جهم كان بعد ذلك بمدة. ونقل البخاري عن محمد بن مقاتل قال: قال عبد الله بن المبارك [من البسيط]: وَلاَ أَقُولُ بِقَوْلِ الجُهْمِ إِنَّ لَهُ ... قَوْلًا يُضَارِعُ قَوْلِ الشِّرْكِ أَحْيَانَا وعن ابن المبارك: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ونستعظم أن نحكي قول جهم. وعن عبد الله بن شَوْذَب قال: تَرَكَ جهم الصلاة أربعين يومًا على وجه الشك. وأخرج ابن أبي حاتم في "كتاب الردّ على الجهمية" من طريق خلف بن سليمان البلخي قال: كان جهم من أهل الكوفة، وكان فصيحًا، ولم يكن له نفاذ في العلم، فلقيه قوم من الزنادقة، فقالوا له: صِفْ لنا ربك الذي تعبده؟ فدخل البيت لا يخرج مُدَّةً، ثم خرج فقال: هو هذا الهواء مع كل شيء. وأخرج ابن خزيمة في "التوحيد"، ومن طريقه البيهقي في "الأسماء" قال: سمعت أبا قُدامة يقول: سمعت أبا معاذ البلخي يقول: كان جهم على مَعْبَر ترمذ، وكان كوفي الأصل فصيحًا، ولم يكن له علم، ولا مجالسة أهل العلم، فقيل له: صِفْ لنا ربك، فدخل البيت لا يخرج كذا، ثم خرج بعد أيام، فقال: هو هذا الهواء مع كل شيء، وفي كل شيء، ولا يخلو منه شيء. وأخرج البخاري من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة قال: كلام جهم صفةٌ بلا معنى، وبِنَاءٌ بلا أساس، ولم يُعَدَّ قط في أهل العلم، وقد سئل عن رجل طَلَّقَ قبل الدخول، فقال: تعتد امرأته، وأورد آثارًا كثيرة عن السلف في تكفير جهم. وذكر الطبري في "تاريخه" في حوادث سنة سبع وعشرين أن الحارث بن سُرَيج خرج على نصر بن سيار، عاملِ خراسان لبني أمية، وحاربه والحارث حينئذ يدعو إلى العمل بالكتاب والسنة، وكان جهم حينئذ كاتبه، ثم تراسلا في الصلح، وتراضيا بحكم مقاتل بن حيان والجهم، فاتفقا على أن الأمر يكون شُورَى حتى يتراضى أهل خراسان على أمير يحكم بينهم بالعدل، فلم يقبل نصر ذلك، واستمر على محاربة الحارث إلى أن

قُتِل الحارث في سنة ثمان وعشرين في خلافة مروان الحمار، فيقال: إن الجهم قُتِل في المعركة، ويقال: بل أُسِر فأَمَرَ نصر بن سيار سَلْمَ بن أحوز بقتله، فادعى جهم الأمانَ، فقال له سلم: لو كنت في بطني لشققته حتى أقتلك فقتله. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق محمد بن صالح مولى بني هاشم قال: قال سلم حين أخذه: يا جهم إني لست أقتلك لأنك قاتلتني، أنت عندي أحقر من ذلك، ولكني سمعتك تتكلم بكلامٍ أعطيتُ الله عهدًا أن لا أملكك إلا قتلتك فقتله. ومن طريق معتمر بن سليمان، عن خلاد الطُّفاوي: بلغ سلم بن أحوز، وكان على شُرطة خراسان أن جهم بن صفوان ينكر أن الله كَلَّم موسى تكليمًا فقتله. ومن طريق بكير بن معروف قال: رأيت سلم بن أحوز حين ضرب عنق جهم، فاسودّ وجه جهم. وأسند أبو القاسم اللالكائي في "كتاب السنة" له أن قتل جهم كان في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، والمعتمد ما ذكره الطبري أنه كان في سنة ثمان وعشرين. وذكر ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن رحمة صاحب أبي إسحاق الفزاري أن قصة جهم كانت سنة ثلاثين ومائة، وهذا يمكن حمله على جبر الكسر، أو على أن قتل جهم تراخى عن قتل الحارث بن سُريج، وأما قول الكرماني: إن قتل جهم كان في خلافة هشام بن عبد الملك فوهم؛ لأن خروج الحارث بن سُريج الذي كان جهم كاتبه، كان بعد ذلك، ولعل مستند الكرماني ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق صالح بن أحمد ابن حنبل قال: قرأت في دواوين هشام بن عبد الملك إلى نصر بن سيار عام خراسان: أما بعد "فقد نجم قِبَلك رجل يقال له: جهم من الدهرية، فإن ظَفِرت به فاقتله، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون قتله وقع في زمن هشام، وإن كان ظهور مقالته وقع قبل ذلك، حتى كاتب فيه هشام، والله أعلم. وقال ابن حزم في كتاب "الملل والنِّحَل": فِرَقُ المقرين بملة الإسلام خمس: أهلُ السنة، ثم المعتزلة، ومنهم القدرية، ثم المرجئة، ومنهم الجهمية والكرامية، ثم الرافضة، ومنهم الشيعة، ثم الخوارج، ومنهم الأزارقة والإباضية، ثم افترقوا فِرَقًا كثيرة، فأكثر

افتراق أهل السنة في الفروع، وأما في الاعتقاد ففي نُبَذٍ يسيرة، وأما الباقون ففي مقالاتهم ما يخالف أهل السنة الخلاف البعيد والقريب، فأقرب فِرَق المرجئة من قال: الإيمان التصديق بالقلب واللسان فقط، وليست العبادة من الإيمان، وأبعدهم الجهمية القائلون بأن الإيمان عقد بالقلب فقط، وان أظهر الكفر والتثليث بلسانه، وعَبَدَ الوثن تَقِيّةً، والكرامية القائلون بأن الإيمان قول باللسان فقط، وإن اعتقد الكفر بقلبه، وساق الكلام على بقية الفِرَق، ثم قال: فأما المرجئة فعمدتهم الكلام في الإيمان والكفر، فمن قال: إن العبادة من الإيمان، وإنه يزيد وينقص، ولا يُكَفِّر مؤمنًا بذنب، ولا يقول: إنه يُخَلَّد في النار فليس مرجئًا، ولو وافقهم في بقية مقالاتهم، وأما المعتزلة فعمدتهم الكلام في الوعد والوعيد والقدر، فمن قال: القرآن ليس بمخلوق، وأثبت القدر، ورؤية الله تعالى في القيامة، وأثبت صفاته الواردة في الكتاب والسنة، وأن صاحب الكبائر لا يخرج بذلك عن الإيمان فليس بمعتزلي، وإن وافقهم في سائر مقالاتهم، وساق بقية ذلك إلى أن قال: وأما الكلام فيما يوصف الله به فمشترك بين الفِرَقِ الخمسة من مُثبت لها وناف، فرأس النفاة المعتزلة والجهمية، فقد بالغوا في ذلك حتى كادوا يُعَطِّلون، ورأس المثبتة مُقاتل بن سليمان، ومن تبعه من الرافضة والكرامية، فإنهم بالغوا في ذلك، حتى شبهوا الله تعالى بخلقه، تعالى الله سبحانه عن أقوالهم علوًّا كبيرًا. ونظير هذا التباين قول الجهمية: إن العبد لا قدرة له أصلًا، وقول القدرية: إنه يخلُقُ فعل نفسه. وقد أفرد البخاري خلق أفعال العباد في تصنيف، وذكر منه هنا أشياء بعد فراغه مما يتعلق بالجهمية. ذكر هذا كلّه في "الفتح" (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله في "منهاج السنّة": ما حاصله: ثم إنه في أواخر عصر التابعين من أوائل المائة الثانية حدثت بدعة الجهميّة منكرة الصفات، وكان ¬

_ (¬1) "الفتح" "13/ 421 - 424 كتاب التوحيد" رقم الحديث 7371.

أول من أظهر ذلك الجعد بن درهم، فطلبه خالد بن عبد الله الْقَسْريّ، فضحّى به بواسط، فخطب الناس يوم النحر. قال: أيها الناس ضحّوا تقبّل الله ضحاياكم، فإني مضحّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله تعالى لم يتّخذ إبراهيم خليلًا، ولم يُكلّم موسى تكليمًا تعالى الله عما يقول الجعد عُلُوًا كبيرًا، ثم نزل فذبحه. ثم ظهر بهذا المذهب الجهم بن صفوان، ودخلت فيه بعد ذلك المعتزلة، وهؤلاء أوّل من عُرف عنهم في الإسلام أنهم أثبتوا حدوث العالم بحدوث الأجسام، وأثبتوا حدوث الأجسام بحدوث ما يستلزمها من الأعراض، وقالوا: الأجسام لا تنفكّ عن أعراض محدثة، وما لا ينفكّ عن الحوادث، أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها. ثم إنهم تفرّقوا عن هذا الأصل، فلما قالوا بامتناع دوام الحوادث في الماضي عورضوا بالمستقبل، فَطَرَدَ إماما هذه الطريقة هذا الأصل، وهما إمام الجهميّة الجهم بن صفوان، وأبو الْهُذيل الْعَلّاف إمام المعتزلة، وقالا بامتناع دوام الحوادث في المستقبل والماضي. ثم إن جهمًا قال: إذا كان الأمر كذلك لزم فناء الجنّة والنار، وأنه يعدم كلّ ما سوى الله، كما كان كل ما سواه معدومًا، وكان هذا مما أنكره السلف والأئمة على الجهميّة، وعدُّوه من كفرهم، وقالوا: إن الله تعالى يقول: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص: 54] وقال تعالى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35] إلى غير ذلك من النصوص الدّالّة على بقاء نعيم الجنّة. إلى آخر ما قاله، فقد فصّل هذه الفرق تفصيلًا حسنًا لا تراه في كتب غيره كما فصّله، فاستفد منه (¬1)، والله تعالى وليّ التوفيق. ¬

_ (¬1) "منهاج السنة" 1/ 308 - فما بعده من الصفحات.

وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 177 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، وَوَكِيعٌ (ح) وحَدَّثَنَا عَليُّ ابْنُ مُحَمَّدٍ، حدَّثنا خَالِي يَعْلَى، وَوَكِيعٌ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْس بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الله، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ قَالَ: "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لَا تَضَامُّونَ في رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا، فَافْعَلُوا، ثُمَّ قَرَأَ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39]). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (محمد بن عبد الله بن نُمَير) الهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقة حافظٌ فاضلٌ [10] 1/ 4. 2 - (أبوه) عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقة صاحب حديث، سنّيّ، من كبار [9] 8/ 52. 3 - (وكيع) بن الجرّاح بن مَلِيح الرُّؤَاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقة حافظ عابد، من كبار [9] 1/ 3. 4 - (عليّ بن محمد) الطنافسيّ الكوفي، ثقة عابد [10] 9/ 57. 5 - (خاله يعلى) بن عُبيد بن أُميّة الطنافسيّ، أبو يوسف الكوفيّ، ثقة إلا في حديثه عن الثوريّ، ففيه لين، من كبار [9] 10/ 89. 6 - (أبو معاوية) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، من كبار [9] 1/ 3. 7 - (إسماعيل بن أبي خالد) البجليّ الأحمسيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبتٌ [4] 13/ 113. 8 - (قيس بن أبي حازم) البجليّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة مخضرم [2] 13/ 113. 9 - (جرير بن عبد الله) البجلي الصحابيّ المشهور -رضي الله عنه- 28/ 159، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنف. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه علي بن محمد، وهو ثقة. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين. 4 - (ومنها): أن فيه كتابة (ح) إشارة إلى تحويل السند، وقد تقدّم تمام البحث فيها غير مرّة. 5 - (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، والراوي عن خاله. 6 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. 7 - (ومنها): أن قيسًا هو الذي اجتمع له الرواية عن العشرة المبشّرين بالجنّة -رضي الله عنه-، ولا يوجد له نظير في التابعين، وهو من المعمّرين، فقد جاوز عمره مائة سنة، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الله) -رضي الله عنه-، ووقع عند ابن مردويه من طريق شعبة، عن إسماعيل التصريح بسماع إسماعيل من قيس، وسماع قيس من جرير -رضي الله عنه- (¬1) (قَالَ) جرير -رضي الله عنه- (كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-) وللبخاريّ: "كنا عند النبيّ -صلى الله عليه وسلم- (فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ) أي ليلة كون القمر بدَرًا، أي ليلة كماله، سميت بذلك لتمام قمرها، قال في "اللسان": وليلة البدر ليلةُ أربع عشرة، وقال أيضًا: البدر القمر، إذا امتلأ، وإنما سمّي بدرًا لأنه يُبادر بالغروب طلوع الشمس، وفي "المحكم": لأنه يبادر بطلوعه غروب الشمس؛ لأنهما يتراقبان في الأُفُق صُبْحًا. انتهى (¬2). (قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ) وفي رواية عند البخاريّ: "إنكم ستُعرضون على ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 2/ 45 "كتاب الصلاة" حديث (554). (¬2) "لسان العرب" 4/ 49.

ربّكم، فترونه"، وفي رواية: "إنكم سترون ربّكم عِيَانًا"" (كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ) أي من غير مزاحمة كما يُفيده آخر الكلام، وإلا فهذه رؤية في جهة، وتلك رؤية لا في جهة. قاله السنديّ. قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "لا في جهة" فيه نظرٌ؛ لأنه مبنيّ على نفي المؤوّلة من الأشاعرة والماتريديّة للعلّوّ، فإنهم هنا يزعمون إثبات رؤية الله مع نفي أن تكون في جهة، فوقعوا في التناقض والمحال، والحقّ أنه سبحانه وتعالى يُرى في الدَّار الآخرة حقيقةً كما وَصَف بذلك نفسه في غير ما آية، كقوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] وكما وصفه بذلك نبيّه - صلّى الله عليه وسلم - وأعرف الخلق به في غير ما حديث، ورؤيته حقّ، وهو -عَزَّ وَجَلَّ- في علوه عند أهل السنّة والجماعة، والله تعالى أعلم. (لَا تَضَامُّونَ) رُوي بضم التاء، وبتخفيف الميم، من الضيم، وهو التعب، وبتشديدها من الضمّ، وفتح التاء، وتشديد الميم، قال الخطّابيّ رحمه الله: يُروى على وجهين: أحدهما مفتوحة التاء مشدّدة الميم، وأصله تتضامّون حُذفت إحدى التاءين، أي لا يُضَامُّ بعضكم بعضا كما يفعله النَّاس في طلب الشيء الخفيّ الّذي لا يسهل دركه، فيتزاحمون عنده، يريد أن كلّ واحد منهم وَادِعٌ مكانه لا ينازعه في رؤيته أحدٌ، والآخر "لا تُضامُون" من الضيم: أي لا يَضِيم بعضكم بعضا في رؤيته. وقال التيميّ: "لا تُضامُّون" بضمّ الميم، مراده أنكم لا تختلفون إلى بعض فيه حتّى تجتمعوا للنظر، وينضمّ بعضكم إلى بعض، فيقول واحد: هو ذاك، ويقول الآخر: ليس ذاك كما يفعله النَّاس عند النظر إلى الهلال أوّل الشهر، وبتخفيفها معناه لا يَضيم بعضكم بعضًا بأن يدفعه عنه، أو يستأثر به دونه. وقال ابن الأنباري: أي لا يقع لكم في الرؤية ضَيْمٌ، وهو الذّلّ، وأصله تُضيَمُون، فأُلقيت حركة الياء على الضاد، فصارت الياء ألفا؛ لانفتاح ما قبلها. وقال ابن الجوزي: لا تضامون بضمّ التاء المثنّاة من فوقُ، وتخفيف الميم، وعليه أكثر الرواة، والمعنى: لا ينالكم ضيمٌ، والضيم أصله الظلم، وهذا الضيم يَلْحَق الرائيَ

من وجهين: أحدهما: من مزاحمة الناظرين له، أي لا تزدحمون في رؤيته فيراه بعضكم دون بعض، ولا يظلم بعضكم بعضا. والثّاني: من تأخّره عن مقام الناظر المحقّق، فكأن المتقدّمين ضاموه، ورؤية الله -عَزَّ وَجَلَّ- يستوي فيها الكلّ، فلا ضيم ولا ضرر ولا مشقّة. وفي رواية "لا تضامون، أو لا تضاهون" يعني على الشك، أي لا يشتبه عليكم، وترتابون، فيعارض بعضكم بعضًا في رؤيته، وقيل: لا تشبهونه في رؤيته بغيره من المرئيات. وروي "تضارّون" بالراء المشدّدة والتاء مفتوحة ومضمومة. وقال الزجّاج: معناه لا تتضارون، أي لا يُضارّ بعضكم بعضًا في رؤيته بالمخالفة. وعن ابن الأنباريّ: هو تتفاعلون من الضّرار، أي لا تتنازعون وتختلفون. وروي أيضًا "لا تُضَارُونَ" بضم التاء وتخفيف الراء، أي لا يقع للمرء في رؤيته ضَيرٌ ما بالمخالفة، أو المنازعة، أو الخفاء. وروي "تُمارون" براء مخفّفة يعني تُجادلون، أو لا يدخلكم شك. ذكر هذا كلّه العينيّ في "عمدته" (¬1). (في رُؤْيَتِهِ) متعلّق بما قبله (فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا) بالبناء للمفعول، أي لا يغلبكم الشيطان حتّى تتركوهما، أو تؤخّروهما عن أول الوقت. وقال ابن بطّال: قال المهلّب: قوله: "أن لا تُغلبوا عن صلاة" أي في الجماعة قال: وخصّ هذين الوقتين لاجتماع الملائكة فيهما، ورفعهم أعمال العباد لئلا يفوتهم هذا الفضل العظيم. وتعقّبه الحافظ في تقييده بالجماعة -فأحسن في ذلك- قال: لم يظهر لي وجه تقييد ذلك بكونه في جماعة، وإن كان فضل الجماعة معلومًا من أحاديث أُخَر، بل ظاهر الحديث يتناول مَنْ صلاهما ولو منفردًا؛ إذ مقتضاه التحريض على فعلهما أعمّ من كونه جماعة أو لا. انتهى، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) "عمدة القاري" 4/ 189.

(عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) زاد مسلم "يعني العصر والفجر"، وفي رواية لابن مرويه: "قبل طلوع الشّمس صلاة الصُّبح، وقبل غروبها صلاة العصر". فيه إشارة إلى قطع أسباب الغلبة المنافية للاستطاعة كالنوم والشغل ومقاومة ذلك بالاستعداد له (فَافْعَلُوا) أي عدمَ الغلبة، وهو كناية عمّا ذُكر من الاستعداد، ووقع في رواية في "الصّحيح" بلفظ: "فلا تغفلوا عن صلاة ... " الحديث. وقال الخطابيّ: هذا يدلُّ على أن الرؤية قد يُرجى نَيْلُها بالمحافظة على هاتين الصلاتين انتهى، وقد يُستشهد لذلك بما أخرجه الترمذيّ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما رفعه: قال: "إن أدنى أهل الجنّة منزلة ... " فذكر الحديث، وفيه: "وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشيّة"، وقي سنده ضعف. قاله في "الفتح" (¬1). (ثُمَّ قَرَأَ) لم يُبيّن فاعل "قرأ" في جميع الروايات، لكن في "صحيح مسلم" عن زهير بن حرب، عن مروان بن معاوية عن إسماعيل بن أبي خالد بسند الباب: "ثمّ قرأ جرير"، أي الصحابيّ، وكذا أخرجه أبو عوانة في "صحيحه" من طريق يعلى بن عُبيد، عن إسماعيل، وكذا هو عند أبي نعيم في "مستخرجه أن جريرًا قرأه"، فتبيّن بهذا أن القارىء هو جرير الصحابيّ -رضي الله عنه-، فما قاله الحافظ في "الفتح": والظاهر أنه النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، لكن لم أر ذلك صريحًا تعقّبه العينيّ بأنه تخمين وحسبان، وقد أجاد في تعقّبه، ومن الغريب أن الحافظ ذكر بعد هذا نصّ ما وقع عند مسلم وأبي عوانة، وسكت عليه، سبحان من لا يضلّ ولا ينسى. ({وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39]) أي قرأ هذه الآية تصديقًا للحديث، وإشارة إلى أما نزلت في ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. ¬

_ (¬1) "الفتح" 2/ 46 "كتاب مواقيت الصّلاة" حديث (556 - 555).

مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- هذا متفقٌ عليه. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (34/ 177) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (البخاريّ) (1/ 145 و 150 و 6/ 173 و 9/ 156) و (مسلم) في (2/ 113 و 114) و (أبو داود) (4729) و (البخاريّ) في "خلق أفعال العباد" (12) و (الحميديّ) في "مسنده" (799) و (أحمد) في "مسنده" 4/ 360 و 362 و 365 (ابن أبي عاصم) في "السنّة" (446 و 447 و 448 و 449 و 461) و (عبد الله بن أحمد) في "السنّة" (219 و 221 و 225 و 226 و 227) و (ابن خزيمة) في "صحيحه" (317) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (7442) و (الطبرانيّ) (2224 و 2225 و 2226 و 2227 و 2228 و 2229) و (ابن منده) (791 و 793 و 794 و 795 و 796 و 797) و (اللالكائيّ) في "شرح أصول الاعتقاد" (925 و 826 و 828 و 829) و (البيهقيّ) في "الاعتقاد" (128 و 129) و (البغويّ) في "شرح السنة" (378 و 379)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان ما أنكرته الجهميّة من رؤية الله -عَزَّ وَجَلَّ- معاندة للحق الأبلج، والنور الأبهج. 2 - (ومنها): أن فيه إثباتَ رؤية المؤمنين ربّهم في الآخرة، وهو الّذي عليه أهل السنّة والجماعة، وسيأتي تحقيقه في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-. 3 - (ومنها): أن فيه بيان زيادة شرف الصلاتين، وذلك لتعاقب الملائكة في وقتيهما، ولأن وقت صلاة الصُّبح وقت لذّة النوم كما قيل: ألذُّ الْكَرَى عِنْدَ الصَّبَاحِ يَطِيبُ والقيام فيه أشقّ على النفس من القيام في غيره، وصلاة العصر وقت الفراغ عن

الصناعات، وإتمام الوظائف، والمسلم إذا حافظ عليها مع ما فيه من التثاقل والتشاغل فلأن يُحافظ على غيرها بالطريق الأولى. 4 - (ومنها): ما قاله الخطّابيّ رحمه الله: إن قوله: "فافعلوا" يدلّ على أن الرؤية قد يُرجى نيلها بالمحافظة على هاتين الصلاتين. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الرّابعة): أنه استُدلّ بهذا الحديث وبأحاديث أخرى وبالقرآن وإجماع الصّحابة -رضي الله عنهم- ومن بعدهم على إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة للمؤمنين، وقد رَوَى أحاديث الرؤية أكثرُ من عشرين صحابيّا، قال أبو القاسم: روى رؤية المؤمنين لربهم -عَزَّ وَجَلَّ- في القيامة أبو بكر، وعليّ بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وابن مسعود، وأبو موسى، وابن عبّاس، وابن عمر، وحُذيفة، وأبو أُمامة، وأبو هريرة، وجابر، وأنس، وعمّار بن ياسر، وزيد بن ثابت، وعبادة بن الصامت، وبُريدة بن الحُصَيب، وجُنادة بن أبي أُميّة، وفَضَالة ابن عُبيد، ورجل له صحبة النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ثمّ ذكر أحاديثهم بأسانيدها، غالبها جيّد، وذكر أبو نُعيم الحافظ في "كتاب تثبيت النظر" أبا سعيد الخدريّ، وعُمارة بن رؤيبة، وأبا رزين الْعُقَيليّ، وأبا برزة، وزاد الآجريّ في "كتاب الشّريعة"، وأبو محمّد عبد الله بن محمّد المعروف بأبي الشّيخ في "كتاب السنّة الواضحة" عن عديّ بن حاتم الطائيّ بسند جيّد. ثمّ إن الرؤية مختّصّة بالمؤمنين، ممنوعة عن الكفّار، وقيل: يراه منافقو هذه الأمّة، وهذا ضعيف، والصّحيح أن المنافقين كالكفّار باتّفاق العلماء، وعن ابن عمر وحُذيفة: "من أهل الجنّة من ينظر إلى وجهه غدوة وعشيّة". ومنع من ذلك المعتزلة، والخوارج، وبعض المرجئة، واحتجّوا في ذلك بوجوه: (الأوّل): قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]، وقالوا: يلزم من نفي الإدراك بالبصر نفي الرؤية. (الثّاني): قوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، و"لن" للتأبيد بدليل قوله تعالى: {قُل لَنْ تَتَّبِعُونَا} [الفتح: 15]، وإذا ثبت في حقّ موسى عليه السلام عدم الرؤية

ثبت في حقّ غيره. (الثّالث): قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51]، فالآية دلّت على أن من يتكلّم الله معه فإنّه لا يراه، فإذا ثبت عدم الرؤية في وقت الكلام ثبت في غير وقت الكلام ضرورة أنه لا قائل بالفصل. (الرّابع): أن الله تعالى ما ذكر في طلب الرؤية في القرآن إِلَّا وقد استعظمه، وذمّ عليه، وذلك في آيات، منها: قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 55]. (الخامس): لو صحّت رؤية الله تعالى لرأيناه الآن، والتالي باطلٌ والمقدّم مثله. واحتجّ أهل السنّة بما سبق من الأحاديث الصحيحة، وبقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]، وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]، فهذا يدلُّ على أن المؤمنين لا يكونون محجوبين. والجواب عن قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} أن المراد من الإدراك الإحاطة، ونحن أيضًا نقول به. وعن قوله تعالى: {لَن تَرَانِى} أنا لا نُسلّم أن "لن" تدلّ على التّأبيد بدليل قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: 95] مع أنهم يتمنّونه في الآخرة. وعن قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ} الآية [الشورى: 51] أن الوحي كلام يُسمع بالسرعة، وليس فيه دلالة على كون المتكلّم محجوبًا عن نظر السامع أو غير محجوب عن نظره. وعن قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى} الآية أن الاستعظام لم لا يجوز أن يكون لأجل طلبهم الرؤية على سبيل التعنّت والعناد بدليل الاستعظام في نزول الملائكة في قوله تعالى: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ} [الفرقان: 21]، ولا نزاع في جواز ذلك.

والجواب عن قولهم: لو صحّت رؤية الله تعالى إلخ أن عدم الوقوع لا يستلزم عدم الجواز، فإن قالوا: الرؤية لا تتحقّق إِلَّا بثمانية أشياء: سلامة الحاسّة، وكون الشيء بحيث يكون جائز الرؤية، وأن يكون المرئيّ مقابلًا للرّائي، أو في حكم المقابل، فالأول كالجسم المحاذي للرائي، والثّاني كالأعراض المرئيّة، فإنها ليست مقابلة للرائي؛ إذ الْعَرَض لا يكون كمقابلًا للجسم، ولكنّها حالّةٌ في الجسم المقابل للرائي، فكان في حكم المقابل، وأن لا يكون المرئيّ في غاية القرب، ولا في غاية البعد، وأن لا يكون في غاية الصغر، ولا في غاية اللطافة، وأن لا يكون بين الرائي والمرئيّ حجاب. قلنا: الشرائط الستة الأخيرة لا يمكن اعتبارها إِلَّا في الأجسام، والله تعالى ليس بجسم، فلا يمكن اعتبار هذه الشرائط في رؤيته، ولا يُعتبر في حصول الرؤية إِلَّا أمران: سلامة الحاسّة، وكونه بحيث يصحّ أن يُرَى، وهذان الشرطان حاصلان. [فإن قلت]: الكاف في "كما ترون" للتشبيه، ولا بُدّ أن تكون مناسبة بين الرائي والمرئي. [أجيب]: بأن معنى التشبيه فيه أنكم ترونه رؤية محقّقة لا شكّ فيها ولا مشقّة ولا خفا كما ترون القمر كذلك، فهو تشبيه للرؤية بالرؤية، لا المرئيّ بالمرئيّ. قاله العينيّ رحمه الله (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وهو تحقيق حسنٌ، إِلَّا قوله: "والله تعالى ليس بجسم"، ففيه نظرٌ لا يخفى؛ لأن هذا ممّا لم يرد به نصٌّ، لا بالإثبات، ولا بالنَّفْي، فلا ينبغي التعرّض له لا بالنَّفْي، ولا بالإثبات، فتنبّه، والله تعالى أعلم. قال الإمام البخاريّ رحمه الله: "باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} الآية [القيامة: 22، 23]. قال في "الفتح": كأنه يشير إلى ما أخرجه عبد بن حميد، والتِّرمذيُّ، والطّبريّ، ¬

_ (¬1) "عمدة القاري" 4/ 190 - 191.

وغيرهم، وصححه الحاكم من طريق ثُوَير بن أبي فاختة، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: إن أدنى أهل الجنَّة مَنْزِلة لمَن ينظر في مُلكه ألف سنة، وإن أفضلهم منزلة لمن ينظر في وجه ربه -عَزَّ وَجَلَّ- في كلّ يوم مرتين"، قال: ثمّ تلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} قال: بالبياض والصفاء {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال: تنظر كلّ يوم في وجه الله"، لفظه الطّبريّ من طريق مُصْعَب بن المقدام، عن إسرائيل، عن ثُوير، وأخرجه عبد عن شبابة، عن إسرائيل، ولفظه: "لمَن ينظر إلى جِنَانه وأزواجه وخَدَمه ونعيمه وسروره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله تعالى من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية"، وكذا أخرجه الترمذي عن عبد، وقال غريب، رواه غير واحد عن إسرائيل مرفوعًا، ورواه عبد الملك بن أبجر، عن ثوير، عن ابن عمر موقوفًا، ورواه الثّوريّ عن ثُوير، عن مجاهد، عن ابن عمر موقوفًا أيضًا، قال: ولا نعلم أحدًا ذكر فيه مجاهدًا غير الثّوريّ بالعنعنة. قال الحافظ: أخرجه ابن مردويه من أربعة طرق، عن إسرائيل، عن ثوير قال: سمعت ابن عمر، ومن طريق عبد الملك بن أبجر، عن ثوير، مرفوعًا، وقال الحاكم بعد تخريجه: ثُوير لم يُنْقَم عليه إِلَّا التشيع. قال الحافظ: لا أعلم أحدًا صَرَّح بتوثيقه، بل أطبقوا على تضعيفه، وقال ابن عديّ: الضعف على أحاديثه بَيِّنٌ، وأقوى ما رأيت فيه قولُ أحمد بن حنبل فيه، وفي ليث ابن أبي سُليم، ويزيد بن أبي زياد: ما أقرب بعضهم من بعض. وأخرج الطّبريّ من طريق أبي الصهباء موقوفًا، نحو حديث ابن عمر، وأخرج بسند صحيح إلى يزيد النحوي، عن عكرمة في هذه الآية قال: تنظر إلى ربها نظرًا، وأخرج عن البخاريّ، عن آدم، عن مبارك، عن الحسن قال: تنظر إلى الخالق، وحُقَّ لها أن تنظر، وأخرج عبد بن حميد، عن إبراهيم بن الحكم بن أبان، عن أبيه، عن عكرمة: انظروا ماذا أعطى الله عبده من النور في عينه من النظر إلى وجه ربه الكريم عيانًا -يعني في الجنَّة- ثمّ قال: لو جُعل نورُ جميع الخلق في عيني عبد، ثمّ كُشف عن الشّمس سِتر

واحدٌ، ودونها سبعون سِترًا ما قدر على أن ينظر إليها، ونور الشّمس جزء من سبعين جزأ من نور الكرسيّ، ونور الكرسي جزء من سبعين جزأ من نور العرش، ونور العرش جزء من سبعين جزأ من نور السِّتر، وإبراهيم فيه ضعف. وقد أخرج عبد بن حُميد عن عكرمة من وجه آخر إنكار الرؤية. ويمكن الجمع بالحمل على غير أهل الجنَّة. وأخرج بسند صحيح عن مجاهد {نَاظِرَةٌ} تنظر الثّواب، وعن أبي صالح نحوه. وأورد الطّبريّ الاختلاف، فقال: الأولى عندي بالصواب ما ذكرناه عن الحسن البصريّ، وعكرمة، وهو ثبوت الرؤية؛ لموافقته الأحاديث الصحيحة. وبالغ ابن عبد البرّ في رد الّذي نقل عن مجاهد، وقال: هو شذوذ. وقد تمسك به بعض المعتزلة، وتمسكوا أيضًا بقوله -عَزَّ وَجَلَّ- في حديث سؤال جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان، وفيه: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك"، قال بعضهم: فيه إشارة إلى انتفاء الرؤية. وتُعُقِّبَ بأن المنفي فيه رؤيته في الدنيا؛ لأن العبادة خاصّة بها، فلو قال قائل: إن فيه إشارةً إلى جواز الرؤية في الآخرة لمَا أَبْعَدْ. وزعمت طائفة من المتكلمين كالسالمية من أهل البصرة أن في الخبر دليلًا على أنّ الكفّار يرون الله في القيامة من عموم اللِّقاء والخطاب، وقال بعضهم يراه بعض دون بعض، واحتجّوا بحديث أبي سعيد -رضي الله عنه- حيث جاء فيه أن الكفار يتساقطون في النّار إذا قيل لهم: ألَّا تَرِدُون، ويبقى المؤمنون، وفيهم المنافقون، فيرونه لمّا يُنصَبُ الجسر، ويتبعونه، ويُعطَي كلّ إنسان منهم نوره، ثمّ يُطْفَأُ نور المنافقين، وأجابوا عن قوله: {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]، أنه بعد دخول الجنَّة، وهو احتجاج مردود، فإن بعد هذه الآية: {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} [المطففين: 16]، فدل على أن الحَجْب وقع قبل ذلك، وأجاب بعضهم بأن الحَجْب يَقَع عند إطفاء النور، ولا يلزم من كونه يتجلى للمؤمنين ومن معهم ممّن أدخل نفسه فيهم أن تَعُمَّهم الرؤية؛

لأنه أعلم بهم، فيُنْعِم على المؤمنين برؤيته دون المنافقين، كما يمنعهم من السجود، والعلّم عند الله تعالى. قال البيهقيّ: وجهُ الدّليل من الآية أن لفظ {نَاضِرَةٌ} الأوّل بالضاد المعجمة الساقطة من النضرة بمعنى السرور، ولفظ {نَاظِرَةٌ} بالظاء المعجمة المشالة، يحتمل في كلام العرب أربعة أشياء: نظر التفكر والاعتبار، كقوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17]، ونظر الانتظار، كقوله تعالى: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس: 49]، ونظر التعطف والرّحمة، كقوله تعالى: {وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 77]، ونظر الرؤية، كقوله تعالى: {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد: 20]، والثلاثة الأُوَلُ غير مرادة، أما الأوّل فلأنّ الآخرة ليست بدار استدلال، وأما الثّاني فلأن في الانتظار تنغيصًا وتكديرًا، والآية خرجت مخرج الامتنان والبشارة، وأهلُ الجنَّة لا ينتظرون شيئًا؛ لأنه مهما خَطَرَ لهم أُتُوابه، وأما الثّالث فلا يجوز؛ لأن المخلوق لا يتعطف على خالقه، فلم يبق إِلَّا نظر الرؤية، وانضمّ إلى ذلك أن النظر إذا ذُكر مع الوجه انصرف إلى نظر العينين اللتين في الوجه، ولأنه هو الّذي يتعدى بـ "إلى"، كقوله تعالى: {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ}، وإذا ثبت أن {نَاظِرَةٌ} هنا بمعنى رائية اندفع قولُ من زَعَمَ أن المعنى ناظرة إلى ثوابها؛ لأن الأصل عدم التقدير، وأُيِّدَ منطوقُ الآية في حق المؤمنين بمفهوم الآية الأخرى في حق الكافرين {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}، وقَيْدُها بالقيامة في الآيتين إشارةٌ إلى أن الرؤية تحصل في الآخرة دون الدنيا. انتهى كلام البيهقيّ مُلَخَّصًا مُوَضَّحًا. وقد أخرج أبو العباس السَّرَّاج في "تاريخه" عن الحسن بن عبد العزيز الجْرَوِيّ (¬1)، وهو من شيوخ البخاريّ، سمعت عمرو بن أبي سلمة، يقول سمعت مالك بن أنس، وقيل له: يا أبا عبد الله قولُ الله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} يقول قوم: إلى ثوابه، فقال: ¬

_ (¬1) بفتح الجيم والراء. قاله في "التقريب" ص 70.

كَذَبُوا، فأين هم عن قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}. ومن حيث النظر أن كلّ موجود يصح أن يُرَى، وهذا على سبيل التَّنَزُّل، وإلا فصفات الخالق لا تُقاس على صفات المخلوقين، وأدلّةُ السمع طافحة بوقوع ذلك في الآخرة لأهل الإيمان دون غيرهم، ومُنِعَ ذلك في الدنيا إِلَّا أنه اختُلِف في نبيّنا - صلّى الله عليه وسلم -، وما ذكروه من الفرق بين الدنيا والآخرة أن أبصار أهل الدنيا فانية، وأبصارهم في الآخرة باقية جَيِّدٌ، ولكن لم يَمْنَع تخصيصَ ذلك بمن ثبت وقوعه له. ومَنَع جمهور المعتزلة من الرؤية، متمسكين بأن من شرط المرئي أن يكون في جهة، والله مُنَزَّه عن الجهة، واتفقوا على أنه يَرَى عباده، فهو رَاءٍ لا من جهة. واختَلَفَ من أثبت الرؤية في معناها، فقال قوم: يَحصُل للرائي العلم بالله تعالى برؤية العين كما في غيره من المرئيات، وهو على وفق قوله في حديث الباب: "كما تَرَون القمر" إِلَّا أنه مُنزَّه عن الجهة والكيفية، وذلك أمر زائد على العلم. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا ذكر صاحب "الفتح" قوله: "مُنَزَّه عن الجهة والكيفية"، أما كونه منزّهًا عن الكيفيّة، فحق، وأما كونه منزّهًا عن الجهة ففيه نظر لا يخفى، فقد أثبتت الأدلّة الصحيحة على أنه -عَزَّ وَجَلَّ- في جهة العلّو، فتدبّرها، ولا تكن أسير التقليد، فإنّه حجة البليد، وملجأ العنيد، والله الهادي إلى سواء السبيل. وقال بعضهم: إن المراد بالرؤية العلم، وعَبَّر عنها بعضهم بأنها حُصول حالة في الإنسان نسبتها إلى ذاته المخصوصة نسبة الإبصار إلى المرئيات، وقال بعضهم: رؤية المؤمن لله نوع كشف وعِلْم إِلَّا أنه أتم وأوضح من العلم، وهذا أقرب إلى الصواب من الأول (¬1). وتُعُقِّب الأولُ بأنه حينئذ لا اختصاص لبعض دون بعض؛ لأن العلم لا يتفاوت، وتعقّبه ابن التين بأن الرؤية بمعنى العلم تتعدى لمفعولين، تقول: رأيت زيدًا ¬

_ (¬1) قلت: بل هو مثله في البطلان؛ إذ كلّ منهما مصادم للنصوص الصحيحة الصريحة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

فقيهًا أي علمته، فإن قلت: رأيت زيدًا منطلقًا (¬1) لم يُفْهَم منه إِلَّا رؤية البصر، ويزيده تحقيقًا قوله في الخبر: "إنكم سترون ربكم عِيَانًا"؛ لأن اقتران الرؤية بالعيان لا يحتمل أن يكون بمعنى العلم. وقال ابن بطّال رحمه الله: ذهب أهل السنة، وجمهور الأمة إلى جواز رؤية الله في الآخرة، ومَنَعَ الخوارج والمعتزلة، وبعض المرجئة، وتمسكوا بأن الرؤية توجب كون المرئي مُحْدَثًا وحالًّا في مكان، وأولوا قوله: {نَاظِرَةٌ} بمنتظرة، وهو خطأ؛ لأنه لا يتعدى بـ "إلى"، ثمّ ذكر نحو ما تقدّم، ثمّ قال: وما تمسكوا به فاسد؛ لقيام الأدلة على أن الله تعالى موجود، والرؤية في تعلّقها بالمرئي بِمَنْزِلة العلم في تعلّقه بالمعلوم، فإذا كان تعلّق العلم بالمعلوم لا يوجب حدوثه، فكذلك المرئي، قال: وتعلّقوا بقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، وبقوله تعالى لموسى: {لَن تَرَانِى} [الأعراف: 143]، والجواب عن الأوّل أنه لا تدركه الأبصار في الدنيا جمعًا بين دليلي الآيتين، وبأن نفي الإدراك لا يستلزم نفي الرؤية؛ لإمكان رؤية الشيء من غير إحاطة بحقيقته، وعن الثّاني المراد لن تراني في الدنيا جمعًا أيضًا، ولأن نفي الشيء لا يقتضي إحالته، مع ما جاء من الأحاديث الثابتة على وفق الآية، وقد تلَقّاها المسلمون بالقبول من لدن الصّحابة والتابعين حتّى حَدَثَ من أنكر الرؤية، وخالف السلف. انتهى كلام ابن بطّال رحمه الله، وهو تحقيق نفيسٌ، والله تعالى أعلم. وقال القرطبي: اشترط النُّفاة في الرؤية شروطًا عقلية، كالبنية المخصوصة، والمقابلة، واتِّصال الأشعة، وزوال الموانع، كالْبُعْد والحَجْب، في خَبْط لهم، وتحَكُّم، وأهلُ السنة لا يَشترطون شيئا من ذلك، سوى وجود المرئيّ، وأن الرؤية إدراك يخلقه الله للرائي فيرى المرئيّ، وتقترن بها أحوال يجوز تبدلها، والعلم عند الله تعالى. انتهى ¬

_ (¬1) قوله: "منطلقًا" هكذا نسخة "الفتح"، والظاهر أن صوابه "مُطلقًا"، من الإطلاق، لا من الإنطلاق، أي قلت: "رأيت زيدًا" من غير زيادة "فقيهًا"، أو نحوه. والله تعالى أعلم.

كلام القرطبيّ (¬1)، وهو كلامٌ نفيس. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما سبق من الأدلّة ومن أقوال أهل السنّة والجماعة أن رؤية المؤمنين لربّهم ثابتةٌ، لا شكّ فيها، ولا يُلتفَت إلى ما أبداه أهل الضلال من الجهميّة وغيرهم من الشُّبّه والخيالات الفاسدة، فإنها من تلبيسات الشيطان، وإغوائه، نسأل الله تعالى أن يعافينا من ذلك، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]. قال الإمام أبو عيسى الترمذيّ رحمه الله في جامعه بعد إخراج حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- الآتي من طريق العلاء بن عبد الرّحمن، عن أبيه، عنه: ما نصّه: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ، وقد رُوي عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- رواياتٌ كثيرةٌ مثلُ هذا ما يُذكَر فيه أمرُ الرؤية أن النَّاس يرون ربهم، وذِكرُ القدم، وما أشبه هذه الأشياء، والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة، مثل سفيان الثّوريّ، ومالك بن أنس، وابن المبارك، وابن عيينة، ووكيع، وغيرهم، أنهم رَوَوْا هذه الأشياء. ثمّ قالوا: تُرْوَى هذه الأحاديث، ويُؤمَنُ بها، ولا يقال: كيف، وهذا الّذي اختاره أهل الحديث، أن تُرْوَى هذه الأشياءُ كما جاءت، ويُؤمَنَ بها، ولا تُفَسَّر، ولا تُتَوَهَّم، ولا يقال: كيف، وهذا أمر أهل العلم الّذي اختاروه، وذهبوا إليه، ومعنى قوله في الحديث: "فَيُعَرِّفُهُم نَفسَه" يعني يتجلى لهم. انتهى كلام الترمذيّ رحمه الله، وهو تحقيق نفيسٌ، وبحثٌ أنيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 13/ 522 - 525 "كتاب التّوحيد" الحديث (7434 - 7447).

وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 178 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ نُمَيْر، حَدَّثَنَا يَحْيىَ بْنُ عِيسَى الرَّمليُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِح، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "تَضَامُّونَ في رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟ " قَالُوا: لَا، قَالَ: "فَكَذَلِكَ لَا تَضَامُّونَ في رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (محمّد بن عبد الله بن نُمَير) المذكور في السند الماضي. 2 - (يحيى بن عيسى الرمليّ) هو: يحيى بن عيسى بن عبد الرّحمن، ويقال: ابن محمّد التميميّ النَّهْشَليّ، أبو زكريا الكُوفيُّ الفاخُوريّ -بالفاء والخاء المعجمة- الجَرّار -بالجيم، وراءين- نزيل الرَّمْلة، ليّن الحديث (¬1)، ورُمي بالتشيّع [9] 10/ 87. 3 - (الأعمش) سليمان بن مِهْرَان المذكور في الباب الماضي. 4 - (أبو صالح) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقة ثبت [3] 1/ 1. 5 - (أبو هريرة) -رضي الله عنه- 1/ 1، وشرح الحديث سبق في الّذي قبله. وقوله: "تضامون في رؤية القمر" هو بتقدير حرف الاستفهام، أي هل تضامون إلخ، وقوله: "تضامون" يروى بضم أوله، وتشديد الميم، أي لا تجتمعون لرؤيته في جهة واحدة، ولا يضمّ بعضكم بعضًا، ويُروى بفتح التاء أيضًا، والأصل تتضامّون في رؤيته باجتماع في جهة واحدة، وبالتخفيف من الضيم، وهو الظلم، أي لا تُظلمون برؤية بعضكم دون بعض، فإنكم ترونه جميعًا، وقد سبق أن التشبيه إنّما هو للرؤية بالرؤية. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. ¬

_ (¬1) هذا أولى ممّا قال في "التقريب": صدوقٌ يُخطىء؛ لأن الأكثرين على تضعيفه، ولم يوثّقه إِلَّا المتساهلون، فراجع ترجمته في "تهذيب التهذيب" 4/ 380 - 381.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عنه هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده يحيى بن عيسى الرمليّ، وقد ضعّفه الأكثرون، وتابعه في روايته عن الأعمش جابر بن نوح الحِمَّانيّ، وهو أضعف منه؟. [قلت]: إنّما صحّ لأنه رواه سفيان بن عيينة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أخرجه مسلم في "صحيحه" مطوّلًا، ولفظه: 2968 - حَدَّثَنَا محمّد بن أبي عمر، حَدَّثَنَا سفيان، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قالوا: يا رسول الله هل نرى رَبَّنَا يوم القيامة؟ قال: "هل تضارون في رؤية الشّمس في الظهيرة ليست في سحابة؟، قالوا: لا، قال: "فهل تُضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة؟ "، قالوا: لا، قال: "فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم إِلَّا كما تضارون في رؤية أحدهما"، قال: "فَيَلْقَى العبدَ، فيقول: أَيْ فُلُ ألم أُكرِمك، وأسودك، وأُزَوِّجك، وأُسَخِّر لك الخيل والإبل، وأَذَرْكَ تَرْأَس وتَرْبَع؟، فيقول: بلى، قال: فيقول: أفظننت أَنَّك مُلاقِيَّ؟، فيقول: لا، فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثمّ يَلْقَى الثّانيَ، فيقول: أي فُلُ ألم أكرمك، وأسودك، وأزوِّجك، وأُسَخِّر لك الخيل والإبل، وأَذَرْك تَرْأَس وتَرْبَع؟ فيقول: بلى أي رب، فيقول: أفظننت أَنَّك مُلاقِيَّ؟ فيقول: لا، فيقول: فإنِّي أنساك كما نسيتني، ثمّ يَلْقَى الثالثَ، فيقول له مثل ذلك، فيقول: يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك، وصلّيت، وصمت، وتصدقت، ويُثْنِي بخير ما استطاع، فيقول: هاهنا إِذًا، قال: ثمّ يقال له: الآن نَبْعَثُ شاهدنا عليك، ويتفكر في نفسه مَنِ ذا الّذي يشهد عليّ؟، فيُخْتَم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطِقِي، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك لِيُعْذَرَ من نفسه، وذلك المنافق، وذلك الّذي يَسْخَطُ الله عليه". قال الإمام الترمذيّ رحمه الله عقب إخراجه: هذا حديث حسن صحيح غريب،

وهكذا رَوَى يحيى بن عيسى الرَّمليّ وغير واحد عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ورَوَى عبد الله بن إدريس، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وحديث ابن إدريس، عن الأعمش غير محفوظ، وحديث أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- أصحّ، وهكذا رواه سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- وقد روي عن أبي سعيد، عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- من غير هذا الوجه مثل هذا الحديث، وهو حديث صحيح. انتهى. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 178) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (مسلم) في (8/ 216) من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، و (أبو داود) (4730) و (الترمذيّ) (2554) و (الحميديّ) في "مسنده" (1178) و (أحمد) في "مسنده" (3/ 389 و 492)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 179 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الهمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمانِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، أَنَرَى رَبَّنَا؟ قَالَ: "تَضَامُّونَ في رُؤيةِ الشَّمْسِ في الظَّهِيرَةِ في غَيْرِ سَحَاب؟ " قُلْنَا: لَا، قَال: "فَتَضَارُّونَ في رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ في غَيْرِ سَحَابٍ؟ "، قَالُوا: لَا، قَال: "إِنَّكُمْ لَا تَضَارُّونَ في رُؤْيَتِهِ إِلَّا كَمَا تَضَارُّونَ في رُؤيتِهِمَا"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (محمّد بن العلاء الهمْدانيّ) أبو كُريب الكوفيّ، ثقة حافظ [10] 8/ 52. 2 - (عبد الله بن إدريس) الأوديّ الكوفيّ، ثقة فقيه عابدٌ [8] 7/ 52. 3 - (أبو سعيد) سعد بن مالك بن سنان الْخُدريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما 4/ 37، والباقيان سبقا في السند الماضي، وكذا شرح الحديث يُعرف ممّا مضى. وقوله: "تضامون" بالميم، وتقدّم الكلام عليه في الّذي قبله، وفي بعض النسخ

"تضارون" بالراء، وهو بفتح التاء، وتشديد الراء، أي هل يُصيبكم ضرر؟، ويحتمل كونه بالتخفيف علي بناء المفعول من الضير لغة في الضرر. وقوله: "في الظهيرة" بالفتح: الهاجرة، وهو حين تزول الشّمس. وقوله: "في غير سحاب" أي لا في سحاب، وليس المراد أما تكون في شيء غير سحاب. قاله السنديّ (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- عنه هذا غير محفوظ بهذا السند، وهو متفقٌ عليه، من غير طريق الأعمش، عن أبي صالح، فقد أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من طريق عطاء بن يسار، عن أبي سعيد -رضي الله عنه-، مطوَّلًا، وقد سبق للمصنّف مختصرًا برقم 9/ 60 وأوردته هناك مطوّلًا من رواية الشيخين رحمهما الله، فراجعه تستفد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، وهو المستعان، وعليه التكلان. (المسألةُ الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 179) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (3/ 16) و (ابن أبي عاصم) (452) و (أبو يعلى) (1006) و (ابن خُزيمة) (169) والآجريّ في "الشّريعة" (261) و (ابن منده) (810). وأخرجه المصنّف من طريق عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدريّ، مختصرًا، وقد سبق برقم 9/ 60 مختصرًا، وهو متّفق عليه، كما سبق قريبًا، وقد تقدّم تخريجه هناك، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 115.

وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 185 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءِ، عَنْ وَكِيعِ بْنِ حُدُسٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزِينٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أَنَرَى اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ وَمَا آيَةُ ذَلِكَ في خَلْقِهِ؟ قَالَ: "يَا أَبَا رَزِينٍ، أَلَيْسَ كُلُّكُمْ يَرَى الْقَمَرَ مُخْلِيًّا بِهِ؟ "، قَالَ: قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: "فَالله أَعْظَمُ، وَذَلِكَ آيَةٌ في خَلْقِهِ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (أبو بكر بن أبي شيبة) الكوفيّ الثقة الحافظ [10] 1/ 1. 2 - (يزيد بن هارون) أبو خالد الواسطيّ، ثقة متقنٌ عابدٌ [9] 16/ 127. 3 - (حماد بن سلمة) أبو سلمة البَصْريُّ، ثقة عابد، من كبار [8] 14/ 116. 4 - (يعلى بن عطاء) العامريّ، ويقال: الليثيّ الطائفيّ، ثقة [4]. رَوَى عن أبيه، وأوس بن أبي أوس، وعُمارة بن حُدَير البجليّ، وعمرو بن الشَّرِيد ابن سُوَيد، وعمرو بن عاصم بن سُفيان عبد الله الثَّقَفِيّ، وأبي عَلْقَمَة الهاشميّ، وجابر ابن يزيد ابن الأسود، وأبي هَمّام عبد الله بن يسار الكوفيّ، ووكيع بن عُدُس، ويزيد بن طَلْق، وغيرهم. ورَوَى عنه شعبة، والثوريّ، وحماد بن سلمة، وهُشيم، وشريك، وأبو عوانة، وغيرهم. قال الأثرم: أثنى عليه أحمد بن حنبل خيرًا. وقال ابن معين، والنَّسائيُّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". وقال ابن سعد: كان ثقة. وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: سمع هُشيم من يعلى، وهو صغير جدًّا. وقال الفضل بن زياد عن أحمد: قال هشيم: فارقنا يعلى سنة عشرين ومائة. وقال البخاريُّ: يقال: مات بواسط سنة عشرين، وفيها أَرّخه ابن حبَّان. وقال ابن المديني: يعلى بن عطاء له أحاديثُ لم يروها غيره، ورجالٌ لم يرو عنهم غيره، منهم وكيع بن عُدُس، وأهل الحجاز لا يعرفونه، وإنّما رَوَى عنه قوم بواسط. أخرج له البخاريّ في "جزء القراءة"، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب (10) أحاديث.

5 - (وكيع بن حُدُس) -بمهملات، وضمّ أوله وثانيه، وقد يُفتح ثانيه، ويقال: بالعين المهملة بدل الحاء- أبو مُصعب الْعُقَيليّ (¬1) الطائفيّ، مجهول (¬2) [4]. رَوَى عن عمه أبي زرين الْعُقَيليّ، وعنه يعلى بن عطاء العامري، قال الآجري عن أبي داود: قال حماد بن سلمة، وأبو عوانة، وسفيان: وكيع بن حُدُس، وقال شعبة، وهُشيم: وكيع بن عُدُس، قال: وسمعت عيسى بن يونس يقول: رأيت رجلًا من ولد وكيع، فسألته عنه، فقال: ابن حُدُس. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: أرجو أن يكون الصواب حُدُس بالحاء، سمعت عبدان الجوالقي يقول ذلك، وقال ابن قُتَيْبَةُ في "اختلاف الحديث": غير معروف، وقال ابن القطان: مجهول الحال. أخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط برقم 180 و 181 و 182 و 3914. 6 - (أبو رَزِين) -بفتح الراء، وكسر الزاي- هو: لَقِيط بن صَبِرَة -بفتح الصاد المهملة، وكسر الموحّدة- وهو لقيط بن عامر بن صَبِرة بن عبد الله بن المُنْتَفِق بن عامر ابن عُقَيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صَعْصَعة، الْعُقَيليّ، وقيل: هو غير لقيط بن عامر بن صَبِرة، قال ابن عبد البرّ: وقد قيل: إن لقيط بن عامر غير لقيط بن صَبِرة، وليس بشيء. وقال عبد الغني بن سعيد: أبو رَزِين الْعُقَيليّ هو لقيط بن عامر بن المنتفق، وهو لقيط بن صَبِرَة، وقيل: إنّه غيره، وليس بصحيح. ¬

_ (¬1) بضم العين المهملة، وفتح القاف مصغّرًا، هكذا ضبطه في "الخلاصة" ص 415، وهو الصواب، وأمَّا مَا في "التقريب" من ضبطه بالفتح، فغير صحيح، كما يظهر من ترجمة عمّه أبي رَزين الْعُقَيليّ، وهو نسبة إلى جدّه عُقَيل بن كعب بن ربيعة بن عامر ابن صعصعة، كما في "الأنساب" 4/ 217 - 219، و"لبّ اللباب" 2/ 118 - 119 فتنبّه. والله تعالى أعلم. (¬2) هذا هو الظّاهر، وأما ما قاله في "التقريب": مقبول، فالظاهر أنه غير مقبول؛ لأنه تفرّد بالرواية عنه يعلى بن عطاء، وحكم بجهالته ابن قُتَيْبَةُ، وابن القطان، والذهبيّ، ولم يوثّقه غير ابن حبّان على عادته في توثيق المجاهيل، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

روى عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وعنه ابنه عاصم بن لَقِيط، وابن أخيه وَكِيع بن عُدُس، وعبد الله بن حاجب بن عامر، وعمرو بن أوس الثقفي. قال الحافظ: تناقض في هذا المِزّيّ، فجعلهما في "التهذيب" واحدًا، وفي "الأطراف" اثنين، وقد جعلهما ابنُ معين واحدًا، وقال: ما يُعْرَف لَقِيط غيرُ أبي رزين، وكذا حَكَى الأثرم عن أحمد بن حنبل، وإليه نحا ابن حبّان، وابن السكن. وأما علي بن المديني، وخليفة بن خياط، وابن أبي خيثمة، وابن سعد، ومسلم، والترمذي، وابن قانع، والبغوي، وجماعة، فجعلوهما اثنين، وقال الترمذيّ: سألت عبد الله بن عبد الرّحمن عن هذا، فأنكر أن يكون لقيط بن صبرة هو لقيط بن عامر، والله أعلم (¬1). ورجّح في "الإصابة" كونهما اثنين، ونصّه بعد ذكر الخلاف المتقدّم: والراجح عندي أنهما اثنان؛ لأن لقيط بن عامر معروف بكنيته، ولَقِيط بن صَبِرة لم يُذكر كنيته إِلَّا ما شذّ به ابنُ شاهين، فقال: أبو رزين الْعُقَيليّ أيضًا، والرواة عن أبي رَزِين جماعة، ولقيط بن صَبِرة لا يُعرف له راو إِلَّا ابنه عاصم، وإنّما قَوَّى كونهما واحدًا عند من جزم به؛ لأنه وقع في صفة كلّ منهما أنه وافد بني المُنْتَفِق، وليس بواضح؛ لأنه يَحتمل أن يكون كلٌّ منهما كان رأسًا. انتهى كلام الحافظ في "الإصابة" (¬2)، وهو بحثٌ نفيس، والله تعالى أعلم. أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والأربعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط برقم 180 و 181 و 182 و 407 و 448 و 2906 و 3914. وشرح الحديث واضحٌ، يُعلم ممّا سبق. وقوله: "وما آية ذلك": أي ما علامته، ومثاله في خلقه. ¬

_ (¬1) راجع "تهذيب التهذيب" 3/ 479 - 480. (¬2) راجع "الإصابة" 4/ 508 - 509.

وقوله: "مخليًّا به" اسم فاعل من أخلى، أي منفردًا برؤيته من غير أن يزاحمه صاحبه في ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي رزين الْعُقَيليّ -رضي الله عنه- هذا حسنٌ. [فإن قلت]: كيف يُحسَّن، وفيه وكيع بن حُدُس، وهو مجهول؟. [قلت]: إنّما كان حسنًا لشواهده، وهي الأحاديث الصحاح المتقدّمة، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 180) بهذا الإسناد، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (4/ 11 و 12) و (أبو داود) في (4731)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 181 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنَبَأَنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ وَكِيعِ بْنِ حُدُسٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ضَحِكَ رَبُّنا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ، وَقُرْبِ غِيَرِهِ"، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أَوَ يَضْحَكُ الرَّبُّ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قُلْتُ: لَنْ نَعْدَمَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خيرًا). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: إسناد هذا الحديث هو الّذي تقدّم قبله. شرح الحديث: (عَنْ وَكِيعِ بْنِ حُدُسٍ) تقدّم أنه بضمّ الحاء، أو العين المهملتين، وضمّ الدال المهملة (عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزِينٍ) لقيط بن عامر بن صَبِرة -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (ضَحِكَ رَبُّنا) بفتح الضاد المعجمة، وكسر الحاء المهملة، من باب عَلِمَ، يقال: ضَحِكَ

منه، وبه يَضْحَكُ ضَحِكًا بفتح فكسر، وضَحْكًا بفتح فسكون، وضِحْكًا بكسر فسكون، مثلُ كَلِمٍ، وكَلْمٍ، وكِلْمٍ: إذا سَخِرَ منه، أو عَجِبَ، فهو ضاحكٌ، وضَحّاكٌ مبالغة. انتهى "المصباح" بزيادة. قال السنديّ في "شرحه": قيل: الضحك من الله الرضا، وإرادة الخير، وقيل: بسط الرّحمة، والإقبال بالإحسان، أو بمعنى أمر ملائكته بالضحك، وأَذِنَ لهم فيه كما يقال: السلطان قتله إذا أمر بقتله، قال ابن حبّان في "صحيحه": هو من نسبة الفعل إلى الآمر، وهو في كلام العرب كثير. قلت (¬1): والتحقيق ما أشار إليه بعض المحقّقين أن الضحك وأمثاله ممّا هو من قبيل الانفعال إذا نُسب إلى الله تعالى يراد به غايته، وقيل: بل المراد به إيجاد الانفعال في الغير، فالمراد هاهنا الإضحاك. ومذهب أهل التحقيق أنه صفة سمعيّة يلزم إثباتها مع نفي التشبيه، وكمال التنزيه كما أشار إلى ذلك مالك، وقد سئل عن الاستواء، فقال: الاستواء معلوم، والكيف غير معلوم، والإيمان به واجبٌ، والسؤال عنه بدعة. انتهى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الّذي ذكره السنديّ في المراد بالضحك المذكور في الحديث كلام متناقض، فإن أوله مذهب أهل التّأويل، وآخره مذهب أهل التحقيق من السلف، ومن تبعهم من أهل الحديث، فقوله: المراد به الرضا إلخ فهو تفسير باللازم، وهو وإن صح باعتبار أن ثبوت الملزوم يستلزم ثبوت اللازم إِلَّا أنه ليس هو المراد، بل ثبوت الملزوم، وهو الضحك لله -عَزَّ وَجَلَّ- على الوجه اللائق به، ومعلوم أنه إذا ضحك الله إلى عبد رضي عنه، وأراد به الخير، وكذا ما بعده، وهذا هو المذهب الحقّ، كما أشار إليه السنديّ في آخر كلامه حيث قال: ومذهب أهل التحقيق أنه صفة إلخ، فكان ينبغي له أن يذكر الأقوال مفصّلة، لا مجملة بحيث يوقع أنه يسلّم الأقوال كلها. والحاصل أن الحقّ الّذي لا مرية فيه، ولا مماراة أن هذه الصفات من الضحك، ¬

_ (¬1) القائل هو السنديّ.

والرضا، والغضب، والمجيء، والنّزُول، والاستواء ثابتة لله -عَزَّ وَجَلَّ- على مراد الله، ونعتقد أنَّ الله ذلك اعتقادًا جازمًا لا يتطرّق إليه شك ولا ارتياب، ونثبتها له بلا تشبيه، ولا تمثيل، ولا تعطيل، فكن على بصيرة، ولا تكن أسير التقليد، فإنّه حجة البليد، وملجأ العنيد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. (مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ) قال ابن الأثير رحمه الله: قد تكرّر ذكر "القنوط" في الحديث، وهو أشدّ اليأس من الشيء، يقال: قَنِطَ يَقْنَط، وقَنَطَ يَقْنِطُ، فهو قانط، وقَنُوطٌ، و"القُنُوط" المصدر. انتهى (¬1). وقال الفيّوميّ رحمه الله: "القُنُوط" بالضمّ: اليأس من رحمة الله تعالى، يقال: قَنِط يَقْنَطُ، من بابي ضَرَب وتَعِبَ، وهو قانطٌ، وقَنُوطٌ، وحَكَى الجوهريّ لغةٌ ثالثةٌ من باب قَعَد، ويُعَدَّى بالهمزة. قاله في "المصباح" (¬2). وقال السنديّ رحمه الله: والقنوط كالجلوس: هو اليأس، ولعلّ المراد ههنا هو الحاجة والفقر، أي يرضي عنهم، ويُقبل بالإحسان إذ انظر إلى فقرهم وذِلّتهم وحَقَارتهم وضعفهم، وإلا فالقنوط من رحمته يوجب الغضب لا الرضا، قال تعالى: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ} [الزمر: 53]، وقال: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، إِلَّا أن يقال ذلك هو القنوط بالنظر إلى كرمه وإحسانه، مثل أن لا يرى له كرمًا وإحسانًا، أو يرى قليلًا فيقنط كذلك، فهذا هو الكفر، والمنهيّ عنه أشدَّ النّهي، وأما القنوط بالنظر إلى أعماله وقبائحه، فهو ممّا يوجب للعبد تواضعًا وخُشوعًا وانكسارًا، فيوجب الرضا، ويَجْلُبُ الإحسانَ والإقبالَ من الله تعالى، ومنشأ هذا القنوط هو الغيبة عن صالح الأعمال، واستعظام المعاصي إلى الغاية، وكلّ منهما مطلوبٌ ومحبوبٌ، ولعلّ هذا سبب مغفرة ¬

_ (¬1) "النهاية" 4/ 113. (¬2) "المصباح" 2/ 517.

ذنوب من أَمَرَ أهله بإحراقه بعد الموت حين أيس من المغفرة، فليُتأمّل. انتهى كلام السنديّ، وهو بحث نفسٌ، والله تعالى أعلم. " (وَقُرْبِ غِيَرِهِ") بكسر الغين المعجمة، وفتح التحتانيّة المثنّاة، اسم من قولك: غَيَّرتُ الشيءَ، قاله في "النهاية"، ونحوه في "الصحاح" (¬1). وقال السنديّ رحمه الله: ضُبط بكسر الغين المعجمة، ففتح ياء بمعنى فقير الحال، وهو اسم من قولك غَيَّرتُ الشيءَ، فتغيّر حاله من القوّة إلى الضعف، ومن الحياة إلى الموت، وهذه الأحوال ممّا تجلُبُ الرّحمة لا محالة في الشّاهد، فكيف لا تكون أسبابًا عاديّة لجلبها من أرحم الراحمين جلّ ذكره وثناؤه، والأقرب أن الْغيرَ بمعنى تغيير الحال، وتحويله، وبه تُشعر عبارة "القاموس"، لا تغيُّره وتحوّله كما في "النهاية"، والضمير لله، والمعنى أنه تعالى يضحك من أن العبد يصير مأيوسًا من الخير بأدنى شرّ وقع عليه مع قرب تغييره تعالى الحالَ من شرّ إلى خير، ومن مرض إلى عافية، ومن بلاء ومِحْنَة إلى سُرور وفَرْحَة، لكن الضحك على هذا لا يمكن تفسيره بالرضا. انتهى. قال الجامع عفا لله تعالى عنه: عندي في كلام السنديّ هذا نظر من وجوه: أما أوّلًا: فإن قوله: "وبه تشعر عبارة "القاموس" إلخ غير صحيح؛ إذ عبارته تفيد عكس ما ادّعاه، ودونكها، قال: ص 409 "وتغيّر عن حاله: تحوّل، وغَيَّرَه: جعله غيرَ ما كان، وحَوَّله، وبدَّلَهُ، والاسم الْغَيْرُ، أي بفتح، فسكون. انتهى، ونحوه في "اللسان" 5/ 40 قال: و"الْغَيْرُ" الاسم من التغيّر، عن اللحيانيّ، وأنشد: إِذْ أَنَا مَغْلُوبٌ قَلِيلُ الغَيْرِ. انتهى باختصار. فأفاد أن ضبطه بفتح، فسكون، وأنه بمعنى التغيّر، لا بمعنى التغيير، كما ادّعاه السنديّ، فتأمّل. وأما ثانيّا: فلأنّ عبارة "النهاية" تفيد أنه "الغير" بكسر ففتح بمعنى التغيير، لا ¬

_ (¬1) "النهاية" 3/ 401 و"الصحاح" 2/ 665.

بمعنى التغيُّر، وهي المناسبة لمعنى الحديث، لا عبارة "القاموس" كما ادّعاه أيضًا. وثالثًا: قوله: "لكن الضحك إلخ" تقدّم أن تفسير الضحك بالرضا غير صحيح، فلا تغفُل، والله تعالى أعلم. (قَالَ) أبو رزين -رضي الله عنه- (قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أَوَ يَضْحَكُ الرَّبُّ؟ قَالَ) - صلّى الله عليه وسلم - "نَعَمْ") سبق آنفًا معنى ثبوت الضحك لله -عَزَّ وَجَلَّ- بنا كفى وشفى (قُلْتُ: لَنْ نَعْدَمَ) بفتح أوله، وثالثه، يقال: عَدِمته عَدَمًا، من باب تَعِبَ: فَقَدتُهُ، وهو متعدًّ، ولذا نصب "خيرًا" (مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ) متعلّقٌ بقوله: (خَيْرًا) يريد أن الربّ الّذي من صفاته الضحك لا نفقد خيره، بل كلّما احتجنا إلى خيره وجدناه، فإنا إذا أظهرنا الفاقة لديه يضحك، فيعطي (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي رزين - رضي الله عنه - هذا حسنٌ. [فإن قلت]: كيف يُحسّن، وفيه وكيع بن حدُس، وهو مجهول؟، وقال البوصيريّ: هذا إسناد فيه مقال، وكيع ذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وذكره الذهبيّ في "الميزان"، وباقي رجاله احتجّ بهم مسلم. انتهى (¬2). [قلت]: إنّما كان حسنًا لوجود المتابعة، والشواهد، فأمّا المتابعة، فقد روى عبد الرّحمن بن عيّاش السمعي الأنصاريّ القُبَائيّ -من بني عمرو بن عوف- عن دَلْهَم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن عامر بن المنتفق العقيليّ، عن أبيه، عن عمّه لقيط بن عامر - قال دَلْهم: وحدثنيه أبي الأسود، عن عاصم بن لقيط أن لقيطًا خرج وافدًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ... " الحديث بطوله في صفحتين كبيرتين، وفيه مرفوعًا: ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 117. (¬2) ص 52 - 53.

"وعلم الله يوم الغيث يشرف عليكم أزلين مشفقين، فيظلّ يضحك قد علم أن غِيَرَكم إلى قرب"، قال لقيط: لن نعدم من ربّ يضحك خيرًا، أخرجه عبد الله بن أحمد في "زوائد المسند" 4/ 13 و"السنّة" (1120) هكذا، وابن خزيمة في "التّوحيد" (122 - 125) والطبرانيّ في "المعجم الكبير" (19/ 211 - 214) (¬1). فهذا الإسناد، وإن كان في عبد الرّحمن، ودَلَهم، وأبيه جهالة، إِلَّا أنه يصلح للمتابعة، ولا سيما مع الشواهد الآتية، والله تعالى أعلم. وأما الشواهد فقد أخرج البخاريّ (806) ومسلم (182) حديث أبي سعيد الخدريّ، وأبي هريرة رضي الله عنهما الطَّويل في الشفاعة، وفيه: "فيضحك الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فيدخله الجنَّة". والحاصل أن الحديث حسنٌ؛ لما ذُكر، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 181) وهو من أفراده، لم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (الطيالسيّ) في "مسنده" (1092) و (أحمد) في "مسنده" 4/ 11 و 12 وفي "السنة" (452) و (ابن أبي عاصم) في "السنة" (554) و (عبد الله بن أحمد) في "زوائد السنة (453) و (الدارقطني) في "الصفات" 46/ 30 (والآجرّيّ) في "الشّريعة" (ص 279 و 280) و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات" (ص 473)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان ما أنكرته الجهميّة من صفات الله -عَزَّ وَجَلَّ-. 2 - (ومنها): أن فيه إثبات رؤية الله -عَزَّ وَجَلَّ- في الآخرة للمؤمنين. ¬

(¬1) انظر "السلسلة الصحيحة" 6/ 734 رقم الحديث (2810).

3 - (ومنها): أن فيه إثبات صفة الضحك لله -عَزَّ وَجَلَّ- على ما يليق بجلاله، فنثبته له -صلى الله عليه وسلم- ما أثبته لنفسه من الصفات، أو أثبته رسوله -صلى الله عليه وسلم- الأحاديث الثابتة عنه، كهذه الأحاديث، ولا نؤوّل، ولا نعطل، ولا نشبّه، تعالى الله عما يقول الظالمون علُوّا كبيرًا، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. 4 - (ومنها): أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- قريب الإجابة، وكثير العطاء، وسريع التغيير للمحن عن عباده في وقت قريب، فلا ينبغي لهم القلق بشدّة الضرّ، وتفاقم الشرّ، بل يلجئون إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ويجأرون إليه، فإنّه لا ملجأ ولا منجا من الله إِلَّا إليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 182 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ قَالَا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ وَكِيعِ بْنِ حُدُسٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزِينٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ؟ قَالَ: "كَانَ في عَماءٍ، مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ، وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ، وَمَا ثَمَّ خَلْقٌ، عَرْشهُ عَلَى المَاءِ"). رجال هذا الإسناد: هم الذين ذكروا في السند السابق، غير شيخه محمّد بن الصبّاح، وهو الجْرْجَرائيّ، أبو جعفر التاجر، صدوق [10] 1/ 2 من أفراد المصنّف. شرح الحديث: (عَنْ وَكِيعِ بْنِ حُدُسٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزِينٍ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا) قال السنديّ: قيل: هو بتقدير أين كان عرش ربّنا؟ قال: ويدلُّ عليه قوله: ثمّ خلق عرشه على الماء، وعلى هذا يحتمل قوله: (قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ) على غير العرش، وما يتعلّق به، وحينئذ لا إشكال في الحديث أصلًا. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أنه لا إشكال مطلقًا؛ لأن الحديث ضعيف، فلا حاجة إلى التكلّف في توجيهه، فإنّه فرع الصحّة، ولا سيّما وباب العقائد يحتاط فيها،

فلا يثبت شيء منها إِلَّا بما صحّ سنده، واستقام متنه، فتفطّن. والله تعالى أعلم. (قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (كَانَ في عَمَاءٍ) قال ابن الأثير: في "النهاية": "العماء" بالفتح والمدّ: السحاب، قال أبو عُبيد: لا يُدرَى كيف كان ذلك العماء، وفي رواية: كان في عمًا بالقصر، ومعناه ليس معه شيء، وقيل: هو كلُّ أمر لا تُدركه عُقُول بني آدم، ولا يبلُغ كنهه الوصف والْفِطَنُ، ولا بُدّ في قوله: "أين كان ربُنا" من مضاف محذوف، كما حُذف في قوله تعالى (¬1): {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} الآية [البقرة: 210] ونحوه، فيكون التقدير: أين كان عرش ربّنا؟ ويدلُّ عليه قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]، وقال الأزهريّ: نحق نؤمن به، ولا نكيّفه بصفة، أي نُجري اللفظ على ما جاء عليه من غير تأويل. انتهى (¬2). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لو صحَّ الحديث لكان ما قاله الأزهريّ هو الصواب، لكن قد عرفت أنه ضعيف، فلا حاجة إلى التكلّف، فتبصّر. والله تعالى أعلم. وقال السنديّ بعد ما ذكر تفسير العماء عن "النهاية": ومن لا يُقدّر مضافًا يقول: ليس المراد من العماء شيئًا موجودًا غير الله؛ لأنه حينئذ يكون من قبيل الخلق، والكلام مفروضٌ قبل أن يخلُق الخلق، بل المراد ليس معه شيء، ويدلّ عليه رواية "كان في عَمًى بالقصر، فإن العمى بالقصر مفسَّرٌ به. قال الترمذيّ: قال أحمد بن منيع: قال يزيد بن هارون: العماء أي ليس معه شيء، وعلى هذا كلة "في" في قوله: "كان في عماء" بمعنى "مع"، أي كان مع عدم شيء آخر، ويكون حاصل الجواب الإرشادَ إلى عدم المكان، وإلى أنه لا أين ثمة؟ فضلًا عن أن يكون هو في مكان، وقال كثير من العلماء: هذا من حديث الصفات، فنؤمن به، ونَكِلُ ¬

_ (¬1) فيه نظر لا يخفى فإنّه لا حذف في قوله: "إِلَّا أن يأتيهم الله" إِلَّا على مذهب المؤولة، وهو مذهب باطل، بَيَّنَّا بطلانه غير مرَّة، فتنبَّه، والله تعالى أعلم. (¬2) "النهاية في غريب الحديث" 3/ 304.

علمه إلى عالمه، انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد عرفت التحقيق فيما سبق، فلا تغفل. وقوله: (وَمَا ثَمَّ خَلْقَ) "ما" فيه نافية، لا موصولة، وكذا في قوله: (وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ) وأما قوله: (وَمَاءٌ، ثُمَّ خَلَقَ) فقال السنديّ: هكذا في نسخ ابن ماجه المعتمدة، والظاهر أن قوله: "وما" تأكيد للنفي السابق، ويحتمل أن يكون "ثَمَّ" بفتح المثلّثة اسم إشارة إلى المكان، و"خَلْق" بمعنى مخلوق، وقوله: (عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ) جملة أخرى، وبعضهم جعل "مَاءٌ" بالمدّ عطفًا على "هواء"، والأقرب أنه تصحيف. انتهى (¬2). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حاصل ما أشار إليه السنديّ رحمه الله أن "ما" في قوله: "وما ثَمَّ خلقٌ" نافية مؤكّدة للنفي السابق، و"ثَمَّ" بفتح الثاء المثلّثة، وتشديد الميم اسم إشارة للمكان البعيد، و"خَلْقٌ" بفتح، فسكون بصيغة المصدر بمعنى مخلوق، أي ليس في ذلك المكان مخلوق، وقوله: "عرشُهُ على الماء" جملة مستأنفة، وهذا تقرير حسنٌ، فتأمّله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألةُ الأولى): في درجته: حديث أبي رزين -رضي الله عنه- هذا ضعيف؛ لضعف إسناده كما سبق الكلام عليه. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 182) بهذا السند فقط، وأخرجه (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده" (1093 و 1094) و (أحمد) في "مسنده" 4/ 11 و 12 و (الترمذيّ) (3109) و (عثمان الدارميّ) في "الردّ على الجهميّة" (55) و (ابن أبي ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 118. (¬2) "شرح السنديّ" 1/ 118.

عاصم) (459 و 460) و (عبد الله بن أحمد) في "السنّة" (257 و 258 و 260 و 265 و 266) و (الطّبريّ) في "جامع البيان" (17980) و"التاريخ" 1/ 37 - 38 و (ابن حبّان) (6141) و (الطبراني) في "الكبير" (19/ 465 و 468) و (الحاكم) في "المستدرك" (4/ 560)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 183 - (حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَد، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيِّ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ إِذْ عَرَضَ لَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ، كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَذْكُرُ في النَّجْوَى؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "يُدْنَى الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، ثُمَّ يُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَعْرِفُ، حَتَى إِذَا بلَغَ مِنْهُ مَا شَاءَ الله أَنْ يَبْلُغَ، قَالَ: إِنِّي سَتَرتُهَا عَلَيْكَ في الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ"، قَالَ: "ثُمَّ يُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ"، أَوْ "كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ"، قَالَ: "وَأَمَّا الْكَافِرُ، أَوِ المُنَافِقُ، فَيُنَادَى عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَاد"، قَالَ خَالِدٌ: في "الْأَشْهَادِ" شَيْءٌ مِنِ انْقِطَاعٍ: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (حُمَيد بن مَسْعَدة) بن المبارك السّاميّ -بالمهملة- الباهليّ، أبو عليّ، ويقال: أبو العباس البصريّ، صدوقٌ [10]. رَوَى عن حماد بن زيد، وبِشْر بن المُفَضّل، وابن عُلَيّة، وعبد الوهّاب الثقفي، وعبد الوارث بن سعيد، ومعتمر بن سليمان، ويزيد بن زُرَيع، وجماعة. ورَوَى عنه الجماعة سوى البخاريّ، وأبو زرعة، وأبو يحيى صاعقة، وموسى بن هارون، وجعفر الفريابي، وأبو جعفر الطّبريّ، ومحمد بن إبراهيم بن الحَزَوَّر، والبغوي، وغيرهم. قال أبو حاتم: كَتبتُ حديثه في سنة نيف وأربعين ومائتين، فلما قَدِمتُ البصرة

كان قد مات، وكان صدوقًا. وقال النَّسائيّ في "أسماء شيوخه": ثقة. وقال إبراهيم بن أورمة: كُلُّ حديث حميد فائدة، ويُنْظَر كيف يجتمع الباهلي والسامي. وقال أبو الشّيخ: تُوُفِّي سنة (442)، وكذا قال ابن حبّان في "الثِّقات" في تاريخ وفاته. أخرج له مسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب (21) حديثًا. 2 - (خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عُبيد بن سليمان، ويُقال: ابن الحارث بن سُليم بن عُبيد بن سُفيان الْهُجَيمي، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبتٌ [8]. رَوَى عن حميد الطَّويل، وأيوب، وابن عون، وهشام بن عروة، وعبيد الله بن عمر، وسعيد بن أبي عروبة، وشعبة، والثوري، وعبد الملك بن أبي سليمان، وابن جريج، وهشام بن حسان، وهشام الدستوائي، وجماعة. ورَوَى عنه أحمد، وإسحاق بن راهويه، وعلي ابن المديني، ومسدد، وعارم، والفلاس، وعبد الله بن عبد الوهّاب الحَجَبيّ، وعبيد الله بن معاذ، ويحيى بن حبيب بن عربي، ونصر بن علي الْجَهْضَميّ، والحسن بن عرفة، وهو آخر أصحابه، وغيرهم، وحَدَّثَ عنه شعبة، وهو من شيوخه. قال ابن عَمَّار عن القطان: ما رأيت خيرًا من سفيان وخالد بن الحارث. وقال الأثرم عن أحمد: إليه المنتهى في التثبت بالبصرة. وقال المرُّوذيُّ عن أحمد: كان خالد بن الحارث يجيء بالحديث كما يَسْمَع. وقال أبو زرعة: كان يقال له خالدُ الصدقِ. وقال ابن سعد: ثقة. وقال أبو حاتم: إمام ثقة. وقال النَّسائيُّ: ثقة ثبت. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: كان من عُقلاء النَّاس ودُهاتهم. وقال معاوية بن صالح: قلت ليحيى ابن معين: من أثبت شيوخ البصريين؟ قال: خالد بن الحارث مع جماعة سماهم. وقال التّرمذيّ: ثقة مأمون، سمعت ابن مثنى يقول: ما رأيت بالبصرة مثله. وقال ابن شاهين في "الثِّقات": قال فيه حماد بن زيد: ذاك الصدوق. وقال الآجري: سألت أبا داود عن خالد ومعاذ، فقال: معاذ صاحب حديث، وخالد كثير الشكوك، وذكر من فضله. وقال الدارقطني: رَوَى عنه حسان بن إبراهيم

الكرماني، وهو أكبر من خالد، وأقدم وفاةً. وقال في موضع آخر: أحد الأثبات. وقال عمرو بن عليّ: وُلد سنة عشرين ومائة، وقال هو وابن سعد: مات سنة (186)، وقال ابن حبّان: وُلد سنة (119). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (23) حديثًا. 3 - (سَعِيدٌ) بن أبي عروبة مِهْرَان الْعَدَويّ الْيشكُريّ، مولى بني عَدِيّ بن يَشْكُر، أبو النضر البصريّ، ثقة حافظ، له تصانيف، لكنه كثير التدليس، واختَلَطَ، وكان من أثبت النَّاس في قتادة [6]. رَوَى عن قتادة، والنضر بن أنس، والحسن البصريّ، وعبد الله بن فَيْرُوز الداناج، وأبي مَعْشَر زياد بن كُليب، وزياد الأعلم، ومطر الورَّاق، وجماعة. ورَوَى عنه الأعمش، وهو من شيوخه، وشعبة، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى، وخالد بن الحارث، ورَوْح بن عُبادة، ويزيد بن زُرَيع، وأبو بَحْر الْبَكراويّ، ومحمد بن أبي عديّ، ومحمد بن سَوَاء، ويحيى القطان، وبِشْر بن المفضل، وسهل بن يوسف، وابن المبارك، وعبد الوارث بن سعيد، وكَهْمَس بن المنهال، وابن عُلَيَّة، وأبو أُسامة، وسالم ابن نوح، وسعيد بن عامر، وأبو خالد الأحمر، وجماعة. قال أبو حاتم: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لم يكن لسعيد بن أبي عروبة كتاب، إنّما كان يَحفَظ ذلك كله. وقال ابن معين، والنَّسائيّ: ثقة. وقال أبو زرعة: ثقة مأمون. وقال ابن أبي خيثمة: أثبت النَّاس في قتادة سعيد بن أبي عروبة، وهشام الدستوائيّ. وقال أبو عوانة: ما كان عندنا في ذلك الزّمان أحفظ منه. وقال أبو داود الطيالسيّ: كان أحفظ أصحاب قتادة. وقال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: سعيد أحفظ وأثبت -يعني من أبَان العطار- وأثبت أصحاب قتادة هشام، وسعيد. ويقال أبو حاتم: هو قبل أن يَختلط ثقة، وكان أعلم النَّاس بحديث قتادة. وقال أبو زرعة الدمشقيّ: عن دُحَيم: اختلط مَخْرَج إبراهيم سنة خمس وأربعين ومائة. وقال الآجري عن أبي داود: سماعُ وكيعٍ منه بعد الهزيمة. وقال أبو داود: كان وكيع يقول: كنا ندخل على سعيد فنسمع،

فما كان من صحيح حديثه أخذناه، وما لم يكن صحيحًا طرحناه. وقال أبو نعيم: كتبتُ عنه بعد ما اختَلَط حديثين. وقال ابن حِبّان: كان سماع شعيب بن إسحاق منه سنة (44) قبل أن يختلط بسنة. وقال البخاريّ: قال عبد الصمد: مات سنة ست وخمسين ومائة، وقال غيره: سنة (75). وقال أبو بكر البزار: يحدث عن جماعة لم يسمع منهم، فإذا قال: سمعت، وحَدَّثَنَا كان مأمونًا على ما قال. وقال ابن أبي خيثمة عن يحيى: كان يرسل. وقال الأزدي: اختلط اختلاطًا قبيحًا. وقال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث، ثمّ اختلط في آخر عمره. وقال ابن حبّان في "الثِّقات": مات سنة (155)، وبقي في اختلاطه خمس سنين، ولا يُحتج إِلَّا بما رَوَى عنه القدماء مثلُ يزيد بن زريع، وابن المبارك، ويعتبر برواية المتأخرين عنه دون الاحتجاج بها، ثمّ قال: وقد قيل: مات سنة (55). وقال الذُّهَلي عن عبد الوهّاب الخفاف: خُولط سعيد سنة (48)، وعاش بعد ما خولط تسع سنين. وقال الْعُقيليّ: سمع منه محمّد بن أبي عديّ بعدما اختلط. وقال الآجري عن أبي داود: كان سعيد يقول في الاختلاط: قتادة عن أنس، أو أنس عن قتادة. وقال النَّسائيّ: من سمع منه بعد الاختلاط فليس بشيء. وقال الآجري عن أبي داود: سماع رَوْح منه قبل الهزيمة، وكذا سَرّارٌ، وسماع ابن مهدي منه بعد الهزيمة. وقال يزيد بن زريع: أولُ ما أنكرنا ابن أبي عروبة يومَ مات سليمان التيمي، جئنا من جنازته، فقال: من أين جئتم؟ قلنا: من جنازة سليمان التيمي، فقال: ومن سليمان التيمي؟. قال الحافظ: والتيمي مات سنة (43)، ويؤيد ذلك ما حكاه ابن عديّ في "الكامل" عن ابن معين قال: من سمع منه سنة (42) فهو صحيح السماع، وسماع من سمع منه بعد ذلك ليس بشيء، وأَثبتُ النَّاس سماعًا منه عبدة بن سليمان. وقال ابن قانع: خلط في آخر عمره، وكان أعرج يُرْمَى بالقدر. وقال أحمد: كان يقول بالقدر ويكتمه. وقال العجلي: كان لا يدعو إليه، وكان ثقة. وقال ابن مهدي: كَتَب غندر عن سعيد بعد الاختلاط. وقال ابن عديّ، وسعيد من ثقات المسلمين، وله أصناف كثيرة،

وحَدَّث عنه الأئمة، ومن سَمِع منه قبل الاختلاط، فإن ذلك صحيح حجة، ومن سمع منه بعد الاختلاط لا يعتمد عليه، وأرواهم عنه عبد الأعلى، وهو مقدم في أصحاب قتادة، ومن أثبت النَّاس عنه روايةً، وكان ثَبْتًا عن كلّ مَنْ رَوَى عنه إِلَّا من دَلَّس عنهم، وأثبت النَّاس عنه ابنُ زُرَيع، وخالد بن الحارث، ويحيى بن سعيد، ونظراؤهم. وقال ابن القطان: حديثُ عبد الأعلى عنه مُشتبه لا يُدرَى هو قبل الاختلاط أو بعده، وتَعَقَّب ذلك ابن المُوّاق فأجاد. وقال ابن السكن: كان يزيد بن زريع يقول: اختلط سعيد في الطّاعون -يعني سنة (132)، وكان القطان يُنكر ذلك، ويقول: إنّما اختلط قبل الهزيمة. قال الحافظ: والجمعُ بين القولين ما قال أبو بكر البزار: إنّه ابتدأ به الاختلاط سنة (133)، ولم يَستحكِم ولم يُطْبِق به، واستمرّ على ذلك، ثمّ استحكم به أخيرًا، وعامة الرواة عنه سمعوا منه قبل الاستحكام، وإنما اعتبر النَّاس اختلاطه بما قال يحيى القطان. والله أعلم. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (69) حديثًا. 4 - (قَتَادَةُ) بن دِعَامة بن قتادة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقة ثبت، رأس الطبقة [4] 1/ 10. 5 - (صَفْوَانُ بْنُ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيُّ) هو: صفوان بن محُرز بن زياد المازنيّ الباهليّ، وقال الأصمعي: كان نازلا في بني مازن، وليس منهم، ثقة عابدٌ [4] رَوَى عن ابن عمر، وابن مسعود، وعمران بن حُصين، وأبي موسى الأشعري، وابن عبّاس، وحكيم بن حزام، وجندب بن عبد الله. ورَوى عنه أبو صَخْرة جامع بن شداد، وخالد بن عبد الله الأشَجّ، وعاصم الأحول، وقتادة، ومحمد بن واسع، وعلي بن زيد بن جُدْعان، وغيرهم. قال أبو حاتم: جليل. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله فَضْلٌ وورَع. قال الواقديّ: تُوُفِّي في ولاية بشر بن مروان، وقال ابن حبّان في "الثِّقات": مات سنة (74) في ولاية عبد الملك، وكان من العباد اتَّخَذ لنفسه سَرَبًا يبكي فيه. ورَوَى محمّد بن نصر في

"قيام اللّيل" من طريق يزيد الرقاشي أن صفوان بن محُرز كان إذا قام إلى التهجد قام معه سكان داره من الجنّ، فصَلَّوْا بصلاته. وقال العجلي: بصري تابعي ثقة. قال الحافظ: وقرأت بخط الذهبي: ما نصّه: قتادةُ ومحمد بن واسع، وعلي بن زيد بن جُدْعان إنّما طلبوا العلم قبل التسعين وبعدها، فهذا يدلُّ على أن الواقدي وَهِمَ في تاريخ موته، وتَبِعَهُ ابنُ حبّان. قلت (¬1): ما وَهِمَ الواقديّ، فقد قال خليفة في "الطبقات": مات بعد انقضاء أمر ابن الزُّبير بقليل، ومن هنا أخذ ابن حبّان قولَهُ: مات سنة أربع؛ لأن قتل ابن الزُّبير كان آخر سنة ثلاث، وما ذكره الحافظ أبو عبد الله الذهبي من أن الذين سماهم لم يطلبوا العلم إِلَّا بعد ذلك لا يمنع سماعهم من صفوان، فكم ممّن سَمِعَ حديثًا أو أحاديث قديمًا، ثمّ اشتغل بعد مُدّة وطَلَبَ. والله أعلم، انتهى (¬2). أخرج له البخاريّ، ومسلم، والترمذيّ، والنَّسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 6 - (عبد الله بن عمر) بن الخطّاب رضي الله عنهما 1/ 4، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصّحيح. 3 - (ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات البصريين. 4 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: قتادة، عن صفوان. 5 - (ومنها): أن صحابيه أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، ومن المشهورين بالفتوى، وشدّة اتّباع السنّة من الصّحابة -رضي الله عنهم-، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) القائل هو الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى. (¬2) "تهذيب التهذيب" 2/ 214 - 215.

شرح الحديث: (عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ) بضم الميم، وسكون الحاء المهملة، وكسر الراء، آخره زاي، ووقع في رواية للبخاريّ من طريق شيبان: "حَدَّثَنَا صفوان"، فزالت تهمة تدليس قتادة (الْمَازِنِيِّ) نسبة إلى مازن أبو قبيلة (قَالَ: بَيْنَما نَحْنُ مَعَ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ) جملة في محلّ نصب على الحال (إِذْ عَرَضَ لَهُ رَجُلٌ) قال الحافظ: لم أقف على اسم السائل، لكن يمكن أن يكون هو سعيد بن جبير، فقد أخرج الطبرانيّ من طريقه قال: "قلت لابن عمر حدّثني ... " فذكر الحديث (فَقَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ) وفي رواية للبخاريّ: "فقال: يا أبا عبد الرّحمن"، وهي كنية عبد الله بن عمر (كيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ - صلّى الله عليه وسلم - يَذْكُرُ في النَّجْوَى؟) هي ما تَكَلَّمَ به المرءُ يُسمِعُ نفسه، ولا يُسمِع غيره، أو يُسمِع غيره سِرًّا دون من يليه، قال الراغب: ناجيته: إذا ساررته، وأصله أن تخلو في نَجْوة من الأرض، وقيل: أصله من النجاة، وهي أن تنجو بسرّك من أن يَطَّلِعَ عليه أَحَدٌ، والنجوى في الأصل مصدر، وقد يوصف بها، فيقال: هو نَجْوَى، وهم نَجْوَى، والمراد بها هنا المناجاة الّتي تقع من الربّ -عَزَّ وَجَلَّ- يوم القيامة مع المؤمنين، وقال الكرمانيّ: أطلق على ذلك النجوى لقابلة مخاطبة الكفّار على رؤوس الأشهاد هناك. انتهى (¬1). (قَالَ) أي ابن عمر رضي الله عنهما (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: يُدْنَى الْمُؤْمِنُ) ببناء الفعل للمفعول، وفي رواية للبخاريّ: "يدنو أحدكم"، وفي أخرى: "يدنو المؤمن" (مِنْ رَبِّهِ) متعلّق بـ "يُدنَى": أي يقرب منه قُرب كرامة، وعُلوّ منزلة. قاله في "الفتح". (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ظرف لـ "يُدنَى" (حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ) بفتح الكاف والنون بعدها فاء، وهو يُطلق على الجانب، والستر، وهو المراد هنا، بدليل رواية سعيد بن جُبير بلفظ: "يجعله في حجابه"، زاد في رواية همام: "وستره". قال في "الفتح": والأول يعني ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 10/ 599 "كتاب الأدب" حديث (6069 - 6070).

تفسيره بالجانب- مجاز في حقّ الله تعالى كما يقال: فلان في كَنَف فلان، أي في حمايته وكَلاءته. انتهى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في هذا الكلام نظرٌ من وجهين: [الأوّل]: أن المراد هنا بالكنف هو الحجاب والستر؛ لكونه جاء في الرِّواية الأخرى بهذا اللّفظ، كما سبق بيانه آنفًا، والروايات يفسّر بعضها بعضًا، وأخرج الحديث البخاريّ في كتابه "خلق أفعال العباد" من طريق عبد الله بن المبارك، عن محمّد ابن سواء، عن قتادة، ثمّ قال في آخر الحديث: قال عبد الله بن المبارك: كنفه ستره. قاله في "الفتح" (¬1). [والثّاني]: أنه قال في "القاموس": أنت في كَنَف الله تعالى مُحَرَّكَةً: في حِرْزه وسِتْره، وهو الجانب، والظلّ، والناحية. انتهى (¬2). فإذا ثبت لغة إطلاق الكنف على الجانب، فالحقّ إبقاؤه على ظاهره وحقيقته؛ إذ لا حاجة إلى المجاز، كسائر الصفات من السمع، والبصر، والكلام، والرضا، والغضب، والاستواء، والنّزول، ونحوها ممّا وردت به النصّوص الصحيحة، فنثبتها كلها على الوجه اللائق به -عَزَّ وَجَلَّ- من غير تعطيل، ولا تحريف، ومن غير تمثيل، ولا تكييف، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. والحكمة في وضع الكنف عليه ستره عن أهل الموقف حتّى لا يطّلع على سرّه غيره. والله تعالى أعلم. [تنبيه]: قال في "الفتح": ومن رواه "كتفه" بالمثنّاة المكسورة، فقد صحّف على ما جزم به جمع من العلماء. انتهى (¬3). ¬

_ (¬1) "الفتح" 13/ 592. (¬2) "القاموس المحيط" ص 765. (¬3) "الفتح" 13/ 592.

(ثُمَّ يُقَرِّر بِذُنُوبِهِ) من التقرير بمعنى الحمل على الإقرار، أي يحمله، ويجعله يعترف بما فعله من الذنوب، قال في "الصحاح": وأقرّ بالحقّ: اعترف به، وقرّره بالحقّ غيره حتّى أقرّ. انتهى (¬1). ثمّ بيّن كيفية تقريره بقوله: (فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ؟) أي تذكر ذنوبك الّتي ارتكبتها، وأنت في الدنيا، وفي رواية البخاريّ: "فيقول: عَمِلت كذا وكذا"، وفي رواية: "أتعرف ذنب كذا وكذا"، وفي رواية: "فيقول له اقرأ صحيفتك، فيقرأ، ويقرّره بذنب ذنب، ويقول: أتعرف، أتعرف" (¬2) (فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَعْرِفُ، حَتَى إِذَا بَلَغَ مِنْهُ) أي حتّى إذا بلغ المؤمن من الإقرار، أو حتّى إذا بلغ من الفَزَع (مَا شَاءَ الله أَنْ يَبْلُغَ، قَالَ) الله تعالى له (إِنِّي سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ في الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ) أي في الآخرة (قَالَ - صلّى الله عليه وسلم - ثُمَّ يُعْطَى) بالبناء للمفعول (صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ، أَوْ) للشكّ من الراوي (كِتَابَتَهُ بِيَمِينِهِ، قَالَ) - صلّى الله عليه وسلم - (وَأَمَّا الْكَافِرُ، أَوِ المُنَافِقُ،) "أو" هنا للتنويع، لا للشكّ، كما يوضح ذلك وقوعه في رواية للبخاريّ بالواو، ولفظه: "وأما الكافر والمنافق"، وفي لفظ: "وأما الكفّار والمنافقون"، وفي رواية: "وأما الكافر، فينادى" بحذف "والمنافق" (فَيُنَادَى) بالبناء للمفعول (عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَاد) بالفتح: جمع شاهد، كصاحب وأصحاب، وهو أيضًا جمع شَهِيد، كشريف وأشراف. قال القرطبيّ رحمه الله: المراد بالأشهاد: الملائكة الحفظة، قاله مجاهد وغيره، وعن الأعمش: هم الملائكة، وقال الضحّاك: هم الأنبياء والمرسلون، ودليله قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]، وقيل: الملائكة والأنبياء والعلماء الذين بلّغوا الرسالات، وقال قتادة: عَنَى الخلائق أجمع. انتهى (¬3). ¬

_ (¬1) راجع "الصحاح" 2/ 677. (¬2) "الفتح" 10/ 600. (¬3) راجع "تفسير القرطبيّ" 9/ 18.

(قَالَ خَالِدٌ) بن الحارث الراوي عن سعيد بن أبي عروبة (في "الْأَشْهَادِ" شَيْءٌ مِنِ انْقِطَاعٍ) يعني أن لفظ "الأشهاد" من قوله: "على رؤوس الأشهاد" لم يتّصل سنده، والظاهر أنه حصل عليه التباس حين تحديث سعيد له به، فلم يسمعه منه، وإنّما سمعه من غيره، لكن هذا لا يضرّ بصحّة الحديث، فإنّه ثبت متّصلًا كلّه من رواية غيره، فقد ثبت في "الصحيحين"، وغيرهما من رواية أبي عوانة، وهشام الدستوائيّ، وشيبان النحويّ، كلهم عن قتادة دون هذه الزيادة، والله تعالى أعلم. {هؤلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} بنسبة الولد والشريك إليه -عَزَّ وَجَلَّ- {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ} أي سخطه، وإبعاده من رحمته ({عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]) أي الذين وضعوا العبادة في غير موضعها. قاله القرطبيّ (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 183) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (البخاريّ) في (3/ 168 و 6/ 93 و 9/ 181) وفي "خلق أفعال العباد" له (41) و (مسلم) (8/ 105) و (عبد بن حُميد) (846) و (ابن أبي عاصم) (604 و 605) و (الطّبريّ) (6497) و (الآجري) في "الشّريعة" (268) و (ابن حبان) (7355) و (ابن منده) (790 و 1077 و 1078 و 1079) و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات" (ص 219 - 220) والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) المصدر السابق.

(المسألة الثّالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو الرّد على الجهميّة في إنكارهم الصفات، حيث إن فيه إثبات صفة الكلام لله -عَزَّ وَجَلَّ-، حيث يكلّم عبده المؤمن في الآخرة. 2 - (ومنها): إكرام الله تعالى لعبده المؤمن، حيث يدنيه منه، ويضع عليه كنفه، حتّى لا يسمع مناجاته له. 3 - (ومنها): بيان فضل ستر المؤمن على نفسه في الدنيا إذا وقع منه مخالفة؛ لأن ذلك يكون سببًا لمغفرة الله تعالى له ذلك في الآخرة. 4 - (ومنها): بيان قبح المجاهرة بالمعاصي، وأن الله تعالى لا يغفر لأصحابها؛ لمبارزتهم له بها، واستخفافهم بشأنها. أخرج الشيخان في "صحيحيهما" من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كلُّ أُمَّتي مُعَافًى إِلَّا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرَّجل باللّيل عملًا، ثمّ يُصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه". 5 - (ومنها): بيان فضيحة الكفّار والمنافقين يوم القيامة، حيث ينادى بهم على رؤوس الأشهاد {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}، اللَّهُمَّ اعصمنا من المعاصي والفتن، وجنّبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن بعفوك ومنّك وكرمك يا أرحم الراحمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والماّب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 184 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادَانِيُّ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ الرَّقَاشِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-:"بَيْنَا أَهْلُ الجَنَّةِ في نَعِيمِهِمْ، إِذْ سَطَعَ لهُمْ نُورٌ، فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ، فَإِذَا الرَّبُ قَد أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُ اللهَ: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58]، قَالَ: فَيَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَلَا

يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ، وَيَبْقَى نُورُهُ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ في دِيَارِهِمْ". رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ) الأمويّ البَصْريُّ، واسم أبي الشَّوَارب محمّد بن عبد الله بن أبي عثمان بن عبد الله بن خالد بن أسد بن أبي العِيص بن أمية القرشيّ الأُمويّ، أبو عبد الله الأُبُلّيّ البصريّ، صدوقٌ من كبار [10]. رَوَى عن كَثِير بن سُليم المدائني، وعبد العزيز بن المختار، وأبي عوانة، ويزيد بن زُريع، وبشر بن المفضل، وعبد الواحد بن زياد، وعبد الوارث بن سعيد، وأبي عاصم العبادانيّ، وغيرهم. ورَوَى عنه مسلم، والترمذيّ، والنَّسائيّ، وابن ماجه، وروى النَّسائيُّ عن زكريا السجزيّ عنه، وأبو إسماعيل الترمذيّ، وابن أبي الدنيا، وغيرهم. قال أبو علي بن خاقان عن أحمد: ما بلغني عنه إِلَّا خير. وقال صالح بن محمّد الأسدي: شيخٌ جليلٌ، صدوق. وقال النَّسائيّ: لا بأس به، وقال النَّسائيُّ في "مشيخته": ثقة. وقال مَسلمَة: بصري ثقة. وقال ابن شاهين في "الثِّقات": قال عثمان ابن أبي شيبة: شيخ صدوق، لا بأس به. وقال ابن قانع: مات بالبصرة لعشر بَقِين من جُمادى الآخرَة، سنة أربع وأربعين ومائتين، وفيها أرّخه البغوي، وذكره أبو علي الجيّاني في شيوخ أبي داود، ولم يذكره غيره. وفي "الزهرة": رَوَى عنه مسلم عشرة أحاديث. انتهى. وله في هذا الكتاب (32) حديثًا. 2 - (أبو عاصم العبّادانيّ) المَرَئِيّ البصريّ، اسمه عبد الله بن عبيد الله، ويقال: ابن عَبْد، ويقال: عبيد الله بن عبد الله، صدوق (¬1) [8]. ¬

_ (¬1) - هذا هو الحقّ، وأما قول صاحب "التقريب": ليّن الحديث، فليس بصواب، فقد =

رَوَى عن فائدٍ أبي الوَرْقاء، وعلي بن زيد بن جُدْعان، وأبان بن أبي عَيّاش، وخالد الحذاء، والفضل بن عيسى الرقاشيّ، وغيرهم. ورَوَى عنه علي بن المديني، وعبد الأعلى بن حماد، ونعيم بن حماد، وإسحاق بن راهويه، وآدم بن أبي إياس، ومحمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، وغيرهم. قال الدُّوريّ عن ابن معين: لم يكن به بأس، صالح الحديث. وقال عمرو بن علي: كان صدوقًا ثقة. وقال أبو زرعة: ثقة شيخ. وقال أبو حاتم: ليس به بأس. وقال أبو داود: لا أعرفه، وقال الْعُقيليّ: منكر الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان يخطىء. تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (184) و (1384) "من كانت له حاجة إلى الله ... " الحديث. 3 - (الفضل الرقاشي) هو الفضل بن عيسى بن أبان، أبو عيسى البصريّ الواعظ، منكر الحديث، ورُمي بالقدر [6]. رَوَى عن عمه يزيد بن أبان الرقاشيّ، وعن أنس، وأبي عثمان النَّهْديّ، ومحمد بن المنكدر، والحسن البصري، وأبي الحكم البجليّ، وجماعة. ورَوَى عنه ابن أخته المعتمر بن سليمان، وأبو عاصم العَبّاداني، وأبو عاصم النبيل، والحكم بن أبان العبدي، وعلي بن عاصم الواسطيّ، وآخرون. ¬

_ = عرفت في ترجمته أنه وثقه عمرو بن عليّ، وأبو زرعة، وقال ابن معين: لم يكن به بأس، صالح الحديث، وقال أبو حاتم: ليس به بأس، وأما قول أبي داود: لا أعرفه، فلا يضرّه، فقد عرفه هؤلاء الأئمة، ووثقوه، وأما قول العقيليّ: منكر الحديث، فمن تعنّته الذي لا يلتفت إليه المحققون، فتبصّر بإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. [تنبيه]: يعلم مما ذكرناه تفنيد قول من قال: إن كل من تفرّد بهم ابن ماجه من الرجال ضعاف، فقد تفرد بهذا الراوي، وعرفت أنه ثقة. فتنبّه. والله تعالى أعلم.

قال سَلّام بن أبي مطيع عن أيوب: لو أن فضلًا وُلِد أخرس لكان خيرًا له. وقال عبد الله ابن أحمد بن حنبل عن أبيه: ضعيف. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: كان قاصًّا، وكان رجل سَوْء، قلت: كيف حديثه؟ قال: لا تسأل عن القَدَرِيّ الخبيث. وقال إسحاق بن منصور: عن ابن معين: سئل عنه ابن عيينة، فقال: لا شيء. وقال أبو زرعة: منكر الحديث. وقال أبو حاتم: منكر الحديث، في حديثه بعض الْوَهَن، ليس بقوي. وقال الآجريّ: قلت لأبي داود: أكتب حديث الفضل الرقاشيّ؟ قال: لا، ولا كرامة، وقال مرة: كان هالكًا، وقال مرة: حدّث حماد بن عدي عن الفضل بن عيسى، وكان من أخبث الناس قولًا، وقال مرة: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن فضل الرقاشيّ، عن ابن المنكدر، عن جابر -رضي الله عنه- رفعه: "يُنَادِي رجل يوم القيامة واعطشاه ... " الحديث، فقال أبو داود: هذا حديث يُشبِه وجهَ فضلٍ الرقاشيّ. وقال النسائيّ: ضعيف، وقال في موضع آخر: ليس بثقة. وقال ابن عدي: الضعف بَيِّنٌ على ما يرويه. وقال البخاري في "الأوسط" عن ابن عيينة: كان يرى القدر، وكان أهلًا أن لا يُرْوَى عنه. وقال الساجيّ: كان ضعيف الحديث، قدريّا، قال: وسمعت ابن المثنى يقول: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عنه، وكان شعبة يُشَبِّهه بأبان بن أبي عياش وأمثاله، وكذا رواه الْعُقَيليّ في "الضعفاء" عن الساجى، وقال يعقوب بن سفيان: معتزليّ، ضعيف الحديث. تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 4 - (محمد بن المنكدر) بن عبد الله بن الهُدَير التيميّ المدنيّ، ثقة فاضل [3] 15/ 122. 5 - (جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرَام الأنصاريّ السلميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما 1/ 11، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: بَيْنَا) هي "بين" أُشبعت فتحتها، فتولّدَت منها الألف، وقد تقدّم تمام البحث فيها (أَهْلُ الجَنَّةِ في نَعِيمِهِمْ، إِذْ سَطَعَ) أي ظهر، وارتفع (لهُمْ نُورٌ، فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ، فَإِذَا) هي الفُجائيّة، أي ففاجأهم (الرَّبُّ) -عَزَّ وَجَلَّ- (قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ) أي اطّلع عليهم، والجملة في محلّ نصب على الحال من "الربّ". وقال السنديّ رحمه الله: فيه إثبات للجهة ظاهرًا، فلا بدّ من التأويل، إن ثبت الحديث بحمله على العلوّ اللائق بجنابه العلّيّ، أي يظهر عليهم حال كونه عاليًا علوّا يليق به تعالى. انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله عنه: كلام السنديّ رحمه الله هذا جيّد، والله تعالى أعلم. (مِنْ فَوْقِهِمْ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الجنَّةِ، قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُ الله: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}، قَالَ: فَيَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) قال السنديّ رحمه الله: أي يبدو لهم أنه ناظرٌ إليهم، أو ينظر إليهم نظر رحمة فوق ما كانوا فيها، وإلا فهو ناظرٌ إليهم على الدوام، لا يغيب عن نظره شيء، ويحتمل أن يكون التفريع بالنظر إلى قوله: (وَيَنْظرونَ إِلَيْهِ) انتهى كلام السنديّ. قال الجامع عفا الله عنه: كلام السنديّ رحمه الله هذا جيّد أيضًا، والله تعالى أعلم. (فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ) أي من نعيم الجنّة (مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ) لأنه أعلى وأحلى النعيم (حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ، وَيَبْقَى نُور وَبَرَكَته عَلَيْهِمْ في دِيَارِهِمْ)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. [تنبيه]: هذا الحديث ممّا تفرّد به المصنّف، وهو ضعيف، وقال البوصيريّ: هذا ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 119.

إسناد ضعيف؛ لضعف الفضل بن عيسى بن أبان الرقاشيّ. انتهى (¬1). [قلت]: أما قول الأستاذ بشار: وفيه أبو عاصم العبّادانيّ البصريّ لين الحديث، قال الذهبيّ: ليس بحجة يأتي بعجائب. انتهى، فليس كما ينبغي، فقد عرفت توثيق كثير من الأئمة أبا عاصم هذا فيما سبق من ترجمته، فلا تكن من الغافلين، ومن الغريب أنه ردّ على صاحب "التقريب" في تعقّباته قوله: ليّن الحديث، بأنه صدوق، حسن الحديث، وأما ما نقله عن الذهبيّ، فقد ذكره في "ميزان الاعتدال"، والظاهر أنه اعتمد على قول العقيليّ: منكر الحديث، فإنّه نقله يعد كلامه هذا، ولم يذكر كلام الأئمة الموثّقين له. والحاصل أن الحديث ضعيف؛ لأجل الفضل بن عيسى، لا لأبي عاصم، وقد أورده ابن الجوزيّ في "الموضوعات"، وقال: الفضل الرقاشيّ رجل سَوْء، ورواه عنه أبو عاصم، ولا يتابع عليه (¬2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله أول الكتاب قال: 185 - (حَدَّثَنَا عَلي بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَكيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَدِيٍّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ، لَيْسَ بَيْنه وَبَيْنه تَرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ مِنْ عَنْ أَيْمَنَ مِنْهُ، فَلَا يَرَى إِلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ، ثُمَّ يَنْظر مِنْ عَنْ أَيْسَرَ مِنْهُ، فَلَا يَرَى إِلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ، ثُمَّ يَنْظُرُ أَمَامَهُ، فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ، وَلَوْ بِشِقّ تَمرةٍ فَلْيَفْعَلْ). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطنافسيّ الكوفيّ الثقة تقدّم قريبًا. 2 - (وَكِيعٌ) بن الجرّاح الكوفيّ الحافظ الحجة الثبت من كبار [9] 1/ 3. ¬

_ (¬1) "مصباح الزجاجة" 1/ 85 - 86. (¬2) راجع "شرح السنديّ" 1/ 119.

3 - (الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الكُوفيُّ الحافظ الثبت يُدلّس [5] 1/ 1. 4 - (خَيْثَمَةُ) -بفتح المعجمة، وسكون التحتانيّة، بعدها مثلّثةٌ- ابن عبد الرّحمن ابن أبي سَبْرة -بفتح المهملة، وسكون الموحّدة- واسمه يزيد بن مالك بن عبد الله بن ذويب الجعفيّ الكوفيّ -لأبيه ولجده صحبة، وَفَدَ جده أبو سبرة إلى النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- ومعه ابنه: سَبْرَة- ثقة، وكان يرسل [3]. رَوَى عن أبيه، وعلي بن أبي طالب، وابن. عمر، وابن عمرو، وابن عبّاس، والبراء ابن عازب، وعدي بن حاتم، والنعمان بن بشير، وغيرهم من الصّحابة والتابعين. ورَوَى عنه زِرّ بن حُبيش، وأبو إسحاق السبيعي، وطلحة بن مُصَرِّف، وعمرو ابن مرّة الجَمَليّ، وقتادة، والأعمش، ومنصور، وغيرهم. قال ابن معين، والنَّسائيّ: ثقة. وقال العجليّ: كوفي تابعي ثقة، وكان رجلًا صالحًا، وكان سخيًّا، ولم يَنجُ من فتنة بن الأشعث إِلَّا هو، وإبراهيم النخعيّ. وقال مالك بن مِغْوَل عن طلحة بن مُصَرّف: ما رأيت بالكوفة أحدًا أعجب إلى منهما. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وساق بسنده إلى نعيم بن أبي هند، قال: رأيت أبا وائل في جنازة خيثمة. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: لم يسمع خيثمة من ابن مسعود، وكذا قال أبو حاتم، وقال أبو زرعة: خيثمة عن عمر مرسل. وقال ابن القطان: ينظر في سماعه من عائشة رضي الله عنها. قال البخاريّ: مات قبل أبي وائل، وقال غيره: مات بعد سنة ثمانين، وأرّخه ابن قانع سنة (80). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط هذا الحديث، وأعاده برقم (1843) و (1992) حديث: "أمرها أن تُدخِل على رجل امْرَأَتَهُ قبلَ أن يعطيها شيئًا". 5 - (عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ) الصحابيّ المشهور -رضي الله عنه- تقدّم في 10/ 87، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين. 3 - (ومنها): أنه فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: الأعمش، عن خيثمة. 4 - (ومنها): أنه لا يوجد من اسمه خيثمة في هذا الكتاب، بل في الكتب الستة غير هذا، إِلَّا خيثمة بن أبي خيثمة البصريّ عند الترمذيّ، والنَّسائيّ فقط، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ) الطائيّ -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) ظاهر الخطّاب للصحابة -رضي الله عنهم-، ويَلتَحق بهم المؤمنون كلّهم، وسَابِقُهُم، ومقصّرهم، أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة. قاله في "الفتح" (¬1) (إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ) ولفظ البخاريّ: "إِلَّا سَيكلّمه الله" (لَيْسَ بَيْنه وَبَيْنه تَرْجُمَانٌ) قال ابن الأثير رحمه الله: التّرْجمان بالضمّ والفتح: هو الذي يُترجم الكلام، أي ينقله من لغة إلى لغة أخرى، والجمع التَّرَاجم، والتاء والنون زائدتان، وقد تكرّر في الحديث. انتهى (¬2). وقال الفيّوميّ رحمه الله: وتَرْجم فلان كلامه: إذا بيّنه وأوضحه، وترجم كلام غيره: إذا عبّر عنه بلغةٍ غيرِ لغة المتكلّم، واسم الفاعل تَرْجُمَان، وفيه لغات، أجودها فتح التاء، وضمّ الجيم، والثّانية ضمّهما معًا، بجعل التاء تابعةً للجيم، والثالثةُ فتحهما بجعل الجيم تابعةً للتاء، والجمع تراجِمُ، والتاءُ والميم أصلّيّتان، فوزن تَرْجَمَ فَعْلَل، مثلُ دَحْرَجَ، وجعل الجوهريّ التاء زائدة، وأورده في تركيب رَجَمَ، ويوافقه ما في نسخةٍ من "التهذيب" من باب رجم أيضًا، قال اللِّحْيَانيّ: وهو التَّرْجُمَانُ، لكنه ذكَرَ الفعل في الرباعيّ، وله وجهٌ، فإنّه يقال: لسان مِرْجَمٌ: إذا كان فصيحًا قَوّالًا، لكن الأكثر على ¬

_ (¬1) "فتح" 11/ 492. (¬2) "النهاية" 1/ 186.

أصالة التاء. انتهى (¬1). وقال في "الفتح": يفتح التاء المثنّاة، وضمّ الجيم، ورجّحه النوويّ في "شرح مسلم"، ويجوز ضمّ التاء اتباعًا، ويجوز فتح الجيم، مع فتح أوّله، حكاه الجوهريّ، ولم يصرّحوا بالرّابعة، وهي ضم أوله، وفتح الجيم، وهو المعبّر عن لغة بلغة، وهو معرّبٌ، وقيل: عربيّ (¬2). قلت: قد تبيّن بما ذُكِر أن في ضبط التّرجُمان أربعة أوجه، أفصحها فتح التاء، والجيم، وأقلّها ضم التاء، وفتح الجيم. والله تعالى أعلم. [تنبيه]: لم تبيّن رواية المصنّف ما يقول له، وقد بَيَّنَتْهُ روايةُ رواية البخاريُّ في "كتاب الزَّكاة" من "صحيحه" (1413) من طريق مُحِلّ بن خليفة، قال سمعت عدي بن حاتم -رضي الله عنه- يقول: كنت عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجاءه رجلان: أحدهما يشكر الْعَيْلة، والآخر يَشْكُو قطع السبيل، فقال رسول -صلى الله عليه وسلم-: "أما قطع السبيل فإنّه لا يأتي عليك إِلَّا قليل، حتّى تَخْرُج الْعِير إلى مكّة بغير خَفِير، وأما العَيْلة فإن السّاعة لا تقوم حتّى يطوف أحدكم بصدقته لا يجد من يقبلها منه، ثمّ لَيِقِفَنَّ أحدكم بين يدي الله، ليس بينه وبينه حجاب، ولا تَرْجُمان يُتَرْجم له، ثمّ ليقولن له: أَلم أُوتك مالًا؟ فليقولنّ: بلى، ثمّ ليقولنّ: ألم أرسل إليك رسولًا؟ فليقولنّ: بلى، فينظر عن يمينه فلا يَرَى إِلَّا النّار، ثمّ ينظر عن شماله فلا يرى إِلَّا النّار، فَلْيَتَّقِيَنّ أحدكم النّار، ولو بِشِقّ تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة". [تنبيه آخر]: زاد في رواية البخاريّ في "كتاب التّوحيد" بعد قوله: "ليس بينه وبينه ترجمان": ما نصّه: "ولا حجاب يحجبه"، في رواية الكشميهني: "ولا حاجب"، قال ابن بطّال: معنى رفع الحجاب إزالة الآفة من أبصار المؤمنين المانعة لهم من الرؤية، فيرونه لارتفاعها عنهم بخلق ضدها فيهم، ويشير إليه قوله تعالى في حق الكفار: {كَلَّا ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" 1/ 74. (¬2) "فتح" 1/ 48 في "كتاب بدء الوحي" رقم الحديث (7).

إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]. وقال الحافظ صلاح الدين العلائي في شرح قوله في قصة معاذ -رضي الله عنه-: "واتّقِ دعوة المظلوم، فإنّه ليس بينها وبين الله حجاب": المراد بالحاجب والحجاب نفيُ المانع من الرؤية، كما نَفَى عدم إجابة دعاء المظلوم، ثمّ استعار الحجاب للردّ، فكان نفيه دليلًا على ثبوت الإجابة، والتعبير بنفي الحجاب أبلغ بالقبول، لأن الحجاب من شأانه المنع من الوصول إلى المقصود، فاستعير نفيه لعدم المنع، ويتخرج كثير من أحاديث الصفات على الاستعارة التخييلية، وهي أن يشترك شيئان في وصف، ثمّ يعتمد لوازم أحدهما حيث تكون جهة الاشتراك وصفًا، فيثبت كماله في المستعار بواسطة شيء آخر، فيثبت ذلك للمستعار مبالغة في إثبات المشترك، قال: وبالحمل على هذه الاستعارة التخييلية يحصل التخلص من مهاوي التجسيم، قال: ويحتمل أن يراد بالحجاب استعارةُ محسوسٍ لمعقولٍ؛ لأن الحجاب حسيّ، والمنع عقليّ، قال: وقد ورد ذِكْرُ الحجاب في عدة أحاديث صحيحة، والله -عَزَّ وَجَلَّ- مُنْزّه عما يحجبه, إذ الحجاب إنّما يحيط بمقدر محسوس، ولكن المراد بحجابه منعه أبصار خلقه، وبصائرهم بما شاء، متى شاء، كيف شاء، وإذا شاء كشف ذلك عنهم، ويؤيده قوله في الحديث الّذي بعده: "وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إِلَّا رداء الكبرياء على وجهه"، فإن ظاهره ليس مرادًا قطعًا، فهي استعارة جزمًا، وقد يكون المراد بالحجاب في بعض الأحاديث الحجاب الحسيّ، لكنه بالنسبة للمخلوقين، والعلم عند الله تعالى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا نقل في "الفتح" كلام العلائيّ، وأقرّه، وهو عجيبٌ، فإن هذه التأويلات المتعسّفة الّتي أتعب نفسه بها، لا يتحمّلها نصوص الكتاب والسُّنَّة، فإن الواجب على المسلم أن يُثبت ما أثبت الله تعالى لنفسه، وينفي عنه ما نفاه في كتابه العزيز، أو فيما صحّ عن رسوله - صلّى الله عليه وسلم -، ويبتعد عن هذه التخيّلات الفاسدة الّتي لا تليق بالله -عَزَّ وَجَلَّ-، فله الأسماء الحسنى، والصفات العلى، كما قال -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} الآية [الأعراف: 180]، وقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ

الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فإذا أثبت النصّ الحجاب له بقوله -عَزَّ وَجَلَّ-: "حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره"، وكذا قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: "رداء الكبرياء"، فنحن نثبت ذلك له على ما يليق بجلاله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولا نشبّه، ولا نمثّل، ولا نكيّف، ولا نعطل، بل نقول: يثبت له ما أثبته لنفسه، على حقيقته، كما يليق بجلاله، ولا نقول: إنّه مجاز، ولا استعارة، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. ونقل الطيبي في شرح حديث أبي موسى عند مسلم: "حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سُبُحَات وجهه ما أدركه بصره": أن فيه إشارة إلى أن حجابه خلاف الحجب المعهودة، فهو محتجب عن الخلق بأنوار عزه وجلاله، وأشعة عظمته وكبريائه، وذلك هو الحجاب الّذي تُدْهَشُ دونه العقول، وتُبْهَتُ الأبصار، وتتحير البصائر، فلو كشفه فتجلى لما وراءه بحقائق الصفات، وعظمة الذات، لم يبق مخلوق إِلَّا احترق، ولا منظور إِلَّا اضْمَحَلّ، وأصل الحجاب الستر الحائل بين الرائي والمرئي، والمراد به هنا منع الأبصار من الرؤية له بما ذُكِر، فقام ذلك المنع مقام الستر الحائل، فعَبَّر به عنه، وقد ظهر من نصوص الكتاب والسُّنَّة أن الحالة المشار إليها في هذا الحديث هي في دار الدنيا المعدة للفناء، دون دار الآخرة المعدة للبقاء، والحجاب في هذا الحديث وغيره يرجع إلى الخلق؛ لأنهم هم المحجوبون عنه. وقال النوويّ: أصل الحجاب المنع من الرؤية، والحجاب في حقيقة اللُّغة الستر، وإنّما يكون في الأجسام، والله سبحانه مُنَزَّه عن ذلك، فعُرِف أن المراد المنع من رؤيته، وذَكَر النور؛ لأنه يمنع من الإدراك في العادة لشعاعه، والمراد بالوجه الذات، وبما انتهى إليه بصره جميع المخلوقات؛ لأنه سبحانه محيط بجميع الكائنات. انتهى. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الّذي قاله النوويّ من جنس ما قاله العلائيّ فيما سبق من كلامه، والجواب عنه هو الجواب عنه، وإياك أن تغترّ بمثله، فإنّه خلاف منهج السلف، فإنهم لا يؤولون مثل هذا الحديث، بل يُثبتونه على ظاهره، كما يليق

بجلاله -عَزَّ وَجَلَّ-، إثباتًا بلا تمثيل، ويُنَزّهون الله تعالى من مشابهة خلقه تَنْزيهًا بلا تعطيل، والله -عَزَّ وَجَلَّ- الهادي إلى سواء السبيل. (فَيَنْظُرُ مِنْ عَنْ) بمعنى جانب (أَيْمَنَ مِنْهُ) أي من جهة يمينه (فَلَا يَرَى إِلا شَيْئًا قَدَّمَهُ) أي إِلَّا عمله (ثُمَّ يَنْظُرُ مِنْ عَنْ أَيْسَرَ مِنْهُ) أي من جانب يساره (فَلَا يَرَى إِلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ) أي من الأعمال، قال ابن هُبيرة: نظر اليمين والشمال هنا كالمثل؛ لأن الإنسان من شأنه إذا دَهَمَه أمرٌ أن يلتفت يمينًا وشمالًا، يطلُب الغَوْث. وقال الحافظ: ويحتمل أن يكون سبب الالتفات أنه يترجّى أن يجد طريقًا يذهب فيها ليحصل له النجاة من النّار، فلا يرى إِلَّا ما يُفضي به إلى النّار، كما بيّنته رواية مُحلّ بن خليفة المذكورة. انتهى (¬1). (ثُمَّ يَنْظُرُ أَمَامَهُ، فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ) أي تظهر له، وتواجهه، وفي رواية للبخاريّ من طريق عيسى بن يونس، عن الأعمش: "وينظر بين يديه، فلا يرى إِلَّا النّار تلقاء وجهه"، قال ابن هُبيرة: والسبب في ذلك أن النّار تكون في ممرّه، فلا يُمكنه أن يَحِيد عنها؛ إذ لا بُدِّ له من المرور على الصراط (فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمرةٍ) "شِقُّ التّمرة" بكسر الشين: نصفها وجانبها (¬2)، أي من استطاع أن يجعل بينه وبين النّار وِقَايةً من الصَّدقة، وعمل البرّ، ولو بشيء يسير (فَلْيَفْعَلْ) زاد في رواية محُلّ بن خليفة السابقة: "فإن لم يجد فبكلمة طيبة". وفي رواية لمسلم (1016) من طريق الأعمش، عن عمرو بن مُرّة، عن خيثمة، عن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- قال: ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النارَ، فأعرض وأشاح، ثمّ قال: "اتقوا النّار"، ثمّ أعرض وأشاح، حتّى ظننا أنه كأنما ينظر إليها، ثمّ قال: "اتقوا النّار، ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة"، وفي لفظ: أنه ذكر النّار، فتعوذ منها، وأشاح بوجهه ثلاث مرار، ثمّ قال: "اتقوا النّار ... " الحديث. ومعنى "أشاح": أعرض، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو ¬

_ (¬1) "فتح" 11/ 492. (¬2) "شرح مسلم" للنوويّ 7/ 100 - 101.

المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عديّ بن حاتم -رضي الله عنه- هذا متّفق عليه. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 185) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده" (1035 و 1038) و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه " 3/ 110 و (أحمد) في "مسنده" 4/ 256 و 258 و 377 و 379 و (الدارميّ) في "سننه" (1664) و (البخاريّ) 8/ 14 و 139 و 144 و 9/ 192 و 181 و (مسلم) 3/ 86 و (الترمذيّ) (2415) و (النَّسائيُّ) 5/ 75 و (ابن خزيمة) (2428) و (ابن حبّان) (2804) و (الطبرانيّ) في "الكبير" (17/ 185 و 186 و 187 و 188 و 189 و 190 و 191 و 192 و 193 و 194 و 195) و (أبو نعيم) في "الحلية" (4/ 124 و 7/ 129) و (البيهقيّ) (4/ 176) و (البغويّ) في "شرح السنّة" (1638 و 1640)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو إثبات صفة الكلام لله -عَزَّ وَجَلَّ-، وهو الّذي أنكرته الجهميّة الضّالة. 2 - (ومنها): إثبات يوم القيامة. 3 - (ومنها): إثبات مناقشة الله -عَزَّ وَجَلَّ- لعباده يوم القيامة. 4 - (ومنها): الحثّ على الصَّدقة، وأنه لا يمتنع الإنسان منها لقلّتها. 5 - (ومنها): أن قليل الصَّدقة سبب للنجاة من النّار. 6 - (ومنها): أن الكلمة الطيّبة تقوم مقام الصَّدقة، وتكون سببًا للنجاة من النّار، فإنّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "فإن لم يجد فبكلمة طيبة"، وهي الكلمة الّتي فيها تطييب قلب الإنسان إذا

كانت مباحة، أو طاعة. قاله النوويّ رحمه الله (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 186 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الصَّمَدِ، عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الجُوْنِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "جَنَّتانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُما وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُما وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَومِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ، في جَنَّةِ عَدْنٍ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) أبو بكر البصريّ الملقّب بُنْدَار، ثقة حافظ [10] 1/ 6. 2 - (أَبُو عَبْدِ الصَّمَدِ، عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ) الْعَمّيّ، البصريّ، ثقة حافظ، من كبار [9]. رَوَى عن أبي عمران الجَوْنيّ، وداود بن أبي هند، ومنصور، وعلي بن زيد بن جُدْعان، ومطر الورَّاق، وعطاء بن السائب، وغيرهم. ورَوَى عنه أحمد، وإسحاق، وعليّ، ويحيى، وأبو موسى، وبُنْدار، والحميدي، وأبو غسان المسمعي، والحسن بن عرفة، وغيرهم. قال أحمد: كان ثقة. وقال ابن معين: لم يكن به بأس. وقال القواريري: كان حافظًا. وقال أبو زرعة، وأبو داود، والنَّسائيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح. وقال عمرو بن عليّ: سمعت عبد الرّحمن بن مهدي يقول يوم مات: ما مات لكم منذ ثلاثين سنة شبههُ، أو مثله، أو أوثق منه. وقال العجليّ: ثقة. قال أبو داود: مات سنة (187). وقال ابن حبّان في "الثِّقات": مات سنة ¬

_ (¬1) راجع "شرح مسلم" 7/ 101.

(188)، وقال ابن قانع: مات سنة (89)، ويقال: سنة (90)، وحكى الْقَرّاب القولين في "تاريخه". أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم (186) و (3455) حديث: "الكمأة من المنّ، والعجوة من الجنَّة، وهي شفاء من السمّ". 3 - (أَبُو عِمْرَانَ الجُوْنِيُّ) عبد الملك بن حبيب الأزديّ، أو الْكِنديّ، البصريّ، مشهور بكنيته، ثقة، من كبار [4] 9/ 61. 4 - (أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيُّ) الكوفيّ، يقال: اسمه عمرو، ويقال: عامر، ثقة [3]. رَوَى عن أبيه، والبراء بن عازب، وجابر بن سمرة، وابن عبّاس، والأسود بن هلال. وروى عنه أبو جمرة الضُّبَعيّ، وأبو عمران الجُوْنيّ، وبدر بن عثمان، وعبد الله بن أبي السَّفَر، والأجلح بن عبد الله الْكِنديّ، وأبو إسحاق السبيعي، ويونس بن أبي إسحاق، وغيرهم. قال الآجريّ: قلت لأبي داود: سمع أبو بكر من أبيه؟ قال: أُراه قد سمع، وأبو بكر أرضى عندهم من أبي بردة، وكان يذهب مذهب أهل الشّام، جاءه أبو غادية الجهنيّ، قاتل عَمّار، فأجلسه إلى جانبه، وقال مرحبًا بأخي. وقال محمّد بن عبد الله بن نمير: كان أكبر من أبي بردة، وقال: مات في ولاية خالد بن عبد الله. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: اسمه كنيته، مات في ولاية خالد، ومن زَعَم أن اسمه عامر فقد وَهِمَ عامر اسم أبي بردة. وقال عبد الله بن أحمد في "العلل": قلت لأبي: فأبو بكر بن أبي موسى سمع من أبيه؟ قال: لا. وقال أبو بكر بن عياش: سمعت أبا إسحاق يقول: أبو بكر بن أبي موسى أفضل من أخيه أبي بردة. وقال العجليّ: كوفي تابعي ثقة. وقال بن سعد: اسمه كنيته، وكان قليل الحديث، يُستضعَف، ومات في ولاية خالد، وكان أكبر من أخيه أبي بردة. وقال خليفة: مات سنة ست ومائة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط هذا الحديث برقم (186) و (1931) حديث: "لا تُنكَح المرأة على عمّتها، ولا على خالتها". 5 - (أبوه) عبد الله بن قيس بن سُليم، أبو موسى الأشعريّ الصحابيّ الشهير -رضي الله عنه- 10/ 88، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات البصريين إلى أبي بكر، وأبوه كوفيّان. 3 - (ومنها): أن فيه من اشتهر بكنيته، وهم: أبو عمران، وأبو بكر، وأبوه. 4 - (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ. 5 - (ومنها): أن عبد العزيز، وأبا بكر هذا أول محل ذكرهما من الكتاب، وجملة ما رواه المصنّف لكلّ منهما في هذا الكتاب حديثان فقط، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن قيس -رضي الله عنه-، أنه قال: (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، "جَنَّتَانِ) خبر لمبتدإ محذوف، أي هما جنتان، ويجوز أن يكون مبتدأ، وسوّغ الابتداء بالنكرة وقوعه موقع التفصيل، على حدّ قول الشاعر [من المتقارب]: فَأَقْبَلْتُ زَحْفًا عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ ... فَثَوْبٌ لَبِسْتُ وَثَوْبٌ أَجُرُّ والشاهد "فثوبٌ لبستُ"، وكذلك "وثوبٌ أجرّ" (¬1). وقوله: (مِنْ فِضَّةٍ) خبر لـ "جنّتان"، على الثّاني، أي كائنان من فضّة، وقوله: (آنِيَتُهُما، وَمَا فِيهِمَا) بدل اشتمال من "جنّتان"، أو من ضمير "كائنتان"، أو "آنيتهما" فاعل بالجارّ والمجرور؛ لاعتماده على مسند إليه، أو "من فضّة" خبر مقدّم، و"آنيتهما" مبتدأ ¬

_ (¬1) راجع "شرح ابن عقيل على الخلاصة" 1/ 138.

مؤخّر، والجملة خبر "جنّتان"، وكذلك إعراب قوله: (وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُما وَمَا فِيهِما) وفي رواية حماد بن سلمة عن ثابت البنانيّ، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه، قال حماد: لا أعلمه إِلَّا قد رفعه قال: "جنتان من ذهب للمقربين، ومن دونهما جنتان من ورِقٍ لأصحاب اليمين"، أخرجه الطّبريّ، وابن أبي حاتم، ورجاله ثقات. قال الحافظ: وفي رَدّ على ما حكيته عن التّرمذيّ الحكيم أن المراد بقوله تعالى: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} الدنوّ، لا أنهما دون الجنتين المذكورين قبلهما، وصرح جماعة بأن الأوليين أفضل من الأخريين، وعكس بعض المفسرين، والحديث حجة للأولين. قال الطّبريّ: اختُلف في قوله: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} فقال بعضهم: معناه في الدرجة، وقال آخرون: معناه في الفضل. وقوله: "جنتان" إشارة إلى قوله تعالى: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ}، وتفسير له. [فإن قلت]: هذا يدلّ على أن الجنتين من ذهب لا فضّة فيهما، وبالعكس، ويعارضه حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قلنا: يا رسول الله حَدَّثنا عن الجنَّة ما بناؤها؟ قال: لبنة من ذهب، ولبنة من فضة ... " الحديث، أخرجه أحمد، والترمذيّ، وصححه ابن حبّان، وله شاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما، أخرجه الطبرانيّ، وسنده حسن، وآخر عن أبي سعيد له، أخرجه البزار، ولفظه: "خَلَقَ الله الجنَّة لبنةً من ذهب، ولبنة من فضة ... " الحديث. [وأجيب]: بأنه يُجمَع بأن الأوّل صفة ما في كلّ جنة من آنية وغيرها، والثّاني صفة حوائط الجنان كلها، ويؤيده أنه وقع عند البيهقي في "البعث" في حديث أبي سعيد -رضي الله عنه-: "إن الله أحاط حائط الجنَّة لبنةً من ذهب، ولبنة من فضة" (¬1). والله تعالى أعلم بالصواب. (وَمَا) نافية (بَيْنَ الْقَوْمِ) أي أهل الجنّة (وَبَين أَنْ يَنْظروا إِلَى رَبِّهِمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 13/ 533 "كتاب التوحيد" رقم الحديث - (7434 - 7447).

إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ) قال السنديّ: الظّاهر أن المراد برداء الكبرياء نفس صفة الكبرياء على أن الإضافة بيانيّة، وهذا هو الموافق لحديث: "الكبرياء ردائي" (¬1)، وحينئذ لا يخفى أن ظاهر هذا الحديث يفيد أنهم لا يرونه تعالى، فإنّه إذا كان رداء الكبرياء مانعًا عن نظر أهل جنّة عدن، فكيف غيرهم؟، وصفة الكبرياء من لوازم ذاته تعالى، لا يمكن زوالها عنه، فيدوم المنع بدوامها، إِلَّا أن يقال: هي مانعة عن دوام النظر، لا عن أصل النظر، على أن معنى قوله: "وبين أن ينظروا" أي وبين أن يُديموا، فلولا هي لدام نظرهم، وذلك لأن المنع من مقتضيات المعاملة بهذه الصِّفَة، وهي غير لازمة، وبهذا صارت صفة الكبرياء مانعةً عن دوام النظر، دون أصله، فليُتأمّل. ويمكن أن يقال: المراد برداء الكبرياء هو المعاملة بمقتضاها، لا نفس صفة الكبرياء، كما هو مقتضى الإضافة؛ إذ الأصل التغاير، لا التباين، وهو المناسب بالتعبير بالرداء، بناءً على أن الرداء عادةً لا يلزم اللابس لزوم الإزار، وحينيذ، فرداء الكبرياء، وإن كان مانعًا من أصل النظر، لكنه غير لازم، فيمكن النظر، وعلى الوجهين فالحديث مسوقٌ لإفادة كمال قرب أهل جنّة عدن منه تعالى. انتهى (¬2). وقال المازريّ: كان النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- يخاطب العرب بما تَفْهَم، ويُخرِج لهم الأشياء المعنوية إلى الحس؛ ليُقَرِّب تناولهم لها، فعبر عن زوال الموانع ورفعه عن الأبصار بذلك. وقال عياض: كانت العرب تستعمل الاستعارة كثيرًا، وهو أرفع أدوات بديع فصاحتها وإيجازها، ومنه قوله تعالى: {جَنَاحَ الذُّلِّ}، فمخاطبة النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- برداء ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2620) من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما، قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: العز إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذبته. وأخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه من طريق الأغر أبي مسلم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- ولفظه: قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النّار". (¬2) "شرح السنديّ" 1/ 121.

الكبرياء على وجهه، ونحو ذلك من هذا المعنى، ومن لم يفهم ذلك تاه، فمن أجرى الكلام على ظاهره، أفضى به إلي مر إلى التجسيم، ومن لم يتضح له، وعَلِم أن الله مُنَزَّهٌ عن الّذي يقتضيه ظاهرها، إمّا أن يُكَذِّب نقلتها، وإما أن يؤولها، كأن يقول: استعار لعظيم سلطان الله وكبريائه وعظمته وهيبته وجلاله المانعِ إدراكَ أبصار البشر مع ضعفها لذلك رداءَ الكبرياء، فإذا شاء تقوية أبصارهم وقلوبهم كشف عنهم حجاب هيبته، وموانع عظمته. انتهى ملخصًا. وقال الطيبي: قوله: "على وجهه" حال من "رداء الكبرياء". وقال الكرماني: هذا الحديث من المتشابهات، فإما مُفَوَّضٌ، وإما مُتَأَوَّلٌ بأن المراد بالوجه الذات، والرداء صفة من صفة الذات اللازمة المنزهة عما يشبه المخلوقات. قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "متأول بأن المراد بالوجه الذات" هذا التّأويل خطأ، والصواب إجراء النصّ على ظاهره على الوجه اللائق بالله عز وجل، فمن فعل ذلك فقد سلك جادّة أهل السنة والجماعة، ولا يستلزم ذلك النقص ولا التشبيه، وأيضًا فلو جاء التشبيه من إثبات الوجه، للزم في إثبات الذات الّتي أول إليها؛ إذ لا فرق بينهما، فالواجب إثبات الوجه على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، كثبوت الذات له من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف، ولا تعطيل، فهذا هو الباب المطّرد الواسع في باب الأسماء والصفات، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، فإنّه حجة البليد، ومستمسك العنيد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. ثمّ استشكل الكرمانيّ ظاهره بأنه يقتضي أن رؤية الله غير واقعة. وأجاب بأن مفهومه بيان قرب النظر؛ إذ رداء الكبرياء لا يكون مانعًا من الرؤية، فعَبَّر عن زوال المانع عن الإبصار بإزالة المراد انتهى. وحاصله أن رداء الكبرياء مانع عن الرؤية، فكأن في الكلام حذفًا تقديره بعد قوله: "إِلَّا رداء الكبرياء"، فإنّه يَمُنّ عليهم برفعه، فيحصل لهم الفوز بالنظر إليه، فكأنّ المراد أن المؤمنين إذا تبوؤا مقاعدهم من الجنَّة؛ لولا ما عندهم من هيبة ذي الجلال، لمَا

حال بينهم وبين الرؤية حائل، فإذا أراد إكرامهم حَقّهم برأفته، وتفضل عليهم بتقويتهم على النظر إليه -عَزَّ وَجَلَّ-. قال الحافظ رحمه الله بعد ذكر ما تقدّم: ثمّ وجدت في حديث صهيب -رضي الله عنه- في تفسير قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] ما يدلُّ على أن المراد برداء الكبرياء حديث أبي موسى -رحمه الله- الحجاب المذكور حديث صهيب -رضي الله عنه- يعني الحديث الآتي بعد هذا - وأنه سبحانه يكشف لأهل الجنَّة إكرامًا لهم. وقال القرطبي في "المفهم": الرداء استعارة كَنَى بها عن العظمة، كما في الحديث الآخر. "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري"، وليس المراد الثِّياب المحسوسة، لكن المناسبة أن الرداء والإزار لما كانا متلازمين للمخاطب من العرب، عَبّر عن العظمة والكبرياء بهما. ومعنى حديث الباب أن مقتضى عزة الله واستغنائه أن لا يراه أحد لكن رحمته للمؤمنين اقتضت أن يريهم وجهه كمالا للنعمة فإذا زال المانع فعل معهم خلاف مقتضى الكبرياء فكأنه رفع عنهم حجابا كان يمنعهم. قال الجامع عفا الله عنه: دعوى القرطبي الاستعارة غير صحيحة، بل الحديث لا مجاز فيه، بل هو على حقيقته، على ما يليق بجلال الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وقد سبق تحقيق هذا غير مرّة، والله تعالى وليّ التوفيق. ونقل الطّبريّ عن عليّ -رضي الله عنه- وغيره في قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} قال: هو النظر إلى وجه الله. (في جَنَّةِ عَدْنٍ) راجع إلى القوم، قاله في "الفتح"، فهو متعلِّق بحال من ضمير "ينظرون"، قاله السنديِّ، وقال عياض: معناه راجع إلى الناظرين، أي وهم في جنة عدن، لا إلى الله، فإنّه لا تحويه الأمكنة سبحانه. وقال القرطبي: يتعلّق بمحذوف في موضع الحال من "القوم"، مثل كائنين "في جنة عدن".

وقال الطيبي: قوله: "في جنة عدن" متعلّق بمعنى الاستقرار في الظرف، فيفيد بالمفهوم انتفاء هذا الحصر في غير الجنَّة، وإليه أشار التوربشتي بقوله: يشير إلى أن المؤمن إذا تبوأ مقعده، والحجب مرتفعة، والموانع الّتي تحجب عن النظر إلى ربه مُضْمَحِلَّة إِلَّا ما يصدهم من الهيبة، كما قيل: أَشْتَاقُهُ فَإِذَا بَدَا ... أَطْرَقْتُ مِنْ إِجْلَالِه فإذا حَفّهم برأفته ورحمته، رفع ذلك عنهم تفضلًا منه عليهم (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبو موسى الأشعريّ -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 186) بهذا السند فقط، وأخرجه (البخاريُّ) (6/ 181 و 9/ 162) و (مسلم) (1/ 112) و (التِّرمذيِّ) رقم (2528) و (الطيالسيّ) في "مسنده" (529) و (أحمد) في "مسنده" (4/ 411 و 416) و (عبد بن حميد) في "مسنده" (545) و (الدارميّ) في "سننه" (282) و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة" رقم (613) و (الدولابيّ) في "الكنى" (2/ 71) و (ابن منده) (780) و (اللالكائي) (831) و (البيهقي) في "الاعتقاد" (130) وفي "الأسماء والصفات" (302) و (البغويّ) في "شرح السنة" (4379)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو إثبات ما أنكرته الجهميّة من صفات الله تعالى، وهي رؤية الله تعالى في الآخرة، وصفة رداء الكبرياء، وصفة ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 13/ 531 - 535.

الوجه أيضًا على ما يليق بجلاله -صلى الله عليه وسلم-. 2 - (ومنها): إثبات وجود الجنَّة، وأنها مخلوقة الآن. 3 - (ومنها): إثبات تفاوت الجنَّة فيما بين درجاتها؛ إذ بعضها من الذهب، وبعضها من الفضّة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 187 - (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا حَجَّاج، حَدَّثَنَا حَمَّاد، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: تَلَا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- هَذِهِ الْآيَةَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، وَقَالَ: "إِذَا دَخَل أَهْلُ الجنَّةِ الجنّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، نَادَى مُنَادٍ يَا أَهْلَ الجنَّةِ، إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ الله مَوْعِدًا، يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ، فَيَقُولُونَ: وَمَا هُوَ؟ أَلَمْ يُثَقِّلِ الله مَوَازِينَنَا؟ وَيُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ وَيُدْخِلْنَا الْجنّةَ؟ وَيُنْجِنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الحجَابَ، فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَوَالله مَا أَعَطَاهُمُ الله شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ يَعْنِي إِلَيْهِ - وَلَا أَقرَّ لِأَعْيُنِهِمْ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ مُحَمَّدٍ) بن عبد الكبير بن شُعيب بن الحبحاب، أبو بكر الحبحابي المِعْولي العطار البصري، صدوق [11]. رَوَى عن أبيه، وعمه صالح، وعبد الله بن داود الخُرَيبي، وبشر بن عمر الزهراني، وحجاج بن منهال، وداود بن شبيب، وغيرهم. ورَوى عنه البخاريّ، والترمذي، والنَّسائيّ، وابن ماجه، وأحمد بن منصور الرمادي، وأبو حاتم، وعبدان الأهوازي، وأبو بكر بن أبي الدنيا، وغيرهم. قال ابن أبي حاتم: سمع منه أبي في الرحلة الثّالثة، وسئل عنه، فقال: صدوق، وقال النَّسائيُّ: ثقة، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال مسلمة: لا بأس به، وفي

"الزهرة": روى عنه البخاريّ أربعة أحاديث، انتهى (¬1). وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث برقم (187) و (1314) و (1511). 2 - (حَجَّاج) بن المنهال الأنماطيّ، أبو محمّد السَّلَميّ، وقيل: البرساني مولاهم البصريّ، ثقة فاضلٌ [9]. رَوَى عن جرير بن حازم، والحمادين، وشعبة، وعبد العزيز الماجشون، وهمام، ويزيد بن إبراهيم التستري، وغيرهم. وعنه البخاريّ، وَرَوَى له الباقون بواسطة الدارمي، وبندار، وأبو موسى، وصاعقة، والخلال، والذهلي، وعبد بن حميد، وإسحاق الكوسج، وعبد القدوس الحبحابي، وغيرهم. قال أحمد: ثقة، ما أرى به بأسًا، وقال أبو حاتم: ثقة فاضل، وقال العجلي: ثقة، رجل صالح، وقال النَّسائيُّ: ثقة، وقال خلف بن محمّد كردوس: مات سنة (216) وكان صاحب سنة يُظهرها، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، مات في شوال سنة (217) وكذا أرخه البخاريّ، وابن قانع، وقال: ثقة مأمون، وقال الفلاس: ما رأيت مثله فضلًا ودينًا، وقال أبو داود: إذا اختلفا فعفان وحجاج أفضل الرجلين، وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال ابن منده: ثنا علي بن الحسن، أبو حاتم، ثنا حجاج بن المنهال، وكان من خيار النَّاس. روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث برقم (187) و (460) و (656) و (2150) و (2200) و (2217). 3 - (حَمَّادٌ) بن سلمة البصريّ أبو سلمة ثقة عابدٌ أثبت النَّاس في ثابت، من كبار [8] تقدّم في 14/ 116. 4 - (ثَابِتٌ الْبُنَانِيِّ) ابن أسلم أبو محمّد البصريّ، ثقة عابدٌ [4] تقدّم في ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" 2/ 600. و"التقريب" ص 217.

14/ 151. 5 - (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى) يسار الأنصاريّ المدنيّ، ثمّ الكوفيّ، ثقة [2] 3/ 25. 6 - (صُهَيْبٌ) بن سِنَان بن مالك، ويقال: خالد بن عبد عمرو بن عُقيل، ويقال: طُفيل بن عامر بن جندلة بن سعد بن خُزيمة بن كعب بن سعد بن أسلم بن أوس بن زيد مناة بن النمر بن قاسط النمريّ، أبو يحيى، وقيل: أبو غَسَّان النَّمَريُّ المعروف بالرُّوميّ، أصله من النِّمِر بن قاسط سَبَتْهُ الروم من نِينوَى، وزعم عُمارة بن وَثِيمة أن اسمه عبد الملك، وقال ابن سعد: كان أبوه أو عمه عاملًا لكسرى على الأُبُلَّة، فسبت الروم صُهيبًا، وهو غلام، فنشأ بينهم فابتاعه كلب منهم، فاشتراه عبد الله بن جُدْعان التيمي منهم، فأعتقه، ويقال: بل هَرَب صهيب من الروم إلى مكّة، فحالف عبد الله بن جُدعان، وأسلم قديمًا، وهاجر، فأدرك النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- بقباء، وشَهِد بدرًا والمشاهد بعدها، وروى عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وعن عمر وعلي -رضي الله عنهما-، وعنه بنوه: حبيب، وحمزة، وسعد، وصالح، وصيفي، وعباد، وعثمان، ومحمد، وابن عمر، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وإبراهيم ابن عبد الرّحمن بن عوف، وأسلم مولى عمر، وعبد الرّحمن بن أبي ليلى، وكعب الأحبار، وسعيد بن المسيَّب، وشعيب بن عمرو بن سليم، وابن ابنه زياد بن صيفي بن صهيب. وغيرهم، قال ابن سعد: مات بالمدينة في شوال سنة ثمان وثلاثين، وقيل: بلغ (73) سنة، وقال يعقوب بن سفيان: وهو ابن (84) سنة، وصلّى عليه سعد بن أبي وقّاص، وقال أبو زكريا الموصلي في "الطبقات": كان من المستضعفين بمكة، والمعذبين في الله، أسلم بعد بضعة وثلاثين رجلًا، وقال أنس: قال النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "صهيب سبق الروم"، وقيل: فيه نزلت: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207]، وإليه أوصى عمر أن يصلّي بالناس، حتّى يجتمع أهل

الشورى على رجل (¬1). روى له الجماعة، وله أحاديث، منها عند البخاريّ حديث، وعند مسلم ثلاثة أحاديث، وعند المصنّف في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط برقم (187) و (2289) و (2410) و (3443) و (3625) و (3738). والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سُداسيات المصنّف. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصّحيح. 3 - (ومنها) أنه مسلسل بالبصريين إلى عبد الرّحمن، فمدنيّ، ثمّ كوفيّ، وصهيب -رضي الله عنه- فمدنيّ. 4 - (ومنها): أن حماد بن سلمة أثبت من روى عن ثابت. 5 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: ثابت عن ابن أبي ليلى. 7 - (ومنها): أن شيخه، وحجاجًا، وصهيبًا هذا أول محلّ ذكرهم في الكتاب، وقد ذكرت ما لكل واحد من الحديث فيه آنفًا، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَن صُهَيْبٍ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: تَلَا رَسُول الله - صلّى الله عليه وسلم - هَذِهِ الآيةَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، وَقَالَ) ظاهر هذه الرِّواية أنه قرأ الآية أوّلًا، ويخالفه ما في مسلم، ولفظه: أن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - قال: "إذا دخل أهل الجنَّة الجنَّة يقول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تُبَيِّض وجوهنا، وتدخلنا الجنَّة؟ قال: فيكشف لهم الحجاب، فما أُعطوا شيئًا أحب إليهم منه"، ثمّ تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، إذ هو ظاهر في أنه أخّر قراءة الآية، لكن لا تعارض بينهما؛ لأن ¬

_ (¬1) "الإصابة" 3/ 364 - 366 و"تهذيب الكمال" 13/ 237 - 240 و"تهذيب التهذيب" 2/ 218.

الواو في رواية المصنّف لا ترتّب، فتُحمل على رواية مسلم بـ "ثُمّ"، فتأمل. ثمّ إن تفسير الآية الكريمة بهذا الحديث هو الصّحيح، وقد فُسّرت بما هو أعمّ، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في "تفسيره": يُخبر تعالى أن لمن أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح الحسنى في الدَّار الآخرة، كقوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]، وقوله تعالى: {وَزِيَادَةٌ} هي تضعيف ثواب الأعمال بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وزيادة على ذلك أيضًا، ويشمل ما يُعطيهم الله في الجنان من القصور والحور والرضا عنهم، وما أخفاه لهم من قرة أعين، وأفضل من ذلك وأعلاه النظر إلى وجهه الكريم، فإنّه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه، لا يستحقونها بعملهم بل بفضله ورحمته، وقد روي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجهه الكريم عن أبي بكر الصديق، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عبّاس، وسعيد بن المسيَّب، وعبد الرّحمن بن أبي ليلى، وعبد الرّحمن ابن سابط، ومجاهد، وعكرمة، وعامر بن سعد، وعطاء، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسُّدّيّ، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم من السلف والخلف، وقد وردت فيه أحاديث كثيرة عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ثمّ أورد حديث صهيب -رضي الله عنه- من رواية الإمام أحمد، ثمّ قال: وهكذا رواه مسلم، وجماعة من الأئمة من حديث حماد بن سلمة به. وقال ابن جرير: حدثني يونس، أَخْبَرَنَا ابن وهب، أَخْبَرَنَا شبيب، عن أبان، عن أبي تميمة الْهُجَيمي أنه سمع أبا موسى الأشعري -رضي الله عنه- يحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي يا أهل الجنَّة، بصوت يَسمع أولهم وآخرهم، إن الله وعدكم الحسنى وزيادة، فالحسنى الجنَّة، والزيادة النظر إلى وجه الرّحمن -عَزَّ وَجَلَّ-"، ورواه أيضًا ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر الُهذَلِيُّ، عن أبي تميمة الهجيمي به. وقال ابن جرير أيضًا: حَدَّثَنَا ابن حميد، حَدَّثَنَا إبراهيم بن المختار، عن ابن جريج، عن عطاء، عن كعب بن عُجرة -رضي الله عنه-، عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- في قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: "النظر إلى وجه الرّحمن -عَزَّ وَجَلَّ-".

وقال أيضًا: حَدَّثَنَا ابن عبد الرحيم، حَدَّثَنَا عمر بن أبي سلمة، سمعت زهيرًا، عمن سمع أبا العالية، حَدَّثَنَا أُبي بن كعب أنه سأل رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، عن قول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: "الحسنى الجنَّة، والزيادة النظر إلى وجه الله -عَزَّ وَجَلَّ-"، ورواه ابن أبي حاتم أيضًا من حديث زهير به. انتهى (¬1). ("إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الجنَّةِ الجُنّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، نَادَى مُنَادٍ) أي ملك بأمر الله -عَزَّ وَجَلَّ- (يَا أَهْلَ الجنَّةِ) أي يقول: "يا أهل الجنَّة"، فهو تفسير للنداء (إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ الله مَوْعِدًا، يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ) بضمّ أوله من الإنجاز، وهو الإيفاء، أي يُوفِيكم، ويعطيكم إياه (فَيَقُولُونَ: وَمَا هُوَ؟ أَلمْ يُثَقِّل اللهُّ مَوَازِينَنَا؟) من التثقيل، وفيه إشارة إلى أنهم ينسون الوعد بالرؤية، وأن الله تعالى يُزيل عن قلوبهم الحرص، ويُعطيهم ما لا يَطمعون المزيد عليه، ويُرضيهم بفضله (¬2). وقال القرطبيّ: قوله: "ألم يُبَيِّضْ وجوهنا إلخ" هذا لا يليق بمن مات على كمال المعرفة والمحبّة والشوق، وإنّما يليق ذلك بمن مات بين الخوف والرجاء، فلما حصل على الأمن من المخوف، والظفَر بالمرجوّ الّذي كان تشوّق إليه قَنِعَ به، ولَهَا عن غيره، وأما من مات محبًّا لله، مشتاقا لرؤيته، فلا يكون همّه إِلَّا طلب النظر لوجهه الكريم لا غيرُ، ويدلُّ على صحّة ما قلته أن المرْء يُحشر على ما يموت عليه، كما عُلم من الشّريعة، بل أقول: إن من مات مشتاقًا لرؤية الله تعالى لا يُنبَّه بالسؤال، بل يُعطيه أمنيّته ذو الفضل والإفضال، ومذهب أهل السنة بأجمعهم أن الله تعالى ينظر إليه المؤمنون في الآخرة بأبصارهم، كما نطق بذلك الكتاب، وأجمع عليه سلف الأمة، ورواه بضعة عشر من الصّحابة -رضي الله عنهم- عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ومنع ذلك فِرَقٌ من المبتدعة، منهم المعتزلة، والخوارج، وبعض المرجئة؛ بناءً منهم على أن الرؤية يلزمها شروط اعتقدوها عقليّة، كاشتراط ¬

_ (¬1) "تفسير ابن كثير" ص 638. (¬2) "شرح السنديّ" 1/ 122.

البنية المخصوصة والمقابلة، واتّصال الأشعّة، وزوال المانع من القرب المفرط، والْبُعد المفرط، والحُجُب الحائلة، في خَبْط لهم وتحكّم، وأهلُ الحقّ لا يشترطون شيئًا من ذلك عقلًا سوى وجود المرئيّ، وأن الرؤية إدراك يخلقه الله تعالى للرائي، فيرى المرئيّ، لكن يقترن بالرؤية بحكم العادة أحوال يجوز في العقل شرعًا تبدّلها. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله (¬1). قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "لا يليق بمن مات إلخ" فيه نظر لا يخفى؛ لأن نصّ الحديث مطلق، لم يفرّق بين طائفة، وطائفة، وأيضًا استدلاله على ذلك بأن من مات يُحشر إلخ محلّ نظر أيضًا؛ لأن الكلام ليس في الحشر، وإنما هو بعد دخول الجنَّة، والاستقرار فيها، فتأمله بإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب. (وَيُبَيِّضْ) من التبييض (وُجُوهَنَا؟ وَيُدْخِلْنَا) بضم أوله، من الإدخال (الجَنَّةَ؟ وَيُنْجِنَا) من الإنجاء، أو من التنجية، قال السنديّ رحمه الله: وفي بعض النسخ: "وينجينا" بإثبات الياء، كما في الترمذيّ، مع أنه معطوف على المجزوم، إمّا للإشباع، أو للتنزيل منزلة الصّحيح. انتهى (¬2) (مِنَ النَّارِ؟ قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (فَيَكْشِفُ الحجَابَ) أي يزيله، ويرفعه، والظاهر أنه رداء الكبرياء الّذي تقدّم في حديث أبي موسى الأشعريّ -رضي الله عنه-، وقال السنديّ: لا تعارض بين الأحاديث الّتي وردت في الرؤية مختلفةً في الكيفيّة؛ لكونها تكون مرات متعدّدةً. انتهى (فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ) أي إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- (فَوَالله مَا أَعَطَاهُمُ الله شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ -يَعْنِي إِلَيْهِ-) العناية من بعض الرواة، وَلم يتبيّن لي من هو؟، ولفظ مسلم: "فما أُعطوا شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إلى ربّهم" (وَلَا أَقرَّ لِأَعْيُنِهِمْ") و"أُقَرّ" من قرّت عينه تَقِرّ -بفتح القاف، وكسرها، من بابي عَلِمَ، وتَعِبَ-. قال في "القاموس": وقرّت عينه تَقَرُّ بالكسر والفتح قَرَّةً -بالفتح- وتُضمّ، ¬

_ (¬1) "المفهم" 1/ 413 - 414. (¬2) "شرح السنديّ" 1/ 122.

وقُرُورًا: بَرَدَت، وانقطع بكاؤها، أو رأت ما كانت متشوّفةً إليه. انتهى (¬1). وقال في "اللسان": واختلفوا في اشتقاق ذلك، فقال بعضهم: معناه بَرَدَت، وانقطع بكاؤها، واستحرارها بالدمع، فإن للسرور دَمْعَةً باردةً، وللحزن دَمعةً حازة، وقيل: من الْقَرَار، أي رأت ما كانت متشوّفةً إليه، فقرّت ونامت، وأقرّ الله عينه وبعينه، وقيل: أعطاه حتّى تقرّ، فلا تطمح إلى من هو فوقه. وقيل: أَقرّ الله عينه مشتقّ من الْقَرُور، وهو الماء البارد، وقيل: أقرّ الله عينك، أي صادفت ما يُرضيك، فتقرّ عينك من النظر إلى غيره، وقيل: أقرّ الله عينه أنام الله عينه، والمعنى صادف سُرورًا، يُذهب سَهَره، فينام. انتهى (¬2). والله تعالى أعلم بالصواب. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث صهيب -رضي الله عنه- هذا أخرجه مسلم. (المسألة الثّانية): في الكلام على هذا الحديث: هذا الحديث هكذا رواه المصنِّف، ومسلم في "صحيحه"، والترمذي في "جامعه"، وغيرهم من رواية حماد بن سلمة، عن ثابت، عن ابن أبي ليلى، عن صهيب -رضي الله عنه-، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، قال أبو عيسى الترمذيّ، وأبو مسعود الدمشقيّ، وغيرهما: لم يروه هكذا مرفوعًا عن ثابت غير حماد بن سلمة، ورواه سليمان بن المغيرة، وحماد بن زيد، وحماد بن واقد، عن ثابت، عن ابن أبي ليلى من قوله، ليس فيه ذكرُ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ولا ذكرُ صهيب -رضي الله عنه-. قال النوويّ رحمه الله في "شرح مسلم": وهذا الّذي قاله هؤلاء ليس بقادح في صحّة الحديث، فقد قدّمنا في الفصول أن المذهب الصّحيح المختار الّذي ذهب إليه ¬

_ (¬1) "القاموس المحيط" ص 415. (¬2) "لسان العرب" 5/ 86.

الفقهاء، وأصحاب الأصول، والمحقّقون من المحدّثين، وصححه الخطيب البغداديّ أن الحديث إذا رواه بعض الثقات متّصلًا، وبعضهم مرسلًا، أو بعضهم مرفوعًا، وبعضهم موقوفًا حُكم بالمتّصل وبالمرفوع؛ لأنهما زيادة ثقة، وهي مقبولة عند الجماهير من كلّ الطَّوائف. انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله عنه: هذا الّذي قاله النوويّ رحمه الله من إطلاقه القول بقبول زيادة الثقة مطلقًا، وكذا الحكم للموصول والمرفوع على الإطلاق، ليس هو المختار عند المحَقِّقين من المحدّثين، بل المختار عندهم أن القبول يدور مع القرائن، فإن قامت قرينة لترجيح الوصل والرفع على ضدّهما حكم به، وإلا فلا، وكذا القول في زيادة الثقة، وقد ذكرت تحقيق ذلك في "شرح مقدمة مسلم"، فراجعه تستفد. ثمّ إن ما قاله النووي من الترجيح هنا مقبول؛ لأن الّذي وصله هو حماد بن سلمة، وهو مقدّم في ثابت على غيره، فترجّح روايته. قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في "شرح علل الترمذيّ" في ذكر طبقات أصحاب ثابت البنانيّ: الطبقة الأولى الثقات، كشعبة، وحماد بن زيد، وسليمان بن المغيرة، وحماد بن سلمة، ومعمر، وأثبت هؤلاء كلهم في ثابت حماد بن سلمة، كذا قال أحمد في رواية ابن هانىء: ما أحدٌ روى عن ثابت أثبتُ من حماد بن سلمة. وقال ابن معين: حماد بن سلمة أثبت النَّاس في ثابت البنانيّ، وقال أيضًا: حماد بن سلمة أعلم النَّاس بثابت، ومن خالف حماد بن سلمة في ثابت فالقول قول حماد. وقال ابن المدينيّ: لم يكن في أصحاب ثابت أثبت من حماد بن سلمة، ثمّ من بعده سليمان بن المغيرة، ثمّ من بعده حماد بن زيد، وهي صحاح، يعني أن أحاديث هؤلاء الثّلاثة عن ثابت. وقال أبو حاتم الرازيّ: حماد بن سلمة في ثابت وعليّ بن زيد أحبّ إليّ من همّام، وهو أحفظ النَّاس، وأعلم النَّاس بحديثهما، بَيّن خطأ النَّاس، يعني أن من ¬

_ (¬1) "شرح صحيح مسلم" للنووي 3/ 17.

خالف حمادًا في حديث ثابت وعليّ بن زيد قُدِّم قول حماد عليه، وحُكم بالخطأ على مخالفه. وحَكَى مسلم في "كتاب التمييز" إجماع أهل المعرفة على أن حماد بن سلمة أثبت النَّاس في ثابت، وحَكى ذلك عن يحيى القطان، وابن معين، وأحمد، وغيرهم من أهل المعرفة. وقال الدارقطنيّ: حماد بن سلمة أثبت النَّاس في ثابت. انتهى ما ذكره ابن رجب رحمه الله تعالى (¬1). قلت: فتبيّن بهذا أن رواية حماد بن سلمة بالوصل والرفع هي الراجحة، ولذلك أودعها الإمام مسلم رحمه الله في "صحيحه"، والله تعالى أعلم بالصواب. (المسألة الثّالثة): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 187) بهذا السند فقط، وأخرجه (مسلم) (1121) رقم (448 و 449) و (الترمذيّ) رقم (2552) و (3105) و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده" رقم (1415) و (أحمد) في "مسنده" (4/ 332 و 6/ 15) و (هناد بن السريّ) في "الزهد" (171) و (ابن أبي عاصم) في "السنة" (472) و (عبد الله بن أحمد) في "السنّة". (271) و (الطّبريّ) في "التفسير" (17626) و (أبو عوانة) في "صحيحه" 1/ 156 و (الطبرانيّ) في "الكبير" (7314 و 7315) و (ابن منده) (782 و 784 و 786 و 875 و (اللالكائيّ) (778 و 833) و (البيهقيّ) في "البعث والنشور" (446) و"الاعتقاد" (124) وفي "الأسماء والصفات" (307) و (البغويّ) في "شرح السنة" (4393)، والله تعالى أعلم. (المسألة الرّابعة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان ما أنكرته الجهميّة من الصفات، فقد بين الحديث رؤية المؤمنين لله -عَزَّ وَجَلَّ- في الجنَّة. ¬

_ (¬1) راجع "شرح علل الترمذيّ" لابن رجب 2/ 499 - 500.

2 - (ومنها): بيان المراد من {الْحُسْنَى} والزيادة في هذه الآية الكريمة، وهو أولى ما فُسّرت به. 3 - (ومنها): إكرم الله -عَزَّ وَجَلَّ- عباده المؤمنين بندائهم لإنجاز موعده لهم. 4 - (ومنها): أن النظر إلى وجهه الكريم أعظم ما يُعطاه العبد من نعيم الجنَّة، فكلّ نعم الجنَّة دونه، اللَّهُمَّ اجعلنا ممّن تُعطيه النظر إلى وجهك الكريم في جنات النعيم آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 188 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتِ: الحَمْدُ لله الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَأَنَا في نَاحِيَةِ الْبَيْتِ تَشْكُو زَوْجَهَا، وَمَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، فَأَنَزَلَ الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا} [المجادلة: 1]). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (عِليٌّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطَّنافسيّ الكوفيّ ثقة عابد [10] 9/ 57. 2 - (أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمّد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة أحفظ النَّاس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، من كبار [9] 1/ 3. 3 - (الْأَعْمَشُ) سليمان بن مهران، أبو محمّد الكاهليّ مولاهم الكوفيّ، ثقة حافظ ورع يدلّس [5] 1/ 1. 4 - (تَميمُ بْنُ سَلَمَةَ) السلميّ الكوفيّ، ثقة [3]. رَوَى عن سليمان بن صُرَد، وشُرَيح بن الحارث القاضي، وعبد الرّحمن بن هلال العبسي. ورَوَى عنه الأعمش، ومنصور، وطلحة بن مُصَرِّف، وأبو صَخْرة جامع بن شداد، وجماعة. قال ابن معين والنَّسائيّ: ثقة. وقال ابن أبي عاصم وغيره: مات سنة (100)

وكذا قال ابن سعد، قال: وكان ثقة، وله أحاديث. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وفَرّق بينه وبين تميم بن سَلَمة الخزاعي، روى عن جابر بن سَمُرة، وعنه المسيَّب بن رافع، قال: وهو الّذي روى عن عروة بن الزبير. رَوَى له البخاريّ في التعاليق، ومسلم، وأبو داود، والنَّسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط هذا الحديث (188) وأعاده برقم (2063) و (3687) حديثا جرير بن عبد الله البجليّ -رضي الله عنه-، مرفوعًا. مرفوعًا: "من يُحْرَم الرفقَ يُحْرَم الخير". 5 - (عُرْوَةُ بنُ الزُبَيْرِ) بن العوّام الأسديّ، ثقة فقيه مشهور [3] 2/ 15. 6 - (عَائِشَةُ) أم المؤمنين 1/ 14، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيّات المصنِّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصّحيح، غير شيخه، وهو ثقة. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين إلى تميم، والباقيان مدنيان. 4 - (ومنها): أن فيه روايةَ ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض: الأعمشُ عن تميم، عن عروة. 5 - (ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. 6 - (ومنها): أن فيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وقد روى عن خالته، وهو أحفظ وأكثر من روى عنها. 7 - (ومنها): أن أبا معاوية أحفظ من روى عن الأعمش بعد الثوريّ، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَائِشَةَ)، أنها (قَالَتِ: الحَمْدُ لله الَّذِي وَسِعَ) بكسر السين المهملة، كسمِعَ (سَمْعُهُ) بالرفع على الفاعليّة (الْأَصْوَاتَ) بالنصب على المفعوليّة، وفي الرِّواية الآتية في

"الطّلاق" (2063) من طريق محمّد بن أبي عبيدة، عن أبيه، عن الأعمش: "تبارك الّذي وسع سمعه كلّ شيء"، أي يسمع كلّ الأصوات، وأحاط سمعه بالأصوات كلها، فلا يخفى عليه شيءٌ منها في الأرض ولا في السَّماء، جهر به المتكلّم، أو أسرّ، وهذا من عائشة رضي الله عنها ثناء على الله تعالى حين ظهر عندها آثار سعة سمعه، وهذا لا يدلّ على أنها كانت ليست عالمة بذلك قبلُ حتّى يقال: كيف خفي على مثلها هذا الأمر؟. قاله السنديّ (¬1) (لَقَدْ جَاءَتِ المُجَادِلَةُ) بكسر الدال، أي المرأة الّتي تجادل في مظاهرة زوجها لها، وهي خولة بنت ثعلبة، كما في الرِّواية الآية: "إنِّي لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويَخفَى علي بعضه إِلَى النَّبِيِّ - صلّى الله عليه وسلم -. أخرج قصّتها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" بطولها (26056): حَدَّثَنَا سعد ابن إبراهيم، ويعقوب قالا: حَدَّثَنَا أبي، قال: حَدَّثَنَا محمّد بن إسحاق، قال: حدثني معمر بن عبد الله بن حنظلة، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن خولة بنت ثعلبة، قالت: والله فِيَّ وفي أوس بن صامت أنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- صدر سورة المجادلة، قالت: كنت عنده وكان شيخًا كبيرًا، قد ساء خلقه وضَجِرَ، قالت: فدخل عليّ يومًا، فراجعته بشيء فغضب، فقال: أنت علي كظهر أمي، قالت: ثمّ خرج فجلس في نادي قومه ساعةً، ثمّ دخل عليّ، فإذا هو يريدني على نفسي، قالت: فقلت كلا والذي نفس خويلة بيده لا تخلص إلي، وقد قلت ما قلت، حتّى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه، قالت: فواثبني، وامتنعت منه، فغلبته بما تغلب به المرأة الشّيخ الضعيف، فألقيته عني، قالت: ثمّ خرجت إلى بعض جاراتي، فاستعرت منها ثيابها، ثمّ خرجت حتّى جئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجلست بين يديه، فذكرت له ما لقيت منه، فجعلت أشكو إليه -صلى الله عليه وسلم- ما ألقى من سوء خلقه، قالت: فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يا خويلة ابن عمك شيخ كبير، فاتقي الله فيه"، قالت: فوالله ما بَرَحت حتّى نزل فِيّ القرآن، فتغشى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما كان ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 122.

يتغشاه، ثمّ سُرِّي عنه، فقال لي: يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك، ثمّ قرأ عليّ: {قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1]، إلى قوله: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، فقال لي رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "مُرِيه فليُعتِق رقبةً"، قالت: فقلت: والله يا رسول الله ما عنده ما يُعتق، قال: "فليصم شهرين متتابعين"، قالت: فقلت: والله يا رسول الله إنّه شيخ كبير، ما به من صيام، قال: "فليطعم ستين مسكينا وسقًا من تمر"، قالت: قلت: والله يا رسول الله ما ذاك عنده، قالت: فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "فإنا سنعينه بعرق من تمر"، قالت: فقلت: وأنا يا رسول الله سأعينه بعرق آخر، قال: "قد أصبتِ، وأحسنت، فاذهبي فتصدقي عنه، ثمّ استوصي بابن عمك خيرًا"، قالت: ففعلت. والحديث، وإن تكلّم فيه بعضهم إِلَّا أنه صحيح، راجع ما كتبته على النَّسائيّ (¬1). (وَأَنا) جملة في محلّ نصب على الحال، أي والحال أنا جالسة (في نَاحِيَةِ الْبَيْتِ) أي في جانب من جوانب بيتها، قال في "المصباح": "الناحية": الجانب، فاعلةٌ بمعنى مفعولة؛ لأنك نَحَوْتهَا: أي قصدتها (¬2) (تَشْكُو زَوْجَهَا) جملة في محلّ نصب على الحال من "المجادلةُ" (وَمَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ) أي لعدم رفعها له، بل كانت تُسرّ به إلى النبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، ولا تريد أن يسمعه غيره (فَأَنزَلَ الله) -عَزَّ وَجَلَّ- {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] وفي الرِّواية المذكورة: "وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهي تقول: يا رسول الله أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتّى إذا كبرت سني، وانقطع ولدي ظاهر مني، اللَّهُمَّ إنِّي أشكو إليك، فما بَرِحت حتّى نزل جبرائيل بهؤلاء الآيات: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا} [المجادلة: 1]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. ¬

_ (¬1) "ذخيرة العقبي في شرح المجتبي" 29/ 69. (¬2) "المصباح المنير" 2/ 596.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عائشة هذا صحيح. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 188) بهذا السند وفي "كتاب الطّلاق" باب الظهار" (1/ 666) رقم (2063) وأخرجه النَّسائيُّ 6/ 168 و (أحمد) في "مسنده" (6/ 46) و (عبد بن حُميد) في "مسنده" (1514)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان ما أنكرته الجهمية من صفات الله تعالى، وهو صفة السميع، فقد أثبته الله -عَزَّ وَجَلَّ- بقوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} الآية، وأثبتته عائشة رضي الله تعالى عنها بقولها: "الحمد لله الّذي وسِع سمعه الأصوات". قال الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى في "كتاب التّوحيد" من "صحيحه": {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]. قال ابن بطّال رحمه الله: غرض البخاريّ رحمه الله في هذا الباب الردّ على من قال: إن معنى "سميع بصير" عليم، قال: ويلزم من قال ذلك أن يسويه بالأعمى الّذي يَعْلَم أن السَّماء خضراء ولا يراها، والأصم الّذي يَعلَم أن في النَّاس أصواتًا ولا يسمعها، ولا شك أن من سمع وأبصر أدخلُ في صفة الكمال ممّن انفرد بأحدهما دون الآخر، فصَحَّ أن كونه سميعًا بصيرًا يفيد قدرًا زائدًا على كونه عليمًا، وكونه سميعًا بصيرًا يتضمن أنه يسمع بسمع ويبصر ببصر، كما تضمن كونه عليمًا أنه يعلم بعلم، ولا فرق بين إثبات كونه سميعًا بصيرًا، وبين كونه ذا سمع وبصر، قال: وهذا قول أهل السنة قاطبة. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: واحتج المعتزلي بأن السمع يَنشَأ عن وصول الهواء المسموع إلى العصب المفروش في أصل الصماخ، والله مُنَزَّه عن الجوارح. وأجيب بأنها عادة أجراها الله تعالى فيمن يكون حيًّا، فيخلقه الله عند وصول الهواء إلى المحل المذكور، والله -عَزَّ وَجَلَّ- يسمع المسموعات بدون الوسائط، وكذا يرى المرئيّات بدون المقابلة، وخروج الشعاع، فذات الباري مع كونه حيًّا موجودًا لا تشبه الذوات، فكذلك صفات ذاته لا تُشبه الصفات. وقال البيهقي في "الأسماء والصفات": السميع مَنْ له سمع يُدرك به المسموعات، والبصير من له بصر يدرك به المرئيات، وكل منهما في حق الباري صفة قائمة بذاته، وقد أفادت الآية، وأحاديث الباب الرَّدِّ على من زعم أنه سميع بصير بمعنى عليم، ثمّ ساق حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- الّذي أخرجه أبو داود بسند قوي على شرط مسلم، من رواية أبي يونس، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: رأيت رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يقرؤها -يعني قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} - إلى قوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}، ويضع إصبعه، قال أبو يونس: وضع أبو هريرة إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه، قال البيهقي: وأراد بهذه الإشارة تحقيق إثبات السمع والبصر لله ببيان محلهما من الإنسان، يريد أن له سمعًا وبصرًا، لا أن المراد به العلم، فلو كان كذلك لأشار إلى القلب؛ لأنه محل العلم، ولم يُرد بذلك الجارحة، فإن الله تعالى مُنَزَّه عن مشابهة المخلوقين، ثمّ ذكر لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- شاهدًا من حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه-: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول على المنبر: "إن رَبَّنَا سميع بصير"، وأشار إلى عينيه، وسنده حسن. ذكره في "الفتح" (¬1). قلت: ولتمام البحث في الحديث راجع "شرح النَّسائيّ" في "باب الظهار"، تستفد 29/ 71 - 72. ¬

_ (¬1) "الفتح" 15/ 325 "كتاب التّوحيد".

2 - (ومنها): بيان رأفة الله تعالى بخلقه، حيث استجاب دعوة هذه المرأة المتضرّرة من جفاء زوجها لها بسبب الظهار، فأزال الله تعالى عنها ذلك بما شرعه من الكفّارة، فعاد إليها كما كان. 3 - (ومنها): بيان ما كان عليه النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - من سعة الخلق حيث يخلو بهذه المرأة، ويقضي حاجتها، فكان ذلك مصداق قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. 4 - (ومنها): جواز شكوى المرأة زوجها إلى الإمام أو غيره في إلحاق الضرر بها حتّى يُصلح بينهما، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 189 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "كتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ بِيَدِهِ، قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي". رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى) الذُّهْليّ النيسابوريّ الحافظ الحجة [11] 2/ 16. 2 - (صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى) الزهريّ، أبو محمّد البصريّ الْقَسَّامُ، ثقة [9]. رَوَى عن يزيد بن أبي عبيد، وعبيد الله بن سعيد بن أبي هند، ومحمد بن عجلان، وهشام بن حسان، وعبد الله بن هارون، وأبي نَعَامة عمرو بن عيسى العدوي، وهاشم ابن هاشم، وغيرهم. ورَوَى عنه أحمد، وإسحاق بن راهويه، وعليّ، وأبو بكر بن أبي شيبة، وبندار، وأبو موسى، وعباس بن عبد العظيم العنبري، وأحمد بن إبراهيم الدَّوْرقيّ، والذُّهلي، وأبو قُدَامة السرخسيّ، وعبد بن حميد، وغيرهم. قال: أبو حاتم: صالح. وقال ابن سعد: كان ثقةً صالحًا، توفي بالبصرة سنة مائتين

في خلافة هارون. وقال البخاريّ: مات سنة (198). وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: مات سنة ثمان وتسعين، أو أول سنة (99)، وقيل: سنة مائتين، وقيل: سنة (208) في أول رجب، وكان من خيار عباد الله. وقال العجليّ: بصري ثقة. وكتب الذهبي رحمه الله أن قول من قال: إنّه مات سنة (208) غلط. روى له البخاريّ في التعاليق، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا. 3 - (ابْنُ عَجْلَانَ) هو محمّد بن عجلان المدنيّ، صدوق [5] 2/ 19. 4 - (أَبُوه) عجلان مولى فاطمة بنت عتبة بن ربيعة المدنيّ، لا بأس به [4]. رَوَى عن مولاته، وأبي هريرة، وزيد بن ثابت، ورَوَى عنه ابنه محمّد، وبُكير بن عبد الله ابن الأشجّ، وإسماعيل بن أبي حبيبة إن كان محفوظًا. قال النَّسائيّ: لا بأس به. وقال الآجريّ، عن أبي داود: لم يرو عنه غير ابنه محمّد. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". روى له البخاريّ في التعاليق، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط برقم 189 و 344 و 1127 و 2575 و 2687 و 4131 و 4295. 5 - (أَبُو هرَيْرَةَ) الصحابيّ الشهير -رضي الله عنه- 1/ 1، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصّحيح، فابن عجلان وأبوه ممّن علّق لهم البخاريُّ، وأخرج لهم مسلم في المتابعات. 3 - (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ. 4 - (ومنها): أن فيه أبا هريرة -رضي الله عنه- رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ بِيَدِهِ) ظاهر في أنه كتبه -سبحانه وتعالى- بيده، كما صحّ أنه كتب التوراة لموسى بيده، وقد قدّمنا غير مرّة أن الحقّ أن لله -سبحانه وتعالى- يدًا كما أثبتها لنفسه في كتابه، وأثبتها له النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في الأحاديث الصحاح، كهذا الحديث وغيره، أما ما ذكره في "الفتح" في "كتاب بدء الخلق"، وفي "كتاب التوحيد" في شرح هذا الحديث من التأويلات الزائفهّ المخالفة لطريق السلف فَمِمَّا يجب الحذر عنه، ولولا مخافة التطويل لأوردته، مع التعليق عليه، ولكن يكفي اللبيب التلميح، فإنّه يفهم بالإشارة ما لا يفهمه الغبي بألف عبارة (قَبْلَ أَنْ يَخَلُقَ الْخَلْقَ) وفي رواية البخاريّ من طريق الأعرج، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "لمّا قَضَى الله الخلق، كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي". ولا تنافي بين الروايتين؛ لإمكان حمل قوله: "لمّا قضى إلخ" أي أراد أن يقضي، فهو قبل الخلق، والله تعالى أعلم. (رَحْمَتِي) مبتدأ خبره قوله: (سَبَقَتْ غَضَبِي) وفي رواية البخاريّ المذكورة: "غَلَبت" بدل سبقت، والغلبة هي المراد بـ "سبقت" هنا. قيل: المعنى أن تعلّق الرّحمة غالبٌ سابقٌ على تعلّق الغضب؛ لأن الرّحمة مقتضى ذاته المقدّسة، وأما الغضب فإنّه متوقّف على سابق عمل من العبد، وبهذا يندفع استشكال من أورد وقوع العذاب قبل الرّحمة في بعض المواطن، كمن يدخل النّار من الموحّدين، ثمّ يخرج بالشفاعة أو غيرها. وقيل: معنى الغلبة الكثرة والشمول، تقول غلب على فلان الكرم، أي أكثر أفعاله، وهذا كلّه بناءٌ على أن الرّحمة والغضب من صفات الذات، وقال بعض العلماء: الرّحمة والغضب من صفات الفعل، لا من صفات الذات، ولا مانع من تقدّم بعض الأفعال على بعض، فتكون الإشارةُ بالرّحمة إلى إسكان آدم عليه السلام الجنّة أَوَّلَ ما خُلق مثلًا، ومقابلها ما وقع من إخراجه منها، وعلى ذلك استمرّت أحوال الأمم بتقديم الرّحمة في

خلقهم بالتوسيع علمهم من الرزق وغيره، ثمّ يقع بهم العذاب على كفرهم، وأما ما أشكل من أمر من يُعذّب من الموحدين، فالرّحمة سابقةٌ في حقّهم أيضًا، ولولا وجودها لخُلّدوا أبدًا. وقال الطيبيّ: في سبق الرّحمة إشارة إلى أن قسط الخلق منها أكثر من قسطهم من الغضب، وأنها تنالهم من غير استحقاق، وأن الغضب لا ينالهم إِلَّا باستحقاق، فالرّحمة تشمل الشخص جَنِينًا ورضيعًا وفَطِيمًا وناشئًا قبل أن يصدر منه شيء من الطّاعة، ولا يلحقه الغضب إِلَّا بعد أن يصدر عنه من الذنوب ما يستحقّ معه ذلك. انتهى (¬1). وقال السنديّ. قوله: "كتب على نفسه" يدلّ على أنه ساق هذا الكلام على أنه وَعَدَ بأنه سيُعامل بالرّحمة ما لا يُعامل بالغضب، لا أنه إخبار عن صفة الرّحمة والغضب بأن الأُولى دون الثّانية؛ لأن صفاته كلها كاملة عظيمة، ولأن ما فَعَلَ من آثار الأولى فيما سبق أكثر ممّا فَعَل من آثار الثّانية. قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قرّر السنديّ، لكن فيه ما المانع من كون الأولى دون الثّانية، كما دلّ عليه ظاهر السياق، فتبصّر، والله تعالى أعلم. قال: ولا يُشكل هذا الحديث بما جاء أن الواحد من الألف يدخل الجنَّة، والبقيّة النّار. إِمّا لأنه يعامل بمقتضى الرّحمة ولا يعامل بمقتضى الغضب، كما قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام: 160]، وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ في سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ} الآية [البقرة: 261]، وقال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]. وإِما لأن مظاهر الرّحمة أكثر من مظاهر الغضب، فإن الملائكة كلهم مظاهر الرّحمة، وهم أكثر خلق الله، وكذا ما خلق الله في الجنَّة من الحور والوالدان وغير ذلك. ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 6/ 351.

انتهى (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا متّفق عليه، فقد أخرجه البخاريّ من رواية أبي رافع، وأبي صالح، كلاهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، وأخرجه مسلم من رواية عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، فلا يقال: إن محمّد بن عجلان متكلّم فيه في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، فتفطّن. والله تعالى أعلم. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 189) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (البخاريّ) (4/ 129 و 9/ 153 و 165) و (مسلم) (8/ 95) و (الترمذيّ) (3543) و (النَّسائيّ) في "الكبرى" و (الحميديّ) في "مسنده" (1126) و (أحمد) في "مسنده" (2/ 242 و 257 و 259 و 313 و 358 و 381 و 390 و433 و 466) والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان ما أنكرته الجهميّة من الصفات، وهو هنا إثبات صفة الكتابة، واليد، والرّحمة، والغضب، على ما يليق بجلاله -سبحانه وتعالى-، ولا التفات إلى من فسّر الغضب باللازم، فقال: هو إرادة إيصال العذاب إلى من يقع عليه الغضب، كما مشى عليه في "الفتح" وغيره؛ لأن ذلك من التأويلات الّتي مشى عليها المتأخرون من الأشاعرة وغيرهم، وهو مخالف لهدي السلف، فإن مذهبهم التمسّك بظواهر الكتاب والسُّنَّة، فصفة الغضب ثابتةٌ لله تعالى كسائر صفاته، من المحبة، والرضا، والضحك، وغير ذلك على ما يليق بجلاله -سبحانه وتعالى-، فعليك بمذهب السلف تسلم، وتغنم، والله تعالى الهادي إلى الطريق الأقوم. ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 123.

2 - (ومنها): بيان سعة رحمة الله تعالى، وهو كقوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} الآية [الأعراف: 156]. 3 - (ومنها): إثبات كتابة الأمور في الأزل، وأن الله -سبحانه وتعالى- علم الأشياء وكتبها قبل أن يخلقها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 190 - (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الحِزَامِيُّ، وَيَحْيىَ بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَثِيرٍ الأَنْصَارِيُّ الْحَرَامِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ طَلْحَةَ بْنَ خِرَاشٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله يَقُولُ: لمَّا قُتِلَ عَبْدُ الله بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ يَوْمَ أُحُدٍ، لَقِيَني رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: "يَا جَابِرُ أَلا أُخْبِرُكَ مَا قَالَ الله لِأَبِيكَ؟ " وَقَالَ يَحْيَى في حَدِيثهِ: فَقَالَ: "يَا جَابِرُ مَا لي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله اسْتُشْهِدَ أَبِي، وَترَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا، قَالَ: "أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بِما لَقِيَ الله بِهِ أَبَاكَ؟ " قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: "مَا كَلَّمَ الله أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِن وَرَاءِ حِجَابٍ، وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً، فَقَالَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ: إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يَرْجِعُونَ، قَالَ: يَا رَبِّ فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي، قَالَ: فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ) -بكسر الحاء المهملة، والزاي- هو إبراهيم بن المنذر بن عبد الله بن المنذر بن المغيرة بن عبد الله بن خالد بن حِزَام بن خُوَيلد بن أَسَد الأسديّ الحِزَاميّ، أبو إسحاق المدني، صدوقٌ، تَكلّم فيه أحمد لأجل القرآن [10]. رَوَى عن مالك (¬1)، وابن عيينة، وابن أبي فديك، وأبي بكر بن أبي أُويس، وأبي ¬

_ (¬1) قال الحافظ في "التهذيب": قلت: ما أظنه لَقِي مالكًا، لكن وقع في الرواة عن مالك =

ضَمْرَة، والوليد بن مسلم، وابن وهب، وغيرهم. ورَوَى عنه البخاريّ، وابن ماجه، ورَوَى له التّرمذيّ والنَّسائيّ بواسطة، والدارمي، وصاعقة، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم. قال عثمان الدارمي: رأيت ابن معين كتب عن إبراهيم بن المنذر أحاديث ابن وهب، ظننتها المغازي. وقال النَّسائيُّ: ليس به بأس. وقال صالح بن محمّد: صدوق. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال أيضًا: هو أعرف بالحديث من إبراهيم بن حمزة، إِلَّا أنه خلط في القرآن، جاء إلى أحمد بن حنبل، فاستأذن عليه، فلم يأذن له، وجلس حتّى خرج، فسلّم عليه، فلم يَرُدّ عليه أَحمد السلام. وقال الساجي: بلغني أن أحمد كان يتكلم فيه ويَذُمُّه، وكان قدم إلى ابن أبي دواد قاصدًا من المدينة، عنده مناكير. قال الخطيب: أما المناكير فقلما توجد في حديثه إِلَّا أن يكون عن المجهولين، ومع هذا فإن يحيى بن معين وغيره من الحفاظ كانوا يرضونه ويوثقونه. قال الحافظ: سبق الخطيبَ أبو الفتح الأزديّ بمعنى كلامه هذا. وقال الدارقطني ثقة. وقال ابن وَضّاح: لقيته بالمدينة وهو ثقة. وقال الزُّبير بن بَكّار: كان له علم بالحديث، ومروءة وقَدْر. قال يعقوب بن سفيان: مات سنة (236) في المحرم صَدَرَ من الحجِّ، فمات بالمدينة. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: مات سنة (35) أو (6). وله في هذا الكتاب (29) حديثًا. 2 - (يَحْيىَ بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ) الحارثيّ، وقيك: الشيبانيّ، أبو زكريّا البصريّ، ثقة [10]. رَوَى عن يزيد بن زُريع، وحماد بن زيد، وخالد بن الحارث، وعبد الوهّاب الثقفي، ومعتمر بن سليمان، وموسى بن إبراهيم بن كثير، وجماعة. ¬

_ = للخطيب بإسناد فيه نظر إلى إبراهيم بن المنذر قال: سمعت رجلًا يسأل مالكًا، فذكر مسألة، ولم يُخْرِج له عنه حديثه. انتهى "تهذيب التهذيب" 1/ 88.

ورَوَى عنه الجماعة، سوى البخاريّ، وأبو بكر بن أبي عاصم، وأبو بكر البزار، وزكرياء الساجي، ويوسف بن يعقوب القاضي، ومحمد بن إسحاق بن خُزيمة، وغيرهم. قال أبو حاتم الرَّازيُّ: صدوق. وقال النَّسائيُّ: ثقة مأمون، قَلَّ شيخ رأيتُ بالبصرة مثلَهُ. وقال مسلمة بن قاسم ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال هو والسراج: مات سنة ثمان وأربعين ومائتين، زاد ابن حبّان: وقد قيل: مات بعد سنة خمسين. وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (190) و (4111) و (4114). 3 - (حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَثِيرٍ) بن بَشِير بن الْفَاكِهِ (الأَنْصَارِيُّ الحرَامِيُّ) -بفتح الحاء المهملة، والراء- المدنيّ، صدوقٌ يُخطئ [8]. رَوَى عن طلحة بن خِرَاشٍ، ويحيى بن عبد الله بن أبي قتادة. ورَوَى عنه يوسف بن عَدِيّ، وعلي بن المديني، وإبراهيم بن المنذر الحزاميّ، ويحيى ابن حبيب بن عربي، ودُحَيم، ويعقوب بن كاسب، وجعفر بن مسافر التنيسيّ، وغيرهم. ذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: وكان يخطئ. أخرج له الترمذيّ، والنَّسائيّ في "اليوم واللّيلة"، والمصنف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم (190) وأعاده برقم (2800) وحديث (3800). 4 - (طَلْحَةُ بْنُ خِرَاشِ) بن عبد الرّحمن بن خِرَاِش بن الصِّمَة الأنصاريّ المدنيّ، صدوقٌ [4]. رَوَى عن جابر بن عبد الله، وعبد الملك بن جابر بن عَتِيك. ورَوَى عنه موسى بن إبواهيم بن كثير بن بشير بن الفاكه، والدَّرَاوَرْدِيُّ، ويحيى ابن عبد الله بن يزيد الأُنَيسيّ. قال النَّسائيُّ: صالح. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال ابن عبد البرّ: موسى وطلحة كلاهما مدني ثقة. وقال الأزدي: طلحة رَوَى عن جابر مناكير. وذكره أبو

موسى في "ذَيْلِ معرفة الصّحابة"، وبَيّن أن حديثه مرسل. [تنبيه]: ذكر الحافظ رحمه الله في "التهذيب": ما نصّه: وفي "سنن ابن ماجه" من طريق موسى بن إبراهيم: سمعت طلحة بن خراش ابن عم جابر قال: سمعت جابرًا. انتهى. قال الجامع عفا الله عنه: هكذا أورده بزيادة "ابن عمّ جابر"، وليس هذا في النسخ عندنا، وفيه إشكالٌ؛ لأنه إن كان المراد جابر بن عبد الله الصحابيّ، فكونه ابن عمه، محلّ نظر، والظاهر أن الزيادة غلط، فليُحرّر، والله تعالى أعلم. أخرج له التّرمذيّ، والنَّسائيّ في "اليوم واللّيلة"، والمصنّف، وله في هذا الكتاب الحديثان المذكوران في ترجمة موسى بن إبراهيم قبله. [تنبيه]: ذكر في "التهذيب": أن له عندهم في أفضل الذكر والدعاء، وعند الترمذيّ والمصنّف في فضل والد جابر، وعند الترمذيّ: "لا يلج النّار من رآني". انتهى (¬1). 5 - (جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله) بن عمرو بن حرام الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما 1/ 11، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ طَلْحَةَ بْنَ خِرَاشٍ) رحمه الله أنه (قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله) رضي الله عنهما (يَقُولُ: لمَّا قُتِلَ) بالبناء للمفعول، ونائب فاعله قوله: (عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ) يعني أباه - رضي الله عنه -، و"حَرَام" بفتحتين بلفظ ضدّ الحلال (يَوْمَ أُحُدٍ) أي يوم غزوة أحد، وهي في السنة الثّالثة من الهجرة (لَقِيَنِي رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: "يَا جَابِرُ أَلَا) بفتح الهمزة، وتخفيف اللام أداة عَرْضٍ وتَحضيض، ومعناهما طلب الشيء، لكن العَرْضُ طلبٌ بِلِينٍ، والتحضيضُ طلبٌ بِحَثٍّ، وتختصّ "ألا" هذه بالجملة الفعليّة، كقوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} الآية [النور: 22]، وقوله: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا ¬

_ (¬1) راجع "تهذيب التهذيب" 2/ 238.

أَيْمَانَهُمْ} الآية، وكهذا الحديث (¬1) (أُخْبِرُكَ مَا قَالَ الله لِأَبِيكَ؟) أي عبدِ الله بن عمرو -رضي الله عنه- (وَقَالَ يَحْيىَ) يعني شيخه الثّاني يحيى بن عربيّ، والمعنى أن هذا اللّفظ لشيخه إبراهيم ابن المنذر، وأما شيخه يحيى فقال (في حَدِيثِهِ: فَقَالَ) أي النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ("يَا جَابِرُ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟ ") أي منكسر القلب حزينًا (قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله اسْتُشْهِدَ أَبِي) بالبناء للمفعول: أي قُتل شهيدًا. قال في "القاموس": وأُشْهِدَ مجهولًا: قُتِل في سبيل الله، كاسْتُشْهِدَ. انتهى (¬2) (وَتَرَكَ عِيَالًا) بكسر العين المهملة، قال في "المصباح": الْعِيَالُ: أهلُ البيت، ومن يَمُونه الإنسان، الواحد عَيِّلٌ، مثالٌ جِيَادٍ وجَيِّدٍ. انتهى (¬3)، وقال في "القاموس": و"عَيِّلٌ" ككَيِّسٍ، وكِتَابٍ: من تتكفّلُ به واويّةٌ يائيّةٌ. انتهى، وكتب نصر الْهُورينيّ في الهامش: ما نصّه: قال الصغانيّ في "التكملة": الْعِيَالُ جمع عَيِّلٍ، كجِيَاد جمع جَيِّدٍ، وهو من يلزم الإنفاق عليه، ويكون اسمًا للواحد، كما استعمله الحريريّ في "مقاماته"، وذكره المُطَرِّزِيّ في "شرحه". انتهى "شرح الشفا" (¬4) (وَدَيْنًا، قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- ("أفلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ الله) بالرفع على الفاعليّة (بِهِ أَبَاكَ؟ " قَالَ) جابر -رضي الله عنه- (بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- ("مَا كَلَّمَ الله أَحَدًا قَطُّ) أي لا في الدنيا، ولا في عالم البرزخ (إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا) بكسر الكاف، وتخفيف الفاء، آخره حاء مهملة: أي مواجهةً، ليس بينهما حجاب ولا رسول، قاله ابن الأثير (¬5). [تنبيه]: هذا الحديث فيه إشكال، مع قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ ¬

_ (¬1) راجع "مغني اللبيب" 1/ 69. (¬2) "القاموس المحيط" ص 265. (¬3) "المصباح المنير" 2/ 438. (¬4) راجع "القاموس المحيط" مع هوامشه ص 934. (¬5) "النهاية" 4/ 185.

اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} الآية [الشورى: 51]. وأجيب بأن الآية مخصوصة في الدنيا، فلا يُتصوّر في الدنيا كلام الله تعالى مع عبده مواجهةً؛ وذلك لأن أجساد الدنيا كثيفة لا تستطيع أن تتحمّل التجلّي الإلهيّ، ولذلك لمّا تجلّى الله للجبل جعله دكّا، وخرّ موسى عليه السلام صعقًا، وأما في الآخرة فالأجساد والأرواح الأخرويّة تستطيع ذلك، أفاده بعضهم. والله تعالى أعلم بالصواب. [تنبيه آخر]: ذكر بعضهم أن في هذا الحديث أيضًا إشكالًا آخرَ، وهو أن روح المديون محبوسة بدينه لا يُعرَج في السَّماء، كما جاء في الأحاديث، ولكن هذا محمول على ما إذا لم يترك الميِّت وفاء دينه، وكان عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر ترك لدينه وفاء، واهتمامُ جابر وانكساره كان بسبب استيفاء الدين بالتركة، ولهذا قال: استُشهِد أبي وترك عيالًا ودينًا. ويمكن أن يُجاب بأن عدم كون روحه محبوسة؛ لأن شهادته سبب لعفو حقوق العباد، وقال الشّيخ المجدّدي رحمه الله: يُحبس روح المديون إذا لم يحصل لروحه العروج في الدنيا، فإذا حصل له العروج بالسلوك والجدية لم يحبسه شيء بعد الموت. انتهى. قال الجامع عفا الله عنه: هكذا كتب بعض من علّق على هذا الكتاب، وفيما كتبه نظر في أمور: الأوّل: قوله: إن أبا جابر ترك وفاء لدينه غير صحيح، فقد ذكر جابر -رضي الله عنه- أن أباه قُتل وترك دينًا، ولم يترك وفاء، ومما يؤكد ذلك أن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- سعى في إرضاء غرمائه بأخذ ما وجدوه، فلم يرضوا، فدعى -صلى الله عليه وسلم- على البيدر، فبارك الله تعالى فيه، فأخذوا ديونهم، وبقي لعياله شيء كثير، وهذا مشهور في "الصحيحين" وغيرهما. الثّاني: أن قوله: "لأن شهادته سبب لعفو حقوق العباد" غير صحيح؛ لأنه يخالف صريح ما أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث عبد الله مِن عمرو رضي الله

عنهما مرفوعًا: "يُغفر للشهيد كلُّ ذنب إِلَّا الدين"، وفي حديث أبي قتادة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قام فيهم، فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله، والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قُتِلتُ في سبيل الله تُكَفَّر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ("نعم، إن قُتلتَ في سبيل الله، وأنت صابر محتسب، مُقبِلٌ، غيرُ مدبر، ثمّ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كيف قلت؟ "، قال: أرأيتَ إن قتلت في سبيل الله، أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ("نعم وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إِلَّا الدين، فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك". رواه مسلم. فهذا صريح في كون الشّهادة لا تُكفر حقوق العباد. والثّالث: قوله: "إذا لم يحصل عروجه إلخ"، ما هو العروج الّذي يعنيه؟، وأي آية، أو أية سنة تدلّ عليه، وأنه إذا حصل للعبد في الدنيا لا يَحبسه شيء بعد موته؟ فيا سبحان الله إن هذا لهو العجب العجاب، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111] اللَّهُمَّ اهدينا فيمن هديت، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. (فَقَالَ) -سبحانه وتعالى- (يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ) قال السنديّ رحمه الله: ظاهره عموم المفعول، أي ما شئتَ، كما يُفيده حذف المفعول، والمقامُ، فيُشكل بأن عموم الوعد شمل الإحياء، وهو لا يُخلف المعياد، فكيف ما أحياه؟ ويمكن الجواب بأن خلاف الميعاد المعهود مستثنى من العموم، فإن الغاية من جملة المخصِّصات، كما ذكره أهلُ الأصول. انتهى (¬1) (قَالَ) أي عبد الله بن عَمرو -رضي الله عنه- (يَا رَبِّ تُحْيِينِي) أي أتمنّى أن تُحييني، قال السنديّ رحمه الله: هذا من وضع الإخبار موضع الإنشاء؛ لإظهار كمال الرغبة، وإلا فالمقام يقتضي أَحْيِني، أي أحيني في الدنيا، وإلا فالشهداء أحياء، وهو حيّ يتكلّم، فكيف يطلُبُ الإحياء؟ وهو تحصيل الحاصل. انتهى (¬2) (فَأُقْتَلُ) بالبناء للمفعول، قال ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 124. (¬2) "شرح السندي" 1/ 124.

السنديّ: وضبطه بعضهم بالنصب، وكأنه مبنيّ على أنه جواب الأمر معنى؛ لما ذكرنا. انتهى (فِيكَ) أي لأجل إعلاء كلمتك (ثَانِيَةً) أي مرّةً ثانيةً (فَقَالَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ: إِنَّهُ) الضمير للشأن، أي إن الأمر والشأن (سَبَقَ مِنِّي) أي تقدّم فيما كتبته في الأزل (أَنَّهُمْ) بفتح الهمزة؛ لوقوعها موقع المصدر، كما قال في "الخلاصة": وَهَمْزَ "إِنَّ" افْتَحْ لِسَدِّ مَصْدَرِ ... مَسَدَّهَا وِفي سِوَى ذَاكَ اكْسِرِ (إِلَيْهَا) أي إلى الدنيا (لَا يَرْجِعُونَ) بالبناء للفاعل، من الرجوع، ويحتمل أن يكون بالبناء للمفعول، أي لا يرجعهم الله تعالى (قَالَ) عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- (يَا رَبِّ فَأَبْلِغْ) من الإبلاغ (مَنْ) بفتح الميم: موصولة: أي الذين (وَرَائِي) أي يبقون أحياء بعد قتلي، أي أبلغهم حالنا، وما صِرْنا إليه ترغيبًا لهم في الجهاد (قَالَ) -صلى الله عليه وسلم-، أو جابر -رضي الله عنه- (فَأَنزَلَ الله تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ} قرأ ابن عامر، وحمزة، وعاصم بفتح السين، والباقون بكسرها، والخطاب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو لكلّ أحد (الَّذِينَ قُتِلُوا) قرأ ابن عامر بتشديد التاء، والباقون بتخفيفها (في سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا) أي كسائر الأموات (بَلْ أَحْيَاءٌ) أي بل هم أحياء (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي مقرّبون عنده، ذوو زُلْفَى {يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]) أي بمثل ما يُرزق سائر الأحياء، يأكلون ويشربون، وهو تأكيد لكونهم أحياء، ووصفٌ لحالهم الّتي هم عليها، من التنعّم برزق الله تعالى، قاله النسفيّ رحمه الله (¬1). والحاصل أن لهم خصوصيّة، وهي أنهم يُعْطَون أجسادًا متشكّلة بطيور خُضر تسرح في الجنَّة حيث شاءت، كما يأتي في الأحاديث الآتية. قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في "تفسيره" النافع -عند شرح هذه الآية: يخبر تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدَّار، فإن أرواحهم حية مرزوقة في دار القرار حياةَ الشهداء. انتهى. ¬

_ (¬1) راجع "تفسير النسفيّ" 1/ 194.

وقد جاءت أحاديث كثيرة في سبب نزول هذه الآية: [فمنها]: هذا الحديث، وهو حديث حسنٌ، كما سيأتي، وأخرجه أيضًا أبو بكر بن مروديه، ولفظه: حَدَّثَنَا عبد الله بن جعفر، ثنا هارون بن سليمان، أنبأنا علي بن عبد الله المديني، أنبأنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بَشِير بن الْفَاكِه الأنصاريّ، سمعت طلحة بن خِرَاشٍ بن عبد الرّحمن بن خِرَاش بن الصِّمَة الأنصاري قال: سمعت جابر بن عبد الله، قال: نظر إليّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم، فقال: "يا جابر ما لي أراك مُهْتما؟ " قال: قلت: يا رسول الله استُشْهِد أبي، وتَرَك دينًا وعيالًا، قال: فقال: "ألَّا أخبرك؟ ما كَلَّم الله أحدًا قط إِلَّا من وراء حجاب، وإنه كلَّم أباك كِفَاحًا -قال علي: والكفاح المواجهة- "قال: سلني أعطك، قال: أسأَلُكَ أن أُرَدّ إلى الدنيا، فأُقتل فيك ثانية، فقال الرب -عَزَّ وَجَلَّ-: إنّه قد سبق مني القول أنهم إليها لا يرجعون، قال: أي رب فأبلغ من ورائي، فأنزل الله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} الآية [آل عمران: 169]. ثمّ رواه من طريق أخرى عن محمّد بن سليمان بن سَلِيط الأنصاري، عن أبيه، عن جابر به نحوه. ومحمد بن سليمان هذا قال العقيليّ، وابن منده: مجهول، انظر "لسان الميزان " 5/ 190، فالرواية ضعيفة، فتنبّه. وكذا رواه البيهقي في "دلائل النبوة" من طريق علي بن المديني به، وقد رواه البيهقي أيضًا من حديث أبي عُبَادة الأنصاري -وهو عيسى بن عبد الرّحمن إن شاء الله- (¬1) عن الزّهريّ، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- لجابر: "يا جابر ألا أبشرك؟ " قال: بلى بَشَّرَك الله بالخير، قال: "شَعَرْتَ بأن الله أحيا أباك، فقال: تَمَنَّ عليّ عبدي ما شئت أعطكه، قال: يا رب ما عبدتك حَقَّ عبادتك، أتمنى عليك أن تَرُدَّني إلى ¬

_ (¬1) هكذا قال الحافظ ابن كثير رحمه الله، وعيسى هذا قال عنه في "التقريب": متروك، فالحديث ضعيف جدًّا، فتنبّه.

الدنيا، فأقاتل مع نبيك، وأقتل فيك مرّة أخرى، قال: إنّه سَلَفَ مني أنه إليها لا يرجع". وأخرج الإمام أحمد بسنده عن عبد الله بن محمّد بن عَقِيل، عن جابر، قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أعلمتَ أن الله أحيى أباك، فقال له: تَمَنَّ، فقال له: أُرَدُّ إلى الدنيا، فأقتل فيك مرّة أخرى، قال: إنِّي قضيت أنهم إليها لا يرجعون". قال الحافظ ابن كثير: تفرد به أحمد من هذا الوجه، وقد ثبت في "الصحيحين" وغيرهما أن أبا جابر قُتِل يوم أحد شهيدا. وقال البخاريّ رحمه الله: وقال أبو الوليد عن شعبة، عن ابن المنكدر: سمعت جابرًا قال: لمّا قُتل أبي جعلت أبكي، وأكشف الثّوب عن وجهه، فجعل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهوني، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يَنْهَ، فقال النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "لا تبكه -أو ما تبكيه- ما زالت الملائكة تُظله بأجنحتها حتّى رُفِعَ". وقد أسنده هو ومسلم، والنَّسائيّ من طريق آخر عن شعبة، عن محمّد بن المكندر، عن جابر، قال: لمّا قُتل أبي يوم أحد، جعلت أكشف الثّوب عن وجهه، وأبكي ... وذكر تمامه بنحوه. وقد جاء في سبب نزول الآية غير هذا، فقد أخرج الإمام محمّد بن جرير الطّبريّ في "تفسيره" بسنده عن إسحاق بن أبي طلحة، حدثني أنس بن مالك في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين أرسلهم نبي الله إلى أهل بئر معونة قال: لا أدري أربعين، أو سبعين، وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل الجعفري، فخرج أولئك النفر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتّى أتوا غارًا مشرفًا على الماء، فقعدوا فيه، ثمّ قال بعضهم لبعض: أيكم يبلغ رسالة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهل هذا الماء؛ فقال -أُراه ابن ملحان الأنصاري-: أنا أبلغ رسالة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فَخَرَجَ حتّى أتى حول بيتهم، فاختبأ أمام البيوت، ثمّ قال: يا أهل بئر معونة إنِّي رسول رسول الله إليكم، إنِّي أشهد أن لا إله إِلَّا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فآمِنوا بالله ورسوله، فخرج إليه رجل من كِسَرِ البيت برمح فضربه في جنبه، حتّى خرج من الشق الآخر، فقال: الله أكبر فُزْت وربِّ الكعبة، فاتَّبَعُوا أَثَرَه حتّى أتوا

أصحابه في الغار، فقتلهم أجمعين عامر بن الطفيل. وقال ابن إسحاق: حدثني أنس بن مالك أن الله أنزل فيهم قرآنا: "بَلِّغُوا عَنّا قومنا أنا قد لقينا رَبَّنَا، فرضي عنّا، ورضينا عنه"، ثمّ نُسِخت فرفعت بعدَ ما قرأناها زمانًا، وأنزل الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]. وأخرج مسلم في "صحيحه": عن مسروق قال: إنا سألنا عبد الله عن هذه الآية؟: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، فقال: أَمَا إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، فقال: "أرواحهم في جَوْف طير خُضْرٍ، لها قناديل مُعَلَّقة بالعرش، تَسْرَح من الجنَّة حيث شاءت، ثمّ تَأوي إلى تلك القناديل، فاطَّلَعَ عليهم ربهم اطّلاعةً، فقال: هل تشتهون شيئًا، فقالوا: أيَّ شيء نشتهي، ونحن نَسْرَح من الجنَّة حيث شئنا، ففَعَلَ ذلك بهم ثلاث مرّات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يُسألوا، قالوا: يا رب نريد أن تَرُدَّ أرواحنا في أجسادنا حتّى نُقتَل في سبيلك مرّة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُرِكوا. وقد روي نحوه من حديث أنس وأبي سعيد. وأخرج أحمد بسنده عن إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد، عن أبي الزُّبير المكي، عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - لمّا أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خُضْرٍ، تَرِدُ أنهار الجنَّة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وَجَدُوا طيب مأكلهم ومشربهم، وحسن مَقِيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا؛ لئلا يَزْهَدوا في الجهاد، ولا يَنكُلُوا عن الحرب، فقال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: أنا أُبَلِّغهم عنكم، فأنزل الله هذه الآيات: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} وما بعدها. قال ابن كثير: وهكذا رواه أحمد، ورواه ابن جرير عن يونس، عن ابن وهب، عن إسماعيل بن عَيّاش، عن محمّد بن إسحاق به، ورواه أبو داود، والحاكم في "مستدركه"

من حديث عبد الله بن إدريس، عن محمّد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزُّبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، فذكره ... قال ابن كثير: وهذا أثبت، وكذا رواه سفيان الثّوريّ، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس. وروى الحاكم في "مستدركه" من حديث أبي إسحاق الفزاري، عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال: نزلت هذه الآية في حمزة، وأصحابه: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} ثمّ قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وكذا قال قتادة، والربيع، والضحاك: إنها نزلت في قتلى أحد. وقال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا يعقوب، حَدَّثَنَا أبي، عن ابن إسحاق، حَدَّثَنَا الحارث ابن فُضيل الأنصاري، عن محمود بن لَبِيد، عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الشهداء على بارق نهر بباب الجنَّة، فيه قبة خضراء، يخرج إليهم رزقهم من الجنَّة بكرة وعشيًّا". تفرد به أحمد، وقد رواه ابن جرير عن أبي كريب، حَدَّثَنَا عبد الرحيم بن سليمان، وعبدة، عن محمّد بن إسحاق به. قال ابن كثير رحمه الله: وهو إسناد جيد، وكأنّ الشهداء أقسام: منهم من تَسْرَح أرواحهم في الجنَّة، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنَّة، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر، فيجتمعون هنالك، ويُغْدَى عليهم برزقهم هناك، ويراح، والله أعلم. قال ابن كثير: وقد رَوَينا في "مسند الإمام أحمد" حديثًا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنَّة، تَسْرَح أيضًا فيها، وتأكل من ثمارها، وتَرَى ما فيها من النَّضْرَة والسرور، وتشاهد ما أعد الله لها من الكرامة، وهو بإسناد صحيح، عزيز عظيم، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة، أصحاب المذاهب المتبعة، فإن الإمام أحمد رحمه الله

رواه عن محمّد بن إدريس الشّافعيّ رحمه الله، عن مالك بن أنس الأصبحي رحمه الله، عن الزّهريّ، عن عبد الرّحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه رضي الله عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نَسَمَةُ المؤمن طائر يَعْلُقُ في شجر الجنَّة، حتّى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه". وقوله: "يَعْلُق" أي يأكل. وفي هذا الحديث: إن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنَّة، وأما أرواح الشهداء، فكما تقدّم في حَوَاصل طير خُضْر، فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها، فنسأل الله الكريم المنان أن يميتنا على الإيمان. وقوله تعالى: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 170] إلى آخر الآية أي الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله أحياء عند ربهم، وهم فَرِحون بما هم فيه من النعمة والْغِبْطَة، ومستبشرون بإخوانهم الذين يُقتلون بعدهم في سبيل الله أنهم يَقْدَمون عليهم، وأنهم لا يخافون ممّا أمامهم، ولا يحزنون على ما تركوه وراءهم، نسأل الله الجنَّة. وقال محمّد بن إسحاق: {وَيَسْتَبْشِرُونَ} أي ويُسَرُّون بلحوق من لحقهم من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم، ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الّذي أعطاهم، قال السُّدّي: يؤتي الشهيد بكتاب فيه يَقْدَم عليك فلان يوم كذا وكذا، ويقدم عليك فلان يوم كذا وكذا، فيُسَرّ بذلك كما يسر أهل الدنيا بقدوم غيابهم. وقال سعيد ابن جبير: لما دخلوا الجنَّة، ورأوا ما فيها من الكرامة للشهداء. قالوا: يا ليت إخواننا الذين في الدنيا يعلمون ما عرفناه من الكرامة، فإذا شَهِدوا القتال باشروها بأنفسهم، حتّى يُسْتَشهَدوا، فيصيبوا ما أصبنا من الخير، فأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأمرهم، وما هم فيه من الكرامة، وأخبرهم -أي ربهم- أني قد أنزلت على نبيكم، وأخبرته بأمركم، وما أنتم فيه، فاستبشروا بذلك، فذلك قوله: {يَسْتَبْشِرُونَ

بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} الآية. وقد ثبت في "الصحيحين" عن أنس في قصة أصحاب بئر معونة السبعين من الأنصار الذين قتلوا في غداة واحدة، وقنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو على الذين قتلوهم ويلعنهم، قال أنس: ونزل فيهم قرآن قرأناه حتّى رُفع: أن بَلِّغوا قومنا أنا قد لَقِينا رَبَّنا وأرضانا. ثمّ قال تعالى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 171] قال محمّد ابن إسحاق استَبْشَرُوا وسُرُّوا لمّا عاينوا من وفاء الموعود وجزيل الثّواب. وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: هذه الآيات جمعت المؤمنين كلهم، سواء الشهداء وغيرهم، وقَلَّما ذكر الله فضلًا ذَكَر به الأنبياءَ، وثوابًا أعطاهم الله إياه إِلَّا ذكر الله ما أعطى المؤمنين من بعدهم. انتهى منقولًا من تفسير ابن كثير رحمه الله تعالى (¬1)، وهو بحث نفيسٌ جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا حديث حسنٌ. [فإن قلت]: قال البوصيريّ رحمه الله في "مصباح الزجاجة": هذا إسناد ضعيفٌ، طلحة بن خِرَاش قال فيه الأزديّ: روى عن جابر مناكير، وذكره الذهبيّ في "الميزان"، وموسى بن إبراهيم قال فيه ابن حبّان في "الثقات": يُخطئ. [أجيب]: بأن طلحة روى عنه ثلاثةٌ، وقال عنه النَّسائيّ: صالحٌ، ووثقه ابن حبّان، وابن عبد البرّ (¬2)، وقال عنه في "التقريب": صدوقٌ، فلا يؤثّر فيه قول الأزديّ، ¬

_ (¬1) راجع "تفسير ابن كثير" 1/ 427 - 429. (¬2) راجع "تهذيب التهذيب" 2/ 238 و"التقريب" ص 157.

بل هو نفسه متكلّم فيه، فتنبّه. وأما موسى بن إبراهيم، فقد روى عنه جماعة من الثقات، منهم ابن المدينيّ، ودُحيم، ولم يتكلّم فيه أحدٌ، ولم يذكروه في الضعفاء، إِلَّا قول ابن حبّان: كان ممّن يُخطئ، ولم يبيّن ما أخطأ فيه، فأقلّ أحواله أن يكون حسن الحديث، وأيضًا لحديثه هذا شاهد. فقد قال: الإمام الترمذيّ رحمه الله بعد أن أخرج الحديث: هذا حديث غريبٌ من حديث موسى بن إبراهيم، رواه عنه كبار أهل الحديث، وقد روى عبد الله بن محمّد عن جابر شيئًا من هذا. انتهى. قال الجامع عفا الله عنه: رواية عبد الله بن محمّد بن عَقيل أخرجها الإمام أحمد في "مسنده"، وقد سبق أن سُقتها قريبًا، وعبد الله بن محمّد، وإن تُكلّم فيه من قبل حفظه، إِلَّا أنه لا بأس به في المتابعات والشواهد، فقد قوّاه البخاريُّ، فقال: مقارب الحديث، والترمذيّ، فقال: صدوق، والله تعالى أعلم بالصواب. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 190) بهذا السند، وأعاده في "كتاب الجهاد" رقم (2800)، وأخرجه (الترمذيّ) رقم (3010) و (الحميديّ) في "مسنده" (1265) و (أحمد) في "مسنده" (3/ 361) و (عبد بن حميد) في "مسنده" (1039) من طريق عبد الله بن محمّد بن عَقيل، عن جابر مختصرًا، وقد سبق لفظه قريبًا، والله تعالى أعلم. [تنبيه]: قد تبيّن بما سبق من التخريج أن الحديث ليس من أفراد المصنّف لا سندًا، ولا متنًا، كما توهّمه البوصيريّ، فقد شاركه الترمذيّ فيه، فقال في "كتاب التفسير": حَدَّثَنَا يحيى بن حبيب بن عربيّ، حَدَّثَنَا موسى بن إبراهيم بن كثير الأنصاري، ثمّ ساقه بسند المصنف، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب. (المسألة الثّالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو إثبات ما أنكرته الجهميّة من

صفات الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وهو كلام الله تعالى عباده كلامًا حقيقيًّا. 2 - (ومنها): بيان فضل الصحابيّ الجليل أبي جابر عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، حيث خصّه الله تعالى بتكليمه كِفَاحًا من غير واسطة. 3 - (ومنها): بيان فضل الجهاد في سبيل الله -عَزَّ وَجَلَّ-. 4 - (ومنها): أن فيه تمنّي الخير، وطلبه مهما وَجَد الإنسان إليه سبيلًا. 5 - (ومنها): أن فيه بيانَ أنه لا يرجع أحدٌ إلى الدنيا بعد الموت، فقد حكم الله -سبحانه وتعالى- بأنهم لا يرجعون. 6 - (ومنها): بيان سبب نزول هذه الآية الكريمة. 7 - (ومنها): بيان ما عليه الشهداء عند ربّهم من النعيم المقيم، والعزّ المستديم، والفوز الدائم، والفرح القائم، اللَّهُمَّ اجعلنا منهم، وألحقنا بهم برحمتك يا أرحم الراحمين آمين. (المسألة الرّابعة): هذا الحديث فيه إبطال المزاعم الّتي طمّت، وعمّت، وفتنت عوامّ النَّاس، سفهاء الأحلام، سخفاء العقول، من أن الوليّ الفلانيّ يخرج من قبره، ويتصرّف في الأمور الدنيويّة، ويُغيث أصحابه، فإن هذا من خُرَافاتهم الّتي ملكت عقولهم الضعفية، وخُزَعْبِلاتهم (¬1) الّتي استولت على خيالاتهم الفاسدة، فقد قال الربّ -سبحانه وتعالى- في هذا الحديث: "إنّه سبق منّي أنهم إليها لا يرجعون"، فلو كان أحد من الأولياء يرجع إلى الدنيا من قبره لكان أبو جابر الّذي هو من أكابر الأولياء بشهادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له بذلك أحقّ أن يرجع حتّى يجاهد في سبيل الله تعالى، وكذلك سائر الشهداء كانوا أحقّ لذلك. وأيضًا فقد صحّ أنه لا يتمنّى أحد له عند الله خير الرجوع إلى الدنيا إِلَّا الشهيد، فقد أخرج الشيخان في "صحيحيهما" من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: ¬

_ (¬1) "الْخُزَعْبل" كقُذَعْمل: الباطل، كخُزَعْبِيل. اهـ "قاموس".

"ما من عبد يموت له عند الله خير يَسُرُّه أن يرجع إلى الدنيا، وأن له الدنيا وما فيها، إِلَّا الشهيد، لِمَا يَرَى من فضل الشّهادة، فإنّه يسره أن يرجع إلى الدنيا، فَيُقْتَلَ مرّة أخرى"، وفي رواية: "ما أحدٌ يدخل الجنَّة يُحِبّ أن يرجع إلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء إِلَّا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل عشر مرات؛ لما يرى من الكرامة". فلو كان ذلك ممكنًا لكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحقّ بذلك حينما اختلف الصّحابة -رضي الله عنهم- في أمر الخلافة، واجتمعوا في سقيفة بني ساعدة حتّى أنقذهم الله تعالى من الشقاق والخلاف على يدي أبي بكر -رضي الله عنه-، وحينما اعتُدي على الحسين سبطه -صلى الله عليه وسلم- في كربلاء، وحينما اعتدى أهل الشّام على أهل المدينة أيّام الحرّة، وغير ذلك ممّا جرى للصحابة -رضي الله عنه- عامّة ولأهل البيت -رضي الله عنهم- خاصّة. وإنّما نبّهت على هذا لأنه شاع وذاع هذا الباطل، وراج بين العوامّ، بل وبين من ينسُب نفسه إلى العلم، وليس هو بعالم، وإنما علمه هواه، وليس له من كتاب الله تعالى، ولا من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا من سيرة السلف الصالح نصيب، فيقرّر هذه الخرافات في أذهان العوامّ، بل بعض أهل الضلال من متصوّفة المتأخّرين، يتبجّح بذلك بين مريديه، ويقول لهم: إن الوليّ يستطيع أن يُغيث مريده من مسيرة ألف سنة، ولا يمنعه دفنه في القبر، وأنا منهم، فلا حول ولا قوّة إِلَّا بالله، فقد بلغ الضلال من أهله هذا المبلغ، ولهذا ترى العوامّ يحسنون ظنهم بأصحاب القبور، فيطوفون بقبورهم، وينذُرون لهم، ويطلبون منهم ما شاءوا من حوائجهم؛ لأنهم يرونهم قادرين على ذلك، وهذا هو الشرك العظيم، وهذا هو الضلال، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} فإنّه لله وإنا إليه راجعون، اللَّهُمَّ اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولّنا فيمن تولّيت، اللَّهُمَّ أرنا الحقّ حقّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه آمين آمين آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 191 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِن الله يَضْحَكُ إِلَى رَجُلَيْنِ، يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، كِلَاهُمَا دَخَلَ الجَنَّةَ، يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ الله فَيُسْتَشْهَدُ، ثُمَّ يَتُوبُ الله عَلَى قَاتِلِهِ فَيُسْلِمُ، فَيُقَاتِلُ في سَبِيلِ الله فَيُسْتَشْهَدُ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمّد بن أبي شيبة الكوفيّ، ثقة حافظ (10) 1/ 1. 2 - (وَكِيعٌ) بن الجرّاح، أبو سفيان الرؤاسيّ الكوفيّ، ثقة حافظ عابد [9] 1/ 3. 3 - (سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ الكوفيّ، ثقة ثبت إمام [7] 5/ 41. 4 - (أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان المدنيّ، ثقة فقيه [5] 13/ 109. 5 - (الْأَعْرَجُ) عبد الرّحمن بن هُرمز المدنيّ ثقة ثبت فقيه [3] 10/ 79. 6 - (أَبُو هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- 1/ 1، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيّات المصنِّف. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصّحيح. 3 - (ومنها): أن نصفه الأوّل مسلسل بثقات الكوفيين ونصفه الثّاني مسلسل بثقات المدنيين. 4 - (ومنها): أن هذا الإسناد أصحّ أسانيد أبي هريرة -رضي الله عنه-، على ما نُقل عن الإمام البخاريّ رحمه الله (¬1). 5 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: أبي الزِّناد عن الأعرج. ¬

_ (¬1) راجع "إسعاف ذوي الوطر" شرحي على "ألفية السيوطيّ في الحديث" 1/ 41 - 42.

6 - (ومنها): أن فيه أبا هريرة -رضي الله عنه- أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - (يَضْحَكُ إِلَى رَجُلَيْنِ) وفي رواية النَّسائيُّ من طريق ابن عيينة، عن أَبي الزِّناد: "إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يَعْجَب من رجلين" (¬1). قال الطيبيّ رحمه الله: عَدَّى "يَضحك" بـ "إلى" لتضمّنه معنى الانبساط والإقبال، مأخوذ من قولهم: ضَحِكتُ إلى فلان: إذا انبسطت إليه، وتوجّهت إليه بوجه طلق، وأنت راض عنه. انتهى (¬2). قال الجامع عفا الله عنه: معنى الضحك هنا على ظاهره، كما هو مذهب السلف، وهو المذهب الحق، نُثبت لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ما أثبته النصّ الصّحيح على ما يليق بجلاله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، لا نكيّف، ولا نعطّل، ولا نشبّه. وأما ما ذكره النوويّ (¬3) في "شرح مسلم" نقلًا عن القاضي عياض من أن المراد بالضحك هنا استعارة في حق الله تعالى؛ لأنه لا يجوز عليه - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الضحك المعروف في حقنا؛ لأنه إنما يصح من الأجسام، وممن يَجُوز عليه تَغَيُّر الحالات، والله تعالى مُنَزَّه عن ذلك، وإنما المراد به الرضا بفعلهما، والثواب عليه، وحَمْدُ فعلهما ومحبته، وتلقي رُسُل الله لهما بذلك؛ لأن الضحك من أحدنا إنما يكون عند موافقته ما يرضاه، وسروره وبِرِّه لمن يلقاه، قال: ويحتمل أن يكون المراد هنا ضحك ملائكة الله تعالى الذين يوجههم لقبض ¬

_ (¬1) ينبغي أن تراجع ما كتبته في شرح النَّسائيّ 26/ 265 - 266 في هذا الحديث ردًّا على السندي في تأييده تأويل العجب، تستفد، وبالله تعالى التوفيق. (¬2) "الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2636. (¬3) وكذا ما نقله في "الفتح" 6/ 48 عن الخطابيّ، وأيده غير صحيح، فلا تلتفت إليه. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

روحه، وإدخاله الجنَّة، كما يقال: قَتَلَ السلطان فلانًا: أي أمر بقتله. انتهى (¬1). ففيه حقّ وباطلٌ، فأمّا قوله لا يجوز عليه -سبحانه وتعالى- الضحك المعروف في حقنا إلخ، فكلام حقٌّ، وأما دعواه الاستعارة فباطلٌ؛ لأن الاستعارة من المجاز، والمجاز لا يصار إليه إِلَّا عند تعذر الحقيقة، أو تعسّره، وهنا -بحمد الله- لم يتعذّر، ولم يتعسّر؛ لأن وصف الله تعالى بكونه يضحك ليس فيه تشبيه؛ لأن صفاته تعالى ليست كصفات المخلوق، فله الأسماء الحسنى، والصفات الْعُلَى، وهي فرع عن الذات، فكما نُثبت له الذات الّتي تليق بجلاله، نُثبت له الصفات على الوجه اللائق به -سبحانه وتعالى-. والحاصل أن صفة الضحك ثابتة لله تعالى كسائر صفاته، من العلم والقدرة، والسمع والبصر، والرّحمة، والمحبة، والرضا، والغضب على ما يليق بجلاله -سبحانه وتعالى-. وكذا تأويله بأن المراد ضحك ملائكة الله غير صحيح؛ لما أسلفته، فتنبّه، ولا تكن أسير التقليد، فإنّه حجة البليد، وملجأ العنيد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. (يَقْتُلُ) بالبناء للفاعل، والفاعل، قوله: (أَحَدُهُمَا الْآخَرَ) وللنسائيّ: "أحدهما صاحبه" (كِلَاهُمَا دَخَلَ الجَنَّةَ) أفرد "دَخَل" مراعاة لإفراد لفظ "كلاهما"، ومراعاة لفظ "كلا"، و"كلتا" هو الأكثر في الاستعمال، وبه جاء القرآن نصّا في قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33]، ويجوز مراعاة معناهما، وقد اجتمعا في قول الشاعر يَصِفُ فرسين تسابقا [من البسيط]: كِلَاهُمَا حِينَ جَدَّ السَّيْرُ بَيْنَهُما ... قَدْ أَقْلَعَا وَكِلَا أَنْفَيْهِمَا رَابِي فثنّى "أقلعا"، أي تركا الجري مراعاة للمعنى، وراعى اللّفظ في "رابي": بمعنى منتفِخ من التعب (¬2). ولفظ البخاريّ من طريق مالك، عن أبي الزِّناد: "يضحك الله إلى رجلين، يقتُل ¬

_ (¬1) "شرح صحيح مسلم" 13/ 36. (¬2) راجع "حاشية الخضري على شرح ابن عَقِيل على الخلاصة" 1/ 51.

أحدهما الآخر، يدخلان الجنّة"، زاد في رواية مسلم من طريق همام، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "قالوا: كيف يا رسول الله؟ ". (يُقَاتِلُ هَذَا في سَبِيلِ الله فَيُسْتَشْهَدُ) بالبناء للمفعول، أي يُقتل شهيدًا، زاد في رواية هَمّام: "فَيَلِجُ الجنَّة". قال أبو عمر ابن عبد البرّ رحمه الله: معنى هذا الحديث عند أهل العلم أن القاتل الأوّل كان كافرًا. قال الحافظ رحمه الله: وهو الّذي استنبطه البخاريّ في ترجمته -يعني قوله: "باب الكافر يَقتُل المسلم، ثمّ يسلم إلخ"- ولكن لا مانع أن يكون مسلمًا؛ لعموم قوله: "ثمّ يتوب الله على القاتل"، كما لو قَتَلَ مسلم مسلمًا عمدًا بلا شبهة، ثمّ تاب القاتل، واستُشهِد في سبيل الله، وإنّما يَمْنَع دخول مثل هذا مَنْ يذهب إلى أن قاتل المسلم لا تقبل له توبة. قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الأخير تردّه رواية المصنّف: "ثُمَّ يَتُوبُ الله عَلَى قَاتِلِهِ، فَيُسْلِمُ"، وفي رواية همّام عند مسلم: "ثمّ يتوب الله على الآخر، فيَهْديه إلى الإسلام"، وأصرح من ذلك -كما قال الحافظ- ما أخرجه أحمد من طريق الزّهريُّ، عن سعيد بن المسيَّب، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- بلفظ: "قيل: كيف يا رسول الله؟ قال: يكون أحدهما كافرًا، فيَقْتُلُ الآخرَ، ثمّ يُسْلِم فيغزو، فيقْتَلُ". (ثُمَّ يَتُوبُ الله عَلَى قَاتِلِهِ) أي قاتل هذا المسلم (فَيُسْلِمُ، فَيُقَاتِلُ في سَبِيلِ الله فَيُسْتَشْهَدُ) ولفظ هَمّام: "فيهديه إلى الإسلام، ثمّ يجاهد في سبيل الله، فيُسْتَشهد"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنِّف) هنا (35/ 191) بهذا السند فقط، وأخرجه (مالك) في "الموطإ" (285) و (الحميديّ) في "مسنده" (1122) و (أحمد) في "مسنده" (2/ 244 و 264) و (البخاريّ) (4/ 28) و (مسلم) (6/ 40) و (النَّسائيّ) (6/ 38) وفي "الكبرى" (33/ 4373 و 34/ 4374) و (الآجريّ) في "الشّريعة" (277 و 278) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (4666) و (البيهقيّ) في "الكبرى" (9/ 165) وفي "الأسماء والصفات" (467 و 468 و 469) و (البغويّ) في "شرح السنة" (2632)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان ما أنكرته الجمهيّة من صفات الله تعالى، وهو صفة الضحك، فقد أثبتها النبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصّحيح المتّفق عليه، فهي ثابتة له على ما يليق بجلاله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -، وقد أسلفت آنفا أنه لا يجوز تأويلها بالرضا، فإن الرضا صفة ثابتة له، بالنصوص أيضًا، ولا داعي لتأويلها، وأن التشبيه الّذي زعموه في إثباتها غير وارد أصلًا، لأنه إنّما يأتي لو قلنا ضحك كضحكنا، وهذا لا يعنيه عاقلٌ، فضلًا عن السلف الصالح، أهل العلم والفضل والفهم عن الله تعالى المميزين بين صفات الخالق والمخلوقين، فاسلك سبيلهم، تغنم وتسلم، ولا تقلّد آراء المتأخرين تهلك وتندم، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. 2 - (ومنها): بيان فضل الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -، وسعة رحمته، حيث يجعل كلّا من المتقاتلين من أهل الجنَّة، مع أن الكافر قَتَل مسلمًا ظلمًا وعُدوانًا، وجَحْدًا لنعمه تعالى، لكنه بواسع فضله، وسعة رحمته تفضّل عليه بالتوبة، وهداه للإسلام، والقتال في سبيله، حتّى استُشهد، فدخل الجنَّة، {ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4].

3 - (ومنها): أن المتقاتلين ظلمًا إذا وُفّقا للتوبة يكونان متآخيين متصافيين متحابيّن في الجنَّة، كما قال -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} الآية [الأعراف: 43]، وقال {وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47]. 4 - (ومنها): أن كلّ من قُتِل في سبيل الله فهو في الجنَّة، قاله ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى. 5 - (ومنها): أن العبرة بالخواتيم، فلو عمل العبد دهرًا من عمره أنواع الكبائر كلها، ثمّ وفّقه الله في آخر حياته للتوبة، والعمل الصالح، مُحيت عنه ذنوبه كلها، وصار من أهل الجنَّة، {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4]، {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [آل عمران: 74]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 192 - (حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، وَيُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، كَانَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "يَقْبِضُ الله الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَطْوِي السَّماءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟ "). رجال هذا الإسناد: سبعة: 1 - (حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) بن عبد الله بن حَرْملة بن عِمران، أبو حفص التُّجيبيّ المصريّ، صاحب الشّافعيّ، صدوق [11]. رَوَى عن ابن وهب فأكثر، وعن الشّافعيّ ولازمه، وأيوب بن سُويد الرملي، وبشر بن بكر، وأبي صالح عبد الغفار بن داود الحراني، ويحيى بن عبد الله بن بكير، وغيرهم. ورَوَى عنه مسلم، وابن ماجه، وروى له النَّسائيُّ بواسطة أحمد بن الهيثم

الطرسوسي، وأبو دُجَانة أحمد بن إبراهيم المصري، وحفيده أحمد بن طاهر بن حرملة، وأبو عبد الرّحمن أحمد بن عثمان النَّسائيُّ الكبير، رفيق أبي حاتم في الرحلة، وغيرهم. قال: أبو حاتم: يُكْتَب حديثه ولا يحتج به. وقال الدُّوريّ عن يحيى: شيخ لمصر، يقال له: حرملة كان أعلم النَّاس بابن وهب. وقال: ابن عدي: سألت عبد الله بن محمّد ابن إبراهيم الْفَرْهَاذاني أن يملي عليّ شيئًا من حديث حرملة، فقال: يا بُنَيّ ما تصنع بحرملة؟ ضعيفٌ. وقال: أحمد بن صالح: صَنّفَ ابن وهب مائة ألف حديث وعشرين ألف حديث، عند بعض النَّاس النّصف -يعني نفسه- وعند بعض النَّاس منها الكل -يعني حرملة- قال: ابن عدي: وقد تبحرتُ حديث حرملة، وفتشته الكثير فلم أجد فيه ما يجب أن يُضعَّف من أجله، ورجل يكون حديث ابن وهب كله عنده، فليس ببعيد أن يُغْرِب على غيره كُتُبًا ونُسَخًا، وأما حمل أحمد بن صالح عليه، فإن أحمد سَمِعَ في كتب حرملة من ابن وهب، فأعطاه نصف سماعه، ومنعه النّصف، فتَوَلَّدَ بينهما العداوةُ من هذا، وكان من يبدأ بحرملة إذا دخل مصر لم يحدثه أحمد بن صالح، وما رأينا أحدًا جمع بينهما. كذا قاله، وقد جمع بينهما أحمد بن رِشْدِين شيخ الطَّبرانيُّ، لكن يُحْمَلُ قول ابن عدي على الغرباء، مات حرملة سنة (244) كذا قال. وقال: ابن يونس: وُلِد سنة (166)، وتُوُفّي لتسع بقين من شوال سنة (43) قال: وكان من أملى النَّاس بما رَوَى ابنُ وهب، ونقل أبو عمر الْكِنْديّ أن سبب كثرة سماعه من ابن وهب أن ابن وهب استَخْفَى عندهم لمّا طُلِب للقضاء. قال: ونظر إليه أشهب فقال: هذا خير أهل المسجد. وقال: الْعُقَيليّ: كان أعلم النَّاس بابن وهب، وهو ثقة -إن شاء الله تعالى- وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". وقال: أبو عبد الله الْبُوشنْجِي: سمعت عبد العزيز بن عمران المصري يقول: لَقِيتُ حرملة بعد موت الشّافعيّ، فقلت له: أخرج إليّ فِهْرِسْتَ كتب الشّافعيّ، قال: فأخرجه إليّ، فقلت: ما سمعتم من هذه الكتب؟ قال: فسَمَّى لي سبعة كتب أو ثمانية، فقال: هذا كلُّ شيء عندنا عن الشّافعيّ عَرْضًا وسماعًا.

قال أبو عبد الله البوشنجي: فَرَوَى عنه الكتب كلها سبعين كتابًا أو أكثر، وزاد أيضًا ما لم يصنفه الشّافعيّ، وذاك أنه رَوَى عنه فيما أَخْبَرَنَا بعض أصحابنا كتاب الفرق بين السحر والنبوة، وأنه قيل له في ذلك، فقال: هذا تصنيف حفص الفرد، وقد عرضته على الشّافعيّ فَرَضِيَهُ. وله في هذا الكتاب (50) حديثًا. 2 - (يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) بن موسى بن مَيْسَرة بن حَفْص بن حَيّان الصَّدَفيّ، أبو موسى المصريّ، ثقة، من صغار [10]. رَوَى عن ابن عيينة، والوليد بن مسلم، وابن وهب، وأبي ضَمْرة، والشّافعيّ، وأشهب، وأيوب بن سُويد الرملي، ومَعْن بن عيسى القزاز، وغيرهم. ورَوَى عنه مسلم، والنَّسائيّ، وابن ماجه، وابنه أحمد بن يونس، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وأبو زُرْعة، وأبو حاتم، وأبو بكر بن خزيمة، وأبو محمّد بن أبي حاتم، وأبو عوانة الإسفرائيني، وأبو جعفر الطحاوي، وآخرون. قال أبو حاتم: سمعت أبا الطّاهر ابنَ السَّرْح يَحُثُّ عليه، ويُعَظِّم شأنه. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يوثقه، ويرفع من شأنه. وقال النَّسائيُّ: ثقة. وقال علي بن الحسن ابن قُديد: كان يحفظ الحديث. وقال الطحاوي: كان ذا عقل، حدثني علي بن عَمْرو بن خالد الحراني، سمعت أبي يقول: قال لي الشّافعيّ: يا أبا الحسن انظر إلى هذا الباب، فنظرت إليه، فقال ما يدخل منه أحد أعقل من يونس بن عبد الأعلى. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". قال الحافظ: وكان إمامًا في القراءات، قرأ على وَرْشٍ وغيره وقرأ عليه ابن جرير الطّبريّ وجماعة. وقال أبو عمر الْكِنْديّ: كان فقيرًا شديد التّقشُّف، مقبولا عند القضاة. قال يحيى بن حسان: يونسكم هذا من أركان الإسلام. قال أبو عمر: كان يُسْتَسْقَى بدعائه. وقال مسلمة بن قاسم: كان حافظًا.

وقد أنكروا عليه تفرده بروايته عن الشّافعيّ حديث: "لا مَهْدِيّ إِلَّا عيسى"، أخرجه ابن ماجه عنه، وكذا الذهبيّ يَدَّعِي أن يونس دَلَّسَه، ويستند في ذلك أن أبا الطاهر رواه عن يونس، فقال: حُدِّثتُ عن الشّافعيّ، لكن رواه ابن منده في "فوائده" من طريق الحسن بن يوسف الطرائفي، وأبي الطّاهر المذكور كلاهما عن يونس: أنا الشّافعيّ ورواه يوسف الميانجي عن ابن خزيمة، وابن أبي حاتم، وزكرياء الساجي، وغير واحد، عن يونس: ثنا الشّافعيّ. وذكر حفيده عبد الرّحمن بن أحمد بن يونس أن دَعْوَتهم في الصَّدِف، وليسوا من أنفسهم ولا مواليهم، قد تُوُفِّي غداة الاثنين ليومين مَضَيَا من ربيع الآخر سنة أربع وستين ومائتين، وكان مولده في ذي الحجة سنة سبعين ومائة. تفرد به المصنّف، ومسلم، والنَّسائيّ، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا. 3 - (عَبْدُ الله بْنُ وَهْبٍ) بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمّد المصريّ الفقيه، ثقة حافظ عابدٌ [9]. رَوَى عن عمرو بن الحارث، وابن هاني، وحسين بن عبد الله الْمُعَافري، وبكر بن مضر، وحَيْوَة بن شُرَيح، وسعيد بن أبي أَيّوب، والليث بن سعد، وابن لهيعة، وعياض ابن عبد الله الْفِهْريّ، وعبد الرّحمن بن شُريح، وغيرهم من أهل مصر، وعن مالك، وسليمان بن بلال، ويونس بن يزيد، وسلمة بن وَرْدان، وجماعة. ورَوَى عنه ابن أخيه أحمد بن عبد الرّحمن بن وهب، والليث بن سعد شيخه، وعبد الرّحمن بن مهدي، وعبد الله بن يوسف التنيسي، وأحمد بن صالح المصري، ويحيى بن يحيى النيسابوري، وعلي بن المديني، وسعيد بن أبي مريم، ويحيى بن بكير، وإبراهيم بن المنذر، وأصبغ بن الفَرَج، وحرملة بن يحيى، وقُتَيْبَةُ، وجماعة، ويونس بن عبد الأعلى، والربيع بن سليمان المراديّ، وآخرون. قال الميموني عن أحمد: كان ابن وهب له عقل ودين وصلاح. وقال أبو طالب عن أحمد: صحيح الحديث، يَفْصِلُ السماع من الْعَرْض، والحديثَ من الحديث، ما

أصح حديثه وأثبته، قيل له: إنّه كان يُسيئ الأخذ، قال: قد كان، ولكن إذا نظرتَ في حديثه، وما روى عن مشايخه وجدته صحيحًا. وقال أحمد بن صالح: حدث ابن وهب بمائة ألف حديث. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة. وقال أبو زرعة: سمعت ابن بُكير يقول: ابن وهب أفقه من ابن القاسم. وقال علي بن الحسين بن الجنيد: سمعت أبا مُصْعَب يُعَظِّم ابن وهب، قال: ومسائل ابن وهب عن مالك صحيحة. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: صالح الحديث، صدوقٌ أحب إليّ من الوليد بن مسلم، وأصح حديثًا منه بكثير. وقال هارون بن عبد الله الزهريّ: كان النَّاس بالمدينة يختلفون في الشيء عن مالك، فينتظرون قدوم ابن وهب حتّى يسألوه عنه. وقال الحارث بن مسكين: شهدت ابن عيينة يقول: هذا عبد الله ابن وهب شيخ أهل مصر. وقال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: نظرت في نحو ثلاثين ألفًا من حديث ابن وهب بمصر وغير مصر، لا أعلم أني رأيت له حديثًا لا أصل له، وهو ثقة. وقال أبو حاتم بن حبّان: جمع ابن وهب وصَنَّف، وهو حَفِظَ على أهل الحجاز ومصر حديثهم، وعُنِي بجميع ما رووا من المسانيد والمقاطيع، وكان من الْعُبّاد. وقال ابن عدي: وابنُ وهب من أجلة النَّاس وثقاتهم، وحديث الحجاز ومصر يدور على رواية ابن وهب، وجَمع لهم مسندهم ومقطوعهم، وقد تفرّد عن غير شيخ بالرواية، من الثقات والضعفاء، ولا أعلم له حديثًا منكرًا إذا حدث عنه ثقةٌ من الثقات. وقال يونس بن عبد الأعلى: عُرِضَ على ابن وهب القضاءُ، فجَنَّن نفسه، ولزم بيته. وقال أبو الطّاهر ابن السرح لم يزل ابن وهب يسمع من مالك من سنة (48) إلى أن مات مالك. وقال الخليلي: ثقة متفق عليه، و"موطؤه" يزيد على كلّ مَنْ رَوَى عن مالك. وقال حاتم بن اللَّيث الجوهري عن خالد بن خِدَاش: قُرئ على ابن وهب "كتاب أهوال يوم القيامة" -يعني من تصنيفه- فَخَرّ مَغْشيًّا عليه، فلم يتكلم بكلمة

حتّى مات بعد أيّام، قال: فَنَرَى -والله أعلم- أنه انصدع قلبه، فمات بمصر سنة سبع وتسعين ومائة. وقال ابن يونس: حدثني أبي عن جدي، قال: سمعت ابن وهب يقول: وُلِدتُ سنة (125)، وطَلَبتُ العلم وأنا ابن (17) سنة. وقال ابن يونس: وتُوُفّي يوم الأحد لأربع بقين من شعبان. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب من الأحاديث (104). 4 - (يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النِّجَاد، ويقال: ابن مُشكان بن أبي النِّجَاد الأيليّ -بفتح الهمزة، وسكون التحتيّة، بعدها لام- أبو يزيد، مولى معاوية بن أبي سفيان، ثقة ثبتٌ، من كبار [7]. رَوَى عن أخيه، أبي عليّ بن يزيد، والزهريّ، ونافع مولى ابن عمر، وهشام بن عروة، وعُمارة بن غَزِيّة، وعكرمة، وغيرهم. ورَوَى عنه عَمرو بن الحارث، ومات قبله، وابن أخيه عنبسة بن خالد بن يزيد الأيليّ، والليث، والأوزاعيّ، وسليمان بن بلال، وابن المبارك، وابن وهب، وبقية بن الوليد، وحسان بن إبراهيم الكرماني، وعبد الله بن رَجَاء المكي، وأبو صفوان عبد الله ابن سعيد الأموي، وعبد الله بن عُمَر النُّمَيري، وعثمان بن عمر بن فارس، وآخرون. قال ابن المديني، وابن مهدي: كان ابن المبارك يقول: كتابه صحيح، قال ابن مهدي: وكذا أقول. وقال عبدان عن ابن المبارك: إنِّي إذ انظرت في حديث معمر ويونس يعجبني كأنهما خرجا من مشكاة واحدة. وقال عبد الرزّاق عن ابن المبارك: ما رأيت أحدًا أروى للزهري من معمر إِلَّا أن يونس أحفظ للمسند، وفي رواية إِلَّا يونس، فإنّه كتب على الوجه. وقال محمّد بن عوف عن أحمد: قال وكيع: رأيت يونس ابن يزيد الأيلي، وكان سيء الحفظ. وقال حنبل بن إسحاق عن أحمد: ما أعلم أحدًا أحفظ بحديث الزّهريُّ من معمر إِلَّا ما كان من يونس فإنّه كتب كلّ شيء هناك. وقال أبو زرعة الدمشقي: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: في حديث يونس عن الزّهريُّ منكرات، منها عن سالم عن أبيه، "فيما سَقَت السَّماء العشر"، وقال الميموني:

سئل أحمد من أثبت في الزّهريّ؟ قال: معمر، قيل: فيونس؟ قال: رَوَى أحاديث منكرة. وقال الفضل بن زياد عن أحمد: ثقة. وقال الدُّوري عن ابن معين: أثبت النَّاس في الزّهريّ مالك ومعمر ويونس وعُقيل وشعيب وابن عيينة. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: يونس أحب إليك أو عقيل؟ قال: يونس ثقة، وعقيل ثقة قليل الحديث عن الزّهريّ، قلت: أين يقع الأوزاعي من يونس؟ قال: يونس أسند عن الزّهريّ. وقال يعقوب بن شيبة عن أحمد بن العباس: قلت لابن معين: معمر أو يونس؟ قال: يونس أسندهما، وهما ثقتان جميعًا، وكان معمر أحلى. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: يونس ومعمر عالمان بالزهري. وقال أحمد بن صالح: نحن لا نُقَدِّم في الزّهريّ على يونس أحدًا، قال: وكان الزّهريُّ إذا قَدِمَ أَيْلَةَ نزل عليه، وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". وقال ابن يونس: كان من موالي بنى أمية. قيل: تُوُفِّي بصعيد مصر سنة تسع وخمسين ومائة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (45) حديثًا. 5 - (ابْنُ شِهَابٍ) محمّد بن مسلم، أبو بكر الزهريّ الإمام الحجة الفقيه الحافظ المتفق على جلالته وإمامته، وإتقانه، من رءوس [4] 2/ 15. 6 - (سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ) بن حَزْن بن أبي وهب القرشيّ المخزوميّ، أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار، من كبار [3] 12/ 104. 7 - (أبو هُرَيْرَةَ) المذكور في السند الماضي، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيّات المصنّف. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصّحيح. 3 - (ومنها): أن نصفة الأوّل مسلسلٌ بثقات المصريين، ونصفه الثّاني مسلسل بثقات المدنيين. 4 - (ومنها): أن هذا الإسناد أصح أسانيد أبي هريرة -رضي الله عنه- على ما ذكره الحافظ أبو

عبد الله الحاكم في كتابه "معرفة علوم الحديث" ص (55). 5 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: ابن شهاب، عن ابن المسيّب. 6 - (ومنها): أن سعيدًا من الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، وقد تقدّموا غير مرّة. 7 - (ومنها): أن فيه أبا هريرة -رضي الله عنه-، كما بيَّنَّاه في السند الماضي، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ، أنه قال: (حَدَّثَني سَعِيدُ بْنُ المسَيَّبِ) هكذا في هذه الرِّواية صرّح الزهريّ بأن سعيدًا حدّثه، فشيخه هو ابن المسيّب. [تنبيه]: (اعلم): أنه اختُلف في هذا الإسناد على ابن شهاب في شيخة، فقال يونس: عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة له، وخالفه في ذلك شعيب بن أبي حمزة، ومحمد بن الوليد الزُّبَيدي (¬1)، وعبد الرّحمن بن خالد بن مسافر الفهميّ، وإسحاق بن يحيى، فقالوا: عن الزّهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. فأمّا رواية شعيب بن أبي حمزة، فقد وصلها الدارمي، قال: حَدَّثَنَا الحكم بن نافع -وهو أبو اليمان- فذكره، وفيه: سمعت أبا سلمة يقول: قال: أبو هريرة، وكذا أخرجه ابن خُزيمة في "كتاب التّوحيد" عن محمّد بن يحيى الذُّهْلي، عن أبي اليمان. وأما رواية الزُّبَيْدي، فوصلها ابن خزيمة أيضًا من طريق عبد الله بن سالم عنه، عن الزّهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وأما طريق عبد الرّحمن بن خالد بن مسافر فوصلها البخاريّ في "تفسير سورة الزُّمَر" من طريق اللَّيث بن سعد عنه كذلك. وأما رواية إسحاق بن يحيى، فوصلها الذُّهْلي في "الزهريات". قال الإسماعيلي وافق الجماعةَ عبيدُ الله بنُ زياد الرُّصَافي في أبي سلمة. ¬

_ (¬1) بضم الزاي، بعدها موحدة.

قال الحافظ: وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق الصَّدَفيّ، عن الزّهريّ كذلك، ونَقَل ابن خزيمة عن محمّد بن يحيى الذُّهْلي أن الطريقين محفوظان. انتهى. قال: وصنيع البخاريّ يقتضي ذلك، وإن كان الّذي تقتضيه القواعد ترجيحَ رواية شعيب؛ لكثرة من تابعه، لكن يونس كان من خَوَاصِّ الزّهريّ الملازمين له. انتهى ملخّصًا من "الفتح" (¬1)، وهو تحقيق نفيسٌ. والله تعالى أعلم. (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- (كَانَ يَقُولُ: قَالَ رَسْولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "يَقْبِضُ) بكسر الموحّدة، من باب ضرب (الله الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ) قال القاضي عياض: هذا الحديث جاء في "الصّحيح" على ثلاثة ألفاظ: القبض، والطيّ، والأخذ، وكلّها بمعنى الجمع، فإن السماوات مبسوطة، والأرض مَدْحُوّةٌ ممدودة، ثمّ رجع ذلك إلى معنى الرفع والإزالة والتبديل، فعاد ذلك إلى ضمّ بعضها إلى بعض وإبادتها، فهو تمثيل لصفة قبض هذه المخلوقات، وجمعها بعد بسطها، وتفرّقها دلالةً على المقبوض والمبسوط، لا على البسط والقبض، وقد يحتمل أن يكون إشارةً إلى الاستيعاب انتهى. وقال السنديّ رحمه الله: هذا الحديث كالتفسير لقوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، والمقصود بيان عظمته تعالى، وحقارة الأفعال العظام الّتي تتحيّر فيها الأوهام بالإضافة إلى كمال قدرته، وهذا المقصود حاصلٌ بهذا الكلام، وإن لم يُعرف كيفيّة القبض، وحقيقة اليمين، فالبحث عنهما خارجٌ عن القدر المقصود إفهامه، فلا ينبغي. انتهى (¬2). (ثُمَّ يَقولُ: أَنَا الْملِكُ) قال البيهقي رحمه الله: الملك، والمالك: هو الخاصّ الملكِ، ومعناه في حقّ الله تعالى القادر على الإيجاد، وهي صفة يستحقها لذاته. وقال الراغب: الملك التصف بالأمر والنهي، وذلك يختص بالناطقه، ولهذا قال: {مَلِكِ النَّاسِ} ¬

_ (¬1) "الفتح" 13/ 449. (¬2) "شرح السندي" 1/ 125.

[النَّاس: 2]، ولم يقل: مَلِكُ الأشياء، قال: وأما قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]، فتقديره: الملك في يوم الدين؛ لقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16] انتهى. ويحتمل أن يكون خص النَّاس بالذكر في قوله تعالى: {مَلِكِ النَّاسِ}؛ لأن المخلوقات جمادٌ ونَامٍ، والنامي صامتٌ وناطقٌ، والناطق متكلم وغير متكلم، فأشرف الجميع المتكلم، وهم ثلاثة: الإنس والجن والملائكة، وكل مَنْ عداهم جائز دخوله تحت قبضتهم وتصرفهم، وإذا كان المراد بالناس في الآية المتكلم، فمن ملكوه في ملك من ملكهم، فكان في حكم ما لو قال: ملك كلّ شيء، مع التنويه بذكر الأشرف، وهو المتكلم. قاله في "الفتح" (¬1). (أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْص؟) يقوله تعالى هذا إذلالًا لهم، وإظهارًا لعظمته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 192) بهذا السند فقط، وأخرجه أحمد في "مسنده" (2/ 374) و (البخاريُّ) (8/ 135 و 9/ 142) و (مسلم) (8/ 126) وأخرجه أيضًا الدارميّ في "سننه" (2802) و (البخاريّ) (6/ 158) من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو إثبات ما أنكرته الجهميّة ¬

_ (¬1) "الفتح" 13/ 448 - 449.

من الصفات، وهو صفة القبض، والطيّ، واليمين، والكلام، حيث يقول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: "أنا الملك أين ملوك الأرض؟ "، وكلّها صفات ثابتة لله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - على ما يليق بجلاله، بل نثبتها له كما أثبتها هذا الحديث الصّحيح المتّفق عليه، ولا نعطّل، ولا نمثّل، ولا نكيّف، ولا نؤول. 2 - (ومنها): بيان عظمة الله تعالى، وأنه المتفرّد بالملك، وأن الخلائق كلهم يفنون. [تنبيه]: ذكر في "الفتح" عن ابن أبي حاتم رحمه الله أنه قال في "كتاب الرَّدِّ على الجهمية": وجدت في كتاب أبي عمر نُعيم بن حماد، قال: يقال للجهمية: أخبرونا عن قول الله تعالى بعد فناء خلقه: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}، فلا يجيبه أحد، فيرد على نفسه: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]، وذلك بعد انقطاع ألفاظ خلقه بموتهم، أفهذا مخلوق. انتهى. وأشار بذلك إلى الرَّدِّ على من زعم أن الله يخلُق كلامًا، فيسمعه من شاء بأن الوقت الّذي يقول فيه: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} لا يبقى حينئذ مخلوق حيًّا، فيجيب نفسه، فيقول: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}، فثبت أنه يتكلم بذلك، وكلامه صفة من صفات ذاته مخلوق. وعن أحمد بن سَلَمة، عن إسحاق بن راهويه قال: صَحّ أن الله يقول بعد فناء خلقه: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}، فلا يجيبه أحد، فيقول لنفسه: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}. قال: ووجدت في كتاب عند أبي، عن هشام بن عبيد الله الرَّازيُّ قال: إذا مات الخلق، ولم يبق إِلَّا الله، وقال: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}، فلا يجيبه أحدٌ، فيرد على نفسه، فيقول: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}، قال: فلا يشكّ أحدٌ أن هذا كلام الله، وليس بوحي إلى أحد؛ لأنه لم تَبْقَ نفس فيها روح إِلَّا وقد ذاقت الموت، والله هو القائل، وهو المجيب لنفسه. وفي حديث الصور الطَّويل: "فإذا لم يبق إِلَّا الله كان آخرًا كما كان أوَّلًا، طَوَى السَّماء والأرض، ثمّ دحاها، ثمّ تلقفهما، ثمّ قال: أنا الجبار ثلاثًا، ثمّ قال: {لِمَنِ

الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ثلاثًا، ثمّ قال لنفسه: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (¬1). وقال الإمام ابن جرير الطّبريّ رحمه الله في قوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16]، يعني يقول الله: {لِمَنِ الْمُلْكُ}، فترك ذكر ذلك استغناءً لدلالة الكلام عليه، قال: وقوله: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} ذكر أن الرب جلَّ جلاله هو القائل ذلك مجيبًا لنفسه (¬2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 193 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا الْوَليدُ بْنُ أَبِي ثَوْرٍ الهَمْدَانِيُّ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمِيرَةَ، عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المطَّلِبِ، قَالَ: كُنْتُ بِالْبَطْحَاءِ في عِصَابَةٍ، وَفِيهِمْ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَمَرَّتْ بِهِ سَحَابَةٌ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: "مَا تُسَمُّونَ هَذِهِ؟ قَالُوا: السَّحَابُ، قَالَ: "وَالمُزْنُ"، قَالُوا: وَالْمُزْنُ، قَالَ: "وَالْعَنَانُ"، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالُوا: وَالْعَنَانُ، قَالَ: "كَمْ ترَوْنَ بَيْنكُمْ وَبَيْنَ السَّماءِ؟ " قَالُوا: لَا نَدْرِي، قَالَ: "فَإِنَّ بَيْنكُمْ وَبَيْنَهَا إِمَّا وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَالسَّمَاءُ فَوْقَهَا كَذَلِكَ"، حَتَى عَدَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ، ثُمَّ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بَحْرٌ بَيْنَ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ كَمَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَوْ عَالٍ، بَيْنَ أَظْلَافِهِنَّ وَرُكَبِهِنَّ كَمَا بَيْنَ سَمَاء إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ عَلَى ظُهُورِهِنَّ الْعَرْشُ، بَيْنَ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ كَمَا بَيْنَ سَماءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ الله فَوْقَ ذَلِكَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى"). رجال هذا الإسناد: سبعة: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيىَ) الذّهْليّ النيسابوريّ، ثقة ثبت حافظ جليل [11] 2/ 16. 7 - (مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاح) الدُّولابي، أبو جعفر البغداديّ، البزّاز، مولى مُزَينة، ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" 13/ 450. (¬2) راجع "تفسير ابن جرير" 21/ 366.

صاحب "السنن"، ثقة حافظ [10]. رَوَى عن حفص بن غياث، والفضل بن موسى السِّيناني، وإسماعيل بن جعفر، وإسماعيل بن زكريا، وإبراهيم بن سعد، ويوسف بن يعقوب الماجشون، والوليد بن مسلم، وهشيم، وابن المبارك، وابن عيينة، وغيرهم. ورَوَى عنه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، وروى الباقون عن البخاريّ، والحسن ابن محمّد الزعفراني، وداود بن سليمان الدقاق، وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، ومحمد ابن يحيى بن كثير الحراني، والذهلي، وعبد الملك بن عبد الحميد الميموني عنه، وأبو زرعة، وأبو حاتم الرازيان، وأبو زرعة الدمشقي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وغيرهم. قال القاسم بن نصر المُخَرِّمي: سألت أحمد بن حنبل عن محمّد الدولابي، فقال: شيخنا ثقة. وقال ابن معين: ثقة مأمون. وقال العجاب: ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صاحب حديث، وقال في موضع آخر: كان ثقةً عالمًا بهشيم. وقال أبو حاتم: ثقة ممّن يحتج بحديثه، وكان أحمد يعظمه. وقال تمتام: حَدَّثَنَا محمّد الدولابي الثقة المأمون والله. وقال ابن عدي: شيخ سُنّي من الصالحين. وقال مسلمة في "الصلة": ثقة مشهور. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: وُلد بالري بقرية يقال لها دُولاب. وقال ابنه: مات أبي وهو ابن (77) سنة. وقال ابن سعد: مات في آخر المحرم سنة سبع وعشرين ومائتين، وفيها أَرَّخه ابن حبّان، لكن قال: لأربع عشرة ليلة خلت من المحرم. وفي "الزهرة": رَوَى عنه البخاريّ (12) حديثًا، ومسلم (20). وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 3 - (الْوَليدُ بْنُ أَبِي ثَوْرٍ الْهَمْدَانِيُّ) هو الوليد بن عبد الله بن أبي ثور المُرْهِبِيّ الكوفيّ، نُسب لجدّه، ضعيف [8]. رَوَى عن عبد الملك بن عُمير، وسماك بن حرب، وزياد بن عِلاقة، والسُّدّي،

ومحمد بن سُوقة، وغيرهم. ورَوَى عنه يونس بن محمّد المؤدب، ومحمد بن بكار بن الريان، ومحمد الدُّولابي، وعباد بن يعقوب الرَّوَاجِنِي، وجُبَارة بن المُغَلِّس، ولُوَين، وغيرهم. قال أبو داود: قال أحمد: ما لي به ذاك الْخُبْر، كان شيخًا قَدِم هنا، كان ابن الصبّاح يحدث عنه. وقال الدُّوري عن ابن معين: ليس بشيء. وقال محمّد بن عبد الله بن نمير: كذّاب. وقال سعيد الْبَرْذعيّ عن أبي زرعة: منكر الحديث يَهِمُ كثيرًا. وقال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: في حديثه وَهَاءٌ، وعن أبيه: شيخ يُكتب حديثه، ولا يحتج به. وقال يعقوب بن سفيان، والنَّسائيّ، وصالح بن محمّد: ضعيف. وقال صالح بن محمّد في موضع آخر: سألنا محمّد بن الصبّاح عنه، فقال: جاء إلى هُشيم فأكرمه، فكتبنا عنه. وقال يعقوب الدّوْرقي عن الوليد بن صالح: سألت شريكًا عنه فزكاه. وقال الْعُقيليّ: يحدّث عن سماك بمناكير، لا يتابع عليها. وقال ابن قانع: مات سنة اثنتين وسبعين ومائة. أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 4 - (سِمَاك (¬1)) بن حرب بن أوس بن خالد الذُّهليّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوقٌ، وروايته عن عكرمة خاصّةً مضطربة، وتغيّر بآخره، وربّما تلقّن [4] 4/ 30. 5 - (عَبْدُ الله بْنُ عَمِيرَةَ) -بفتح أوله، وكسر ثانيه- الكوفيّ مجهول (¬2) [2]. قال في "التهذيب": رَوَى عن الأحنف بن قيس، عن العباس حديث الأَوْعَال -يعني هذا الحديث- وعنه سماك بن حرب، وفيه عن سماك اختلاف، قال البخاريّ: لا يُعلَم له سماع من الأحنف. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وحَسَّن التّرمذيّ حديثه. ¬

_ (¬1) بكسر السين المهملة، وتخفيف الميم. (¬2) قال عنه في "التقريب": مقبول، والظاهر أنه مجهول، كما يظهر من ترجمته، فتبصّر.

وقال أبو نعيم في "معرفة الصّحابة": أدرك الجاهلية، وكان قائد الأعشى، لا تصح له صُحْبةٌ، ولا رؤية، ذكره بعض المتأخرين -يعني ابن منده-. وقال مسلم في "الوُحْدان": تفرد سماك بالراوية عنه. وقال إبراهيم الحربيّ: لا أعرفه. وقال ابن ماكولا: روى عن جرير وغيره. أخرج له أبو داود، والترمذيّ، والمصنّف هذا الحديث فقط. 6 - (الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ) بن معاوية بن حِصْن التميميّ السعديّ، أبو بَحْر البصريّ، اسمه الضحّاك، وقيل: صخر، وقيل: الحارث، والأحنف لقبٌ، أدرك النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ولم يُسْلِم، ويُروَى بسند لين أن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- دعا له، مخضرم ثقة [2]. رَوَى عن عمر، وعلي، وعثمان، وسعد، وابن مسعود، وأبي ذرّ، وغيرهم. ورَوَى عنه الحسن البصري، وأبو العلاء بن الشِّخِّير، وطلق بن حبيب، وغيرهم. قال الحسن: ما رأيت شريف قوم أفضل من الأحنف، ومناقبه كثيرة، وحلمه يُضْرَب به المثل. وذكره محمّد بن سعد في الطبقة الأولى من أهل البصرة، قال: وكان ثقةً مأمونًا قليل الحديث. وذكر الحاكم أنه الّذي افتتح مَرْوَ الرُّوذ. وقال مُصْعَب بن الزُّبير يوم موته: ذهب اليوم الحزم والرأي. قيل: مات سنة (67)، وقيل: سنة (72). وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". وقال أحمد في "الزهد": حَدَّثَنَا أبو عبيدة الحداد، ثنا عبد الملك ابن مَعْن، عن خير بن حَبِيب أن الأحنف بَلَّغَه رجلان دعاءَ النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فسجد. ومن طريق الحسن عن الأحنف قال: لست بحليم، ولكني أتحالم. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (193) وحديث (689) "لا تزال أُمَّتي على الفطرة ما لم يؤخّروا المغرب". 7 - (الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ المطَّلِبِ) بن هاشم، عمّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-رضي الله عنه- 21/ 140، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث: (عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: كنْتُ بِالْبَطْحَاءِ) قال ابن الأثير: البطحاء: الحصى الصغار، وبطحاء الوادي وأبطحه: حصاه اللَّيِّن في بطن المَسِيل، وأبطح مكّة هو مَسيل واديها، ويُجمع على البِطَاح، والأباطح. انتهى (¬1). [تنبيه]: يحتمل أن يكون المراد بالبطحاء بطحاء مكّة، ويحتمل أن يكون غيره، وإلى الأوّل مال الطيبيّ حيث استدلّ به، وبقوله في رواية الترمذيّ "زعم أنه كان جالسًا إلخ" على أن العباس لم يكن حينئذ مسلمًا، ولا تلك العصابة كانوا مسلمين، قال: وأراد -صلى الله عليه وسلم- أن يَشغلهم عن السفليّات إلى العلّويات، والتفكّر في ملكوت السماوات والعرش، ثمّ يترقّوا إلى معرفة خالقهم، ورازقهم، ويستنكفوا عن عبادة الأصنام، ولا يُشركوا بالله الملك العلّام، فأخذ في الترقّي من السحاب، ثمّ من السماوت، ثمّ من البحر، ثمّ من الأوعال، ثمّ من العرش إلى ذي العرش. انتهى (¬2). (في عِصَابَةٍ) أي مع جماعة، فـ "في" بمعنى "مع"، و"العصابة" بالكسر: الجماعة من النَّاس (وَفِيهِمْ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-) جملة في محلّ نصب على الحال (فَمَرَّتْ بِهِ سَحَابَةٌ) واحدة السحاب، سُمّي بذلك؛ لانسحابه في الهواء، والجمع سُحُبٌ بضمّتين (¬3) (فَنَظَرَ) النبيّ -صلى الله عليه وسلم- (إِلَيْهَا) أي إلى السحابة (فَقَالَ: "مَا) استفهاميّة (تُسَمُّونَ هَذِهِ؟) أي أيّ شيء تسمّون هذه السحابة؟ (قَالُوا: السَّحَابُ) بالرفع خبر لمحذوف، أي هي السحاب، ويحتمل النصب، أي نسمّيها السحاب، وكذا يجوز الوجهان في "المزن"، و"العَنَان" (قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- " (وَالْمُزْنُ") أي وتسمونها أيضًا المزن، وهو بضم الميم، وسكون الزاي: السحابُ، أو أبيضه، وقال الطيبي: هو الغيم والسحاب، واحدته مُزنة، وقيل: هي ¬

_ (¬1) "النهاية" 1/ 134 - 135. (¬2) "الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3624. (¬3) "المصباح المنير" 1/ 267.

السحاب الأبيض انتهى (¬1) (قَالُوا: وَالْمُزْنُ، قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- ("وَالْعَنَانُ") أي وتسمونها أيضًا الْعَنَان، وهو كالسَّحاب وزنًا ومعنًى، واحدته عَنَانة، وقيل: ما عَنَّ لك فيها، أي اعترض، وبدا لك إذا رفعت رأسك. قاله الطيبيّ (قَالَ أَبُو بَكْرٍ) هكذا النسخ، ولا ذكر لأبي بكر في السند، ولعلّ المصنّف أيضًا رواه عن شيخه أبي بكر بن أبي شيبة، فإنّه كثير الرواية عنه، فليُحرّر (قَالُوا: وَالْعَنَانُ، قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- ("كَمْ ترَوْنَ) أي تظنّون وتعتقدون، كما في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا} (بَيْنكُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ؟ "). وفي رواية أبي داود: "هل تدرون ما بُعْدُ ما بين السَّماء والأرض؟ " (قَالُوا: لَا نَدْرِي) أي لا نعلم ذلك (قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- "فَإِنَّ بَيْنكُمْ وَبَيْنَهَا إِذَا وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ سَنَةً) قال السنديّ: قيل: لعلّ الترديد من شك الراوي، وقد جاء في الأخبار أن بُعد ما بين السَّماء والأرض خمسمائة سنة، فقال الطيبيّ: المراد بالسبعين في الحديث التكثير دون التحديد، ورُدّ بأنه لا فائدة حينئذ لزيادة "واحد، أو اثنين"، قال السنديّ: لعلّ التّفاوت لتفاوت السائر؛ إذ لا يقاس سير الإنسان بسير الفرس، كذلك ذكرته في "حاشية أبي داود"، ثمّ رأيت في "حاشية السيوطيّ" على الكتاب أن الحافظ ابن حجر ذكر مثله، فلله الحمد على التوفق. انتهى (¬2) (وَالسَّمَاءُ فَوْقَهَا كَذَلِكَ) أي بالمدّة المذكورة (حَتَّى عَدَّ) -صلى الله عليه وسلم- (سَبْعَ سَمَاوَاتٍ، ثُمَّ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بَحْرٌ) بالرفع كما في بعض النسخ على أنه مبتدأ خبره الظرف قبله، ووقع في بعض النسخ "بحرًا" بالنصب، فيكون معطوفًا على اسم "إنّ" في قوله: "فإن بينكم وبينها إمّا واحدًا" (بَيْنَ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ) أي بين أعلى ذلك البحر وأسفله (كَما بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سماءٍ، ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ ثَمانِيَةُ أَوْعَالٍ) يحتمل "ثمانية" الرفع والنصب كما مرّ آنفًا في "بحر"، و"الأوعال" بالفتح جمع وَعِل بفتح، فكسر: وهو تَيْسُ الجبل، والمراد به هنا الملائكة على صورة الأوعال، كما قال -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَيَحْمِلُ ¬

_ (¬1) "الكاشف" 11/ 3623. (¬2) "شرح السنديّ" 1/ 126.

عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (بَيْنَ أَظْلَافِهِنَّ) بالفتح: جمع ظِلْف، بكسر فسكون، وهو للبقر والغنم، كالحافر للفرس (وَرُكَبِهِنَّ) بضم ففتح: جمع ركبة بضم، فسكون، كغُرْفة وغُرَف (كَمَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ عَلَى ظُهُورِهِنَّ الْعَرْشُ، بَيْنَ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ كَمَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ الله فَوْقَ ذَلِكَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى) فيه أن الله تعالى مستوٍ على عرشه، وهو بائن من خلقه، وقال السنديّ: تصوير لعظمته - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -، وفوقيّته على العرش بالعلّوّ والعظمة والحكم، لا الحلول والمكان. انتهى. قال الجامع عفا الله عنه: إن قولنا: إن الله تعالى استوى على العرش، أي علا وارتفع، لا يلزم منه الاتحاد، ولا الحلول، بل هو استواء وعلوّ وارتفاع يليق بجلاله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -، ولا يجوز أن نؤوّله بأنه بمعنى استولى كما هو مذهب الأشاعرة والمتكلّمين، فتنبه لهذه الدقيقة، فإنها من مزالّ الأقدام، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث العباس بن عبد المطّلب هذا ضعيف؛ لضعف الوليد بن عبد الله، بل كذّبه ابن نُمير، وقال أبو زرعة: منكر الحديث، وقال ابن معين: ليس بشيء، وجهالة عبد الله ابن عَمِيرة؛ فإنّه لم يرو عنه إِلَّا سماك بن حرب، وضعفه العقيليّ وابن عديّ، وقال إبراهيم الحربيّ والذهبيّ: لا يُعرف، وقال البخاريّ في "التاريخ الكبير": لا يعلم له سماع من الأحنف. والحاصل أن الحديث ضعيف جدًّا، فلا التفات إلى تحسين الترمذيّ له، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 193) بهذا السند فقط، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (1/ 206 و 207) و (أبو داود) (4723 و 4725) و (الترمذيّ) (3320)،

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 194 - (حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ كَاسِب، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو ابْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا قَضَى الله أَمْرًا في السَّمَاءِ، ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ أَجْنِحَتَهَا خُضْعَانًا لِقَوْلهِ، كَأَنَّهُ سلسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، فَـ {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23]، فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعِ، بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، فَيَسْمَعُ الْمَلَائِكَةُ الْكَلِمَةَ، فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، فَرُبَّمَا أَدْرَكَهُ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا إِلَى الَّذِي تَحْتَهُ، فَيُلْقِيهَا عَلَى لِسَانِ الْكَاهِنِ أَوِ السَّاحِرِ، فَرُبَّمَا لَمْ يُدْرَكْ حَتَّى يُلْقِيَهَا، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ، فتصْدُقُ تِلْكَ الْكَلِمَةُ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّماءِ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ كَاسِبٍ) المدنيّ، نزيل مكّة، صدوقٌ ربّما وَهِم [10] 1/ 9. 2 - (سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنةَ) الهلاليّ، أبو محمّد الكوفيّ، ثمّ المكي، ثقة ثبت فقيه حجة، من كبار [8] 2/ 13. 3 - (عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) الأثرم الجُمحيّ، أبو محمّد المكيّ، ثقة ثبت [4] 10/ 80. 4 - (عِكْرِمَةُ) مولى ابن عبّاس، أبو عبد الله المدنيّ، بربريّ الأصل، ثقة ثبت مفسّر، لا يثبت عنه بدعة [3] 9/ 62. 5 - (أبو هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- 1/ 1، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصّحيح، غير شيخه، وهو صدوق، ولم ينفرد بهذا الحديث، فقد تابعه عليّ بن المديني عند البخاريّ في "صحيحه"، والحميديّ في

"مسنده"، وأحمد بن عبدة، وإسماعيل بن إبراهيم كلاهما عند أبي داود، وابن أبي عمر عند الترمذيّ، فكلهم رووه عن سفيان بن عيينة. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، غير عكرمة، وأبا هريرة فمدنيان. 4 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: عمرو عن عكرمة. 5 - (ومنها): أن فيه أبا هريرة -رضي الله عنه-، وقد سبق القول فيه قريبًا، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- (أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا قَضَى الله أَمْرًا) أي تكلَّم الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بأمر (في السَّمَاءِ) في حديث النواس بن سمعان -رضي الله عنه- عند الطَّبرانيُّ مرفوعًا: "إذا تكلم الله بالوحي، أَخَذت السماءَ رَجْفَةٌ شديدةٌ من خوف الله، فإذا سَمِع أهلُ السَّماء بذلك صَعِقُوا، وخَرُّوا سُجَّدًا، فيكون أَوَّلهم يرفع رأسه جبريلُ، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، فينتهي به على الملائكة، كلما مَرّ بسماء سأله أهلها، ماذا قال رَبَّنَا؟ قال: الحقَّ، فينتهي به حيث أُمِرَ (ضَرَبَتِ المَلَائِكَةُ أجْنِحَتَهَا) وعند البخاريّ: "بأجنحتها" (خُضْعَانًا) بضم أوله وسكون ثانية، مصدر خَضَع، كالغُفْران، والْكُفْرَان، ويُروى بالكسر، كالْوِجْدَان، والْعِرْفَان، أو هو جمع خاضع، كالجِيعَان، فإن كان جمعًا، فهو حالٌ، وإن كان مصدرًا جاز أن يكون مفعولًا مطلقًا؛ لما في ضرب الأجنحة من معنى الخضوع، أو مفعولًا له، وذلك لأن الطائر إذا استشعر خوفًا أرخى جناحيه، مُرْتعدًا، ويُروى "خُضَعًا لقوله"، جمع خاضع، كراكع ورُكَّع (¬1). وقال في "الفتح": قوله: "خَضَعَانًا" بفتحتين، من الخضوع، وفي رواية بضم أوله، وسكون ثانيه، وهو مصدر بمعنى خاضعين انتهى (¬2) (لِقَوْلهِ) متعلّق بـ "خضعانًا" (كَأَنَّهُ) أي القول المسموع (سِلْسِلَةٌ) أي صوت وَقْع سلسلة الحديد، وقال في "الفتح": ¬

_ (¬1) "النهاية" 2/ 43، و "شرح السندي" 1/ 127. (¬2) "الفتح" 8/ 683.

هو مثل قوله في بدء الوحي: "صَلْصَلةٌ كصلصلة الجَرَس، وهو صوت الملك بالوحي، وقد رَوَى ابن مَرْدَوَيه من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- رَفَعَهُ: "إذا تكلم الله بالوحي، يسمع أهل السماوات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان، فيفزعون، ويَرَون أنه من أمر السّاعة، وقرأ {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ} الآية، وأصله عند أبي داود وغيره وعلقه البخاريّ موقوفًا، قال الخطابي: الصَّلْصَلةُ صوت الحديد إذا تحرك وتداخل. قال الحافظ: وكأنّ الرِّواية وقعت له بالصاد، وأراد أن التشبيه في الموضعين بمعنى واحد، فالذي في بدء الوحي هذا، والذي هنا جَرُّ السلسلة من الحديد على الصفوان الّذي هو الحجر الأملس، يكون الصوت الناشيء عنهما سواء. انتهى. (عَلَى صَفْوَانٍ) بفتح، فسكون: هو الحجر الأَمْلَسُ، زاد في رواية البخاريّ في "سورة الحجر" عن علي بن عبد الله: قال غيره -يعني غير سفيان- "ينفذهم ذلك"، وفي حديث ابن عبّاس عند ابن مردويه من طريق عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير عنه: "فلا يَنْزِل على أهل سماء إِلَّا صعِقُوا"، وعند مسلم والترمذي، من طريق على بن الحسين بن علي، عن ابن عبّاس، عن رجال من الأنصار، أنهم كانوا عند النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فَرُمِيَ بنجم فاستنار، فقال: "ما كنتم تقولون لهذا إذا رُمِي به في الجاهلية؟ " قالوا: كنا نقول: مات عظيم، أو يولد عظيم، فقال: "إنها لا يُرْمَى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن رَبُّنَا إذا قضى أمرًا سَبَّحَ حملةُ العرش، ثمّ سَبَّح أهلُ السَّماء الذين يلونهم، حتّى يبلغ التسبيح سماءَ الدنيا، ثمّ يقولون لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ ... " الحديث، وليس عند التّرمذيّ: "عن رجال من الأنصار". (فَـ {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} أي كُشِف عنهم الفزع وأُزيل (قَالُوا) أي قال بعض الملائكة لبعضهم (مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ) - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - (قَالُوا) أي الملائكة المقرّبون، كجبريل عليه السلام، فقد أخرج أبو داود في "سننه" عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا تكلم الله بالوحي، سمِعَ أهلُ السماء للسماء صَلْصَلةً كجَرِّ السلسلة على

الصَّفَا، فيَصْعَقُون، فلا يزالون كذلك، حتّى يأتيهم جبريل، حتّى إذا جاءهم جبريل فُزِّعَ عن قلوبهم، قال: فيقولون: يا جبريل ماذا قال ربك؟ فيقول: الحقَّ، فيقولون: الحق الحق". (الحقَّ) بالنصب، مفعولًا لفعل مقدّر يدلّ عليه السؤال، أي قال الحقّ، أي القول الحقّ، وجوّز بعضهم الرفع بتقدير قوله الحقُّ، والأول هو الظّاهر، قيل: القولُ يجوز أن يراد به كلمة "كن"، وأن يراد به الحقّ مقابل الباطل، والمراد ما يقضيه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- من الحوادث اليوميّة، بأن يغفر ذنبًا، ويفرّج كربًا، ويرفع قومًا، ويضع آخرين، ويعزّ ذليلًا، ويذلّ جبّارًا، وهكذا ({وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ}) [سبأ:123]) أي ذو العلّوّ والكبرياء - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - (فَيَسْمَعُهَا) أي الكلمة الّتي تكلَّم بها الحقّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - (مُسْتَرِقُو السَّمْعِ) أي الشّياطين الذين يسرقون الكلام من الملائكة، و"الاستراق" افتعال، من السّرقة، يقال: استرق السمع: إذا سمعه مستخفيًا، كما يفعل السارق (¬1)، ووقع في بعض الرِّواية: "مسترق السمع" بالإفراد، وهو فصيح أيضًا (بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ) جملة في محلّ نصب على الحال، أي حال كونهم راكبي بعضهم فوق بعضٍ؛ لأجل أن يتمكّنوا من استراق السمع، وفي رواية البخاريّ: "فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع، هكذا بعضه فوق بعض، ووصف سفيان بكفّه، فحرّفها، وبَدَّد بين أصابعه". قال في "الفتح": قوله: "هكذا بعضه فوق بعض وصفه سفيان"، أي ابن عيينة بكفه فحَرَفَّها، وبَدَّد بين أصابعه، أي فَرَّق، وفي رواية عليّ: "ووصف سفيان بيده، ففرّج بين أصابع يده اليمني، نصبها بعضَها فوق بعض"، وفي حديث ابن عبّاس عند ابن مردويه: "كان لكل قبيل من الجن مَقْعَدٌ من السَّماء، يسمعون منه الوحي" -يعني يلقيها- زاد عليّ عن سفيان: "حتّى ينتهي إلى الأرض فيلقي ... ". (فَيَسْمَعُ الْمَلَائِكَةُ الْكَلِمَةَ) هكذا النسخ الهنديّة، وعليها فقوله: "يسمع" بالبناء ¬

_ (¬1) "النهاية" 2/ 362، و "المصباح" 1/ 274.

للفاعل، والفاعل ضمير "مسترقو السمع"، وأفرده باعتبار الجنس، و"الملائكة" منصوب بنزع الخافض، أي من الملائكة، و"الكلمةَ" مفعول به، ووقع في النسخ المطبوعة "فيَسْمَعُ الكلمةَ"، بحذف لفظ "الملائكة"، وهو ظاهر، ووقع في بعضها "فتَسْمَعُ الملائكةُ، فتلقيها إلى من تحته"، والظاهر أما غير صحيحة، والله تعالى أعلم. (فَيُلْقِيهَا) أي يلقي الشيطان تلك الكلمة المسروقة (إِلَى مَنْ تَحْتَهُ") أي من مسترقي السمع (فَرُبَّمَا أَدْرَكَهُ) أي الشيطان الفوقانيّ (الشِّهَابُ) بالكسر: هو في الأصل شُعْلَةٌ من نار ساطعةٌ، جمعه شُهُبٌ، ككتاب وكُتُب، قال ابن الأثير: أراد بالشهاب الّذي ينقضّ في اللّيل شِبْه الكوكب، وهو في الأصل الشُّعْلَةُ من النّار. انتهى (¬1) (قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا إِلَى الَّذِي تَحْتَهُ") أي إلى الشيطان الّذي يليه. قال في "الفتح": هذا يقتضي أن الأمر في ذلك يقع على حدّ سواء، والحديث الآخر يقتصي أن الّذي يَسْلَم منهم قليل بالنسبة إلى من يُدركه الشهاب، ووقع في رواية سعيد بن منصور، عن سفيان في هذا الحديث: "فَيَرْمِي هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتّى يُلقى على فم ساحر أو كاهن". (فَيُلْقِيهَا) أي يلقي الشيطان الأخير الكلمة المسترقة (عَلَى لِسَانِ الْكَاهِنِ) اسم فاعل، من كَهَنَ يكهُن، من باب قتل كَهانَةً بالفتح، وإذا صارت الْكَهَانة طبيعةً وغريزةً قيل: كَهُن بالضمّ، والْكِهَانةُ بالكسر: الصناعة (¬2). وقال ابن الأثير رحمه الله: "الكاهن": هو الّذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزّمان، ويدّعي معرفة الأسرار، وقد كان في العرب كَهَنَة، كشِقٍّ وسَطِيح، وغيرهما، فمنهم من كان يزعم أن له تابعًا من الجنّ، ورَئِيّا يُلقِي إليه الأخبار، ومنهم من كان يزعم أنه يَعرِف الأمور بمقدّمات أسباب يستدلّ بها على مواقعها من كلام من ¬

_ (¬1) "النهاية" 2/ 512. (¬2) "المصباح المنير" 2/ 543.

يسأله، أو فعله، أو حاله، وهذا يخصّونه باسم العرّاف، كالذي يدّعي معرفة الشيء المسروق، ومكان الضالّة، ونحوهما، والحديث الّذي فيه "من أتى كاهنًا" قد يشتمل على إتيان الكاهن، والعرّاف، والمنجّم، وجمع الكاهن كَهَنَةٌ، وكُهّان. انتهى (¬1) (أَو) الظّاهر أما للتنويع، لا للشكّ من الراوي (السَّاحِرِ) اسم فاعل من سَحَر، من باب منع: إذا خَدَعَ، والسِّحْرُ: كلُّ ما لَطُفَ مأخذه ودَقَّ، قاله في "القاموس" (¬2). (فَرُبَّمَا لَمْ يُدْرَكْ) بالبناء للمفعول، أي لم يدركه الشهاب (حَتَّى يُلْقِيَهَا) أن إلى الكاهن، أو الساحر (فَيَكْذِبُ) ذلك الكاهن، أو الساحر (مَعَهَا) أي مع الكلمة المسترقة الّتي ألقيت عليه (مِائَةَ كَذْبَةٍ، فَتَصْدُقُ) بتخفيف الدال، مبنيّا للفاعل، أي تكون صدقًا (تِلْكَ الْكَلِمَةُ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ") ببناء الفعل للمفعول، قال في "الفتح": زاد عليّ ابن عبد الله -يعني ابن المدينيّ- عن سفيان -يعني ابن عيينة-: "فيقولون: ألم يُخْبِرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا، فوجدناه حقّا، الكلمةَ الّتي سُمِعت من السَّماء"، وفي حديث ابن عبّاس: "فيقول: يكون العام كذا وكذا، فيسمعه الجنُّ، فيخبرون به الكَهَنَةَ، فتخبر الكهنة الناسَ، فيجدونه". [تنبيه]: وقع في "صحيح البخاريّ" في تفسير "سورة الحجر" في آخر هذا الحديث عن عليّ بن عبد الله، قلت لسفيان: إن إنسانًا رَوَى عنك عن عمرو، عن عكرمة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قَرَأَ "فُرِّغَ" بضم الفاء، وبالراء المهملة الثقيلة، وبالغين المعجمة، فقال سفيان: هكذا قرأ عمرو -يعني ابن دينار- فلا أدري سمعه هكذا أم لا. وهذه القراءة رُويت أيضًا عن الحسن وقتادة ومجاهد، والقراءة المشهورة بالزاي، والعين المهملة، وقرأها ابنُ عامر مبنيا للفاعل، ومعناه بالزاي والمهملة: أُدهش الفزعُ عنهم، ومعنى الّتي بالراء والغين المعجمة ذَهَبَ عن قلوبهم ما حَلَّ فيها. ¬

_ (¬1) "النهاية" 4/ 214 - 215. (¬2) "القاموس المحيط" ص 365.

فقال سفيان: هكذا قرأ عمرو، فلا أدري سمعه أم لا، قال سفيان: وهي قراءتنا، قال الكرماني: [فإن قيل]: كيف جازت القراءة إذا لم تكن مسموعة؟. [فالجواب]: لعلّ مذهبه جواز القراءة بدون السماع، إذا كان المعنى صحيحًا. قال الحافظ: هذا وإن كان محتملًا، لكن إذا وُجد احتمال غيره فهو أولى، وذلك محمل قول سفيان: لا أدري سمعه أم لا، على أن مراده سمعه من عكرمة الّذي حدثه بالحديث، لا أنه شَكّ في أنه هل سمعه مطلقًا، فالظن به أن لا يَكتَفِي في نقل القرآن بالأخذ من الصحف بغير سماع. وأما قول سفيان: وهي قراءتنا، فمعناه أما وافقت ما كان يَحْتار من القراءة به، فيجوز أن ينسب إليه كما نسب لغيره. قاله في "الفتح" (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا أخرجه البخاريّ. (المسألة الثّانية): في تخريجه: أخرجه (المصنِّف) هنا (35/ 194) بهذا السند فقط، وأخرجه (الحميديّ) في "مسنده" (1151) و (البخاريُّ) (6/ 100 و 152 و 9/ 172) وفي "خلق أفعال العباد" (60)، وأخرجه أيضًا في "الصّحيح" أيضًا (6101 و 172) موقوفًا على أبي هريرة -رضي الله عنه-، و (أبو داود) (3989) و (التِّرمذيّ) (3223)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثّالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان ما أنكرته الجهميّة، من الصفات، ¬

_ (¬1) "الفتح" 8/ 684 - 685.

وهو صفة الكلام؛ إذ قوله: "ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحقّ" صريح في أن الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - يتكلّم بكلام مسموع لملائكته الكرام. 2 - (ومنها): بيان تواضع الملائكة، وشدّة خوفهم من الله تعالى، بحيث إنهم يضربون أجنحتهم؛ لشدّة الفزع ممّا سمعوه من كلام الله تعالى. 3 - (ومنها): إثبات صفة العلوّ والكبرياء لله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -. 4 - (ومنها): بيان استراق الشّياطين السمع لما يقضي الله تعالى من أمره في شأن أهل الأرض، حتّى يُلقوها إلى أوليائهم الكهان، والسحرة، فيُغووا به النَّاس. 5 - (ومنها): بيان ما عليه الكهّان والسحرة من إغواء النَّاس بالكذب والباطل؛ إذ صدق الكلمة الّتي سُمعت من السَّماء موّهت الكذبات الكثيرة، حيث إن العوام والغوغاء من النَّاس لا ينظرون إِلَّا صدق تلك الكلمة، فبذلك انتشر الباطل، وساد الضلال، وعمّ وطمّ، فلا حول ولا قوّة إِلَّا بالله العزيز الحكيم. 6 - (ومنها): إثبات معجزة للنبي -صلى الله عليه وسلم- حيث أُرسلت الشهب على الشّياطين لمبعثه -صلى الله عليه وسلم-، حتّى لا يفسدوا وحي السَّماء، ويُلبّسوا على النَّاس الحقّ بالباطل. قال الإمام ابن كثير رحمه الله عند تفسير قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا} [الجن: 8] الآيات: ما نصّه: يُخبر تعالى عن الجن حين بعث الله رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأنزل عليه القرآن، وكان من حفظه له أن السَّماء مُلىت حرسًا شديدًا، وحُفظت من سائر أرجائها، وطُردت الشّياطين عن مقاعدها الّتي كانت تقعد فيها قبل ذلك؛ لئلا يسترقوا شيئا من القرآن، فيُلقوه على ألسنة الكهنة، فيلتبس الأمر، ويختلط، ولا يُدرَى مَنِ الصادق؟ وهذا من لُطف الله تعالى بخلقه، ورحمته بعباده، وحفظه لكتابه العزيز، ولهذا قال الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 8، 9]، أي مَنْ يروم أن يسترق السمع اليوم يجد له شهابًا مُرَصَّدًا له، لا يتخطاه ولا يتعداه، بل يَمْحَقه

ويهلكه، {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ في الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10] أي ما ندري هذا الأمر الّذي قد حَدَث في السَّماء، لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدًا؟، وهذا من أدبهم في العبارة حيث أسندوا الشر إلى غير فاعل، والخير أضافوه إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وقد ورد في "الصّحيح": "والشر ليس إليك". وقد كانت الكواكب يُرْمَى بها قبل ذلك، ولكن ليس بكثير، بل في الأحيان بعد الأحيان، كما في حديث العباس -رضي الله عنه -يعني الحديث المذكور قبل هذا الحديث-. قال: وهذا هو السبب الّذي حملهم على تطلب السبب في ذلك، فأخذوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فوجدوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ بأصحابه في الصّلاة، فعرفوا أن هذا هو الّذي حُفظت من أجله السَّماء، فآمن من آمن منهم، وتمرد في طغيانه من بقي. قال: ولا شك أنه لمّا حدث هذا الأمر، وهو كثرة الشهب في السَّماء، والرمي بها، هال ذلك الإنس والجن، وانزعجوا له، وارتاعوا لذلك، وظنوا أن ذلك لخراب العالم، كما قال السُّدّي: لم تكن السَّماء تُحرَس إِلَّا أن يكون في الأرض نبي، أو دِينٌ لله ظاهر، فكانت الشّياطين قبل محمدًا -رضي الله عنه- قد اتخذت المقاعد في السَّماء الدنيا، يستمعون ما يحدث في السَّماء من أمر، فلما بَعَث الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- نبيا ورسولًا رُجموا ليلة من الليالي، ففَزع لذلك أهل الطائف، فقالوا: هلك أهل السَّماء لمّا رأوا من شدة النّار في السَّماء، واختلاف الشهب، فجعلوا يُعتقون أَرِقّاءهم، ويُسَيِّبون مواشيهم، فقال لهم عبد ياليل بن عمرو ابن عمير: ويحكم يا معشر أهل الطائف أمسكوا عن مالكم، وانظروا إلى معالم النجوم، فإن رأيتموها مستقرة في أمكنتها، فلم يهلك أهل السَّماء، إنما هذا من أجل ابن أبي كبشة -يعني محمدا -صلى الله عليه وسلم- وإن نظرتم فلم تروها فقد هلك أهل السَّماء، فنظروا فرأوها فكفوا عن أموالهم، وفزعت الشّياطين في تلك اللَّيلة، فأتوا إبليس فحدثوه بالذي كان من أمرهم، فقال: ائتوني من كلّ أرض بقبضة من تراب أشمها، فأتوه فشم، فقال: صاحبكم بمكة، فبعث سبعة نفر من جن نصيبين، فقَدِموا مكّة، فوجدوا نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قائمًا يصلّي في المسجد الحرام، يقرأ القرآن، فدنوا منه حرصًا على القرآن، حتّى كادت

كَلاكِلهم تصيبه، ثمّ أسلموا، فأنزل الله تعالى أمرهم على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقد ذكرنا هذا الفصل مُسْتَقْصىً في أول البعث من "كتاب السيرة" المطول، والله أعلم، ولله الحمد والمنة. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 195 - (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِخَمْسِ كلِمَاتٍ، فَقَالَ: "إِنَّ اللهَ لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ، وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطنافسيّ الكوفيّ، ثقة عابدٌ [10] 9/ 57. عس ق 2 - (أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمّد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة، من كبار [9] 1/ 3. 3 - (الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الكُوفيُّ الإمام الثقة الثبت [5] 1/ 1. 4 - (عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ) بن عبد الله بن طارق الجَمَليّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة عابد، كان لا يُدلّس، ورُمي بالإرجاء [5] 2/ 20. 5 - (أَبُو عُبَيْدَةَ) بن عبد الله بن مسعود الْهُذَليّ، مشهور بكنيته، والأشهر أنه لا اسم له غيرها، ويقال: اسمه عامر، الكوفيّ، ثقة، من كبار [3]. رَوَى عن أبيه، ولم يسمع منه، وعن أبي موسى الأشعري، وعمرو بن الحارث بن المُصْطَلِق، وكعب بن عُجْرة، وعائشة، وأم زينب الثقفية، والبراء بن عازب، ومسروق. ورَوى عنه إبراهيم النخعي، وأبو إسحاق السبيعي، وسعد بن إبراهيم، وعمرو ¬

_ (¬1) "تفسير ابن كثير" 4/ 430 - 431.

ابن مرّة، والمنهال بن عمرو، ونافع بن جبير بن مطعم، وغيرهم. قال شعبة عن عمرو بن مرّة: سألت أبا عبيدة، هل تذكر من عبد الله شيئًا؟ قال: لا. وقال المفضل الغلابي عن أحمد: كانوا يُفَضِّلون أبا عبيدة على عبد الرّحمن. وقال التّرمذيّ: لا يُعرَف اسمه، ولم يسمع من أبيه شيئًا. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: يسمع من أبيه شيئًا. وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل": قلت لأبي: هل سمع أبو عبيدة من أبيه؟ قال: يقال: إنّه لم يسمع، قلت: فإن عبد الواحد بن زياد يَروي عن أبي مالك الأشجعي، عن عبد الله بن أبي هند، عن أبي عبيدة، قال: خرجت مع أبي لصلاة الصُّبح، فقال أبي: ما أدري ما هذا؟ وما أدري عبدُ الله بن أبي هند من هو؟. وقال التّرمذيّ في "العلل الكبير": قلت لمحمد: أبو عبيدة ما اسمه؟ فلم يَعرِف اسمه، وقال: هو كثير الغلط. وقال الدارقطني أبو عبيدة أعلم بحديث أبيه من حُنَيف بن مالك ونظرائه. وقال صالح بن أحمد: ثنا ابن المديني، ثنا سَلْم بن قُتيبة، قال: قلت لشعبة: إن عثمان الْبُرّيّ حَدَّثَنَا عن أبي إسحاق، أنه سمع أبا عبيدة، أنه سمع ابن مسعود، فقال: أَوّهْ، كان أبو عبيدة ابن سبع سنين، وجَعَل يضرب جبهته. انتهى. قال الحافظ: هذا الاستدلال بكونه ابن سبع سنين على أنه لم يسمع من أبيه، ليس بقائم، ولكن راوي الحديث عثمان ضعيف. انتهى، وهو تعقّب جيّد. والله تعالى أعلم. وقال شعبة عن عمرو بن مرّة: فُقِد عبدُ الرّحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن شدّاد، وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود ليلة دُجَيل، وكانت سنة إحدى وثمانين، وقيل: سنة (82). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا. 6 - (أَبُو مُوسَى) عبد الله بن قيس بن سُليم بن حَضّار الأشعريّ الصحابيّ الشهير -رضي الله عنه- 10/ 88، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيّات المصنّف. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصّحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وروى له

النَّسائيّ في "مسند عليّ -رضي الله عنه-"، وهو ثقة. 3 - (ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات الكوفيين. 4 - (ومنها): أن فيه أبا معاوية أحفظ من روى عن الأعمش. 5 - (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن عمرو، عن أبي عبيدة، ورواية الأولين من رواية الأقران؛ لأن كليهما من الطبقة الخامسة، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي مُوسَى) الأشعريّ -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-) أي قام -صلى الله عليه وسلم- خطيبًا في الصّحابة -رضي الله عنهم-، حال كونه مذكّرًا لهم بخمس كلمات. وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "قام فينا إلخ" فيه ثلاثة أوجه من الإعراب: [أحدها]: أن يكون "فينا" و"بخمس" حالين مترادفين، أو متداخلين، وذلك أن يكون الثّاني حالًا من الضمير المستتر في الحال الأولى، أي قام خطيبًا فينا، مذكّرًا بخمس كلمات. [وثانيها]: أن يكون "فينا" متعلّقًا بـ "قام" بأن يُضَمَّنَ معنى "خَطَب"، و"بخمس" حالًا، أي خطب قائما مذكّرًا بخمس كلمات، و"قام" في الوجهين بمعنى القيام على ما ورد في حديث أوس بن حُذيفة الثقفيّ -رضي الله عنه- "كان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ينصرف إلينا بعد العشاء، فيُحدّثنا قائمًا على رجليه، حتّى يُراوح بين قدميه من طول القيام". [وثالثها]: أن يعلّق "بخمس" بـ "قام"، ويكون "فينا" بيانًا، كأنه لمّا قيل: "قام بخمس"، فقيل: في حقّ من؟، أجيب: في حقّنا، وجهتنا، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} الآية [العنكبوت: 69]، ذكر في "الكشّاف" في قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات: 102]، قيل: مع من؟ قيل: معه، وكذلك قدّر في قوله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، فعلى هذا "قام" بمعنى قام بالأمر: أي تشَمَّرَ، وتجلَّد له، فالمعنى أنه قام بحفظ تلك الكلمات فينا؛ لأن القيام بالشيء هو المراعاة

والحفظ له، قال الله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النِّساء: 135]، وقال الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33].انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله (¬1). وقال السنديّ: وفي الوجه الثّالث لو جُعل "فينا" متعلّقًا بـ "قام" من غير اعتبار، أي قام بخمس كلمات في حقّنا، ولأجل انتفاعنا كان صحيحًا، والأقرب أن المعنى قام فيما بيننا بتبليغ خمس كلمات، أي بسببه، فالجارّان متعلّقان بالقيام، وهو على ظاهره، وذلك أن يُجعل القيام من قام بالأمر، ويُجعل "فينا" بيانًا متعلّقًا به أيضًا. انتهى (¬2). (بِخَمْسِ كَلِماتٍ) أي بخمس فصول، فالمراد بالكلمة هنا الجملة المركبة المفيدة، وهو إطلاق لغويّ، كما يسمّون القصيدة كلمةً، وإليه أشار ابن مالك في "الخلاصة": وَكَلْمَةٌ بِهَا كَلَامٌ قَدْ يُؤَمْ قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ} الآية، إشارة إلى قوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99]. [تنبيه]: الكلمة الأولى هي قوله: "إن الله لا ينام"، والثّانية قوله: "ولا ينبغي له أن ينام"، والثالثة قوله: "يخفض القسط ويرفعه"، والرّابعة قوله: "يُرفع إليه عمل اللّيل قبل عمل النهار إلخ"، والخامسة قوله: "حجابه النور إلخ". (فَقَالَ: "إِنَّ الله لَا يَنَامُ) إذ النوم لاستراحة القوى والحواسّ، وهي على الله تعالى محالٌ، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} والسُّنَّة: النعاس، وهو نوم خفيف، أو مقدّمة النوم، قاله القاريّ، وقال النوويّ: معناه أنه - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -؛ لا ينام، وأنه يستحيل في حقه النوم؛ فإن النوم انغمارٌ وغلبةٌ على العقل، يَسْقُط به الإحساس، والله تعالى مُنَزَّه عن ذلك، وهو مستحيل في حقه -عَزَّ وَجَلَّ- (¬3). ¬

_ (¬1) "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 548. (¬2) "شرح السنديّ" 1/ 128. (¬3) راجع "شرح مسلم للنوويّ" 3/ 13.

(وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ) قال القاري: نفي للجواز تأكيدًا لنفي الوقوع على سبيل التتميم، أي لا يكون، ولا يصحّ، ولا يستقيم، ولا يمكن له النوم؛ لأنه أخو الموت (¬1). وقال السنديّ: الكلمة الأولى دالّةٌ على عدم صدور النوم، والثّانية للدلالة على استحالته عليه تعالى، ولا يلزم من عدم الصدور استحالته، فلذلك ذُكرت الكلمة الثّانية بعد الأولى. انتهى (¬2). (يَخْفِضُ الْقِسْطَ، وَيَرْفَعُهُ) معنى القسط هنا الميزان، وسُمّي قِسطًا؛ لأن القسط العدل، وبالميزان يقع العدل في القسمة، قال: والمراد أن الله تعالى يَخِفض الميزان ويرفعه بما يوزن من أعمال العباد المرتفعة إليه، ويوزن من أرزاقهم النازلة من عنده، كما يرفع الوزّان يده، ويَخفضها عند الوزن، وهذا تمثيل لما يُقَدِّر تَنْزِيله، فشبه بوزن الميزان، ويحتمل أن يكون إشارة إلى قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ} [الرحمن: 29] أي أنه يحكم بين خلقه بميزان العدل، فأمره كأمر الوزّان الّذي يزن، فيخفض يده ويرفعها، وهذا المعنى أنسب بما قبله، كأنه قيل: كيف يجوز عليه النوم، وهو الّذي يتصرّف أبدًا في ملكه بميزان العدل. قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "وهذا تمثيل إلخ"، غير صحيح؛ لأنه يدلّ على أن الميزان هنا ليس حقيقةً، بل هو مجاز، وهو معنى باطل، مناف لما ثبت في النصوص الصحيحة من إثباته، وكذا قوله: "فأمره كأمر الوزان" فيه نظر لا يخفى، فتنبّه لهذه الدقائق، فإنها من مزالّ الأقدام، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. وقيل: المراد بالقسط الرزق الذي هو قِسط كلّ مخلوق، أي نصيبه، يخفضه فيُقَتِّره، ويرفعه فيوسعه (¬3). ¬

_ (¬1) "شرح المرقاة" 1/ 128. (¬2) "شرح السندي" 1/ 128. (¬3) راجع "شرح مسلم للنوويّ" 3/ 13 و"شرح السنديّ" 1/ 128.

قال الطيبيّ: المعنى الأوّل للقسط هو الأولى، لما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "يرفع الميزان ويخفضه". انتهى (¬1). (يُرْفَعُ) بالبناء للمفعول (إِلَيْهِ) أي للعرض عليه، فالرفع على ظاهره، وقيل: معنى الرفع إليه الرفع إلى خزائنه، كما يقال: حُمل المال إلى الملك، فيُضبط إلى يوم الجزاء، ويُعرض عليه، وإن كان هو -سبحانه وتعالى- أعلم به، ليأمر ملاتكته بإمضاء ما قضى لفاعله جزاءً له على فعله (عَمَلُ اللَّيْلِ) أي المعمول فيه (قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ) أي قبل أن يؤتى بعمل النهار، وهو بيان لمسارعة الكرام الكتبة إلى رفع الأعمال، وسرعة عروجهم إلى ما فوق السماوات، وعرضهم على الله تعالى، فإن الفاصل بين اللّيل والنهار آنٌ لا يتجزأ، وهو آخر اللّيل، وأول النهار، وقيل: قبل أن يُرفع إليه عمل النهار، والأول أبلغ، قاله التوربشتيّ، وقيل: الثّاني أبلغ؛ لأنه في بيان عظيم شأن الله تعالى، وقوّة عباده المكرمين، وحسن قيامهم بما أُمروا، ولأن لفظ العمل مصدر، فكأنه قال: يُرفع إليه عمل اللّيل، أي المعمول في اللّيل قبل عمل النهار، فلا حاجة إلى تقدير لفظ الشروع، كاحتياجه إلى إلى تقدير الرفع في المعنى الأوّل. (وَعَمَلُ النَّهَارِ) بالرفع عطفًا على "عملُ اللّيل" (قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ) وفي رواية لمسلم: "يُرفَع إليه عملُ النهار باللّيل، وعمل اللّيل بالنهار". فمعنى الأوّل - والله أعلم - يُرفَع إليه عمل اللّيل قبل عمل النهار الّذي بعده، وعمل النهار قبل عمل اللّيل الّذي بعده. ومعنى الرِّواية الثّانية: يُرفع إليه عمل النهار في أول اللّيل الّذي بعده، ويرفع إليه عمل اللّيل في أول النهار الّذي بعده، فإن الملائكة الحفظة يَصْعَدون بأعمال اللّيل بعد انقضائه في أول النهار، ويَصعَدون بأعمال النهار بعد انقضائه في أول اللّيل. هكذا أفاده في شرح النووي على "صحيح مسلم". ¬

_ (¬1) "الكاشف" 2/ 549.

وذكر القاري رحمه الله في "شرح المشكاة": ما معناه: وهو بيان لمسارعة الملائكة الموكّلين برفع أعمال النهار بعد العصر، واللّيل بعد الصُّبح، وأنهم يقطعون في هذا الزمن القليل تلك المسافة الطويلة الّتي تزيد على سبعة آلاف سنة على ما رُوي أن مسيرة ما بين الأرض والسماء الدنيا خمسمائة سنة، وما بين كلّ سماءين كذلك، وسَمْكُ كلّ سماء كذلك، وتقدير "رَفْع" في الأوّل، و"رَفْع" أو "فِعْل" في الثّاني هو الّذي دلّ عليه الحديث الآخر: إن أعمال النهار ترفع بعد صلاة العصر، وأعمال اللّيل تُرفع بعد صلاة الصُّبح، فلا يقع رفع عمل اللّيل إِلَّا بعد فعلٍ من عمل النهار، وأما رفع عمل النهار فيقع قبل فِعْلِ أو رَفعِ شيء من عمل اللّيل؛ لأن بين ابتداء رفعها وعمل اللّيل فاصلًا يسع ذلك بالنسبة إلى القدرة الباهرة. فالحاصل أن قوله: "قبل عمل النهار" يتعيّن فيه تقدير "رَفْع"، ولا يصحّ تقدير "فِعل" فيه، وقوله: قبل عمل اللّيل" يصحّ فيه كلٌّ منهما، وتقدير الفعل أبلغ؛ لأن الزمن أقصر، فتأمل ذلك لتعلم فساد ما أطلقه بعض الشارحين. انتهى (¬1). (حِجَابُهُ النُّورُ) قال النوويّ في "شرحه": أصل الحجاب في اللُّغة المنع والسَّتْرُ، وحقيقة الحجاب إنّما تكون للأجسام المحدودة، والله تعالى مُنَزَّه عن الجسم والحد، والمراد هنا المانع من رؤيته، وسُمِّي ذلك المانع نورًا أو نارًا؛ لأنهما يمنعان من الإدراك في العادة؛ لشعاعهما. انتهى (¬2). وقال التوربشتيّ: أشار بذلك إلى أن حجابه خلاف الحُجُب المعهودة، فهو محتجبٌ عن الخلق بأنوار عزّه وجلاله، وأشعّة عظمته وكبريائه، وذلك هو الحجاب الّذي تُدهَش دونه العقول، وتذهب الأبصار، وتتحيّر البصائر، ولو كُشف ذلك الحجاب، فتجلّى لما وراءه من حقائق الصفات، وعظمة الذات لم يَبقَ مخلوق إِلَّا احترق، ولا مفطور إِلَّا اضمحلّ، وأصل الحجاب الستر الحائل بين الرائي والمرئيّ، وهو هنا ¬

_ (¬1) "المرقاة شرح المشكاة" 1/ 285. (¬2) المصدر السابق.

راجع إلى منع الأبصار من الإصابة بالرؤية له بما ذكر، فقام ذلك المنع مقام الستر الحائل، فعبّر به عنه، ورُوي "حجابه النور، أو النّار". وقد تبيّن من أحاديث الرِّواية (¬1) وتوفيقات (¬2) الكتاب على التجلّيات الإلهيّة أن الحالة المشار إليها في هذا الحديث هي الّتي نحن بصددها في هذه الدَّار المستعدّة المعدّة للفناء، دون الّذي وُعدنا بها في دار البقاء، والحجاب المذكور في هذا الحديث وغيره يرجع إلى الخلق؛ لأنهم المحجوبون عنه انتهى (¬3). (لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ) "السُّبُحَاتُ" بضم السين والباء، ورفع التاء في آخره، وهي جمع سُبْحَةٍ، كغُرْفة وغُرُفات، قال صاحب "العين"، والْهَرَويّ، وجميعُ الشارحين للحديث، من اللغويين والمحدثين: معنى "سُبُحَات وجهه" نورُهُ، وجلاله، وبهاؤه، والمراد بالوجه الذات. انتهى. قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ذكر النووي أن المراد بالوجه الذات، وهذا منه مصير إلى نفي صفة الوجه، وهو غير صحيح، بل الوجه صفة ثابتة لله تعالى، كما أثبتها لنفسه في كتابه، حيث قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}، وحيث أثبته هذا الحديث الصّحيح، وغيره من الأحاديث الصحيحة، ولا يلزم من إثباتنا له تشبيهه بخلقه، فأيّ فرق بين إثباتنا له الذات، وبين إثباتنا له الوجه، فإن كان يلزم من الوجه التشبيه لزم من الذات أيضًا، لكن نقول: له ذات لا تشبه الذوات، ووجه لا يشبه الوجوه، وبصرٌ لا يشبه الأبصار، ويدٌ لا تشبه الأيدي، وغير ذلك من صفات الكمال، وهذا هو مذهب السلف، وهو الصراط المستقيم، فعليك بلزومه إن أردت الهدى والعزّ المستديم، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. ¬

_ (¬1) هكذا النسخة، والظاهر أنه "الرؤية"، فليُحرّر. (¬2) هكذا النسخة، ولعلّ الصواب "توقيفات" بتقديم القاف على الفاء، فليُحرّر. (¬3) راجع "الكاشف" 2/ 550.

وذكر في "الكاشف" عن بعضهم في معنى "سبحات وجهه" أما الأنوار الّتي إذا رآها الراءون من الملائكة سبّحو، وهلّلوا؛ لما يروعهم من جلال الله وعظمته، انتهى. (مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ) المراد جميعُ المخلوقات؛ لأن بصره -سبحانه وتعالى- بجميع الكائنات، ولفظة "من" لبيان الجنس، لا للتبعيض، والتقدير لو أزال المانع من رؤيته، وهو الحجاب المسمى نورًا أو نارًا وتَجَلَّى لخلقه لأحرق جلال وجهه جميع مخلوقاته. قال الطيبيّ: وذهب المظهر وغيره إلى أن الضمير في "بصره" إلى الخلق، و"ما" في "ما انتهى" بمعنى "من" و"من خلقه" بيان له، والأول هو الوجه يعني أن رجوع ضمير "بصره" إلى الله تعالى هو المعنى الصّحيح-. [فائدة]: ذكر الطيبيّ رحمه الله هنا وجوهًا متعلّقة بلطائف المعاني، والمحسّنات البديعيّة، أحببت إيرادها مع التعقيب على ما يحتاج إليه: [أحدها]: أن قوله: "لا ينبغي له أن ينام" جملة معترضة، واردة على التتميم؛ صونًا للكلام عن المكروه، فإن قوله: "لا ينام" لا ينفي جواز النوم، كما قال الأشرف، فعقّب به لدفع ذلك التجويز، قال أبو الطيّب [من الطَّويل]: وَتَحْتَقِرُ الدُّنْيَا احْتِقَارَ مُجَرِّبٍ ... تَرَى كُلَّ مَا فِيهَا وَحَاشَاكَ فَانِيَا فإن "حاشاك" تتميم في غاية الحسن، ومعنى "لا ينبغي" لا يصحّ، ولا يستقيم النوم؛ لأنه مناف لحال ربّ العالمين. [وثانيها]: "يخفض، ويرفع، وعمل اللّيل، وعمل النهار" من باب التضادّ، والمطابقة، والخفض، والرفع في القرينتين مستعارتان للمعاني من الأعيان. قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "مستعارتان إلخ" غير صحيح؛ لأن الاستعارة من المجاز، فهو يريد أن لا يثبت صفة الخفض والرفع لله تعالى على ظاهرها، وقد سبق أن نبهنا على مثل هذا، فالحق أنها ثابتة له، ولا حاجة إلى المجاز؛ لأنه لا يصار إليه إِلَّا عند تعذّر الحقيقة، وهنا لم يتعذّر، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتهوّر بتقليد ذوي الاعتساف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

[وثالثهما]: "لو كشفه" من الشرط والجزاء، استئنافيّة، مبيّنة للكلام السابق، كأنه لما قيل: إن حجابه النور، وعُرِّف الخبر المفيد للتخصيص اتّجه للسائل أن يقول: لم خصّ الحجاب بالنور؟ أجيب بأنه لو كان من غيره لاحترق. قال الجامع: هذه الفائدةُ غير واضحة، والله تعالى أعلم. [ورابعها]: الجملة الفعلية في النَّفْي والإثبات كلها واردة على صيغة المضارع؛ لإرادة الاستمرار، فالمنفيان فيها يدلُّان على الدوام من غير انقطاع، والأربع المثبتة على التجدد مع الاستمرار، وأما الجملة الأسميّة فدلالتها على سبيل الثبات والدوام في هذا العالم، والشرطيّة منبئة عن ذلك؛ لما دلّت على أنها مخالفة للنور المتعارف. قال: وفيه دليل على أن نبيّنا -صلى الله عليه وسلم- رأى ربّه تعالى لقوله في الدُّعاء: "اللَّهُمَّ اجعل في قلبي نورًا، وفي بصري نورًا". قال الجامع: مسألة رؤية النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ربه ليلة الإسراء مختلف فيها، وجمهور السلف على نفيها، للحديث الصّحيح: "نور أنى أراه"، وغيره، وسنحققها في محلّ مناسب لها -إن شاء الله تعالى- وأما استدلال الطيبيّ عليها بالحديث المذكور، ففيه نظر لا يخفى، فتأمل. والله تعالى أعلم. قال: وأما المؤمنون إذا صفت بشريّتهم عن الكدورات في دار الثّواب، فيُرزقون هذه المنحة السنيّة، والرتبة العلّيّة. [وخامسها]: أن معنى الحديث بأسره مسبوك من معنى آية الكرسيّ، فإن قوله -سبحانه وتعالى-: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ} [البقرة: 255] مشعر بصفة الإكرام، ومنه إلى الخاتمة مشير إلى صفة الجلال؛ لما فيه من المنع عن الشفاعة إِلَّا بإذنه، ومن ذكر الكرسيّ الّذي هو سرير الملك، وهو مناسب لحديث الحجاب، وكذلك الحديث إلى قوله: "حجابه النور" منبىء عن صفة الإكرام، ومنه إلى آخره عن صفة الجلال، فتكون صفة الجلال محتجبةً بصفة الإكرام، فلو كشف حجاب الإكرام لتلاشت الأشياء، وتفنى

بتجلي صفات الجلال الكائنات، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27]. ومن أسمائه الحسنى، وصفاته العظمى النور، قال الله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69]، وبيانه أن قوله: {لَا تَأخُذُهُ سِنَةٌ} مقرّر للكلام السابق، قال في "الكشّاف": وهو تأكيد لـ {القَيُّوم} لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيّومًا، وهو مثل قوله: "لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام"، وقوله: {لَهُ مَا في السّماَواَتِ وَالأَرْضِ} كالتعليل لمعنى القيوميّة، أي كيف ينام، وهو مالك ما في السماوات وما في الأرض، ومربيهم، ومدبّر أمور معاشهم ومعادهم؟ وإلى الأول الإشارة بقوله: "يخفض القسط ويرفعه"، وإلى الثاني بقوله: "يُرفَع إليه عمل الليل إلخ". [فإن قلت]: فأين معنى قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} الآية [البقرة: 255] في الحديث؟ [قلت]: تخصيص ذكر البصر الذي هو نوع من طريق العلم مُلَوّح إليه، فما أجمعه من كلمات! وما أفصحه من عبارات! ولعمر الله إن هذا الحديث سيّد الأحاديث، كما أن آية الكرسيّ سيدة الآيات، انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله، وهو بحث جيّد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي موسى الأشعريّ -صلى الله عليه وسلم- عنه هذا أخرجه مسلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف رحمه الله) بهذا السند هنا (35/ 195) وأعاده بعده (196) بالسند التالي، وأخرجه (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده" (491) و (أحمد) في "مسنده" (4/ 395 و400 و405) و (مسلم) (1/ 111) و (ابن خزيمة) في "التوحيد" (19

و 20) و (ابن حبان) في "صحيحه" (266) و (الآجريّ) في "الشريعة" (304) و (ابن منده) في "الإيمان" (775 و 776 و 777 و 779) و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات" (80) و (البغويّ) في "شرح السنّة" (91)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان ما أنكرته الجهميّة من الصفات، وهو الوجه، والبصر، ورفع القسط، وخفضه، فكلها صفات ثابتة لله -سبحانه وتعالى- على ما يليق بجلاله. 2 - (ومنها): بيان استحالة النوم على الله - سبحانه وتعالى-؛ لكونه من النقائص. 3 - (ومنها): أن الله تعالى يُعزّ من يشاء ويهدي من يشاء من عباده، كما قال - عز وجل -: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26] الآية. 4 - (ومنها): أن الأعمال ترفع إليه كل يوم وكلّ ليلة، وهذا معنى قوله - عز وجل -: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]. 5 - (ومنها): إثبات الحجاب له -سبحانه وتعالى- بينه وبين خلقه، ولولاه لاحترقوا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 196 - (حَدَّثَنَا عِليُّ بْنُ مُحَمدٍ، حَدَّثَنَا وَكِيع، حدثنا المسْعُودِيُ، عَنْ عَمرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدة، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - سبحانه وتعالى-: "إِنَّ الله لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرفَعُهُ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ شَيْءٍ أَدرَكَهُ بَصَرُهِ"، ثُمَّ قَرَأَ أبو عُبَيْدة {أَنْ بُورِكَ مَنْ في النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 8]). رجال هذا الإسناد ستة أيضًا، وكلهم تقدّموا في السند السابق، سوى وكيع بن الجرّاح، فتقدّم قبل أربعة أحاديث، وسوى المسعوديّ، وهو:

1 - (عبد الرحمن بن عبد الله) بن عُتبة بن عبد الله بن مسعود الكوفيّ، صدوقٌ اختلط قبل موته ببغداد [7]. رَوَى عن أبي إسحاق السبيعي، وأبي إسحاق الشيباني، والقاسم بن عبد الرحمن ابن مسعود، وعلي بن الأقمر، وعون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعمرو بن مرّة، وغيرهم. ورَوى عنه السفيانان، وشعبة، وهم من أقرانه، وجعفر بن عون، وأبو داود الطيالسي، وعبد الله بن يزيد المقرىء، ووكيع، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وغيرهم. قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسأل عن أبي عُمَيس والمسعودي، قال: كلاهما ثقة، والمسعودي أكثرهما حديثًا، قلت هو أخوه؟ قال: نعم. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: سماع وكيع من المسعودي قديم، وأبو نعيم أيضًا، وإنما اختلط المسعودي ببغداد، ومن سمع منه بالكوفة والبصرة فسماعه جيد، وقال حنبل عن أحمد: سماع أبي النضر، وعاصم، وهؤلاء من المسعودي بعدما اختلط. وقال عثمان بن سعيد الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال ابن أبي مريم عن يحيى: من سمع منه في زمان أبي جعفر فهو صحيح السماع. وقال يعقوب بن شيبة عن يحيى: المسعودي ثقة، وقد كان يَغْلَط فيما يروي عن عاصم والأعمش والصغار، يخطئ في ذلك، ويُصَحَّحُ له ما رَوَى عن القاسم، ومَعنٍ، وشيوخه الكبار. وقال عباس الدُّوريّ عن ابن معين: أحاديثه عن الأعمش مقلوبة، وعن عبد الملك أيضًا، وأما عن أبي حَصِين، وعاصم فليس بشيء، إنما أحاديثه الصحاح عن القاسم، وعن عون، وقال عبد الله بن عليّ بن المدينيّ عن أبيه: المسعوديّ ثقة، وقد كان يَغْلَطُ فيما رَوَى عن عاصم، وسَلَمَة، ويُصَحَّح فيما روى عن القاسم، ومَعْن. وقال ابن نمير: كان ثقة، واختَلَطَ بآخره، سمع منه ابن مهدي، ويزيد بن هارون أحاديث مختلطة، وما رَوَى عنه الشيوخ فهو مستقيم. وقال عمرو بن علي: سمعت يحيى يقول: رأيت المسعودي سنة رآه عبد الرحمن ابن مهدي، فلم أكلمه، وقال أيضًا: سمعت معاذ بن معاذ يقول: رأيت المسعودي سنة

(54) يطالع الكتاب -يعني أنه قد تغير حفظه- وقال يحيى بن سعيد: آخر ما لقيت المسعودي سنة سبع أو ثمان وأربعين، ثم لقيته بمكة سنة (58)، وكان عبد الله بن عثمان ذلك العام معي، وعبد الرحمن بن مهدي، فلم نسأله عن شيء. وقال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث، إلا أنه اختلط في آخر عمره، ورواية المتقدمين عنه صحيحةٌ. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عيينة عن مِسْعَر: ما أعلم أحدًا أعلم بعلم ابن مسعود من المسعودي. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: تغير قبل موته بسنة، أو سنتين. وقال يعقوب بن شيبة: توفي سنة (65)، وكان ثقة صدوقًا، إلا أنه تغير بآخره. وقال ابن عمّار: كان ثبتًا قبل أن يختلط، ومن سمع منه ببغداد فسماعه ضعيف. وقال العجلي: ثقة إلا أنه تغير بآخره. وقال ابن خِرَاش نحو ذلك. وقال ابن حبان: اختلط حديثه، فلم يتميز، فاستَحَقَّ الترك. وقال أبو النضر، هاشم بن القاسم: إني لأعرف اليومَ الذي اختَلَطَ فيه المسعودي، كنّا عنده، وهو يُعَزَّى في ابن له، إذ جاءه إنسان، فقال له: إن غلامك أخذ من مالك عشرة آلاف وهرب ففزع، وقام فدخل في منزله، ثم خرج إلينا وقد اختلط. وقال سليمان بن حرب، وأبو عبيد، وأحمد بن حنبل: مات سنة ستين ومائة. أخرج له الأربعة (¬1)، وله في هذا الكتاب عشرة أحاديث فقط برقم 196 و 828 و 906 و 2130 و 2208 و 2241 و 3030 و 3249 و 4109 و 4148. والحديث صحيح، ولا يضرّه الكلام في المسعوديّ؛ لأن وكيعًا ممن سمع منه قبل اختلاطه، كما سبق عن الإمام أحمد رحمه الله، وأيضًا تابعه الأعمش عند مسلم، والمصنّف، في السند الماضي، وشعبة عند أبي داود الطيالسيّ، في "مسنده" (491)، وشرح الحديث والمسائل المتعلّقة به قد سبقت في الذي قبله. ¬

_ (¬1) وأما أشار إليه الحافظ المزي في "تهذيب الكمال" من أن البخاري أخرج له في التعاليق، فقد تعقّبه الحافظ في "تهذيب التهذيب"، راجعه 2/ 524.

وقوله: "ثم قرأ أبو عبيدة إلخ" أي إشارةً إلى أن النار التي راها موسى - عليه السلام - في تلك الشجرة هي من نور الله تعالى التي من جملة حجابه، وليس نارًا حقيقةً، قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في "تفسيره" عند شرح هذه الآيات: يقول تعالى لرسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- مُذَكِّرًا ما كان من أَمر موسى - عليه السلام - كيف اصطفاه الله، وكلمه وناجاه وأعطاه من الآيات العظيمة الباهرة، والأدلة القاهرة، وابتعثه إلى فرعون وملئه، فجحدوا بها، وكفروا واستكبروا عن اتباعه والانقياد له، فقال تعالى: {إِذ قَالَ مُوسَى لِأَهلِهِ} أي اذكر حين سار موسى بأهله، فأضل الطريق، وذلك في ليل وظلام، فآنس من جانب الطور نارًا، أي رأى نارًا تَتَأَجَّجَ وتضطرم، فقال {لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} أي عن الطريق {أَوْ آتِيكُمْ} منها {بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي تستدفئون به، وكان كما قال، فإنه رجع منها بخبر عظيم، واقتبس منها نورًا عظيمًا، ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ في النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} أي فلما أتاها ورأى منظرًا هائلًا عظيمًا، حيث انتهى إليها والنار تضطرم في شجرة خضراء، لا تزداد النار إلا تَوَقُّدًا، ولا تزداد الشجرة إلا خُضرَةً ونَضْرةً، ثم رفع رأسه، فإذا نورها متصل بعَنَان السماء، قال ابن عباس وغيره: لم تكن نارًا، وإنما كانت نورًا يتوهج، وفي رواية عن ابن عباس: نور رب العالمين، فوقف موسى متعجبًا مما رأى، فـ {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ في النَّار} قال ابن عباس: قُدِّسَ {وَمَنْ حَوْلَهَا} أي من الملائكة، قاله ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود -هو الطيالسي- حدثنا شعبة، والمسعودي، عن عمرو بن مرة، سمع أبا عبيدة، يحدث عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يَخْفِض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل"، زاد المسعودي: "وحجابه النور، أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره"، ثم قرأ أبو

عبيدة {أَنْ بُورِكَ مَنْ في النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8]، وأصل الحديث مخرج في "صحيح مسلم" 179 من حديث عمرو بن مرة. وقوله تعالى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي الذي يفعل ما يشاء، لا يشبهه شيء من مخلوقاته، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته، وهو العلي العظيم، المباين لجميع المخلوقات، ولا يكتنفه الأرض والسموات، بل هو الأحد الصمد، المنزه عن مماثلة المحدثات. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى (¬1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 197 - (حَدَثَنَا أبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هارُونَ، أَنْبَأنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "يَمِينُ الله مَلْأَى، لَا يَغِيضُها شَيْءٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنهارَ، وَبِيدهِ الْأُخْرَى الميزَانُ، يَرفَعُ الْقِسْطَ وَيَخْفِضُ، قَالَ: أَرَأَيْتَ مَا أنفَقَ، مُنْذُ خَلَقَ الله السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُض مِمَّا في يَدَيْهِ شَيْئًا"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (يَزِيدُ بْنُ هارُونَ) أبو خالد الواسطيّ، ثقة متقن عابدٌ [9] 16/ 127. 2 - (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ) أبو بكر المطلبيّ المدني نزيل العراق، إمام المغازي، صدوقٌ يدلّس، ورُمي بالتشيّع والقدر، من صغار [5] 4/ 35، والباقون تقدّموا قبل خمسة أحاديث، وكذا لطائف الإسناد. [تنبيه]: لم ينفرد ابن إسحاق بهذا الإسناد، فقد تابعه شعيب بن أبي حمزة عند البخاريّ، وسفيان بن عيينة عند مسلم، والثوريّ عند أحمد، ومالك عند البخاريّ، فكلهم رووه عن أبي الزناد، فلا تضرّ عنعنته، وإن كان مدلّسًا، فتنبّه، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) "تفسير ابن كثير" 3/ 357 - 358.

شرح الحديث: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-) أنه قال: ("يَمِينُ الله) هذه الرواية يُتعقّب بها على من فسّر الرواية الأخرى عند البخاريّ وغيره بلفظ: "يد الله ملآى" بالنعمة، وأبعد منه من فسّرها بالخزائن، وقال أطلق اليد على الخزائن لتصرّفها فيها، قاله في "الفتح" (¬1). (ملآى) بفتح الميم، وسكون اللام، وهمزة، مع القصر: تأنيث ملآن، وإنما أنثها لأن "اليمين" يجوز تأنيثها، ووقع في رواية لمسلم بلفظ "يد الله ملآن" فقيل: هي غَلَطٌ؛ لأن اليد مؤنّثة، ووجهها بعضهم بإرادة "اليمين" فإنها تذكّر وتؤنّث، كما ذكرناه آنفًا، وكذلك الكفّ. قال في "الفتح": والمراد من قوله: "ملآى" أو "ملآن" لازمه، وهو أنه في غاية الغنى، وعنده من الرزق ما لا نهاية له في علم الخلائق. انتهى (¬2). قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم أن التفسير باللازم غير صحيح، فالحقّ تفسيره بالملزوم واللازم معًا، فافهم هداني الله وإياك سبيل الرشاد. (لَا يَغِيضُها) بفتح أوله، وبالمعجمتين: أي لا ينقصها، يقال: غاض الماء يَغيض كباع يبيع: إذا نقص، أي لا يَنقُصها (شَيْءٌ) أي من الإنفاق (سَحَّاءُ) بفتح المهملتين، مثقّلا ممدودًا: أي دائمة الصبّ، يقال: سَحّ بفتح أوله مثقّلًا يَسِحّ، بكسر السين في المضارع، وضمّها، من بابي ضرب، ونصر، وهو مرفوع على أنه خبر لمحذوف، أي هي سَحّاء، ووقع في رواية لمسلم: "سَحًّا" بلفظ المصدر (اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) بالنصب على الظرفيّة، والمراد عدم الانقطاع لمادّة عطائه تعالى، أي هي دائمة الانصباب في الليل والنهار، قال في "الفتح": ويجوز الرفع، ووقع في رواية لمسلم "سَحّ الليل والنهار" ¬

_ (¬1) "الفتح " 13/ 484. (¬2) "الفتح" 13/ 484.

بالإضافة، وفتح الحاء، ويجوز ضمهما. انتهى (¬1). وقال السنديّ رحمه الله: قيل: ما أتمّ البلاغة، وأحسن هذه الاستعارة، فلقد نبّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا اللفظ على معان دقيقة: منها: وَصْفُ يده تعالى في الإعطاء بالتفوّق والاستعلاء، فإن السح إنما يكون من عُلْوٍ. ومنها: أنها المعطية عن ظهر غنًى؛ لأن الماء إذا انصبّ من فوقُ انصبّ بسهولة. ومنها: جزالة عطاياه -سبحانه وتعالى-، فإن السحّ يُستعمل فيما ارتفع عن حدّ التقاطر إلى حدّ السيلان. ومنها: أنه لا مانع لها؛ لأن الماء إذا أخذ في الانصباب من فوقُ لم يستطع أحدٌ أن يردّه. انتهى، وهو توجيه وجيه، والله تعالى أعلم. (وَبِيَد الْأُخْرَى الميزَانُ) قال السنديّ رحمه الله: هذا اللفظ معناه كما ذكروا في "اليمين" من الجاز، فليُتأمل، والوجه مذهب السلف، فالواجب فيه وفي أمثاله الإيمان بما جاء في الحديث والتسليم، وترك التصرّف فيه بالعقل. انتهى (¬2). قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد السنديّ رحمه الله في آخر كلامه، فإن مذهب السلف هو الأسلم، والأعلم، والأحكم، فيا ليته التزم هذا المذهب في كلّ كتابه، ولكنه ما التزمه، فسبحان من يهدي من يشاء إلى سواء السبيل. (يَرْفَعُ) بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير الله تعالى، وقوله: (الْقِسْطَ) منصوب على المفعوليّة (وَيَخْفضُ) بالبناء للفاعل أيضًا، قال السنديّ: قيل: هو إشارة إلى إنزال العدل إلى الأرض مرّة، ورفعه أخرى. انتهى (قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (أَرَأَيْتَ) بضمير المخاطب الواحد، وفي "الصحيح": "أرأيتم" بالجمع، وهو تنبيه على وضوح ذلك لمن له بصيرة (مَا أنفَقَ) أي قدر ما أنفق الله تعالى (مُنْذُ خَلَقَ الله السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضَ، فَإِنَّهُ) أي إنفاقه، وسقط ¬

_ (¬1) "الفتح" 13/ 484. (¬2) "شرح السندي" 1/ 131.

من بعض النسخ لفظة "فإنه" (لَمْ يَنْقُض) وفي رواية "الصحيح": "فإنه لم يَغِضْ"، بالغين والضاد المعجمتين، وهو بمعنى ينقص (مِمَّا في يَدَيْهِ) وفي بعض النسخ "يده" بالإفراد، وفي رواية للبخاريّ: "لم ينقص ما في يمينه" (شَيْئًا) بالنصب على المفعوليّة لـ "ينقص"، وفي بعض النسخ: "شيء" بالرفع، وهو أيضًا صحيح، فيكون مرفوعًا على الفاعليّة؛ لأن "نَقَصَ" يتعدّى ويلزم، قال في "المصباح": نَقَصَ نَقْصًا، من باب قَتَلَ، ونُقْصَانًا، وانتقص: ذَهبَ منه شيءٌ بعد تمامه، ونَقَضتُهُ يتعدَّى ولا يتعدَّى، هذه هي اللغة الفصيحة، وبها جاء القرآن في قوله تعالى: {نَنقُصُهَا مِنْ أطْرَافِهَا}، وقوله: {غير مَنقُوصٍ}، وفي لغة ضعيفة يتعدَّى بالهمزة، والتضعيف، ولم يأت في كلام فصيح، ويتعدّى أيضًا بنفسه إلى مفعولين، فيقال: نقصتُ زيدًا حقَّهُ، وانتقصتُهُ مثلُهُ. انتهى (¬1). [تنبيه]: قال الطيبيّ رحمه الله: يجوز أن تكون "ملآى"، و"لا يغيضها"، و"سحّاء"، و"أرأيت" على تأويل مقول فيه أخبارًا مترادفةً لـ "يمين الله"، ويجوز أن تكون الثلاثة الأخيرة أوصافًا لـ "ملآى"، ويجوز أن يكون "أرأيت" استئنافًا وفيه معنى الترقّي، كأنه لمّا قيل: "ملآى" أوهم جواز النقصان، فأزاله بقوله: "لا يغيضها شيء"، وربما يمتلىء الشيءُ، ولا يغيض، فقيل: سَحَاءُ، ليؤذن بالغيضان، وقرنها بما يدلّ على الاستمرار، من ذكر الليل والنهار، ثم أتبعها بما يدلّ على أن ذلك ظاهر غير خاف على ذي بصر وبصيرة بعد أن انتقل من ذكر الليل والنهار إلى المدّة المتطاولة بقوله: "أرأيتم" مستأنفًا؛ لأنه خطاب عامّ، والهمزة فيه للتقرير، قال: وهذا الكلام إذا أخذته بجملته من غير نظر إلى مفرداته أبان زيادة الغنى، وكمال السعة، والنهاية في الجود، وبسط اليد في العطاء. انتهى كلامه ببعض تصرّف (¬2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" 2/ 621. (¬2) "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 552 - 553.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -صلى الله عليه وسلم- هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 197) بهذا السند فقط (¬1)، وأخرجه (الحميديّ) في "مسنده" (1067) و (أحمد) في "مسنده" 2/ 242 و 464 و 500 و (البخاريّ) (6/ 92 و 7/ 80 و 9/ 175) و (مسلم) (3/ 77) و (الترمذيّ) (3045) و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات" (395 و 396) و (البغويّ) في "شرح السنة" (1656)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان ما أنكرته الجهميّة من الصفات الثابتة في النصوص الصحيحة، وهي اليد، واليمين، وأنه تعالى يرفع القسط، ويخفضه، وكلها صفات لائقة بجلاله، ثابتة له كما أثبتها هذا النصّ الصريح الصحيح، فلا نعطّل، ولا نشبّه، ولا نؤوّل، قال الإمام الترمذيّ رحمه الله تعالى في "جامعه" بعد أن أخرج هذا الحديث: ما نصّه: قال أبو عيسى: هذا حديث قد رَوَته الأئمةُ، نؤمن به كما جاء، من غير أن يُفَسَّر، أو يُتَوَهَّم، هكذا قال غيرُ واحد من الأئمة، منهم سفيان الثوريّ، ومالك بن أنس، وابن عيينة، وابن المبارك، أنه تُرْوَى هذه الأشياء، ويُؤمَنُ بها، ولا يقال: كيف؟. انتهى. قال الجامع عفا الله عنه: مراد الترمذيّ رحمه الله بقوله: "من غير أن يُفَسَّر"، تفسير ¬

_ (¬1) وأخرجه برقم (2123) من طريق الثوريّ، عن أبي الزناد بلفظ آخر، ونصّه: حدثنا أحمد بن يوسف، حدثنا عبيد الله، عن سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن النذر لا يأتي ابن آدم بشيء، إلا ما قُدِّر له، ولكن يغلبه القدر ما قُدّر له، فيَستَخرِج به من البخيل، فيُيَسِّر عليه، ما لم يكن يُيَسَّر عليه من قبل ذلك، وقد قال الله: أنفق أنفق عليك"، وسيأتي شرحه في محلّه، إن شاء الله تعالى.

الكيفيّة، كما أوضحه آخر كلامه، فتنبّه، فإن بعض الناس يحمل تفويض السلف على أنهم يفوّضون المعنى، وهذا غلطٌ عليهم، فإنهم يعلمون معنى الصفات على ظاهرها، ويُثبتونها كذلك، وإنما يجهلون، ويفوّضون معنى كيفيّتها، فتفطّن لذلك، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. 2 - (ومنها): كثرة جود الله -سبحانه وتعالى-، وأنه ينفق كيف يشاء. 3 - (ومنها): سعة رزقه تعالى، بحيث لا ينقصه الإنفاق. 4 - (ومنها): أنه -سبحانه وتعالى- يرفع الميزان بأفعال العباد، وأرزاقهم، ويخفضه، كيف يشاء، {لِلَّهِ الْأَمرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعدُ}، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُم يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 198 - (حَدَّثَنا هِشَامُ بنُ عَمَّارٍ، وَمُحَمدُ بْنُ الصَبَّاحِ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِم، حَدَّثَني أَبِي، عَن عُبَيْدِ الله بْنِ مِقْسَم، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ، أنهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، وَهُوَ عَلَى المنْبَرِ، يَقُولُ. "يَأْخُذُ الجبَّارُ سَمَاوَاتِهِ وأرضهُ بِيَدهِ"، وَقَبَضَ بِيدهِ، فَجَعَلَ يَقْبِضُها وَيَبْسُطُهَا، "ثُم يَقُولُ: أنَّا الجبارُ، أَيْنَ الجبَّارُونَ؟، أَيْنَ المتكبِّرُونَ؟ " قَالَ: وَيَتَمَيَّلُ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عَنْ يَمِينهِ وَعَن يَسَاره، حَتَى نَظَرتُ إِلَى المنبَرِ يَتَحَرَّكُ مِن أَسفَلِ شيْءٍ مِنْهُ، حَتَى إِنِّي أَقُولُ: أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-") * رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (هِشَامُ بْنُ عمَّارٍ) السّلميّ الدمشقيّ الخطيب، صدوق مقرىء، كَبِرَ فصار يتلقّن، فحديثه القديم أصحّ، من كبار [10] 1/ 5. 2 - (مُحَمَّدُ بن الصَّبَّاحِ) بن سفيان الجرْجَرَائيّ، أبو جعفر التاجر، صدوقٌ [10] 1/ 2. من أفراد المصنّف. 3 - (عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِم) سلمة بن دينار المخزوميّ مولاهم، أبو تَمّام المدني، صدوق فقيه [8].

رَوَى عن أبيه، وسُهيل بن أبي صالح، وهشام بن عروة، وموسى بن عقبة، ويزيد بن الهاد، والعلاء بن عبد الرحمن، وكثير بن زيد بن أسلم، وغيرهم. ورَوَى عنه عبد الرحمن بن مهدي، وابن وهب، والقعنبي، وإبراهيم بن حمزة الزبيري، وعلي ابن المديني، وإسماعيل بن أبي أويس، وسعيد بن أبي مريم، وهشام بن عمار، ومحمد بن الصبّاح الجرجرائيّ، وغيرهم. قال أحمد: لم يكن يُعرَف بطلب الحديث، إلا كتب أبيه، فإنهم يقولون: إنه سمعها، وكان يتفقه، لم يكن بالمدينة بعد مالك أفقه منه، ويقال: إن كتب سليمان بن بلال وقعت إليه ولم يسمعها، وقد رَوَى عن أقوام لم يكن يُعرف أنه سمع منهم. وقال ابن معين: ثقة صدوق، ليس به بأس. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن عبد العزيز بن أبي حازم، وعبد الرحمن بن أبي الزناد، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فقال: متقاربون، قيل له: فعبد العزيز؟ قال: صالح الحديث، وقال هو، وأبو زرعة: عبد العزيز أفقه من الدَّرَاوردي، وأوسع حديثًا منه. وقال النسائي: ثقة، وقال مرة: ليس به بأس. وذكره ابن عبد البر فيمن كان مدار الفتوى عليه في آخر زمان مالك وبعده. وقال أحمد بن عليّ الأَبار: ثنا أبو إبراهيم التَّرْجُمانيّ قال: قال مالك: قوم يكون فيهم ابن أبي حازم لا يُصيبهم العذاب. قال أبو إبراهيم: مات وهو ساجد. وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة (4)، وله ثنتان وثمانون سنة. وقال ابن سعد: كان أكثر الحديث، دون الدَّرَاوردي. وقال مصعب الزبيري: كان فقيهًا، وقد سمع مع سليمان بن بلال، فلما مات سليمان أوصى له بكتبه. وقال العجلي، وابن نمير: ثقة. وقال ابن سعد: وُلد سنة (107)، وقال عبد الرحمن بن شيبة: مات سنة أربع وثمانين ومائة، وهو ساجد، وكذا أَرّخه مُطيَّن وزاد: ويقال: سنة (82). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (34) حديثًا.

4 - (أبُوهُ) سلمة بن دينار الأعرج الأَفْزر (¬1) التمار المدنيّ القاصّ، مولى الأسود بن سفيان، ويقال: مولى بني شِجْع من بني ليث، ومن قال: أشجع فقد وَهِمَ، ثقة عابدٌ [5]. رَوَى عن سهل بن سعد الساعدي، وأبي أمامة بن سهل بن حُنيف، وسعيد بن المسيب، وابن عمر، وابن عمرو بن العاص، ولم يسمع منهما، وعامر بن عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن أبي قتادة، وعبيد الله بن مقسم، وغيرهم. ورَوَى عنه الزهريّ، وعبيد الله بن عمر، وابن إسحاق، وابن عجلان، وابن أبي ذئب، ومالك، والحمادان، والسفيانان، وسليمان بن بلال، وسعيد بن أبي هلال، وابناه عبد الجبار وعبد العزيز، وخلق، آخرهم أبو ضمرة أنس بن عياض الليثي. قال أحمد وأبو حاتم والعجلي والنسائي: ثقة. وقال ابن خزيمة: ثقة لم يكن في زمانه مثله. وقال ابنه ليحيى بن صالح: مَنْ حَدّثك أن أبي سمع من أحد من الصحابة، غير سهل بن سعد، فقد كَذَب. وقال مصعب بن عبد الله الزبيري: أصله فارسيّ، وكان أشقر، أحول، أفزر. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال: كان قاصّ أهل المدينة، ومن عبادهم، وزُهّادهم، بَعَث إليه سليمان بن عبد الملك بالزهري في أن يأتيه، فقال للزهري: إن كان له حاجة فليأت، وأما أنا فمالي إليه حاجة، مات سنة (35)، وقد قيل: سنة (4). وقال ابن سعد: كان يقصّ بعد الفجر في مسجد المدينة، ومات في خلافة أبي جعفر، بعد سنة أربعين ومائة، وكان ثقة، كثير الحديث، وقال يعقوب بن سفيان: مات بعد الثلاثين إلى الأربعين، وقال عمرو بن علي: مات سنة (33). وقال خليفة: سنة (35)، وقال ابن معين: مات سنة أربع وأربعين ومائة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (28) حديثًا. ¬

_ (¬1) قال في "اللسان" 5/ 53: الْفُزُور: الشُّقوق والصُّدوع، ويقال: فَزَرْتُ أنف فلان فَزْرًا: أي ضربته بشيء فشققته، فهو مَفْزُورُ الأنف. انتهى.

5 - (عُبَيْدُ الله بْنُ مِقْسَمٍ) القرشيُّ، مولى ابن أبي نَمِر، المدنيّ، ثقة مشهور [4]. رَوَى عن جابر، وابن عمر، وأبي هريرة، وأبي صالح السمان، والقاسم بن محمد، وعطاء بن يسار. ورَوَى عنه إسحاق بن عبيد الله بن أبي طلحة، وأبو حازم بن دينار، وسهيل بن أبي صالح، ومحمد بن عجلان، ويحيى بن أبي كثير، وداود بن قيس الفراء، وإسحاق بن حازم المدني، وبُكير بن عبد الله الأشجّ. قال أبو داود، والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة لا بأس به. وذكره ابن حبان في "الثقات". ووثقه يعقوب بن سفيان. أخرج له الجماعة، سوى الترمذيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا الحديث برقم (198) وأعاده بهذا السند أيضا في "كتاب الزهد" برقم (4275) وحديث (388) "هو الطهور ماؤه، الحلّ ميتته"، وحديث (2804) "ما تقولون في الشهيد فيكم؟ ". 6 - (عَبْدُ الله بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما 1/ 4، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه محمد بن الصبّاح، فإنه من أفراده، وهو ثقة، وهشام روى عنه البخاريّ في "صحيحه" أربعة أحاديث. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات المدنيين، غير شيخيه، فالأول دمشقيّ، والثاني جرجرائيّ، نسبة إلى جرْجَرَايا، بلدة بين بغداد وواسط (¬1). 4 - (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ. 5 - (ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد المكثرين السبعة، روى ¬

_ (¬1) راجع "الأنساب" 2/ 42 و"اللباب" 1/ 270.

(2630) حديثًا، وهو أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين من الفتوى من الصحابة -رضي الله عنهم- والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أنهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، وَهُوَ عَلَى المنْبر) جملة في محل نصب على الحال من المفعول، أي حال كونه قائمًا على المنبر، وفي رواية مسلم يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم، عن عبيد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر يحكي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: يأخذ الله - عز وجل - سماواته وأرضيه بيديه، فيقول: أنا الله، ويقبض أصابعه ويبسطها ... "، وفي رواية له من طريق سالم بن عبد الله، عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يطوي الله - عز وجل - السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون". (يَقُولُ) -صلى الله عليه وسلم- (يَأخُذُ الجبَّارُ) -سبحانه وتعالى- (سَمَاوَاتِهِ وَأَرضَهُ) بالإفراد، وفي الرواية الآتية في "كتاب الزهد" "وأرضيه" بصيغة الجمع، وهو الذي في "صحيح مسلمٍ" (بِيَده) وعند مسلم "بيديه" بالتثنية (وَقَبَضَ بِيَده) أي قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده حكاية عن ربّه تعالى (فَجَعَلَ) أي النبيّ -صلى الله عليه وسلم- (يَقْبِضُها، وَيَبْسُطُها) أي يقبض يده، ويبسطها؛ لما ذكرناه ("ثُمَّ يَقُولُ، أي الله -سبحانه وتعالى-، فهو معطوف على "يأخذ، والجملة التي قبله من مقولة الراوي معترضة (أنَّا الجبَّارُ) زاد في "الزهد": "أنا الملك"، قال ابن الأثير رحمه الله: "الجبّارّ" معناه الذي يَقهر العباد على ما أراد من أمر ونهي، يقال: جبر الخلق، وأجبرهم، وأجبر أكثرُ، وقيل: هو العالي فوق خلقه، وفَعّالٌ من أبنية المبالغة، ومنه قولهم: نَخْلَةٌ جَبَّارَةٌ، وهي العظيمة التي تفوت يد المتناول. انتهى (¬1). وقال الفيّوميّ رحمه الله: وأجبرته على كذا بالألف: حَمَلته عليه قهرًا وغلبةً، فهو ¬

_ (¬1) "النهاية" 1/ 235.

مُجْبرٌ، هذه لغة عامّة العرب، وفي لغة لبني تميم، وكثير من أهل الحجاز يَتكلَّم بها جَبرتُهُ جَبرًا، من باب قتل، وجُبُورًا، حكاه ابن زهريّ، ولفظه: وهي لغة معروفة، ولفظ ابن القَطّاع: وجبرتك لغة بني تميم، وحكاها جماعة أيضًا، ثم قال الأزهري: فجبرته وأجبرته لغتان جيّدتان، وقال ابن دُريد في باب ما اتَّفَقَ عليه أبو زيد وأبو عبيدة، مما تكلّمت به العرب، من فَعَلْتُ وأفعلتُ: جبرتُ الرجلَ على الشيء، وأجبرته، وقال الخطابّي: الجبّار الذي جبر خلقه على ما أراد من أمره ونهيه، يقال: جبره السلطان، وأجبره، بمعنًى، ورأيت في بعض التفاسير عند قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} أن الثلاثي لغة حكاها الفرّاءُ وغيره، واستشهد لصحّتها بما معناه أنه لا يُبنى فَعّالٌ إلا من فِعل ثلاثيّ، نحو الفتاح، والعلّام، ولم يجئء من أفعل بالألف إلا دَرّاكٌ، فإن حُمل وجَبّارٌ على هذا المعنى، فهو وجه، قال الفرّاء: وقد سمعتُ العرب تقول: جبرته على الأمر، وأجبرته، وإذا ثبت ذلك فلا يُعَوَّل عَلى قول من ضعفها. انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن "الجبّار" لغة فصيحة؛ لصحّة ثلاثيّها، فتنبّه، والله تعالى أعلم. (أَيْنَ الجَبَّارُونَ؟) أي الذين كانوا يتسلّطون على العباد، ويتجبّرون عليهم في الدنيا ظلمًا وعدوانًا (أَيْنَ المتكَبِّرُونَ؟ "، قَالَ) ابن عمر رضي الله عنهما (وَيَتَمَيَّلُ) وفي رواية "الزهد": "ويتمايل" (رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَاره) وفي "الزهد": "وعن شماله"، أي من شدة هيبته، وعظمته (حَتَى نَظَرت إِلَى المنْبَرِ يَتَحرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ) أي من أسفله إلى أعلاه؛ لأن بحركة الأسفل يتحرك الأعلى، ويحتمل أنّ تحركه بحركة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بهذه الإشارة، قاله النووي، وقال القاضي عياض: ويحتمل أن يكون بنفسه هيبة لسمعه، كما حَنّ الجذع، ثم قال: والله أعلم بمراد نبيه -صلى الله عليه وسلم- فيما ورد في هذه ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" 1/ 90.

الأحاديث من مشكل، ونحن نؤمن بالله تعالى وصفاته، ولا نُشَبِّه شيئًا به، ولا نشبهه بشيء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، وما قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وثبت عنه فهو حقّ وصدقٌ، فما أدركنا علمه فبفضل الله تعالى، وما خَفِي علينا آمنّا به، ووَكَلْنا علمه إليه -سبحانه وتعالى-، وحملنا لفظه على ما احتمل في لسان العرب الذي خوطبنا به، ولم نقطع على أحد معنييه بعد تنزيهه -سبحانه وتعالى- عن ظاهره الذي لا يليق به -سبحانه وتعالى-، وبالله التوفيق. انتهى. قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال القاضي عياض رحمه الله، وأحسن القول، خلاف عادته في أحاديث الصفات، وقد نقل هذا الكلام منه النوويّ، وأقرّه عليه، وهو أيضًا خلف عادته، فإنه وإن ذكر مذهب السلف، إلا أنه يختار مذهب الخلف المأولين، ويؤيّده، ومن الغريب أنه نقل قبل هذا عن المازريّ في شرح هذا الحديث، أن هذا الكلام استعارة، فقال: وأما إطلاق اليدين لله تعالى، فمتأول على القدرة إلى آخر كلامه، وارتضى هذا التأويل السخيف، فهذا تناقضٌ عجيب. والحقّ كما بينا غير مرّة أن مذهب السلف هو الأعلم، والأحكم، والأسلم، فلا ينبغي العدول عنه. ولقد أجاد السنديّ رحمه الله في "شرحه" لهذا الكتاب، حيث قال: والحقّ في هذا الحديث، وكذا فيما قبله وبعده ما ذكره المحقّقون، قال البغويّ رحمه الله في "شرح السنّة": كلُّ ما جاء في الكتاب والسنّة من هذا القبيل في صفاته تعالى، كالنفس، والوجه، والعين، والإصبع، واليد، والرجل، والإتيان، والمجيء، والنزول إلى السماء، والاستواء على العرش، والضحك، والفرح، فهذه ونظائرها صفاتٌ لله - عز وجل - ورد بها السمع، فيجب الإيمان بها، وإمرارُها على ظاهرها، مُعرضًا فيها عن التأويل، مجُتنبًا عن التشبيه، مُعتقدًا أن الباري -سبحانه وتعالى- لا يشبه شيءٌ من صفاته صفاتِ الخلق، كما لا تشبه ذاتُهُ ذواتِ الخلق، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}

[الشورى: 11]. وعلى هذا مضى سلف الأمة، وعلماءُ السنة، تلقّوها جميعًا بالإيمان والقبول، وتجنّبوا فيها عن التمثيل والتأويل، ووكلوا العلم فيها إلى الله تعالى، كما أخبر -سبحانه وتعالى- عن الراسخين في العلم، فقال - عز وجل -: {وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]. قال سفيان بن عيينة: كلُّ ما وصف الله -سبحانه وتعالى- به نفسه في كتابه، فتفسيره قراءته، والسكوت عليه، ليس لأحد أن يفسّره إلا الله - عز وجل - ورُسله. وسأل رجلٌ مالك بن أنس عن قوله - عز وجل -: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كيف استوى؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا ضالّا، وأمر به أن يُخرَج من المجلس. وقال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعيّ، وسفيان بن عيينة، ومالكًا عن هذه الأحاديث في الصفات والرؤية، فقالوا: أَمِرُّوها كما جاءت بلا كيف. وقال الزهريّ: على الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. وقال بعض السلف: قَدَمَ الإسلام لا يَثبُت إلا على قنطرة التسليم. انتهى. وبنحو هذا صرّح كثير من المحقّقين، فعليك به والله الموفّق. انتهى كلام السنديّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيس، وبحث أنيس. والله تعالى أعلم بالصواب. (حَتَّى إِنِّي أَقُولُ) وفي "الزهد": "لأقول" (أَساقِطٌ) بهمزة الاستفهام (هُوَ) أي المنبر (بِرَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-) هذا الاستفهام من ابن عمر رضي الله عنهما جرى بينه وبين نفسه، والله تعالى أَعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 198) بهذا السند، وأعاده في "كتاب الزهد" برقم (4275) بالسند نفسه، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (2/ 72 و 78) و (عبد بن حميد) في "مسنده" (742) و (البخاريّ) (9/ 150) من طريق نافع، عن ابن عمر، و (مسلم) (8/ 126 و 127) و (أبو داود) (4732) و (الطبري) في "تفسيره" (24/ 27) و (ابن خزيمة) في "التوحيد" (73) و (ابن حبان) في "صحيحه" (7324) و (الطبرانيّ) في "الكبير" (13327) و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات" (339 و340) و (ابن أبي عاصم) في "السنة" (547) و (أبو الشيخ) في "العظمة" (139) و (البغويّ) "التفسير" (4/ 87) مع اختلاف في الألفاظ، والله تعالى أعلم. وأما مطابقته للباب، فواضحة، حيث بيّن صفة اليد، والقبض والبسط، والكلام، وكلها مما أنكرها الجهميّة الضُّلّال، وبقية الفوائد تقدّمت في الأحاديث السابقة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله أول الكتاب قال: 199 - (حَدَّثنا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حدثنا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جَابرٍ، قَالَ: سمعت بُسْرَ بْنَ عُبَيْدِ الله يَقُولُ: سَمعتُ أبا إِدرِيسَ الخوْلَانِيَّ يَقُولُ: حَدَّثَني النوَّاسُ بْنُ سمعَانَ الْكِلَابِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَا مِنْ قَلبٍ إِلَّا بَيْنَ إِصبَعَيْنِ مِنْ أصَابعِ الرَّحْمَنِ، إِن شَاءَ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أزَاغَهُ"، وَكَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "يَا مُثبتَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ"، قَالَ: "وَالميزَانُ بِيَدِ الرَّحْمَنِ، يَرفَعُ أَقوَامًا، وَيَخْفِضُ آخَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيامَةِ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (هِشَامُ بنُ عَمّارٍ) المذكور في السند السابق. 2 - (صدَقةُ بْنُ خَالِدٍ) الأُمويّ مولاهم، أبو العباس الدمشقيّ، مولى أُمِّ البنين

أُختِ معاوية، وقيل: أختِ عمر بن عبد العزيز، ثقة [8]. رَوَى عن أبيه، وزيد بن واقد، والأوزاعيّ، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وعُتبة بن أبي حكيم، وعثمان بن أبي العاتكة، وهشام بن الغاز، وجماعة. ورَوَى عنه يحيى بن حمزة الحضرمي، والوليد بن مسلم، هو من أقرانه، وأبو مسهر، وقرأ عليه القرآن، ومحمد بن المبارك الصُّوريّ، وهشام بن عمار، وغيرهم. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة، ليس به بأس، أثبت من الوليد بن مسلم، صالح الحديث. وقال ابن معين، ودُحَيم، وابن نمير، والعجلي، ومحمد بن سعد، وأبو زرعة، وأبو حاتم: ثقة، زاد بن نمير: وهو أوثق من صدقة بن عبد الله، وصدقة بن يزيد، وقال ابن معين: كان صدقةُ أحب إلى أبي مسهر من الوليد، وكان يحيى بن حمزة قَدَرِيّا، وصدقة أحب إلي منه. وقال أبو زرعة الدمشقي: سمعت أبا مسهر يقول: صدقة صحيح الأخذ، صحيح الإعطاء. وقال الآجري عن أبي داود: من الثقات، هو أثبت من الوليد بن مسلم، رَوى الوليدُ عن مالك عشرة أحاديث، ليس لها أصل، منها عن نافع أربعة. وذكره ابن حبان، وقال: وهو مولى أم البنين أخت معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان. وقال النسائي: في "الكنى"، وابن عمار: ثقة. قال دُحيم وغيره: مولده سنة ثماني عشرة ومائة. وقال معاوية بن صالح عن ابن معين: ثقة، توفي سنة سبعين أو إحدى وسبعين ومائة، وقال هشام بن عمار وغيره: مات سنة ثمانين، وقال دُحيم: مات سنة أربع وثمانين، وكان كاتبا لشعيب. أخرج له البخاري، وأبو داود، والنسائي، والمصنّف، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا. 3 - (ابْنُ جَابرٍ) هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزديّ، أبو عُتبة الشاميّ الدَّارَاني، ثقة [7]. رَوَى عن مكحول، والزهري، وعطية بن قيس، وعمير بن هانئ، وسليم بن

عامر، وبسر بن عبيد الله الحضرمي، وزيد بن أسلم، وسعيد المقبريّ، وغيرهم. ورَوَى عنه ابنه عبد الله، وصدقة بن خالد، وصدقة بن المبارك، وعمر بن عبد الواحد، وبشر بن بكر، وحسين بن علي الجعفي، وغيرهم. قال أحمد: ليس به بأس. وقال ابن معين، والعجليّ، وابن سعد، والنسائيّ، وغير واحد: ثقة. وقال ابن المديني: يُعَدّ في الطبقة الثانية من فقهاء أهل الشام، بعد الصحابة -رضي الله عنه- وقال يعقوب بن سفيان: عبد الرحمن ويزيد ابنا جابر ثقتان، كانا نزلا البصرة، ثم تحولا إلى دمشق. وقال أبو داود: هو من ثقات الناس. وقال ابنه أبو بكر بن أبي داود: ثقة مأمون. وقال موسى بن هارون: رَوَى أبو أسامة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وكان ذلك وَهمًا منه، هو لم يَلْقَ ابنَ جابر، وإنما لَقِي ابنَ تميم، فظَنّ أنه ابن جابر، وابن جابر ثقة، وابن تميم ضعيف. وقال الفلاس: ضعيف الحديث، وهو عندهم من أهل الصدق، رَوَى عنه أهل الكوفة أحاديث مناكير، قال الخطيب: كأنه اشتبه على الفلاس بابن تميم. وقال ابن مهديّ: إذا رأيت الشامي يَذكر الأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، وعبد الرحمن بن يزيد، فاطمَئِنّ إليه. وقال دُحيم: هو بعد زيد بن واقد في مكحول. وقال أبو حاتم: صدوق، لا بأس به، ثقة. قال خليفة وغيره: مات سنة ثلاث وخمسين ومائة، زاد ابن سعد: وهو ابن بضع وثمانين. وقال صفوان بن صالح: سمعت الوليد وغير واحد من أصحابنا يقولون: مات سنة (54)، وقال عبد الله بن يزيد القاري: مات سنة (55)، وقال ابن معين: مات سنة (56)، وكذا حكاه البخاري، ويعقوب بن شيبة، وجزم ابن حبان في "الثقات" بالقول الأول. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا. 4 - (بُسْرُ بْنُ عُبَيْدِ الله) الحضرميّ الشاميّ، ثقة حافظ [4]. رَوَى عن واثلة، وعمرو بن عَبَسَة، ورُويفع بن ثابت، وعبد الله بن مُحَيريز، وأبي إدريس الخولاني، وغيرهم.

ورَوى عنه عبد الله بن العلاء بن زَبْر، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وزيد بن واقد، وغيرهم. قال العجلي، والنسائي: ثقة. قال أبو مسهر: هو أحفظ أصحاب أبي إدريس. وقال مروان بن محمد: من كبار أهل المسجد، ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، هذا الحديث برقم (199) وحديث (541) "نعم أصلي فيه ... " وحديث (3979) "يكون دُعاة على أبواب جهنم ... " وحديث (4042) "احفظ خلالا ستا ... " وحديث (4095) "تكون بينكم وبين بني الأصفر ... "، وحديث (4115) "ألا أخبرك عن ملوك الجنة ... ". 5 - (أبو إِدرِيسَ الخوْلَاني) عائذ الله بن عبد الله بن عمرو، ويقال: عَيِّذُ الله بن إدريس بن عائذ بن عبد الله بن عُتبة بن غَيْلان بن مكين الْعَوْذيّ، ويقال: الْعَيْذيّ أيضًا، ثقة ثبت، من كبار التابعين، من علماء أهل الشام، وعُبّادهم، وقُرّائهم [2]. رَوَى عن عمر بن الخطاب، وأبي الدرداء، ومعاذ بن جبل، وأبي ذر، وبلال، وثوبان، وحذيفة، وعبادة بن الصامت، وعوف بن مالك، والمغيرة، ومعاوية، والنواس ابن سمعان، وأبي ثعلبة الخشني، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وغيرهم. ورَوَى عنه الزهريّ، وربيعة بن يزيد، وبسر بن عبيد الله، وعبد الله بن ربيعة بن يزيد، والقاسم بن محمد، والوليد بن عبد الرحمن بن أبي مالك، ومكحول، وغيرهم. قال مكحول: ما رأيت أعلم منه. وقال الزهريّ: كان قاصّ أهل الشام وقاضيهم في خلافة عبد الملك. وقال سعيد بن عبد العزيز: كان أبو إدريس عالم الشام بعد أبي الدرداء. وقال أبو زرعة الدمشقي: أحسن أهل الشام لُقِيّا لأجلة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جُبير بن نُفير، وأبو إدريس، وقد قلت لدحيم: مَن المقدم منهم؟ قال: أبو "إدريس. قال أبو زرعة: وأبو إدريس أروى عن التابعين من جُبير بن نُفير فأما معاذ بن جبل، فلم يصح له سماع، وإذا حدث أبو إدريس عن معاذ أسند ذلك إلى يزيد بن

عَمِيرة. قال أبو زرعة: قال محمد بن أبي عُمر عن ابن عُيينة، عن الزهريّ، عن أبي إدريس أنه أدرك عُبادة بن الصامت، وأبا الدرداء، وشداد بن أوس، وفاته معاذ بن جبل، قال أبو زرعة: وقد حدثنا محمد بن المبارك، ثنا الوليد بن مسلم، عن يزيد بن أبي مريم، عن أبي إدريس، قال: جلست خلف معاذ بن جبل، وهو يصلي، فلما انصرف من الصلاة، قلت: إني لأحبك لله، قال: فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "المتحابّون في الله في ظلّ عرشه، يوم لا ظلّ إلا ظلّه" (¬1). قال أبو زرعة: وقال هشام عن صدقة، عن ابن جابر، عن عطاء الخراساني، سمعت أبا إدريس نحوه، قال: وحدثني سليمان، عن خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبي إدريس، قال أبو زرعة: أبو إدريس يَروي عن أبي مسلم الخولاني، وعبد الرحمن بن غَنْم، وكلاهما يحدثان بهذا الحديث، عن معاذ، والزهريّ يحفظ عن أبي إدريس أنه لم يسمع من معاذ، والحديث حديثهما. وقال أبو عمر بن عبد البر: سماع أبي إدريس من معاذ عندنا صحيح، من رواية أبي حازم وغيره، فلعل رواية الزهري عنه أنه فاتني معاذ بن جبل في معنى من المعاني، وأما لقاؤه وسماعه منه فصحيحٌ غير مدفوع، وقد سُئل الوليد بن مسلم، وكان عالما يأيام أهل الشام، هل لقي أبو إدريس معاذ بن جبل؟ قال: نعم أدرك معاذ بن جبل، وأبا عبيدة، وهو ابن عشر سنين، وُلد يوم حُنين، سمعت سعيد بن عبد العزيز يقول ذلك. قال ابن معين وغيره: مات سنة ثمانين. قال الحافظ: إذا كان وُلد في غزوة حُنين، وهي في أواخر سنة ثمان، ومات معاذ سنة ثمان عشرة، فيكون سنه حين مات معاذ تسع سنين ونصفًا أو نحو ذلك، فيبعد في العادة أن يُجاري معاذًا في المسجد هذه المجاراة، أو يخاطبه هذه المخاطبة على ما اشتهر من عادتهم، أنه لا يطلبون العلم إلا بعد البلوغ، والجمعُ الذي جمع به ابن عبد البر، قد ¬

_ (¬1) رواه أحمد في "مسنده" 5/ 233.

سبقه إليه الطحاوي في "مشكله"، وساقه من طُرُق كثيرة إلى أبي إدريس، أنه سمع معاذًا، وعبادة بالقصة المذكورة. وقال العجلي: دمشقي تابعي ثقة. وقال أبو حاتم، والنسائي، وابن سعد: ثقة. وقال أبو مسهر: لم نجد له ذكرًا بعد عبد الملك. وقال الهيثم بن عدي: تُوفي زمن عبد الملك. وذكره الطبري في طبقات الفقهاء في نفر من أهل الشام، أهلِ فقه في الدين، وعلم بالأحكام والحلال والحرام. ورَوَى هالك عن أبي حازم، عن أبي إدريس، قال: دخلت مسجد دمشق، فإذا أنا بفتي بَرّاق الثنايا، فسألت عنه، فقالوا: معاذ، فلما كان الغد هجّرت، فوجدته يصلي، فلما انصرف سلمت عليه، فقلت: والله أني لأحبّك ... الحديث، وهو الذي أشار إليه ابن عبد البر. وقال البخاري: لم يسمع من عمر. وقال ابن حبان في "الثقات": ولاه عبد الملك القضاء بعد عزل بلال بن أبي الدرداء، وكان من عباد أهل الشام وقرائهم، ولم يسمع من معاذ. وقال ابن أبي حاتم: قلت لأبي: أسمع أبو إدريس من معاذ؟ فقال: يختلفون فيه، فأما الذي عندي فلم يسمع منه. قال الجامع عفا الله عفه: قول من قال: لم يسمع من معاذ هو الأرجح عندي؛ لأن أبا زرعة الدمشقيّ أعلم الناس بأحوال أهل الشام، وتواريخهم، وقد نفاها، فيكون هو الأرجح، والله تعالى أعلم. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا. 6 - (النَّوَّاسُ بْنُ سمعَانَ الْكِلَابِي) ويقال له: الأنصاريُّ قال بعضهم: هو ابن سمعان بن خالد بن عبد الله بن عمرو بن قُرْط بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، له ولأبيه صحبة (¬1)، روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعنه أبو إدريس ¬

_ (¬1) "الإصابة" 6/ 377.

الخولانيّ، وجُبير بنُ نُفَير الحضرميّ، قال ابن عبد البر: يقال: إن أباه وَفَد على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فدعا له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأعطاه نعليه، فقبلهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتزوج أخته، فلما دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- تعوّذت منه فتركها، وهي الكلابية، وقد اختُلف في اسمها على أقوال، ليس هذا محل حكايتها، وقال أبو حاتم الرازيّ، وأبو أحمد العسكريّ: إن النوّاس سكن الشام (¬1). أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا الحديث برقم (199) وحديث (4075) "ما شأنكم، فقلنا .. ، وحديث (4076) "سيوقد المسلمون من قَسِيّ يأجوج ومأجوج .. "، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه سداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات الشاميين. 4 - (ومنها): أنه مسلسل بالتحديث والسماع من أوله إلى آخره. 5 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: بسر عن أبي إدريس. 6 - (ومنها): أن صحابية من المقلين في الرواية، ليس له في الكتب الستة إلا خمسة أحاديث فقط، راجع ترجمته في "تحفة الأشراف" (¬2)، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" 4/ 244. (¬2) "تحفة الأشراف" 8/ 279 - 299.

شرح الحديث: عن أبي إدريس الخولاني، أنه قال: (حَدَّثَني النَّوَّاسُ بْنُ سِمعَانَ) الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما (الْكِلَابِيُّ) بكسر الكاف: نسبة إلى كلاب أحد أجداده، وهو كلاب بن ربيعة، بن عامر بن صعصعة، كما سبق في نسبه، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَا) نافية (مِنْ) زائدة بعد النفي، كما قال في "الخلاصة": وَزِيدَ فِي نَفْي وَشِبْهِهِ فَجَر ... نَكِرَةً كـ "مَا لِبَاغ مِنْ مَفَر" (قَلْبٍ) مبتدأ خبره قوله: (إِلَّا بَيْنَ إِصبَعَيْنِ) بكسر الهمزة، وفتح الوحّدة، أفصح لغاتها، وهي عشرة، تثليثُ الهمزة، مع تثليث الموحّدة، والعاشرة أُصبُوع، بوزن أُسْبُوع. وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند مسلم: "إن قلوب بني آدم كلّها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرفه كيف يشاء ... " الحديث. (مِنْ أَصَابعِ الرَّحْمَنِ) قال المأولون: إطلاق الأصبع عليه تعالى مجاز، أي تقليب القلوب في قدرته يسير إلى آخر ما قالوه، قلت: الحقّ كما تقدّم في الأحاديث السابقة عدم التعرّض للتأويل، بل نثبت الأصابع ونحوها لله تعالى كما أثبته النصّ الصريح الصحيح على ما يليق بجلاله -سبحانه وتعالى-. والحاصل أن هذا الحديث من أحاديث الصفات التي نؤمن بها، ونعتقد أنها حقّ من غير تعرّض للتأويل، ولا لمعرفة الكيفيّة؛ لأن الإيمان بها فرضٌ، والامتناع عن الخوض في معرفة حقاقها واجب، فالمهتدي من سلك فيها سبيل التسليم، والخائض في إدراك كيفيّتها زائغ، والمنكر لها معطّلٌ، والمكيّف مشبّه، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. ونقل الطيبيّ في "شرحه" عن شيخه أبي حفص السُّهْرورديّ رحمه الله أنه قال في "كتاب العقائد" له: أخبر الله - عز وجل - أنه استوى على العرش، فقال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وأخبر رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالنزول، وغير ذلك مما جاء من اليد، والقدم،

والتعجب، والتردّد، وكلّ ما ورد من هذا القبيل، فلا يُتصرّف فيها بتشبيه، ولا تعطيل، فلولا إخبار الله تعالى، وإخبار رسوله -صلى الله عليه وسلم-. ما تجاسر عقل أن يحوم حول ذلك الحمى، وتلاشىى دون ذلك عقل العقلاء، ولُب الألبّاء. انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي نقله الطيبي عن شيخه هو التحقيق الحقيق بالقبول، فيا ليت الطيبيّ مشى على طريقة شيخه، ولكنه حاد، ومال عن الصراط المستقيم، فترى في شرحه يختار مذهب المؤوّلين، ويقوّيه، ويطوّل نفسه في تقريره، فلا حول ولا قوّة إلا بالله، اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدنا لما اختُلف فيه من الحقّ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. (إِنْ شَاءَ) الله تعالى إقامته (أَقَامَهُ) أي أثبته على الحقّ (وَإِنْ شَاءَ) إزاغته (أَزَاغَهُ) أي أماله عن الحقّ، فيقلبها تارة من فجورها إلى تقواها، بأن يجعلها تقيّةً بعد أن كانت فاجرةً، ويعدلها أخرى عن تقواها إلى فجورها، بأن يجعلها فاجرة بعد أن كانت تقيّةً، كما قال الله - عز وجل -: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8]. قال بعضهم: نسب تقليب القلب إلى الله تعالى إشعارًا بأن الله تعالى إنما تولّى بنفسه أمر قلوبهم، ولم يَكِله إلى أحد من ملائكته، وخصّ الرحمن بالذكر إيذانًا بأن ذلك التولّي لم يكن إلا بمحض رحمته، وفضل نعمته؛ كيلا يطَّلع أحد غيره على سرائرهم، ولا يكتب عليهم ما في ضمائرهم. انتهى (¬2). (وَكَانَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقولُ: يَا مُثَبِّتَ الْقُلُوبِ) وفي رواية أحمد: "يا مقلّب القلوب" أي مصرّفها تارة إلى الطاعة، وتارة إلى المعصية، وتارة إلى اليقظة، وتارة إلى الغفلة (ثَبِّتْ قلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ) أي اجعله ثابتًا على دينك القويم، غير مائل عن ¬

_ (¬1) راجع "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 544. (¬2) "الكاشف" 2/ 544.

صراطك المستقيم (قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (وَالميزَان بِيَدِ الرحمَنِ، يَرفَع) بالبناء للفاعل، أي يرفع الله بذلك الميزان (أَقْوَامًا) وفي نسخة "قومًا"، أي يرفعهم إلى الدرجات العلى بسبب أعمالهم الصالحات (وَيَخْفِضُ) بفتح أوله، وكسر ثالثه، من باب ضرب (آخَرِينَ) أي يخفض أقوامًا آخرين إلى الدركات السفلي بسبب ارتكابهم المعاصي الموبقات (إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ) تنازعاه الفعلان قبله، أو متعفق بخبر مبتدإ مقدر، أي ذلك كائن إلى يوم القيامة، وهو إشارة إلى استمرار هذا الرفع والخفض إلى آخر الدهر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث النّوّاس بن سمعان رضي الله عنهما هذا صحيح. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 199) بهذا السند فقط، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (4/ 182) و (ابن أبي عاصم) في "السنة" (219) و (النسائيّ) في "النعوت" من "الكبرى" (¬1) و (ابن حبان) في "صحيحه" (943) و (الآجري) في "الشريعة" (317) و (الحاكم) في "مستدركه" (1/ 525 و 2/ 289) وصححه، ووافقه الذهبيّ، و (البغويّ) في "شرح السنة" (89). وفي الباب عن عبد الله عمرو عند مسلم رقم (2654) وابن حبان (902) وأنس عند الترمذيّ في "القدر" (2140) وحسّنه، وعند ابن ماجه (2834) وابن أبي عاصم (225) والآجريّ ص 317 وعائشة عند أحمد (6/ 91 و251) وابن أبي عاصم (224) والآجريّ (ص 317) وأم سلمة عند أحمد (6/ 294 و 302) وابن أبي عاصم (223) والآجريّ (ص 316) وسبرة بن الفاكه عند ابن أبي عاصم (220) وعن أبي ¬

_ (¬1) عزاه إليه في "تحفة الأشراف" 9/ 61.

هريرة عنده أيضًا (229)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان ما أنكرته الجهميّة من صفات الله تعالى، وهو صفة الأصابع، واليد، فإنهم ينكرون ذلك، وأما أهل السنة فيثبتون ذلك كما أثبتته النصوص، على مراد الله تعالى. 2 - (ومنها): ما قاله البغويّ رحمه الله: فيه بيان أن العبد ليس إليه شيء من أمر سعادته أو شقاوته، بل إن اهتدى فبهداية الله إياه، كان ثبت على الإيمان فبتثبيته، وإن ضلّ فبصرفه عن الهدى، قال الله -سبحانه وتعالى-: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17]، وقال -سبحانه وتعالى- إخبارًا عن حمد أهل الجنة {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، وقال - عز وجل -: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]. 3 - (ومنها): شدّة خوف النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من ربّه، حيث يدعو أن يثبّت الله قلبه على دينه، وشدّة حرصه -صلى الله عليه وسلم- على تنبيه أمته أن لا يصيبها ذهول وغفلة عن مراقبة الخواتم، فإن الأمر بالخواتم، وفي حديث أنس -رضي الله عنه- عند الترمذيّ في "جامعه" كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول: "يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك"، قالوا: يا رسول الله آمنّا بك، وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: "نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلّبها كيف يشاء". 4 - (ومنها): أن الميزان بيد الرحمن، يتصرّف فيه بالرفع والخفض كيف يشاء، فالمرفوع من رفع الله تعالى وزنه، والمخفوض الخاسر من خفض الله تعالى وزنه، اللهم ثقل موازين حسناتنا بفضل وجودك، إنك أنت أرحم الراحمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 200 - (حَدَّثَنَا أبو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حدثنا عَبْدُ الله بْنُ إِسماعِيلَ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الله لَيَضْحَكُ إِلَى ثَلَاثَةٍ: لِلصَّفِّ في الصَّلَاةِ، وَللرَّجُلِ يُصَلِّي في جَوْفِ اللَّيْلِ، وَللرَّجُلِ يُقَاتِلُ -أُرَاهُ قَالَ-: خَلْفَ الْكَتِيبةِ") * رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (أبو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) الكوفيّ، ثقة حافظ [10] 8/ 52. 2 - (عَبْدُ الله بْنُ إِسماعِيلَ) بن أبي خالد، مجهول [8]. رَوَى عن إسماعيل بن أبي خالد، وسعيد بن أبي عروبة، وليث بن أبي سليم، ومجالد بن سعيد، وأبي إسحاق الشيباني. ورَوى عنه أبو كريب محمد بن العلاء، قال أبو حاتم: مجهول. وذكره ابن حبان في "الثقات". قال الحافظ المزيّ رحمه الله: وجدته في نسخة من الترمذي مكتوبة عن المصنف، في حديث أبي المليح بن أُبي أسامة، عن أبيه، في جلود السباع: عبد الله بن إسماعيل بن أبي خالد. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قلت: جزم المؤلف -يعني المزّي- في "الأطراف" بذلك فقال: قال الترمذيّ فيه: عن محمد بن بشار، عن يحيى به، وعن أبي كريب، عن ابن المبارك، ومحمد بن بشر، وعبد الله بن إسماعيل، هو ابن أبي خالد، ثلاثتهم عن سعيد ابن أبي عروبة. انتهى (¬1). أخرج له الترمذيّ، والمصنّف، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث فقط. 3 - (مُجَالِدٌ) بن سعيد الهمدانيّ، أبو عمرو الكوفيّ، ضعيف، من صغار [6] 1/ 11. ¬

_ (¬1) راجع "تهذيب التهذيب" 2/ 302 - 303.

4 - (أبو الوَدّاكِ) -بفتح الواو، وتشديد الدال، آخره كاف- جَبِر بن نَوْف -بفتح النون، وسكون الواو، آخره فاء- الْبِكَاليّ الكوفي، صدوقٌ يَهِم [4]. رَوى عن أبي سعيد الخدري، وشريح القاضي، وعنه مجالد، وقيس بن وهب، وأبو إسحاق، ويونس بن أبي إسحاق، وعلي بن أبي طلحة، وإسماعيل بن أبي خالد، وأبو التياح. قال ابن معين: ثقة. وقال النسائي: صالح. وقال البخاري في "تاريخه": قال يحيى القطان: هو أحب إلي من عطية. وقال ابن سعد: كان قليل الحديث. وقال ابن أبي خيثمة: قيل لابن معين: عطية مثل أبي الوَدّاك؟ قال: لا، قيل: فمثل أبي هارون؟ قال: أبو الوداك ثقة، ما له ولأبي هارون؟. وقال أبو حاتم: وأبو الوَدّاك أحب إليّ من شهر ابن حوشب، وبشر بن حرب، وأبي هارون. وقال النسائي في "الجرح والتعديل": ليس بالقوي. وذكره ابن حبان في "الثقات". أخرج له مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (200) وحديث (3199) "كلوه إن شئتم، فإن ذكاته ذكاة أمه". 5 - (أبو سَعِيدٍ الخدرِي) سعد مالك رضي الله عنهما 4/ 37. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدرِي) سعد بن مالك بن سنان الصحابيّ ابن الصحابي رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الله ليَضْحك) سبق أن الحقّ أن الضحك من الصفات الثابتة لله تعالى على ما يَليق بجلاله، فلا تغفُل، وقال السنديّ في "شرحه": تعدية الضحك بـ "إلى" لتضمينه معنى الإقبال، وذكر اللام في التفصيل للتنبيه على أنه يضحك تشريفًا لهم. انتهى (¬1) (إِلَى ثَلَاثةٍ: لِلصَّفِّ في الصَّلَاة) أي لأهله الذين يبادرونه، ¬

_ (¬1) "شرح السندي" 1/ 132 - 133.

ويتسابقون إليه؛ مبادرة للطاعة (وَللرَّجُلِ يُصَلِّي في جَوفِ اللَّيْلِ) أي لإيثاره مناجاة ربّه، تاركًا لذة النوم مع زوجته وأحب الناس إليه على فراش وطيء ممهّد (وَللرَّجُلِ يُقَاتِلُ - أُرَاهُ) يحتمل أن يكون هذا من أبي سعيد -رضي الله عنه-، أو ممن دونه، أي أظنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- (قَالَ-: خَلْفَ الْكَتِيبةِ) ظرف لـ"يقاتل"، و"الكتيبة": الطائفة من الجيش مجتمعةً، والجمع كتائب، قاله في "المصباح"، والمراد أنه يقاتل بعد أن انصرفوا، لا بمعنى أنه يقوم خلفهم ويقاتل". والحاصل أنه إذا رأى رجلٌ فرار الكتيبة من القتال، وخاف أن يتغلّب العدوّ على المسلمين، فبرز بنفسه للقتال، فقاتل، حتى انتصر، أو استُشهد، فقد قام بعمل صعب، وشاقّ؛ فاستحقّ هذا الفضل العظيم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه- هذا ضعيف؛ لأن مجالدًا، كان أخرج له مسلم مقرونًا بغيره، ضعيف عند الجمهور، وقال ابن عديّ: عامة ما يرويه غير محفوظ، وعبد الله بن إسماعيل، قال أبو حاتم: مجهول، وكذا قال الذهبيّ في "الكاشف"، فالحديث من رواية مجهول عن ضعيف. والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنف) هنا (35/ 200) بهذا السند فقط، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" 3 (/ 80) و (عبد بن حُميد) في "مسنده" (911)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 201 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عُثمانَ -يَعني ابْنَ المغِيرَةِ الثَّقَفِي- عَنْ سَالم بْنِ أَبِي الجعدِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يعرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ في الموْسِمِ، فَيَقُولُ: "أَلا رَجُل يَحمِلُنيَ إِلَى قَوْمِهِ، فَإِنَّ قُرَيْشًاَ قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أبلِّغَ كلَامَ رَبِّي") * رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ يَحيَى) الذهليّ الإمام الحافظ الحجة [11] تقدّم قريبًا. 2 - (عَبْدُ الله بْنُ رَجَاءٍ) بن عُمَر، ويقال: المثنى، أبو عُمَر، ويقال: أبو عَمرو الْغُدَانيّ البصريّ، صَدوقٌ يَهِمُ قليلًا [9]. رَوَى عن عكرمة بن عمار، وإسرائيل، وحرب بن شداد، وشعبة، والمسعودي، وعمران القطان، وأبي عوانة، وهشام الدستوائي، وغيرهم. ورَوَى عنه البخاري، وروى له أيضا في "الصحيح"، وفي "الأدب المفرد"، وأبو داود في "الناسخ والمنسوخ"، والنسائي، وابن ماجه بواسطة أحمد بن محمد بن شبويه، وخليفة بن خياط، وأبو حاتم السجستاني، وعبد الله بن الصبّاح العطار، وعبد الله بن إسحاق الجوهري، وعمرو بن منصور النسائي، والذهليّ، وغيرهم. قال عثمان الدارمي عن ابن معين: كان شيخًا صدوقًا لا بأس به. وقال هاشم بن مرثَد عن ابن معين: كثير التصحيف، وليس به بأس. وقال عمرو بن علي: صدوق كثير الغلط والتصحيف، ليس بحجة. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عنه، فجعل يُثني عليه، وقال حسن الحديث عن إسرائيل. وقال أبو حاتم: كان ثقةً رِضًا. وقال ابن المديني: اجتمع أهل البصرة على عدالة رجلين: أبي عمر الحوضي، وعبد الله بن رجاء. وقال النسائي: عبد الله بن رجاء المكي والبصري ليس بهما بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال يعقوب بن سفيان: ثقة. وقال الدُّوري عن ابن معين: ليس من أصحاب الحديث.

وقال أبو القاسم اللالكائي: مات سنة تسع عشرة ومائتين، وقال الحضرمي: مات سنة (2)، وقال أبو موسى محمد بن المثنى: مات في آخر ذي الحجة سنة (19)، وحكاه الكلاباذي أيضًا عن غيره. وفي "الزهرة": رَوَى عنه البخاري خمسة عشر حديثًا. وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا (201) وحديث (342) "لا يتناجى اثنان على غائطهما ... "، وحديث (2130) "أَوْفِ بنذرك". 3 - (إِسْرَائِيلُ) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ، أبو يوسف الكوفيّ، ثقة، تُكُلّم فيه بلا حجة [7] 19/ 136. 4 - (عُثْمانُ بْنُ المغِيرة الثَّقَفِيَّ) مولاهم، أبو المغيرة الكوفيّ، ثقة [6]. رَوَى عن زيد بن وهب، وسالم بن أبي الجعد، وعلي بن ربيعة الوالبي، ومهاجر الشامي، ومجاهد بن جبر، وغيرهم. ورَوَى عنه شعبة، وإسرائيل، والثوري، وشريك، ومِسْعَر، وقيس بن الربيع، وأبو عوانة، وآخرون. قال صالح بن أحمد عن أبيه: عثمان بن المغيرة هو عثمان بن أبي زرعة، وهو عثمان الأعشى، وهو عثمان الثقفي، كوفي ثقة، ليس أحد أروى عنه من شريك. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: عثمان بن المغيرة، هو عثمان بن أبي زرعة الثقفي، وهو ثقة. وقال أبو حاتم، والنسائي، وعبد الغني بن سعيد: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". ووثقه العجليّ، وابن نُمير. أخرج له الجماعة سوى مسلم، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، برقم 201 و1310و1395 و1801 و 3606 و 3607. 5 - (سَالمُ بْنُ أَبِي الجعْدِ) رافع الغطفانيّ الكوفيّ، ثقة يرسل كثيرًا [3] 10/ 89. 6 - (جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله) بن عمرو بن حَرَام رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين من إسرائيل، غير جابر -رضي الله عنه-، فمدنيّ. 4 - (ومنها): أن فيه جابر بن عبد الله الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله) رضي الله عنهما أنه (قالَ: كَانَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يَعرَضُ نَفْسَهُ علَى النَّاسِ) "يَعرِضُ" بفتح أوله، وكسر ثالثه، من باب ضرب، يقَال: عَرَضَ عليه الشيءَ: إذا أراه إياه، وعَرَضَ له الشيءَ: إذا أظهره له، يعني أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يُظهِرُ نفسه للناس (في الموْسِمِ) بفتح الميم، وسكون الواو، وكسر السين المهملة، جمعه مَوَاسم، وهو الوقت الذي يجتمع فيه الحجاج كلَّ سنة، وكان العرب يحجون كلّ سنة في الجاهليّة، قال ابن الأثير: كأنه وُسِمَ بذلك الوَسْمِ، وهو مَفعِلٌ من الْوَسْم، اسم للزمان؛ لأنه معلمٌ لهم، يقال: وَسَمَهُ يَسِمُهُ سِمَةً وَوَسْمًا: إذا أثَّرَ فيه بكيّ. انتهى (¬1) (فَيَقُولُ) -صلى الله عليه وسلم- (أَلا رَجُلٌ يحمِلُني إِلَى قوْمِهِ) الظاهر أن "ألا" هنا للتمنّي، وهي تعمل عمل "لا" النافية للجنس، فيكون "رَجُلَ" اسمها، مبنيّا على الفتح، وهي لا خبر لها؛ لأنها بمعنى أتمنّى، كما في قول الشاعر [من الطويل]: أَلاَ عُمْرَ ولَّى مُسْتَطَاعٌ رُجُوعُهُ ... فيرأَبَ مَا أثأَتْ يَدُ الْغَفَلاَتِ (¬2) وجملة "يحملني إلخ" في محلّ نصب صفة لـ "رجلَ" (¬3)، ويحتمل أن تكون "ألا" ¬

_ (¬1) "النهاية" 5/ 186. (¬2) قوله: "فيرأب": أي يُصلح، وقوله: "ما أثأت" أي ما أفسدت. "حاشية الدسوقي على المغني" 1/ 153. (¬3) راجع "مغني اللبيب" 1/ 69.

للعرض و"رجلٌ" بالرفع نائب فاعل لفعل مقدّر، أي ألا يوجد رجلٌ ألخ (فَإِن قُريشًا) الفاء للتعليل، أي لأن هذه القبيلة (قَدْ مَنَعُوني أَن أُبلِّغ) من التبليغ، أو من الإبلاغ، أي إلى الناس (كَلَامَ ربِّي) يعني القرآن الكريم، والله تعلى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا صحيح. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 201) بهذا السند فقط، وأخرحه (أحمد) في "مسنده" (3/ 390) و (الدارميّ) في "سننه" (3357) و (البخاريّ) في "خلق أفعال العباد" (13 و 28) و (أبو داود) (4734) و (الترمذيّ) (2925)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنف، وهو بيان ما أنكرته الجهميّة من الصفات، وهو هنا صفة الكلام، فقد أثبته هذا الحديث الصحيح، حيث قال -صلى الله عليه وسلم-: "كلام ربي"، وهو القرآن، وهو كقوله - عز وجل -: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]، فالقرآن كلام الله تعالى، تكلام به حقيقةً، وأنزله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- بواسطة جبريل - عليه السلام -، وهو غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. 2 - (ومنها): ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من شدّة حرصه على الدعوة إلى الله تعالى، بحيث إنه لا يترك مجمعًا من مجامع الناس، إلا وأتاه، فعرض عليهم الإسلام، ودعاهم إلى الله تعالى. 3 - (ومنها): بيان ما كان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يلقاه من أذى قريش، ومضايقتهم له، وصدّهم عن الدعوى غاية الصدّ، {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].

4 - (ومنها): أن فيه بيان فضل الأنصار -رضي الله عنهم-، حيث سبقوا العرب كلهم في قبول ذلك العرض، فبايعوا النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ليلة العقبة في منى، على أن يأووه إليهم، وينصروه، ويحمونه مما يحمون عنه أنفسهم وأولادهم، فهاجر إليهم، فتحقّق له النصر، وتمت الدعوة، وعمّ الفتح كل بقاع الأرض، بفضل الله تعالى، فله الحمد والمنّة. 5 - (ومنها): أن من الدروس المستفادة من هذه الدعوة أن على الداعي أن لا ييأس بسبب تمرّد الناس، وشدّة ردّهم لدعوته، بل يواصل دعوته، وينتقل من مكان إلى مكان، حتى يمكّنه الله بقبول دعوته، وإقبال الناس عليه، أسوة برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلا ينبغي له اليأس، ولا يتبرّم ولا يتضجّر، عليه دائمًا أن يتذكّر أحوال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فَيَتَسَلَّى به، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 202 - (حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا الْوَزِيرُ بْنُ صَبِيحٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَلْبَسٍ، عَنْ أُمّ الدَّردَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّردَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- في قَوْلهِ تَعَالَى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ} [الرحمن: 29] قَالَ: "مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَغْفِرَ ذَنْبًا، وَيُفَرِّجَ كربًا، وَيَرفَعَ قَوْمًا، وَيَخْفِضَ آخَرِينَ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ) الدمشقيّ المذكور قبل حديثين. 2 - (الْوَزِيرُ بْنُ صَبِيحٍ) -بفتح الصاد، وكسر الموحّدة- أبو رَوْح الشاميّ، مقبول عابد [8]. روى عن يونس بن مَيْسَرة بن حَلْبَس، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء في قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ}، وروى عنه صفوان بن صالح، ونعيم بن حماد، والربيع ابن رَوْح، وهشام بن عمار، وسليمان بن أحمد الواسطي، وإبراهيم بن أيوب الحَوْراني،

وأبو همام الوليد بن شجاع، قال عثمان الدارمي عن دُحيم: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال أبو نعيم الأصبهاني: كان يُعَدُّ من الأبدال. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أخطأ. تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 3 - (يُونُسُ بْنُ حَلْبَسٍ) هو يونس بن مَيْسَرة بن حَلْبَس -بمهملتين في طرفيه، وموحّدة، بوزن جَعْفَر- نُسِب لجدّه، ويقال: أبو عُبيد الدمشقي الأعمى، ثقة عابدٌ، مُعَمّر [3]. رَوَى عن واثلة بن الأسقع، وعبد الله بن بسر، وابن عمر، وابن عمرو، وأبي إدريس الخولاني، وأبي عبد الله الصُّنابحي، وأم الدرداء، وجماعة. ورَوَى عنه عمرو بن واقد، وسعيد بن عبد العزيز، وسليمان بن عُتبة، وعبد الله ابن العلاء بن زَبْر، ومعاوية بن يحيى الصَّدَفي، والأوزاعي، والوزير بن صَبِيح، وغيرهم. قال ابن سعد: كان ثقة. وقال معاوية بن صالح عن ابن معين: أدرك معاوية. وقال العجلي: شامي تابعي ثقة. وقال ابن عمار، وأبو داود، والدارقطني: ثقة. وقال أبو حاتم: كان من خيار الناس، وكان يُقرئ في مسجد دمشق. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال هشام بن عمار عن الهيثم بن عمران: كنت جالسًا عند يونس بن حَلْبس، وكان عند غياب الشمس يدعو بدعوات فيها: اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك، فكنت أقول في نفسي: من أين يُرزق هذا الشهادة، وهو أعمى، فلما دَخَلت المسَوِّدة دمشق قُتِل، فبلغني أن الذين قتلاه بكيا عليه لما أُخبرا من صلاحه. قال دُحيم، وأبو زرعة، وطائفة: قُتل سنة اثنتين وثلاثين ومائة، زاد أبو عبيد، وأبو حسان الزيادي، وهو ابن عشرين ومائة سنة. وقال البزار: ثقة، من عُبّاد أهل الشام. أخرج له أبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط، برقم 202 و221 و 842 و 1424 و 1499 و 3129 و 3376 و4100. 4 - (أُمُّ الدرداء) الصُّغْرَى، هُجيمة، ويقال: جُهيمة بنت حُيَيّ الأوصابية

الدمشقيّة، ثقة فقيهة [3]. رَوَت عن زوجها، وسلمان الفارسي، وفَضَالة بن عُبيد، وأبي هريرة، وكعب بن عاصم، وعائشة. وروَى عنها جُبير بن نُفير، وهو أكبر منها، وابن أخيها مهدي بن عبد الرحمن، ومولاها أبو عمران الأنصاري، وسالم بن أبي الجعد، وزيد بن أسلم، وشهر بن حَوْشب، وصفوان بن عبد الله، ويونس بن مَيْسرة، ومرزوق التيمي، ومكحول الشامي، وغيرهم. ذكرها ابن سُمَيع في الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام. وقال أبو زرعة الدمشقي: سمعت أبا مسهر يقول: أم الدرداء الصغرى هجيمة بنت حُيي الوصابية، وأم الدرداء الكبرى خَيْرة بنت أبي حدرد. وقال أبو أحمد العَسّال: أم الدرداء الصغرى هي التي يُروَى عنها الحديث الكثير، وكانت أم الدرداء الكبرى صحابية. وقال الوليد ابن مسلم عن عثمان بن أبي العاتكة، وابن جابر: كانت أُمّ الدرداء يتيمة في حَجْر أبي الدرداء، تختلف مع أبي الدرداء في بُرْنُس تصلي في صفوف الرجال، وتَجلس في حلق القراء، حتى قال لها أبو الدرداء: الحَقِي بصفوف النساء. وقال أبو الزاهرية عن جُبير بن نُفير عن أم الدرداء أنها قالت لأبي الدرداء: إنك خطبتني إلى أبوي في الدنيا، فأنكحوني، وإني أخطبك إلى نفسك في الآخرة، قال: فلا تَنْكِحي بعدي، فخطبها معاوية فأخبرته بالذي كان، فقال: عليك بالصيام. وقال رُدَيح بن عطية المقدسي، عن إبراهيم بن أبي عَبْلة، عن أم الدرداء أن رجلًا أتاها، فقال: إن رجلًا قال منك عند عبد الملك، فقالت: إن نُؤَبَّنْ بما ليس فينا، فطال ما زُكّينا بما ليس فينا. وقال عبد ربه بن سليمان بن زيتون: حجت أم الدرداء سنة إحدى وثمانين. وقال ابن حبان في "الثقات": كانت تُقِيم ستة أشهر ببيت المقدس، وستة أشهر بدمشق، وماتت بعد سنة إحدى وثمانين، وكانت من العابدات، ووقع عند البيهقي اسمها حَمَامَة، فيُنْطرُ. أخرج لها الجماعة، ولها في هذا الكتاب عشرة أحاديث، برقم 202 و1055

و 1056 و 1663 و 1664 و 2777 و2895 و3371 و 3792 و 4034. 5 - (أبو الدَّردَاءِ) عُوَيمر بن زيد بن قيس الأنصاريّ الصحابيّ الشهير -رضي الله عنه-، مشهور بكنيته، وقيل: اسمه عامر، وعويمر لقبه 1/ 5، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله. 2 - (ومنها): أنه مسلسل بالشاميين. 3 - (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعية عن زوجها، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي الدردَاءِ) -رضي الله عنه- (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-) أنه قال: (في قَولهِ تعَالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ} [الرحمن:29] قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (مِن شَأنِه أَنْ يَغْفِرَ ذَنبًا، وَيُفَرِّجَ) بتشديد الراء، من التفريج، ويجوز تخفيفها، يقال: فَرّج الله الْغَمَّ بالشديد: كشفه، والاسم الْفَرَجُ -بفتحتين- وفَرَجَهُ فَرجًا، من باب ضرب لغة، وقد جمع الشاعر اللغتين في قوله [من البسيط]: يَا فَارِجَ الْكَرْبِ مَسْدُولًا عَسَاكِره ... كمَا يُفرِّجُ غَمَّ الظُّلْمَةِ الْفَلَقُ قاله في "المصباح" (¬1). (كَربًا) بفتح، فسكون، قال الجوهري: الْكُربة بالضم: الغم الذي يأخذ بالنَّفْسِ، وكذلك الْكَرْبُ على مثال الضَّرْب، تقول أنَّه: كَرَبَهُ الغَمُّ: إذا اشتدّ عليه. انتهى (¬2) (وَيرفَعَ) بالبناء للفاعل، أي يرفع الله تعال (قوْمًا) إلى الدرجات العلى بأعمالهم الصالحات، أو يرفعهم بحظوظ الدنيا من الرزق وغيره (وَيَخْفِضَ) بفتح أوله، وكسر ثالثه، مبنيّا للفاعل أيضًا (آخَرِينَ) إلى الدركات السفلى بسوء أعمالهم، أو بتقليل ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" 2/ 466. (¬2) "الصحاح" 1/ 188.

أرزاقهم، ومعاشهم، حتى يكونوا أذلاء بين أبناء جنسهم. قال الإمام ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" عند قوله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ}: ما نصّه: وهذا إخبار عن غناه عما سواه، وافتقار الخلائق إليه في جميع الآنات، وأنهم يسألونه بلسان حالهم وقالهم، وأنه كل يوم هو في شأن، قال الأعمش، عن مجاهد، عن عُبيد بن عُمير: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ} قال: من شأنه أن يجيب داعيًا، أو يُعطي سائلًا، أو يَفُكّ عانيًا، أو يَشفي سقيمًا. وقال ابن أبي نَجِيح عن مجاهد قال: كلَّ يوم هو يجيب داعيًا، ويَكشف كربًا، ويجيب مُضْطَرًّا، ويغفر ذنبًا. وقال قتادة: لا يَستغني عنه أهل السماوات والأرض، يُحي حَيّا، ويُميت ميتًا، ويُرَبّي صغيرًا، ويَفُكّ أسيرًا، وهو منتهى حاجات الصالحين وصريخهم، ومنتهى شكواهم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان الحمصي، حدثنا حَرِيز بن عثمان، عن سُوَيد بن جَبَلَة -هو الفزاري- قال: إن ربكم هو كل يوم في شأن، فيُعتق رِقابًا، ويُعطي رِغَابًا، ويُقْحِمُ عِقَابًا. وقال الإمام ابن جرير الطبريّ رحمه الله: وحدثنا أبو كريب، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن أبي حمزة الثُّمَاليّ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "إن الله خلق لَوْحًا محفوظًا من دُرّة بيضاء، دَفَّتَاه ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، وعرضه ما بين السماء والأرض، يَنظُر فيه كل يوم ثلثمائة وستين نظرةً، يخلُقُ في كل نظرة، ويُحيي ويُميت، ويُعِزّ ويُذِلّ، ويفعل ما يشاء" (¬1). قال الجامع عفا الله عنه: أثر موقوف، في سنده أبو حمزة الثمالي، واسمه ثابت بن أبي صفيّة ضعيف، رافضيّ، بل قال الدارقطنيّ: متروك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. ¬

_ (¬1) "تفسير ابن كثير" 4/ 274.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- هذا حسنٌ. قال البوصيريّ رحمه الله: وهذا إسناد حسنٌ، لتقاصر الوزير عن درجة الحفظ والإتقان. قال الجامع عفا الله عنه: الوزير بن صَبِيح روى عنه جماعة، وقال عنه أبو حاتم الرازيّ: صالح، فمثله يكون حسن الحديث. والله تعالى أعلم. [تنبيه]: أورده البخاري في "صحيحه" موقوفًا معلّقًا بصيغة الجزم، فجعله من كلام أبي الدرداء. وقال ابن جرير: حدثني عبد الله بن محمد بن عمرو الغزي، حدثني إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي، حدثني عمرو بن بكر السكسكي، حدثنا الحارث بن عبدة ابن رباح الغساني، عن أبيه، عن منيب بن عبد الله بن منيب الأزدي، عن أبيه، قال تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ} فقلنا: يا رسول الله، وما ذاك الشأن؟، قال: "أن يغفر ذنبا، ويفرج كربًا، ويرفع قومًا، ويضع آخرين". وفي سنده عمرو بن بكر السكسكيّ متروك. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، وسليمان بن أحمد الواسطي، قالا: حدثنا الوزير بن صَبِيح الثقفي، أبو روح الدمشقي، والسياق لهشام، قال: سمعت يونس بن ميسرة بن حَلْبَس يحدِّث عن أم الدرداء، فأورده بسياق ابن ماجه. وقد رواه ابن عساكر من طرُق متعددة عن هشام بن عمار به، ثم ساقه من حديث أبي همام، الوليد بن شجاع، عن الوزير بن صَبيح قال: ودلنا عليه الوليد بن مسلم، عن مُطَرِّف، عن الشعبي، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فذكره، قال: والصحيح الأول -يعني إسناده الأول-. وقال البزار (2268) حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن الحارث، حدثنا

محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ} قال يغفر ذنبًا، ويَكشِف كَرْبًا. وفي سنده محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني ضعيفٌ جدّا. قال الجامع عفا الله عنه: هذه الروايات لا تصلح شواهد، بل الاعتماد على سند المصنّف رحمه الله نفسه، فإنه حسنٌ كما أسلفته، فتنبّه. والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (35/ 202) بهذا السند فقط، وهو من أفراده، فلم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (ابن أبي عاصم) في "السنة" (301) و (ابن حبان) في (صحيحه) (689). [تنبيه]: مطابقة الحديث للباب من حيث إن هذا الحديث مشتمل على صفة الغفران، وتفريج الكرب، والرفع، والخفض، والجهميّة تنكر الصفات التي وصف بها الربّ تبارك وتعالى نفسه في كتابه، أو صحّ في أحاديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، كأحاديث هذا الباب، وهم ضالّون مضلّون في ذلك، والحقّ هو الذي عليه أهل السنّة والجماعة من ثبوتها لله تعالى على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى، على ما يأتي بيان ذلك مفصّلًا في الخاتمة التالية -إن شاء الله تعالى-. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [خاتمة]: نختم بها هذا الباب العظيم، "باب ما أنكرت الجهميّة"، وذلك بذكر رسالة نفيسة جامعة لمسائل الصفات التي وقع فيها النزاع بين أهل السنة، والمبتدعة من الجهميّة وغيرهم، لشيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى، ونصّها: وقال شيخ الإسلام أبو العباس تقيّ الدين ابن تيمية -طيب الله ثراه-: [فصل في الصفات الاختيارية]: وهي الأمور التي يتصف بها الرب - عز وجل -، فتقوم بذاته بمشيئته وقدرته: مثلُ كلامه، وسمعه، وبصره، وإرادته، ومحبته، ورضاه، ورحمته، وغضبه، وسخطه، ومثل خلقه، وإحسانه، وعدله، ومثل استوائه، ومجيئه، وإتيانه، ونزوله، ونحو ذلك من الصفات التي نطق بها الكتاب العزيز، والسنة.

فالجهمية، ومن وافقهم من المعتزلة، وغيرهم يقولون: لا يقوم بذاته شيء من هذه الصفات ولا غيرها. والكلابية، ومن وافقهم من السالمية، وغيرهم يقولون: تقوم صفات بغير مشيئته وقدرته، فأما ما يكون بمشيئته وقدرته، فلا يكون إلا مخلوقًا منفصلًا عنه. وأما السلف وأئمة السنة والحديث، فيقولون: إنه متصف بذلك، كما نطق به الكتاب والسنة، وهو قول كثير من أهل الكلام والفلسفة، أو أكثرهم، كما ذكرنا أقوالهم بألفاظها في غير هذا الموضع. ومثل هذا الكلام فإن السلف وأئمة السنة والحديث، يقولون: يتكلم بمشيئته وقدرته، وكلامه ليس بمخلوق، بل كلامه صفة له قائمة بذاته. وممن ذَكَر أن ذلك قول أئمة السنة أبو عبد الله ابن منده، وأبو عبد الله بن حامد، وأبو بكر عبد العزيز، وأبو إسماعيل الأنصاريّ وغيرهم، وكذلك ذكر أبو عمر بن عبد البر نظير هذا في الاستواء. وأئمة السنة، كعبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، والبخاريّ، وعثمان بن سعيد الدارميّ، ومن لا يحصى من الأئمة -وذكره حرب بن إسماعيل الكرمانيّ عن سعيد بن منصور، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، وسائر أهل السنة والحديث- متفقون على أنه متكلم بمشيئته، وأنه لم يزل متكلمًا إذا شاء، وكيف شاء. وقد سمى الله القرآن العزيز حديثًا، فقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23]، وقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]، وقال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2]، وقال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يُحدِث من أمره ما يشاء"، وهذا مما احتج به البخاريّ في "صحيحه"، وفى غير "صحيحه"، واحتج به غير البخاري، كنعيم بن حماد، وحماد بن زيد. ومن المشهور عن السلف أن القرآن العزيز كلامُ الله، غيرُ مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود.

وأما الجهمية، والمعتزلة فيقولون: ليس له كلامٌ قائمٌ بذاته، بل كلامه مخلوقٌ منفصل عنه، والمعتزلة يطلقون القول بأنه يتكلم بمشيئته، ولكن مرادهم بذلك أنه يخلق كلامًا منفصلًا عنه. والكلابية والسالمية يقولون: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، بل كلامه قائم بذاته، بدون قدرته ومشيئته، مثل حياته، وهم يقولون: الكلام صفة ذات، لا صفة فعل، يتعلق بمشيئته وقدرته، وأولئك يقولون: هو صفة فعل، لكن الفعل عندهم هو المفعول المخلوق بمشيئته وقدرته. وأما السلف، وأئمة السنة، وكثير من أهل الكلام، كالهشامية، والكرّامية، وأصحاب أبي معاذ التَّوْمنيّ، وزهير الياميّ، وطوائف غير هؤلاء يقولون: إنه صفة ذات وفعل، هو يتكلّم بمشيئته وقدرته، كلامًا قائمًا بذاته، وهذا هو المعقول من صفة الكلام، لكل متكلم، فكلُّ مَن وُصف بالكلام، كالملائكة، والبشر، والجن، وغيرهم، فكلامهم لا بد أن يقوم بأنفسهم، وهم يتكلمون بمشيئتهم وقدرتهم. والكلام صفة كمال، لا صفة نقص، ومن تكلم بمشيئته أكمل ممن لا يتكلم بمشيئته، فكيف يتصف الخلوق بصفات الكمال، دون الخالق. ولكن الجهمية والمعتزلة، بَنَوا على أصلهم أن الرب لا يقوم به صفة؛ لأن ذلك بزعمهم يستلزم التجسيم والتشبيه الممتنع؛ إذ الصفة عَرَضٌ، والعرض لا يقوم إلا بجسم. والكلابية يقولون: هو متصف بالصفات التي ليس له عليها قدرة، ولا تكون بمشيئته، فأما ما يكون بمشيئته، فإنه حادث، والرب تعالى لا تقوم به الحوادث، ويترجمون الصفات الاختيارية بمسألة حلول الحوادث، فإنه إذا كَلّم موسى بن عمران بمشيئته وقدرته، وناداه حين أتاه بقدرته ومشيئته، كان ذلك النداء والكلام حادثًا. قالوا: فلو اتصف الرب به لقامت به الحوادث، قالوا: ولو قامت به الحوادث لم يخل منها، كما لم يَخْلُ من الحوادث فهو حادث، قالوا: ولأن كونه قابلًا لتلك الصفة، إن

كانت من لوازم ذاته كان قابلًا لها في الأزل، فيلزم جواز وجودها في الأزل، والحوادث لا تكون في الأزل، فإن ذلك يقتضي وجود حوادث لا أول لها، وذلك محال؛ لوجوه، قد ذُكِرت في غير هذا الموضع. قالوا: وبذلك استدللنا على حدوث الأجسام، وبه عَرَفنا حدوث العالم، وبذلك أثبتنا وجود الصانع، وصدق رسله، فلو قَدَحنا في تلك لزم القدح في أصول الإيمان، والتوحيد. وإن لم يكن من لوازم ذاته صار قابلًا لها بعد أن لم يكن قابلًا فيكون قابلًا لتلك الصفة، فيلزم التسلسل الممتنع، وقد بسطنا القول على عامة ما ذكروه في هذا الباب، وبَيّنّا فساده، وتناقضه على وجه لا تبقى فيه شبهة لمن فَهِمَ هذا الباب. وفضلاؤهم، وهم المتأخرون، كالرازيّ، والآمديّ، والطوسيّ، والحليّ، وغيرهم، معترفون بأنه ليس لهم حجة عقلية على نفي ذلك، بل ذكر الرازيّ وأتباعه أن هذا القول يلزم جميع الطوائف، ونصره في آخر كتبه، كـ "المطالب العالية"، وهو من أكبر كتبه الكلامية الذي سماه "نهايةَ العقول في دراية الأصول" لمّا عَرَف فسادَ قول النَّفَاة لم يعتمد على ذلك في مسألة القرآن، فإن عُمدتهم في مسألة القرآن، إذا قالوا: لم يتكلم بمشيئته وقدرته، قالوا: لأن ذلك يستلزم حلول الحوادث، فلما عَرَف فساد هذا الأصل لم يعتمد على ذلك في مسألة القرآن، فإن عُمدتهم عليه، بل استدل بإجماع مُرَكَّبٍ، وهو دليل ضعيف إلى الغاية؛ لأنه لم يكن عنده في نصر قول الكلابية غيره، وهذا مما يُبَيِّن أنه وأمثاله تَبَيَّن له فساد قول الكلابية. وكذلك الآمديّ ذكر في "أبكار الأفكار" ما يُبطل قولهم، وذكر أنه لا جواب عنه، وقد كشفت هذه الأمور في مواضع، وهذا معروف عند عامة العلماء، حتى الحليّ ابن المطهر ذكر في كتبه أن القول بنفي حلول الحوادث، لا دليل عليه، فالمنازع جاهل بالعقل والشرع. وكذلك مَن قبل هؤلاء، كأبي المعالي وذويه إنما عمدتهم أن الكرامية قالوا ذلك،

وتناقضوا، فيبينون تناقض الكرامية، ويظنون أنهم إذا بَيَّنُوا تناقض الكرامية، وهم منازعوهم، فقد فَلَجُوا، ولم يعلموا أن السلف، وأئمة السنة والحديث، بل مَن قبل الكرامية من الطوائف، لم تكن تلتفت إلى الكرامية وأمثالهم، بل تكلموا بذلك قبل أن تُخلق الكرامية، فإن ابن كرام كان متأخرًا بعد أحمد بن حنبل، في زمن مسلم بن الحجاج وطبقته، وأئمة السنة، والمتكلمون تكلموا بهذه قبل هؤلاء، وما زال السلف يقولون بموجب ذلك. لكن لما ظهرت الجهمية النفاة في أوائل المائة الثانية بَيَّن علماء المسلمين ضلالهم وخطأهم، ثم ظهر رعنة الجهمية في أوائل المائة الثالثة، وامتُحِن العلماء، الإمام أحمد وغيره، فجَرَّدُوا الردَّ على الجهمية، وكشف ضلالهم، حتى جَرَّد الإمام أحمد الآيات التي من القرآن تدل على بطلان قولهم، وهي كثيرةٌ جدّا. بل الآيات التي تدل على الصفات الاختيارية التي يسمونها حلول الحوادث كثيرةٌ جدّا، وهذا كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [الأعراف: 11]، فهذا بَيِّنٌ في أنه إنما أمر الملائكة بالسجود بعد خلق آدم، لم يأمرهم في الأزل، وكذلك قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]، فإنما قال له بعد أن خلقه من تراب، لا في الأزل، وكذلك قوله في قصة موسى - عليه السلام -: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ في النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8] وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ في النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 8]، فهذا بَيّنٌ في أنه إنما ناداه حين جاء، لم يكن النداء في الأزل، كما يقوله الكلابية، يقولون: إن النداء قائم بذات الله في الأزل، وهو لازم لذاته، لم يزل ولا يزال مناديا له، لكنه لما أتى خلق فيه إدراكًا لِمَا كان موجودًا في الأزل. ثم من قال منهم: إن الكلام معنى واحد، منهم من قال: سمع ذلك المعنى بأذنه، كما يقول الأشعري، ومنهم من يقول: بل أفهم منه ما أفهم، كما يقوله القاضي أبو بكر

وغيره، فقيل لهم: عندكم هو معنى واحد، لا يتبعض، ولا يتعدد، فموسى فَهِمَ المعنى كله أو بعضه؟ إن قلتم: كُلَّه فقد عَلِمَ علم الله كلّه، كان قلتم: بعضه، فقد تبعض، وعندكم لا يتبعض. ومن قال من أتباع الكلابية بأن النداء وغيره من الكلام القديم حروف، أو حروف وأصوات لازمة لذات الرب، كما تقوله السالمية، ومن وافقهم يقولون: إنه يخلق له إدراكًا لتلك الحروف والأصوات، والقرآن والسنة، وكلام السلف قاطبةً يقتضي أنه إنما ناداه وناجاه حين أتى، لم يكن النداء موجودًا قبل ذلك، فضلًا عن أن يكون قديمًا أزليا. وقال تعالى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف: 22]، وهذا يدل على أنه لما أكلا منها ناداهما، لم ينادهما قبل ذلك، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65]، {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 22]، فجعل النداء في يوم معين، وذلك اليوم حادث، كائن بعد أن لم يكن، وهو حينئذ يناديهم، لم ينادهم قبل ذلك. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1]، فبَيَّن أنه يحكم، فيُحَلِّل ما يريد، ويحرِّمُ ما يريد، ويأمر بما يريد، فجعل التحليل والتحريم والأمر والنهي متعلقًا بإرادته، وينهى بإرادته، ويحلل بإرادته، ويحرم بإرادته، والكلابية يقولون: ليس شيء من ذلك بإرادته، بل قديم لازم لذاته، غير مراد له، ولا مقدور، والمعتزلة مع الجهمية يقولون: كل ذلك مخلوق، منفصل عنه، ليس له كلام قائم به، ولا بإرادته، ولا بغير إرادته، ومثل هذا كثير في القرآن العزيز. (فصل): وكذلك في الإرادة، والمحبة، كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا

أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] وقوله: ({وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: 23]، وقوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27]، وقوله: {إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} [الإسراء: 16]، وقوله: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ} [الرعد: 11]، وقوله: {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا} وقوله: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}، وأمثال ذلك في القرآن العزيز. فإن جوازم الفعل المضارع، ونواصبه تُخَلِّصه للاستقبال، مثل "إن"، و"أن"، وكذلك "إذا" ظرف للمستقبل من الزمان، فقوله: {وَإِذَا أرَادَ}، و {إِن شَاَءَ اللَّهُ}، ونحو ذلك يقتضي حصول إرادة مستقبلة، ومشيئة مستقبلة، وكذلك في المحبة والرضا، قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ} [آل عمران: 31]، فإن هذا يدل على أنهم إذا اتبعوه أحبهم الله، فإنه جَزَم قوله: {يُحبِبكُمُ} هو به، فجزمه جوابا للأمر، وهو في معنى الشرط، فتقديره: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ}، ومعلوم أن جواب الشرط والأمر إنما يكون بعده لا قبله، فمحبة الله لهم إنما تكون بعد اتباعهم للرسول، والمنازعون منهم من يقول: ما ثَمَّ محبة، بل المراد ثوابًا مخلوقًا، ومنهم من يقول: بل ثَمّ محبة قديمة أزلية، إما الإرادة، وإما غيرها، والقران يدل على قول السلف، وأئمة السنة المخالفين للقولين، وكذلك قوله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [محمد: 28]، فإنه يَدُلُّ على أن أعمالهم أسخطته، فهي سبب لسخطه، وسخطه عليهم بعد الأعمال لا قبلها، وكذلك قوله {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ}، وكذلك قوله: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] عَلَّق الرضا بشكرهم، وجعله مجزومًا جزاءً له، وجزاءُ الشرط لا يكون إلا بعده، وكذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، و {يُحِبُّ المُتَّقِينَ}، و {يحُبُّ المُقسِطِينَ}، و {يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4]، ونحو ذلك، فإنه يدل

على أن المحبة بسبب هذه الأعمال، وهي جزاء لها، والجزاء إنما يكون بعد العمل، والمسبب. (فصل) وكذلك السمع، والبصر، والنظر، قال الله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 105]، هذا في حق المنافقين، وقال في حق التائبين: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}، وقوله: {فَسَيَرَى اللَّهُ} دليل على أنه يراها بعد نزول هذه الآية الكريمة، والمنازع إما أن ينفي الرؤية، وإما أن يثبت رؤية قديمة أزلية، وكذلك قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ في الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14]، ولام "كي" تقتضي أن ما بعدها متأخر عن المعلول، فنظره كيف يعملون هو بعد جعلهم خلائف، وكذلك: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] أخبر أنه يسمع تحاورهما حين كانت تجادل وتشتكي إلى الله، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، يسمع الله لكم، فجعل سمعه لنا جزاءً وجوابًا للحمد، فيكون ذلك بعد الحمد، والسمع يتضمن مع سمع القول قبوله وإجابته، ومنه قول الخليل - عليه السلام -: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39]، وكذلك قوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181]، وقوله لموسى - عليه السلام -: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، والمعقول الصريح يدل على ذلك، فإن المعدوم لا يُرَى ولا يُسمَع بصريح العقل، واتفاق العقلاء، لكن قال من قال من السالمية: إنه يسمع ويرى موجودًا في علمه، لا موجودًا بائنًا عنه، ولم يقل: إنه يسمع ويرى بائنًا عن الرب، فإذا خلق العباد وعملوا وقالوا، فإما أن نقول: إنه يسمع أقوالهم، ويرى أعمالهم، وإما لا يرى ولا يسمع، فإن نُفِي ذلك فهو تعطيل لهاتين الصفتين، وتكذيب للقرآن، وهما صفتا كمال، لا نَقْصَ فيه، فمن يسمع ويبصر أكمل ممن لا يسمع ولا يبصر، والمخلوق يَتَّصِفُ بأنه يسمع ويبصر، فيمتنع اتصاف المخلوق بصفات الكمال، دون الخالق - عليه السلام -، وقد عاب الله

تعالى من يَعبُد من لا يسمع ولا يبصر، في غير موضع، ولأنه حي، والحيّ إذا لم يتصف بالسمع والبصر، اتصف بضد ذلك، وهو العمى والصمم، وذلك ممتنع، وبسط هذا له موضع آخر. وإنما المقصود هنا أنه إذا كان يسمع ويبصر الأقوال والأعمال بعد أن وُجِدت، فإما أن يقال: إنه تجدد، وكان لا يسمعها ولا يبصرها، فهو بعد أن خلقها لا يسمعها ولا يبصرها، وإن تجدد شيء، فإما أن يكون وجودًا أو عدمًا، فإن كان عدمًا فلم يتجدد شيء، وإن كان وجودًا، فإما أن يكون قائمًا بذات الله، أو قائمًا بذات غيره، والثاني يستلزم أن يكون ذلك الغير هو الذي يسمع ويرى، فيتعين أن ذلك السمع والرؤية الموجودين قائم بذات الله، وهذا لا حيلة فيه. والكلابية يقولون: في جميع هذا الباب المتجدد هو تعلق بين الأمر والمأمور، وبين الإرادة والمراد، وبين السمع والبصر، والمسموع والمرئيّ، فيقال لهم: هذا التعلق إما أن يكون وجودًا، وإما أن يكون عدمًا، فلإن كان عدمًا، فلم يتجدد شيء، فإن العلم لا شيء، وإن كان وجودًا بطل قولهم. وأيضًا فحدوث "تعلق" هو نسبة، وإضافة من غير حدوث ما يوجب ذلك ممتنع، فلا يحدث نسبة وإضافة إلا بحدوث أمر وجوديّ يقتضي ذلك، وطائفة منهم ابنُ عقيل، يسمون هذه النسبة أحوالًا، والطوائف متفقون على حدوث نسب، وإضافات، وتعلقات، لكن حدوث النسب بدون ما يوجبها ممتنع، فلا يكون نسبة، وإضافة إلا تابعة لصفة ثبوتية، كالأبوة، والبنوة، والفوقية، والتحتية، والتيامن، والتياسر، فإنها لابد أن تستلزم أمورًا ثبوتية، وكذلك كونه خالقًا، ورازقًا، ومحسنًا، وعادلًا، فإن هذه أفعال فعلها بمشيئته وقدرته، إذ كان يخلق بمشيئته، ويرزق بمشيئته، ويَعدِل بمشيئته، ويحسن بمشيئته، والذي عليه جماهير المسلمين من السلف والخلف، أن الخلق غير المخلوق، فالخلق فعل الخالق، والمخلوق مفعوله، ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بأفعال الرب وصفاته، كما في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك،

وبك منك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"، فاستعاذ بمعافاته كما استعاذ برضاه. وقد استدل أئمة السنة، كأحمد وغيره على أن كلام الله غير مخلوق بأنه استعاذ به، فقال: "من نَزَل منزلًا، فقال: أعوذ بكلمات الله التامة، من شرّ ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل منه"، فكذلك معافاته ووضاه، غير مخلوقة؛ لأنه استعاذ بهما، والعافية القائمة ببدن العبد مخلوقة، فإنها نتيجة معافاته، وإذا كان الخلق فعله، والمخلوق مفعوله، وقد خلق الخلق بمشيئته، دل على أن الخلق فعل يحصل بمشيئته، ويمتنع قيامه بغيره، فدل على أن أفعاله قائمة بذاته، مع كونها حاصلة بمشيئته وقدرته، وقد حَكَى البخاريّ إجماع العلماء على الفرق بين الخلق والمخلوق، وعلى هذا يدل صريح المعقول، فإنه قد ثبت بالأدلة العقلية، والسمعية أن كل ما سوى الله تعالى مخلوق محدث، كائن بعد أن لم يكن، وأن الله انفرد بالقدم والأزلية، وقد قال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54]، فهو حين خلق السموات ابتداءا، إما أن يحصل منه فعل يكون هو خلقًا للسموات والأرض، وإما أن لا يحصل منه فعل، بل وُجدت المخلوقات بلا فعل، ومعلوم أنه إذا كان الخالق قبل خلقها، ومع خلقها سواءً وبعده سواءً، لم يجز تخصيص خلقها بوقت دون وقت، بلا سبب يوجب التخصيص. وأيضًا فحدوث المخلوق بلا سبب حادث ممتنع في بداهة العقل، وإذا قيل: الإرادة والقدرة خَصَّصَت، قيل: نسبة الإرادة القديمة إلى جميع الأوقات سواء، وأيضًا فلا تُعقل إرادة تخصيص أحد المتماثلين إلا بسبب يوجب التخصيص، وأيضًا فلابد عند وجود المراد من سبب يقتضي حدوثه، وإلا فلو كان مجردُ ما تقدم من الإرادة والقدرة كافيًا للزم وجوده قبل ذلك؛ لأنه مع الإرادة التامة، والقدرة التامة يجب وجود المقدور. وقد احتج من قال: الخلق هو المخلوق، كأبي الحسن ومن اتبعه، مثل ابن عقيل، بأن قالوا: لو كان غيره لكان إما قديمًا، وإما حادثًا، فإن كان قديمًا لزم قدم المخلوق؛ لأنهما متضايفان، وإن كان حادثًا لزم أن تقوم به الحوادث، ثم ذلك الخلق يفتقر إلى

خلق آخر، ويلزم التسلسل. فأجابهم الجمهور -وكل طائفة على أصلها- فطائفة قالت: الخلق قديم، كان كان المخلوق حادثًا، كما يقول ذلك كثير من أهل المذاهب الأربعة، وعليه أكثر الحنفية، قال: هؤلاء أنتم تُسَلِّمون لنا أن الإرادة قديمة أزلية، والمراد مُحدَثٌ، فنحن نقول في الخلق ما قلتم في الإرادة. وقالت طائفة: بل الخلق حادثٌ في ذاته، ولا يفتقر إلى خلق آخر، بل يحدث بقدرته، وأنتم تقولون: إن المخلوق يحصل بقدرته بعدَ أن لم تكن، فإن كان المنفصل يحصل بمجرد القدرة، فالمتصل به أولى، وهذا جواب كثير من الكرّامية، والهشامية، وغيرهم. وطائفة يقولون: هَبْ أنه يفتقر إلى فعل قبله، فلم قلتم: إن ذلك ممتنع، وقولكم: هذا تسلسلٌ، فيقال: ليس هذا تسلسلًا في الفاعلين، والعلل الفاعلة، فإن هذا ممتنع باتفاق العقلاء، بل هو تسلسل في الآثار والأفعال، وهو حصول شيء بعد شيء، وهذا محل النزاع. فالسلف يقولون: لم يزل متكلمًا إذا شاء، وقد قال تعالى: {قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا}، فكلمات الله لا نهاية لها، وهذا تسلسل جائز، كالتسلسل في المستقبل، فإن نعيم الجنة دائم، لا نفاد له، فما من شيء إلا وبعده شيء لا نهاية له. (فصل): والأفعال نوعان: متعدّ، ولازم، فالمتعدي مثل الخلق، والإعطاء، ونحو ذلك، واللازم مثل الاستواء، والنزول، والمجيء، والإتيان، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد: 4]، فذكر الفعلين: المتعدي واللازم، وكلاهما حاصل بمشيئته وقدرته، وهو متصف به، وقد بُسط هذا في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن القرآن يدل على هذا الأصل في أكثر من مائة موضع.

وأما الأحاديث الصحيحة، فلا يمكن ضبطها في هذا الباب، كما في "الصحيحين" عن زيد بن خالد الجهنيّ -رضي الله عنه- أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى بأصحابه صلاة الصبح بالحديبية، على إثر سماء كانت من الليل، ثم قال: "أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟، قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مُطِرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مُطِرنا بنوء كذا، ونوء كذا وكذا، فذلك كافر بي، مؤمن بالكواكب". وفى الصحاح حديث الشفاعة: فيقول: كل من الرسل إذا أتوا إليه إن ربي قد غَضِب اليوم غضبًا لم يَغضَب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وهذا بيان أن الغضب حصل في ذلك اليوم لا قبله. وفي "الصحيح": "إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات، كجَرِّ السلسلة على الصفوان"، فقوله: "إذا تكلم الله بالوحي سمع" يدل على أنه يتكلم به حين يسمعونه، وذلك ينفي كونه أزليًّا، وأيضًا فما يكون كجر السلسلة على الصفا، يكون شيئًا بعد شيء، والمسبوق بغيره لا يكون أزليا. وكذلك في "الصحيح": "يقول الله: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: نصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله: أثنى عليّ عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله: مجدني عبدي، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال الله: هذه الآية بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 1 - 7] قال الله: هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل، فقد أخبر أن العبد إذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} قال الله: حمدني، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله: أثنى عليّ عبدي الحديث. وفي الصحاح: حديث النزول: "ينزل ربنا كل ليلة، حين يبقى ثلث الليل الآخر،

فيقول: من يدعوني، فأستجيب له، من يسألني، فأعطيه من يستغفرني، فأغفر له"، فهذا قول وفعل في وقت معين، وقد اتفق السلف على أن النزول فعل يفعله الرب، كما قال ذلك الأوزاعيّ، وحماد بن زيد، والفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل، وغيرهم. وأيضًا فقد قال: لله أشد أَذَنًا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته". وفى الحديث الصحيح الآخر: ما أذن الله لشيء كأَذَنه لنبيّ حسن الصوت، يتغنى بالقرآن يجهر به أَذِنَ يَأْذَنُ أَذنًا: أي استمع يستمع استماعًا، {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 2]، فأخبر أنه يستمع إلى هذا وهذا. وفي "الصحيح": "لا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل، حتى أُحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها"، فأخبر أنه لا يزال يتقرب بالنوافل بعد الفرائض. في "الصحيحين" عنه -صلى الله عليه وسلم- فيما يروي عن ربه تعالى قال: "قال الله: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإذ ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم"، وحرف "إن" حرف الشرط والجزاء يكون بعد الشرط، فهذا يبين أنه يذكر العبد إن ذكره في نفسه، كان ذكره في ملأ ذكره في ملأ خير منهم، والمنازع يقول: ما زال يذكره أزلًا وأبدًا، ثم يقول: ذكره وذكر غيره، وسائر ما يتكلم الله به هو شيء واحد، لا يتبعض ولا يتعدد، فحقيقة قوله: إن الله لم يتكلم، ولا يتكلم، ولا يذكر أحدًا. وفي "صحيح مسلم" في حديث تعليم الصلاة: "وإذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد، يسمع الله لكم، فإن الله قال على لسان نبيه: سمع الله لمن حمده"، فقوله: "سمع الله لمن حمده"؛ لأن الجزاء بعد الشرط، فقوله: "يسمع الله لكم" مجزوم، حُرِّك لالتقاء الساكنين، وهذا يقتضي أنه يسمع بعد أن تحمدوا. (فصل): والمنازعون "النفاةُ" كذلك، منهم من ينفي الصفات مطلقًا، فهذا يكون

الكلام معه في الصفات مطلقًا، لا يختص بالصفات الاختيارية، ومنهم من يُثبت الصفات، ويقول: لا يقوم بذاته شيء بمشيئته وقدرته، فيقول: إنه لا يتكلم بمشيئته واختياره، ويقول: لا يَرضى ويسخط، ويحب ويبغض، ويختار بمشيئته وقدرته، ويقول: إنه لا يفعل فعلًا هو الخلق، يخلق به المخلوق، ولا يقدر عنده على فعل يقوم بذاته، بل مقدوره لا يكون إلا منفصلا منه، وهذا موضع تَنَازَعَ فيه النفاة. فقيل: لا يكون مقدوره إلا بائنًا عنه، كما يقوله الجهمية، والكلابية، والمعتزلة، وقيل: لا يكون مقدروه إلا ما يقوم بذاته، كما يقوله السالمية، والكرامية، والصحيح أن كليهما مقدور له، أما الفعل فمثل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام: 65] وقوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40]، وقول الحواريين: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 112]، وقوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81]، وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [الأحقاف: 33]، إلى أمثال ذلك مما يبين أنه يقدر على الأفعال، كالإحياء، والبعث، ونحو ذلك. وأما القدرة على الأعيان ففي "الصحيح" عن أبي مسعود -رضي الله عنه- قال: كنت أضرب غلاما لي، فرآني النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: اعلم أبا مسعود لله أقدر عليك منك على هذا، فقوله: "لله أقدر عليك منك على هذا" دليل على أن القدرة تتعلق بالأعيان المنفصلة: قدرة الرب، وقدرة العبد، ومن الناس من يقول: كلاهما يتعلق بالفعل، كالكرامية، ومنهم من يقول: قدرة الرب تتعلق بالمنفصل، وأما قدرة العبد فلا تتعلق إلا بفعل في محلها، كالأشعرية. والنصوص تدل على أن كلا القدرتين تتعلق بالمتصل والمنفصل، فإن الله تعالى أخبر أن العبد يقدر على أفعاله، كقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]،

وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]، فدل على أن منا من يستطع ذلك، ومنا من لم يستطع، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء"، أخرجاه في "الصحيحين"، وقوله: "إن استطعت أن تعمل بالرضا مع اليقين فافعل"، وقوله في الحديث الذي في "الصحيح": "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". وقد أخبر أنه قادر على عبده، وهؤلاء الذين يقولون: لا تقوم به الأمور الاختيارية، عمدتهم أنه لو قامت به الحوادث لم يخل منها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث، وقد نازعهم الناس في كلا المقدمتين، وأصحابهم المتأخرون، كالرازيّ، والآمديّ، قَدَحُوا في المقدمة الأولى في نفس هذه المسألة، وقَدَح الرازي في المقدمة الثانية في غير موضع من كتبه، وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع. وقولهم: إنا عرفنا حدوث العالم بهذا الطريق وبه أثبتنا الصانع، يقال لهم: لا جرم ابتدعتم طريقًا، لا يوافق السمع، ولا العقل، فالعالمون بالشرع معترفون أنكم مبتدعون محُدِثون في الإسلام ما ليس منه، والذين يعقلون ما يقولون يعلمون أن العقل يناقض ما قلتم، وأن ما جعلتموه دليلًا على إثبات الصانع لا يدل على إثباته، بل هو استدلال على نفي الصانع، وإثباتُ الصانع حقٌّ، وهذا الحق يلزم من ثبوته إبطال استدلالكم، بأن ما لم يخل من الحوادث فهو حادث. وأما كون طريقكم مبتدعة ما سلكها الأنبياء، ولا أتباعهم، ولا سلف الأمة، فلأن كل من يعرف ما جاء به الرسول، وان كانت معرفته متوسطة، لم يصل في ذلك إلى الغاية يعلم أن الرسول لم يَدَعِ الناس في معرفة الصانع وتوحيده، وصدق رسله إلى الاستدلال بثبوت الأعراض، وأنها حادثة، ولازمة للأجسام، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث؛ لامتناع حوادث لا أول لها، فعلم بالاضطرار أن هذه الطريق لم يتكلم بها الرسول، ولا دعا إليها، ولا أصحابه، ولا تكلموا بها، ولا دعوا بها الناس، وهذا

يوجب العلم الضروريّ من دين الرسول، فإن عند الرسول والمؤمنين به أن الله يُعرَف، ويعرف توحيده، وصدق رسله بغير هذه الطريق، فدلّ الشرع دلالة ضروريةً على أنه لا حاجة إلى هذه الطريق، ودلّ ما فيها من مخالفة نصوص الكتاب والسنة على أنها طريق باطلةٌ، فدل الشرع على أنه لا حاجة إليها، وأنها باطلة. وأما العقل فقد بَسَطَ القول في جميع ما قيل فيها في غير هذه المواضع، وبَيَّنَ أن أئمة أصحابها قد يَعترفون بفسادها من جهة العقل، كما يوجد في كلام أبي حامد، والرازيّ، وغيرهما بيانُ فسادها. ولمّا ظهر فسادها للعقل تسلط الفلاسفة على سالكيها، وظنت الفلاسفة أنهم إذا قدحوا فيها، فقد قدحوا في دلالة الشرع، ظنّا منهم أن الشرع جاء بموجبها؛ إذ كانوا أجهل بالشرع والعقل من سالكيها، فسالكوها لا للإسلام نصروا، ولا لأعدائه كسروا، بل سلطوا الفلاسفة عليهم، وعلى الإسلام، وهذا كله مبسوط في مواضع. وإنما المقصود هنا أن يُعرَف أن نفيهم للصفات الاختيارية التي يسمونها حلول الحوادث، ليس لهم دليل عقليّ عليه، وحُذّاقهم يعترفون بذلك، وأما السمع فلا ريب أنه مملوء بما يناقضه، والعقل أيضا يدل على نقيضه من وجوه نَبَّهنا على بعضها. ولما لم يكن مع أصحابها حجة، لا عقلية، ولا سمعية، من الكتاب والسنة، احتال متأخروهم فسلكوا طريقًا سمعية، ظنّوا أنها تنفعهم، فقالوا: هذه الصفات إن كانت صفات نقص وجب تنزيه الرب عنها، وإن كانت صفات كمال، فقد كان فاقدًا لها قبل حدوثها، وعدم الكمال نقص، فيلزم أن يكون كان ناقصًا، وتنزيهه عن النقص واجب بالإجماع، وهذه الحجة من أفسد الحجج، وذلك من وجوه: [أحدهما]: أن هؤلاء يقولون: نفي النقص عنه لم يُعلم بالعقل، وإنما عُلم بالإجماع، وعليه اعتمدوا في نفي النقص، فنعود إلى احتجاجهم بالإجماع، ومعلوم أن الإجماع لا يُحتج به في موارد النزاع، فإن المنازع لهم يقول: أنا لم أوافقكم على نفي هذا المعنى، كان وافقتكم على إطلاق القول بأن الله منزه عن النقص، فهذا المعنى عندي

ليس بنقص، ولم يدخل فيما سلمته لكم، فإن بينتم بالعقل، أو بالسمع انتفاءه، وإلا فاحتجاجكم بقولي، مع أني لم أرد ذلك كذب عليّ، فإنكم تحتجون بالإجماع، والطائفة المثبتة من أهل الإجماع، وهم لم يسلموا هذا. [الثاني]: أن عدم هذه الأمور قبل وجودها نقص، بل لو وُجدت قبل وجودها لكان نقصًا، مثال ذلك تكليم الله لموسى - عليه السلام -، ونداؤه له، فنداؤه حين ناداه صفة كمال، ولو ناداه قبل أن يجيء لكان ذلك نقصًا، فكل منها كمال حين وجوده، ليس بكمال قبل وجوده، بل وجوده قبل الوقت الذي تقتضي الحكمة وجوده فيه نقص. [الثالث]: أن يقال: لا نسلم أن عدم ذلك نقص، فإن ما كان حادثا امتنع أن يكون قديمًا، وما كان ممتنعًا لم يكن عدمه نقصًا؛ لأن النقص فوات ما يمكن من صفات الكمال. [الرابع]: أن هذا يَرِدُ في كل ما فعله الرب وخلقه، فيقال: خَلْقُ هذا إن كان نقصًا، فقد اتصف بالنقص، وإن كان كمالًا، فقد كان فاقدًا له، فإن قلتم: صفات الأفعال عندنا ليست بنقص ولا كمال، قيل: إذا قلتم ذلك أمكن المنازع أن يقول: هذه الحوادث ليست بنقص ولا كمال. [الخامس]: أن يقال: إذا عُرِض على العقل الصريح ذاتٌ يمكنها أن تتكلم بقدرتها، وتفعل ما تشاء بنفسها، وذات لا يمكنها أن تتكلم بمشيئتها، ولا تتصرف بنفسها ألبتة، بل هي بمنزلة الزمن الذي لا يمكنه فعل يقوم به باختياره، قَضَى العقلُ الصريحُ بأن هذه الذات أكمل، وحينئذ فأنتم الذين وصفتم الرب بصفة النقص، والكمالُ في اتصافه بهذه الصفات، لا في نفي اتصافه بها. [السادس]: أن يقال: الحوادث التي يمتنع أن يكون كل منها أزليا، ولا يمكن وجودها إلا شيئًا فشيئًا، إذا قيل: أيما أكمل أن يقدر على فعلها شيئًا فشيئًا، أو لا يقدر على ذلك، كان معلومًا بصريح العقل أن القادر على فعلها شيئًا فشيئا أكمل ممن لا يقدر على ذلك، وأنتم تقولون: إن الرحمن لا يقدر على شيء من هذه الأمور، وتقولون: إنه

يقدر على أمور مباينة له، ومعلوم أن قدرة القادر على فعله المتصل به قبل قدرته على أمور مباينة له، فإذا قلتم: لا يقدر على فعل متصل به، لَزِم أن لا يقدر على المنفصل، فلزم على قولكم، أن لا يقدر على شيء، ولا أن يفعل شيئًا، فلزم أن لا يكون خالقًا لشيء، وهذا لازم للنفاة، لا مَحِيد لهم عنه. ولهذا قيل: الطريق التي سلكوها حدوث العالم، وإثبات الصانع تناقض حدوث العالم، وإثبات الصانع، ولا يصح القول بحدوث العالم، وإثبات الصانع إلا بإبطالها، لا بإثباتها، فكان ما اعتمدوا عليه، وجعدوه أصولا للدين، ودليلًا عليه هو في نفسه باطلٌ شرعًا وعقلًا، وهو مناقض للدين، ومناف له. ولهذا كان السلف والأئمة يَعِيبون كلامهم هذا، ويذمونه، ويقولون: مَن طَلَب العلم بالكلام تزندق، كما قال أبو يوسف، ويروى عن مالك، ويقول الشافعي: حكمي في أهل الكلام أن يُضرَبوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام، وقال الإمام أحمد به. حنبل: علماء الكلام زنادقة، وما ارتدى أحد بالكلام فأفلح. وقد صدق الأئمة في ذلك، فإنهم يبنون أمرهم على كلام مُجْمَلٍ يروج على من لم يعرف حقيقته، فإذا اعتقد أنه حقّ، وتبين أنه مناقض للكتاب والسنة، بقي في قلبه مرض، ونفاق، وريب، وشك، بل طَعَن فيما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهذه هي الزندقة، وهو كلام باطل من جهة العقل، كما قال بعض السلف: العلم بالكلام هو الجهل، فهم يظنون أن معهم عقليات، وإنما معهم جهليات، {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}، هذا هو الجهل المركب؛ لأنهم كانوا في شك وحيرة، فهم في ظلمات، بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور، أين هؤلاء من نور القرآن والإيمان، قال الله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ في زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ

دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35]. [فإن قيل]: أما كون الكلام والفعل يدخل في الصفات الاختيارية فظاهر، فإنه يكون بمشيئة الرب وقدرته، وأما الإرادة، والمحبة، والرضا، والغضب، ففيه نظر، فإن نفس الإرادة هي المشيئة، وهو سبحانه وتعالى إذا خلق من يحبه كالخليل، فإنه يُحبُّهُ، ويحب المؤمنين، ويحبونه، وكذلك إذا عمل الناس أعمالًا يراها، وهذا لازم لابد من ذلك، فكيف يدخل تحت الاختيار؟. [قيل]: كل ما كان بعد عدمه، فإنما يكون بمشيئة الله وقدرته، وهو سبحانه وتعالى ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فما شاء وجب كونه، وهو تحت مشيئة الرب وقدرته، وما لم يشأ امتنع كونه مع قدرته عليه، كما قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [البقرة: 253]، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112]، فكون الشيء واجب الوقوع؛ لكونه قد سبق به القضاء على أنه لابد من كونه لا يمتنع أن يكون واقعًا بمشيئته وقدرته وإرادته، كان كانت من لوازم ذاته، كحياته وعلمه، فإن إرادته للمستقبلات، هي مسبوقة بإرادته للماضى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، وهو إنما أراد هذا الثاني بعد أن أراد قبله ما يقتضي إرادته، فكان حصول الإرادة اللاحقة بالإرادة السابقة. والناس قد اضطربوا في مسألة إرادة الله -سبحانه وتعالى- على أقوال متعددة، ومنهم من نفاها، ورجح الرازيّ هذا في "مطالبه العالية"، لكن -ولله الحمد- نحن قررناها، وبينا فساد الشُّبَه المانعة منها، وأن ما جاء به الكتاب والسنة، هو الحق المحض الذي تدل عليه المعقولات الصريحة، وأن صريح المعقول موافق لصحيح المنقول، وكنا قد بينا أولا أنه يمتنع تعارض الأدلة القطعية، فلا يجوز أن يتعارض دليلان قطعيان، سواء كانا

عقليين، أو سمعيين، أو كان أحدهما عقليا، والآخر سمعيا، ثم بينا على صحة السمع، والسمعُ يبين صحةَ العقل، وأن من سلك أحدهما أفضى به إلى الآخر، وأن الذين يستحقون العذاب هم الذين لا يسمعون ولا يعقلون، كما قال الله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]، وقال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا في ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 8 - 10] وقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا في الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ} [الحج: 46]، وقال تعالى: {إِنَّ في ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]. فقد بين القرآن أن من كان يعقل، أو كان يسمع، فإنه يكون ناجيًا وسعيدًا، ويكون مؤمنًا بما جاءت به الرسل، وقد بسطت هذه الأمور في غير موضع، والله تعالى أعلم. (فصل): وفحول النُّظّار، كأبي عبد الله الرازيّ، وأبي الحسن الآمديّ، وغيرهما، ذكروا حُجَج النفاة لحلول الحوادث، وبَيّنوا فسادها كلها، فذكروا لهم أربع حُجج: [إحداهما]: الحجة المشهورة، وهي أنها لو قامت به، لم يخل منها، ومن أضدادها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث، ومنعوا المقدمة الأولى، والمقدمة الثانية، ذَكَر الرازيّ وغيره فسادها، وقد بُسط في غير هذا الموضع. [الثانية]: أنه لو كان قابلًا لها في الأزل لكان القبول من لوازم ذاته، فكان القبول يستدعي إمكان المقبول، ووجود الحوادث في الأزل محال، وهذه أبطلوها هم بالمعارضة بالقدرة، بأنه قادر على إحداث الحوادث، والقدرة تستدعي إمكان المقدور، ووجود المقدور، وهو الحوادث في الأزل محال، وهذه الحجة باطلة من وجوه:

[أحدها]: أن يقال: وجود الحوادث إما أن يكون ممتنعًا، وإما أن يكون ممكنًا، فإن كان ممكنًا أمكن قبولها، والقدرةُ عليها دائمًا، وحينئذ فلا يكون وجود جنسها في الأزل ممتنعًا، بل يمكن أن يكون جنسها مقدورًا مقبولًا، وإن كان ممتنعًا فقد امتنع وجود حوادث لا تتناهى، وحينئذ فلا تكون في الأزل ممكنةً، لا مقدورةً ولا مقبولةً، وحينئذ فلا يلزم امتناعها بعد ذلك، فإن الحوادث موجودةٌ، فلا يجوز أن يقال بدوام امتناعها، وهذا تقسيم حاصر يبين فساد هذه الحجة. [الوجه الثاني]: أن يقال: لا ريب أن الرب تعالى قادر، فإما أن يقال: إنه لم يزل قادرًا، وهو الصواب، وإما أن يقال: بل صار قادرًا بعد أن لم يكن، فإن قيل: لم يزل قادرًا، فيقال: إذا كان لم يزل قادرًا، فإن كان المقدر لم يزل ممكنًا أمكن دوام وجود الممكنات، فأمكن دوام وجود الحوادث، وحينئذ فلا يمتنع كونه قابلًا لها في الأزل. فإن قيل: بل كان الفعل ممتنعًا، ثم صار ممكنا، قيل: هذا جمع بين النقيضين، فإن القادر لا يكون قادرًا على ممتنع، فكيف يكون قادرًا على كون المقدور ممتنعًا، ثم يقال: بتقدير إمكان هذا، قيل: هو قادر في الأزل على ما يمكن فيما لا يزال، وكذلك في المقبول، يقال: هو قابل في الأزل لما يمكن فيما لا يزال. [الوجه الثالث]: إذا قيل: هو قابل لما في الأزل، فإنما هو قابل لما هو قادر عليه، يمكن وجوده، فأما ما يكون ممتنعًا لا يدخل تحت القدرة، فهذا ليس بقابل له. [الرابع]: أن يقال: هو قادرٌ على حدوث ما هو مباين له من المخلوقات، ومعلوم أن قدرة القادر على فعله القائم به أولى من قدرته على المباين له، وإذا كان الفعل لا مانع منه إلا ما يمنع مثله؛ لوجود المقدور المباين، ثم ثبت أن المقدور المباين هو ممكن، وهو قادر عليه، فالفعل أن يكون ممكنًا مقدورًا أولى. [الحجة الثالثة لهم]: أنهم قالوا: لو قامت به الحوادث للزم تغيره، والتغير على الله محالٌ، وأبطلوا هم هذه الحجة، الرازيّ وغيره، بأن قالوا: ما تريدون بقولكم: لو قامت به تَغيَّر؟ أتريدون بالتغير نفس قيامها به، أم شيئًا آخر؟ فإن أردتم الأول، كان المقدم هو

الثاني، والملزوم هو اللازم، وهذا لا فائدة فيه، فإنه يكون تقدير الكلام: لو قامت به الحوادث، لقامت به الحوادث، وهذا كلام لا يفيد، وإن أردتم بالتغير معنى غير ذلك، فهو ممنوع، فلا نُسَلِّم أنها لو قامت به لزم تغير غيرُ حلول الحوادث، فهذا جوابهم. وإيضاح ذلك أن لفظ التغير لفظ مجملٌ، فالتغير في اللغة المعروفة لا يراد به مجرد كون المحل قامت به الحوادث، فإن الناس لا يقولون للشمس والقمر والكواكب إذا تحركت: إنها قد تغيرت، ولا يقولون للإنسان إذا تكلم ومشى، أنه تغير، ولا يقولون إذا طاف، وصلى، وأمر ونهى، وركب: إنه تغير إذا كان ذلك عادته، بل إنما يقولون: تغير لمن استحال من صفة إلى صفة، كالشمس إذا زال نورها ظاهرًا، لا يقال: إنها تغيرت، فإذا اصفرّت قيل تغيرت، وكذلك الإنسان إذا مرض، أو تغير جسمه بجوع أو تعب، قيل: قد تغير، وكذلك إذا تغير خلقه ودينه، مثل أن يكون فاجرًا، فينقلب، ويصير بَرًّا، أو يكون بَرًّا، فينقلب فاجرًا، فإنه يقال: قد تغير، وفي الحديث: رأيت وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مُتغيرًا، لما رأى منه أثر الجوع، ولم يزل يراه يوكع ويسجد، فلم يسَمِّ حركته تغيرًا، وكذلك يقال: فلان قد تغير على فلان إذا صار يبغضه بعد المحبة، فإذا كان ثابتًا على مودته، لم يُسَمَّ هشته إليه، وخطابه له تغيرًا، وإذا جرى على عادته في أقواله، وأفعاله، فلا يقال: إنه قد تغير، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، ومعلوم أنهم إذا كانوا على عادتهم الموجودة، يقولون ويفعلون ما هو خير، لم يكونوا قد غيروا ما بأنفسهم، فإذا انتقلوا عن ذلك، فاستبدلوا بقصد الخير قصد الشر، وباعتقاد الحق اعتقاد الباطل، قيل: قد غيروا ما بأنفسهم، مثل من كان يحب الله ورسوله والدار الآخرة، فتغير قلبه، وصار لا يحب الله ورسوله والدار الآخرة، فهذا قد غير ما في نفسه، وإذا كان هذا معنى التغير، فالرب تعالى لم يزل ولا يزال موصوفًا بصفات الكمال، منعوتًا بنعوت الجلال والإكرام، وكماله من لوازم ذاته، فيمتنع أن يزول عنه شيء من صفات كماله، ويمتنع أن يصير ناقصًا بعد كماله.

وهذا الأصل عليه قول السلف، وأهل السنة أنه لم يزل متكلمًا إذا شاء، ولم يزل قادرًا، ولم يزل موصوفًا بصفات الكمال، ولا يزال كذلك، فلا يكون متغيرًا، وهذا معنى قول من يقول: يا من يُغَيِّر ولا يَتَغَيَّر، فإنه يُحيل صفات المخلوقات، ويسلبها ما كانت متصفة به إذا شاء، ويعطيها من صفة الكمال ما لم يكن لها، وكماله من لوازم ذاته، لم يزل ولا يزال موصوفًا بصفات الكمال، قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27]، ولكن هؤلاء النفاة هم الذين يلزمهم أن يكون قد تَغَيَّر، فإنهم يقولون: كان في الأزل لا يمكنه أن يقول شيئًا، ولا يتكلم بمشيئته وقدرته، وكان ذلك ممتنعًا عليه لا يتمكن منه، ثم صار الفعل ممكنًا يمكنه أن يفعل، ولهم في الكلام قولان: من يثبت الكلام المعروف، وقال: إنه يتكلم بمشيئته وقدرته، قال: إنه صار الكلام ممكنًا له بعد أن كان ممتنعًا عليه، ومن لم يصفه بالكلام المعروف، بل قال: إنه يتكلم بلا مشيئة وقدرة، كما تقوله الكلابية، فهؤلاء أثبتوا كلامًا لا يُعقَل، ولم يسبقهم إليه أحد من المسلمين، بل كان المسلمون قبلهم على قولين: فالسلف، وأهل السنة يقولون: إنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وكلامه غير مخلوق، والجهمية يقولون: إنه مخلوق بقدرته ومشيئته، فقال هؤلاء: بل يتكلم بلا مشيئته وقدرته، وكلامه شيء واحد، لازم لذاته، وهو حروف، أو حروف وأصوات أزلية، لازمة لذاته، كما قد بُسط في غير هذا الموضع. والمقصود أن هؤلاء كلهم الذين يمنعون أن الرب لم يزل يمكنه أن يفعل ما شاء، ويقولون: ذلك يستلزم وجود حوادث لا تتناهى، وذلك محال، فهؤلاء يقولون: صار الفعل ممكنًا له بعد أن كان ممتنعًا عليه، وحقيقة قولهم أنه صار قادرًا بعد أن لم يكن قادرًا، وهذا حقيقة التغير، مع أنه لم يحدث سبب يوجب كونه قادرًا. وإذا قالوا: هو في الأزل كان قادرًا على ما لا يزال، قيل: هذا جمع بين النفي والإثبات، فهو في الأزل كان قادرًا، أفكان القول ممكنًا له، أو ممتنعًا عليه، إن قلتم:

ممكن له فقد جَوَّزتم دوام كونه فاعلًا، وأنه قادر على حوادث لا نهاية لها، وإن قلتم: بل كان ممتنعًا، قيل: القدرة على الممتنع مع كون الفعل ممتنعًا غير ممكن، لا يكون مقدورًا للقادر، إنما المقدور هو المكن، لا الممتنع، فإذا قلتم: أمكنه بعد ذلك فقد قلتم: إنه أمكنه أن يفعل بعد أن كان لا يمكنه أن يفعل، وهذا صريح في أنه صار قادرًا بعد أن لم يكن، وهو صريح في التغير، فهؤلاء النفاة الذين قالوا: إن المثبتة يلزمهم القول بأنه تغير، قد بان بطلان قولهم، وأنهم هم الذين قالوا بما يوجب تغيره. [الحجة الرابعة]: قالوا: حلول الحوادث به أفول، والخليل قد قال: {لا أحب الآفلين}، والآفل: هو المتحرك الذي تقوم به الحوادث، فيكون الخليل قد نفى المحبة عمن تقوم به الحوادث، فلا يكون إلهًا، وإذا قال المنازع: أنا أريد بكونه تغير، أنه تكلم بمشيئته وقدرته، وأنه يحب منا الطاعة، ويفرح بتوبة التائب، ويأتي يوم القيامة، قيل: فهب أنك سميت هذا تغيرا، فَلِمَ قلت: إن هذا ممتنع، فهذا محل النزاع كما قال الرازيّ: فالمقدم هو الثاني. فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الله يوصف بالغيرة، وهي مشتقة من التغير، فقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "لا أحد أغير من الله أن يزني عبده، أو تزني أمته"، وقال أيضًا: "لا أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث الرسل، وأنزل الكتب، ولا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حَرَّم الفواحش، ما ظهر منها، وما بطن"، وقال: "أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغير منه، والله أغير مني". والجواب: أن قصة الخليل - عليه السلام - حجة عليهم، لا لهم، وهم المخالفون لإبراهيم، ولنبينا ولغيرهما من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وذلك أن الله تعالى قال: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا

أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:76، 79]. فقد أخبر الله في كتابه أنه من حين بَزَغ الكوكب والقمر والشمس، وإلى حين أفولها لم يقل الخليل: لا أحب البازغين، ولا المتحركين، ولا المتحولين، ولا أحب من تقوم به الحركات، ولا الحوادث، ولا قال شيئًا مما يقوله النفاة حين أفل الكوكب والشمس والقمر. والأفول باتفاق أهل اللغة والتفسير هو الغيب، والاحتجاب، بل هذا معلوم بالاضطرار من لغة العرب التي نزل بها القرآن، وهو المراد باتفاق العلماء، فلم يقل إبراهيم: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} إلا حين أَفَلَ وغاب عن الأبصار، فلم يبق مرئيا، ولا مشهودًا، فحينئذ قال: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ}، وهذا يقتضي أن كونه متحركًا منتقلًا تقوم به الحوادث، بل كونه جسمًا متحيزًا تقوم به الحوادث، لم يكن دليلًا عند إبراهيم على نفي محبته، فإن كان إبراهيم إنما استدل بالأفول على أنه ليس رب العالمين -كما زعموا- لزم من ذلك أن يكون ما يقوم به الأفول من كونه متحركًا منتقلًا تحله الحوادث، بل ومن كونه جسمًا متحيزًا لم يكن دليلًا عند إبراهيم على أنه ليس برب العالمين، وحينئذ فيلزم أن تكون لا على تعيين مطلوبهم، وهكذا أهل البدع، لا يكادون يحتجون بحجة سمعية، ولا عقلية، إلا وهي عند التأمل حجة عليهم لا لهم، ولكن إبراهيم - عليه السلام - لم يقصد بقوله: {هذَا ربي} أنه رب العالمين، ولا كان أحدٌ من قومه يقولون: إنه رب العالمين، من تجويز ذلك عليهم، بل كانوا مشركين، مقرين بالصانع، وكانوا يتخذون الكواكب والشمس والقمر أربابًا، يدعونها من دون الله، ويبنون لها الهياكل، وقد صُنفت في مثل مذهبهم كتب، مثل "كتاب السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم"، وغيره من الكتب، ولهذا قال الخليل: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77] وقال تعالى {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ

مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]، ولهذا قال الخليل في تمام الكلام: {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 78، 79] بَيّن أنه إنما يعبد الله وحده، فله يوجه وجهه إذا توجه قصده إليه، يتبع قصده وجهه، فالوجه توجه حيث توجه القلب، فصار قلبه وقصده ووجهه متوجهًا إلى الله تعالى، ولهذا قال: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} لم يذكر أنه أقر بوجود الصانع، فإن هذا كان معلومًا عند قومه، لم يكونوا ينازعونه في وجود فاطر السموات والأرض، وإنما كان النزاع في عبادة غير الله، واتخاذه ربّا، فكانوا يعبدون الكواكب السماوية، ويتخذون لها أصناما أرضية، وهذا النوع الثاني من الشرك، فإن الشرك في قوم كان أصله من عبادة الصالحين، أهل القبور، ثم صوروا تماثيلهم، فكان شركهم بأهل الأرض، إذ كان الشيطان إنما يضل الناس بحسب الإمكان، فكان ترتيبه أوّلا الشرك بالصالحين أيسر عليه، ثم قوم إبراهيم انتقلوا إلى الشرك بالسماويات بالكواكب، وصنعوا لها الأصنام بحسب ما رأوه من طبائعها، يصنعون لكل كوكب طعامًا وخاتمًا وبخورًا، وأموالًا تناسبه، وهذا كان قد اشتهر على عهد إبراهيم - عليه السلام - إمام الحنفاء، ولهذا قال الخليل: {مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 85 - 87]، وقال لهم: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95، 96]، وقصة إبراهيم قد ذُكرت في غير موضع من القرآن مع قومه، إنما فيها نهيهم عن الشرك، خلاف قصة موسى مع فرعون، فإنها ظاهرة في أن فرعون كان مظهرًا الإنكار للخالق، وجحوده. وقد ذكر الله عن إبراهيم أنه حاجّ الذي حاجه في ربه، في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ في رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ

الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258]، فهذا قد يقال: إنه كان جاحدًا للصانع، ومع هذا فالقصة ليست صريحةً في ذلك، بل يدعو الإنسان إلى عبادة نفسه، وإن كان لا يصرح بإنكار الخالق، مثل إنكار فرعون. وبكل حال فقصة إبراهيم إلى أن تكون حجة عليهم أقرب منها إلى أن تكون حجة لهم، وهذا بَيِّنٌ ولله الحمد، بل ما ذكره الله عن إبراهيم يدل على أنه كان يُثبت ما ينفونه عن الله، فإن إبراهيم قال: {إِنَّ ربِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاَءِ}، والمراد به أنه يستجيب الدعاء، كما يقول المصلي: سمع الله لمن حمده، وإنما يسمع الدعاء، ويستجيبه بعد وجوده، لا قبل وجوده، كما قال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1] فهي تجادل، وتشتكي حال سَمْعِ الله تحاورهما، وهذا يدل على أن سمعه كرؤيته المذكورة في قوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون} [التوبة: 105]، وقال: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ في الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14]، فهذه رؤية مستقلة، ونظر مستقل، وقد تقدم أن المعدوم لا يُرَى ولا يُسمَع منفصلًا عن الرائي السامع باتفاق العقلاء، فإذا وُجدت الأقوال والأعمال سمعها ورآها، والرؤية، والسمع أمر وجودي، لا بد له من موصوف يتصف به، فإذا كان هو الذي رآها وسمعها، امتنع أن يكون غيره هو المتصف بهذا السمع، وهذه الرؤية، وأن تكون قائمة بغيره، فتعين قيام هذا السمع، وهذه الرؤية به بعد أن خُلقت الأعمال والأقوال، وهذا مطعن لا حيلة فيه. وقد بُسط الكلام على هذه المسألة، وما قال فيها عامة الطوائف في غير هذا الموضع، وحَكيت ألفاظ الناس، بحيث يتيقن الإنسان أن النافي ليس معه حجة، لا سمعية، ولا عقلية، وأن الأدلة العقلية الصريحة، موافقة لمذهب السلف، وأهل الحديث، وعلى ذلك يدل الكتاب والسنة، مع الكتب المتقدمة: التوراة، والإنجيل، والزبور، فقد اتفق عليها نصوص الأنبياء، وأقوال السلف، وأئمة العلماء، ودلت عليها

صرائح المعقولات، فالمخالف فيها كالمخالف في أمثالها، ممن ليس معه حجة، لا سمعية، ولا عقلية، بل هو شبيه بالذين قالوا: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السَّعِير} [الملك: 10]، قال الله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا في الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ} [الحج: 46]، ولكن هذه المسألة، ومسألة الزيارة، وغيرهما حَدَث للمتأخرين فيها شُبَهٌ، وأنا وغيري كنا على مذهب الآباء في ذلك، نقول في الأصلين يقول أهل البدع، فلما تَبَيَّن لنا ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- دار الأمر بين أن نتبع ما أنزل الله، أو نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، فكان الواجب هو اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأن لا نكون ممن قيل فيه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [لقمان: 21]، وقد قال تعالى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 24]، وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 8]، {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا في الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15]، فالواجب اتباع الكتاب المنزل، والنبي المرسل، وسبيل من أناب إلى الله، فاتبعنا الكتاب والسنة، كالمهاجرين والأنصار، دون ما خالف ذلك من دين الآباء، وغير الآباء، والله يهدينا، وسائر إخواننا إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، والله -سبحانه وتعالى- أنزل القرآن، وهدى به الخلق، وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، وأم القرآن هي فاتحة الكتاب، قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "يقول الله: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله: أثنى عليّ عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله: مجدني عبدي، فإذا

قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال الله: هذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قال: هؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل". فهذه السورة فيها لله الحمد، فله الحمد في الدنيا والآخرة، وفيها للعبد السؤال، وفيها العبادة لله وحده، وللعبد الاستعانة، فحق الرب حمده وعبادته وحده، وهذان: حمد الرب وتوحيده يدور عليهما جميع الدين. ومسألة الصفات الاختيارية، هي من تمام حمده، فمن لم يُقِرَّ بها لم يمكنه الإقرار بأن الله محمود البتة، ولا أنه رب العالمين، فإن الحمد ضد الذمّ، والحمد هو الإخبار بمحاسن المحمود، مع المحبة له، والذمّ هو الإخبار بمساوي المذموم، مع البغض له، وجماع المساوي فعل الشر، كما أن جماع المحاسن فعل الخير، فإذا كان يفعل الخير بمشيئته وقدرته استحق الحمد، فمن لم يكن له فعل اختياري يقوم به، بل ولا يقدر على ذلك، لا يكون خالقًا، ولا ربّا للعالمين. وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام:1]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف:1]، ونحو ذلك، فإذا لم يكن له فعل يقوم به باختياره، امتنع ذلك كله، فإنه من المعلوم بصريح العاقل أنه إذا خلق السموات والأرض، فلابد من فعل يصير به خالقًا، وإلا فلو استمر الآمر على حال واحدة، لم يحدث فعل لكان الأمر على ما كان قبل أن يخلق، وحينئذ فلم يكن المخلوق موجودًا، فكذلك يجب أن لا يكون المخلوق موجودًا، إن كان الحال في المستقبل، مثل ما كان في الماضي لم يحدث من الرب فعلٌ، هو خلق السموات والأرض، وقد قال تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} [الكهف: 51]، ومعلوم أنهم قد شَهِدوا نفس المخلوق، فَدَلّ على أن الخلق لم يشهدوه، وهو تكوينه لها وإحداثه لها غير المخلوق الباقي. وأيضا فإنه قال: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54]،

فالخلق لها كان في ستة أيام، وهي موجودة بعد المشيئة، فالذي اختص بالمشيئة غير الموجود بعد المشيئة. وكذلك: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فإن الرحمن الرحيم، هو الذي يرحم العباد بمشيئته وقدرته، فإن لم يكن له رحمة إلا نفس إرادة قديمة، أو صفة أخرى قديمة، لم يكن موصوفًا بأنه يرحم من يشاء، ويعذب من يشاء، قال الخليل: {قُلْ سِيرُوا في الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت: 20، 21]، فالرحمة ضد التعذيب، والتعذيب فعله، وهو يكون بمشيئته، كذلك الرحمة تكون بمشيئته، كما قال: {وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} [العنكبوت: 21]، والإرادة القديمة اللازمة لذاته، أو صفة أخرى لذاته ليست بمشيئته، فلا تكون الرحمة بمشيئته. وإن قيل: ليس بمشيئته إلا المخلوقات المباينة، لزم أن لا تكون صفة للرب، بل تكون مخلوقة له، وهو إنما يتصف بما يقوم به، لا يتصف بالمخلوقات، فلا يكون هو الرحمن الرحيم، وقد ثبت في "الصحيحين" عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لمّا قضى الله الخلق كتب في كتاب، فهو موضوع عنده، فوق العرش، إن رحمتي تغلب غضبي"، وفي رواية "تسبق غضبي"، وما كان سابقًا لما يكون بعده، لم يكن إلا بمشيئة الرب وقدرته، ومن قال: ما ثَمّ رحمة إلا إرادة قديمة، أو ما يشبهها، امتنع أن يكون له غضب مسبوق بها، فإن الغضب إن فُسِّر بالإرادة، فالإرادة لم تسبق نفسها، وكذلك إن فسر بصفة قديمة العين، فالقديم لا يسبق بعضه بعضًا، وإن فسر بالمخلوقات، لم يتصف برحمة ولا غضب، وهو قد فرق بين غضبه وعقابه بقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]، وقوله: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6]، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول: "أعوذ

بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه، ومن شر عباد ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون"، ويدل على ذلك قوله: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} [الإسراء: 54]، فعلق الرحمة بالمشيئة، كما علق التعذيب وما تعلق بالمشيئة مما يتصف به الرب، فهو من الصفات الاختيارية. وكذلك كونه مالكًا ليوم الدين، يوم يدين العباد بأعمالهم، إن خيرًا فخيرٌ، كان شرّا فشرّ، {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 18، 19]، فإن الملك هو الذي يتصرف بأمر فيطاع، ولهذا إنما يقال: ملك للحي المطاع الأمر، لا يقال في الجمادات لصاحبها ملك، إنما يقال له: مالك، ويقال ليعسوب النحل: ملك النحل، لأنه يأمر فيطاع، والمالك القادر على التصريف في المملوك، وإذا كان الملك هو الآمر الناهي المطاع، فإن كان يأمر وينهى بمشيئته، كان أمره ونهيه من الصفات الاختيارية، وبهذا أخبر القرآن، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1]، وإن كان لا يأمر وينهى بمشيئته، بل أمره لازم له، حاصل بغير مشيئته ولا قدرته، لم يكن هذا مالكًا أيضا، بل هذا أولى أن يكون مملوكًا، فإن الله تعالى خلق الإنسان، وجعل له صفات تلزمه، كاللون، والطول، والعرض، والحياء، ونحو ذلك، مما يحصل لذاته بغير اختياره، فكان باعتبار ذلك مملوكًا مخلوقًا للرب فقط، وإنما يكون ملكًا إذا كان يأمر وينهى باختياره فيطاع، وإن كان الله خالقًا لفعله، ولكل شيء. ولكن المقصود أنه لا يكون ملكًا إلا من يأمر وينهى بمشيئته وقدرته، بل من قال: إنه لازم له بغير مشيئته، أو قال: إنه مخلوق له، فكلاهما يلزمه أنه لا يكون ملكًا، وإذا لم يمكنه أن يتصرف بمشيئته لم يكن مالكًا أيضًا، فمن قال: إنه لا يقوم به فعل اختياريّ لم يكن عنده في الحقيقة مالكًا لشيء، وإذا اعتبرتَ سائر القرآن، وجدت أنه من لم يُقِرَّ بالصفات الاختيارية لم يَقُم بحقيقة الإيمان، ولا القرآن، فهذا يُبَيِّن أن الفاتحة

وغيرها يدل على الصفات الاختيارية. وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فيه إخلاص العبادة لله، والاستعانة به، وأن المؤمنين لا يعبدون إلا الله، ولا يستعينون إلا بالله، فمن دَعَى غير الله من المخلوقين، أو استعان بهم من أهل القبور وغيرهم، لم يحقق قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، ولا يحقق ذلك إلا من فرق بين الزيارة الشرعية والزيارة البدعية، فإن الزيارة الشرعية عبادة لله، وطاعة لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وتوحيد لله، وإحسان إلى عباده، وعَمَلٌ صالحٌ من الزائر، يثاب عليه، والزيارة البدعية شرك بالخالق، وظلم للمخلوق، وظلم للنفس، فصاحب الزيارة الشرعية، هو الذي يحقق قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، ألا ترى أن اثنين لو شهدا جنازة، فقام أحدهما يدعو للميت، ويقول: اللهم اغفر له، وارحمه، واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بماء وثلج وبرد، ونقه من الذنوب والخطايا، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، وأعذه من عذاب النار، وعذاب القبر، وافسح له في قبره، ونَوِّر له فيه، ونحو ذلك من الدعاء له، وقام الآخر، فقال: يا سيدي أشكو لك ديوني، وأعدائي، وذنوبي، أنا مستغيث بك، مستجير بك، أغثني، ونحو ذلك، لكان الأول عابدا لله، ومُحسنًا إلى خلقه، محسنًا إلى نفسه بعبادة الله، ونفعه عباده، وهذا الثاني مشركًا مؤذيًا ظالمًا معتديًا على الميت، ظالمًا لنفسه. فهذا بعض ما بين البدعية والشرعية من الفروق. والمقصود أن صاحب الزيارة الشرعية إذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} كان صادقًا؛ لأنه لم يعبد إلا الله، ولم يستعن إلا به، وأما صاحب الزيارة البدعية، فإنه عَبَدَ غير الله، واستعان بغيره. فهذا بعض ما يبين أن "الفاتحة" أم القرآن، اشتملت على بيان المسألتين المتنازع فيهما، مسألة الصفات الاختيارية، ومسألة الفرق بين الزيارة الشرعية والزيارة البدعية، والله تعالى هو المسؤول أن يهدينا، وسائر إخواننا إلى صراطه المستقيم، صراط الذين

أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. ومما يوضح ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال: أثنى عليّ عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله: مجدني عبدي، فذكر الحمد والثناء والمجد بعد ذلك، يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إلى آخرها، هذا في أول القراءة في قيام الصلاة، ثم في آخر القيام بعد الركوع يقول: ربنا ولك الحمد، ملء السماء وملء الارض، إلى قوله: أهل الثناء والمجد أحقّ ما قال العبد -وكلنا لك عبد-: لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وقوله: أحق ما قال العبد، خبر مبتدإ محذوف، أي هذا الكلام أحق ما قال العبد، فتبَيَّن أن حمد الله والثناء عليه أحقّ ما قاله العبد، وفي ضمنه توحيده له، إذا قال: ولك الحمد، أي لك لا لغيرك، وقال في آخره: لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، وهذا يقتضي انفراده بالعطاء والمنع، فلا يستعان إلا به، ولا يطلب إلا منه، ثم قال: ولا ينفع ذا الجد منك الجد، فبين أن الإنسان، وإن أُعطي الملك، والغنى، والرئاسة، فهذا لا ينجيه منك، إنما ينجيه الإيمان والتقوى، وهذا تحقيق قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، فكان هذا الذكر في آخر القيام؛ لأنه ذكر أول القيام، وقوله: أحقُّ ما قال العبد يقتضي أن يكون حمد الله أحق الأقوال بأن يقوله العبد، وما كان أحق الأقوال، كان أفضلها، وأوجبها على الإنسان، ولهذا افترض الله على عباده في كل صلاة أن يفتتحوها بقولهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وأمرهم أيضًا أن يفتتحوا كل خطبة بالحمد لله، فأمرهم أن يكون مقدمًا على كل كلام، سواء كان خطابًا للخالق، أو خطابًا للمخلوق، ولهذا يقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- الحمدَ أمام الشفاعة يوم القيامة، ولهذا أُمِرنا بتقديم الثناء على الله في التشهد قبل الدعاء، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بالحمد لله، فهو أجذم" (¬1)، وأول من يُدعَى ¬

_ (¬1) حديث ضعيف، تقدّم الكلام عليه في مسائل البسملة من هذا الشرح، فراجعه تستفد.

إلى الجنة الحمادون، الذين يَحمدون الله على السراء والضراء. وقوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} جعله ثناء، وقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} جعله تمجيدًا، وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} حمد مطلق، فإن الحمد اسم جنس، والجنس له كمية وكيفية، فالثناء كميته، وتكبيره وتعظيمه كيفيته، والمجد هو السعة والعلو، فهو يعظم كيفيته وقدره، وكميتَهُ المتصلة، وذلك أن هذا وصف له بالملك، والملك يتضمن القدرة، وفعل ما يشاء، و {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وصف بالرحمة المتضمنة لإحسانه إلى العباد بمشيئته وقدرته أيضًا، والخير يحصل بالقدرة والإرادة التي تتضمن الرحمة، فإذا كان قديرًا مريدًا للإحسان حصل كل خير، وإنما يقع النقص لعدم القدرة، أو لعدم إرادة الخير، فالرحمن الرحيم الملك قد اتصف بغاية إرادة الإحسان، وغاية القدرة، وذلك يحصل به خير الدنيا والآخرة. وقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} مع أنه ملك الدنيا؛ لأن يوم الدين لا يَدَّعِي أحد فيه منازعة، وهو اليوم الأعظم، فما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع، والدين عاقبة أفعال العباد، وقد يدل بطريق التنبيه، وبطريق العموم عند بعضهم على ملك الدنيا، فيكون له الملك، وله الحمد كما قال تعالى: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن: 1]، وذلك يقتضي أنه قادر على أن يَرْحَم، ورحمته وإحسانه وصف له يحصل بمشيئته، وهو من الصفات الاختيارية. وفي "الصحيح" أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يُعَلِّم أصحابه الاستخارة الأمور كلها، كما يُعَلِّمهم السورة من القرآن، يقول: "إذا همَّ أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر، ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر -ويسميه باسمه- حيرًا لي في ديني ودنياي، ومعاشي، وعاقبة أمري، فاقدره لي، ويَسِّره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شَرٌّ لي

في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان". فسأله بعلمه وقدرته، ومن فضله، وفضلُهُ يحصل برحمته، وهذه الصفات هي جماع صفات الكمال، لكن العلم له عموم التعلُّق يتعلق بالخالق والمخلوق، والموجود والمعدوم، وأما القدرة، فإنما تتعلق بالمخلوق، وكذلك الملك إنما يكون ملكًا على المخلوقات. فالفاتحة اشتملت على الكمال في الإرادة، وهو الرحمة، وعلى الكمال في القدرة، وهو ملك يوم الدين، وهذا إنما يتم بالصفات الاختيارية، كما تقدم والله -سبحانه وتعالى- أعلم. انتهت الرسالة الميمونة المباركة لشيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله، وهي كافية شافية في هذه المسائل المهمة المسألة التي عقد لها الإمام ابن ماجه رحمه الله بابًا لبيان ما أنكرت الجهميّة من الصفات، فاقرأها بتأمل، وتدبّر تَرَ فيها العجب العُجاب، مما يُستلذّ ويُستطاب، والله تعالى الهادي إلى المنهج القويم، وسبيل الصواب. اللهم اهدينا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن تولّيت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شرّ ما قضيت، الله أرنا الحقّ حقّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، إنك سميعٌ قريب مجيب الدعوات. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

36 - باب من سن سنة حسنة، أو سيئة

36 - (بابُ من سنّ سُنَّةً حسنةً، أو سيئةً) وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 203 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الملِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، حَدَّثَنَا أبو عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ المُلِكِ بْنُ عُمَيْر، عَنْ المنْذِرِ بْنِ جَرِبر، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعُمِلَ بِها، كَانَ لَهُ أَجْرُها، وَمثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِها، لَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئًا، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعُمِلَ بِها، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرها، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِها مِنْ بَعدهِ، لَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِم شَيْئًا"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (مُحَمَدُ بْنُ عَبْدِ الملِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ) واسمه محمد بن عبد الله البصريّ، صدوقٌ، من كبار [10] 35/ 184. 2 - (أبو عَوَانَةَ) الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ البزّاز، مولى يزيد بن عطاء، كان من سَبْي جُرْجَان، مشهور بكنيته، ثقة ثبتٌ [7]. رَأَى الحسن، وابن سيرين، وسمع من معاوية بن قرة حديثا واحدًا، وروى عن أشعث بن أبي الشعثاء، والأسود بن قيس، وقتادة، وأبي بشر، وحُصين بن عبد الرحمن، وبيان بن بشر، وإسماعيل السدي، وإبراهيم بن محمد بن المنتشر، وخلق كثير. ورَوَى عنه شعبة، ومات قبله، وابن علية، وأبو داود، وأبو الوليد الطيالسيان، والفضل بن مُساور صهره، وعبد الرحمن بن مهدي، وعَفّان، ويحيى بن حماد، وحجاج ابن منهال، وأحمد بن إسحاق الحضرمي، ومسدد، ومحمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب وخلق كثير. قال أبو حاتم: سمعت هشام بن عبيد الله الرازي يقول: سألت ابن المبارك مَن أروى الناس، أو أحسن الناس حديثًا عن مغيرة؟ فقال: أبو عوانة. وقال أحمد بن سنان: سمعت ابن مهدي يقول: كتاب أبي عوانة أئبت من حفظ هُشيم. وقال مسدد: سمعت يحيى القطان يقول: ما أشبه حديثه بحديثهما -يعني أبا عوانة، وشعبة وسفيان-

وقال عفان: كان أبو عوانة صحيح الكتاب، كثيرَ الْعَجْم والنَّقْط، وكان ثَبْتًا، وأبو عوانة في جميع حاله أصح حديثًا عندنا من شعبة (¬1). وقال أبو طالب عن أحمد: إذا حَدّث أبو عوانة من كتابه فهو أثبت، وإذا حَدّث من غير كتابه ربما وهم. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: أبو عوانة جائز الحديث، وحديث يزيد بن عطاء ضعيف، ثَبَتَ حديثُ أبي عوانة، وسَقَطَ مولاه يزيد بن عطاء. وقال أبو زرعة: ثقة إذا حدث من كتابه. وقال أبو حاتم: كتبه صحيحة، وإذا حدث من حفظه غَلِطَ كثيرًا، وهو صدوق ثقة، وهو أحب إليّ من أبي الأحوص، ومن جرير، وهو أحفظ من حماد بن سلمة. وقال ابن سعد: كان ثقةً صدوقًا، ووُهيب أحفظ منه. وقال موسى بن إسماعيل: قال أبو عوانة: كل شيء قد حدثتك فقد سمعته. وقال العجلي: أبو عوانة بصري ثقة. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال شعبة: إن حدثكم أبو عوانة عن أبي هريرة فصدقوه. وقال أبو قُدَامة: قال ابن مهديّ: أبو عوانة وهشيم، كهَمّام وسعيد، إذا كان الكتاب فكتاب أبي عوانة وهمام، وإذا كان الحفظ فحفظ هُشيم وسعيد. وقال تمتام عن ابن معين: كان أبو عوانة يَقرأ ولا يَكتب. وقال الدُّوريّ: سمعت ابن معين وذكر أبا عوانة وزهير بن معاوية، فقدَّم أبا عوانة. وقال ابن المديني: كان أبو عوانة في قتادة ضعيفًا؛ لأنه كان قد ذهب كتابه، وكان أحفظ من سعيد، وقد أغرب في أحاديث. وقال: قال يعقوب بن شيبة. ثَبْتٌ صالحُ الحفظ، صحيح الكتاب. وقال ابن خِرَاش: صدوق في الحديث. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة ثبت حجة فيما حَدَّث من كتابه، وقال: إذا حَدّث من حفظه ربّما غَلِطَ. ¬

_ (¬1) هكذا في "التهذيبين" "شعبة"، وذكر محقّق "تهذيب الكمال" أنه في المطبوع من "الجرح والتعديل" و"المعرفة" ليعقوب، و"تاريخ بغداد" "هُشيم" بدل "شعبة"، ولعله الصواب، راجع هامش "تهذيب الكمال" 30/ 446.

وقال محمد بن محبوب: مات في ربيع الأول سنة ست وسبعين ومائة، وفيها أَرّخه يعقوب بن سفيان، وقال ابن المدينيّ: مات سنة خمس وسبعين، وذكره ابن حبان في "الثقات". أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (21) حديثًا. 3 - (عَبْدُ الملِكِ بْنُ عُمَيْر) بن سُويد اللَّخميّ الكوفيّ الْفرسيّ، ثقة فقيه تغيّر حفظه، وربّما دلّس [3] 11/ 97. 4 - (المُنْذِرُ بنُ جَرِيرٍ) بن عبد الله البجليّ الكوفيّ، ثقة (¬1) [3]. رَوَى عن أبيه، وعنه عبد الملك بن عُمَير، وعون بن أبي جُحَيفة، وأبو إسحاق السبيعي، والضحاك بن المنذر، وأبو حيان التيمي، على خلاف فيه، ذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الذهبي: ثقة (¬2). أخرج له مسلم، وأبو داود، والنسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط هذا (203) وحديث (2503) "لا يؤوي الضالّة إلا ضالّ". 5 - (أبوه) جرير بن عبد الله البجليّ الصحابيّ الشهير -رضي الله عنه- 28/ 159، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. 3 - (ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير شيخه، فبصريّ، وأبي عوانة، فواسطيّ. ¬

_ (¬1) قال عنه في "التقريب": "مقبول"، والظاهر أنه ليس بصحيح، كما انتقده الدكتور بشار، والشيخ شعيب الأرناؤوط في "تحرير التقريب"، فقد قال. بل ثقة، فقد روى عنه جمع، وأخرج له مسلم في "الصحيح"، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، ووثقه الذهبيُّ في "الكاشف"، ولا نعلم فيه جرحًا. انتهى. وهو تعقّب وجيه، فليتنبّه. والله تعالى أعلم. (¬2) "الكاشف" 3/ 174.

4 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: عبد الملك عن المنذر، بل هو من رواية الأقران؛ لأن كليهما من الطبقة الثالثة، وفيه رواية الابن عن أبيه، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ المُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ) جرير بن عبد الله البجليّ -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ) شرطيّة (سَنَّ سُنَّة حَسَنَةً) أي سار فيها، يقال: سنّ الطريقة: إذا سار فيها، كاستنّها (¬1) والسنّة الحسنة: هي الطريقة المرضيّة التي يُقتَدَى فيها، قال ابن الأثير: والأصل فيها الطريقة والسيرة، وإذا أُطلقت في الشرع فإنما يُراد بها ما أمر به النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ونَهى عنه، ونَدَبَ إليه قولًا وفعلًا، مما لم ينطق به الكتاب العزيز، ولهذا يقال في أدلّة الشرع الكتاب والسنّة، أي القرآن والحديث. انتهى (¬2). والمراد هنا الإطلاق الأول، لا الثاني، والتمييز بين الحسنة والسيّئة بموافقة الكتاب والسنّة، وعدم موافقتهما. وقال الطيبيّ: السنّة ما وضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أحكام الدين، وهي قد تكون فرضًا، كزكاة الفطر، وغير فرض، كصلاة العيد، وصلاة الجماعة (¬3)، وقراءة القرآن في غير الصلاة، وتحصيل العلم، وما أشبه ذلك. انتهى (¬4). وهذا الحديث له قصّةٌ توضّح سبب قوله -صلى الله عليه وسلم-: "منّ سنة حسنةً إلخ"، وقد ساقه الإمام مسلم رحمه الله في "صحيحه" بطوله، ودونك نصّه: قال: حدثني محمد بن المثنى العنزي، أخبرنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عون بن أبي جُحيفة، عن المنذر بن جرير، عن أبيه، قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صدر ¬

_ (¬1) "القاموس" ص 1088. (¬2) "النهاية" 2/ 409. (¬3) الصحيح أن صلاة الجماعة فرض، كما سيأتي في محلّه إن شاء الله تعالى، وقوله: "وتحصيل العلم" أراد به العلم الزائد على ما يتعين على المرء أن يتعلّمه. (¬4) "الكاشف" 2/ 637.

النهار، قال: فجاءه قوم حُفَاةٌ عُرَاةٌ، مُجتابي (¬1) النَّمَار أو العَبَاء، مُتَقَلِّدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتَمَعَّر (¬2) وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لِمَا رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالًا، فأذن وأقام فصلى (¬3)، ثم خطب، فقال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1] إلى آخر الآية، {إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} والآية التي في الحشَر {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر: 18]، تَصَدَّقَ رجل (¬4) من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرّه، من صاع تمره -حتى قال: ولو بشِقّ تمرة، قال: فجاء رجل من الأنصار بِصُرّة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كَوْمَين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتهلل (¬5) كأنه مُذْهَبَةٌ (¬6) فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". (فَعُمِلَ) بالبناء للمفعول، والفاء تفصيليّة وتفسيريّة، كما في قوله - عز وجل -: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ} الآية [هود: 45]، أي فعَمِل الناس (بِها) أي بتلك السنّة (كَانَ لَهُ أَجْرُها) أي أجر عملها، والإضافة لأدنى ملابسة، فإن السنّة الحسنة لمّا كانت سببًا في ثبوت أجر عاملها أُضيف الأجر إليها بهذه المناسبة، كذا قال الطيبيّ، فقال ¬

_ (¬1) أي خرقوها، وقَوَّروا وسطها. (¬2) أي تغيّر. (¬3) قد بيّن في رواية أن تلك الصلاة هي الظهر. (¬4) خبر بمعنى الأمر، أي ليتصدّق. (¬5) أي يستنير فرحًا وسرورًا. (¬6) أي كأنه فضّة مطلية بالذهب في الحسن والإشراق، ويروى "مُدهنة" بالدال المهملة، أي إناء الدهن في الصفاء.

التوربشتيّ: والصواب "أجره"؛ لعود الضمير إلى صاحب الطريقة، أي أجر عمله، هو غير لازم، ولا وجه لتغليط الرواة إذا احتمل الكلام التصحيح بوجهٍ ما، فكيف والتصحيح هاهنا واضح. قاله السنديّ (¬1) (وَمِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِها) ببناء الفعل للفاعل (لَا يَنْقُصُ) بفتح أوله، وضمّ ثالثه، من باب نصر، مبنيًّا للفاعل، وضميره لإعطاء مثل العاملين لمن سَنَّ (مِنْ أُجُورهِمْ) أي من أجور العاملين لمن سنّها، وإنما أفرد الضمير في قوله: "عمِلَ بها" رعاية للفظ "مَنْ"، وجمعه هنا رعاية لمعناها (شيْئًا) مفعول به لـ "ينقُص"؛ لأنه هنا متعدّ، وقد سبق أن يتعدّى ويلزم، فمن المتعدّي قوله تعالى: {نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41]، وقوله: {غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود:109]. ويحتمل أن يكون لازمًا، فعليه يكون "شيئًا" مفعولأ مطلقًا، أي نقصًا ما. وإنما لم ينقُص من أجورهم شيئًا لأنه حصل له الأجر باعتبار أنه سنّ العمل، وابتدأه، ودلّ وحثّ الناس عليه، والعاملون حصل لهم باعتبار عملهم، فلم يتواردوا على محلّ واحد حتى يُتوهّم أن حصول أحدهما ينقص الآخر، والأصل الأساسي في ذلك فضل الله -سبحانه وتعالى-، وسعة كرمه، وكثرة رأفته بعباده {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]. (وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً) هي التي تخالف الكتاب والسنة، كما أسلفناه (فَعُمِلَ بِها، كَانَ عَلَيْهِ) أي على الذي ابتدأها (وِزْرُها) أي إثم عمله بها (وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِها مِنْ بَعدهِ) أي بعد عمله، أو بعد موته (لَا ينْقُصُ) إعطاؤه ذلك (مِن أَوزَارِهِم شَيْئًا) سبق آنفًا أنه يحتمل أن يكون مفعولًا به، أو مفعولًا مطلقًا، وقد استوفيت شرح هذا الحديث بسياقه المطوّل الذي سبق في "شرح النسائي"، فراجعه تستفد (¬2). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ " 1/ 135. (¬2) راجع "ذخيرة العقبي في شرح المجتبى" 32/ 37 - 46.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- هذا أخرجه مسلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (36/ 203) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده" (670) و (عليّ بن الجعد) (531) و (ابن أبي شيبة) في "مصنفه" (3/ 109 - 110) و (الحميديّ) في "مسنده" (805) و (الدارميّ) في "سننه" (520) و (مسلم) 31/ 86 و 87 و 8/ 62 و (الترمذيّ) (2675) و (النسائيّ) 5/ 75 و (ابن خزيمة) (2477) و (ابن حبان) (3308) و (الطبراني) (372 و 374 و375) و (البيهقي) 4/ 175 و 176 و (البغوي) (1661) و (أحمد) في "مسنده" (4/ 357 و 358 و 359 و360 و 361 و 362) والروايات مطوّلة، ومختصرة، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف، وهو واضح. 2 - (ومنها): الحثّ والتحريض على الابتداء بالخيرات، وسَن السنن الحسنات. 3 - (ومنها): التحذير من البدع والخرافات التي لا يؤيِّدها دليلٌ شرعيّ، نجل يردّها ويُبطلها، قال النووي رحمه الله: هذا الحديث صريح في الحثّ على استحباب سن الأمور الحسنة، وتحريم سَنّ الأمور السيّئة. انتهى (¬1). 4 - (ومنها): أن بعض الأعمال لا ينقطع ثوابها، وكذا أوزارها، وهي التي تكون سببًا للاقتداء بفاعلها، فيجب على العاقل أن يكون مفتاحًا للخير، لا مفتاحًا للشر، وسيأتي للمصنّف من حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن هذا الخير خزائن، ولتلك الخزائن مفاتيح، فطوبى لعبد جعله الله مفتاحًا للخير، مِغْلاقًا للشر، ¬

_ (¬1) "شرح النووي على صحيح مسلم" 16/ 226 - 227.

وويل لعبد جعله الله مفتاحًا للشرّ، مِغلاقًا للخير" (¬1). 5 - (ومنها): أن ظاهر هذا الحديث يدلّ على أنه يحصل هذا الأجر للبادىء، ولو لم ينو أن يتبعه أحد فيها، ففيه ثبوت الأجر مع عدم النيّة، فيكون مخصّصًا للحديث المتّفق عليه: "إنما الأعمال بالنيات"، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 204 - (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، حَدَّثَني أَبِي، قَالَ: حَدَّثَني أَبِي، عَنْ أيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَحَثَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَجُلٌ: عِنْدِي كَذَا وَكَذَا، قَالَ: كما بَقِيَ في المجْلِسِ رَجُلٌ إِلَّا تَصَدَّقَ عَلَيْهِ، بِمَا قَلَّ أَوْ كثُرَ، فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ اسْتَنَّ خَيْرًا، فَاسْتُنَّ بِهِ، كَانَ لَهُ أَجْرُهُ كامِلًا، وَمِنْ أُجُورِ مَنْ اسْتَنَّ بِهِ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئًا، وَمَنْ اسْتَنَّ سُنّة سَيِّئَةً، فَاسْتُنَّ بِهِ، فَعَلَيْهِ وِزْرُهُ كَامِلًا، وَمنْ أَوْزَارِ الَّذِي اسْتَنَّ بِهِ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهم شَيْئًا"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ) أبو عُبيدة الْعَنْبريّ البصريّ، صدوق [11]. رَوَى عن أبيه، وأبي خالد الأحمر، وأبي عاصم النبيل، وأبي معمر المقعد البصري. ورَوَى عنه مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأبو حاتم، وابن أبي عاصم، وابن خزيمة، ومحمد بن إسحاق السراج، وآخرون. قال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: لا بأس به. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال السراج: مات في رمضان سنة اثنتين وخمسين ومائتين. ¬

_ (¬1) حسنه الشيخ الألبانيّ في "الصحيحة" 3/ 320 - 321 رقم (1332).

وفي "الزهرة" إن مسلمًا رَوَى عنه سبعة عشر حديثًا. انتهى. وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط: هذا (203) وحديث (1942) "لا يحرِّم إلا عشر رضعات ... "، وحديث (2319) "من ادّعى ما ليس له فليس منا ... ". 2 - (أبوهُ) عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد التّميميّ العنبريّ مولاهم التَّنّوريّ -بفتح المثناة، وتشديد النون- أبو سَهْل البصريّ، صدوق ثَبْت في شعبة [9]. رَوَى عن أبيه، وعكرمة بن عمار، وحرب بن شداد، وسليمان بن المغيرة، وشعبة، وحماد بن سلمة، وأبان العطار، وهشام الدستوائي، وهمام بن يحيى، وغيرهم. ورَوَى عنه ابنه عبد الوارث، وأحمد، وإسحاق، وأبو خيثمة، وإسحاق بن منصور الْكَوْسَج، وحجاج بن الشاعر، وعبدة الصَّفّار، وغيرهم. قال أبو حاتم: صدوقٌ، صالح الحديث. وقال ابن سعد: كان ثقة -إن شاء الله-. وقال: الحاكم: ثقة مأمون. وقال ابن قانع: ثقة يخطىء. ونقل ابن خلفون توثيقه عن ابن نمير. وقال علي بن المديني: عبد الصمد ثَبْتٌ في شعبة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة ست أو سبع ومائتين، وقال ابنه عبد الوارث وغيره: مات سنة سبع، وقال البلاذريّ: مات آخر سنة ست وأول سنة سبع. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (15) حديثًا. [تنبيه]: سقط من النسخ التي بين يديّ قوله: "عن أبيه"، وهو غلط فاحش (¬1)، فليُتنبّه، والتصويب من "تحفة الأشراف" 10/ 337، فراجعه، والله تعالى أعلم. 3 - (أبوهُ) عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان العبريّ مولاهم، أبو عبيدة التَّنُّوريّ البصريّ، أحد الأعلام، ثقة ثبت، رُمي بالقدر، ويقال: لم يثبُت عنه [8]. رَوَى عن عبد العزيز بن صُهيب، وشعيب بن الحبحاب، وأبي التياح، ويحيى بن إسحاق الحضرمي، وأيوب السختياني، وأيوب بن موسى، وداود بن أبي هند، وخالد ¬

_ (¬1) وقد صوب الدكتور بشار عواد، والشيخ علي حسن نسختهما.

الحذاء، وحسين المعلم، وسعيد الجريري، وسعيد بن أبي عروبة، وغيرهم. ورَوَى عنه الثوري، وهو أكبر منه، وابنه عبد الصمد، وعَفّان بن مسلم، ومُعَلَّى ابن منصور، ومسدد، وعارم، وأبو معمر المُقْعَد، وحَبّان بن هلال، وحميد بن مسعدة، وأبو عاصم النبيل، وقتيبة، ويحيى بن يحيى النيسابوري، وغيرهم. قال معاذ بن معاذ: سألت أنا يحيى بن سعيد شعبة رَوَى عن شيء من حديث أبي التَّياح، فقال: ما يمنعكم من ذاك الشابّ؟ -يعني عبد الوارث- فما رأيت أحدًا أحفظ لحديث أبي التياح منه. وقال القواريري: كان يحيى بن سعيد يُثَبِّته، فإذا خالفه أحد من أصحابه، قال: ما قال عبد الوارث. وقال أحمد: كان عبد الوارث أصح حديثًا من حسين المعلم، وكان صالحًا في الحديث. وقال معاوية بن صالح: قلت ليحيى بن معين: مَن أثبت شيوخ البصريين؟ فقال: عبد الوارث، مع جماعة سماهم وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: هو مثل حماد بن زيد في أيوب، قلت: فالثقفي أحب إليك أو عبد الوارث؟ قال: عبد الوارث، قلت: فابنُ علية أحب إليك في أيوب أو عبد الوارث؟ قال: عبد الوارث. وقال أبو عمر الجزميّ: ما رأيت فقيهًا أفصح منه، إلا حماد بن سلمة. وقال أبو علي المُوْصِلي: قَلّمَا جلسنا إلى حماد بن زيد، إلا نهانا عن عبد الوارث، وجعفر بن سليمان. وقال البخاري: قال عبد الصمد: إنه لمكذوب على أبي، وما سمعتُ منه يقول قط في القدر، وكلام عمرو بن عبيد. وقال أبو زُرعة: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوقٌ، ممن يُعَدُّ مع ابن علية، ووهيب، وبشر بن المفضل، يُعَدّ من الثقات، هو أثبت من حماد بن سلمة. وقال النسائي: ثقةٌ ثَبْتٌ. وقال ابن سعد: كان ثقةً حجةً، تُوُفّي بالبصرة في المحرم سنة ثمانين ومائة. وقال ابن حبّان في "الثقات": بلغ الثمانين وسبعين سنة وشهرًا، قال: وكان قَدَريّا متقنًا في الحديث. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (22) حديثًا. 4 - (أيوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّخْتيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبتٌ حجة، من كبار الفقهاء العبّاد [5] 2/ 17.

5 - (مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ) الأنصاريّ، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقة ثَبْتٌ عابدٌ، كبير القدر [3] 3/ 24. 6 - (أبو هُرَيْرَةَ) الصحابيّ الشهير -رضي الله عنه- 1/ 1، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سُداسيّات المصنّف. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. 3 - (ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات البصريين. 4 - (ومنها): أَنَّ فيه رواية الابن عن أبيه، عن أبيه. 5 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: أيوب عن ابن سيرين. 6 - (ومنها): أن هذا الإسناد أصحّ أسانيد أبي هريرة -صلى الله عليه وسلم- إذا روى عن أيوب حمادُ ابن زيد، على ما نُقل عن عليّ بن المدينيّ، فإنه قال: أصحّ أسانيد أبي هريرة -رضي الله عنه- حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عنه. 7 - (ومنها): أن فيه أبا هريرة -رضي الله عنه- أحفظ من روى الحديث في دهره، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-) أي رجلٌ ذو فاقة، وفقر، وحاجة إلى التصدّق عليه، والظاهر أن هذه الواقعة غير الواقعة المذكورة في الحديث السابق؛ لأن سياق القصّتين مختلف (فحَثَّ عَلَيْهِ) أي حرّض على التصدّق على ذلك الرجل، يقال: حَثَثْتُ الإنسان على الشيء حَثًّا، من باب نمر: إذا حرّضته عليه (فَقَالَ رَجُلٌ) أي من الصحابة الحاضرين (عِنْدِي كَذَا وَكَذَا) أي من المال، وأنا أجعله صدقةً لله تعالى عليه، ثم جاء به قبل مجيىء الناس بمالهم، فتبعه الناس عليه، فلذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: "من استنّ خيرًا ... " (قَالَ) أبو هريرة -رضي الله عنه- (فَمَا بَقِيَ في المجْلِسِ رَجُلٌ إِلا تَصَدَّقَ عَلَيْهِ) أي على الرجل المسكين (بِمَا قَلَّ أَوْ كثُرَ) أي بقليل من مال، أو كثير، فـ "ما" موصوفة،

وجعلها موصولةً لا يساعده المقام، قاله السنديّ (¬1) (فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-) عند رؤيته ذلك، مستبشرًا بزوال حاجة الرجل، وبمبادرة أصحابه إلى تنفيذ أمره، وإيثارهم بمالهم على أنفسهم، كما قاله - عز وجل -: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] (مَنْ اسْتَنَّ خَيْرًا) ببناء الفعل للفاعل، أي فَعَل فعلًا جميلًا (فَاسْتُن بهِ) بالبناء للمفعول، أي اقتُدي به في ذلك (كَانَ لَهُ أَجْر) أي أجر عمله (كَامِلًا، وَ) له أَجرٌ أيضًا (مِنْ أُجُورِ مَنْ اسْتَنَّ بِهِ) بالبناء للفاعل، أي اقتدى بفعله، والظاهر أن "من" ابتدائيّة، وليست تبعيضيّة، أو هي بيانيّة، والله تعالى أعلم (وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أجُورِهِم شَيْئًا) تقدّم وجه نصبه في الحديث الماضي فلا تغفل (وَمَنْ اسْتَنَّ) بالبناء للفاعل (سُنَّة سَيِّئَةً) أي فَعَلَ فعلًا قبيحًا (فَاسْتُنَّ بِهِ) بالبناء للمفعول (فَعَلَيْهِ وِزْره) أي إثم عمله (كَامِلًا، وَمنْ أَوْزَارِ الَّذِي اسْتَنَّ بِهِ) بالبناء للفاعل (وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِم شَيْئًا) والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عنه هذا صحيح. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (36/ 204) بهذا السند فقط، وهو من أفراده، لم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (2/ 520)، وفوائده تقدّمت في الحديث الماضي، فراجعها تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ¬

_ (¬1) "شرح السندي" 1/ 135.

وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أوّل الكتاب قال: 205 - (حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ المصْرِيُّ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سعدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أنس بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- أنهُ قَالَ: "أيما دَاعٍ دَعَا إِلَى ضَلَالة فَاتُّبعَ، فَإِنَّ لَهُ مِثْلَ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ، وَلَا يَنْقُصُ مِن أَوْزَارِهِم شَيْئًا، وَأيما دَاعٍ دَعَا إِلَى هُدًى فَاتُّبعَ، فَإِنَّ لَهُ مِثْلَ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئًا"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (عِيسَى بْنُ حَمَّاد المصرِيُّ) هو: عيسى بن حماد بن مسلم بن عبد الله التجيبيّ، أبو موسى، لقبه زُغْبَة -بضم الزاي، وسكون الغين المعجمة، بعدها موحّدة- وهو لقب أبيه أيضًا، ثقة [10]. رَوَى عن الليث بن سعد، وهو آخر من حَدّث عنه من الثقات، وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ورِشْدين بن سعد، وابن وهب، وابن القاسم، وجماعة. ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وعبد الرحمن بن عبد الله ابن عبد الحكم، وأبو حاتم، وعبدان الأهوازي، وأبو زرعة، وغيرهم. قال أبو حاتم: ثقة رَضِيّ، وقال أبو داود: لا بأس به. وقال النسائي: ثقة، وقال في موضع آخر: لا بأس به. وقال الدارقطني: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن يونس: جاوز في سنه التسعين، تُوفي في ذي الحجة سنة ثمان وأربعين ومائتين. وقال ابن حبان: مات سنة (9). وقال أبو عَمرو الْكِنْديّ في "الموالي": زُغْبَة لقب أبيه حماد، وزعم الشيرازي أنه لقب عيسى، والصواب الأول، ويؤيده أن الطبراني لمّا رَوَى عن أخيه أحمد، قال: ثنا أحمد بن حماد زُغْبة، وقال ابن قانع: عيسى زُغبة، وفي "الزهرة": رَوَى عنه مسلم تسعة أحاديث انتهى. وله في هذا الكتاب (12) حديثًا. 2 - (اللَّيْثُ بْنُ سَعدٍ) أبو الحارث الفهميّ المصريّ الإمام الثبت الحجة [7] 2/ 15.

3 - (يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ) واسمه سُوَيد الأزدي مولاهم، وقيل: غير ذلك في ولائه، أبو رَجَاء المصريّ، ثقة فقيه، يُرسل [5]. رَوَى عن عبد الله بن الحارث بن جَزْء الزُّبيدي، وأبي الطفيل، وأسلم بن يزيد أبي عمران، وإبراهيم بن عبد الله بن حُنين، وخَيْر بن نُعيم الحضرمي، وسويد بن قيس التجيبي، وعطاء بن أبي رباح، وعِراك بن مالك، وغيرهم. وروى عنه سليمان التيميّ، ومحمد بن إسحاق، وعمرو بن الحارث، وابنُ لَهيعة، والليث بن سعد، ويحيى بن أيوب، وآخرون. قال أبو سعيد بن يونس: كان مفتي أهل مصر في زمانه، وكان حليمًا عاقلًا، وكان أول من أظهر العلم بمصر، والكلام في الحلال والحرام، ومسائلَ. وقال الليث: يزيد ابن أبي حبيب سيدنا وعالمنا. وقال الآجري عن أبي داود: لم يَسمع من الزهريّ. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن يزيد بن أبي حبيب وموسى الجهنِيّ أيهما أحب إليك؟ فقال: يزيد، قال: وسئل أبو زرعة عن يزيد؟ فقال: مصريّ ثقة. وقال العجلي: مصري تابعي ثقة. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: يزيد بن أبي حبيب، عن عقبة بن عامر مرسل. وقال الليث: ثنا يزيد بن أبي حبيب وعبد الله بن أبي جعفر، وهما جَوْهرِيّا البلد. وقال ابن وهب: لو جُعلا في ميزان ما رَجَحَ أحدهما على الآخر. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سعد: كان ثقةً، كثير الحديث، مات سنة ثمان وعشرين ومائة، وقال غيره: بَلَغَ زيادةً على خمس وسبعين سنة، وفيها أَرّخه ابن يونس، وقال رَوَى عنه الأكابر من أهل مصر، ثم رَوَى عن ابن لَهيعة أنه وُلد سنة ثلاث وخمسين. وقال البخاري: قال يحيى بن بكير: هو ابن قيس، ويقال: سُوَيد، وله أخ اسمه خَليفة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (43) حديثًا. 4 - (سعدُ بْنُ سِنَانٍ) ويقال: سنان بن سعد الكنديّ، المصريّ، وصوّب الثاني البخاري، وابن يونس، صدوقٌ له أفراد [5]. رَوَى عن أنس، وعنه يزيد بن أبي حبيب وحده، فالليث بن سعد يقول: عن

يزيد، عن سعد بن سنان، وعمرو بن الحارث، وابن لهيعة يقولان: عن يزيد، عن سنان ابن سعد، ورَوَى ابن إسحاق عن يزيد عنه أحاديث، سَمّاه في بعضها سعد بن سنان، وفي بعضها سنان بن سعد، وفي بعضها سعيد بن سنان. وقال ابن حبان في "الثقات" حَدّث عنه المصريون، وأرجو أن يكون الصحيح سنان بن سعد، وقد اعتبرت حديثه، فرأيت ما رُوي عن سنان بن سعد يشبه أحاديث الثقات، وما رُوي عن سعد بن سنان، وسعيد بن سنان فيه المناكير، كأنهما، اثنان، وقال محمد بن علي الورّاق، عن أحمد بن حنبل: لم أكتب أحاديث سنان بن سعد؛ لأنهم اضطربوا فيها، فقال بعضهم: سعد بن سنان، وبعضهم سنان بن سعد. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: تركت حديثه، لأنه مضطربٌ غير محفوظ، قال: وسمعته مرة أخرى يقول: يُشبه حديثه حديث الحسن، لا يشبه حديث أنس. وقال ابن أبي خيثمة: سألت ابن معين عن سعد بن سنان الذي رَوَى عنه يزيد بن أبي حبيب، فقال: ثقة. وقال أبو داود: قلت لأحمد بن صالح: سنان بن سعد سَمِع أنسًا؟ فغضب من إجلاله له. وقال الجُوزَجاني: سعد بن سنان أحاديثه واهية. وقال النسائي: منكر الحديث. وقال ابن سعد: سنان بن سعد، منكر الحديث. وقال البخاري: سنان بن سعد، وعنه أحمد ابن حنبل، وحكى البخاري الخلاف في اسمه، ثم قال: والصحيح عندي سنان بن سعد، وهو صالح، مقارب الحديث، وسعد بن سنان خطأ، إنما قاله الليث، ولذلك ذكره البخاريّ فيمن اسمه "سنان" من "تاريخه الكبير"، وكذا صوب ابن يونس كونه سنان بن سعد، وذكر أن محمد بن يزيد بن أبي زياد الثقفي رَوَى عنه أيضًا. وقال ابن معين: سمع عبدُ الله بن يزيد من سنان بن سعد بعدما اختلط. وقال أبو أحمد بن عديّ: وهذه الأحاديث يحمل بعضها بعضًا، وليست هذه الأحاديث مما يجب أن يُترك أصلًا. وقال العجلي: مصريّ تابعيّ ثقة. قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن قوله في "التقريب": صدوق له أفراد،

مسلم، فما اعترض به الدكتور بشار فيما كتبه على هامش "تهذيب التهذيب" 10/ 268 وفي "كتابه الآخر" تحرير التقريب 2/ 16 من تضعيفه متعقّبًا على الحافظ ليس مقبولًا؛ لأنه وإن ضعفه بعضهم، كأحمد وغيره، فقد وثقه ابن معين، والعجليّ، وابن حبّان، وقواه البخاريّ، وقال: صالح، مقارب الحديث، وابن عديّ، فمثل هذا لا يُطلق عليه لفظ الضعيف، فأقلّ أحواله أن يكون حسن الحديث، فتأمّله بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. أخرج له أبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط برقم 205 و 273 و 1596 و 1808 و 3987 و4031 و 4056 و 4214. 5 - (أنس بْنُ مَالك) الصحابي الشهير -رضي الله عنه- 3/ 24. والله تعالى أعلم. وشرح الحديث واضح يُعلم مما سبق، وكذا فوائده. وقوله: "فاتّبع" بتشديد التاء المضمومة، مبنيّا للمفعول، افتعال، من تَبعَ، أي اقتُدي به في ذلك. وقوله: "من اتّبعه" بتشديد التاء المفتوحة، مبنيّا للفاعل. مسألتان تتعلقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أنس - رضي الله عنه - هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي سنده سعد بن سنان، وقد اختُلف فيه؟ [قلت]: سعد بن سنان، سبق أن قلنا: إنه حسن الحديث، وحديثه هذا يشهد له حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- الآتي بعده، فتبصّر. والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (36/ 205) فقط، وهو من أفراده، فلم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره. [تنبيه]: قال البوصيريّ رحمه الله: هذا إسناد ضعيف، لضعف سعد بن سنان،

وله شاهد من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- رواه ابن ماجه، والترمذيّ، وقال: حديث حسنٌ صحيح. انتهى. قال الجامع عفا الله عنه: قد عرفت الكلام في سعد بن سنان فيما أسلفته آنفًا، فلا تغفل، وأشار بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- الآتي بعد هذا، وقد أخرجه الترمذيّ من حديث أنس -رضي الله عنه- أيضًا من طريق ليث بن أبي سُليم، عن بشر، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من داع دعا إلى شيء إلا كان موقوفًا يوم القيامة، لازمًا به لا يفارقه، وإن دعا رجل رجلًا، ثم قرأ قول الله - عز وجل -: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} [الصافات: 24 - 25]، قال أبو عيسى: هذا حديث غريب. انتهى. وليث متروك الحديث، وبشر لا يُعرف، كما قال الذهبيّ. وأخرجه أحمد في مسنده من طريق عبيد الله بن موهب، عن مالك بن محمد بن حارثة الأنصاري، أن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من رجل يُنعِش لسانه حقًّا يُعمَل به بعده، إلا أجرى الله عليه أجره إلى يوم القيامة، ثم وفاه الله - عز وجل - ثوابه يوم القيامة". وهو حديث ضعيف؛ لأن في سنده عبيد الله قال الشافعيّ، وأحمد بن حنبل: لا يُعرف، وقال ابن القطان: مجهول الحال، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 206 - (حَدَّثَنَا أبو مَرْوَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عُثمانَ الْعُثماني، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرحمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ دَعَا إِلى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِن أُجُورِهِم شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، فَعَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ اتَّبَعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهم شَيْئًا"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (أبو مَرْوَانَ مُحَمدُ بْنُ عُثمانَ الْعُثْماني) الأمويّ المدنيّ، نزيل مكة، صدوقٌ

يُخطىء [10] 2/ 14. 2 - (عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِم) سلمة بن دينار المدنيّ، صدوقٌ فقيهٌ [8]، 35/ 197. 3 - (الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرحمَنِ) بن يعقوب الحُرَقي -بضم المهملة، وفتح الراء، بعدها قاف- أبو شِبْل -بكسر المعجمة، وسكون الموحّدة- المدنيّ، مولى الحُرَقة، من جهينة، صدوق ربما وَهِمَ [5]. رَوَى عن أبيه، وابن عمر، وأنس، وأبي السائب مولى هشام بن زهرة، ونعيم المجمر، وسعد بن كعب بن مالك، وعباس بن سهل لن سعد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وغيرهم. ورَوَى عنه ابنه شِبْل، وابن جريج، وعبيد الله بن عمر، وابن إسحاق، ومالك، ومحمد بن عجلان، ورَوْح بن القاسم، وحفص بن ميسرة، والدّرَاوردي، وابن أبي حازم، وشعبة، والسفيانان، ومحمد وإسماعيل ابنا جعفر بن أبي كثير، وآخرون. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة، لم أسمع أحدًا ذكره بسوء، قال: وسألت أبي عن العلاء وسهيل؟ فقال: العلاء فوق سهيل، وكذا قال حرب عن أحمد، وزاد: وفوق محمد بن عمرو. وقال الدُّوري عن ابن معين: ليس حديثه بحجة، وهو وسهيل قريب من السواء. وقال اين أبي خيثمة عن ابن معين: ليس بذاك، لم يزل الناس يتوقون حديثه. وقال أبو زرعة: ليس هو بأقوى ما يكون. وقال أبو حاتم: صالحٌ، رَوَى عنه الثقات، ولكنه أُنكر من حديثه أشياء، وهو عندي أشبه من العلاء بن المسيب. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عدي: وللعلاء نُسَخٌ يرويها عنه الثقات، وما أَرى به بأسًا. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سعد: قال محمد بن عمر: صحيفة العلاء بالمدينة مشهورة، وكان ثقة، كثير الحديث، وتُوفي في أول خلافة أبي جعفر.

وقال أبو داود: سُهيل أعلى عندنا من العلاء، أَنكروا على العلاء صيام شعبان -يعني حديث "إذا انتصف شعبان، فلا تصوموا". وقال عثمان الدارمي: سألت ابن معين عن العلاء وابنه، كيف حديثهما؟ قال: ليس به بأس، قلت: هو أحب إليك، أو سعيد المقبري؟ قال: سعيد أوثق، والعلاء ضعيف -يعني بالنسبه إليه، يعني: كأنه لمّا قال: أوثق خَشِي أنه يَظُنّ أنه يشاركه في هذه الصفة، فقال: إنه ضعيف. وقال البخاري: قال عليّ: مات سنة (32)، وقال ابن الأثير: مات سنة (39)، وقال الخليلي: مدني مختلف فيه؛ لأنه ينفرد بأحاديث، لا يُتابَع عليها، لحديثه: "إذا كان النصف من شعبان فلا تصوموا"، وقد أخرج له مسلم من حديث المشاهير دون الشواذّ، وقال الترمذي: هو ثقة عند أهل الحديث. أخرج له البخاريّ، في "جزء القراءة"، والباقون، وله في هذا الكتاب (19) حديثًا. 4 - (أبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الجُهَنيّ، مولى الحُرَقَة، ثقة [3]. رَوَى عن أبيه، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وابن عباس، وابن عمر، وهانئ مولى علي، وغيرهم. ورَوَى عنه ابنه العلاء، وسالم أبو النضر، ومحمد بن إبراهيم التيمي، ومحمد بن عجلان، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وعمر بن حفص بن ذكوان. قال ابن أبي حاتم: قلت لأبي: هو أوثق، أو المسيب بن رافع؟ فقال: ما أقربهما. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن المديني مع الأعرج وغيره من أصحاب أبي هريرة. وقال العجلي: تابعي ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". أخرج له البخاريّ في "جزء القراءة"، والباقون"، وله في هذا الكتاب (18) حديثًا. 5 - (أبو هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- 1/ 1، وشرح الحديث وفوائده، تُعلم مما سبق، وفيه

مسألتان تتعلّقان به: (المسألة الأولى) في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا أخرجه مسلم. (المسألة الثاني): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (36/ 206) بهذا السند فقط، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (2/ 397) و (الدارميّ) في "سننه" (519) و (مسلم) (8/ 62) و (أبو داود) (4609) و (الترمذيّ) (2674) و (ابن حبان) في "صحيحه" (112) و (البغويّ) في "شرح السنّة" (109)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 207 - (حَدَثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحيَى، حَدَّثَنَا أبو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا أبو إِسْرَائِيلَ، عَنْ الحكَمِ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعُمِلَ بِها بَعدَهُ، كَانَ لَهُ أَجْرُهُ، وَمثْلُ أُجُورِهِم، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئًا، وَمَنْ سَنَّ سُنّة سَيِّئَةً، فَعُمِلَ بِها بَعدَهُ، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهُ، وَمثْلُ أَوْزَارِهم، مِنْ غيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوزَارِهِمْ شَيْئا). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (مُحمَّدُ بْنُ يَحيَى) الذهليّ الحافظ المذكور في الباب الماضي. 2 - (أبو نُعَيْمٍ) الفضل بن دُكَين، واسم أبيه عمرو بن حَمّاد بن زُهير بن درهم التيميّ مولى آل طلحة، الأحول الملائيّ -بضم الميم- مشهور بكنيته، ثقة ثبتٌ [9]. رَوَى عن الأعمش، وأيمن بن نابل، وسلمة بن وَردان وسلصة بن نُبيط، ويونس ابن أبي إسحاق، وفطر بن خليفة، ومصعب بن سليم، وخلق كثير. ورَوَى عنه البخاري فأكثر، وروى هو والباقون له بواسطة يوسف بن موسى القطان، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وأبي خيثية، وأبي بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، وهارون بن عبد الله الحمال، وأحمد بن منيع، وخلق كثير.

قال محمد بن سليمان الباغندي: سمعت أبا نعيم يقول: أنا الفضل بن عمرو بن حماد الطلحيّ، ودُكَين لَقَبٌ، وقيل: إن رجلا قال لأبي نعيم: كان اسم أبيك دُكَينًا؟ قال: كان اسم أبي عَمرًا ولكنه لَقّبه فَرْوة الجعفي دُكينا. وقال حنبل بن إسحاق: قال أبو نعيم: كتبت عن نيف ومائة شيخ، ممن كتب عنه سفيان. وقال الفضل بن زياد الجعفي عن أبي نعيم: شاركت الثوري في ثلاثة عشر ومائة شيخ. وقال أبو عوف البُزُوريّ عن أبي نعيم: قال لي سفيان مرة، وسألته عن شيء: أنت لا تبصر النجوم بالنهار، فقلت: وأنت لا تبصرها كلها بالليل، فضحك. وقال صالح بن أحمد: قلت لأبي: وكيع وعبد الرحمن بن مهدي ويزيد بن هارون، أين يقع أبو نعيم من هؤلاء؟ قال على النصف، إلا أنه كَيِّس يتحرى الصدق، قلت: فأبو نعيم أثبت أو وكيع؟ قال: أبو نعيم أقل خطأ، قلت: فأيما أحب إليك أبو نعيم أو ابن مهدي؟ قال: ما فيهما إلا ثَبْتٌ، إلا أن عبد الرحمن كان له فهم. وقال حنبل عن أحمد: أبو نعيم أعلم بالشيوخ وأنسابهم وبالرجال، ووكيع أفقه. وقال يعقوب بن شيبة: أبو نعيم ثقة ثبت صدوق، سمعت أحمد بن حنبل يقول: أبو نعيم يُزاحَمُ به ابنُ عيينة، فقال له رجل: وأيُّ شيء عند أبي نعيم من الحديث؟ ووكيع أكثر رواية، فقال: هو على قلة روايته أثبت من وكيع. وعن أبي زرعة الدمشقي عن أحمد مثله. وقال الفضل بن زياد: قلت لأحمد: يجري عندك ابن فُضيل مجرى عبيد الله بن موسى؟ قال: لا، كان ابن فضيل أثبت، فقلت: وأبو نعيم يَجري مجراهما؟ قال: لا، أبو نعيم يقظان في الحديث، وقام في الأمر -يعني في الامتحان-. وقال المروذي عن أحمد: يحيى وعبد الرحمن، وأبو نعيم الحجة الثبت، كان أبو نعيم ثَبْتًا، وقال أيضًا عن أحمد: وإنما ورَفَعَ الله عفانَ وأبا نعيم بالصدق، حتى نُوِّه بذكرهما. وقال مُهنَّا: سألت أحمد عن عفان وأبي نعيم؟ فقال: هما الْعَقْدة، وفي رواية ذهبا مَحمُودَين. وقال زياد بن أيوب عن أحمد: أبو نعيم أقل خطأ من وكيع. وقال عبد الصمد بن سليمان البلخي: سمعت أحمد يقول: ما رأيت أحفظ من

وكيع، وكفاك بعبد الرحمن إتقانًا، وما رأيت أشد ثبتًا في الرجال من يحيى، وأبو نعيم أهل الأربعة خطأ، قلت: يا أبا عبد الله يُعطَى فيأخذ، فقال: أبو نعيم صدوق ثقة، موضعٌ للحجة في الحديث. وقال الميموني عن أحمد: ثقةٌ، كان يقظان في الحديث، عارفًا به، ثم قام في أمر الامتحان ما لم يقم غيره، عافاه الله، وأثنى عليه. وقال أحمد بن الحسن الترمذي: سمعت أحمد يقول: إذا مات أبو نعيم صار كتابه إمامًا، إذا اختلف الناس في شيء فَزِعُوا إليه. وقال أبو داود عن أحمد: كان يُعرَف في حديثه الصدق. وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا عبدوس بن كامل قال: كنا عند أبي نعيم في ربيع الأول سنة سبع عشرة، فذكروا رؤيا رآها، فأوّلها أنه يعيش بعد ذلك يومين ونصفًا، أو شهرين ونصفًا، أو عامين ونصفًا، قال: فعاش بعد الرؤيا ثلاثين شهرًا، ومات لانسلاخ شعبان في سنة تسع عشرة، قال ابن سعد: وكان ثقةً مأمونًا، كثير الحديث حجةً. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (20) حديثًا. 3 - (أبُو إِسرائيلَ) بن أبي إسحاق، هو إسماعيل بن خَلِيفة الْعَبسيّ -بالموحّدة- المُلائيّ الكوفيّ، معروف بكنيته، وقيل: اسمه عبد العزيز، صدوقٌ، سيّىء الحفظ، نُسِب إلى الْغُلُوّ في التشيّع [7]. وَوَى عن الحكم بن عتيبة، وفُضيل بن عمرو الْفُقَيميّ، وإسماعيل السُّدّي، وعطية الْعَوْفي، وأبي عمر الْبَهْراني، وغيرهم. ورَوَى عنه الثوري، وهو من أقرانه، وأبو أحمد الزُّبيري، ووكيع، وأبو نعيم، وإسماعيل بن صَبِيح اليشكري، وأبو الوليد الطيالسي، وغيرهم. قال الأثرم عن أحمد: يكتب حديثه، وقد رَوَى حديثا منكرًا في القتل، وقال أحمد أيضًا، خالف الناس في أحاديث. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: صالح الحديث، وقال في رواية معاوية بن صالح:، وقال في موضع آخر: أصحاب الحديث لا يكتبون حديثه. وقال ابن المثنى: ما سمعت عبد الرحمن حَدّث عنه شيئًا قط.

وقال عمرو بن علي: ليس من أهل الكذب، قال: وسألت عبد الرحمن عن حديثه؟ فأبى أن يُحدّثني به، وقال: كان يشتم عثمان. وقال البخاري: تركه ابن مهدي، وقال أيضًا: يضعفه أبو الوليد. وقال أبو زرعة: صدوق إلا أن في رأيه غُلُوا. وقال أبو حاتم: حسن الحديث، جَيِّد اللقاء، وله أغاليط، لا يحتج بحديثه، ويكتب حديثه، وهو سيء الحفظ. وقال ابن المبارك: لقد مَنّ الله على المسلمين بسوء حفظ أبي إسرائيل. وقال الجوزجاني: مُفْتَرٍ زائغ. وقال النسائي: ليس بثقة، وقال مرّةً: ضعيف، وقال الْعُقيليّ: في حديثه وهم، واضطراب، وله مع ذلك مذهب سوء. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه يخالف الثقات، وهو في جملة من يُكتَب حديثه. وقال الترمذي: ليس بالقوي عند أصحاب الحديث. وقال ابن سعد: يقولون: إنه صدوق. وقال حسين الجعفي: كان طويل اللحية أحمق. وقال أبو داود: لم يكن يكذب، حديثه ليس من حديث الشيعة، وليس فيه نَكَارة. وقال أبو أحمد الحاكم: متروك الحديث. وقال ابن حبان: في "الضعفاء". وُلد بعد الجماجم بسنة، وكانت الجماجم سنة (83)، ومات وقد قارب الثمانين، رَوَى عنه أهل العراق، وكان رافضيًّا شتّامًا، وهو مع ذلك منكر الحديث، حَمَل عليه أبو الوليد الطيالسي حملًا شديدًا. وقال الْعُقيليّ: حديث: "وُجِد قتيل بين قريتين" ليس له أصل، وما جاء به غيره. قال مطين: مات سنة (169). تفرّد به الترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذه (207) وحديث (715) "أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أثوّب في "الفجر ... "، وحديث (2883) "من أراد الحجّ، فليتعجّل ... "، وحديث (3399) "ينبذ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ... ". [تنبيه]: وقع في النسخ الموجودة لديّ في هذا السند غلط، وهو قوله: "حدّثنا

إسرائيل"، والصواب "حدثنا أبو إسرائيل" (¬1)، والتصويب من "تحفة الأشراف" 9/ 97، وبسبب هذا الغلط ذكر أصحاب برنامج الحديث هذا الحديث في ترجمة "إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ"، وهو غلط فاحشٌ، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم. 4 - (الحكَمُ) بن عُتيبة، أبو محمد الكنديّ الكوفيّ، ثقة ثبتٌ فقيه، ربما دلّس [5] 5/ 38. 5 - (أبو جُحَيْفة) وهب بن عبد الله السُّؤائيّ، مشهور بكنيته الصحابيّ المعروف بوهب الخير -رضي الله عنه- 11/ 100. قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي جُحيفة -رضي الله عنه- هذا، وإن كان في سنده أبو إسرائيل العبسيّ، وقد عرفت كلام الأئمة فيه، إلا أنه صحيح بشواهده، فقد تقدّم بمعناه حديث أنس، وأبي هريرة، وجرير بن عبد الله -رضي الله عنه-، وهو من أفراد المصنّف، وشرحه، وفوائده تقدّمت قريبًا، وقوله: "فعُمل بها" بالبناء للمفعول في الموضعين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 208 - (حَدَّثَنَا أبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبةَ، حَدَّثَنَا أبو مُعَاوِيَةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ بَشيِر بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ دَاعٍ يَدعُو إِلَى شَيْءٍ، إِلَّا وُقِفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَازِمًا لِدَعوتهِ مَا دَعَا إِلَيْهِ، وَإِنْ دَعَاَ رَجُلٌ رَجُلًا"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (أبو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبة) هو عبد الله بن محمد الكوفيّ، ثقة حافظ [10] 1/ 1. 2 - (أبو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة حافظ، من كبار [9] 1/ 3. 3 - (لَيْثٌ) بن أبي سُليم بن زُنيم -بالزاي والنون، مصغرًا- القرشيّ مولاهم، ¬

_ (¬1) قد صوب الدكتور بشار، والشيخ علي حسن نسختهما.

أبو بكر، ويقال: أبو بُكير الكوفيّ، واسم أبيه أيمن، ويقال: أنس، ويقال: زياد، ويقال: عيسى، صدوق، اختلط أخيرًا، ولم يتميّز حديثه، فتُرك [6]. رَوَى عن طاوس، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، ونافع، وأبي إسحاق السبيعي، وغيرهم. ورَوَى عنه الثوري، والحسن بن صالح، وشعبة بن الحجاج، وجرير بن عبد الحميد، وعبد الواحد بن زياد، وزائدة بن قدامة، وشريك، وغيرهم. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: مضطرب الحديث، وقال أيضًا: ما رأيت يحيى بن سعيد أسوأ رأيًا منه في ليث بن أبي سليم، وابن إسحاق، وهمام، لا يستطيع أحد أن يراجعه فيهم. وقال عثمان بن أبي شيبة: سألت جريرًا عن ليث، ويزيد بن أبي زياد، وعطاء بن السائب، فقال: كان يزيد أحسنهم استقامةً، ثم عطاء، وكان ليث أكثر تخليطًا، قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن هذا، فقال: أقول كما قال. وقال أحمد بن سنان عن ابن مهدي: ليث أحسنهم حالًا عندي. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه قال: ليث أحب إلي من يزيد، كان أبرأ ساحةً، يُكتب حديثه، وكان ضعيف الحديث، قال: فذكرت له قول جرير، فقال: أقول كما قال. قال: قلت ليحيى بن معين: ليث أضعف من يزيد وعطاء؟ قال: نعم. وقال معاوية بن صالح عن ابن معين: ضعيف، إلا أنه يُكتب حديثه. وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري عن يحيى بن معين: كان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه، وكذا قال عمرو بن علي، وابن المثنى، وعلي بن المديني، وزاد عن يحيى: مجالدٌ أحب إلي من ليث، وحجاج بن أرطاة. وقال أبو معمر الْقَطِيعي: كان ابن عيينة يضعف ليث بن أبي سليم. وقال عبد الملك بن عبد الحميد الميموني عن ابن معين: كان ليث ضعيف الحديث عن طاوس، فإذا جمع إلى طاوس غيره، فالزيادة ضعيف. وقال علي بن محمد: سألت وكيعًا عن حديث من حديث ليث، فقال: ليث ليثٌ، كان سفيان لا يسمي ليثًا. وقال مؤمل بن الفضل: قلنا لعيسى بن يونس: لم لم تسمع من ليث؟ قال:

قد رأيته، وكان قد اختلط، وكان يَصْعَدُ المنارة ارتفاع النهار فيؤذّن. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي وأبا زرعة يقولان: ليث لا يُشتَغل به، هو مضطرب الحديث. قال: وقال أبو زرعة: ليث بن أبي سليم بين الحديث، لا تقوم به الحجة عند أهل العلم بالحديث، قال: وسمعت أبي يقول: ليث عن طاوس أحب إليّ من سَلَمة بن وَهْرَام عن طاوس، قلت: أليس تكلموا في ليث؟ قال: ليث أشهر من سلمة، ولا نَعلم رَوَى عن سلمة إلا ابن عيينة وزمعة. وقال الآجري عن أبي داود، عن أحمد بن يونس، عن فضيل بن عياض: كان ليث أعلم أهل الكوفة بالمناسك. قال أبو داود: وسألت يحيى عن ليث، فقال: لا بأس به، قال: وعامة شيوخه لا يعرفون. وقال ابن عديّ: له أحاديث صالحة، وقد رَوَى عنه شعبة والثوري، ومع الضعف الذي فيه يُكتَب حديثه. وقال الْبَرْقاني: سألت الدارقطني عنه، فقال: صاحب سنة يُخَرَّج حديثه، ثم قال: إنما أنكروا عليه الجمع بين عطاء وطاووس ومجاهد حسب. وقال ابن سعد؛ كان رجلًا صالحًا عابدًا، وكان ضعيفًا في الحديث، يقال: كان يَسأل عطاءً وطاووسًا ومجاهدًا عن الشيء، فيختلفون فيه، فيروي أنهم اتفقوا من غير تعمد. وقال ابن حبان: اختلط في آخر عمره، فكان يقلب الأسانيد، ويرفع المراسيل، ويأتي عن الثقات بما ليس من حديثهم، تركه القطان، وابن مهدي، وابن معين، وأحمد، كذا قال. وقال الترمذي في "العلل الكبير": قال محمد: كان أحمد يقول: ليث لا يُفرَح بحديثه، قال محمد: وليث صدوق يَهِم. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالقوي عندهم. وقال الحاكم أبو عبد الله: مجمع على سوء حفظه. وقال الجوزجاني: يُضَعَّف حديثه. وقال البزار: كان أحد العباد، إلا أنه أصابه اختلاط، فاضطرب حديثه، وإنما تكلم فيه أهل العلم بهذا، وإلا فلا نعلم أحدًا ترك حديثه. وقال يعقوب بن شيبة: هو صدوق، ضعيف الحديث. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: ليث صدوق، ولكن ليس بحجة. وقال الساجي: صدوق، فيه ضعف، كان سيء الحفظ، كثير الغلط، كان يحيى القطان بآخره لا يحدث

عنه. وقال ابن معين: منكر الحديث، وكان صاحب سنة، روى عنه الناس ... إلى أن قال الساجي: وكان أبو داود لا يُدخِل حديثه في كتاب "السنن" الذي صنّفه. قال الحافظ: كذا قال، وحديثه ثابت في "السنن"، لكنه قليل، والله أعلم. قال الحضرمي: مات سنة (148)، وقال ابن منجويه: مات سنة (143)، وقال البخاري: قال عبد الله بن أبي الأسود: مات ليث بعد الأربعين، سنة إحدى أو اثنتين. استشهد به البخاريّ في "الصحيح"، وأخرج له في "جزء رفع اليدين"، وروى له مسلم مقرونًا بأبي إسحاق الشيبانيّ، وأخرج له الباقون، وله في هذا الكتاب (25) حديثًا. 4 - (بَشِير بْنُ نَهِيكٍ) -بفتح النون، وكسر الهاء، آخره كاف- السدوسيّ، ويقال: السَّلُوليّ، أبو الشعثاء البصريّ، ثقة [3]. رَوَى عن بَشِير بن الخصاصية، وأبي هريرة، وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، وأبو مِجْلَز، وعبد الملك بن عبيد، وخالد بن سُمير، والنضر بن أنس بن مالك، وغيرهم. قال العجلي، والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: لا يحتج بحديثه. وذكره خليفة بن خياط في الطبقة الثانية من قراء البصرة. ونقل صاحب "الكمال" عن أبي حاتم قال: تركه يحيى القطان، وهذا وَهمٌ وتصحيف، وإنما قال أبو حاتم: روى عنه النضر بن أنس، وأبو مِجْلَز وبركة، ويحيى بن سعيد، فقوله: وبَرَكَة -هو بالباء الموحدة- وهو أبو الوليد المجاشعي، وقال يحيى القطان عن عمران بن حُدير، عن أبي مِجْلز، عن بَشِير بن نَهِيك قال: أتيت أبا هريرة بكتابي الذي كتبت عنه، فقرأته عليه، فقلت: هذا سمعته منك؟، قال: نعم. وقال ابن سعد: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، ونقل الترمذي في "العلل" عن البخاري أنه قال: لم يذكر سماعًا من أبي هريرة، وهو مودود بما تقدم. وقال الأثرم عن أحمد: ثقة، قلت له: روى عنه النضر بن أنس، وأبو مجلز، وبَرَكة؟ قال: نعم.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط برقم (208) وحديث (1271) "استَسْقَى حتى رأيت ... "، وحديث (1568) "فمر على مقابر المسلمين ... "، وحديث (1969) "من كانت له امرأتان ... "، وحديث (2527) "من أعتَقَ نصيبًا له في مملوك ... ". 5 - (أبو هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- 1/ 1، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: مَا) نافية (مِنْ) زائدة (دَاعٍ) مبتدأ خبره قوله: "إلا وُقف إلخ"، وجملة (يَدعُو إِلَى شَيْءٍ) صفة لـ "داع" (إِلَّا وُقِفَ) بالبناء للمفعول، لأنه من وقَفَ المتعدي، ومنه قوله - عز وجل -: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24] (يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَازِمًا لِدَعوتهِ) حال من ضمير الداعي، أي حال كونه لازمًا لدعوته التي كان يدعوا إليها، غير مفارق لها، أو هو صفة لمصدر مقدّر، أي وقفًا لازمًا لأجل دعوته (مَا دَعَا إِلَيْهِ) "ما" مصدريّة ظرفيّة، أي مدة دعوته، قلّت أو كثرت، كما يشير إليه قوله (وَإِنْ دَعَا رَجُلٌ رَجُلًا) أي واحدًا. والله تعالى أعلم. قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي هريرة هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، وهو ضعيف، لضعف ليث بن أبي سُليم، كما سبق في ترجمه، وقال البوصيريّ رحمه الله في "مصباح الزجاجة": هذا إسناد ضعيف، ليث بن أبي سُليم ضعّفه الجمهور، انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

37 - باب من أحيا سنة قد أميتت

37 - (بابُ من أحيا سُنّةً قد أُميتت) وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 209 - (حَدَثَنَا أبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبةَ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الحُبَابِ، حَدَثَنَا كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ عَمرِو بْنِ عَوْفٍ المُزَنِيُّ، حَدَّثَني أَبِي، عَنْ جَدِّي، أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ أَحيَا سُنّة مِنْ سُنَّتِي، فَعَمِلَ بِها النَّاسُ، كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِها، لَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهم شَيْئًا، وَمَنْ ابْتَدَع بِدْعَةً، فَعُمِلَ بِها كَانَ عَلَيْهِ أَوْزَارُ مَنْ عَمِلَ بِها، لَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِ مَنْ عَمِلَ بِها شَيْئًا". رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (أبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبةَ) المذكور في السند السابق. 2 - (زَيْدُ بْنُ الحباب) أبو الحسين الْعُكْلي الكوفيّ، خراسانيّ الأصل، صدوق يُخطىء في حديث الثوريّ [9] 2/ 12. 3 - (كثِيرُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ عَمرِو بْنِ عَوْفٍ المُزَنِيُّ) المدنيّ، ضعيف [7] 32/ 165. 4 - (أبوه) عبد الله بن عمرو بن عوف المزنيّ المدنيّ، مقبول [3] 32/ 165. 5 - (جَدُّهُ) عمرو بن عوف بن زيد بن مِلْحَةَ، أبو عبد الله المزنيّ الصحابيّ -رضي الله عنه-، مات في خلافة معاوية -رضي الله عنه- 32/ 165، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: عن عمرو بن عوف المزنيّ -رضي الله عنه- (أن رَسُولَ الله -رضي الله عنه- قَالَ: مَنْ أَحيَا سُنَّةً) قيل: المراد بالسنّة هنا ما وضعه رسول الله -رضي الله عنه- من الأحكام، وهي قد تكون فرضا، كزكاة الفطر، وغير فرض، كصلاة العيد، ونحو ذلك (مِنْ سُنَّتِي) مفرد مضاف، فيعمّ كلّ سنته، فما قيل: كان النظر يقتضي أن يقول: "من سنني" بصيغة الجمع، فمما لا يُلتفت إليه (فَعَمِلَ) بالبناء للفاعل (بِها) أي بتلك السنة (الناسُ) مرفوع على الفاعليّة (كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِها) ببناء الفعل للفاعل أيضًا (لَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئًا، وَمَنْ ابْتَدَع بدعَةً) هي ما لا يوافق أصول الشرع، كما سبق التنبيه عليه (فَعُمِلَ بِها) ببناء الفعل للمفعول، أي

عمل الناس بتلك البدعة، وقال السنديّ: ولم يقل: فعَمِل بها الناس، كما قال في السنّة؛ إشارةً إلى أنه ليس من شأن الناس العمل بالبدع، وإنما من شأنهم العمل بالسنن، فالعامل بالبدعة لا يُعَدّ من الناس، ويحتمل على بُعْد أن يكون "عَمِلَ" على بناء الفاعل، وفيه ضمير "الناس"، وأفرده لإفراد الناس لفظًا. انتهى. قال الجامع عفا الله عنه: فيما قاله السنديّ نظر، لا يخفى، أما قوله: "ولم يقل: فعمل بها الناس" فإنه يردّه قوله في الحديث التالي: "فإن عليه إثم من عمِلَ بها من الناس"، وأما قوله: "ويحتمل إلخ"، ففيه تعسّفٌ ظاهر، والله تعالى أعلم. (كَانَ عَلَيْهِ أَوزَارُ مَنْ عَمِلَ بِها، لَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِ مَنْ عَمِلَ بِها شَيْئًا) قد تقدّم الكلام مستوفى على هذا فيما مضى، فراجعه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: هذا الحديث إسناده ضعيف جدًّا؛ لأن كثير بن عبد الله ضعفه الجمهور، بل نسبه الشافعيّ، وأبو داود إلى الكذب، وقال ابن عديّ: عامّة ما يرويه لا يُتابع عليه، وقال ابن حبّان: روى عن أبيه، عن جدّه نسخةً موضوعةً لا يحلّ ذكرها في الكتب، ولا الرواية عنه إلا على وجه التعجّب، وأبوه عبد الله بن عمرو لم يرو عنه غير ابنه كثير هذا، فهو مجهول عين، ولذا قال في "التقريب": مقبول، أي حيث يُتابع، وإلا فهو ليّن الحديث. وأما متن الحديث، فإنه صحيح؛ لأن له شواهد كثرة، وقد سبق بعضها في الباب الماضي، ولذا حسّنه الترمذيّ رحمه الله. والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجة (المصنّف) هنا (337/ 209) بهذا السند، وأعاده بعده (37/ 210) بالسند الآتي، وأخرجه (عبد بن حميد) (289) و (الترمذيّ) (2677)، والله تعالى أعلم

بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 210 - (حَدَّثَنَا مُحمَدُ بْنُ يَحيَى، حَدَّثَنَا إِسماعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَني كثِيرُ بْنُ عَبْدِ الله، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ أَحيَا سُنّة مِنْ سُنَّتِي، قَدْ أُمِيَتَتْ بَعدِي، فَإِنَّ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بها مِنْ النَّاسِ، لَا يَنْقُصْ أجُورِ النَّاسِ شَيْئًا، وَمَنْ ابْتَدَعَ بِدعَةً، لَا يرضَاها الله وَرَسُوَله فَإِنَّ عَلَيْهِ مِثْلَ إِثْمِ مَنْ عَمِلَ بِها مِنْ النَّاسِ، لَا يَنْقُصُ مِنْ آثَامِ النَّاسِ شَيْئًا"). رجال هذا الإسناد: خمسة، كلهم تقدّموا، غير: 1 - (محمد بن يحيى) الذهليّ الإمام الحافظ [11] تقدّم في الباب الماضي. 2 - (إِسماعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ) هو: إسماعيل بن عبد الله بن عبد الله بن أُويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ؛ أبو عبد الله بن أبي أويس، ابنُ أخت مالك، ونَسِيبه المدنيّ، لا يُحتجّ بحديثه، بل يُعتبر به (¬1) [10]. رَوَى عن أبيه، وأخيه أبي بكر، وخاله فأكثر، وعن سلمة بن وَرْدان، وابن أبي الزناد، وعبد العزيز الماجشون، وسليمان بن بلال، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، وغيرهم. ورَوَى عنه البخاري، ومسلم، وهما والباقون بواسطة إبراهيم بن سعيد الجوهري، وأحمد بن صالح المصري، وأبي خيثمة، والدارمي، وأحمل بن يوسف السلمي، وجعفر بن مسافر، وعبد الله بن محمد بن يزيد بن خُنيس، والذهلي، ويعقوب ابن حميد، ويعقوب بن سفيان، ورَوَى عنه أيضًا إسماعيل بن إسحاق القاضي، وأبو ¬

_ (¬1) هذه العبارة أولى من عبارة "التقريب" "صدوقٌ أخطأ في أحاديث من حفظه"؛ وقد أوضحها في "هدي الساري"، حيث قال فيه: لا يُحتجّ بشيء من حديثه غير ما في "الصحيح"، من أجل ما قَدَح فيه النسائيّ وغيره، إلا إن شاركه فيه غيره، فمعتبر به انتهى.

حاتم، وقتيبة، ونصر بن علي الجهضمي، والحارث بن أبي أسامة، وخلق. قال أبو طالب عن أحمد: لا بأس به، وكذا قال عثمان الدارمي عن ابن معين، وقال ابن أبي خيثمة عنه: صدوق، ضعيف العقل، ليس بذاك -يعني أنه لا يحسن الحديث، ولا يعرف أن يؤديه، أو يقرأ من غير كتابه. وقال معاوية بن صالح عنه: هو وأبوه ضعيفان. وقال عبد الوهاب بن أبي عِصمة، عن أحمد بن أبي يحيى، عن ابن معين: ابنُ أبي أويس وأبوه يسرقان الحديث. وقال إبراهيم بن الجنيد عن يحيى: مخَلِّط يَكْذِب ليس بشيء. وقال أبو حاتم: محله الصدق، وكان مُغَفَّلًا. وقال النسائي: ضعيف. وقال في موضع آخر: غير ثقة. وقال اللالكائيّ: بالغ النسائي في الكلام عليه إلى أن يؤدي إلى تركه، ولعله بأن له ما لم يَبِنْ لغيره؛ لأن كلام هؤلاء كلهم يؤول إلى أنه ضعيف. وقال ابن عديّ: رَوَى عن خاله أحاديث غرائب، لا يتابعه عليها أحدٌ. وعن سليمان بن بلال وغيرهما من شيوخه، وقد حَدَّث عنه الناس، وأثنى عليه ابن معين، وأحمد، والبخاري يحدث عنه الكثير، وهو خير من أبي أويس. وقال الدُّولابي في "الضعفاء": سمعت النضر بن سلمة المروَزيّ يقول: ابن أبي أويس كذّاب، كان يحدِّث عن مالك بمسائل ابن وهب. وقال الدارقطني: لا أختاره في الصحيح. ونقل الخليلي في "الإرشاد" أن أبا حاتم قال: كان ثَبْتًا في حاله. وفي "الكمال" أن أبا حاتم قال: كان من الثقات. وحكى ابن أبي خيثمة، عن عبد الله بن عبيد الله العباسيّ، صاحب اليمن، أن إسماعيل ارتشى من تاجر عشرين دينارًا حتى باع له على الأمير ثوبًا يساوي خمسين بمائة. وذكره الإسماعيلي في "المدخل" فقال كان ينسب في الخِفّة والطَّيْش إلى ما أكره ذكره. قال: وقال بعضهم: جانبناه للسُّنّة. وقال ابن حزم في "المحلَّي": قال أبو الفتح الأزدي: حدثني سيف بن محمد أن ابن أبي أويس كان يَضَعُ الحديث. وقرأت على عبد الله بن عمر، عن أبي بكر بن محمد، أن عبد الرحمن بن مكي أخبرهم كتابة، أنا الحافظ أبو طاهر السِّلَفي، أنا أبو غالب محمد

ابن الحسن بن أحمد الباقلاني، أنا الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب الْبَرْقاني، ثنا أبو الحسن الدارقطني، قال: ذكر محمد بن موسى الهاشمي، وهو أحد الأئمة، وكان النسائي يخصه بما لم يَخُصّ به ولده، فذكر عن أبي عبد الرحمن قال: حَكَى لي سَلَمة بن شبيب، قال: بم تَوَقَّف أبو عبد الرحمن؟ قال: فما زِلْتُ بعد ذلك أداريه أن يحكي في الحكاية، حتى قال: قال لي سلمة بن شبيب: سمعت إسماعيل بن أبي أويس يقول: ربما كنت أَضَعُ الحديث لأهل المدينة، إذا اختلفوا في شيء فيما بينهم، قال البرقاني: قلت للدارقطني: من حَكَى لك هذا عن محمد بن موسى؟ قال: الوزير، كتبتها من كتابه، وقرأتها عليه -يعني بالوزير الحافظ الجليل جعفر بن خِنْزابة. قال الحافظ: وهذا هو الذي بأن للنسائي منه، حتى تجنب حديثه، وأطلق القول فيه بأنه ليس بثقة، ولعل هذا كان من إسماعيل في شبيبته، ثم انصلح، وأما الشيخان فلا يُظَنّ بهما إنهما أخرجا عنه إلا الصحيح من حديثه، الذي شارك فيه الثقات، وقد أوضحت ذلك في مقدمة شرحي على البخاري. انتهى (¬1). قال الجامع عفا الله عنه: ملخّص ما ذكره الحافظ في "المقدّمة" أنه لا يُحتجّ بشيء من حديثه غير ما في "الصحيح"، من أجل ما قدح فيه النسائيّ وغيره، إلا إن شاركه فيه عيره، فيعتبر به. انتهى (¬2). قال ابن عساكر: مات سنة ست، ويقال: سنة سبع وعشرين ومائتين في رجب، وجزم ابن حبان في "الثقات" أنه مات سنة (6). وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا الحديث (210) وحديث (1032) "صلى في بني عبد الأشهل ... "، وحديث (3646) "لبس خاتم فضة ... "، وحديث (3724) "إنما هذه ضجعة أهل النار". ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" 1/ 158. (¬2) "هدي الساري" ص 557.

والحديث سبق الكلام فيه في الذي قبله. وقوله: "لا يرضاها الله إلخ" هذا تقبيح للبدعة؛ لأن كلّ بدعة ضلالة، فليس شيء منها مرضيّا لله تعالى ولا لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأما قول بعضهم: إنه إشارة إلى أن من البدع ما يرضاه الله إلى آخر كلامه، فليس بصحيح، فإن البدعة الشرعية لا تنقسم إلى حسن وقبيح، وما نُقل عن بعض السلف أنه قسمها إلى القسمين، فمراده البدعة اللغويّة، وهي التي استُحدثت بعد النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، سواء خالف الأصول، أم لا، فتقبل هذا التقسيم، وأما البدعة الشرعية، وهي التي استُحدثت بعد كمال الدين، مما لا يشهد له الكتاب والسنة، فإنها كلها ضلالة، وقبيحة، فتنبّه، ولا تغترّ بمن خلط بين النوعين، فبلس الحقّ بالباطل، والصدق بالميْن، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

38 - باب فضل من تعلم القرآن وعلمه

38 - (بابُ فضل من تعلَّم القرآن وعَلَّمَهُ) وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 211 - (حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدثَنَا يَحيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حَدَثَنا شُعبةُ، وَسُفْيَانُ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدة، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عُثمانَ بْنِ عَفَّانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ شُعبةُ: "خَيْرُكُم"، وَقَالَ سُفْيَانُ: "أَفْضَلُكُم مَنْ تَعَلَّمَ القُرآنَ، وَعَلَّمَهُ"). رجال هذا الإسناد: ثمانية: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بُندار، أبو بكر البصريّ، ثقة حافظ [10] 1/ 6. 2 - (يَحيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ) أبو سعيد البصري الإمام الحجة الثبت [9] 2/ 19. 3 - (شُعبَة) بن الحجّاج البصريّ الإمام الحجة الثبت [7] 1/ 6. 4 - (سُفيَانُ) بن سعيد الثوريّ الكوفيّ الإمام الحجة الثبت [7] 5/ 41. 5 - (عَلْقَمَةُ بْنُ مرْثَدٍ) -بفتح الميم، وسكون الراء، بعدها مثلّثة، بوزن جعفر، ومنهم من ضبطه بكسر الثلثة (¬1) - الحَضْرميّ، أبو الحارث الكوفيّ، ثقة [6]. رَوَى عن سعد بن عبيدة، وزِرّ بن حبيش، وطارق بن شهاب، والمستورد بن الأحنف، وسليمان بن بُريدة، وحفص بن عبيد الله بن أنس، وغيرهم. ورَوَى عنه شعبة، والثوري، ومسعر، والمسعودي، وإدريس بن يزيد الأودي، والحكم بن ظُهير وأبو سِنان سعيد بن سِنان الشيباني، وأبو سنان ضرار بن مرة، وغيرهم. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثَبْت في الحديث. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. ¬

_ (¬1) هكذا ذكره في "الفتح" 8/ 694، وقال أيضًا: وعلقمة بن مَرْثَد من ثقات أهل الكوفة، من طبقة الأعمش، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وآخر في الجنائز، من روايته عن سعد بن عبيدة أيضًا، وثالث في مناقب الصحابة. انتهى.

وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". ووثقه يعقوب بن سفيان. وقال خليفة بن خياط: تُوفي في آخر ولاية خالد الْقَسْريّ على العراق. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (13). 6 - (سعدُ بْنُ عُبَيْدَةَ) السلميّ، أبو حمزة الكوفيّ، ثقة [3] 10/ 78. 7 - (أبو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ) عبد الله بن حبيب بن رُبَيِّعة الكوفيّ المقرىء، مشهور بكنيته، ولأبيه صحبة، ثقة ثبتٌ [2] 2/ 20. 8 - (عُثْمانُ بْنُ عَفَّانَ) بن أبي العاص بن أميّة الخليفة الراشد -رضي الله عنه- 13/ 109، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سباعيّات المصنّف. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. 3 - (ومنها): أن فيه محمد بن بشّار أحد المشايخ التسعة الذين اتفق الجماعة في الرواية عنهم بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة. 4 - (ومنها): أنه يُقدّر قبل قوله: "عن علقمة" لفظة "كلاهما"، أي كلا شعبة، وسفيان. 5 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: سعد بن عُبيدة عن أبي عبد الرحمن. 6 - (ومنها): أن صحابيّه -رضي الله عنه- أحد الخلفاء الأربعة الراشدين -رضي الله عنهم-، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدة) هكذا في رواية المصنّف هذه، والترمذيّ، والنسائيّ، جمع يحيى القطّان بين شعبة والثوريّ في إدخال سعد بن عُبيدة بين علقمة وبين أبي عبد الرحمن، وقال الحفّاظ: هذا وهمٌ من يحيى القطان، فإن الثوريّ لا يدخل الواسطة، كما سيأتي للمصنّف في الرواية التالية من رواية وكيع عنه، وإنما يُدخله شعبة، ودونك ما كتبه الحافظ في "الفتح": قال رحمه الله بعد أن أورد رواية البخاريّ من طريق شعبة، عن

علقمة، عن سعد إلخ: ما نصّه: قوله: "عن سعد بن عُبيدة" كذا يقول شعبة، يُدخل بين علقمة بن مَرْثد، وأبي عبد الرحمن سعد بن عبيدة، وخالفه سفيان الثوري، فقال: "عن علقمة، عن أبي عبد الرحمن، ولم يذكر سعد بن عبيدة، -يعني كرواية وكيع عنه الآتية بعد هذا للمصنّف- قال: وقد أطنب الحافظ أبو العلاء العطار في كتابه "الهادي في القرآن" في تخريج طرقه، فذكر ممن تابع شعبة، ومن تابع سفيان جمعًا كثيرًا، وأخرجه أبو بكر بن أبي داود في أول "الشريعة" له، وأكثر من تخريج طرقه أيضًا، ورجح الحفّاظ رواية الثوري، وعَدُّوا رواية شعبة من المزيد في متصل الأسانيد، وقال الترمذي: كأن رواية سفيان أصح من رواية شعبة، وأما البخاري فأخرج الطريقين، فكأنه ترجح عنده أنهما جميعًا محفوظان، فيُحمَل على أن علمقة سمعه أوّلًا من سعد، ثم لَقِي أبا عبد الرحمن، فحّدثه به، أو سمعه مع سعد من أبي عبد الرحمن، فثَبَّته فيه سعد، ويؤيد ذلك ما في رواية سعد بن عبيدة من الزيادة الموقوفة، وهي قول أبي عبد الرحمن: "فذلك الذي أقعدني هذا المقعد"، كما سيأتي البحث فيه. وقد شذت رواية عن الثوري بذكر سعد بن عُبيدة فيه، قال الترمذي: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى القطان، حدثنا سفيان، وشعبة، عن علقمة، عن سعد بن عبيدة به، وقال النسائي: أنبأنا عبيد الله بن سعيد، حدثنا يحيى، عن شعبة وسفيان، أن علقمة حدثهما، عن سعد. قال الترمذي: قال محمد بن بشار: أصحاب سفيان لا يذكرون فيه سعد بن عبيدة، وهو الصحيح انتهى. وهكذا حكم علي بن المديني على يحيى القطان فيه بالوهم، وقال ابن عدي: جمع يحيى القطان بين شعبة وسفيان، فالثوري لا يذكر في إسناده سعد بن عبيدة، وهذا مما عُدّ في خطأ يحيى القطان على الثوري، وقال في موضع آخر: حَمَلَ يحيى القطان رواية الثوري على رواية شعبة، فساق الحديث عنهما، وحَمَل إحدى الروايتين على الأخرى،

فساقه على لفظ شعبة، وإلى ذلك أشار الدارقطني. وتُعُقِّب بأنه فَصَل بين لفظيهما في رواية النسائي وابن ماجه، فقال: قال شعبة: "خيركم"، وقال سفيان: "أفضلكم". قال الحافظ: وهو تعقب واهٍ، إذْ لا يلزم من تفصيله للفظهما في المتن أن يكون فصل لفظهما في الإسناد، قال ابن عدي: يقال: إن يحيى القطان لم يُخطىء قط إلا في هذا الحديث. وذكر الدارقطفي أن خالد بن يحيى تابع يحيى القطان عن الثوري، على زيادة سعد بن عبيدة، وهي رواية شاذة، وأخرج ابن عدي من طريق يحيى بن آدم، عن الثوريّ، وقيس بن الربيع، وفي رواية عن يحيى بن آدم، عن شعبة، وقيس بن الربيع جميعًا عن علقمة، عن سعد بن عبيدة، قال: وكذا رواه سعيد بن سالم القَدّاح عن الثوري، ومحمد بن أبان، كلاهما عن علقمة، بزيادة سعد، وزاد في إسناده رجلًا آخر، كما سيأتي بيانه قريبًا، وكل هذه الروايات وَهمٌ، والصواب عن الثوري بدون ذكر سعد، وعن شعبة بإثباته. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى (¬1). (عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحمَن السُّلَمِيِّ) -بضم السين المهملة، وفتح اللام- (عَن عُثمانَ بْنِ عَفَّانَ) - رضي الله عنه -، وفي رواية شَرِيك، عن عاصم بن بَهْدَلة، عن أبي عبد الرحمن السلَميّ، عن ابن مسعود، أخرجه ابن أبي داود بلفظ: "خيركم من قرأ القرآن، وأقرأه"، وذكره الدارقطني، وقال: الصحيح عن أبي عبد الرحمن، عن عثمان، وفي رواية خلاد بن يحيى، عن الثوري، بسنده قال: "عن أبي عبد الرحمن، عن أبان بن عثمان، عن عثمان". قال الدارقطني: هذا وَهمٌ، فإن كان محفوظًا، احتَمَل أن يكون السُّلَمي أَخذه عن أبان بن عثمان، عن عثمان، ثم لقي عثمان، فأخذه عنه. وتُعُقِّب بأن أبا عبد الرحمن أكبر من أبان، وأبان اختُلف في سماعه من أبيه أشَدّ مما ¬

_ (¬1) "الفتح" 8/ 691 - 692.

اختُلِف في سماع أبي عبد الرحمن من عثمان، فَبَعُدَ هذا الاحتمالُ. وجاء من وجه آخر كذلك، أخرجه ابن أبي داود من طريق سعيد بن سلام، عن محمد بن أبان، سمعت علقمة يحدث عن أبي عبد الرحمن، عن أبان بن عثمان، عن عثمان فذكره، وقال: تفرد به سعيد بن سلام، يعني عن محمد بن أبان. قال الحافظ: وسعيد ضعيف، وقد قال أحمد: حدثنا حجاج بن محمد، عن شعبة قال: لم يَسمَع أبو عبد الرحمن السلمي من عثمان، وكذا نقله أبو عوانة في "صحيحه" عن شعبة، ثم قال: اختَلَف أهل التمييز في سماع أبي عبد الرحمن من عثمان، ونَقَل ابن أبي داود، عن يحيى بن معين مثل ما قال شعبة، وذكر الحافظ أبو العلاء أنّ مسلمًا سكت عن إخراج هذا الحديث في "صحيحه". قال الحافظ: قد وقع في بعض الطرق التصريح بتحديث عثمان لأبي عبد الرحمن، وذلك فيما أخرجه ابن عديّ في ترجمة عبد الله بن محمد بن أبي مريم، من طريق ابن جريج، عن عبد الكريم، عن أبي عبد الرحمن: حدثني عثمان، وفي إسناده مقال، لكن ظهر لي أن البخاري اعتَمَد في وصله، وفي ترجيح لقاء أبي عبد الرحمن لعثمان على ما وقع في رواية شعبة، عن سعد بن عبيدة من الزيادة، وهي: أن أبا عبد الرحمن أقرأ من زمن عثمان إلى زمنّ الحجاج، وأن الذي حمله على ذلك هو الحديث المذكور فدل على أنّه سمعه في ذلك الزمان، وإذا سمعه في ذلك الزمان، ولم يوصف ذلك سماعه ممن عنعنه عنه، وهو عثمان - رضي الله عنه -، ولا سميا مع ما اشتهر بين القراء، أنه قرأَ القرآن على عثمان، وأسندوا ذلك عنه، من رواية عاصم بن أبي النجود وغيره، فكان هذا أولى من قول من قال: إنه لم يسمع منه. انتهى كلام الحافظ رحمه الله (¬1)، وهو توجيه وجيه. والله تعالى أعلم. (قَالَ: قَالَ رَسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ شعبةُ) أي في روايته ("خَيركم"، وَقَالَ سفيَان) الثوريّ في روايته ("أَفْضَلُكَم مَن تَعَلَّمَ الْقرْآنَ، وَعَلَّمَهُ") قال السنديّ رحمه الله: يراد ¬

_ (¬1) "فتح" 8/ 692 - 693.

بمثله أنه من جملة الأخيار، لا أنه أفضل من الكلّ، وبه يندفع التدافع بين الأحاديث الواردة بهذا العنوان، ثم المقصود في مثله بيان أن وصف تعلّم القرآن وتعليمه من جملة خيار الأوصاف، فالموصوف به يكون خيرًا من هذه الجملة، أو يكون خيرًا إن لم يُعارض هذا الوصف معارضٌ، فلا يَرِد أنه كثيرًا ما يكون المرء متعلّمًا، أو معلّمًا للقرآن، ويأتي بالمنكرات، فكيف يكون خيرًا؟ وقد يقال: المراد من تعلّم القرآن، وعلّمه مع مراعاته عملًا، وإلا فغير المراعي يُعدّ جاهلًا. انتهى (¬1). وقال في "الفتح": قوله: "وعلّمه" كذا للأكثر، يعني بالواو، وللسرخسي: "أو علمه "بـ "أو"، وهي للتنويع، لا للشكّ، وكذا لأحمد عن غندر، عن شعبة، وزاد في أوله: "إِنَّ"، وأكثر الرواة عن شعبة يقولونه بالواو (¬2). وكذا وقع عند أحمد عن بهز، وعند أبي داود، عن حفص بن عمر، كلاهما عن شعبة، وكذا أخرجه الترمذي، من حديث عليّ -رضي الله عنه-، وهي أظهر من حيث المعنى؛ لأن التي بـ "أو" تقضي إثبات الخيرية المذكورة لمن فعل أحد الأمرين، فيلزم أنّ مَن تعلم القرآن، ولو لم يعلمه غيرَه أن يكون خيرًا ممن عَمِلَ بما فيه مثلًا، وإن لم يتعلمه. ولا يقال: يلزم على رواية الواو أيضًا أنّ من تعلمه وعلمه غيره أن يكون أفضل ممن عَمِل بما فيه من غير أن يتعلمه، ولم يعلمه غيره؛ لأنا نقول: يحتمل أن يكون المراد بالخيرية من جهة حصول التعليم بعد العلم، والذي يُعَلِّم غيره يحصل له النفع المتعدي، بخلاف من يَعْمَل فقط، بل مِنْ أشرف العمل تعليمُ الغير، فمعلِّمُ غيره يستلزم أن يكون تعمله، وتعليمه لغيره عَمَلٌ وتحصيلُ نفعٍ مُتَعَدٍّ، ولا يقال: لو كان المعنى حصول النفع المتعدي لاشترك كل من عَلَّم غيره علمًا ما في ذلك؛ لأنا نقول: القرآن أشرف ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 138. (¬2) وكذا اختُلف في رواية الثوريّ أيضًا، فمنهم من رواه بالواو، ومنهم من رواه بـ "أو"، راجع "الفتح" 8/ 694.

العلوم، فيكون مَن تعلمه، وعلمه لغيره أشرف ممن تعلّم غير القرآن، كان عَلَّمَه، فيثبت المُدَّعَى، ولا شكّ أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه، مُكَمِّل لنفسه ولغيره، جامع بين النفع القاصر، والنفع المتعدي، ولهذا كان أفضل، وهو من جملة مَنْ عَنَى -سبحانه وتعالى- بقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، والدعاء إلى الله يقع بأمور شَتَّى من جملتها تعليم القرآن، وهو أشرف الجميع، وعكسه الكافر المانع لغيره من الإسلام، كما قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} [الأنعام: 157]. [فإن قيل]: فيلزم على هذا أن يكون المقرئ أفضل من الفقيه. [قلنا]: لا؛ لأن المخاطبين بذلك كانوا فقهاء النفوس، لأنهم كانوا أهل اللسان، فكانوا يدرون معاني القرآن بالسليقة، أكثر مما يدريها مَنْ بَعدَهم بالاكتساب، فكان الفقه لهم سَجِيّةً، فمن كان في مثل شأنهم شاركهم في ذلك، لا من كان قارئًا، أو مقرئًا مَحْضًا لا يفهم شيئًا من معاني ما يقرؤه أو يقرئه. [فإن قيل]: فيلزم أن يكون المقرئ أفضل ممن هو أعظم غَنَاءً في الإسلام بالمجاهدة، والرباط، والأمر بالعروف، والنهي عن المنكر مثلًا. [قلنا]: حرف المسألة يدور على النفع المعتدّي، فمن كان حصوله عنده أكثر كان أفضل، فَلَعَلَّ "مِنْ" مضمرةٌ في الخبر، ولا بُدّ مع ذلك من مراعاة الإخلاص في كل صنفٍ منهم. ويحتمل أن تكون الخيرية، كان أطلقت لكنها مقيدة بناس مخصوصين، خوطبوا بذلك، كان اللائق بحالهم ذلك، أو المراد خير المتعلمين مَنْ يعلم غيره، لا من يقتصر على نفسه، أو المراد مراعاة الحيثية؛ لأن القرآن خير الكلام، فمتعلمه خير من متعلم غيره بالنسبة إلى خيرية القرآن، وكيفما كان فهو مخصوص بمن عَلِمَ وتَعَلَّمَ، بحيث يكون قد عَلِمَ ما يجب عليه عَيْنًا (¬1). ¬

_ (¬1) "فتح" 8/ 693.

[تنبيه]: زاد في رواية البخاريّ في آخر هذا الحديث: ما نصّه: "قال: وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان، حتى كان الحجاج". قال في "الفتح": أي حتى وَلِيَ الحجاح على العراق، قال الحافظ: بين أول خلافة عثمان -رضي الله عنه-، وآخر ولاية الحجاج اثنتان وسبعون سنة إلا ثلاثة أشهر، وبين آخر خلافة عثمان وأول ولاية الحجاج العراق ثمان وثلاثون سنة، ولم أقف على تعيين ابتداء إقراء أبي عبد الرحمن وآخره، فالله أعلم بمقدار ذلك، ويُعرَف من الذي ذكرته أقصى المدة وأدناها، والقائل: "وأقرأ الخ" هو سعد بن عُبيدة، فإنني لم أَرَ هذه الزيادة إلا من رواية شعبة عن علقمة، وقائل: "وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا" هو أبو عبد الرحمن، وحَكَى الكرماني أنه وقع في بعض نسخ البخاري: "قال سعد بن عبيدة: وأقرأني أبو عبد الرحمن"، قال: وهي أنسب لقوله: "وذاك الذي أقعدني الخ"، أي أن إقراءه إياي هو الذي حملني على أن قعدت هذا المقعد الجليل. انتهى. قال الحافظ: والذي في معظم النسخ: "وأقرأ"، بحذف المفعول، وهو الصواب، وكأن الكرماني ظَنّ أن قائل: "وذاك الذي أقعدني" هو سعد بن عبيدة، وليس كذلك، بل قائله أبو عبد الرحمن، ولو كان كما ظَنَّ للزم أن تكون المدة الطويلة سِيقت لبيان زمان إقراء أبي عبد الرحمن لسعد بن عبيدة، وليس كذلك، بل إنما سِيقت لبيان طول مدته لإقراء الناس القرآن، وأيضًا فكان يلزم أن يكون سعد بن عبيدة قرأ على أبي عبد الرحمن من زمن عثمان، وسعد لم يدرك زمان عثمان، فإن أكبر شيخ له المغيرة بن شعبة، وقد عاش بعد عثمان خمس عشرة سنةً، وكان يلزم أيضًا أن تكون الإشارة بقوله: "وذلك" إلى صنيع أبي عبد الرحمن، وليس كذلك، بل الإشارة بقوله: "ذلك" إلى الحديث المرفوع، أي إن الحديث الذي حَدَّث به عثمان - رضي الله عنه - في أفضلية مَن تعلم القرآن وعلمه، حَمَلَ أبا عبد الرحمن أن قَعَدَ يعلم الناس القرآن؛ لتحصيل تلك الفضيلة، وقد وقع الذي حَمَلْنا كلامه عليه صريحًا في رواية أحمد، عن محمد بن جعفر، وحجاج ابن محمد جميعًا عن شعبة، عن علقمة بن مَرْثَد، عن سعد بن عبيدة قال: "قال أبو عبد

الرحمن: فذاك الذي أقعدني هذا المقعد"، وكذا أخرجه الترمذيّ من رواية أبي داود الطيالسي، عن شعبة، وقال فيه: "مقعدي هذا"، قال: وعَلَّم أبو عبد الرحمن القرآن في زمن عثمان، حتى بلغ الحجاج، وعند أبي عوانة، من طريق بِشْر بن أبي عمرو، وأبي غياث، وأبي الوليد ثلاثتهم عن شعبة، بلفظ: "قال أبو عبد الرحمن: فذاك الذي أقعدني مقعدي هذا"، وكان يُعَلِّم القرآن، والإشارة بذلك إلى الحديث، كما قررته، وإسناده إِليه إسناد مجازي. ويحتمل أن تكون الإشارة به إلى عثمان -رضي الله عنه-، وقد وقع في رواية أبي عوانة أيضًا عن يوسف بن مسلم، عن حجاج بن محمد، بلفظ: "قال أبو عبد الرحمن: وهو الذي أجلسني هذا المجلس"، وهو محتمل أيضًا، انتهى (¬1)، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسانل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عثمان بن عفّان -رضي الله عنه- هذا أخرجه البخاريّ. (المسألة الثانية):في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (38/ 211) بهذا الإسناد، وأعاده بعده (38/ 212) بالسند التالي، وأخرجه (عبد الرزاق) في "مصنّفه" (5995) و (أحمد) في "مسنده" (1/ 57 و 58 و 69) و (الدارميّ) في "سننه" (3341) و (البخاريّ) 6/ 236 و (أبو داود) (1452) و (الترمذيّ) (2907) و (النسائيّ) في "فضائل القرآن" "من" "الكبرى" (61 و 62 و 63) و (ابن حبان) في "صحيحه" (118)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف، وهو واضح. ¬

_ (¬1) "فتح" 8/ 694.

2 - (ومنها): الحث على تعليم القرآن، وقد سئل الثوري عن الجهاد وإقراء القرآن، فرَجّح الثاني، واحتج بهذا الحديث، أخرجه ابن أبي داود، وأخرج عن أبي عبد الرحمن السُّلَمي أنه كان يُقرىء القرآن خمس آيات خمس آيات، وأسند من وجه آخر عن أبي العالية مثل ذلك، وذكر أن جبريل - عليه السلام - كان ينزل به كذلك، وهو مرسل، ويشهد له ما في "الصحيحين" أن أول ما نزل به جبريل - عليه السلام - على النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أول سورة العلق، إلى {مَا لَم يعلم}، وهي خمس آيات (¬1). 3 - (ومنها): أن فيه بَيَانَ فَضْلِ العمل المتعدّي على العمل الغير المتعدّي، ولهذا كان المؤمن القويّ أفضل من المؤمن الضعيف، وإن كان فيه خير أيضًا، فقد أخرج مسلم، والمصنّف من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير ... " الحديث، وتقدّم للمصنف 10/ 79 ويأتي أيضًا في "الزهد" برقم (4168)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله أول الكتاب قال: 212 - (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ محمد، حَدَّثَنَا وَكيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرثَد، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي، عَنْ عُثمانَ بْنِ عَفَّانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَفْضَلُكُم مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرآنَ، وَعَلَّمَهُ"). رجال هذا الإسناد: ستة، وهم المذكورون في السند الماضي، إلا شيخه، وشيخ شيخه، وقد سبقا قبل باب، والحديث هو المذكور قبله، أتى به لبيان الاختلاف على سفيان، حيث كان في رواية يحيى القطان السابقة أدخل بين علقمة وبين أبي عبد الرحمن سعدَ بنَ عبيدة، وخالفه وكيع، فلم يُدخِله، وقد سبق أن رواية القطان شاذّة، مما وَهِم فيه على سفيان، بل قال ابن عديّ: إنه لم يُخطىء القطان إلا في هذا الحديث، والله تعالى ¬

_ (¬1) "فتح" 8/ 589 و 8/ 694.

أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 213 - (حَدَّثَنَا أَزهرُ بْنُ مَروَانَ، حَدَّثَنَا الحارِثُ بْنُ نَبهانَ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ بَهْدَلَةَ، عَنْ مُصعَبِ بْنِ سعد، عَنْ أَبيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "خِيَارُكُم مَنْ تَعَلَّمَ الْقرآنَ، وَعَلَّمَهُ"، قَالَ: وَأَخَذَ بِيَدِي، فَأقْعَدَنِي مَقْعَدِي هذَا أُقْرِئُ). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (أَزْهرُ بْنُ مَرْوَانَ) الرَّقَاشيّ -بتخفيف القاف، والشين المعجمة- النَوَّاء -بنونين، وواو مثقّلة-مولى بني هاشم، لقبه فُرَيخ -بالخاء المعجمة- صدوق [10]. رَوَى عن حماد بن زيد، وعبد الوارث بن سعيد، ومحمد بن سَوَاء، وعبد الأعلى، والحارث بن نَبْهان، وغيرهم. ورَوَى عنه الترمذي، وابن ماجه، وموسى بن هارون الحمال، وابن أبي عاصم، وإبراهيم الحربي، وابن أبي الدنيا، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وغيرهم. قال أبو حاتم بن حبان: مستقيم الحديث. وقال مسلمة الأندلسي: ثقة. وأخرج له الحاكم في "المستدرك". وسماه صاحب "الكمال" إبراهيم، وقال: حديثه عند الترمذي. وقال ابن أبي عاصم: مات سنة (243). وله في هذا الكتاب (14) حديثًا. 2 - (الحارِثُ بْنُ نَبهانَ) الجَرْميّ -بفتح الجيم- أبو محمد البصريّ، متروك [8]. رَوَى عن أبي إسحاق، وعاصم بن أبي النَّجُود، والأعمش، وعتبة بن يقظان، وأيوب، ومعمر، وأبي حنيفة، وغيرهم. ورَوَى عنه جعفر بن سليمان الضُّبَعي، وابن وهب، ومسلم بن إبراهيم، وعبد الواحد بن غِيَاث، وطالوت بن عَبّاد، وغيرهم. قال أحمد: رجل صالح، لم يكن يَعرِف الحديث، ولا يحفظ، منكر الحديث. وقال الدُّوري عن ابن معين: ليس بشيء. وقال في موضع آخر: لا يكتب حديثه. وقال أبو

زرعة: ضعيف الحديث، في حديثه وَهْنٌ. وقال أبو حاتم: متروك الحديث، ضعيف الحديث، منكر الحديث. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث، وقال في موضع آخر: ليس بثقة. وقال ابن عديّ: وهو ممن يكتب حديثه. وقال ابن المديني: كان ضعيفًا ضعيفًا. وقال الحربي: غيره أوثق منه. وقال الترمذي في "العلل الكبير" عن البخاري: منكر الحديث، لا يبالي ما حدّث، وضعفه جدّا. وقال العجلي، ويعقوب بن شيبة: ضعيف الحديث. وقال العقيليّ: وروى حديث "خيركم من تعلم القرآن"، وحديث "قراءة تنزيل السجدة"، وحديث النهي عن الانتعال قائمًا، لا يتابع على أسانيدها، والمتون معروفة. وذكره أبو العرب في "الضعفاء"، وذكر في "تاريخ القيروان" أنه قَدِمَ عليهم. وقال الساجي: عنده مناكير. وقال الآجري عن أبي داود: ليس بشيء. وقال أبو أحمد الحاكم: حديثه ليس بالمستقيم. وقال يعقوب بن سفيان: بصري منكر الحديث. وقال الدارقطني: ليس بالقوي. وقال ابن حبان: كان من الصالحين الذين غَلَب عليهم الوهم، حتى فحش خطؤه، وخرج عن حدّ الاحتجاج به. وذكره البخاري في "التاريخ الأوسط" في "فصل من مات ما بين الخمسين إلى الستين ومائة". تفرّد به الترمذيّ، له عنده حديث "نَهى أن ينتعل الرجل، وهو قائم"، فقط والمصنّف، وله عنده أربعة أحاديث فقط، هذا الحديث (213) وحديث (750) "جنّبوا مساجدكم صبيانكم ... "، وحديث (822) "يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة ألم تنزيل ... "، وحديث (1525) "صلّوا على كل ميت ... ". 3 - (عَاصِمُ بْنُ بَهْدَلَةَ) الأسديّ مولاهم الكوفيّ، أبو بكر المقرىء، ثقة يَهِمُ، حجة في القراءة [6] 20/ 138. 4 - (مُصْعَبُ بْنُ سَعدٍ) بن أبي وقّاص الزهريّ، أبو زُرارة المدنيّ، ثقة [3]. روى عن أبيه، وعلي، وطلحة، وابن عمر وغيرهم.

وَرَوَى عنه مجاهد، وعاصم بن بهدلة، والحكم بن عتيبة، وعمرو بن مرة، وغيرهم. ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة، وقال: كان ثقة كثير الحديث، وقال العجلي: تابعي ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال عمرو بن علي وغيره: مات سنة (103). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط برقم 213 و 272 و 822 و 873 و 2097 و4023. 5 - (أبُوهُ) سعد بن أبي وقّاص مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن رهرة بن كلاب، الصحابي الشهير، أحد العشرة -رضي الله عنه- 3/ 19. والحديث بهذا السند ضعيف جدًّا؛ لأن الحارث بن نبهان مجمع على تضعيفه، بل صرّح كثير بأنه متروك، كما سبق في ترجمته، قال البوصيري رحمه الله: هذا إسناد ضعيف؛ لضعف الحارث بن نبهان، ورواه الدارميّ، عن المعلّى بن راشد، عن الحارث ابن نبهان، والجملة الأولى في "الصحيح" من حديث عثمان -رضي الله عنه- انتهى. وقوله: "وأخذ بيدي إلخ" لعل القائل هو عاصم رحمه الله؛ لأنه المشهور بإقراء القرآن، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 214 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ بشارٍ، وَمُحَمَّدُ بن المثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحيَى بن سعِيدٍ، عَنْ شُعبة، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَثَلُ المؤْمِن الَذِي يَقْرَأُ الْقرآنَ، كَمَثَلِ الْأُتْرُجَّةِ، طَعمُها طَيِّبٌ، وَرِيحُها طَيِّبٌ، وَمَثَلُ المؤْمِن الَّذِي لَا يَقْرَأ القُرانَ، كمَثَلِ التّمرَةِ، طَعمُها طَيِّبٌ، وَلَا رِيحَ لها، وَمَثَلُ المنافِقِ الَذِي يَقْرَأ الْقُرآنَ، كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ، رِيحُها طَيِّب، وَطَعمُها مرٌّ، وَمَثَلُ المنافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ القرآنَ، كَمَثَلِ الحنْظَلَة، طَعمُها مُرٌّ، وَلَا رِيحَ لها").

رجال هذا الإسناد: سبعة: 1 - (مُحَمَدُ بْنُ بَشَّارٍ) المذكور قبل حديثين. 2 - (مُحَمَّدُ بْنُ المثنَّى) الْعَنَزيّ، أبو موسى البصريّ، ثقة حافظ [10] 9/ 66. 3 - (يَحيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان المذكور قبل حديثين. 4 - (شُعبَةُ) بن الحجاج المذكور قبل حديثين. 5 - (قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، أبو الخطاب البصريّ، ثقة ثبت، يدلّس [4] 1/ 10. 6 - (أَنسُ بْنُ مَالِكٍ) الصحابيّ الشهير -رضي الله عنه- 3/ 24. 7 - (أبو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ) عبد الله بن قيس الصحابي الشهير -رضي الله عنه- 10/ 88، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سُداسيّات المصنّف. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. 3 - (ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات البصريين. 4 - (ومنها): أن شيخيه من المشايخ التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة. 5 - (ومنها): أن فيه شعبة، وهو إذا روى عن مشايخه المدلسين، كقتادة لا يروي إلا ما صرّحوا بالسماع، فيؤمن عنعنة قتادة هنا من التدليس، وقلت في ذلك: شُعبةُ لاَ يَرْوي عَنِ المُدَلِّسِ ... إِلَّا الَّذِي سَمِعَهُ فَاسْتَأْنِسِ لِذَا إِذَا رَوَى عَنِ الأَعمَشِ أَوْ ... قَتَادَةٍ أَوِ السَّبِيعِي مَا رَوَوَا مُعَنْعَنًا لاَ تَخْشَ تَدلِيسًا فَقَد ... كفَاكَهُ هذَا الإِمَامُ المُعْتَمَدْ 6 - (ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَنسِ بْنِ مَالِكٍ) -رضي الله عنه-، ووقع في رواية البخاريّ من طريق همّام، قال: حدّثنا

قتادة، قال: حدّثنا أنس بن مالك، فصرّح قتادة بالتحديث (عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ) -رضي الله عنه- (عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: مَثَلُ المُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ) أي ويعمل به، كما وقع في رواية للبخاريّ بلفظ: "المؤمن الذي يقرآ القرآن، ويَعمَل به"، وهي زيادة مفسرة للمراد، وأن التمثيل وقع بالذي يقرأ القرآن، ولا يخالف ما اشتمل عليه، من أمر، ونهي، لا مطلق التلاوة. وعبّر بصيغة المضارع لإفادة تكريره لها، ومداومته عليها، حتى صارت دأبه وعادته، كفلان يَقري الضيف، ويحمي الحريم، ويُعطي اليتيم. قال الطيبيّ رحمه الله: إثبات القراءة في قوله: "يقرأ القرآن" على صيغة المضارع، ونفيها في قوله: "لا يقرأ القرآن" ليس المراد منها حصولها مرّة، ونفيها بالكلّية، بل المراد منها الاستمرار، والدوام عليها، فإن القراءة دأبه وعادته، أو ليس ذلك من هِجّيراه، كقولك: فلان يَقري الضيف، ويَحمِي الحريم. انتهى (¬1). (كَمَثَلِ الْأُترُجَّةِ) بضم الهمزة والراء، بينهما مثناة ساكنة، وآخره جيم ثقيلة، وقد تخفف، ويزاد قبلها نون ساكنة (¬2)، ويقال: بحذف الألف مع الوجهين، فتلك أربع لغات، وتبلغ مع التخفيف إلى ثمانية (¬3). قاله في "الفتح" (¬4). وقال في "القّاموس": الأُتْرُجُّ، والأُتْرُجَّةُ، والتُّرُنْجُ، والتُّرُنْجَةُ: معروف. انتهى. (طَعمُها طَيِّبٌ، وَرِيحُها طَيِّبٌ) قيل: خَصّ صفة الإيمان بالطعم، وصفة التلاوة بالريح؛ لأن الإيمان ألزم للمؤمن من القرآن؛ إذ يمكن حصول الإيمان بدون القراءة، وكذلك الطعم ألزم للجوهر من الريح، فقد يذهب ريح الجوهر، ويبقى طعمه، ثم قيل: الحكمة في تخصيص الأترجة بالتمثيل دون غيرها من الفاكهة التي تَجْمَع طيب الطعم والربح كالتفاحة؛ لأنه يُتَدَاوى بقشرها، وهو مُفَرِّح بالخاصية، ويُسْتَخرج من ¬

_ (¬1) "الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1637. (¬2) ذكر السنديّ أن في بعض نسخ ابن ماجه يوجد بهذا الضبط، والله تعالى أعلم. (¬3) "فتح" 8/ 683. (¬4) "فتح" 8/ 683.

حَبِّها دُهنٌ له منافع، وقيل: إن الجن لا تقرب البيت الذي فيه الأترج، فناسب أن يُمَثّل به القرآن الذي لا تَقْرَبه الشياطين، وغلاف حبه أَبيض، فيناسب قلب المؤمن، وفيها أيضًا من المزايا كُبْر جرمها، وحسن منظرها، وتفريح لونها، ولِين مَلْمَسها، وفي أكلها مع الالتذاذ طيب نَكْهة، ودِبَاغ مَعِدَة، وجَوْدة هضْم، ولها منافع أخرى مذكورة في المفردات. قاله في "الفتح" (¬1). وقال المظهر: المؤمن الذي يقرأ القرآن هكذا من حيث الإيمان في قلبه ثابتٌ، طيّب الباطن، ومن حيث إنه يقرأ القرآن، ويستريح الناس بصوته، ويُثابون بالاستماع إليه، ويتعلّمون منه مثلُ الأترجّة، يستريح الناس برائحتها. وقال التوربشتيّ: المثل عبارة عن المشابهة بغيره في معنى من المعاني؛ لإدناء المتوهّم عن المشاهد، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخاطب بذلك العرب، ويُحاورهم، ولم يكن ليأتي في الأمثال بما لم تشاهده، فيجعلَ ما أورده للتبيان مزيدًا للإبهام، بل يأتيهم بما شاهدوه، وعرفوه؛ ليبلغ ما انتحاه من كشف الغطاء، ورفع الحجاب، ولم يوجد فيما أخرجته الأرض من بركات السماء، لا سيما من الثمار الشجريّة التي آنستها العرب في بلادهم أبلغ في هذا المعنى من الأترجّة، بل هي أفضل ما يوجد من الثمار في سائر البلدان الأخرى، وأجدى؛ لأسباب كثيرة جامعه للصفات المطلوبة منها، والخواصّ الموجودة فيها، فمن ذلك كبر جِرْمها، وحسن منطرها، وطيب مطعمها، ولين ملمسها، وذكَاء أرجها، تملأ الأكفّ بكبر جرمها، ويكسيها لينًا، وتُفعم الخياشيم طيبًا، وتأخذ بالأبصار صيغةً ولونًا، فاقعٌ لونها تسرّ الناظرين، تتوق إليها النفس قبل التناول، تفيد آكلها بعد الالتذاذ بذواقها طيب نكهة، ودباغ معدة، وقوّة هضم، اشتركت الحواسّ الأربع دون الاحتظاء بها: البصر، والذوق، والشمّ، واللمس، وهذه الغاية القصوى في انتهاء الثمرات إليها، وتُدْخَل في الأدوية الصالحة للأدواء المزمنة، والأوجاع المقلقة، ¬

_ (¬1) المصدر السابق.

والأسقام الخبيثة، والأمراض الرديّة، كالفالج، واللقوة، والبرص، واليرقان، واسترخاء العصب، والبواسير، إلى آخر ما قاله (¬1). ثم إنها في أجزائها تنقسم على طبائع، فقشرها حارّ يابس، ولحمها حارّ رطب، وحماضها بارد يابس، وبذرها حارّ مجفّف، وفيها من المنافع ما هو مذكور في الكتب الطبّيّة، وأيّةُ ثمرة تبلغ هذا المبلغ في كمال الخلقة، وشُمول المنفعة؟ ثم إنه -صلى الله عليه وسلم- ضرب المثل بما تُنبته الأرض، ويُخرجه الشجر؛ للمشابهة بينها وبين الأعمال، فإنها من ثمرات النفوس، فخصّ ما يُخرجه الشجر من الأترجّة، والتمر بالمؤمن، وما تنبته الأرض من الحنظلة، والريحانة بالمنافق؛ تنبيهًا على علوّ شأن المؤمن، وارتفاع عمله، ودوام ذلك، وتوقيفًا على ضَعَة شأن المنافق، وإحباط عمله، وقلة جدواه. قال الطيبيّ رحمه الله: (اعلم): أن هذا التشبيه، والتمثيل في الحقيقة وصف لموصوف، اشتمل على معنى معقول صِرْفٍ، لا يُبرزه عن مكنونه إلا تصويره بالمحسوس المشاهد، ثم إن كلام الله المجيد له تأثير في باطن العبد وظاهره، وإن العباد متفاوتون في ذلك، فمنهم من له النصيب الأوفر من ذلك التأثير، وهو المؤمن القارىء، ومنهم من لا نصيب له البتة، وهو المنافق الحقيقي، ومن تأثّر ظاهره دون باطنه، وهو المرائي، أو بالعكس، وهو المؤمن الذي لم يقرأه، وإبراز هذه المعاني، وتصويرها في المحسوسات ما هو مذكور في الحديث، ولم يوجد ما يوافقها، ويلائمها أقرب، ولا أحسن، ولا أجمع من ذلك؛ لأن المشبهات، والمشبّه بها واردة على التقسيم الحاصر؛ لأن الناس إما مؤمن، أو غير مؤمن، والثاني إما منافق صرفٌ، أو ملحق به، والأول إما مواظب على القراءة، أو غير مواظب عليها، فعلى هذا قس الأثمار المشبّه جها، ووجه التشبيه في المذكورات مركّبٌ منتزع من أمرين محسوسين: طعم وريح، وليس بمفرّق، كما في قول امرىء ¬

_ (¬1) راجع "المرعاة على المشكاة" 7/ 117.

القيس [من الطويل]: كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْبًا وَيَابِسَا ... لَدَى وَكْرِها الْعُنَّابُ وَالحشَفُ الْبَالِي انتهى (¬1). قال في "الفتح": [فإن قيل]: لو كان كذلك لَكَثُرَ التقسيم، كأن يقال: الذي يقرأ ويعمل، وعكسه، والذي يعمل ولا يقرأ، وعكسه، والأقسام الأربعة ممكنة في غير المنافق، وأما المنافق فليس له إلا قسمان فقط؛ لأنه لا اعتبار بعمله، إذا كان نفاقه نفاق كفر. وكأن الجواب عن ذلك أن الذي حُذِف من التمثيل قسمان: الذي يقرأ ولا يعمل، والذي لا يعمل ولا يقرأ، وهم شبيهان بحال المنافق، فيمكن تشبيه الأول بالريحانة، والثاني بالحنظلة، فاكتُفِي بذكر المنافق، والقسمان الآخران قد ذُكِرا انتهى (¬2). (وَمَثَلُ المؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقرآنَ) أي ويعمل به، كما في الرواية الأخرى (كمَثَلِ التَّمرَةِ) بالتاء المثنّاة، وسكون الميم (طَعمُها طَيِّبٌ، وَلَا رِيحَ لها) وفي رواية للبخاريّ: "فيها" (وَمَثَلُ المُنافِقِ) وفي رواية للبخاريّ: "ومثل الفاجر" في الموضعين (الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرآنَ، كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ) هي كلّ نبت طيب الريح من أنوع المشموم (رِيحُها طَيِّبٌ، وَطَعمُها مُرٌّ، وَمَثَلُ المنافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقرآنَ، كَمَثَلِ الحنْظَلَةِ) هي كلّ نبات يمتدّ على الأرض كالبطيخ، وثمره يُشبه ثمر البطيخ، لكنه أصغر منه جدّا، ويُضرب المثل بمرارته (¬3) (طَعمُها مُرٌّ، وَلَا رِيحَ لها) وفي رواية للبخاريّ: "وريحها مُرّ"، قال في "الفتح": واستُشكِلت هذه الرواية من جهة أن المرارة من أوصاف الطعوم، فكيف يوصف بها الريح. وأُجيب بأن ريحها لمّا كان كريهًا استُعير له وصف المرارة (¬4)، والله ¬

_ (¬1) "الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1635 - 1637. (¬2) "فتح" 8/ 683 - 684. (¬3) "المرعاة" 7/ 178. (¬4) المصدر السابق 8/ 684.

تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسانل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي موسى الأشعريّ -رضي الله عنه- هذا متّفق عليه. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (38/ 214) بهذا السند فقط، وأخرجه (عبد الرزاق) في "مصنّفه" (20933) و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" (10/ 259 و530) و (أحمد) في "مسنده" (4/ 397 و 403 و 404 و 408) و (عبد بن حميد) في "مسنده" (565) و (الدارميّ) في "سننه" (3366) و (البخاريّ) 6/ 234 و 244 و 9/ 198 و (مسلم) (2/ 194) و (أبو داود) (4830) و (الترمذيّ) (2865) و (النسائيّ) في "فضائل القرآن" من "الكبرى" (106 و 107) و (ابن حبان) في "صحيحه" (770) و (البغويّ) في "شرح السنة" (1175)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف، وهو واضح. 2 - (ومنها): بيان فضيلة حاملي القرآن، وقارئيه. 3 - (ومنها): ضرب المثل للتقريب للفهم، وأن المقصود من تلاوة القرآن العمل بما دل عليه، لا مطلق التلاوة؛ لقوله في الزيادة السابقة: "ويعمل به". 4 - (ومنها): ما قال التوربشتيّ رحمه الله تعالى: إن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أشار في ضرب هذا المثل إلى معان لا يَهتدِي إليها إلا من أُيد بالتوفيق، فمنها أنه ضرب المثل بما تنبته الأرض، ويُخرجه الشجر للمشابهة التي بينها وبين الأعمال، فإنها من ثمرات النفوس، والمثل وإن ضُرب للمؤمن نفسِهِ، فإن العبرة فيه بالعمل الذي يصدر منه؛ لأن الأعمال هي الكاشفة عن حقيقة الحال، ومنها: أنه ضرب مثل المؤمن بالأترجّة والتمرة، وهما مما يُخرجه الشجر، وضرب مثل المنافق بما تنبته الأرض؛ تنبيهًا على علو شأن المؤمن،

وارتفاع عمله، ودوام ذلك وبقائه ما لم تيبس الشجرة، وتوقيفًا على ضَعَة شأن المنافق، وإحباط عمله، وقلّة جدواه، وسقوط منزلته. ومنها: أن الأشجار المثمرة لا تخلو عمن يغرسها، فيسقيها، ويُصلح أودها، ويربيها، وكذلك المؤمن يقيّض له من يؤدّبه، ويُعلّمه، ويُهذّبه، ويلُمّ شَعثه، ويسوّيه، ولا كذلك الحنظلة المهملة المتروكة بالعراء، والمنافق الذي وُكل إلى شيطانه وطبعه وهواه (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 215 - (حَدَّثَنَا بَكْرُ بنُ خَلَفٍ أبو بِشْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا عبدُ الرحمَنِ بْنُ بُدَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَن أَنسِ بنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِن لله أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ"، قالُوا: يَا رَسُولَ الله، مَنْ هُم؟ قَالَ: "هُم أَهْلُ الْقرآنِ، أَهْلُ الله وَخَاصَّتُهُ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (بَكْرُ بْنْ خَلف أبو بِشْرٍ) البصريّ، ختن المقرىء، صدوقٌ [10] 34/ 175. 2 - (عَبْدُ الرحمَنِ بْنُ مَهْدِيً) بن حسّان العنبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقة ثبتٌ حافظ، عارف بالرجال والحديث [9] 3/ 25. 3 - (عَبْدُ الرحمَنِ بن بُدَيْل) بن ميسرة الْعُقيليّ البصريّ، لا بأس به [8]. رَوَى عن أبيه، وعَوْسَجة الْعُقَيليّ، ويحيى بن سعيد الأنصاري. ورَوَى عنه ابن مهدي، وأبو داود الطيالسي، وعبد الصمد بن عبد الوارث، والأصمعي، وأبو عُبيدة الحداد، وغيرهم. قال ابن أبي خيثمة عن ابن معين، وأبو داود، والنسائي: ليس به بأس. وقال أبو داود الطيالسي: ثنا عبد الرحمن بن بُديل، وكان ثقةً صدوقا. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن أبي خيثمة أيضا عن ابن معين: ضعيف. وقال أبو الفتح الأزدي: ¬

_ (¬1) راجع "المرعاة" 7/ 178 - 179.

فيه لين. تفرّد به النسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 4 - (أبوه) بُديل -مصغّرًا- ابن ميسرة العُقيلي البصريّ، ثقة [5]. رَوَى عن أنس، وأبي الجوزاء، وعبد الله بن شَقيق، وعطاء، وعبد الله بن الصامت، وعبد الله بن عبيد بن عُمير، وأبي العالية، وغيرهم. ورَوَى عنه قتادة، ومات قبله، وشعبة، وحماد بن زيد، وإبراهيم بن طهمان، وحسين المعلم، وأبان العطار، وابناه عبد الله وعبد الرحمن ابنا بديل، وهشام الدستوائي، وهارون النحوي، وقرة بن خالد، وغيرهم. قال ابن سعد، وابن معين، والنسائي. ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال العجليّ: بصري ثقة. وقال البزار: لم يسمع من عبد الله بن الصامت، وإن كان قَدِيمًا. وذكره ابن حبان في "الثقات" كتاب الطبقة الثالثة. وحكى البغوي عن محمد بن سعد أنه قال: ميسرة والد بديل هذا، هو ميسرة الفجر، صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال البغوي: وهو عندي وهمٌ. قال البخاري عن علي بن المديني: مات سنة (13). أخرج له الجماعة، سوى البخاري، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط برقم 214 و 812 و 869 و 893 و 2634 و 2738 و 2987 و 3264. 5 - (أَنسُ بْنُ مَالِكٍ) الصحابي المذكور في الحديث الماضي -رضي الله عنه-، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيات المصنف. 2 - (ومنها): أن رجاله موثّقون. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أنس -رضي الله عنه- أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة -رضي الله عنهم- بالبصرة، مات سنة (3) أو (92)، وقد جاوز مائة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث: (عَنْ أَنسِ بْنِ مَالك) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ لله أَهْلِينَ) جمع أهل، يُرفع بالواو، ويجرّ ويُنصب بالياء؛ لكونه مُلحقًا بجمع الذكّر السالم، كما قال في "الخلاصة": وَارفَع بِوَاوٍ وَبَيَا اجْرُر وَانْصِبِ ... سَالِمَ جمع عَامِرٍ وَمُذْنِبِ وَشِبْهِ ذَيْنِ وَبِهِ عِشْرُونَا ... وَبَابُهُ أُلحقَ وَالأَهْلُونَا وإنما جمعه إشارةً إلى كثرتهم (مِنْ النَّاسِ) بيان لـ"أهلين" (قَالُوا) أي الصحابة السامعون لهذا الحديث (يَا رَسُولَ الله، مَنْ هم؟ قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (هُم أَهْلُ الْقُرآنِ) أي حفظته، الذين يقرءونه آناء الليل وأطراف النهار، ويعملون به (أَهْلُ الله) خبر لمحذوف، أي هم أهل الله (وَخَاصَّتُهُ) أي الذين اختصّهم بمحبّته، والعناية بهم، كاختصاص الإنسان بأهل بيته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أنس بن مالك -صلى الله عليه وسلم- هذا صحيح، قال البوصيريّ في "مصباح الزجاجة": وهذا إسناد صحيح، رجاله موثّقون. انتهى، وهو من أفراد المصنّف أخرجه هنا 38/ 215 بهذا السند فقط، لم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (3/ 127 و 242) و (الدارميّ) في "سننه" (3329) و (النسائيّ) في "فضائل القرآن" من "الكبرى" (56)، والله تعالى أعلم. [تنبيه]: هذا الحديث صحيح، كما مرّ آنفا، وهذا مما يُفنّد قول من زعم أن كلّ حديث انفرد به ابن ماجه عن بقية الأصول، فهو ضعيف، فإن هذا قول صدر من غير تأمّل، وقد مرّ تفنيده غير مرّة، فلا تنس، والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف، وهو واضح.

2 - (ومنها): بيان فضل القرآن، وأن قراءته أفضل العبادة؛ لأنه كلام الله تعالى. 3 - (ومنها): أن الله تعالى يخصّ بعض عباده، فيلهمهم العمل بأفضل الأعمال، حتى يرفع درجاتهم فوق كثير من الناس، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]، {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 216 - (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ دِينَارٍ الحمصِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَدُ ابْنُ حَربٍ، عَنْ أَبِي عُمَرَ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ زَاذَانَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمرَةَ، عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَرَأَ الْقرآنَ، وَحَفِظَهُ أَدخَلَهُ الله الجنّةَ، وَشَفَّعَهُ في عَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتهِ، كُلُّهُم قَدْ اسْتَوْجَبُوا النَّارَ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (عَمْرُو بْنُ عُثْمانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ دِينَارٍ الحمصيُّ) أبو حفص القرشيّ مولاهم، صدوق [10]. رَوَى عن أبيه، ومحمد بن حرب الخولاني، والوليد بن مسلم، ومروان بن معاوية، ومروان بن محمد، وإسماعيل بن عياش، وبقية، وسفيان بن عيينة، وغيرهم. ورَوى عنه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، ورَوَى النسائي في "اليوم والليلة" عن زكريا السجزي عنه، وأبو زوعة، وأبو حاتم، والذهلي، وبقي بن مخلد، وغيرهم. قال أبو زرعة: كان أحفظ من أبي مُصَفَّى، وأحب إليّ منه. وقال أبو حاتم: صدوق. ووثقه النسائيّ في "أسماء شيوخه"، وكذا أبو داود، ومَسْلَمة وثّقاه. وقال عبد الله، ومحمد بن سنان عن موسى بن سهل -هو الجَوْني-: عمرُو بنُ عثمان أحب إليّ من محمد بن مُصَفَّى. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (250). وله في هذا الكتاب (15) حديثا.

2 - (مُحَمَدُ بْنُ حَرب) الْخَولانيّ الحمص المعروف بالأبرش -بالمعجمة- كاتب محمد بن الوليد الزبيدي، ثقة [10]. رَوَى عن الأوزاعي، وابن جريج، ومحمد بن زياد الألهاني، وعمر بن رؤبة التغلبي، وسعيد بن سنان، وعبيد الله بن عمر العمري، وغيرهم. ورَوَى عنه أبو مسهر، وخالد بن خَليّ، وحيوة بن شريح، ومحمد بن وهب بن عطية، وإبراهيم بن موسى الرازي، وهارون الحمال، وحاجب بن الوليد، وعمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار، وآخرون. قال ابن سعد: ولي قضاء دمشق. وقال المُرّوذي عن أحمد: ليس به بأس، وقدّمه على بقية. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: فبقية كيف حديثه؟ قال: ثقة، قلت: هو أحب إليك أو محمد بن حرب؟ قال ثقة ثقة. قال عثمان: وهو الأبرش الحمصي ثقة. وقال العجلي، ومحمد بن عوف، والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال خُشنام بن الصديق. ثنا محمد بن حرب الخولاني، وكان من خيار الناس. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (192)، وقال يزيد بن عبد ربه، وعمرو بن عثمان: مات سنة أربع وتسعين ومائة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط برقم 216 و1665 و 2742 و 3241 و 3349 و 4054. 3 - (أبو عُمَرَ) حفص بن سليمان الأسديّ، أبو عُمَر البزّاز الكوفيّ القارىء، ويقال له: الْغَاضريّ -بمعجمتين- ويُعرف بحُفيص، وقيل: اسم جدّه المغيرة، وهو حفص بن أبي داود قرأ على عاصم بن أبي النَّجُود، وكان ابن امرأته، متروك الحديث، مع إمامته في القراءة [8]. رَوى عن عاصم بن بهدلة، وعاصم الأحول، وعبد الملك بن عمير، وليث بن أبي سليم، وأبي إسحاق السبيعي، وكثير بن زاذان، وجماعة. ورَوى عنه أبو شعيب صالح بن محمد القَوّاس، وقرأ عليه، وحفص بن غياث،

وعلي بن عياش، وآدم بن أبي إياس، وعلي بن حجر، وهشام بن عمار، ومحمد بن حرب الخولاني، وعلي بن يزيد الصدائي، ولُوَين، وغيرهم. قال محمد بن سعد الْعَوفي عن أبيه: حدثنا حفص بن سليمان، لو رأيته لقرّت عيناك فهمًا وعِلْمًا. وقال أبو علي بن الصواف، عن عبد الله بن أحمد عن أبيه: صالح. وقال ابن أبي حاتم عن عبد الله، عن أبيه: متروك الحديث، وكذا قال حنبل بن إسحاق عن أحمد. وقال حنبل عن أحمد مرة أخرى: ما به بأس. وقال يحيى بن معين: زعم أيوب ابن المتوكل -وكان بصريا من القراء- قال: أبو عمر أصح قراءةً من أبي بكر بن عياش، وأبو بكر أوثق منه. وقال عثمان الدارمي وغيره عن ابن معين: ليس بثقة. وقال ابن المديني: ضعيف الحديث، وتركته على عمد. وقال الجوزجاني: قد فُرغ منه من دهر. وقال البخاري: تركوه. وقال مسلم: متروك. وقال النسائي: ليس بثقة، ولا يكتب حديثه، وقال في موضع آخر: متروك الحديث. وقال صالح بن محمد: لا يكتب حديثه، وأحاديثه كلها مناكير. وقال الساجي: يُحدّث عن سماك وغيره أحاديث بواطيل. وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: لا يكتب حديثه، هو ضعيف الحديث، لا يَصدُق، متروك الحديث، قلت: ما حاله في الحروف؟ قال أبو بكر ابن عياش أثبت منه. وقال ابن خِرَاش: كذّاب، متروك، يَضَعُ الحديث. وقال أبو أحمد الحاكم: ذاهب الحديث. وقال يحيى بن سعيد عن شعبة: أخذ مني حفص بن سليمان كتابًا، فلم يردّه، وكان يأخذ كتب الناس فينسخها. وقال الساجي عن أحمد بن محمد البغدادي عن ابن معين: كان حفص، وأبو بكر من أعلم الناس بقراءة عاصم، وكان حفص أقرأ من أبي بكر، وكان كذّابا، وكان أبو بكر صدوقًا. وقال ابن عديّ: عامة حديثه عمن رَوَى محفوظ. قيل: إنه مات سنة (180)، وله تسعون سنة، وقيل: قريبًا من سنة تسعين، قاله

أبو عمرو الداني. وقال: قال وكيع: كان ثقة. وقال ابن حبان: كان يَقْلِب الأسانيد، ويَرفَع المراسيل. وحكى ابن الجوزي في "الوضوعات" عن عبد الرحمن بن مهدي قال: والله ما تَحِلّ الرواية عنه. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال الساجي: حفص ممن ذهب حديثه، عنده مناكير. وذكره البخاري في "الأوسط" في "فصل من مات من ثمانين إلى تسعين ومائة"، وأورد له البخاري في "الضعفاء" حديثه عن ليث بن أبي سُليم، عن مجاهد، عن ابن عمر في الزيارة. أخرج له الترمذيّ، والنسائي في "مسند علي" متابعةً، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (216) وحديث (224). 4 - (كثِيرُ بْنُ زَاذَانَ) النخعيّ الكوفيّ، مجهول [7]. رَوَى عن سلمان أبي حازم الأشجعي، وعاصم بن ضمرة، وعبد الرحمن بن أبي نُعْم. ورَوى عنه حفص بن سليمان الغاضريّ، وحماد بن واقد، وعنبسة بن عبد الرحمن قاضي الرّيّ. قال عثمان بن سعيد عن ابن معين: لا أعرفه. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه، وأبي زرعة: شيخ مجهول. وقال الأزديّ: فيه نظر. وأفاد الخطيب أنه كثير مُؤَذِّن النَّخَع، الذي رَوَى عنه سفيان. تفرّد به الترمذيّ، والمصنّف بهذا الحديث فقط، قال الترمذيّ: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ليس له إسناد صحيح. 5 - (عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ) السَّلُوليّ الكوفيّ، صدوق [3]. رَوَى عن علي، وحكى عن سعيد بن جبير. ورَوَى عنه أبو إسحاق السبيعي، ومنذر بن يعلى الثوري، والحكم بن عتيبة، وكثير بن زاذان، وحبيب بن أبي ثابت، وغيرهم. قال يحيى بن سعيد عن الثوري: كنا نَعرِف فضل حديث عاصم على حديث الحارث. وقال حرب عن أحمد: عاصم أعلى من الحارث. وقال عباس عن يحيى: قُدِّمَ عاصمٌ على الحارث. وقال ابن عمار: عاصم أثبت من الحارث. وقال علي بن المديني،

والعجلي: ثقة. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال البزار: هو صالح الحديث، وأما حبيب بن أبي ثابت، فرَوَى عنه مناكير، وأحسب أن حبيبًا لم يَسمع منه، ولا نعلمه رَوَى عن علي إلا حديثًا أخطأ فيه مسكينُ بن بكير، فرواه عن الحجاج، عن أبي إسحاق، عن عاصم، عن ابن أبي بَصِير، عن أُبَيّ بن كعب، وهذا مما لا يُشَكّ في خطئه، يعني أن الحديث معروف لأبي إسحاق، عن ابن أبي بصير ليس بينهما عاصم، مع أن مسكينًا لم ينفرد بهذا، فقد رواه مَعْمر بن سليمان الرَّقّيّ، عن الحجاج كذلك، والوهم فيه من حجاج بن أرطاة. وقال أبو إسحاق الجوزجاني: هو عندي قريب من الحارث. ورَوى عنه أبو إسحاق حديثًا في تطوع النبي -صلى الله عليه وسلم- ست عشرة ركعة، فيا لعباد الله، أما كان ينبغي لأحد من الصحابة، وأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يَحكِي هذه الركعات؟ إلى أن قال: وخالف عاصم الأمة واتفاقها، فرَوَى أن في خمس وعشرين من الإبل خمسًا من الغنم. قال الحافظ: تَعَصُّبُ الجوزجاني على أصحاب عليّ - رضي الله عنه - معروف، ولا إنكار على عاصم فيما رَوَى هذه عائشة أَخَصّ أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- تقول لسائلها عن شيء، من أحوال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: سل عليّا، فليس بعجب أن يروي الصحابي شيئًا، يرويه غيره من الصحابة بخلافه، ولا سيما في التطوع، وأما حديث الغنم فلعل الآفة فيه ممن بعد عاصم (¬1). وقد تبع الجوزجاني في تضعيفه ابن عديّ، فقال: وحدث عن علي بأحاديث باطلة، لا يتابعه الثقات عليها، والبلاء منه. وقال ابن حبان: كان رديء الحفظ، فاحش الخطأ، على أنه أحسن حالًا من الحارث. وقال خليفة بن خياط: مات في ولاية بشر بن مروان سنة أربع وسبعين ومائة، وكذا أَرّخه ابن سعد، وقال كان ثقة، وله أحاديث. أخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، برقم 216 و1161 و 1169 و 1186 و1460 و 1462. ¬

_ (¬1) الظاهر في العبارة سقط، ولعلّها "فلعل الأمة اتفقت عليه بعد عاصم". والله أعلم.

6 - (عَليُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) -رضي الله عنه- 2،20. شرح الحديث: (عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَرَأَ الْقُرآنَ) أي بالنظر (وحَفِظَهُ) أي غيّبه في قلبه، وقال السنديّ: أي حفظه بمراعاة العمل به، والقيام بموجبه، أو المراد بالحفظ قراءته غيبًا، والواو لا تفيد الترتيب، فيحتمل أن المعنى من حفظ القرآن، وداوم على قراءته بعد ذلك، ولا يتركه، ويحتمل أن المعنى من داوم على قراءته حتى حفظه، وعلى الوجهين ينبغي أن يُعتبر مع ذلك العمل به أيضًا، إذ غير العامل يعدّ جاهلًا، ورواية الترمذيّ صريحة في اعتبار أنه يقرأ بالغيب، وإثباته، ولفظه: "من قرأ القرآن، واستظهره، فأحل حلاله، وحرّم حرامه، أدخله الله به الجنة، وشفعه في عشرة من أهل بيته، كلهم قد وجبت له النار". (أَدخَلَهُ اللهُ الجَنّةَ) أي ابتداء، وإلا فكلّ مؤمن يدخلها (وَشَفَّعَهُ) بتشديد الفاء: أي قَبِل شفاعته (في عَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتهِ، كلُّهُم قَدْ اسْتَوْجَبُوا النارَ) أي استحقّوا دخولها بسبب ذنوبهم، لا بالكفر، نعوذ بالله منه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- هذا ضعيف، أبو عمر حفص بن سليمان متروك الحديث، كما سبق في ترجمته، وشيخه كثير مجهول، قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله بعد إخراجه: هذا حديث غريب، لا تعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بصحيح، وحفص بن سليمان يُضَعَّف في الحديث. انتهى، والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (38/ 216) بهذا السند فقط، وأخرجه (عبد الله بن أحمد) في "زيادات المسند" (1/ 148 و 149) و (الترمذي) (2905)، والله تعالى أعلم

بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 217 - (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبدِ الله الْأَوْدِيُّ، حَدَّثَنَا أبو أُسَامَةَ، عَنْ عَبْدِ الحمِيدِ بْنِ جَعفَرٍ، عَنْ المقْبُرِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، مَوْلَى أَبِي أحمَدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "تَعَلَّمُوا الْقرآنَ، وَاقْرَءُوهُ، وَارقُدُوا، فإِنَّ مَثَلَ القُرْآنِ، وَمَنْ تَعَلَّمَهُ، فَقَامَ بِهِ، كمَثَلِ جِرَابٍ مَحشُوٍّ مِسْكًا، يَفُوحُ رِيحُهُ كلَّ مَكَانٍ، وَمَثَلُ مَنْ تَعَلَّمَهُ فَرَقَدَ، وَهُوَ في جَوْفِهِ، كمَثَلِ جِرَابٍ أُوكِيَ عَلَى مِسْكٍ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الله الْأَوْدِيُّ) الكوفيّ، ثقة [10] 11/ 96 من أفراد المصنّف. 2 - (أبو أُسَامَةَ) حماد بن أُسامة القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت ربما دلّس، من كبار [9] 12/ 102. 3 - (عَبْدُ الحمِيدِ بْنُ جَعفَرٍ) بن عبد الله بن الحكم بن رافع بن سنان الأنصاريّ الأوسيّ، أبو الفضل، ويقال: أبو حفص المدنيّ، ويقال: إن رافع بن سنان جده لأمه صدوقٌ، رُمي بالقدر، وربّما وَهِمَ [6]. رَوَى عن أبيه، وعن عم أبيه عمر بن الحكم، ووهب بن كيسان، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والأسود بن العلاء بن جارية، وسعيد المقبريّ، وغيرهم. ورَوَى عنه ابن المبارك، وخالد بن الحارث، وأبو خالد الأحمر، وعبد الله بن حمران، وهشيم، ووكيع، ويحيى القطان، وأبو أسامة، وغيرهم. قال أحمد: ثقة ليس به بأس، سمعت يحيى بن سعيد يقول: كان سفيان يضعفه من أجل القدر. وقال الدُّوري عن ابن معين: ثقة ليس به بأس، كان يحيى بن سعيد يضعفه، قلت ليحيى فقد رَوَى عنه، قال: قد رَوَى عنه، وكان يضعفه، وكان يرى القدر. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: كان يحيى بن سعيد يوثقه، وكان الثوري يضعفه، قلت: ما تقول أنت فيه؟ قال: ليس بحديثه بأس، وهو صالح. وقال عثمان

الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال ابن المديني، عن يحيى بن سعيد: كان سفيان يَحمِل عليه، ما أدري ما كان شأنه وشأنه؟. وقال أبو حاتم: محله الصدق. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عديّ: أرجو أنه لا بأس به، وهو ممن يُكتَب حديثه. وقال الفضل بن موسى: كان ممن خرج مع محمد بن عبد الله بن حسن. وقال الساجي: ثقة، صدوق، ضعفه الثوري. ونقل ابن خلفون توثيقه عن ابن نمير. وقال النسائي في "كتاب الضعفاء": ليس بقوي. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أخطأ. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، مات بالمدينة سنة ثلاث وخمسين ومائة، وهو ابن سبعين سنة. أخرج له مسلم، والأربعة، وعلّق له البخاريّ، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا. 4 - (المقْبُرِيُّ) سعيد بن أبي سعيد كيسان، أبو سَعد المدنيّ، وكان أبوه مكاتبًا لامرأة من بني ليث، والمقبري نسبة إلى مقبرة بالمدينة، كان مجاورًا لها، ثقة تغيّر قبل موته بأربع سنين [3]. رَوَى عن سعد، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وعائشة، وأم سلمة، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبي شُريح، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وابن عمر، وعن أبيه أبي سعيد، وخلق كثير. ورَوَى عنه مالك، وابن إسحاق، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وابن عجلان، وابن أبي ذئب، وعبد الحميد بن جعفر، وعبيد الله بن عمر، وخلق كثير. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ليس به بأس. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: سعيد أوثق -يعني من العلاء بن عبد الرحمن-. وقال ابن المديني، وابن سعد، والعجلي، وأبو زرعة، والنسائي: ثقة. وقال ابن خِرَاش: ثقة جليل أثبت الناس فيه الليث بن سعد. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال يعقوب بن شيبة: قد كان تغير، وكبر، واختلط قبل موته، يقال: بأربع سنين، وحسان شعبة يقول: ثنا سعيد المقبري بعد ما كبر. وقال الواقدي: اختلط قبل موته بأربع سنين. وقال ابن عدي: إنما ذكرته لقول شعبة

هذا، وأرجو أن يكون من أهل الصدق، وما تكلم فيه أحد إلا بخير. وقال البخاري رَوَى عنه يحيى بن أبي كثير، فقال: عن أبي سعد، عن أبي شُريح. وقال ابن حبان في "الثقات": اختلط قبل موته بأربع سنين. وقال الساجي: قال ابن معين: أثبت الناس في سعيدٍ ابنُ أبي ذئب. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي هل سمع المقبري من عائشة؟ فقال: لا. وذكر عبد الحق الإشبيلي أنه لم يسمع من أم سلمة أيضًا. وقال ابن عساكر: قَدِم الشام مرابطًا، وحَدّث بساحل بيروت. قال: وقد فَرّق الخطيب بين سعيد بن أبي سعيد الذي حدث ببيروت، وبين المقبري، ووَهِمَ في ذلك (¬1). قال البخاري: مات بعد نافع، وقال نوح بن حبيب: مات سنة (117)، وقال يعقوب بن شيبة وغيره: مات في أول خلافة هشام. وقال ابن سعد، وابن أبي خيثمة: مات في آخر خلافة هشام سنة (123)، وقال أبو عبيد: مات سنة (25)، وقال خليفة سنة (26). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (49) حديثًا. ¬

_ (¬1) قال الحافظ في "تهذيب التهذيب" 2/ 22: ما نصّه: وذكر الحافظ سعد الدين الحارثيّ أن ابن عساكر لم يُصِب في توهيم الخطب، فقد جاء في كثير من الروايات، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن سعيد بن أبي سعيد الساحليّ، عن أنس، والرواية التي وقعت لابن عساكر، وفيها: عن ابن جابر عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، كأنها وَهمٌ من أحد الرواة، وهو سليمان بن أحمد الواسطي، فإنه ضعيف جدّا، وأن المقبري لم يقل أحدٌ أنه يُدعَى الساحلي، وهذا الساحليّ غير معروف، تفرد عنه ابن جابر، وقد روى ابن ماجه في "الجهاد"، عن عيسى بن يونس الرمليّ، عن محمد بن شعيب ابن شابور، عن سعيد بن خالد بن الصيداوي، ويقال: البيروتي، عن أنس، حديثًا فيحتمل أن يكون سعيد بن أبي سعيد الساحليّ هو سعيد بن خالد هذا، فقد أخرج له ابن ماجه حديثين، من رواية ابن شعيب، عن ابن جابر عنه، فيحتمل أن يكون ابن جابر سقط في حديث سعيد بن خالد، والله أعلم. وفي الرواة سعيد بن أبي سعيد غير هذا أربعة عشر رجلًا، ذكر أكثرهم الخطيب في "المتفق والمفترق"، وتركتهم تخفيفًا. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى.

5 - (عَطَاءٌ، مَوْلَى أَبِي أَحمَدَ) أو ابن أبي أحمد بن جَحْش الحجازي، مجهول (¬1) [3]. رَوَى عن أبي هريرة هذا الحديث، وعنه سعيد القبريّ، ذكره ابن حبان في "الثقات"، قال الحافظ: قرأت بخط الذهبي: لا يُعرَف. أخرج له أبو داود، والنسائي، والمصنف هذا الحديث الواحد، وحسنه الترمذي. 6 - (أبو هرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- 1/ 1. شرح الحديث: (عَن أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه-، أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: (تَعَلَّمُوا الْقرآنَ) سبب قوله -صلى الله عليه وسلم-: تعلّموا إلخ هو ما أخرجه الترمذيّ مطوّلًا، ولفظه: قال: حدثنا الحسن بن علي الحلواني، حدثنا أبو أسامة، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن سعيد المقبري، عن عطاء مولى أبي أحمد، عن أبي هريرة، قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بَعْثًا، وهم ذُو عدد، فاستقرأهم، فاستقرأ كلَّ رجل منهم ما معه من القرآن، فأتى على رجل منهم، مِن أحدثهم سِنًّا فقال: "ما معك يا فلان؟ " قال: معي كذا وكذا، وسورة البقرة، قال: "أمعك سورة البقرة؟ " فقال: نعم، قال: "فاذهب، فأنت أميرهم"، فقال رجل من أشرافهم: والله يا رسول الله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة، إلا خشية ألّا أقوله بها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تعلموا القرآن، واقرءوه، فإن مَثَلَ القرآن لمن تعلمه فقرأه، وقام به، كمَثَل جراب مَحْشُوّ مسكًا يفوح ريحه في كل مكان، ومثل من تعلمه فيرقد، وهو في جوفه كمثل جراب، وُكِئ على مسك". (وَاقْرَءُوهُ) أي داوموا على قراءته، مع العمل به (وَارقُدُوا) قال السنديّ رحمه الله: ذكره للتنبيه على أن قارىء القرآن لا يُمنع من النوم، ولا يُعاقب عليه، إذا كان مع ¬

_ (¬1) هذا أولى من قوله في "التقريب": مقبول؛ لأنه مجهول عين؛ إذ لم يرو عنه غير المقبريّ، ولا يُعرف إلا في هذا الحديث، فتنبّه. راجع ما كتبه الدكتور بشّار في تحقيقه لهذا الكتاب 1/ 208.

أداء حقّ القرآن، وإنما يعاقب عليه إذا فَوّت عليه أداء حقّ القرآن. انتهى (فَإِنَّ مَثَلَ القرآن، وَمَنْ تَعَلَّمَهُ، فَقَامَ بِهِ) أي تشمّر لأداء حقّه قراءةً وعملًا (كمَثَلِ جِرَابٍ) بكسر الجيم وعاءٌ معروف، وفي "الصحاح": والعامّة تفتحها، وفي "المصباح": الجِرَابُ معروفٌ، والجمع جُرُبٌ، مثلُ كتابٍ وكُتُبٍ، وسُمِع أَجْرِبةٌ أيضًا، ولا يقال جَرَابٌ بالفتح، قاله ابن السّكّيت، وغيره. انتهى (¬1). وفي "القاموس": ولا يُفتح، أو هي لُغيّة فيما حكاه النوويّ، وعياض قبله: المِزوَد، أو الْوِعَاءُ. انتهى (¬2) (مَحْشُوٍّ) بتشديد الواو، كمَدعُوّ: أي مملوء (مِسْكًا) بكسر الميم، وسكون السين المهملة، قال في "المصباح": المسكُ طيب معروف، وهو معَرَّبٌ، والعرب تسمّيه المشموم، وهو عندهم أفضل الطيب، ولهذا ورد "لخلُوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك"، ترغيبًا في إبقاء أثر الصوم، قال الفرّاء: المِسْكُ مذكّرٌ، وقال غيره: يُذكَّر ويؤنَّثُ، فيقال: هو المسكُ، وهي المسكُ، وأنشد أبو عُبيدة على التأنيث قولَ الشاعر [من الرجز]: وَالمِسْكُ وَالْعَنْبَرُ خَيْرُ طِيبِ ... أُخِذَتَا بِالثَّمَنِ الرَّغِيب وقال السجستانيّ: من أنّثَ المسك جعله جمعًا، فيكون تأنيثه بمنزلة تأنيث الذهب والعَسَلِ، قال: وواحدته مِسْكَةٌ، مثلُ ذهب وذَهبة (¬3). (يَفُوحُ رِيحُهُ) أي ينتشر، يقال: فاح المسك يفوح فَوْحًا، ويفيح فَيْحًا أيضًا: إذا انتشر ريحه، قالوا: ولا يقال: فاح إلا في الريح الطيّبة خاصّةً، ولا يقال في الخبيثة والمنتنة: فاح، بل يقال: هبَّتْ ريحها. قاله الفيّوميّ (¬4) (كلَّ مَكَان) منصوب على الظرفيّة، ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" 1/ 9. (¬2) "القاموس" ص 63. (¬3) "المصباح المنير" 2/ 573. (¬4) "المصباح" 2/ 482.

متعلّق بـ "يفوح" (وَمَثَلُ مَنْ تَعَلَّمَهُ فَرَقَدَ) أي غفل ونام (وَهُوَ في جَوْفِهِ) جملة في محلّ نصب على الحال (كَمَثَلِ جِرَابٍ أُوكِيَ) بضم أوله، مبنيّا للمفعول، من أوكيتُ السقاء: إذا ربطتَ فمه بالوكاء، بالكسر: خيطٌ تُشدّ به الأوعية. والمعنى أنه ملأه مسكًا، وربط فمه (عَلَى مِسْكٍ) أي لأجله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا ضعيف؛ لجهالة عطاء مولى أبي أحمد؛ إذ لم يرو عنه إلا المقبريّ، ولا يُعرف إلا بهذا الحديث، فتحسين الترمذيّ له غير مقبول، قال الترمذيّ: وقد رواه الليث بن سعد، عن سعيد المقبريّ، عن عطاء، مولى أبي أحمد، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مرسلًا، ولم يذكر فيه "عن أبي هريرة"، حدثنا قتيبة، عن الليث، فذكره. انتهى كلام الترمذيّ رحمه الله. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (38/ 217) بهذا السند فقط، وأخرجه (الترمذيّ) (2876) و (النسائيّ) في "الكبرى" (¬1) و (ابن خزيمة) في "صحيحه" (1509) و (2540) والمزيّ في "تهذيب الكمال" من طريق الطبرانيّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ¬

_ (¬1) راجع "تحفة الأشراف" 10/ 280.

وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 218 - (حَدَّثَنَا أبو مَرْوَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمانَ الْعُثْمانِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ ابْنِ شِهاب، عَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، أَبِي الطُّفَيْلِ، أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الحارِثِ، لَقِيَ عُمَرَ بْنَ الخطَّابِ بِعُسْفَانَ، وَكَانَ عُمَرُ اسْتَعمَلَهُ عَلَى مَكَّةَ، فَقَالَ: عُمَرُ مَنْ اسْتَخْلَفْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي؟ قَالَ: اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْهِم ابْنَ أبزَى، قَالَ: وَمَنْ ابْنُ أبزَى؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ مَوَالِينَا، قَالَ عُمَرُ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِم مَوْلًى؟ قَالَ: إِنهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ الله تَعَالَى، عَالمٌ بِالْفَرَائِضِ، قَاضٍ، قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُم -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ الله يَرفَعُ بِهذَا الْكِتَابِ أَقوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (أبو مَرْوَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمانَ الْعُثْمانِيُّ) المدنيّ، نزيل مكة المذكور قبل باب. 2 - (إِبْرَاهِيمُ بْنُ سعدٍ) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة حجة، تُكُلِّم فيه بلا قادح [8] 2/ 14. 3 - (ابْنُ شِهابٍ) محمد بن مسلم بن الزهريّ الإمام الحجة الثبت [4] 2/ 15. 4 - (عامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ، أبو الطُّفَيْلِ) هو: عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو بن جَحْش، ويقال: خميس بن جري بن سَعْد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن علي بن كنانة، أبو الطفيل الليثيّ، ويقال: اسمه عَمرو، والأول أصح، وُلد عام أُحُد. رَوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن أبي بكر، وعمر، وعلي، ومعاذ بن جبل، وحذيفة، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي سَرِيحة، ونافع بن عبد الحارث، وزيد بن أرقم، وغيرهم. ورَوَى عنه الزهريّ، وأبو الزبير، وقتادة، وعبد العزيز بن رُفيع، وسعيد بن إياس الجُريري، وعبد الملك بن سعيد بن أبجر، وخلق كثير. قال مسلم: مات أبو الطفيل سنة مائة، وهو آخر من مات من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال خليفة: مات بعد سنة مائة، ويقال. مات سنة سبع. وقال وهب بن جرير ابن حازم عن أبيه: كنت بمكة سنة عشر ومائة، فرأيت جنازة، فسألت عنها، فقالوا: هذا أبو الطفيل. وقال ابن الْبَرْقي: مات سنة 102. وقال موسى بن إسماعيل: ثنا

مبارك بن فَضَالة، ثنا كثير بن أعين، سمعت أبا الطفيل بمكة سنة سبع ومائة يقول: ضَحِكَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، فذكر قصة، وقال ابن السكن: رُوِي عنه رؤيته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من وجوه ثابتة، ولم يُرو عنه من وجه ثابت سماعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقال ابن سعد: حدثنا عمرو بن عاصم، ثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي الطفيل، قال: كنت أطلب النبي -صلى الله عليه وسلم- فيمن يطلبه ليلة الغار، قال: فقمت على باب الغار، ولا أرى فيه أحدًا، ثم قال ابن سعد: وهذا الحديث غَلَطٌ، أبو الطفيل لم يولد تلك الليلة، وينبغي أن يكون حَدَّث بهذا الحديث عن غيره، فأوهم الذي حَمَل عنه، وكان أبو الطفيل ثقة في الحديث، وكان مُتَشَيِّعا. وذكر البخاري في "التاريخ الصغير" هذا الحديث عن عمرو بن عاصم، وقال: الأول أصح -يعني قوله: أدركت ثمان سنين من حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": حدثنا عقبة بن مكرم، ثنا يعقوب بن إسحاق، ثنا مهدي بن عمران الحنفي، قال: سمعت أبا الطفيل يقول: كنت يوم بدر غلامًا، قد شددت علي الإزار، وأنقل اللحم من السهل إلى الجبل. وقوله: "يوم بدر" -كما قال الحافظ- وَهمٌ، والصواب "يوم حنين"، والله أعلم، قال: فقد رَوَيناه هكذا من طريق أخرى، عن أبي الطفيل. وقال ابن عديّ له صحبةٌ، قد رَوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قريبًا من عشرين حديثًا، وكانت الخوارج يرمونه باتصاله بعليّ، وقولِهِ بفضله وفضل أهل بيته، وليس في رواياته بأس. وقال ابن المديني: قلت لجرير: أكان مغيرة يَكره الرواية عن أبي الطفيل؟ قال: نعم. وقال صالح بن أحمد عن أبيه: أبو الطفيل مكي ثقة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث فقط، برقم 218 و1070 و 1536 و 1537 و 2949 و 2953 و 3119 و4041 و4055. 5 - (عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ) -رضي الله عنه- 3/ 28، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف.

2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، وهو ثقة. 3 - (ومنها): أن فيه رواية صحابيّ عن صحابي. 4 - (ومنها): أن صحابيّه أحد الخلفاء الراشدين، والعشرة البشرين بالجنّة - رضي الله عنهم -، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَن عَامِرِ بنِ وَاثِلَةَ، أَبِي الطُّفَيلِ) -رضي الله عنه- (أَنَّ نَافِعَ بنَ عَبْدِ الحارِثِ) بن خالد بن عُمير بن الحارث الخزاعيّ، روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ورَوَى عنه أبو الطفيل، وجَمِيل بن عبد الرحمن، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبد الرحمن بن فَرُّوخ، مولى عمر - رضي الله عنه -، قال ابن عبد البر: كان من كبار الصحابة وفضلائهم، وقيل: إنه أسلم يوم الفتح، وأقام بمكة، ولم يهاجر، قال: وأنكر الواقدي أن تكون له صحبة، وذكره ابن سعد في طبقة الفَتْحِيين، وذكره ابن حبان، والعسكريّ، وجماعة في الصحابة. أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، والباقون، سوى الترمذيّ. (لَقِيَ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ) -رضي الله عنه- (بِعُسفَانَ) بصم العين، وسكون السين المهملتين، موضع بين مكة والمدينة، وبينه وبين مكة نحو ثلاث مراحل، ونونه زائدة، وهو يُذكّر ويؤنّث (¬1) (وَكَان عُمَرُ) -رضي الله عنه- (اسْتعمَلَهُ عَلَى مَكَّةَ) أي جعله أميرًا عليها (فقالَ: عمر) -رضي الله عنه- (مَنْ اسْتَخلَفْت على أَهْلِ الوَادِي؟) أي على أهل مكة (قَالَ) نافع -رضي الله عنه- (استَخلَفتُ ابنَ أبزَى) بفتح الهمزة، وسكون الموحّدة، بعدها زاي، مقصورًا، وهو: عبد الرحمن بن أبزى الخزاعيّ، مولى نافع بن عبد الحارث، مختلف في صحبته، استخلفه نافع بن عبد الحارث على أهل مكة أيام عمر، وقال لعمر: إنه قارىء لكتاب الله، عالم بالفرائض، ثم سكن الكوفة، رَوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن أبي بكر، وعمر، وعليّ، وعمار، وأُبي بن كعب، وغيرهم، وعنه ابنه سعيد، وعبد الله بن أبي المجالد، والشعبي، وأبو مالك غَزْوان ¬

_ (¬1) راجع "المصباح المنير" 2/ 409.

الغِفَاريّ، وأبو إسحاق السبيعي، وغيرهم، ذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وقال ابن أبي داود: لم يحدِّث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من التابعين، إلا ابن أبزي، وقال البخاريّ: له صحبة، وذكره غير واحد في الصحابة. وقال أبو حاتم: أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصَلَّى خلفه، وقال ابن عبد البر: استعمله عليّ على خراسان، وذكره ابن سعد فيمن مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهم أحداث الأسنان، وممن جزم بأن له صحبةً خليفةُ بن خياط، والترمذي، ويعقوب بن سفيان، وأبو عروبة، والدارقطني، والْبَرْقيّ، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وغيرهم، وفي "صحيح البخاري" من حديث ابن أبي المُجالد أنه سأل عبد الرحمن ابن أبزي، وابن أبي أوفى عن السلف، فقالا: كنا نُصيب المغانم مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ... الحديث، وقال ابن سعد: أخبرنا أبو عاصم، أنا شعبة، عن الحسن بن عمران، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزي، عن أبيه، أنه صلَّى مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فكان إذا خفض لا يكبر. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط برقم 569 و1171 و 1182 و 2282. (قَالَ) -رضي الله عنه- (وَمَنْ ابْنُ أبزَى؟، قَالَ) نافع -رضي الله عنه- (رَجُل مِنْ مَوَالِينَا) بفتح الميم، جمع مولًى، يُطلق على المُعْتِق، بكسر التاء، والمُعْتَق، بفتحها، وهو المراد هنا (قَالَ عُمَرُ) -رضي الله عنه-، (فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِم مَوْلًى؟) بتقدير همزة الاستفهام، أي أفاستخلفت إلخ، والاستفهام للإنكار، وليس إنكار عمر -رضي الله عنه- توليته عليهم؛ استخفافًا به، واحتقارًا له، وإنما أنكر فوات غرض التولية، وذلك أن المقصود من التولية ضبط أمور الناس، وسياستهم، وهذا يحتاج أن يكون الموَلَّى عليهم رجلًا مُهابًا، له عظمةٌ وشرفٌ في قلوب العامّة، وإلا استخفّوا به، ولم يُطيعوه، فيفوت بذلك غرض الولاية، والله تعالى أعلم (قَالَ) نافع -رضي الله عنه- مبيّنًا سبب توليته عليهم، وأنَّ له مؤهّلًا لذلك (إِنَّهُ قَارِئ لِكِتَابِ الله تَعَالَى) أي عالم بالقرآن، وعاملٌ به (عَالم بِالْفَرَائِضِ) أي بقسمة المواريث على كتاب الله (قَاضٍ) أي عالم بالقضاء بين الناس بالعدل.

والمعنى أن هذا الأمير رفعه الله تعالى عليهم بهذه الأمور، وهم يعرفون منه ذلك، فيحترمونه، ويُعظّمونه، ويطيعون أمره، فتستقيم أمورهم، وتستقرّ أحوالهم (قَالَ عُمَرُ) -رضي الله عنه- عند ذلك، مستحسنًا فعل نافع، وأنه قد ولّى عليهم من يستحقّ الولاية (أَمَا) أداة استفتاح وتنبيه، كـ "ألا" (إِنَّ نَبِيَّكُم) بكسر همزة "إن"؛ لوقوعها في الابتداء -صلى الله عليه وسلم- (قَالَ: إِنَّ الله يَرْفَعُ) أي يشرّف، ويكرم في الدنيا والآخرة، بأن يحييهم حياةً طيّبةً في الدنيا، ويجعلهم {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] في الآخرة (بِهذَا الْكِتَابِ) أي القرآن الكريم البالغ في الشرف، وظهور البرهان مبلغًا لم يبلغه غيره من الكتب المنزّلة على الرسل المتقدّمة. قال الطيبيّ: أطلق الكتاب على القرآن ليثبت الكمال؛ لأن اسم الجنس إذا أُطلق على فرد من أفراده يكون محمولًا على كماله، وبلوغه إلى حدّ هو الجنس كلّه، كأن غيره ليس منه انتهى (¬1) (أَقْوَامًا) أي يرفع درجة أقوام بسبب الإيمان به، وتعظيم شأنه، والعمل بما فيه (وَيَضَعُ بِهِ) أي يُحقّرهم، ويُصغّر قدرهم في الدنيا والآخرة، بسبب إعراضهم عنه، وعدم عنايتهم به، وتضييعهم حدوده، وجهلهم بها فيه (آخَرِينَ) وهم الذين لم يؤمنوا به، أو آمنوا، ولم يعملوا به، كما قال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26]، وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- هذا أخرجه مسلم. ¬

_ (¬1) رجع "المرعاة" 7/ 179.

(المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (38/ 218) بهذا السند فقط، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (1/ 35) و (الدارميّ) في "سننه" (3368) و (مسلم) (2/ 201) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (772) و (البغويّ) في "شرح السنة" (1184)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه الله-، وهو بيان فضل من تعلم القرآن وعلمه، وهو واضح. 2 - (ومنها): بيان أن من قرأ كتاب الله، وعمل بمقتضاه، مخلصًا رفعه الله تعالى فوق كثير من عباده المؤمنين، ومن قرأه مرائيًا، غير عامل به، وضعه الله أسفل السافلين. 3 - (ومنها): ما كان عليه عمر -رضي الله عنه- من متابعة أمرائه في سياستهم لرعيتهم؛ لئلا يضيعوا حقوقهم، فيكون هو المسئول عن ذلك؛ لأنه الراعي الأول، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"، متّفقٌ عليه. 4 - (ومنها): أن من كان عالِمًا بكتاب الله، وبالفرائض، وعرف أحكام القضاء هو الذي يستحقّ أن يتولّى أمور المسلمين، وإن كان دنيء النسب، وأن من كان جاهلًا بهذه الأمور لا يستحقّ ذلك، وإن كان شريف النسب. 5 - (ومنها): فضل علم الفرائض، وشرفه، فإنه العلم الذي أعلى الله تعالى قدره، حيث تولّى بنفسه قسمته في كتابه العزيز، ولم يكله إلى أحد. 6 - (ومنها): فضل معرفة أحكام القضاء؛ لأن به تنحلّ المشكلات بين الناس، وتصلح أحوالهم، وتستقيم معاشهم، ويحسن معادهم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 219 - (حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الله الْوَاسِطِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ غَالِبٍ الْعَبَّادَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ زِيَادٍ الْبَحْرَانِيِّ، عَنْ عَليِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "يَا أبا ذَرٍّ لَأَنْ تَغْدُوَ، فَتَعَلَّمَ آيَةً مِنْ كتَابِ اللَّه خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ مِائَةَ رَكْعَةٍ، وَلَأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ بَابًا مِنْ الْعِلْمِ، عُمِلَ بِهِ أَوْ لَمْ يُعْمَل، خيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ أَلْفَ رَكْعَةٍ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّه الْوَاسِطِيُّ) هو: العباس بن عبد الله بن أبي عيسى الواسطيّ البَاكِسَائِيّ، أبو محمد، ويقال: أبو الفضل التَّرْقُفِيّ بفتح المثناة، وسكون الراء، وضم القاف، بعدها فاء -نزيل بغداد، ثقة عابدٌ [11]. روى عن أبي عبد الرحمن المقرىء، وأبي مسهر، وعبد الله بن غالب العباداني، ورَوّاد بن الجراح، وأبي عاصم، ومحمد بن يوسف الفريابي، وأبي حذيفة، وغيرهم. ورَوَى عنه ابن ماجه حديثًا واحدًا، وأبو عوانة الإسفرائيني، وأبو العباس بن شُريح الفقيه، وأبو بكر بن مجاهد المقرئ، وموسى بن هارون الحمال، وغيرهم. قال محمد بن إسحاق السَّرّاج: حدثني العباس بن عبد الله التَّرْقُفِيّ، صدوق ثقة. وقال الدارقطني: ثقة. وذكر ابن حبان في "الثقات". وقال محمد بن مخلد: ما رأيته ضَحِكَ، ولا تبسم. وقال الخطيب: كان ثقةً دَيِّنًا صالحًا عابدًا. وقال مسلمة بن قاسم: كان ثقةً، حدثنا عنه أبو سعيد بن الأعرابيّ، وقال أبو سعد بن السمعاني: كان ثقةً صدوقًا حافظًا، رَحَلَ إلى الشام في الحديث. وقال ابن المنادي: مات سنة سبع وستين ومائتين، وكذا قال ابن كامل قال: وكان ثقةً، وقال ابن قانع: مات سنة (7)، وقيل في المحرم: سنة (68)، وقال أبو القاسم البغويّ: مات سنة (57)، قال الخطيب: وهو خطأ لا شُبْهَة فيه، والصحيح الأول. وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

[تنبيه]: العباس بن عبد الله هذا من الشيوخ الذين تفرّد بهم المصنّف، وهو مجمع على ثقته، وجلالته، وهذا مما يُفنّد زعم من زعم أن كلّ من تفرّد بهم ابن ماجه ضعفاء، فإن هذا كلام مجازف فيه، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتهوّر بالاعتساف، والله تعالى وليّ التوفيق. 2 - (عَبْدُ اللَّه بْنُ غَالِبٍ الْعَبَّادَانِيُّ) مستور [9]. رَوَى عن عبد الله بن زياد البحراني، والربيع بن صَبِيح، وعامر بن يساف، وهشام بن عبد الرحمن الكوفي، وإسماعيل بن زياد العمي. ورَوَى عنه العباس بن عبد الله التَّرْقُفِيّ، ومحمد بن عَبْدَك الْقَزّاز، ويحيى بن عبد الأعظم الْقَزْويني، وأحمد بن نصر الفراء النيسابوري، وسهل بن عاصم، وأبو بدر عباد ابن الوليد الْغُبَريّ، وأبو يوسف يعقوب بن إسحاق الْعَلَوِيّ، ويونس بن سابق. تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط. 3 - (عَبْدُ اللَّه بْنُ زِيَاد الْبَحْرَانِيِّ) البصريّ، مستور [6]. رَوَى عن عَليّ بن زيد بن جُدْعان، ورَوَى عنه عبد الله بن غالب الْعَبّاداني، وأبو المهلب هُرَيم بن عثمان. قال الحافظ: ما أستبعد أن يكون عبد الله بن زياد اليماني السُّحَيميّ، فإن له روايةً عن علي بن زيد بن جُدعان وطبقته. تفرّد به المصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث، وحديث (1617) "كسر عظم الميت ككسر عظم الحيّ. . . .". 4 - (عَليُّ بْنُ زَيْدٍ) بن عبد الله بن زُهير بن عبد الله بن جُدْعان التيميّ البصريّ، ضعيف [4] 14/ 116. 5 - (سَعِيدُ بْنُ المسَيَّبِ) بن حزن المدنيّ الفقيه الحجة الثبت، من كبار [3] 12/ 104. 6 - (أبو ذَرٍّ) الغِفَاريّ الصحابيّ جُنْدَب بن جُنادة، وقيل: غيره -رضي الله عنه- 12/ 108.

شرح الحديث: (عَنْ أَبِي ذَرٍّ) جندب بن جُنادة -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: يَا أَبَا ذَرٍّ لَأَنْ) اللام لام الابتداء، و"أَن" بفتح الهمزة، وسكون النون مصدريّة (تَغْدُوَ) صلة "أن" والمصدر المؤوّل مبتدأ خبره قوله: "خير". وهو كقوله -عز وجل-: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]، و"غدا يغدو" من باب قعد: ذهب غُدْوة، وهي ما بين صلاة الصبح، وطلوع الشمس، وجمعه غُدًى، مثلُ مُدية ومُدى، هذا أصله، ثم كثُر حتى استُعمل في الذهاب، والانطلاق أيَّ وقتٍ كان، ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "واغدُ يا أُنيس"، أي وانطلق (¬1). والمعنى هنا خروجك من بيتك غُدْوَةً، أي صباحًا (فَتَعَلَّمَ) يحتمل أن يكون بفتح التاء، وسكون العين، وفتح اللام، من العلم ثلاثيّا، ويحتمل أن يكون من التعلّم، فيكون من باب حذف إحدى التاءين، وأصله، فتتعلّم، كما قال في "الخلاصة": وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ ... فِيهِ عَلَى تَا كَتبَيَّنُ الْعِبَرْ والاحتمال الثاني أظهر معنى (آيَةً) منصوب على المفعوليّة (مِنْ كتَابِ اللهِ) أي القرآن العظيم (خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ مِائَةَ رَكعَةٍ) أي نافلةً؛ لأن تعلّم الآية فرض، ولو على سبيل الكفاية، بخلاف الصلاة النافلة (وَلَأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ) بالضبطين المذكورين (بَابًا) أي نوعًا (مِنْ الْعِلْمِ) الشرعيّ، سواء كان الأصل، وهو كتاب الله تعالى، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، أو فرعًا، وهي الوسائل، كمعرفة القواعد العربيّة، من النحو والصرف، والاشتقاق، والبلاغة، وغيرها (عُمِلَ بِهِ) ببناء الفعل للمفعول، أي سواء عَمِلَ به الناس في الحال؛ لأنه سيُعمل به في المآل (أَوْ لَمْ يُعْمَلْ) بالناء للمفعول أيضًا، أي أو لم يَعْمَل به أحدٌ في الحال أيضًا، وقال السنديّ، أي سواء كان علمًا متعلّقًا بكيفيّة العمل، كالفقه، أو لا بأن يكون متعلّقا بالاعتقاد مثلًا، وليس المراد أن يكون علمًا لا يُنتفع به. ¬

_ (¬1) راجع "المصباح المنير" 2/ 443.

انتهى (¬1) والمعنى الأول أقرب؛ لأن الاعتقاد عمل قلبيّ أيضًا، فليس ما يتعلق به خارجًا عن العمل، فتأمل. والله تعالى أعلم. (خَيرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ أَلْفَ رَكْعَةٍ) إنما زاد فضل تعلّم العلم؛ لأن به تصحيح العبادة، فلا يتمكنّ عامة الناس من معرفة صحة الصلاة، وبطلانها، ونحو ذلك إلا عن طريق الفقه، بخلاف تعلّم القرآن، فإن معرفتهم عنه، وأخذهم أحكام ذلك عنه مباشرة صعبٌ إلا على أهل العلم المجتهدين. والله تعالى أعلم بالصواب. قال الجامع -عفا الله عنه-: حديث أبي ذرّ -رضي الله عنه- هذا من أفراد المصنّف، وهو حديث ضعيف؛ لضعف عليّ بن زيد بن جُدْعان، وعبد الله بن غالب، وعبد الله بن زياد من مجهولي الحال، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. ¬

_ (¬1) "شرح السندي" 1/ 143.

39 - باب فضل العلماء، والحث على طلب العلم

39 - (باب فضل العلماء، والحث على طلب العلم) وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 220 - (حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ خَلَفٍ أَبُو بِشرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ مَعْمَرٍ، عنْ الزُّهْرِيِّ، عنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، عن أَبِي هُرَيرَةَ، قالَ: قَالَ رَسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ يُرِدْ الله بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (عبد الأعلى) بن عبد الأعلى السامي، أبو محمد البصريّ، ثقة [8] 12/ 108. 2 - (معمر) بن راشد، أبو عروة البصري، ثم اليمنيّ، ثقة ثبت فاضل [7] 2/ 161. والباقون تقدّموا في الباب الماضي. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: شرح هذا الحديث يأتي في الحديث التالي، وهو مضطرب الإسناد، والصحيح أنه من حديث معاوية -رضي الله عنه- الآتي بعد هذا، ومن حديثه أخرجه الشيخان في "صحيحيهما"، وقد أخرجه النسائي -رحمه الله- في "الكبرى" من حديث شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، ثم قال: وخالفه يونس عن الزهريّ، عن حميد بن عبد الرحمن، عن معاوية -رضي الله عنه-، انتهى، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" 2/ 234، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 221 - (حَدَّثَنَا هِشَامُ بنُ عمَّارٍ، حَدَّثَنَا الْوَليدُ بنُ مسلِمٍ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ جَنَاحٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ، أنَّهُ حَدَّثَهُ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفيَانَ، يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- أنَّهُ قَالَ: "الخيْرُ عَادَةٌ، وَالشَّرُّ لجَاجَةٌ، وَمَنْ يُرِد الله بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (هِشَامُ بْنُ عمَّارٍ) الدمشقيّ الخطيب، صدوقٌ مقرىء، كبر فصار يتلقّن،

فحديثه القديم أصحّ، من كبار [10] 1/ 5. 2 - (الْوَليدُ بْنُ مُسْلِمٍ) أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقة، كثير التدليس والتسوية [8] 6/ 42. 3 - (مَرْوَانُ بْنُ جَنَاحٍ) الأمويّ مولاهم الدمشقيّ، كوفيّ الأصل، صدوقٌ [6]. رَوَى عن أبيه، والأعمش، ويونس بن مَيْسرة بن حَلْبَس، وعمر بن عبد العزيز، وسعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، وهشام بن عروة، وغيرهم. ورَوَى عنه الوليد بن سليمان بن أبي السائب، وهو من أقرانه، وصدقة بن خالد، ومحمد بن شعيب بن شابور، والوليد بن مسلم، وجماعة. قال الوليد بن مسلم: هو أثبت من أبي بكر بن أبي مريم. وقال دُحَيم، وأبو داود: ثقة. وقال أبو حاتم: هو أحب إلي من أخيه رَوْح، وهما شيخان يُكتب حديثهما، ولا يحتج بهما. وقال الدارقطني: لا بأس به، شاميّ، أصله كوفي. وقال أبو علي النيسابوري: مروان ثقة، ورَوح في أمره نظر. وذكره ابن حبان في "الثقات". تفرّد به أبو داود، والمصنّف، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم 221 وحديث (1499) "اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك ... "، وحديث (2619) "لزوال الدنيا أهون على الله. . . .". 4 - (يُونُسُ بْنُ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ) الدمشقيّ الأعمى، ثقة عابد معمّر [3] 35/ 202. 5 - (مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ) صخر بن حَرب الصحابيّ ابن الصحابيّ الخليفة رضي الله عنهما 1/ 9، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سُداسيات المصنّف. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم موثّقون. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بالدمشقيين، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث: (عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ) بفتح الحاء المهملة، وسكون اللام، وفتح الموحّدة، آخره سين مهملة، بوزن جعفر (أنهُ حَدَّثَهُ) أي يونس حدّث مروان، فالضمير الأول ليونس، والثاني لمروان (قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ) -رضي الله عنهما-، حال كونه (يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- أنَّهُ) -صلى الله عليه وسلم- (قَالَ: الخيْرُ عَادَةٌ) المراد منه -والله أعلم- أن الإنسان مجبول على حبّ الخير، كما قال الله -عز وجل-: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]، وقال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، أو ينصّرانه، أو يمجّسانه. . . ." الحديث، متّفق عليه. (وَالشَّرُّ لجَاجَةٌ) بالفتح، أي خصومة، أي لا ينشرح له الصدر، ولا تنبسط له الروح إلا بواسطة لجاجة النفس الأمارة بالسوء والشيطان. قال السنديّ -رحمه الله-: قوله: "الخير عادة إلخ" أي المؤمن الثابت على مقتضى الإيمان والتقوى ينشرح صدره للخير، فيصير له عادة، وأما الشرّ، فلا ينشرح له صدره، فلا يدخل في قلبه إلا بلجاجة الشيطان، والنفس الأمارة، وهذا هو الموافق لحديث: "دع ما يريبك إلا ما لا يريبك، والإثم ما حاك في الصدر، وإن أفتاك المفتون"، والمراد أن الخير موافقٌ للعقل السليم، فهو لا يَقبَل إلا إياه، ولا يَميل إلا إليه، بخلاف الشرّ، فإن العقل السليم يَنفِر عنه، ويقبّحه، وهذا ربّما يميل إلى القول بالحسن والقبح العقليين في الأحكام، فليتأمل. قال الجامع -عفا الله عنه-: قوله: "ربما يميل إلخ" إن أراد به هذه المسألة ففيه إفراط وتفريط، والحقّ بينهما، وذلك أن المعتزلة لا يرون التحسين والتقبيح الشرعيّ، بل يجعلونه للعقل فقط، والأشاعرة ينفون العقليّ، ويجعلونه كله شرعيًّا، وكلا الطرفين إفراط وتفريط، والحق مذهب السلف، وهو أن العقل له تحسين وتقبيح، ولكن ذلك لا بدّ أن يستند إلى الشرع، فهو لا يستقلّ به، فالحقّ إثبات التحسين والتقبيح الشرعيّ

والعقلي معًا، فلا استقلال للعقل وحده، وقد استوفيت هذا البحث في كتابي المسمّى "التحفة المرضية في القواعد الأصوليّة، على مذهب أهل السنة السنيّة" مع شرحه "المنحة الرضيّة"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق. قال: ويحتمل أن المراد بالخير والشر الحق والباطل، فللحقّ نور في القلب يتبيّن به أنه الحقّ، وللباطل ظلمة يتضايق بها القلب عن قبوله، فلا يدخل فيه إلا بعد تردّد، وانقباض للقلب عن قبوله، وهذا هو الموافق للمثل المشهور: "الحقّ أبلج، والباطل لجلج"، أي يتردد من غير أن ينفذ. ويحتمل أن يكون هذا بيان ما ينبغي أن يكون المؤمن عليه، أي اللائق بحاله أن يكون الخير عادته، والشرّ مكروهًا لا يدخل عليه إن دخل إلا بلجاجة. انتهى (¬1). (وَمَن) شرطيّة، ولذا جُزم الفعلان بعده، على أنهما شرط وجواب لها. قال السنديّ: قيل: إن لم نقل بعموم "من" فالأمر واضحٌ؛ إذ هو في قوّة بعض من أريد به الخير، وإن قلنا: بعمومها يصير المعنى كلُّ من يرد به الخير، وهو مشكلٌ بمن مات قبل البلوغ مؤمنًا ونحوه، فإنه قد أريد به الخير، وليس بفقيه. ويجاب بأنه عامّ مخصوص، كما هو أكثر العمومات، والمراد من يرد الله به خيرًا خاصّا على حذف الصفة. انتهى. قال السنديّ: الوجه حمل "خيرا" على أن التنكير للتعظيم، فلا إشكال، على أنه يمكن حمل الخير على الإطلاق، واعتبار تنزيل غير الفقه في الدين منزلة العدم بالنسبة إلى الفقه في الدين، فيكون الكلام مبنيًّا على المبالغة، كأن من لم يُعط الفقه في الدين ما أريد به الخير، وما ذكروه من الوجوه لا يناسب المقصود. ويمكن حملُ "من" على المكلّفين؛ لأن كلام الشارع غالبًا يتعلّق ببيان أحوالهم، فلا يرد من مات قبل البلوغ، أو أسلم، ومات قبل مجيء وقت الصلاة مثلًا، أي قبل ¬

_ (¬1) "شرح السندي" 1/ 144 - 145.

تقرّر التكليف. انتهى (¬1). (يُردْ الله بِهِ خَيرًا) التنكير للتكثير والتعظيم؛ لأن المقام يقتضيه، أي خيرًا كثيرًا عظيمًا (يُفَقِّهه) بتشديد القاف، وجزمه؛ لكونه جواب الشرط، كما أشرنا إليه آنفًا (في الدِّينِ) أي يجعله عالمًا بالأحكام الشرعية. وقال الفيّوميّ: الفقه: فهم الشيء، قال ابن فارس: وكلُّ علمٍ لشيء فهو فقهٌ، والفقه على لسان حَمَلة الشرع علمٌ خاصّ، وفَقِهَ فقَهًا، من باب تَعب: إذا علم، وفَقُهَ بالضمّ مثله، وقيل: بالضمّ: إذا صار الفقه له سجيّةً (¬2). وقال الطيبيّ: الفقه في الأصل: الفهم، يقال: فَقِهَ الرجلُ بالكسر: إذا فَهِمَ، وفَقُهَ بالضمّ: إذا صار فقيهًا عالمًا، وجعله العرف خاصا بعلم الشريعة وتخصيصًا بعلم الفروع، وإنما خُصّ علم الشريعة بالفقه؛ لأنه علم مستنبط بالقوانين والأدلّة، والأقيسة، والنظر الدقيق، بخلاف اللغة، والنحو، والصرف. انتهى (¬3). والأولى هنا حملُهُ على المعنى اللغويّ؛ ليشمل فهم كلّ علم من علوم الدين، وليلائمَ تنكير "خيرًا" (¬4)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- هذا صحيح، بل الجملة الأخيرة متفق عليها. ¬

_ (¬1) "شرح السندي" 1/ 143 - 144. (¬2) "المصباح" 2/ 479. (¬3) "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 660. (¬4) راجع "المرعاة" 1/ 304.

(المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (39/ 221) بهذا السند فقط، قال البوصيريّ -رحمه الله-: رواه ابن حبّان في "صحيحه" من طريق هشام بن عمّار، فذكره بإسناده ومتنه سواء، والجملة الثانية في "الصحيح" من حديث معاوية -رضي الله عنه- من طريق الزهريّ، عن حميد بن عبد الرحمن عنه، وكذا رواه الدارمي في "مسنده" عن يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن حنظلة بن عطيّة، عن ابن مُحيريز، عن معاوية، ورواه صاحب "مسند الشهاب" القضاعيّ جميعه، فروى الجملة الأولى منه من طريق الوليد بن مسلم به، وروى الجملة الثانية من طريقين: أحدهما من طريق الربيع بن سليمان المراديّ، عن عبد الله بن وهب، عن محمد بن كعب، عن معاوية به، والطريق الثانية من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، ورواه الطبراني، وأبو داود الطيالسيّ، ومسدّد، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأحمد بن منيع، وأبو يعلى الموصليّ، كما أوردته في "زوائد المسانيد العشرة". انتهى. وأخرجه (ابن حبان) في "صحيحه" (310) و (الطبراني) في "الكبير" (19/ 904) وفي "مسند الشاميين" له (2215) و (ابن عديّ) في "الكامل" (3/ 1005) و (أبو الشيخ) في "الأمثال" (20) و (أبو نعيم) في "الحلية" (5/ 252) وفي "تاريخ أصبهان" له (1/ 345) و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب" (22). وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (4/ 92 و 93) و (الدارميّ) (232) من طريق عبد الله بن محيريز، عن معاوية -رضي الله عنه- مختصرًا على الجملة الأخيرة. وأخرجه (أحمد) (4/ 96) و (عبد بن حُميد) (412) من طريق رجاء بن حَيْوة، عن معاوية -رضي الله عنه- مختصرًا على الجملة الأخيرة أيضًا. وأخرجه (أحمد) (4/ 101) و (الدارميّ) (230) و (البخاريّ) (1/ 27 و 4/ 103 و 9/ 125) و (مسلم) (3/ 95) و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار" (1683) و (ابن حبان) (89) و (ابن عبد البرّ) (1/ 19 و 81) و (البغويّ) (131) من طريق حُميد ابن عبد الرحمن، عن معاوية -رضي الله عنه- وذكر فيه الجملة الأخيرة.

وأخرجه (مالك) (561) و (أحمد) (4/ 92 و 95 و 98) و (عبد بن حميد) (666) من طريق محمد بن كعب القرظيّ، عن معاوية -رضي الله عنه-، وذكر الجملة الأخيرة. وأخرجه (أحمد) (4/ 93) و (عبد بن حميد) (417) من طريق زياد بن أبي زياد، عن معاوية -رضي الله عنه-. و (أحمد) 4/ 93 و (مسلم) 6/ 53 من طريق يزيد الأصمّ، عن معاوية -رضي الله عنه-. وأخرجه (أحمد) (4/ 92 و 93 و 98 و 99) من طريق معبد الجهنيّ، عن معاوية -رضي الله عنه-. وأخرجه (أحمد) (4/ 97 و 100) و (مسلم) (3/ 94) من طريق عبد الله بن عامر اليحصبيّ، عن معاوية -رضي الله عنه-، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان فضل العلماء، والحثّ على طلب العلم؛ لأنه قائد إلى تقوى الله تعالى. 2 - (ومنها): بيان أن الخير سهل ميسّر؛ لأنه مما اعتادته الفطرة السليمة، والقلوب المستقيمة، وأما الشرّ، فإنما يكون من تسلّط النفس الأمارة بالسوء، والشيطان. 3 - (ومنها): أن قوله: "في الدين" فيه إشارة إلى المراد بالفقه الذي أُريد الخير بمن أوتيه هو علم الكتاب والسنّة، وما يتعلّق بهما من الوسائل، كمعرفة اللغة، والنحو، وهو العلم الذي يورث الخشية في القلب، ويَظهَر أثره في الجوارح، ويترتّب عليه الإنذار، كما يشير إليه قوله -عز وجل-: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} الآية [التوبة: 122]، فليس لعلوم الدنيا هذا الفضل؛ لأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إنما جاء لبيان أحكام الدين، لا لبيان أمور الدنيا، بدليل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أنتم أعلم بأمر دنياكم"، وذلك فيما أخرجه مسلم في "صحيحه" أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مَرّ بقوم يُلَقِّحون، فقال: "لو لم تفعلوا لصلح"، فخرج شِيصًا، فمَرّ بهم، فقال: "ما لنخلكم؟ "، قالوا: قلت: كذا وكذا، قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم".

4 - (ومنها): أن فيه مدح الفقيه البصير بدينه، والمقبل على آخرته؛ لأن هذا هو ثمرة التفقّه في الدين، وروى الدارميّ عن عمران قال: قلت للحسن يومًا في شيء: يا أبا سعيد ليس هكذا يقول الفقهاء، فقال: ويحك، هل رأيت فقيهًا قط؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بأمر دينه، المداوم على عبادة ربه (¬1). 5 - (ومنها): أن مفهوم الحديث أن من لم يتفقه في الدين، أي يتعلّم قواعد الإسلام، وما يتّصل بها من الفروع، فقد حُرم الخير، وقد أخرج أبو يعلى حديث معاوية من وجه آخر ضعيف، وزاد في آخره: "ومن لم يتفقّه في الدين، لم يبال الله به"، والمعنى صحيح؛ لأن من لم يعرف أمور دينه لا يكون فقيهًا، ولا طالب فقه، فيصحّ أن يوصف بأنه ما أُريد به الخير (¬2). 6 - (ومنها): أن فيه بيانًا ظاهرًا لفضل العلماء على سائر الناس، ولفضل التفقّه في الدين على سائر العلوم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 222 - (حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حدثنا الْوَليدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بنُ جَنَاحٍ، أبو سَعْدٍ، عنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "فَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلفِ عَابِدٍ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ) المذكور في السند الماضي. 2 - (الْوَليدُ بْنُ مُسْلِمٍ) المذكور في السند الماضي أيضًا. 3 - (رَوْحُ بْنُ جَنَاحٍ، أبُو سَعْدٍ) ويقال: أبو سعيد الأمويّ مولاهم، الدمشقيّ، ¬

_ (¬1) راجع "المرقاة" 1/ 450. (¬2) راجع "الفتح" 1/ 217.

ضعيفٌ، بل اتّهمه بعضهم، وهو أخو مروان المذكور في السند الماضي [7]. رَوَى عن مجاهد، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، وعطاء بن السائب، وغيرهم. ورَوَى عنه الوليد بن مسلم، ومحمد بن شعيب بن شابور، وعبد المهيمن بن عبد الرحمن. قال عثمان الدارمي عن دُحَيم ثقة، إلا أن مروان -يعني أخاه- أوثق منه. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: وفي نسخة عن أبي زرعة: مروان أحب إليّ منه، يكتب حديثهما ولا يحتج بهما، ورَوْح ليس بقوي. وقال الجوزجاني ذَكَرَ عن الزهري حديثًا معضلًا، فيه ذكر البيت المعمور، فإن كان قال: سمعت الزهري أُرجىء، ونُظِر في أمره. وقال الحاكم أبو أحمد: لا يتابع في حديثه، حديثه ليس بالقائم، وذَكَر حديثه في البيت المعمور، ثم قال: هذا حديث منكر، لا نعلم له أصلًا، من حديث أبي هريرة، ولا من حديث سعيد ابن المسيب، ولا من حديث الزهري. وقال الْعُقيليّ: قصة البيت المعمور لا يتابع عليه. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال أبو علي الحافظ: في أمره نَظرٌ. وقال أبو نعيم: يَروي عن مجاهد مناكير، لا شيء. وذَكَر له أبو أحمد بن عديّ أحاديث، ثم قال: ولِرَوْح بن جَناح غير ما ذكرتُ من الحديث قليلٌ، وربما أخطأ في الأسانيد، ويأتي بمتون لا يأتيها غيره، وهو ممن يكتب حديثه. روى له الترمذي وابن ماجه حديثًا واحدًا، متنه: "فقيهٌ واحدٌ أشدُّ على الشيطان من ألف عابد"، قال الساجي: وهو حديثٌ منكرٌ. وقال ابن حبان: منكر الحديث جدًّا، يَروِي عن الثقات ما إذا سمعه الإنسان شَهِد له بالوضع، رَوَى عن مجاهد، عن ابن عباس: "فقيهٌ واحدٌ. . . ." الحديث. وقال أبو سعيد النقاش: يروي عن مجاهد أحاديث موضوعة. تفرّد به الترمذي، والمصنّف بهذا الحديث الواحد فقط. 4 - (مُجَاهِدٌ) بن جَبْر الإمام الحجة الفقيه المفسّر المكيّ [3] 9/ 74. 5 - (ابْن عَبَّاسٍ) عبد الله البحر الحبر -رضي الله عنهما- 3/ 27. قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث ضعيفٌ جدًّا، وحكم بعضهم بوضعه، وفيه

نظرٌ لا يخفى؛ لأن رَوْحًا، وإن ضعفه الأكثرون، فقد وثقه دُحيم، فلا يصل إلى درجة أن يكون حديثه موضوعًا، فتنبّه. وأخرجه (المصنّف) هنا (39/ 222) بهذا السند فقط، وأخرجه (الترمذي) (2681). وقوله: "أشدّ على الشيطان إلخ" قيل: وجه ذلك أن غاية همة العابد أن يُخلّص نفسه من مكائد الشيطان، وقد لا يقدر عليه لجهله بذلك، فيُدركه الشيطان من حيث لا يدري، بخلاف الفقيه، فإنه يعلم بفقهه مكايد الشيطان ومداخله على العباد، ويقدر على التخلّص منه بعون من الله تعالى، بل قد يُخلّص الله تعالى على يديه العباد من مكايده. والحاصل أن الشيطان كلما فتح بابًا على الناس من الهوى بيّن الفقيه العارف مكائده، فيسدّ ذلك الباب، ويردّه خاسئًا، وأما العابد فربما اشتغل بالعبادة، وهو في حبائل الشيطان، ولا يدري. وهذا الحديث لو صحّ يكون المراد منه الفقيه الذي تبصّر في العلم، وعَمِل بعلمه، لا الفقيهُ الذي فُتِن بحبّ الدنيا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 223 - (حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عِليٍّ الجَهْضَمِيُّ، حَدثنا عَبْدُ الله بْنُ دَاوُدَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ جَمِيلٍ، عَنْ كَثيرِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ أَبِي الدَّرْدَاء، في مَسْجِدِ دِمَشْقَ، فَأتاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أبا الدرْدَاءِ أتيْتُكَ مِنْ المدِينة، مَدِينة رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- لحِدِيثٍ بَلَغَني أنَّكَ تُحَدِّثُ بِهِ، عَنْ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: فما جَاءَ بِكَ تِجَارَةٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: وَلَا جَاءَ بِكَ غَيْرُهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يَقُوُل: "مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ الله له طَرِيقًا إِلَى الجنةِ، وإنَّ الملائكةَ لتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا؛ رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وإنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ في السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى الحيتَانِ في الماءِ، وَإِنَّ

فَضْلَ الْعَالِم عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأنبِيَاءِ، إِنَّ الْأنبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنما وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافر"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (نَصْرُ بْنُ عَلي الجَهْضَمِيُّ) البصريّ، ثقة ثَبْتٌ، طُلِب للقضاء، فامتنع [10]، 1/ 13. 2 - (عَبْدُ الله بْنُ دَاوُدَ) بن عامر بن الرَّبيع الْهَمدانيّ، ثم الشعبيّ، أبو عبد الرحمن المعروف بالخُرَيبيّ -بمعجمة، وموحّدة، مصغّرًا- كوفيّ الأصل، سكن الخُريْبَةَ، وهي مَحِلّةٌ بالبصرة، وقيل: كان ينزل عَبَّادان، ثقة عابدٌ [9]. رَوَى عن إسماعيل بن أبي خالد، وسلمة بن نُبَيط، والأعمش، وهشام بن عروة، وابن جريج، والحسن بن صالح، وطلحة بن يحيى بن طلحة، والأوزاعي، وغيرهم. ورَوَى عنه الحسن بن صالح بن حَيّ، وهو من شيوخه، وعارم، ومسدد، وعمرو بن علي الصيرفي، وعمرو بن محمد الناقد، وعباس بن عبد العظيم العنبري، وغيرهم. قال ابن سعد: كان ثقةً عابدًا ناسكًا. وقال معاوية بن صالح عن ابن معين: ثقة صدوق مأمون. وقال عثمان الدارمي: سألت ابن معين عنه، وعن أبي عاصم، فقال: ثقتان. قال الدارمي: الخُريبي أعلى. وقال أبو زرعة والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: كان يميل إلى الرأي، وكان صدوقا. وقال الدارقطني: ثقةٌ زاهدٌ. وقال ابن عيينة: ذاك أحد الأحدين، وقال مرةً: ذاك شيخنا القديم. وقال الْكُدَيميّ: سمعته يقول: ما كذبت قط إلا مرة واحدة، كان أبي قال لي: قرأتَ على المعلم؟ قلت: نعم، وما كنتُ قرأت عليه. وقال أبو نصر بن ماكولا: كان عَسِرًا في الرواية. وقال محمد بن أبي مسلم الكجي عن أبيه: أتينا عبد الله بن داود ليحدثنا، فقال: قوموا اسْقُوا الْبُسْتان، فلم نسمع منه غير هذا. قال عباس العنبري: سمعته يقول: وُلدتُ سنة (121)، قال ابن سعد: مات في شوال سنة ثلاث عشرة ومائتين، وفيها

أَرّخه غير واحد. وقال أبو قدامة عنه: نحن بالكوفة شعبيون، وبالشام شعبانيون، وبمصر شعوبيون، وباليمن ذو شعبان. وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة (11)، وقيل: سنة ثلاث عشرة. وقال البخاري: مات قريبًا من أبي عاصم. وقال ابن قانع: كان ثقة. وقالت الخليلي: أمسك عن الرواية قبل موته، قال الذهبي: فلذلك لم يسمع منه البخاري. أخرج له الجماعة، سوى مسلم، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم 223 و 1234 و 2029 و 3076 و 4107. 3 - (عَاصِمُ بْنُ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ) الْكِنديّ الْفِلَسْطينيّ، ويقال: الأُرْدنيّ، صدوقٌ يَهِم [8]. رَوَى عن أبيه، والقاسم بن عبد الرحمن، وداود بن جميل، وربيعة بن يزيد، وعروة بن رُويم، وأبي عمران الأنصاري، ومكحول الشامي، وقيس بن كثير، إن كان محفوظًا، وغيرهم. ورَوَى عنه إسماعيل بن عياش، وعثمان بن فائد، وعبد الله بن داود الْخُريبي، ووكيع، ومحمد بن يزيد الواسطي، وأبو نعيم، وغيرهم. قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: صويلح. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وتكلم فيه قتيبة. أخرج له أبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم 223 و 1056. 4 - (دَاوُدُ بْنُ جَمِيلٍ) ويقال: اسمه الوليد، ضعيفٌ [7]. رَوَى عن كثير بن قيس، على خلف فيه، وعنه عاصم بن رجاء بن حيوة، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وفي إسناد حديثه اختلاف، وقال الدارقطني: مجهول، وقال مرة: هو ومن فوقه إلى أبي الدرداء ضعفاء. وقال في "العلل": لا يصح داود، وقال الأزدي: ضعيف مجهول.

أخرج له أبو داود، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 5 - (كَثيرُ بْنُ قَيْسٍ) ويقال: قيس بن كثير، والأول أكثر الشاميّ، ضعيفٌ [3]. رَوَى عن أبي الدرداء في فضل العلم، وعنه داود بن جميل، جاء في أكثر الروايات أنه كثير بن قيس على اختلاف في الإسناد إليه، وتفرد محمد بن يزيد الواسطي في إحدى الروايتين عنه بتسميته قيس بن كثير، وهو وَهَمٌ، ورَوَى أبو عاصم النبيل عن الوليد بن مرة، عن كثير بن قيس، عن ابن عمر حديثًا آخر. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سُمَيع: أمره ضعيف، لم يُثَبِّته أبو سعيد -يعني دُحيما-. وقال الدارقطني: ضعيف. ووقع لابن قانع وهَمٌ عجيب في "معجم الصحابة"، فإن الحديث وقع له بدون ذكر أبي الدرداء فيه، فذكر كثيرًا بسبب ذلك في الصحابة، فأخطأ. أخرج له أبو داود، والترمذي، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 6 - (أبو الدَّرْدَاءِ) عُويمر بن زيد بن قيس، وقيل: غيره -رضي الله عنه- الصحابيّ الشهير 1/ 5، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ) أنه (قَالَ: كنْتُ جَالِسًا عِنْدَ أَبِي الدَّرْدَاءِ) -رضي الله عنه- (في مَسْجِدِ دِمَشْقَ) بكسر الدال، وفتح الميم، وقد كسر: قاعدة الشام، سُمّيت باسم بانيها دِمْشَاق ابن كَنْعان. قاله في "القاموس" (¬1) (فَأتاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَبا الدَّرْدَاءِ أتيْتُكَ مِنْ المدِينَةِ، مَدِينةِ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-) بدل من "المدينة" (لحِدِيثٍ) أي لأجل سماع حديث (بَلَغَني أنكَ تُحَدِّثُ بِهِ) أي تحدّث بذلك الحديث، حال كونك ناقلًا (عَنْ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم-) الظاهر أن الرجل سمع الحديث من غير أبي الدرداء، لكنه أراد أن يسمعه منه بلا واسطة، طلبًا لعلوّ الإسناد فإنه من الدين، أو لزيادة التفصيل والإيضاح، أو نحو ذلك (قَالَ) أبو الدرداء -رضي الله عنه- (فما جَاءَ بِكَ) بتقدير أداة الاستفهام، أي أفما جاء (تِجَارَةٌ؟) أي إرادة بيعُ ¬

_ (¬1) "القاموس المحيط" ص 795.

شيء وشرائه (قَالَ) الرجل (لَا) أي ليس الحامل لي على المجيء ذلك (قَالَ) أبو الدرداء أيضًا (وَلَا جَاءَ بِكَ غَيْرُهُ؟) أي من الأمور الدنيويّة (قَالَ) الرجل (لَا، قَالَ) أبو الدرداء -رضي الله عنه- (فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-) قيل: يحتمل أن يكون هذا الحديث هو الحديثَ المطلوب للرجل بعينه، ويحتمل أن يكون غيرَه، وإنما ذكر هذا تبشيرًا له، وترغيبًا في مثل ما فعل، وأن سعيه مشكور عند الله، ومطلوبه من أسنى المطالب (يَقُولُ: مَنْ) يحتمل أن تكون موصولة مبتدأً خبرها جملة "سهّل الله إلخ"، ويحتمل أن تكون شرطيةً (سَلَكَ) أي دخل، أو مشى (طَرِيقًا) نكّره؛ ليشمل جميع أنواع طرق العلم، وأسباب تحصيله، من مفارقة الأوطان، والضرب في البلدان، والإنفاق في تحصيل هذا الشان، والمجاهدة في كلّ زمان ومكان، وبأي سبب كان، من التعلّم، والتعليم، والتصنيف، ونحو ذلك (يَلْتَمِسُ) أي يطلب، والجملة في محلّ نصب على الحال (فِيهِ) أي في ذلك الطريق، أو في ذلك السلوك (عِلْمًا) نكّره أيضًا ليشمل أي علم كان من علوم الدين، قليلًا كان أو كثيرًا، رفيعًا أو غير رفيع. أفاده الطيبيّ (¬1) (سَهَّلَ الله لَهُ) الضمير لـ"مَنْ" (طَرِيقًا إِلَى الجنَّةِ) أي أدخله الله تعالى الجنة بلا تعب في الآخرة، أو وفّقه الله تعالى في الدنيا للأعمال الصالحة، فيوصله إلى الجنّة، أو سهّل عليه ما يزيد به علمه؛ لأنه أيضًا من طرق الجنة، بل أقربها. وفي رواية الترمذيّ: "سلك الله به طريقًا"، قال الطيبيّ: الضمير المجرور عائد إلى "من"، والباء للتعدية، أي جعله سالكًا، ووفّقه أن يسلُك طريق الجنّة، وقيل: عائد إلى العلم، والباء للسببية، و"سلك" بمعنى سَهَّل، والعائد إلى "من" محذوفٌ، والمعنى سهّل الله له بسبب العلم طريقًا، فعلى الأول "سلك"، من السلوك، وعلى الثاني من السلك، والمفعول محذوف، كقوله تعالى: {يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن: 17] (وإنَّ الملائِكَةَ) جملة معطوفة على جملة "من سلك إلخ"، وكذا الجمل الآتية المصدّرة بـ"إن"، واللام ¬

_ (¬1) "الكاشف" 2/ 672.

للجنس، أو للعهد، أي ملائكة الرحمة، ويحتمل أن يكون المراد الملائكة كلهم، وهو أنسب بالمعنى المجازيّ في قوله: (لتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا) جمع جَنَاح بالفتح، وهو محمول على الحقيقة، وإن لم يُشاهَد ذلك الوضع، أي تفرشها؛ لتكون وِطاءً له إذا مشى، أو تكفّها عن الطيران، وتَنْزِل عند مجالس العلم؛ لسماعه، كما في الحديث الصحيح الآتي: "إلا حفّتهم الملائكة، نزلت عليهم السكينة"، أو المعنى تبسطها له لتحمله عليها، وتبلّغه حيث يريد من البلاد، والمراد أنها تعينه، وتساعده في طلب العلم، وتحصيله، ويحتمل أن يكون مجازًا عن التواضع، كقوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88]، أي تضع أجنحتها تعظيمًا لعلمه، وتوقيرا لحقّه، ومحبّةً لعلمه (¬1). وقوله: (رِضًا) حال، أو مفعول لأجله، على معنى إرادة رضا؛ ليكون فعلًا لفاعل الفعل المعلّل به (لِطَالِبِ الْعِلْمِ) متعلق بـ"رضا"، وقيل: التقدير: لأجل الرضا الواصل منها إليه، أو لأجل إرضائها لطالب العلم بما يصنع من حيازة الوراثة العظمى، وسلوك السنن الأسنى (وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ) ووقع عند أبي داود، والترمذيّ بلفظ: "وإن العالم ليستغفر له. . . ."، وسيأتي بهذا اللفظ عند المصنّف مختصرًا في 42/ 239 (يَسْتَغْفِرُ لَهُ) أي يطلبون من الله تعالى أن يغفر له؛ أداءً لحقّه، ومجازاة على حسن صنيعه بإلهام من الله تعالى إياهم ذلك، وذلك لعموم نفع العلم، فإن مصالح كلّ شيء ومنافعه منوطة به، والاستغفار محمول على حقيقته، وقال الطيبيّ: هو مجاز من إرادة استقامة حال المستغفر له. انتهى. قال الجامع -عفا الله عنه-: الصواب الأول؛ لأنه لا داعي إلى المجاز، واستغفار ما لا يعقل ليس بعيدًا، فقد أخبرنا الله تعالى أن جميع المخلوقات تسبح الله -سبحانه وتعالى-، فقال -عز وجل-: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} الآية [الإسراء: 44]، وقد ثبت في الحديث الصحيح تسبيح الطعام بين يدي النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وأصحابه، ¬

_ (¬1) أفاده في "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 672 - 673، و"شرح السندي" 1/ 145 - 146 ونقلته بتصرّف.

وهو يؤكل، وثبت أيضًا حنين الجذع، والصحابة يسمعونه، وصحّ سماعه -صلى الله عليه وسلم- تسليم حجر عليه. والحاصل أن الاستغفار المذكور على حقيقته. والله تعالى أعلم. (مَنْ في السَّمَاءِ) وفي بعض النسخ: "من السماوات"، أي لأنهم عُرِفوا بتعريف العلماء، وعُظِّموا بقولهم (وَالْأَرضِ) أي لأن بقاءهم، وصلاحهم مربوط برأي العلماء وفتواهم، ولذلك قيل: ما من شيء من الموجودات حيّها وميتها، إلا وله مصلحة متعلّقة بالعلم (حَتَّى الحيتَانِ) بالكسر جمع حوت (في الماء) وفي رواية أبي داود "في جوف الماء"، وخص الحيتان بالذكر لدفع إيهام أن "من في الأرض" لا يشمل من في البحر، أو تعميم بعد تعميم، بأن يراد بالحيتان جميع دواب البحر، وهي أكثر من عوالم البرّ، على ما قيل، وقيل: غير ذلك في وجه التخصيص، مما فيه نظر. وقال بعضهم: إنما خصّ الحيان بالذكر؛ لكونها لا لسان لها، وما لا لسان له ربما يُتوهّم عدم الاستغفار لطالب العلم، بخلاف غيره من الحيوان، فإنه وإن صَغُر فله لسان. انتهى. قال الجامع -عفا الله عنه-: كون الحيتان لا لسان لها يحتاج إلى ثبوته، فيتأمّل، والله تعالى أعلم. (وَإِنَّ) بكسر الهمزة؛ لكونه معطوفًا على جملة، كما سبق بيانه (فَضلَ العَالمِ) أي الغالب عليه العلم، وهو الذي يقوم بنشر العلم بعد أدائه ما توجه إليه من الفرائض، والسنن المؤكّدة (عَلَى الْعَابِدِ) أي الغالب عليه العبادة، وهو الذي يصرف أوقاته بنوافل العبادات، مع كونه عالمًا بما تصحّ به عبادته (كَفَضْيلِ الْقَمَرِ) زاد في رواية أبي داود: "ليلة البدر"، أي ليلة الرابع عشر (عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ). قيل: شبّه العالم بالقمر، والعابد بالكوكب؛ لأن كمال العبادة ونورها لا يتعدى من العابد، ونور العلم يتعدّى على غير العالم، فيستضيء بنوره المتلقّى من النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، كالقمر يتلقى نوره من نور الشمس (إِنَّ العُلماءَ) وفي رواية أبي داود: "وإن العلماء"

بالواو (همْ وَرَثَةُ الأنبِيَاءِ) إنما سُمّي العلماء ورثة الأنبياء أخذًا من قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32]، ومعلوم أنه لا رتبة فوق رتبة النبوّة، ولا شرف فوق شرف الوراثة لتلك الرتبة. قيل: إنما لم يقل: "ورثة الرسل"؛ ليكون أشمل؛ إذ من العلماء من كان مبلّغًا للأمة نافعًا بنشر علمه بينها، فهم كالرسل، ومنهم من يستطيع لا ذلك؛ لسبب من الأسباب، فهو عاملٌ بعلمه، فهؤلاء كالأنبياء، والله تعالى أعلم (إِن الأَنبِيَاءَ) وفي رواية أبي داود: "وإن الأنبياء" بالواو أيضًا (لَمْ يُوَرِّثوا) بتشديد الراء من التوريث (دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا) أي شيئًا من الدنيا، وخصهما بالذكر؛ لأنهما أغلب أنواعها (إِنَّما وَرَّثُوا الْعِلْمَ) وفي رواية أحمد: "وإنما ورّثوا" بالواو، وهو بتشديد الراء أيضًا، أي بقي علمهم بين الأمة بعدهم تنتفع به الأمة في إظهار الإسلام، ونشر الأحكام، وإصلاح أحوالهم الظاهرة والباطنة، على تباين أجناسهم واختلاف أنواعهم (فَمَنْ أَخَذَهُ) أي العلم الموروث عن الأنبياء (أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ) أي حصل له نصيبٌ عظيم تام لا نقص به في الدنيا والآخرة. وقال القاري في "شرح المشكاة": قوله: "أخذ بحظّ وافر" أي أخذ حظّا وافرًا، يعني نصيبًا تامًّا، أي لا حظ أوفر منه، والباء زائدة للتأكيد، أو المراد أخذه متلبسًا بحظّ وافر من ميراث النبوّة، ويجوز أن يكون "أخذ" خبرًا بمعنى الأمر، أي فمن أراد أَخْذَهُ، فليأخذ بحظّ وافر، ولا يقتنع بقليل. انتهى (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يكون صحيحًا، وإسناده ضعيف؛ لأن داود بن جميل، وشيخه ¬

_ (¬1) "المرقاة شرح المشكاة" 1/ 472.

كثير بن قيس ضعيفان. [قلت]: إنما صحّ للمتابعات والشواهد، فقد أخرجه أبو داود في "سننه" (3642)، فقال -بعد أن أخرجه عن مسدّد، عن عبد الله بن داود الخُريبيّ بسند المصنّف، ومتنه-: حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي، حدثنا الوليد، قال: لقيت شبيب ابن شيبة، فحدثني به، عن عثمان بن أبي سودة، عن أبي الدرداء -يعني عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بمعناه. قال في "تهذيب التهذيب" في ترجمة "شبيب بن شيبة": روى عن عثمان بن أبي سودة، عن أبي الدرداء في فضل العلم، قاله محمد بن الوزير الدمشقيّ، عن الوليد، عن شبيب، وقال عمرو بن عثمان، عن الوليد، عن شعيب بن رزيق، عن عثمان، وهو أشبه بالصواب. انتهى (¬1). وهذا إسناد رجاله ثقات، فإن شعيب بن رزيق، وثقه الدارقطنيّ وابن حبان، وقال دحيم: لا بأس به، ولا عبرة بتضعيف ابن حزم، وعثمان بن أبي سودة روى عن جماعة، ووثقه جماعة، ولا عبرة بقول القطان: لا يعرف، والوليد بن مسلم وإن كان مدلسًا، لكنه صرّح بالتحديث، فالإسناد صحيح. وللحديث إسناد آخر فيه انقطاع، أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد" 1/ 398 من طريق محمد بن حمزة المروزيّ، قال: أنبأنا علي بن الحسن بن شقيق، أنبأنا ابن المبارك، أنبأنا يونس بن يزيد، عن عطاء الخراسانيّ، قال: قال أبو الدرداء: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من سلك طريقًا. . . ." فذكره. وهذا إسناد رجاله ثقات، لكنه منقطع؛ إذ لم يسمع عطاء الخراسانيّ من أبي الدرداء. وأما الشواهد، فكثيرة، فمنها حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- الآتي بعد حديث، وقد ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" 2/ 151.

أخرجه مسلم، وحديث صفوان بن عسّال -رضي الله عنه- الآتي بعد حديثين، وهو حديث صحيح، وحديث أنس الآتي بعد هذا، وهو حسنٌ، وغير ذلك. وبالجملة فالحديث صحيح بهذه المتابعات، والشواهد، ولقد أجاد في البحث محقق "جامع بيان العلم وفضله" للحافظ ابن عبد البرّ -رحمه الله تعالى-، فانظر ما كتبه 1/ 163 - 168. والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (39/ 223) بهذا السند، وسيأتي بسند آخر مختصرًا في (42/ 239)، وأخرجه (أحمد) (5/ 196) و (الدارميّ) (349) و (أبو داود) (3641) و (الترمذيّ) (2682) و (ابن عبد البرّ) في "جامع بيان العلم" (37 و 38 و 39 و 40 و 41) و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار" (982) و (ابن حبان) في "صحيحه" (88) و (البغوي) في "شرح السنة" (129). وأخرجه "أبو داود" أيضًا (3642) من طريق عثمان بن أبي سودة، عن أبي الدرداء بإسناد حسن، كما سبق بيانه. وأورد البخاريّ في "صحيحه" "وأن العلماء هم ورثة الأنبياء، ورّثوا العلم، من أخذه أخذ بحظّ وافر"، ومن سلك طريقًا يطلب به علمًا سهّل الله له طريقًا إلى الجنة عقب قوله: "باب العلم قبل القول والعمل"، من غير أن ينسبه إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فقال الحافظ في "الفتح": طرف من حديث أخرجه أبو داود، والترمذيّ، وابن حبان، والحاكم مصحّحًا من حديث أبي الدرداء، وحسّنه حمزة الكنانيّ، وضُعْفُهُ عندهم باضطراب في سنده، لكن له شواهد يتقوّى بها، ولم يُفصح البخاريّ بكونه حديثًا، فلهذا لا يُعدّ في تعاليقه، لكن إيراده له في الترجمة يُشعر بأن له أصلًا، وشاهده قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32]. انتهى (¬1)، ¬

_ (¬1) "فتح" 1/ 160.

والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه الله-، وهو بيان فضل العلماء، والحثّ على طلب العلم. 2 - (ومنها): ما قاله الطيبي -رحمه الله-: لا تظنّنّ أن العالم المفضّل عاطلٌ عن العمل، ولا العابد عن العلم، بل إنّ علمَ ذلك غالبٌ على عمله، وعمل هذا غالبٌ على علمه، ولذلك جُعل العلماء ورثة الأنبياء الذين فازوا بالحسنيين: العلم والعمل، وحازوا الفضيلتين: الكمال والتكميل، وهذا طريق العارفين بالله تعالى، وسبيل السائرين إلى الله تعالى. انتهى (¬1). 3 - (ومنها): أن العالم لمّا كان ساعيًا في حصول العلم الذي به نجاة النفوس من أنواع الهلكات، وكان سعيه مقصورًا على هذا، وكانت نجاة العباد على يديه جوزي من جنس عمله، وجُعل من في السماوات والأرض ساعيًا في نجاته من أسباب الهلكات باستغفارهم له. 4 - (ومنها): أن هذا الاستغفار غير استغفار حملة العرش، ومن حوله لعموم المؤمنين الذي ذكره الله تعالى في قوله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} الآية [غافر: 7]، فإن ذاك خاص بحملة العرش ومن حوله، عامّ لجميع المؤمنين، وهذا عامّ من جميع من في السماوات ومن في الأرض، خاص بطالب العلم؛ زيادةً على الاستغفار الأول؛ لزيادة فضل العلم، والله تعالى أعلم. 5 - (ومنها): أن فيه إيماء إلى أن طريق الجنة محصورة في طرق العلم؛ لأن الجنة جزاء العمل الصالح وهو لا يُتصوّر ولا يتحقق بدون العلم. ¬

_ (¬1) "الكاشف" 2/ 673.

6 - (ومنها): تعظيم الملائكة، واحترامهم، وبسط أجنحتهم لطالب العلم، ونقل ابن القيّم عن أحمد بن شعيب، قال: كنا عند بعض المحدّثين بالبصرة، فحدّثنا بهذا الحديث، وفي المجلس شخصٌ من المعتزلة، فجعل يستهزىء بالحديث، فقال: والله لأطرقنّ غدًا نعلي، وأطأ بها أجنحة الملائكة، ففعل، ومشى في النعلين، فحفت رجلاه، ووقعت فيهما الأكلة. وقال الطبرانيّ: سمعت ابن يحيى الساجيّ يقول: كنا نمشي في أزقّة البصرة إلى باب بعض المحدّثين، فأسرعنا المشي، وكان معنا رجل ماجنٌ متّهم في دينه، فقال: ارفعوا أرجلكم عن أجنحة الملائكة، لا تكسروها، كالمستهزىء بالحديث، فما زال عن موضعه حتى حفَت رجلاه، وسقط إلى الأرض. انتهى. نقلت هاتين الحكايتين من "المرقاة شرح المشكاة" لعلي القاري (¬1)، ولا أدري صحتهما. والله تعالى أعلم. 7 - (ومنها): بيان فضل العالم على العابد؛ لأن العلم متعدّ، بخلاف العبادة، قال القرطبيّ -رحمه الله-: هذه المفاضلة بين العالم والعابد لا تصحّ حتى يكون كلّ واحد منهما قائمًا بما وجب عليه من العلم والعمل، فإن العابد لو ترك شيئًا من الواجبات، أو عملها على جهل لم يستحقّ اسم العابد ولا تصحّ له عبادة، والعالم لو ترك شيئًا من الواجبات لكان مذمومًا، ولم يستحقّ اسم العالم، فإذًا محلّ التفضيل إنما هو في النوافل، فالعابد يستعمل أزمانه في النوافل من الصلاة، والصوم، والذكر، وغير ذلك، والعالم يستعمل أزمانه في طلب العلم وحفظه، وتقييده، وتعليمه، فهذا هو الذي شبّهه بالبدر؛ لأنه قد كمُل في نفسه، واستضاء به كلّ شيء في العالم، من حيث إن علمه تعدّى لغيره، وليس كذلك العابد، فإن غايته أن ينتفع في نفسه، ولذلك شبهه بالكوكب الذي غايته أن يُظهر ¬

_ (¬1) "المرقاة" 1/ 470.

نفسه. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه الله- (¬1)، وهو تحقيقٌ نفيسٌ. والله تعالى أعلم. 8 - (ومنها): ما قال القرطبيّ -رحمه الله-: أيضا: إنما خصّ العلماء بالوراثة، وإن كان العبّاد أيضًا قد ورِثُوا العلم بما صاروا به عُبّادًا؛ لأن العلماء هم الذين نابوا عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في حملهم العلمَ عنه، وتبليغهم إياه لأمته، وإرشادهم لهم، وهدايتهم، وبالجملة هم العاملون بمصالح الأمة بعده الذّابّون عن سنّته، الحافظون لشريعته، فهؤلاء الأحقّ بالوراثة، والأولَى بالنيابة والخلافة، وأما الْعُبّاد فلم يُطلق عليهم اسم الورثة؛ لقصور نفعهم، ويسير حظّهم. انتهى (¬2). 9 - (ومنها): أن فيه إشارة إلى حقارة الدنيا، وأن الأنبياء لم يأخذوا منها إلا بقدر ضرورتهم، فلم يورّثوا شيئًا منها؛ لئلا يُتوهّم أنهم كانوا يطلبون الدنيا لتورث عنهم، وفيه إيماء إلى كمال توكلهم على الله تعالى في أنفسهم وأولادهم، وإشعار بأن طالب الدنيا ليس من العلماء الوارثين لهم، ولذا قال الغزاليّ -رحمه الله-: أقلّ العلم، بل أقلّ الإيمان أن يعرف أن الدنيا فانيةٌ، وأن الآخرة باقية، ونتيجة هذا العلم أن يُعرض عن الفاني، ويُقبل على الباقي. [فإن قلت]: يُعارض هذا ما ثبت أنه كان للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- كان له صفايا بني النضير، وفدك، وخيبر إلى أن مات وخلفها، وكان لشعيب -عليه السلام- أغنام كثيرة، وكان أيوب وإبراهيم -عليهما السلام- ذَوَي ثروة ونعمة كثيرة. [أُجيب]: بأن المراد أنه ما ورِثَ أولادهم، وأزواجهم شيئًا من ذلك، بل بقي بعدهم مُعَدّا لنوائب المسلمين. وأخرج الطبرانيّ في "الأوسط" بإسناد حسن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه مرّ بسوق المدينة، فوقف عليها، فقال: يا أهل السوق ما أعجزكم؟ قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ ¬

_ (¬1) "المفهم" 6/ 686. (¬2) "المفهم" 6/ 686.

قال: ذاك ميراث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُقسم، وأنتم هاهنا، ألا تذهبون، فتأخذون نصيبكم منه؟ قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد فخرجوا سراعًا، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم: ما لكم؟، فقالوا: يا أبا هريرة قد أتينا المسجد، فدخلنا فيه، فلم نَرَ فيه شيئًا يُقسَم، فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحدًا؟ قالوا: بلى، رأينا قومًا يصلّون، وقومًا يقرؤون القرآن، وقومًا يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: ويحكم، فذاك ميراث محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه -رحمه الله- في أول الكتاب قال: 224 - (حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عمَّارٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ سُلَيمانَ، حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ شِنْظِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَوَاضِعُ الْعِلْمِ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ، كَمُقَلِّدِ الخنَازِيرِ الجوْهَرَ وَاللؤْلُؤَ وَالذَّهَبَ"). رجال هذا الإسناد خمسة، كلهم تقدّموا في الباب الماضي (¬2)، غير: 1 - (كثير بن شِنظير) -بكسر المعجمتين، وسكون النون- المازنيّ، ويقال: الأزديّ، أبو قرّة البصريّ، صدوقٌ يُخطىء [6]. رَوَى عن عطاء، ومجاهد، والحسن، ومحمد، وأنس، ابني سيرين، ويوسف بن أبي الحكم، وغيرهم. ورَوَى عنه سعيد بن أبي عروبة، وحماد بن زيد، وعبد الوارث بن سعيد، وأبان ابن يزيد العطار، وحفص بن سليمان الغاضري، وأبو عامر الخزاز، وعباد بن عباد، وبشر بن المفضل، وجماعة. ¬

_ (¬1) راجع "صحيح الترغيب والترهيب" للشيخ الألبانيّ 1/ 144 رقم (83). (¬2) أي غير ابن سيرين، فقد تقدّم قبل باب برقم (204).

قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عنه، فقال: صالح، ثم قال: قد روى عنه الناس، واحتملوه، وقال مرة: صالح الحديث. وقال إسحاق بن منصور ابن معين: صالح. وقال الدُّوري عن ابن معين: ليس بشيء. وقال عمرو بن علي: كان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه، وكان ابن مهدي يحدث عنه. وقال أبو زرعة: لين. وقال النسائيّ: ليس بالقوي. وقال ابن عدي: أرجو أن تكون أحاديثه مستقيمة، وقال أيضًا: ليس في حديثه شيء من المنكر. وقال ابن سعد: كان ثقة -إن شاء الله-. وقال الأثرم: سئل أبو عبد الله عن كثير بن شِنظِير، هو صحيح الحديث: أو قيل: ثبت الحديث؟ قال: لا، ثم قال كلاما، معناه: يكتب حديثه. وقال الساجي: صدوق، وفيه بعض الضعف، ليس بذاك، ويحتمل لصدقه. وقال الحاكم: قول ابن معين فيه: ليس بشيء، هذا يقوله ابن معين، إذا ذُكِر له الشيخ من الرواة يَقِلّ حديثه، ربما قال فيه: ليس بشيء -يعني لم يُسنِد من الحديث ما يُشتَغل به. وقال البزار: ليس به بأس. وقال ابن حزم: ضعيف جِدّا. قال الجامع -عفا الله عنه-: قد تبيّن بما ذُكِرَ من هذه الأقوال على أَنَّ الأكثرين على توثيق كثير بن شِنظير، فقول ابن حزم هذا مجازف فيه، فأيّ ضعف بعد توثيق هؤلاء الأئمة له؟ والله تعالى المستعان. أخرج له الجماعة، سوى النسائيّ، وله في البخاري حديثان فقط، أخرج مسلم أحدهما، هو حديث جابر في السلام على المصلى، وأبو داود، والترمذي الآخر، وهو حديث جابر: "خمروا الآنية"، وابن ماجه حديث أنس: "طلب العلم فريضة"، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عن أنسِ بْنِ مَالِكٍ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسول الله -صلى الله عليه وسلم-: طَلَب الْعِلْمِ) أي الشرعي (فريضة) قال البيهقيّ -رحمه الله- في "المدخل": أرد -والله تعالى أعلم- العلم الذي لا

يسع البالغ العاقل جهله، أو علم ما يطرأ له، أو أراد أنه فريضة على كلّ مسلم حتى يقوم به من فيه كفاية، قال: وقد سئل ابن المبارك عن تفسير هذا الحديث، فقال: ليس هو الذي يظنون، إنما هو أن يقع الرجل في شيء من أمور دينه، فيسأل عنه حتى يعلمه. وقال البيضاويّ: المراد من العلم ما لا مندوحة للعبد منه، كمعرفة الصانع، والعلم بوحدانيته، ونبوة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وكيفيّة الصلاة، فإن تعلّمه فرض عين. (عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ) أي مكلّف، فيخرج غير المكلّف، من الصبيّ والمجنون، وموضوعه الشخص، فيشمل الذكر والأنثى، وقد ألحق بعض المصنّفين بآخر هذا الحديث لفظة "ومسلمة"، قال الحافظ السخاويّ في "المقاصد الحسنة": وليس لها ذكر في شيء من طرقه، وإن كانت صحيحة المعنى. (وَوَاضِعُ العِلْمِ عِندَ غيْرِ أَهْلِهِ) كمن لا يُصغي، ولا يفهم، أو من يريد به غرضًا دنيويًّا، أو من لا يتعلّمه لله تعالى (كَمُقَلِّدِ الخنَازِير الجوْهَر وَاللُّؤْلؤ وَالذَّهَبَ") هذا يُشعر بأن كلّ علم يختصّ باستعداد، وله أهل، فإذا وضعه: في غير موضعه، فقد ظلم، فمثّل معنى الظلم بتقليد أخسّ الحيوانات بأنفس الجواهر؛ تهجينًا لذلك الوضع، وتنفيرًا عنه، وما قيل [من الطويل]: وَمَن مَنَحَ الجُهَّالَ علْمًا أَضَاعَهُ ... وَمَنْ مَنَعَ المُستَوجِبِينَ فَقَد ظلم وتعقيبُ هذا التمثيل بقوله: "طلب العلم فريضة" إعلام بأنه ينبغي لكل أحد طلب ما يليق باستعداده، ويوافق منزلته بعد حصول ما هو واجب من الفرائض العامّة، وعلى العالم أن يخصّ كلَّ طالب بما هو مستعد له. وقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" عن عليّ -رضي الله عنه- أنه قال: "حدّثوا الناس بما يَعرفون، أتحبّون أن يكذّب الله ورسوله؟ ". قال في "الفتح" في شرح هذا الأثر: المراد بقوله: "بما يعرفون"، أي يفهمون، وزاد آدم بن أبي إياس في "كتاب العلم" له في آخره: "ودَعُوا ما ينكرون"، أي يشتبه عليهم

فهمه، وكذا رواه أبو نعيم في "المستخرج". وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يُذكَر عند العامة، ومثلُهُ قول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "ما أنت محدثًا قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة"، رواه مسلم. وممن كَرِهَ التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج علي السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب، ومِن قبلهم أبو هريرة -رضي الله عنه-، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" من طريق سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: حَفِظتُ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وِعَاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قُطِع هذا الْبُلْعُوم. والمراد ما يقع من الفتن، ونحوُهُ عن حذيفة -رضي الله عنه-، وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس -رضي الله عنه- للحجاج بن يوسف الأمير المبير بقصة العرنيين؛ لأنه اتخذها وسيلةً إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي. وضابط ذلك أن يكون ظاهرُ الحديث يُقَوّي البدعة، وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يُخْشَى عليه الأخذ بظاهره مطلوب. والله تعالى أعلم. انتهى ما في "الفتح" (¬1)، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- هذا من أفراد المصنّف، وهو ضعيف الإسناد جدًّا؛ لأن فيه حفص بن سليمان المقرىء الغاضريّ، وقد تقدّم (38/ 216) أنه متروك. لكن قوله: "طلب العلم فريضة على كلّ مسلم"، قد رُويت من طرق متعدّدة عن أنس -رضي الله عنه- يعضد بعضها بعضًا، فهو حسن. ¬

_ (¬1) "فتح الباري" 1/ 297 - 298.

قال الحافظ السخاويّ -رحمه الله- في "المقاصد": وفي الباب عن أُبيّ، وجابر، وحذيفة، والحسين بن علي، وسلمان، وسمرة، وابن عباس، وابن عمر، وابن مسعود، وعليّ، ومعاوية بن حيدة، ونُبيط بن شَرِيط، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وأم المؤمنين عائشة، وعائشة بنت قُدامة، وأم هانىء، وآخرين، وبسط الكلام في "تخريجه الكبير للإحياء"، ومع هذا كلّه قال البيهقيّ: متنه مشهور، وإسناده ضعيف، وقد روي من أوجه كلها ضعيفة، وسبقه الإمام أحمد فيما حكاه ابن الجوزيّ في "العلل المتناهية" عنه، فقال: لم يثبت عندنا في هذا الباب شيء، وكذا قال إسحاق ابن راهويه: إنه لم يصحّ، أما معناه فصحيح، في الوضوء، والصلاة، والزكاة، إن كان له مال، وكذا الحجّ وغيره، وتبعه ابن عبد البرّ بزيادة إيضاح وبيان، فقال -رحمه الله-: هذا حديث يُروى عن أنس بن مالك، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من وجوه كثيرة، كلها معلولة، لا حجة في شيء منها عند أهل العلم بالحديث من جهة الإسناد (¬1). وقال أبو عليّ النيسابوريّ الحافظ: إنه لم يصحّ عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فيه إسناد، ومثّل به ابن الصلاح للمشهور الذي ليس بصحيح، وتبع في ذلك أيضًا الحاكم، ولكن قال العراقيّ: قد صحّح بعض الأئمة بعض طرقه، كما بينته في "تخريج الإحياء". وقال المزّيّ: إن طرقه تبلغ به رتبة الحسن، وقال غيره: أجودها طريق قتادة، وثابت كلاهما عن أنس، وطريق مجاهد عن ابن عمر، وقال ابن القطان، صاحب ابن ماجه في "كتاب العلل" عقب إيراده له من جهة سلام الطويل عن أبيه: إنه غريب حسن الإسناد (¬2). وقال السيوطيّ: سئل الشيخ محيي الدين النووي -رحمه الله- تعالى عن هذا الحديث، فقال: إنه ضعيفٌ -أي سندًا- وإن صحيحًا -أي معنى، وقال تلميذه جمال ¬

_ (¬1) "جامع بيان العلم وفضله" 1/ 23. (¬2) "المقاصد الحسنة" ص 275 - 276.

الدين المِزّيّ: هذا الحديث رُوي من طرق تبلغ رتبة الحسن،، وهو كما قال: فإني رأيت له نحو خمسين طريقًا، وقد جمعتها في جزء. انتهى كلام السيوطيّ. والحاصل أن الحديث حسنٌ بكثرة طرقه، وقد أجاد الكلام الحافظ أبو عمر ابن عبد البرّ في "جامع بيان العلم وفضله" 1/ 23 - 62 واستوفى محقق الكتاب الكلام، فأجاد وأفاد، وكذا الحافظ السخاويّ في "المقاصد الحسنة" ص (275 - 277). والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): أخرج الحافظ ابن عبد البرّ -رحمه الله- بسنده عن إسحاق بن راهويه، قال: طلب العلم واجب، ولم يصحّ فيه الخبر، إلا أن معناه أن يلزمه طلب علم ما يحتاج إليه من وضوئه، وصلاته، وزكاته إن كان له ماله، وكذلك الحجّ وغيره، قال: وما وجب عليه من ذلك لم يستأذن أبويه في الخروج إليه، ومن كان منه فضيلةً لم يخرج إلى طلبه حتى يستأذن أبويه. قال أبو عمر: يريد إسحاق -والله أعلم- أن الحديث في وجوب طلب العلم في أسانيده مقالٌ لأهل العلم بالنقل، ولكن معناه صحيح عندهم، وإن كانوا قد اختلفوا فيه اختلافًا متقاربًا على ما نذكره هاهنا إن شاء الله. ثم أخرج عن ابن وهب، قال: سئل مالك عن طلب العلم أهو فريضة على الناس؟ فقال: لا والله، ولكن يطلب منه المرء ما ينتفع به في دينه. قال: وروينا عن الحسن بن الربيع، قال: سألت ابن المبارك عن قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "طلب العلم فريضة على كلّ مسلم" قال: ليس هو الذي يطلبونه، ولكن فريضة على من وقع في شيء من أمر دينه أن يسأل عنه حتى يعلمه. وسئل ابن المبارك أيضًا ما الذي لا يسع المؤمن من تعليم العلم إلا أن يطلبه؟ وما الذي يجب عليه أن يتعلّمه؟ قال: لا يسعه أن يُقْدِم على شيء إلا بعلم، ولا يسعه حتى يسأل. وأخرج عن ابن عيينة قال: طلب العلم والجهادُ فريضة على جماعتهم، ويجزىء فيه بعضهم عن بعض، وقرأ هذه الآية: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ

لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ} الآية [التوبة: 122]. قال أبو عمر: قد أجمع العلماء على أن من العلم ما هو فرض متعيّن على كل امرىء في خاصّة نفسه، ومنه ما هو فرض على الكفاية إذا قام به قائم سقط فرضه عن أهل ذلك الموضع، واختلفوا في تلخيص ذلك، والذي يلزم الجميع فرضه من ذلك ما لا يسع الإنسان جهله من جملة الفرائض المفترضة عليه، نحو الشهادة باللسان، والإقرار بالقلب بأن الله تعالى وحده لا شريك له، ولا شبه له، ولا مثل له، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، خالق كل شيء، وإليه يرجع كل شيء، المحيي المميت الحي الذي لا يموت، عالم الغيب والشهادة، هما عنده سواء، لا يعزُبُ عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء، هو الأول والآخر والظاهر والباطن. والذي عليه جماعة أهل السنة والجماعة أنه لم يزل بصفاته وأسمائه، ليس لأوليته ابتداء، ولا لآخريته انقضاء، وهو على العرش استوى. والشهادة بأن محمدًا عبده ورسوله، وخاتم أنبيائه حقٌّ، وأن البعث بعد الموت للمجازاة بالأعمال، والخلود في الآخرة لأهل السعادة بالإيمان والطاعة في الجنة، ولأهل الشقاوة بالكفر والجحود في السعير حقٌّ، وأن القرآن كلام الله، وما فيه حقّ من عند الله، يلزم الإيمان بجميعه، واستعمال مُحكمه، وأن الصلوات الخمس فريضة، ويلزمه من علمها علم ما لا تتمّ إلا به، من طهارتها، وسائر أحكامها، وأن صوم رمضان فرضٌ، ويلزمه علم ما يفسد صومه، وما لا يتمّ إلا به، وإن كان ذا مال وقدرة على الحج لزمه فرضًا أن يعرف ما تجب فيه الزكاة، ومتى تجب، وفي كم تجب، ولزمه أن يعلم بأن الحج عليه فرض مرّة واحدة في دهره إن استطاع السبيل إليه، إلى أشياء يلزمه معرفة جُمَلها، ولا يُعذر بجهلها، نحو تحريم الزنا، وتحريم الخمر، وأكل الخنزير، وأكل الميتة، والأنجاس كلها، والسرقة والربا والغصب والرشوة في الحكم، والشهادة بالزور، وأكل أموال الناس بالباطل، وبغير طيب من أنفسهم إلا إذا كان شيئًا لا يتشاحّ فيه، ولا يُرغب في مثله، وتحريم الظلم كله، وهو كل ما منع الله -عز وجل- منه، ورسوله -صلى الله عليه وسلم-،

وتحريم نكاح الأمهات، والبنات، والأخوات، ومن ذُكر معهنّ، وتحريم قتل النفس المؤمنة بغير حقّ، وما كان مثل هذا كلّه مما قد نطق به الكتاب، وأجمعت الأمة عليه. ثم سائر العلم، وطلبه والتفقّه فيه، وتعليم الناس إياه، وفتواهم به في مصالح دينهم ودنياهم، والحكم به بينهم فرض على الكفاية، يلزم الجميع فرضه، فإذا قام به قائم سقط فرضه عن الباقين بموضعه، لا خلاف بين العلماء في ذلك، وحجتهم فيه قول الله -عز وجل-: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} الآية [التوبة: 122]، فألزم النفير في ذلك البعض دون الكلّ، ثم ينصرفون، فيُعلّمون غيرهم، والطائفة في لسان العرب الواحد فما فوقه. قال: وروى يونس بن عبد الأعلى، وابن المقرىء، وابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: وجدنا علم الناس كله في أربع: أولها أن تعرف ربّك، والثاني: أن تعرف ما صنع بك، والثالث أن تعرف ما أراد منك، والرابع أن تعرف ما يُخرجك من دينك. انتهى كلام ابن عبد البرّ -رحمه الله- ملخّصًا، وهو بحث نفيس جدّا. والله تعالى أعلم بالصواب. وقال الإمام ابن القيّم -رحمه الله تعالى-: في كتابه "مفتاح دار السعادة": العلم الذي هو فرض عين لا يسع مسلمًا جهله أنواعٌ: [النوع الأول]: علم أصول الإيمان الخمسة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فإن لم يؤمن بهذه الخمسة لم يدخل في باب الإيمان، ولا يستحقّ اسم المؤمن، قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} الآية [البقرة: 177]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 136]، ولمَّا سأل جبريل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان قال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر"، قال: صدقت، فالإيمان بهذه الأصول فرع معرفتها، والعلم بها. [والنوع الثاني]: علم شرائع الإسلام، واللازم منها ما يخُصّ العبد من فعلها،

كفعل الوضوء، والصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، وتوابعها، وشروطها، ومبطلاتها. [والنوع الثالث]: علم المحرّمات الخمس التي اتّفقت عليها الشرائع، والرسل، والكتب الإلهيّة، وهي المذكورة في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، فهذه محرمات على كل أحد في كل حال على لسان كلّ رسول، لا تباح قطّ، ولهذا أتى فيها بـ"إنما" المفيدة للحصر مطلقًا، وغيرها محرّمٌ في وقت، مباح في غيره، كالميتة، والدم، ولحم الخنزير، ونحوه، فهذه ليست محرّمة على الإطلاق والدوام، فلم تدخل في التحريم المحصور المطلق. [والنوع الرابع]: علم أحكام المعاشرة، والمعاملة التي تحصل بينه وبين الناس، خصوصًا وعمومًا، والواجب في هذا النوع يختلف باختلاف أحوال الناس، ومنازلهم، فليس الواجب على الإمام مع رعيّته، كالواجب على الرجل مع أهله وجيرانه، وليس الواجب على من نَصَبَ نفسه لأنواع التجارات من تعلّم أحكام البياعات، كالواجب على من لا يبيع ولا يشتري إلا ما تدعوا الحاجة إليه. وتفصيل هذه الجملة لا ينضبط بحدّ؛ لاختلاف الناس في أسباب العلم بالواجب، وذلك يرجع إلى ثلاثة أصول: اعتقاد، وفعل، وترك، فالواجب في الاعتقاد مطابقته للحقّ في نفسه، والواجب في العمل معرفة موافقة حركات العبد الظاهرة والباطنة الاختياريّة للشرع أمرا وإباحة، والواجب في الترك معرفة موافقة الكفّ والسكون لمرضاة الله تعالى، وأن المطلوب منه إبقاء هذا الفعل على عدمه المستعمل، فلا يتحرّك في طلبه، أو كفّ النفس عن فعله على الطريقتين، وقد دخل في هذه الجملة عَلِمُ حركات القلوب والأبدان. انتهى كلام ابن القيّم -رحمه الله تعالى-، وهو بحثٌ نفيس جدّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه -رحمه الله- في أول الكتاب قال: 225 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شيبةَ، وَعَلي بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أبو مُعَاوِيَةَ، عَنْ الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قالَ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كرْبَةً، مِنْ كرَبِ الدنْيَا، نَفَّسَ الله عَنْهُ كرْبَةً، مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتر مُسْلمًا، سَتَرَهُ الله في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَن يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ الله عَلَيْهِ في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالله في عوْنِ الْعَبْدِ، مَا كَانَ الْعَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَن سلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلمًا، سَهَّلَ الله لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الجنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ الله، يَتْلُونَ كتَابَ الله، وَيَتَدَارسونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلا حَفَّتْهُم الملائِكَةُ، وَنَزَلَتْ عَليْهِم السكِينة، وَغشِيَتْهُم الرحْمَةُ، وَذَكرَهُمْ الله فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ أبطَأَ بِهِ عَمَلهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفيّ، ثقة حافظ [10] 1/ 1. 2 - (علي بْنُ مُحَمدٍ) الطنافسيّ الكوفي، صدوق عابد [10] 9/ 57. 3 - (أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفي، ثقة، من كبار [9] 1/ 3. 4 - (الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الكوفي الحافظ الحجة الثبت [5] 1/ 1. 5 - (أبو صَالِحٍ) ذكوان السمان الزيات المدنيّ، ثقة ثبت [3] 1/ 1. 6 - (أبو هريرة) -رضي الله عنه- 1/ 1، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنف. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه الثاني، فأخرج له النسائيّ في "مسند" علي -رضي الله عنه-. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين إلى أبي صالح. 4 - (ومنها): أن فيه أبا معاوية أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في

حديث غيره. 5 - (ومنها): أن الأعمش ممن أكثر الرواية عن أبي صالح، يقال: إنه سمع منه ألف حديث. 6 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: الأعمش عن أبي صالح. 7 - (ومنها): أن فيه أبا هريرة -رضي الله عنه- أحفظ من روى الحديث في دهره، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ الْأَعْمَشِ) وفي رواية لمسلم من طريق أبي أسامة عن الأعمش قال: حدّثنا أبو صالح، فصرح الأعمش بالتحديث، فزالت تهمة التدليس، كما زعمه بعضهم (عَن أَبِي صَالِحٍ) ذكوان السمّان (عن أَبِي هُرَيرَةَ) -رضي الله عنه- أنه (قَالَ: قَالَ رَسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ نَفَّس) بتشديد الفاء، أي فرّج. قال الطيبيّ -رحمه الله-: يقال: نَفّستُ عنه كُرْبةً تنفيسًا. إذا رفعتها، وفرجتها عنه، مأخوذ من قولهم: أنت في نَفَس، أي سَعَة، كأن من كان في كُرْبة وضِيق سُدّ عنه مداخل الأنفاس، فإذا فُرِج عنه فُتحت المداخل انتهى (¬1)، أي من أزال، وأذهب (عَنْ مُسْلِمٍ) ولفظ مسلم "عن مؤمن"، أي ولو كان فاسقًا؛ مراعاة لإيمانه (كُربَةً) بضم، فسكون، أي غمّا وشِدّةً، نكّرها تقليلًا، أي أيّ كربة كانت، شديدةً أو حقيرةً، وميزها بعد الإبهام، وبيّنها بقوله (مِنْ) تبعيضيّة، أو ابتدائية (كربِ الدُّنْيَا) الفانية والمنقضية؛ للإيذان بتعظيم شأن التنفيس، يعني أن أقلّه المختصّ بالدنيا يفيد هذه الفائدة، فكيف بالكثير المختصّ بالعقبى؟. فلذلك لم يقيّد هذه القرينة بما قيّده في القرينتين الأخيرتين من ذكر الدنيا والآخرة معًا، ولأنهما تخصيص بعد تعميم؛ اهتمامًا بشأنهما. قاله الطيبيّ (¬2) (نَفَّسَ الله عَنْهُ كُربَةً) أي عظيمةً (مِنْ كُربِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) أي الباقية غير المتناهية، {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا ¬

_ (¬1) "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 665. (¬2) المصدر السابق.

الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]، ولا يرد على هذا أنه تعالى قال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، فإنه أعمّ من أن يكون في الكميّة، أو الكيفيّة (¬1) (وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا) أي في قبيح يفعله، أو كساه ثوبًا لعُرْيه، وقال الطيبيّ: يجوز أن يراد به الظاهر، وأن يراد به ستر من ارتكب ذنبًا، فلا يفضحه (سَتَرَهُ الله) أي ستر عيوبه، أو عورته (في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) وفي "شرح مسلم": أي ستر بدنه بالإلباس، أو عيوبه بعدم الغيبة له، والذبّ عن معايبه، وهذا الستر إنما يندب على ذوي الهيئات ممن ليس معروفًا بالأذى والفساد، وأما المعروف به، أو المتلبّس بالمعصية، فيجب إنكارها عليه، ورفع أمره إلى ولاة الأمور إن لم يقدر على منعه، ولم يترتّب عليه مفسدة، وأما جرح الرواة والشهود، وأمناء الصدقات، فواجب (¬2). (وَمَنْ يَسَّرَ) أي سهّل (عَلَى مُعْسِرٍ) أي الفقير الذي ركبه الدين، وتعسّر عليه قضاؤه، وهو يشمل المؤمن والكافر المعاهد، أي من كان له دينٌ على فقير، فسهّل عليه بترك كلّه، أو بعضه، بإمهاله (يَسَّرَ الله عَلَيْهِ في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) أي في أمورهما؛ جزاء تيسيره على عبده {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] (وَالله في عَوْنِ الْعَبْدِ) الواو للاستئناف، وهو تذييل للكلام السابق. قال الطيبيّ: تذييل للسابق، لا سيّما على دفع المضرّة عن أخيه المسلم، وعلى جلب النفع له، ولذلك أخرجه من سياق الشرطية، وبنى الخبر على المبتدأ؛ ليقوى به الحكم، وخصّ العبد بالذكر؛ تشريفًا له بنسبة العبدية له، كما شرّف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قول تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} الآية [الإسراء: 1]، وكرّره، وقال: "في عون العبد"، ولم يقل: والله يُعينه في كذا، كما قال: {وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، أي إن الله تعالى يوقع العون في العبد، ويجعله مكانًا له؛ مبالغة في ¬

_ (¬1) "المرقاة" 1/ 454. (¬2) راجع "المرعاة" 1/ 308.

الإعانة. انتهى (¬1) (مَا كَانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ) "ما" مصدريّة ظرفيّة، أي مدّةَ كون العبد مشغولًا في عون أخيه بأي وجهٍ كان، من جلب نفع، ودفع ضرّ. ولمّا فرغ من الحثّ على الشفقة لخلق الله تعالى أتبعه بما يُنبىء عن التعظيم لأمر الله، وهو العلم؛ لأن العلم وسيلة إلى العمل، ومقدمة له، ومن ثَمّ ختمه بقوله: "ومن بطّأ به عمله إلخ"، فقال: (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا) نكّره ليشمل الأسباب والطرق كلها، أي من تسبّب في تحصيل العلم أَيَّ سبب كان، من مفارقة الأوطان، والضرب في البلدان، والإنفاق فيه، والتعلّم والتعليم، والتصنيف، والْكَدْح فيه، مما لا يُحصى كثرةً، وقال في "المرعاة": "ومن سلك طريقًا" حقيقيّا حسيّا، وهو المشي بالأقدام إلى مجالس العلماء، أو معنويّا، مثل حفظ العلم، ومدارسته، ومذاكرته، ومطالعته، وكتابته، والتفهّم له، ونحو ذلك من الطرق المعنويّة التي يُتوصّل بها إلى العلم. انتهى (يَلْتَمِسُ) أي يطلب، وهو حال، أو صفة (فِيهِ عِلْمًا) نكّره ليشمل كل نوع من أنواع علوم الدين، قليله، أو كثيره، إذا كان بنيّة القربة، والانتفاع، والنفع (سَهَّلَ الله لَهُ بِهِ) أي بذلك السلوك، أو الطريق، أو الالتماس، أو العلم، والباء سببيّة (طَرِيقًا) أي موصلًا، ومُنْهِيًا (إِلَى الجنَّةِ) أي يسهّل الله له العلم الذي طلبه، وسلك طريقه، وييسره عليه، فإن العلم طريق يوصل إلى الجنة، أو ييسر الله له إذا قصد بطلبه وجه الله تعالى الانتفاع به، والعمل بمقتضاه، فيكون سببًا لهدايته، ولدخول الجنّة بذلك، وقد يُيسّر الله لطالب العلم علومًا أخرى ينتفع بها، وتكون موصلة إلى الجنة، أو يسهّل الله له طريق الجنة الحسيّ يوم القيامة، وهو الصراط، وما قبله، وما بعده من الأهوال، فييسّر ذلك على طالب العلم للانتفاع به. (وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بَيتٍ مِن بُيُوتِ اللَّه) عدل عن التعبير بالمساجد ليشمل جميع ما يُبنى لله تقرّبًا إليه، من المساجد، والمدارسَ، والرُّبُط، وقال القرطبيّ: بيوت الله هي ¬

_ (¬1) "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 665.

المساجد، كما قال الله تعالى: {في بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ} [النور: 36] انتهى، والأول أقرب، والله تعالى أعلم. (يتلُونَ كِتَابَ اللَّه) أي القرآن، والجملة حاليّة من "قوم"؛ لتخصيصه (وَيَتَدَارسونَهُ بَينَهُمْ) قيل: التدارس قراءة بعضهم على بعض؛ تصحيحًا لألفاظه، أو كشفًا لمعانيه، وقيل: المراد المدارسة المتعارفة، بأن يقرأ بعضهم عشرا مثلًا، وبعضهم عشرًا آخر، وهكذا، فيكون أخص من التلاوة، والأظهر أنه شامل لجميع ما يتعلّق بالقرآن من التعلم، والتعليم، والتفسير، والتحقيق في مبانيه، والاستكشاف عن دقائق معانيه (¬1) (إِلَّا حَفَّتْهُم الملائِكَةُ) أي ملائكة الرحمة والبركة، أحدقوا، وأحاطوا بهم؛ تعظيمًا لصنيعهم، أو طافوا بهم، وداروا حولهم إلى السماء الدنيا، يستمعون قراءتهم ودراستهم، ويحفظونهم من الآفات، ويزورونهم، ويُصافحونهم، ويؤمّنون على دعائهم (وَنَزَلَت عَلَيْهِم السَّكِينَةُ) قيل: المراد بالسكينة هنا الرحمة، وهو الذي اختاره القاضي عياض. قال النووي: وهو ضعيف؛ لعطف الرحمة عليه، وقيل: الطمأنينة، والوقار، وهو أحسن، انتهى (¬2)، وقيل: إنها شيء من مخلوقات الله تعالى، فيه طمأنينة، ورحمة، ومعه الملائكة. وقال القرطبيّ: هي إما السكون، والوقار، والخشوع، وإما الملائكة الذين يستمعون القرآن، سُمُّوا بذلك؛ لما هم عليه من السكون والخشوع. انتهى (¬3) (وَغشَيتهُم) أي عَلَتهم، وغطّتهم، وسترتهم (الرَّحْمَةُ) أي تكفير خطيئاتهم، ورفع درجاتهم، وإيصالهم إلى جنته وكرمته. قاله القرطبيّ (وَذَكَرَهُمْ الله فِيمَنْ عِنْدَهُ) أي الملإ الأعلى، ¬

_ (¬1) راجع "المرقاة" 1/ 456. (¬2) "شرح مسلم" 17/ 21. (¬3) "المفهم" 6/ 687 - 688.

والطبقة الأولى من الملائكة، وذكره لهم عندهم للمباهاة بهم، يقول: انظروا إلى عبادي هؤلاء يذكروني، ويتدارسون كتابي، ونحو ذلك، وقال القرطبيّ: يعني في الملإ الكريم من الملائكة المقرّبين، كما قال: "إن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم"، متّفق عليه (وَمَنْ أبْطَأَ) من الإبطاء، وفي رواية مسلم: "ومن بطّأ" بتشديد الطاء، من التبطة، ضدّ التعجيل. قال الطيبيّ: هذا أيضًا تذييل بمعنى التعظيم لأمر الله، فالواو فيه، وفي قوله: "والله في عون العبد" استئنافيّة، وبقية الواوات عاطفة (بِهِ) الباء للتعدية، أي من أخّره عن بلوغ درجة السعادة في الآخرة (عَمَلُهُ) السيء، أو تفريطه في العمل الصالح في الدنيا (لم يُسرِعْ) بضم أوله، من الإسراع، أي لم يقدّمه (بِهِ نَسَبُهُ) أي لم ينفعه في الآخرة شرف نسبه، فإن العمل الصالح هو الذي يرفع العبد إلى الدرجات العلى في الآخرة، فمن لم ترفعه أعماله إليها، لم تنفعه أنسابه، فتُبْلِغَه إليها؛ لأن الله تعالى رتّب الجزاء على الأعمال، لا على الأنساب، قال -عز وجل-: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. وقال القرطبيّ: يعني أن الآخرة لا ينفع فيها إلا تقوى الله تعالى، والعمل الصالح، لا الفخر الراجح، ولا النسب الواضح (¬1). وقال النووي: معناه: من كان عمله ناقصًا لم يُلحقه نسبه بمرتبة أصحاب الأعمال، فينبغي أن لا يتكل على شرف النسب، وفضيلة الآباء، ويقصر في العمل. انتهى (¬2). [فإن قلت]: هذا ينافي قوله تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} الآية [الطور: 21]، فإنه يدل على أن النسب ينفع. ¬

_ (¬1) "المفهم" 6/ 688. (¬2) "شرح مسلم" 17/ 22 - 23.

[قلت]: هذه الآية فيمن تبع في الإيمان، ولكنه مقصّر في بعض الأعمال، فيُلحق بهم تكريمًا لهم، وأما الحديث فهو محمول على من اتبع هواه، فضلّ السبيل، فإنه لا ينفعه نسبه، ولا يُلحقه بآبائه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا أخرجه مسلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (39/ 225) بهذا السند فقط، وأخرجه (ابن أبي شيبة) (9/ 85 - 86) و (أحمد) (2/ 252 و 274 و 325 و 406 و 500 و 514 و 522) و (الدارميّ) (351) و (مسلم) (8/ 71 و 72) و (أبو داود) (3643) و (4946) و (الترمذيّ) (1425) و (2646) و (2945) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (534 و 5045) و (أبو نعيم) في "الحلية" 8/ 119 و (القُضاعيّ) (458) و (البغويّ) (127)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان فضل العلماء، والحثّ على العلم. 2 - (ومنها): أن هذا الحديث حديث عظيم، جامع لأنواع من العلوم والقواعد، والآداب. 3 - (ومنها): بيان فضل تنفيس الكربة عن المسلم. 4 - (ومنها): بيان فضل إنظار المعسر، والتخفيف عنه. 5 - (ومنها): بيان فضل ستر المسلم، والستر عليه. 6 - (ومنها): فضل قيام العبد بعون أخيه المسلم، وقضاء حوائجه، ونفعه بما تيسّر، من علم، أو مال، أو معاونة، أو إشارة بمصلحة، أو نصيحة، أو غير ذلك. 7 - (ومنها): فضل المشي في طلب العلم، والمراد به العلم الشرعيّ، علم الكتاب

والسنة، كما سبق بيانه في الحديث الأول، ومن شروطه أن يقصد به وجه الله تعالى، وهو وإن كان شرطًا في كل عبادة، لكن عادة العلماء يقيّدون هذه المسألة به؛ لكونه قد يَتساهل فيه بعض الناس، ويغفُل عنه بعض المبتدئين ونحوهم. 8 - (ومنها): بيان استحباب الرحلة في طلب العلم، وقد ذهب موسى -عليه السلام- في طلب الخضر -عليه السلام- لذلك، فقال له: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66]، ورحل جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أنيس -رضي الله عنه- مسيرة شهر في حديث واحد، كما علّقه البخاريّ -رحمه الله- في "صحيحه" في "باب الخروج في طلب العلم"، وأخرج قصة موسى والخضر -عليهما السلام- في ذلك الباب. (ومنها): بيان فضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد. قال النوويّ -رحمه الله-: وهو مذهبنا، ومذهب الجمهور، وقال مالك: يكره، وتأوله بعض أصحابه، ويُلحق بالمسجد في تحصيل هذه الفضيلة الاجتماع في مدرسة، ورباط، ونحوهما -إن شاء الله تعالى-، ويدلّ عليه إطلاقه في رواية لمسلم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنهما-، بلفظ: "لا يقعد قوم يذكرون الله -عز وجل- إلا حفهم الملائكة. . . ." الحديث، فإنه مطلق يتناول جميع المواضع، ويكون التقييد في الحديث الأول خرج مخرج الغالب، لاسيما في ذلك الزمان، فلا يكون له مفهوم يُعمل به. انتهى كلام النووي (¬1). 9 - (ومنها): ما قاله القرطبيّ: فيه ما يدلّ على جواز تعليم القرآن في المساجد، أما للكبار الذين يتحفّظون بالمسجد فلا إشكال فيه، ولا يُختلف فيه، وأما الصغار الذين لا يتحفّظون بالمساجد، فلا يجوز؛ لأنه تعريض للمسجد للقذر والعبث، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "جنّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم" (¬2). ¬

_ (¬1) "شرح مسلم" 17/ 21 - 22. (¬2) هذا أخرجه المصنّف (750) من حديث واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "جَنِّبوا =

قال الجامع -عفا الله عنه-: الحديث ضعيف، فلا يصلح حجةً للمسألة، والله تعالى أعلم. قال: وقد تمسّك بهذا الحديث من يُجيز قراءة القرآن على لسان واحد، كما يُفعل عندنا بالمغرب، وقد كره بعض علمائنا ذلك، ورأوا أنها بدعة؛ إذ لم تكن كذلك قراءة السلف، وإنما الحديث محمول على أن كلّ واحد يدرس لنفسه، أو مع يُصلح عليه، ليستعين به. انتهى (¬1). قال الجامع -عفا الله عنه-: القول بالكراهة هو الصواب؛ لأن ذلك ليس من هدي السلف، بل هو مما أحدثه الناس في الأزمان المتأخّرة، والله تعالى المستعان. 10 - (ومنها): أن العبرة بالأعمال الصالحات، لا بالنسب الشريف، ولذا ترى أكثر العلماء من السلف والخلف لا أنساب لهم يتفاخرون بها، بل كثير منهم من الموالي، ومع ذلك هم سادات الأمة، وينابيع الحكمة، بينما كثير من ذوي الأنساب العليّة ليسوا كذلك بسبب جهلهم، ولذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين" (¬2)، ويؤيّده قوله -صلى الله عليه وسلم-: "يا فاطمة بنت محمد -صلى الله عليه وسلم- سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئا. . . ." الحديث متّفقٌ عليه. ولبعضهم [من الطويل]: عَلَيْكَ بتَقْوَى الله في كُلِّ حَالَةٍ ... وَلاَ تَترُكِ التَّقوَى اتكالًا عَلَى النَّسَبْ ¬

_ = مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم، وشراءكم، وبيعكم، وخصوماتكم، ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم، وسَلّ سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر، وجَمِّروها في الجمع"، وهو ضعيف؛ لأن في سنده الحارث بن نبهان، متروك، وشيخه ضعيف. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنّفه" (1726) وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 2/ 26 وقال: رواه الطبرانيّ في "الكبير"، ومكحول لم يسمع من معاذ. انتهى. والحاصل الحديث ضعيف. (¬1) "المفهم" 6/ 687. (¬2) أخرجه مسلم في "صحيحه"، وتقدّم للمصنف برقم (218).

فقد رَفعَ الإِسلامُ سلمان فارِسٍ ... وَقَدْ وَضَعَ الْكُفْرُ الشَّرِيف أبا لهَبْ ولآخر [من الكامل]: إِنَّا وإِنْ كَرُمت أَوائِلُنَا ... لسنَا عَلَى الأَحسَابِ نَتَّكِلُ نَبْنِي كَمَا كانَت أَوَائِلُنَا ... تَبْني وَنَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلُوا ولآخر: كُنِ ابنَ مَنْ شِئْتَ وَاكْتَسِب أَدَبًا ... يُغنيكَ مَحْمُودُهُ عَن النَّسَبِ إِنَّ الْفَتَى مَنْ يَقُولُ هَا أنا ذا ... لَيْسَ الفَتَى منْ يَقُولُ كَانَ أَبِي ولآخر [من البسيط]: مَا بَالُ نَفْسِكَ تَرضَى أَنْ تُدَنِّسَها ... وَثوبُ جِسمِكَ مَغْسُولٌ مِنَ الدَّنَسِ تَرجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسلُكْ مَسَالِكَهَا ... إِنَّ السَّفِينة لا تجرِي عَلَى الْيَبَسِ والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل التي الإمام ابن ماجه -رحمه الله- في أول الكتاب قال: 226 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن يحيَى، حَدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأنا مَعمَرٌ، عَن عَاصِمِ بْنِ أَبِي النُّجُودِ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: أتيْتُ صَفوَانَ بنَ عَسَّالٍ المُرَادِيَّ، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ؟ قُلْت: أُنْبِطُ الْعِلمَ، قالَ: فَإِنِّي سمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُول: "مَا مِن خَارج خَرَجَ مِنْ بَيتهِ في طَلَب الْعِلْمِ، إِلَّا وضَعَتْ لَهُ الملائِكَةُ أَجْنِحَتَهَا؛ رِضًا بِمَا يَصنَعُ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى) الذهليّ النيسابوريّ الإمام الحافظ [11] المذكور قبل باب. 2 - (عَبْدُ الرَّزاقِ) بن همام الصنعاني، ثقة حافظ، تغيّر في آخره، ويتشيّع [9] 2/ 16. 3 - (مَعْمَرٌ) بن راشد، أبو عروة البصري، ثم اليمني، ثقة ثبت، من كبار [7] 2/ 16.

4 - (عَاصِمُ بْنُ أَبِي النجُودِ) هو ابن بَهْدلة الكوفيّ المقرىء، ثقة يَهِم [6] 20/ 138. 5 - (زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ) الأسديّ، أبو مريم الكوفيّ، ثقة جليل مخضرم [2] 14/ 114. 6 - (صَفْوَانُ بْنُ عَسَّالٍ المرَادِيُّ) الجَمَليّ الصحابيّ المعروف، غزا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثنتي عشرة غزوة، ورَوَى عنه، وسَكَن الكوفة، ورَوَى عنه زِرّ بن حُبَيش، وعبد الله بن سَلَمَةَ المُرَاديّ، وحُذيفة بن أبي حذيفة، وأبو الْغَرِيف، عُبيد الله بن خَلِيفة، وغيرهم. أخرج له الترمذيّ، والنسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، برقم 226 و 391 و 478 و 2857 و 3705 و 4070، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سُداسيّات المصنّف. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير الصحابي، وأما عاصم، فأخرج له الشيخان مقرونًا. 3 - (ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين. غير شيخه، فنيسابوريّ، وعبد الرزاق، فصنعانيّ، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ زِرِّ) بكسر الزاي، وتشديد الراء (ابْنِ حُبَيْشٍ) بضم الحاء المهملة، مصغّرًا، أنه (قَالَ: أتيْتُ صَفْوَانَ بْنَ عَسَّالٍ) بفتح العين، وتشديد السين المهملتين (المُرَادِيَّ) أي المنسوب إلى بطن من مَذْحِج، وهو يحابر بن مالك بن أُدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، ومالك بن أُدد هو مَذْحِج. قاله في "اللباب" 3/ 188 (فَقَالَ) صفوان -رضي الله عنه- (مَا) استفهاميّة، أي أيُّ شيء (جَاءَ بِكَ؟) من محلّك، قال زِرّ (قُلْتُ) جئتُ (أُنْبِطُ الْعِلْمَ) أي أستخرجه من صدور العلماء، قال في "القاموس":

نضبَطَ الماءُ يَنْبطُ -يعني من بابي ضرب، ونصر-: نبَعَ، والْبِئْرَ: استخرجَ ماءَهَا. انتهى (¬1). فأفادت عبارته أن نَبَطَ يتعدّى ويلزم، وما هنا من المتعدي، والمراد أنه جاء يطلب العلم، ويستخرجه من صدور العلماء، ويجعله في قلبه، وقال السنديّ: وقال السيوطيّ تبعًا لصاحب "النهاية": أي أستنبطه، أي أُظهره، وأُفشيه في الناس. انتهى. وظاهره أنه خرج يُعلّم الناس، وهو لا يناسب اللفظ، ولا آخر الحديث، فليتأمّل. انتهى كلام السنديّ -رحمه الله- (¬2). قال الجامع -عفا الله عنه-: المعنى الأول هو الأوضح، لكن لما قاله السيوطيّ أيضًا وجه، وذلك أنه يُفشيه ويُظهره للناس بعد أن يتعلّمه، فيكون من باب الحثّ لصفوان -رضي الله عنه- أن يَعْتَنِي بتعليمه؛ لأنه سيقوم في إفادة الناس، وتعليمهم بعد أن يتعلّم منه. والله تعالى أعلم. (قَالَ) صفوان -رضي الله عنه- (فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: مَا) نافيةٌ (مِنْ) زائدة للتأكيد، كما قال في "الخلاصة": وَزِيدَ في نَفِي وَشِبْهِهِ فَجَرْ ... نكرَةً كـ "مَا لِبَاغ مِنْ مَفَرْ" (خَارِجٍ) مبتدأ مرفوع بضمة مقدّر؛ لأجل حركة حرف الجرّ الزائد، وخبره جملة "إلا وضعت إلخ" (خَرَجَ مِنْ بَيْتهِ في طَلَبِ الْعِلْمِ) أي لأجله، فـ "في" تعليليّة، كما في قوله -عز وجل-: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32]، وقوله: {لَمَسَّكُمْ في مَا أَفَضْتُمْ} [النور: 14]، وفي الحديث: "عُذِّبت امرأة في هرّة حبستها حتى ماتت جوعًا. . . ." متّفقٌ عليه، (إِلَّا وَضَعَتْ لَهُ الملائِكَةُ أَجْنِحَتَهَا؛ رِضًا بِمَا يَصْنَعُ) هذه الجملة تقدّم شرحها مستوفًى شرح حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- برقم (223)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. ¬

_ (¬1) "القاموس المحيط" ص 620. (¬2) "شرح السنديّ" 1/ 148 - 149.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث صفوان بن عسّال -رضي الله عنه- هذا صحيح. [تنبيه]: هذا الحديث روي مطوّلًا، ومختصرًا، وممن ساقه مطولًا الإمام أحمد -رحمه الله-، فقال في "مسنده": (17401) حدثنا سفيان بن عيينة، قال: حدثنا عاصم، سمع زر بن حبيش، قال: أتيت صفوان بن عَسّال المرادي، فقال: ما جاء بك؟ فقلت: ابتغاء العلم، قال: فإن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم؛ رضا بما يطلب، قلت: حَكّ في نفسي مسح على الخفين، وقال سفيان مرة: أو في صدري بعد الغائط والبول، وكنت امرأ من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأتيتك: أسألك، هل سمعت منه في ذلك شيئًا؟ قال: نعم كان يأمرنا إذا كنا سَفْرًا، أو مسافرين أن لا نَنْزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم، قال: قلت له هل سمعته يذكر الْهَوَى، قال: نعم بينما نحن معه في مسيرة، إذ ناداه أعرابي بصوت جَهْوَريّ، فقال: يا محمد، فقلنا ويحك، اغضض من صوتك، فإنك قد نُهيت عن ذلك، فقال: والله لا أغضض من صوتي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هاء، وأجابه على نحو من مسألته، وقال سفيان مرة: وأجابه نحوا مما تكلم به، فقال: أرأيت رجلًا أَحَبَّ قومًا، ولمّا يلحق بهم؟ قال: "هو مع من أحب"، قال: ثم لم يزل يحدثنا حتى قال: "إن من قبل المغرب لبابًا مسيرة عرضه سبعون، أو أربعون عامًا، فتحه الله -عز وجل- للتوبة، يوم خلق السموات والأرض، ولا يغلقه حتى تطلع الشمس منه. وفي رواية: وذلك قول الله -عز وجل-: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} الآية [الأنعام: 158]. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنف) هنا (39/ 226) بهذا السند، ويعيده بجزء مسح الخفين من طريق ابن عيينة، عن عاصم برقم (478)، وأخرجه (الشافعيّ) 1/ 33 و (عبد الرزاق)

(792 و 793 و 795) و (ابن أبي شيبة) 1/ 177 و 178 و (الحميديّ) في "مسنده" (881) و (أحمد) في "مسنده" 4/ 239 و 240 و 241 و (الدارميّ) في "سننه" (363) و (الترمذيّ) (96 و 2387 و 3535 و 3536) و (النسائي) (1/ 83 و 98) وفي "الكبرى" (131 و 143 و 144) و (ابن خزيمة) (17 و 193 و 196) و (ابن حبّان) (1100) و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار" 1/ 82 و (الطبراني) (7353) و (البيهقيّ) في "الكبرى" 1/ 276 و (البغويّ) في "شرح السنّة" (161). (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان فضل العلماء، والحثّ على طلب العلم. 2 - (ومنها): بيان الخروج في طلب العلم. 3 - (ومنها): بيان محبّة الملائكة لطالب العلم، وبسط أجنحتها له؛ رضًا بصنيعه. 4 - (ومنها): بيان شرف الآدميّ المطيع لربّه، حيث تخضع له الملائكة الكرام، وتحفّه بأجنحتها، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه -رحمه الله- في أول الكتاب قال: 227 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْنُ أَبِي شَيْبةَ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ صَخْرٍ، عَنْ المقْبُرِيِّ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَن جَاءَ مَسْجِدِي هَذَا، لَمْ يَأْتِهِ إِلَّا لخيْرٍ يَتَعَلَّمُهُ، أَوْ يُعَلِّمُهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ المُجَاهِدِ في سبِيلِ اللَّه، وَمَنْ جَاءَ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يَنْظُرُ إِلَى مَتَاعِ غَيْره"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (أبو بَكْرِ بن أَبِي شَيبةَ) المذكور قريبًا. 2 - (حَاتِمُ بْنُ إِسماعِيلَ) الحارثي، أبو إسماعيل المدني، كوفيّ الأصل، صدوقٌ،

صحيح الكتاب [8] 17/ 130. 3 - (حُمَيْدُ بْنُ صَخْرٍ) هو: حُميد بن زياد، أبو صخر بن أبي المخارق الخْرّاط، صاحب الْعَبَاء، مدنيّ سكن مصر، ويقال: هو حميد بن صخر، أبو مودود الخرّاط، وقيل: هما اثنان، صدوقٌ يَهِمُ [6]. رأى سهل بن سعد، وروى عن أبي صالح السمان، وأبي حازم سلمة بن دينار، ونافع مولى ابن عمر، وكريب، ومكحول، وأبي سعيد المقبريّ، ويزيد بن قسيط، وشريك بن عبد الله بن أبي نَمِر، وسعيد المقبريّ، وغيرهم. ورَوَى عنه سعيد بن أبي أيوب، وحَيْوَة بن شُريح، وابن وهب، ويحيى القطان، وضمام بن إسماعيل، وحاتم بن إسماعيل، وغيرهم. قال أحمد: ليس به بأس. وقال عثمان الدارمي عن يحيى: ليس به بأس. وقال إسحاق بن منصور، وابن أبي مريم عن يحيى: ضعيف، وكذا قال النسائي. وقال ابن عدي -بعد أن روى له ثلاثة أحاديث-: وهو عندي صالح، وإنما أُنكِر عليه هذان الحديثان: "المؤمن يألف"، وفي القدرية، وسائر حديثه أرجو أن يكون مستقيمًا، ثم قال في موضع آخر: حميد بن صخر، وعنه حاتم بن إسماعيل، ضعفه النسائي، وأخرج له ابن عدي غير تلك الأحاديث، وقال: وله أحاديث، وبعضها لا يتابع عليه. وكذا فرق بينهما ابن حبان، وبَيَّن البغوي في "كتاب الصحابة" أن حاتم بن إسماعيل وَهِمَ في قوله: حميد بن صخر، وإنما هو حميد بن زياد، أبو صخر، وهو مدني صالح الحديث، وقال الدارقطني: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال أبو إسحاق الصريفيني: مات سنة (89) وقيل: سنة (192)، قال الحافظ: رأيت ذلك بخط مغلطاي، وفيه نظر. انتهى (¬1). ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" 1/ 495.

أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي في "مسند علي -رضي الله عنه-"، والمصنّف، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم 227 و 1489 و 3840 و 4061. 4 - (المقْبُرِيُّ) سعيد بن أبي سعيد كيسان المدنيّ الثقة المذكور في الباب الماضي. 5 - (أبو هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه-، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ جَاءَ مَسْجدِي هَذَا) أراد المسجد النبويّ، وتخصيصه بالذكر إما لخصوص هذا الحكم به، أو لأنه كان محلا للكلام حينئذ، وحكم سائر المساجد كحكمه. قاله السنديّ (¬1). قال الجامع -عفا الله عنه-: يؤيّد الإطلاق حديث أبي أمامة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلّم خيرًا، أو يُعلّمه، كان له أجر معتمر تامّ العمرة، فمن راح إلى المسجد لا يريد إلا ليتعلّم خيرًا، أو يعلّمه، فله أجر حاجّ تامّ الحجة". رواه الحاكم، وصححه، ووافقه الذهبيّ. والله تعالى أعلم. (لم يَأْتِهِ إِلَّا لخيْرٍ) جملة في محلّ نصب على الحال، أي حال كونه غير آتٍ إلا لأجل خير (يَتَعَلَّمُهُ) من غيره (أَوْ يُعَلِّمُهُ) لغيره. قال السنديّ: والكلام فيمن لم يأت للصلاة، وإلا فالإتيان لها في الأصل هو المطلوب في المساجد انتهى (¬2) (فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ المُجَاهِدِ في سَبِيلِ اللَّه) وجه مشابهة طلب العلم بالجهاد في سبيل الله أنه إحياء للدين، وإذلال للشيطان، وإتعابٌ للنفس، وكسر ذُرى اللذّة، كيف وقد أُبيحِ له التخلّف عن الجهاد، فقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} الآية [التوبة: 122] (وَمَن جَاءَ لِغَيْرِ ذَلِكَ) أي ممن لم ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 149. (¬2) المصدر السابق.

يأت للصلاة كما تقدّم (فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يَنْظُرُ إِلَى مَتَاعِ غيره") أي بمنزلة من دخل السوق، لا يبيع ولا يشتري، بل ينظر إلى أمتعة الناس، فهل يحصل له بذلك فائدة؟ فكذلك هذا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا أعله الدارقطني، وصححه الشيخ الألباني، وقال البوصيريّ -رحمه الله-: هذا إسناد صحيح، احتجّ مسلم بجميع رواته، رواه الحاكم في "المستدرك" من طريق حميد بن صخر، وقال: هذا حديث صحيحٌ على شرط الشيخين، فقد احتجّا بجميع رواته، ثم لم يخرجاه، قال: ولا أعلم له علّة. قال البوصيريّ: قد أعله الدارقطنيّ في "علله" بأنه اختلف فيه على سعيد المقبريّ، فرواه حميد عنه هكذا، وخالفه عبيد الله بن عمر، فرواه عن المقبريّ، عن عمر ابن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، عن كعب الأحبار قولَه، ورواه ابن عجلان عن المقبري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن كعب قولَه، وقول عبيد الله بن عمر أشبه بالصواب. وقول الحاكم: إن الشيخين احتجّا بجميع رواته فيه نظرٌ، فلم يحتجّ البخاري بحميد، ولا أخرج له في "صحيحه"، وإنما روى له في "كتاب الأدب المفرد" حديثين، نعم أخرج له مسلم في "صحيحه". رواه محمد بن يحيى بن أبي عمر في "مسنده" عن المقبريّ، عن حيوة، عن أبي صخر حميد بن صخر به، وأبو يعلى الموصليّ، ثثا أبو بكر بن أبي شيبة، فذكره. انتهى كلام البوصيريّ -رحمه الله تعالى- (¬1). ¬

_ (¬1) "مصباح الزجاجة" 1/ 95 - 96.

قال الجامع -عفا الله عنه-: الحديث صحيح إن سَلِمَ مما أعله به الدارقطنيّ، فإنه إعلال قويّ. وقد أخرج له الحاكم شاهدًا من طريق ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أبي أُمامة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلّم خيرًا، أو يُعلّمه، كان له أجر معتمر تامّ العمرة، فمن راح إلى المسجد لا يريد إلا ليتعلّم خيرًا، أو يعلّمه، فله أجر حاجّ تامّ الحجة". قال: وقد احتجّ البخاريّ بثور بن يزيد في الأصول، وخرج له مسلم في الشواهد، ووافقه الذهبيّ على شرط البخاريّ، والله تعالى أعلم بالصواب. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنف) هنا (39/ 227) بهذا السند، ولم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" (12/ 209) و (أحمد) في "مسنده" 2/ 350 و 418 و 527 و (ابن حبان) في "صحيحه" (87) و (الطبراني) (5911) و (الحاكم) في "مستدركه" 1/ 91، وأخرجه أيضًا من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- 1/ 91، كما أسلفته آنفًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه -رحمه الله- أول الكتاب قال: 228 - (حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّار، حَدثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدثَنَا عُثمانُ بْنُ أبِي عَاتِكَةَ، عَنْ عِليِّ بْنِ يَزِيدَ، عَن القَاسِمِ، عَن أَبِي أُمَامَةَ، قَال: قَالَ رسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، وَقَبضُهُ أنْ يُرْفَعَ -وَجَمَعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ الْوُسْطَى والتي تَلِي الإبْهَامَ- هَكَذا"، ثُمَّ قَال: "الْعَالم وَالمتعَلِّمُ شرِيكَانِ في الْأَجْر، وَلَا خَير في سَائِرِ النَّاسِ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (هِشام بن عمَّار) الدمشقي المذكور قريبًا. 2 - (صَدَقَةَ بْنُ خَالِدٍ) الأمويّ، أبو العباس الدمشقي، ثقة [8] 35/ 199.

3 - (عُثمانُ بْنُ أَبِي عَاتِكَةَ) واسمه سليمان الأزديّ، أبو حفص الدمشقيّ القاصّ، ضعّفوه في روايته عن عليّ بن يزيد الألهانيّ [7]. رَوَى عن خالد بن اللجلاج، وسليمان بن حبيب، وعلي بن يزيد الألهاني، وغيرهم. ورَوَى عنه الوليد بن مسلم، وصدقة بن خالد، ومحمد بن شعيب بن شابور، وغيرهم. قال الدُّوري عن ابن معين: ليس بالقوي، وقال في موضع آخر: ليس بشيء، وكذا قال الغلابي، وابن الجنيد، وعثمان الدارمي عن ابن معين، وزاد الغلابي عنه: أحاديثُهُ أصح من أحاديث عبيد الله بن زَحْر. وقال الجوزجاني: رأيت يحيى بن معين لا يحمل حديثه. وقال عثمان الدارمي: سمعت دُحيما يُثني عليه، وينسبه إلى الصدق. وقال ميمون بن الأصبغ عن أبي مسهر: كان قاصّا، فإن كان وَهَمٌ فمنه. وقال إسحاق بن سيار عن أبي مسهر: ضعيف الحديث. وقال إسحاق: وهو كما قال. وقال أبو حاتم عن دُحيم: لا بأس به، كان قاصَّ الجند، ولم ينكر حديثه عن غير علي بن يزيد، والأمر من علي بن يزيد. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: لا بأس به، بليّتُهُ من كثرة روايته عن علي بن يزيد، فأما روايته عن غير علي فهو مقاربٌ يُكتَب حديثه. وقال أبو زرعة الدمشقي: شيخان معناهما واحد: عثمان بن أبي العاتكة، ومُعَان بن رِفاعة، وأخبرني دُحيم أن معانا أرفعهما. وقال يعقوب بن سفيان: ضعيف الحديث. وقال أبو داود: صالح. وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال في موضع آخر: ضعيف. وقال ابن عدي: مع ضعفه يكتب حديثه. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. وقال دُحَيم: مات سنة نيف وأربعين ومائتين. وقال أبو زرعة الدمشقي: حدثني محمد بن العلاء، شيخ قديم، قال: وُلِّينا الفضلَ بن صالح سنة (174) سبع سنين ومات عثمان بن أبي العاتكة، وهو علينا. وقال خليفة: مات سنة (155)، وكان ثقة كثير الحديث.

وقال ابن عدي: ثنا جعفر بن أحمد بن عاصم، عن هشام بن عمار، عن صدقة بن خالد، عن عثمان، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أُمامة بثلاثين حديثًا، عامتها ليست مستقيمة، وفيها أَرَّخه ابن قانع، وابنُ سعد عن الواقدي، وقال: كان ثقة في الحديث. وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة ثنتين وخمسين. وقال العجلي: لا بأس به. أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والمصنّف، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم 228 و 289 و 1857 و 3662 و 4090. 4 - (عَليُّ بْنُ يَزِيدَ) بن أبي هلال الألهانيّ، ويقال: الْهِلاليّ، أبو عبد الملك، ويقال: أبو الحسن الدمشقيّ، صاحب القاسم بن عبد الرحمن، ضعيف [6]. رَوَى عن القاسم بن عبد الرحمن، صاحب أبي أمامة نسخة كبيرةً، وعن مكحول الشامي. ورَوَى عنه عبيد الله بن زَحْر، وعثمان بن أبي العاتكة، والوليد بن سليمان بن أبي السائب، ومُعان بن رِفاعة السلمي، وغيرهم. قال حرب عن أحمد: هو دمشقي، كأنه ضعفه، قال: وقال محمد بن عمر: قال يحيى بن معين: علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أُمامة ضعاف كلها. وقال يعقوب: علي بن يزيد واهي الحديث، كثير المنكرات. وقال الغلابيّ عن ابن معين: أحاديث عبيد الله بن زَحْر عن عليّ بن يزيد ضعيفة. وقال محمد بن يزيد المستملي عن أبي مسهر: ما أعلم إلا خيرًا. وقال الجوزجاني: رأيتُ غير واحد من الأئمة ينكر أحاديثه التي يرويها عنه عبيد الله بن زَحْر، وابن أبي العاتكة، ثم رأيت جعفر بن الزبير، وبشر بن نمير يرويان عن القاسم أحاديث تشبه تلك الأحاديث، وكان القاسم خيارًا فاضلًا، ممن أدرك أربعين من المهاجرين والأنصار، وأظنهما أُتيا من قِبَل علي بن يزيد، على أن بشر ابن نمير، وجعفر بن الزبير ليسا بحجة. وقال أبو زرعة الرازي: ليس بالقوي. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال. ضعيف الحديث، أحاديثه منكرة.

وقال محمد بن إبراهيم الكناني الأصبهاني: قلتُ لأبي حاتم: ما تقول في أحاديث في ابن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة؟ قال: ليست بالقوية، هي ضعاف. وقال البخاري: منكر الحديث، ضعيف. وقال الترمذي، والحسن بن علي الطوسى: يُضَعَّف في الحديث، وفي موضع آخر: قد تكلم بعض أهل العلم في علي بن يزيد، وضعفه. وقال النسائي: ليس بثقة، وقال في موضع آخر: متروك الحديث. وقال ابن يونس: فيه نظر. وقال الأزدي، والدارقطني، والبرقيّ: متروك. وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث. وقال ابن عدي: ولعلي بن يزيد أحاديثُ ونُسَخٌ، ولعبيد الله بن زَحْر عنه أحاديث، وهو في نفسه صالح، إلا أن يَروي عنه ضعيف، فيؤتى من قِبَل ذلك الضعيف. وقال الساجي: اتفق أهل العلم على ضعفه. وقال أبو نعيم الأصبهاني: منكر الحديث. وذكره البخاري في "الأوسط" فيمن مات في العشر الثاني بعد المائة. تقرّد به الترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، برقم 228 و 245 و 289 و 299 و 1857 و 3662 و 3954. 5 - (الْقَاسِمُ) بن عبد الرحمن، أبو عبد الرحمن الدمشقيّ، مولى آل أبي سفيان بن حَرْب الأمويّ، صاحب أبي أُمامة، صدوق يرسل كثيرًا [3]. روى عن علي، وابن مسعود، وتميم الداري، وعدي بن حاتم، وعقبة بن عامر، ومعاوية، وأبي أيوب، وأبي أمامة، وعمرو بن عبسة، وعنبسة بن أبي سفيان، وغير واحد، وقيل: لم يسمع من أحد من الصحابة إلا من أبي أمامة. ورَوَى عنه علي بن يزيد الألهاني، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، والوليد بن جَمِيل، ويحيى بن الحارث الذماري، وعبد الله بن العلاء بن زَبْر، وغيرهم. قال ابن سعد: له حديث كثير، قال بعض الشاميين: إنه أدرك أربعين بدريّا، وقال الدوري عن ابن معين: ليس في الدنيا القاسم بن عبد الرحمن شاميّ غير هذا. وقال البخاري: سمع عليًّا، وابن مسعود، وأبا أمامة، روَى عنه العلاء بن الحارث،

وابن جابر، وكثير بن الحارث، ويحيى بن الحارث، وسليمان بن عبد الرحمن أحاديث مقاربة، وأما من يُتكَلَّم فيه مثل جعفر بن الزبير، وبشر بن نمير، وعلي بن يزيد، وغيرهم، ففي حديثهم عنه مناكير واضطراب. وقال أبو حاتم: روايته عن علي، وابن مسعود، وعائشة مرسلة. وقال الأثرم: سمعت أحمد، وذُكر له حديثٌ عن القاسم الشاميّ، عن أبي أمامة، فأنكره، وحَمَل على القاسم، وقال يروي عنه علي بن يزيد أعاجيب، وتكلم فيها، وقال: ما أرى هذا إلا من قِبَل القاسم، قال أحمد: وإنما ذهبت رواية جعفر بن الزبير؛ لأنه إنما كانت روايته عن القاسم، قال أحمد: لمّا حَدّث بشر بن نمير عن القاسم، قال شعبة ألحقوه به. وقال جعفر بن محمد بن أبان الحراني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما أرى البلاء إلا من القاسم. وقال إبراهيم بن الجنيد عن ابن معين: القاسم ثقة، والثقات يروون عنه هذه الأحاديث، ولا يرفعونها، ثم قال: يجيء من المشايخ الضعفاء ما يدل حديثهم على ضعفهم، وقال ابن معين في موضع آخر: إذا رَوى عنه الثقات أرسلوا ما رفع هؤلاء. وقال العجلي: ثقة يُكتب حديثه، وليس بالقوي. وقال يعقوب بن سفيان، والترمذي: ثقة. وقال الجوزجاني: كان خيارًا فاضلًا، أدرك أربعين رجلا من المهاجرين والأنصار. وقال أبو حاتم: حديث الثقات عنه مستقيم، لا بأس به، وإنما يُنكر عنه الضعفاء. وقال الغلابي: منكر الحديث. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة، وقال في موضع آخر: قد اختلف الناس فيه. وقال البخاري: قال أبو مسهر: حدثني صدقة بن خالد، حدثثا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: ما رأيت أحدًا أفضل من القاسم، كنا بالقسطنطينية، فكان الناس يرزقون رغيفين رغيفين في كل يوم، فكان يتصدق برغيف، ويصوم، ويفطر على رغيف. وقال ابن حبان: كان يروي عن الصحابة المعضلات. وقال أبو إسحاق الحربي:

كان من ثقات المسلمين. قال ابن سعد وغيره: مات سنة اثنتي عشرة ومائة، ويقال: سنة ثماني عشرة. أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والأربعة، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا. 6 - (أبو أُمَامَةَ) صُديّ بن عجلان الباهليّ الصحابيّ المشهور -رضي الله عنه- 7/ 48. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ) صُدَيّ بن عَجْلان الباهليّ -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعِلْمِ) الإشارة إلى علم الدين، علم الكتاب والسنّة الذي بُعث به النبيّ الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وقام بنشره، وأمر بتبليغه، فإنه العلم الذي له الفضل العظيم، والثواب الجسيم، وأما علم الدنيا، فإنه إن أراد به صاحبه وجه الله، فهو خير كسائر الخيرات، يؤجر عليه أجر أيّ خير، وليس له فضل العلم النبويّ، وقد سبق بيان هذا مستوفًى، فلا تغفل (قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ) أي يؤخذ من الناس، ثم فسّر قبضه بقوله: (وَقَبْضُهُ أَنْ يُرْفَعَ) بالبناء للمفعول، أي يرفع من بين الناس، بموت أهله، لا أنه يمسح من صدورهم، كما بين ذلك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا اتخذ الناس رءوسًا جهالًا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا"، متّفق عليه. وفي رواية: "إن الله لا يَنْزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعا، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم. . . ." الحديث. قال في "الفتح": وكان تحديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بذلك في حجة الوداع، كما رواه أحمد، والطبرانيّ من حديث أبي أُمامة -رضي الله عنه- قال: لمّا كان في حجة الوداع قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "خُذُوا العلم قبل أَنْ يُقبض، أو يُرفع"، فقال أعرابيّ: كيف يُرفع؟ فقال: "ألا إن ذهاب العلم ذهاب حَمَلَته" ثلاث مرّات.

قال ابن المنيّر: محو العلم من الصدور جائز في القدرة، إلا أن هذا الحديث دلّ على عدم وقوعه. انتهى (¬1). (وَجَمَعَ) النبي -صلى الله عليه وسلم- إشارةً إلى قرب أوان القبض؛ لما بينهما من الاتصال، أو جمع يشير بهما إلى كيفيّة الرفع إلى السماء بأن أشار بهما إلى جهة العلو. قاله السنديّ (¬2) (بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ) بكسر الهمزة، مع فتح الموحّدة، أفصح لغاتها العشر، وقد تقدّمت (الْوُسْطَى) بضم، فسكون: تأنيث الأوسط (وَالتِي تَلي الْإِبْهَامَ هَكَذَا) أشار به الراوي إلى كيفية الجمع (ثُمَّ قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (الْعَالمُ وَالمتعَلِّمُ شَرِيكَانِ في الْأَجْرِ) لكون كلّ منهما ممن أراد الله به خيرًا، حيث يسّر له العلم، هذا بنشره بين الناس، وهذا بطلبه حتى يهتدي به، ويهدي به الناس (وَلَا خَيْرَ في سَائِرِ الناسِ) أي الذين لا يشتغلون بالعلم، نشرًا أو طلبًا، والمراد بالخير خير خاصٌّ، وهو الذي سبق أنه يناله العلماء بسبب العلم، وأما مطلق الخير الذي يناله أَيُّ مؤمن بإيمانه، وعمله الصالح فلا يراد هنا، فتنبّه. قال السنديّ -رحمه الله-: هو مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدين"، فأشار إلى أن طالب الفقه كالفقيه، ومن لا فقه له، ولا طلب فلا خير له؛ لتنزيل الحرمان عن خير الفقه منزلة الحرمان عن مطلق الخير. انتهى (¬3). وقال بعضهم: قوله: "ولا خير" أي كامل "في سائر الناس"، أي في باقي الناس بعد العالم والمتعلّم، وذلك لأن الخير كله في العلم وأهله، فمن لم يحصّله مع قدرته على تحصيله فلا خير فيه، بل لا يُعدّ من الناس، ولأن الخاصيّة التي يتميّز بها الإنسان عن سائر البهائم هو العلم والعمل، فالإنسان إنسان بما هو شريف لأجله، وليس ذلك الشرف بقوّة شخصه، فإن الجمل الذي ضُرب به المثل في عجيب خلقه أقوى منه، ولا ¬

_ (¬1) "الفتح" 1/ 257. (¬2) "شرح السنديّ" 1/ 150. (¬3) المصدر المذكور.

بكبر جثّته، فإن الفيل أعظم منه جثة، ولا بشجاعته وقوّته، فإن الأسد أشجع منه وأقوى، ولا لأكله كثيرًا، فإن الجمل أوسع منه بطنًا، وأكثر أكلا، ولا ليجامع النساء، فإن أخس العصافير أقوى على السفاد منه، بل لم يُخلق إلا للعلم والعمل، قال الله -عز وجل-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فبهذه الخاصيّة الخاصّة يتميّز عن غيره من البهائم، فإذا عَدم العلم بقي معه القدر المشترك بينه وبين سائر البهائم، وهي الحيوانيّة المحضة، فلا يبقى فيه فضل عليهم، بل قد يبقى شرًّا منهم، كما قال تعالى في هذا الصنف من الناس: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]، وقال {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22]، فهؤلاء هم الجهال الذين لم يحصل لهم حقيقة الإنسانيّة التي يتميّز بها صاحبها عن سائر الحيوانات، قال بعضهم: ليت شعري أي خير أدرك من فاته العلم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، المستعان، وعليه التكلان. قال الجامع -عفا الله عنه-: حديث أبي أُمامة -رضي الله عنه- هذا تفرّد به المصنّف، وهو حديث ضعيف؛ لضعف علي بن يزيد الألهانيّ، فالجمهور على تضعيفه، بل قال بعضهم: منكر الحديث، وقال بعضهم: متروك الحديث، كما سبق في ترجمته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه -رحمه الله- في أول الكتاب قال: 229 - (حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ هِلَال الصَّوَّافُ، حَدَّثنَا دَاوُد بن الزِّبْرِقَان، عَنْ بَكْرِ بْنِ خُنَيسٍ، عن عَبدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَاد، عَن عَبْدِ الله بْنِ يَزيد، عَنْ عَبد الله بنِ عَمْرو، قَالَ: خَرجَ رسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ، مِنْ بَعْض حُجَرِهِ، فَدَخَلَ المسْجِدَ، فإِذَا هُوَ بِحَلقَتَيْنِ: إِحْدَاهمَا يَقْرَءُونَ القُرْآنَ، وَيَدْعُونَ الله، وَالْأُخْرَى يَتعَلَّمون وَيُعَلَّمُونَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "كلٌّ عَلَى خَيرٍ، هَؤُلَاءِ يَقرَءون الْقرْآنَ، وَيَدعُونَ الله، فَإِن شَاءَ أَعْطَاهُمْ، وَإِنْ شاءَ

منعهُم، وَهَؤُلَاءِ يَتَعَلَّمونَ، وإنما بُعِثت مُعَلِّما، فجلَسَ مَعَهم"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (بِشْر بن هلَالٍ الصوَّافُ) أبو محمد النُّمَيريِّ -بضم النون، مصغّرا- ثقة [10]. رَوَىَ عن جعفر بن سليمان، وعبد الوارث بن سعيد، ويزيد بن زريع، ويحيى القطان، وغيرهم. ورَوَى عنه الجماعة، إلا البخاري، وإسحاق الكَوسج، وبقِي بن مخلد، وحرب الكرماني، وابن خزيمة، وأبو حاتم، وقال: محله الصدق، وكان أيقظ من بشر بن معاذ. وقال ابن حبان في "الثقات": يُغْرِب. ووثقه النسائي في "أسماء شيوخه"، وأبو علي الجياني في "أسماء شيوخ أبو داود". وقال ابن أبي عاصم: مات سنة (247). وله في هذا الكتاب (15) حديثًا. 2 - (دَاوُد بْنُ الزِّبْرقَانِ) الرقاشي، أبو عمرو، وقيل: أبو عمر البصري، نزيل بغداد، متروك، [8]. رَوَى عن إسماعيل بن أبي خالد، وأَيوب، وإسماعيل بن مسلم، وبكر بن خنيس، وداود بن أبي هند، وغيرهم. ورَوى عنه سعيد بن أبي عروبة، وشعبة بن الحجاج، وبقية بن الوليد، وأبو صالح المصري، وبشر بن هلال الصواف، وعلي بن حجر المروزي وغيرهم. قال ابن معين: ليس بشيء. وقال ابن المديني: كتبت عنه شيئًا يسيرًا، ورميت به، وضعفه جدّا. وقال الجوزجاني: كذاب. وقال يعقوب بن شيبة، وأبو زرعة: متروك. وقال البخاري: مقارب الحديث. وقال أبو داود: ضعيف، وقال مرة: ليس بشيء، وقال أيضًا: تُرِك حديثه. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه عن كل من رَوَى عنه مما لا يُتابعه عليه أحد، وهو في جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم. وقال ابن خِرَاش، ويعقوب بن سفيان، والساجي، والعجلي: ضعيف الحديث. وقال

الأزديّ: متروك. وقال ابن حبان: كان نَخّاسا بالبصرة، اختَلَف فيه الشيخان: أما أحمد فحسن القول فيه، ويحيى وَهّاه، قال: وكان داود صالحًا يحفظ، ويذاكر، ولكنه كان يَهِمُ في المذاكرة، ويَغْلَط في الرواية إذا حدّث من حفظه، ويأتي عن الثقات بما ليس من أحاديثهم، إلى أن قال: وداود عندي صدوق فيما وافق الثقات، إلا أنه لا يُحتج به إذا انفرد. وقال البزار: منكر الحديث جدّا، قال الحافظ: قرأت بخط الذهبي: مات سنة نيف وثمانين ومائة. تفرّد به الترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 3 - (بَكْرُ بْنُ خُنَيْسٍ) -بالخاء المعجمة، والنون، آخره سين مهملةٌ، مصغّرًا- الكوفيّ العابد، نزيل بغداد، صدوق، له أغلاط [7]. رَوَى عن ثابت، وليث بن أبي سُليم، وعبد الرحمن بن زياد، ومحمد بن سعيد الشامي، وإسماعيل بن أبي خالد، وعطاء بن أبي رباح، وغيرهم. ورَوَى عنه أبو النضر، ووكيع، وإبراهيم بن طهمان، وداود بن الزِّبْرِقان، وآدم بن أبي إياس، وحجاج الأعور، وعلي بن الجعد، وغيرهم. قال ابن أبي مريم عن يحيى بن معين: صالح لا بأس به، إلا أنه يَروي عن ضعفاء، ويُكتب من حديثه الرِّقاق، وقال عبّاس وغيره عنه: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: سألت ابن المديني عنه، فقال للحديث رجال. وقال ابن عمار الموصلي: ليس بمتروك، وهو شيخ، صاحب غزو. وقال أحمد بن صالح المصري، وابن خراش، والدارقطني: متروك. وقال عمرو بن علي، ويعقوب بن شيبة، والنسائي: ضعيف، زاد يعقوب: وكان يوصف بالزهد والعبادة. وقال النسائي أيضًا: ليس بالقوي. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: كان رجلًا صالحًا غَزّاءً، وليس بقوي في الحديث، قلت: هو متروك الحديث؟ قال: لا يبلغ الترك. وقال أبو داود: ليس بشيء. وذكره يعقوب بن سفيان في "بابُ من يُرْغَبُ عن الرواية عنهم".

وقال الجوزجاني: كان يَروِي كل منكر، وكان لا بأس به في نفسه. وقال ابن عدي: وهو ممن يُكتب حديثه، ويحدث بأحاديث مناكير عن قوم لا بأس بهم، وهو في نفسه رجل صالح، إلا أن الصالحين يُشَبَّه عليهم الحديث، وربما حدثوا بالتوهم، وحديثه في جملة الضعفاء، وليس ممن يُحتج بحديثه. وقال العجلي: كوفي ثقة. وقال عبد الله بن علي بن المديني: سألت أبي عنه؟ فضعفه. وقال أبو زرعة: ذاهب الحديث. وقال العقيليّ: ضعيف. وقال البزار: ليس بقوي. وقال ابن حبان: رَوَى عن البصريين والكوفيين أشياء موضوعة، يسبق إلى القلب أنه المُتَعَمِّدُ لها. وقال ابن أبي شيبة: ضعيف الحديث، وهو موصوف بالرواية والزهد. وأَرَّخه الذهبي في حدود السبعين ومائة. تفرد به الترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 4 - (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيادٍ) بن أنعُم الإفريقيّ، قاضيها، ضعيف في حفظه [7] 8/ 54. 5 - (عَبْدُ اللَّه بْنُ يَزِيدَ) المعافريّ، أبو عبد الرحمن الحُبُليّ -بضم المهملة، والموحّدة- المصريّ، ثقة [3]. رَوَى عن عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وعقبة بن عامر، وأبي ذر، وفَضالة بن عبيد، وعُمارة بن شَبيب، وأبي أيوب الأنصاري، وغيرهم. ورَوَى عنه أبو هانئ حميد بن هانئ، وشُرَحبيل بن شَريك، وعقبة بن مسلم، وعبد الرحمن بن زياد بن أَنْعُم، وربيعة بن سيف، ويزيد بن عَمْرو المُعَافري، وغيرهم. قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". قال ابن يونس: يقال: تُوُفّي بإفريقية سنة مائة، وكان صالِحًا فاضلًا. وقال ابن سعد، والعجلي: ثقة، وقال ابن خلفون: يقال: إنه تُوُفّي بقرطبة. وقال أبو بكر المالكي في "تاريخ القيروان": بعثه عمر بن عبد العزيز إلى إفريقية؛ لِيُفَقِّههم، فَبَثَّ فيها علمًا كثيرًا، ومات بها، ودُفِن بباب تونس. أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، وله في هذا الكتاب تسعة

أحاديث، برقم 229 و 425 و 446 و 1614 و 1855 و 1859 و 2785 و 4138 و 4300. 6 - (عَبْدُ الله بن عَمْرٍو) بن العاص -رضي الله عنهما- 8/ 52. شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ الله بن عَمرٍو) بن العاص -رضي الله عنهما- أنه (قَالَ: خَرجَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَومٍ) أي يومًا من الأيام (مِن بَعْضِ حُجَرِهِ) بضم، ففتح: جمع حُجرة، بضم، فسكون: البيت، ويجمع أيضًا على حُجُراتٍ، مثلُ غرفة وغُرَف وغُرُفَات (فَدَخَلَ المسجِدَ) النبويّ (فَإِذَا هُوَ بِحَلْقَتَيْنِ) أي بجماعتين مجتمعتين مستديرتين، فـ "إذا" هي الفُجائيّة، أي ففاجأه وجود حلقتين، تثنية حَلْقة بفتح، فسكون، على المشهور. قال الفيّوميّ: حَلْقَةُ الباب بالسكون من حديد وغيره، وحَلقَةُ القوم الذين يجتمعون مُستديرين، والحَلْقَةُ السلاح كلّه، والجمع حَلَقٌ بفتحتين على غير قياس، وقال الأصمعيّ: والجمعُ حِلَقٌ بالكسر، مثلُ قَصْعَةٍ وقِصَعٍ، وبَدْرَةٍ وبِدَرٍ، وحَكى يونس عن أبي عمرو بن العلاء أن الحَلَقَةَ بالفتح لغة في السكون، وعلى هذا فالجمع بحذف الهاء قياس، مثلُ قَصَبَةٍ وقَصَبٍ. انتهى (¬1). (إِحدَاهُمَا) أي إحدى الحلقتين (يَقْرَءُون القرْآنَ، وَيَدعون اللَّه) أي يطلبون منه تعالى أن يقضي حوائجهم (وَالْأُخْرى) أي الحلقة الثانية (يَتعَلَّمونَ) أمور دينهم (وَيُعَلِّمُونَ) الناس، أي بعضهم طلاب العلم، وبعضهم علماء يفيدون الناس (فَقَالَ النبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: كُلٌّ) بتنوين العوض، أي كل الحلقتين (عَلَى خيْرٍ) التنوين للتعظيم، أي على خير عظيم (هَؤُلَاءِ) مشيرًا إلى إحدى الحلقتين (يَقْرَءُونَ الْقُرآن، وَيَدْعُونَ اللَّه) تعالى (فَإِنْ شَاءَ أَعطَاهُمْ) أي مطلوبهم؛ إذ لا وجوب عليه تعالى، لكن في ترك هذا فيما بعدُ تنبيهٌ على أن إعطاء أولئك مطلوبهم كالمتعيّن المتحقّق، ففيه إشارة إلى بَوْنٍ بعيدٍ بينهما، ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" 1/ 146 - 147.

وقد حَمَل بعضهم حديث "من يرد الله به خيرًا" على هذا المعنى، فقال: لا يدري أحد أنه أريد له الخير في الدنيا إلا الفقهاء، وكأنه مبنيّ على أن من يريد له الخير يفقهه لا غيره؛ بناءً على اعتبار مفهوم الشرط، لكن هذا المعنى بعيد، وهذا الإطلاق لا ينبغي شرعًا، فليُتأمل. قاله السنديّ (¬1) (وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ) مشيرًا إلى الحلقة الثانية (يَتَعَلَّمُونَ، وَإِنَّما بُعِثْتُ مُعَلِّمًا) فيه إشعار بأنهم منه، وهو منهم، ولذا جلس معهم، كما قال (فَجَلَسَ مَعَهُمْ) تفضيلًا لهم، فدلّ على أن طلب العلم، ونشره، وتعليمه للناس أفضل من قراءة القرآن، والذكر، والدعاء، وذلك لأنه وظيفة الأنبياء، ومهمة الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. قال الجامع -عفا الله عنه-: حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- هذا ضعيف جدًّا؛ لأن في سنده داود بن الزِّبْرقان، متروك، بل كذبه الجوزجانيّ (¬2)، وبكر بن خُنيس أيضًا ضعفه بعضهم، وعبد الرحمن بن زياد الإفريقيّ ضعيف أيضًا. والحديث أخرجه (المصنّف) هنا (39/ 229) بهذا السند، ولم يُخرجه من أصحاب الأصول أحد غيره، وأخرجه (الدارميّ) في "سننه" (355)، والله تعالى أعلم. [تنبيه]: قال الشيخ الألبانيّ في "سلسلة الأحاديث الضعيفة": وقد اشتهر الاحتجاج بهذا الحديث على مشروعيّة الذكر على الصورة التي يفعلها بعض أهل الطرق من التحلّق، والصياح في الذكر، والتمايل يمنة ويسرةً وأماما وخلفًا مما هو غير مشروع باتفاق الفقهاء المتقدّمين، ومع أن الحديث لا يصحّ كما علمت، فليس فيه هذا الذي زعموه، بل غاية ما فيه الاجتماع على ذكر الله تعالى، وهذا فيه أحاديث صحيحة في "صحيح مسلم"، وغيره، تغني عن هذا الحديث، وهي لا تفيد أيضًا إلا مطلق ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 151. (¬2) هذا هو الصواب، كما في "تهذيب التهذيب"، فما وقع في "التقريب"، وتبعه بشار عواد "كذبه الأزديّ" فغلط، فتنبّه.

الاجتماع، أما ما يضاف إليه من التحلّق، وما قُرن معه من الرقص، فكله بدعٌ وضلالاتٌ، يتنزه الشرع عنها. انتهى كلامه -رحمه الله تعالى- (¬1)، وهو بحثٌ نفيس جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. ¬

_ (¬1) "السلسلة الضعيفة" 1/ 23 رقم (11).

40 - باب من بلغ علما

40 - (بابُ من بلَّغ علمًا) وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه -رحمه الله- في أول الكتاب قال: 230 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادٍ، أَبِي هُبَيْرَةَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَبَلَّغَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ"، زَادَ فِيهِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، "ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَالنُّصْحُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ"). رجال هذا الإسناد: سبعة: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّه بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقة حافظٌ فاضلٌ [10] 1/ 4. 2 - (عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطنافسيّ الكوفيّ المذكور قبل باب. 3 - (مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ) بن غَزْوَان الكوفيّ، صدوقٌ، رُمي بالتشيّع [9] 2/ 21. 4 - (لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْم) زُنيم الكوفيّ، متروك [6] 36/ 208. 5 - (يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ، أَبوُ هُبَيْرَةَ الأنصَارِيِّ) هو: يحيى بن عَبّاد بن شَيْبَان بن مالك الأنصاري السَّلَمِيُّ، أبو هُبيرة الكوفي، يقال: إنه ابن بنت البراء بن عازب، ويقال: ابن بنت خَبّاب بن الأَرَتّ، ثقة [4]. رَوَى عن أبيه، وجده أبي يحيى شيبان، وله صحبة، وأنس، وجابر، وأم الدرداء، وسعيد بن جبير، وأرسل عن خباب بن الأرتّ، وأبي هريرة. ورَوَى عنه سليمان التيمي، وحُريث بن أبي مَطَر، وليث بن أبي سُليم، ومجُالد بن سعيد، وعبد المجيد بن سهيل، وإسماعيل السُّدّيّ، ومسعر، وغيرهم. قال النسائي: ثقة. وقال يوسف بن سفيان: كوفي ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في ولاية يوسف بن عمرو على العراق. وقال ليث، عن مجاهد: أحب أهل الكوفة إليّ أربعة، فذكره فيهم.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، وله في "الصحيح" حديث عن أنس في النهي عن اتخاذ الخمر خَلًّا، وفي هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم 230 وحديث (476) "كان نومه ذلك، وهو جالس، يعني النبيّ -صلى الله عليه وسلم-"، وحديث (2777) "غزوة في البحر مثل عشر غزوات في البرّ. . . .". 6 - (أَبُوهُ) عباد بن شيبان الأنصاريّ السَّلَميّ -بفتح السين- والد أبي هبيرة يحيى ابن عبّاد، له ولأبيه صحبة، رَوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن زيد بن ثابت، ورَوَى عنه ابناه إبراهيم، وأبو هبيرة يحيى، روى له ابن ماجه حديثًا واحدًا من روايته عن زيد بن ثابت. هكذا قال في "تهذيب الكمال". وتعقّبه في "تهذيب التهذيب" بأن الذي رَوَى عنه إبراهيم هذا صحابي، له عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديث آخر، رُوي عنه من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن عباد، عن أبيه، عن جدّه، وهو سُلَمِيّ -بضم السين- من حُلفاء بني هاشم، وقد بينتُ ذلك في كتابي في "الصحابة". انتهى (¬1). قال الجامع -عفا الله عنه-: فتحصّل من هذا أن الصواب أن عباد بن شيبان والد إبراهيم صحابي آخر له قصّة في خِطبته من النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أُمامة بنت ربيعة، فأنكحه، أخرج حديثه ابن منده، وابن قانع، وابن السّكَن، راجع ترجمته في "الإصابة" 3/ 499 - 500. وأما عباد بن شيبان هذا، والد أبي هُبيرة، فقد تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. والله تعالى أعلم. 7 - (زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ) بن الضّحّاك الأنصاري النجّاريّ الصحابي الشهير -رضي الله عنه- 10/ 77. شرح الحديث: (عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ) -رضي الله عنه- أنه (قالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: نَضَّرَ الله) قال ابن الأثير ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" 2/ 276.

-رحمه الله-: نَضَرَه، ونَضَّرَه، وأنضره، أي نَعَّمه، ويُروى بالتخفيف، والتشديد، من النَّضَارة، وهي في الأصل: حُسنُ الوجه، والْبَرِيقُ، وإنما أراد حَسن خُلُقَه وَقَدرَهُ. انتهى (¬1). وقال التوربشتيّ: النضرة: الحسن، والرَّونق، يتعدى ولا يتعدّى، ورُوي مخففًا، ومثقّلًا. انتهى. وقال النوويّ: التشديد أكثر، وقال الأبهري: رَوى أبو عبيدة بالتخفيف، وقال: هو لازمٌ ومتعدّ، ورواه الأصمعيّ بالتشديد، وقال: المخفف لازم، والتشديد للتعدية، وعن الأول للتكثير والمبالغة. انتهى. والمعنى خصّه الله تعالى بالبهجة والسرور بعلمه، ومعرفته من القدر والمنزلة بين الناس في الدنيا، ونَعَّمه في الآخرة، حتى يُرى عليه رونق الرخاء والنعمة، ثم قيل: إنه إخبارٌ -يعني جعله ذا نَضْرَة، وقيل: دعاء له بالنضرة، وهي البهجة والبهاء في الوجه من أثر النعمة، وقيل: المراد هاهنا النضرة من حيث الجاهُ والقدرُ؛ لأنه جدّد بحفظه، ونقله طراوة الدين، فجازاه في دعائه بما يناسب عمله. قال القاريّ -رحمه الله-: لا مانع من الجميع، والإخبار أولى من الدعاء -والله أعلم-، قيل: وقد استجاب الله تعالى دعاءه، فلذلك تجد أهل الحديث أحسن الناس وجهًا، وأجملهم هيئةً، ورُوي عن سفيان بن عيينة -رحمه الله- أنه قال: ما من أحد يطلب الحديث إلا وفي وجهه نَضْرة لهذا الحديث، أي بهجة صوريّة، أو معنوية. انتهى (¬2). وقال القاضي أبو الطيّب الطبريّ -رحمه الله-: رأيت النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في المنام، فقلت: يا رسول الله أنت قلت: "نضر الله امرءًا"، وتلوتُ عليه الحديث جميعه، ووجهه يتهلّل، فقال لي: نعم أنا قلته (¬3). ¬

_ (¬1) "النهاية" 5/ 71. (¬2) "المرقاة" 1/ 484 - 485. (¬3) "شرح السندي" 1/ 151 - 152.

(امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي) أي حديثي (فَبَلَّغَهَا) بالتشديد، من التبليغ، أي أوصل المقالة المسموعة إلى الناس، وعلّمهم إياها (فَرُبَّ) قال الطيبيّ: "رُبّ" وُضعت للتقليل، فاستعيرت في الحديث للتكثير، انتهى، وقيل: هي فيه حقيقة أيضًا (حَامِلِ فِقْهٍ) أي عِلْم. قال السنديّ: هو بمنزلة التعليل لما يُفهم من الحديث أن التبليغ مطلوب، والمراد بحامل الفقه حافظ الأدلّة التي يُستنبط منها الفقه (غيرِ فَقِيهٍ) بالجرّ صفة لـ "حامل"، وقيل: بالرفع، فتقديره هو غيرُ فقيه، يعني أنه غير قادر على استنباط الفقه من تلك الأدلّة، لكن يحصل له الثواب بتبليغه؛ لنفعه بذلك (وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ) أي هو فقيه أيضًا، لكنه يحمل الفقه إلى أفقهَ منه، بأن كان الذي يسمع منه أفقه منه، وأقدر على الاستنباط، فيستنبط منه ما لا يفهمه الحامل، ففيه إشارة إلى فائدة النقل، والداعي إليه. وقال الطيبيّ: قوله: "إلى من هو أفقه منه" صفة لمدخول "ربّ" استُغني بها عن جوابها، أي رب حامل فقه أدّاه إلى من هو أفقه منه لا يفقه ما يفقهه المحمول إليه. انتهى (¬1). (زَادَ فِيهِ) أي في الحديث (عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطنافسيّ الشيخ الثاني للمصنّف في هذا السند، وقوله: (ثَلَاثٌ إلخ) جملة محكيّة؛ لقصد لفظها، مفعول به لـ"زاد"، قال السنديّ: قوله: "ثلاث" أي خصالٌ ثلاثٌ، أو ثلاثُ خصالٍ، فالنكرةُ مخصوصةٌ بالإضافة، أو التوصيف، فصحّ وقوعها مبتدأٌ عند الكلّ. انتهى. وقال القاضي البيضاويّ -رحمه الله تعالى-: قوله: "ثلاثٌ" استئناف تأكيد لما قبله، فإنه -صلى الله عليه وسلم- لمّا حَرّضَ على تعليم السنن ونشرها، قَفّاه بردّ ما عَسَى أن يعرِضَ مانعًا، وهو الغِلّ، من ثلاثة أوجه: [أحدها]: أن تعلّم الشرائع ونقلها ينبغي أن يكون خالصًا لوجه الله تعالى، مبرأً ¬

_ (¬1) "الكاشف" 2/ 683 - 684.

عن شوائب المطامع، والأغراض الدنيويّة، وما كان كذلك لا يتأثّر عن الحقد والحَسَد. [وثانيها]: أن أداء السنن إلى المسلمين نصيحةٌ لهم، وهي من وظائف الأنبياء -عليهم السلام-، فمن تعرّض لذلك، وقام به كان خليفةً لمن يبلَّغُ عنه، وكما لا يليق بالأنبياء -عليهم السلام- أن يُهملوا أعاديهم، ولا ينصحوهم، لا يَحْسُنُ من حامل الأخبار، وناقل السنن أن يَمنحها صديقه، ويمنعها عدوّه. [وثالثها]: أن التناقل، ونشر الأحاديث إنما يكون غالبًا بين الجماعات، فَحَثَّ على لزومها، ومَنَعَ عن التأبّي عنها؛ لحقد وضَغِينةٍ يكون بينه وبين حاضريها ببيان ما فيها من الفائدة العُظمَى، وهي إحاطة دعائهم من ورائهم، فيَحْرُسُهم عن مكائد الشيطان وتسويله. انتهى. قال الطيبيّ -رحمه الله تعالى-بعد نقله لكلام البيضاويّ المذكور-: وأقول: يمكن أن يقال -والله أعلم-: إن قوله: "ثلاث" استئناف، وهي المقالة التي استوصى في حقّها أن يبلغ عنه، والكلام السابق كالتوطئة، والتمهيد لها؛ اعتناءً بشأنها، والْعَضِّ عليها بالنواجذ، كأنّ قائلًا لمّا سَمِع تلك التوصية البليغة اتّجّهَ له أن يقول: ما تلك المقالة التي استوجبت ذلك الدعاء المرغِّب في أداء ما سمع؟. فأُجيب "هنّ ثلاثٌ"، وإنما استوجبت هذه التوصيةَ البليغةَ؛ لأنها جمعت بين التعظيم لأمر الله تعالى، فإن إخلاص العمل هي مقدّمة مطلوبة في كلّ أعمال صالحة، وبين الشفقة على خلق الله تعالى، من النصيحة لهم، إن كان فوقهم، ومن التبرّك بدعائهم، والانخراط في سلكهم، وأداء حقوقهم إن كان دونهم، ولعلّ رواية "يُغِلُّ" -بالضمّ من الإغلال يقال: غَلّ شيئًا من المغنم غُلُولًا، وأغلّ إغلالًا: إذا أخذه في خفية- أرجح؛ لأن الخيانة في إخلاص العمل هي رؤية الغير، قال الله تعالى: {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، وفي حقّ المسلمين ترك نصيحتهم، وإرادة الخير لهم، فإن النصيحة حقّ لهم عليه، فإذا تركها خانهم، وفي حقّ نفسه أن يَحرِمها من تركه دعاء المؤمنين، وإخراجه من زمرتهم، فيكون كالغنم القاصية عن القطيع،

متعرضًا لمكائد الشيطان، وتسويله. انتهى كلام الطيبيّ (¬1). قال الجامع -عفا الله تعالى عنه-: ما قاله الطيبيّ حسنٌ، إلا أن حمل البيضاويِّ على الإطلاق أحسن منه، ومما يؤيد ذلك أن هذه الجملة -أعني "ثلاث لا يغل إلخ" ليست مذكورةً إلا عند بعض الرواة، كما نبه عليه المصنف هنا، ولو كان المعنى على ما قاله الطيبي من الحمل على هذه الجملة، لما سقطت عن بعض الرواة، بل كان يلزم ذكرها في كل الروايات، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب. (لَا يُغِلُّ) بفتح الياء، وضمها، وكسر الغين على الصيغتين، فالأول من الغِلّ، وهو الحقد، والثاني من الإغلال: وهو الخيانة (عَلَيهِنَّ) أي على تلك الخصال (قلبُ امْرِئ مُسلِمٍ) وفي رواية "مؤمن"، أي كامل الإيمان، والمعنى: المؤمن لا يخون في هذه الأشياء الثلاثة، أو لا يدخله ضِغنٌ يُزيله عن الحقّ حين يفعل شيئًا من ذلك. قاله التوربشتي، وقال الزمخشريّ في "الفائق": إن هذه الخلال تستَصْلَح بها القلوب، فمن تمسك بها طهر قلبه من الدَّغَل، والفساد، و"عليهن" في موضع الحال، أي لا يغلّ قلب مسلم، حال كونه كائنًا عليهن، وإنما جاز مجيء الحال عن النكرة؛ لتقدّمه، كما قال في "الخلاصة": ولم يُنكَّر غَالِبًا ذو الحالِ إنْ ... لم يَتَأَخَّرْ أوْ يخصص أَوْ يَبِن مِن بَعد نَفي أَو مُضَاهيهِ كـ "لا ... يَبغ امْرُؤٌ عَلى امرِيءٍ مُسْتَسْهِلَا" وقيل: النفي بمعنى النهي، يعني أنه لا يتركها، بل يأتي بها، وقيل: أي ثلاثٌ لا يُغلّ قلبُ مسلم، حال كونه ثابتًا عليهنّ، يعني أن من تمسّك بهن طهر الله قلبه من الحقد، والخيانة. ويُروَى أيضًا "يَغِل" بفتح الياء، وكسر الغين، وتخفيف اللام، من الوُغُول، وهو الدخول في الشيء. ¬

_ (¬1) "الكاشف" 2/ 684 - 685.

وجوز بعضهم كونه بفتح الياء، وضمّ الغين، وتشديد اللام، من غَلّ من المغنم شيئًا غلولًا: إذا أخذه في خُفْية، فهو يرجع إلى الخيانة أيضًا. وقال التوربشتي -رحمه الله-: وجه المناسبة بين قوله: "نضر الله امرأً" وبين قوله: "ثلاثٌ لا يغلّ" هو أن نقول: إن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لمّا حَث مَن سَمِع مقالته على أدائها علمهم أن قلب المسلم لا يغل على هذه الأشياء؛ خشية أن يَضِنُّوا بها على ذوي الإِحَن، والحقْدِ؛ لما يقع بينهم من التحاسد والتباغض، وبَيَّنَ أن أداء مقالته إلى من يسمعها من باب إخلاص العمل لله تعالى، والنصيحة للمسلمين، ومن الحقوق الواجبة المتعلّقة بأحكامه لزوم جماعة المسلمين، فلا يحلّ له أن يتهاون به؛ لأنه يخلّ بالخلال الثلاث. انتهى (¬1). (إِخلاصُ العملِ لله) خبر لمحذوف، أي أحدها، أو مبتدأ حذف خبره، أي منها، أو بدل تفصيل من "ثلاث"، والإخلاص أن يَقصِد بالعمل وجهه، ورضاه فقط، دون غرضٍ آخر دنيويّ، وقال السنديّ: أي جعل العمل خالصًا لله تعالى، لا لغيره من محبّةٍ، أو عداوة (¬2). [تنبيه] وقع في شرح القاريّ قوله: "دون غرض آخر دنيويّ أو أخرويّ، كنعيم الجنة ولذاتها، أو لا يكون له غرض دنيوي من سمعة ورياء، والأول إخلاص الخاصّة، والثاني إخلاص العامة إلخ". وهذا من أخطر ما يرى في كلام المتصوّفة المتأخرين؛ لأنه مصادم لنصوص الكتاب والسنة، فإنها مملوءة بالترغيب في طلب نعيم الجنة، وثواب الآخرة، وإنما تحذّر من طلب الأغراض الدنيوية، فقط، قال الله -عز وجل-: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19]، وقال: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ} الآية [الأحزاب: 29]، وقال: {لِمَنْ ¬

_ (¬1) راجع "الكاشف" 2/ 684. (¬2) "شرح السنديّ" 1/ 152.

كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} الآية [الأحزاب: 21]، وقال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [الصف: 10 - 11]، وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] إلى غير ذلك من الآيات التي تحثّ على ابتغاء ثواب الآخرة بدخول الجنة، والنجاة من النار. وكذلك أحاديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم- طافحة بالحثّ على ذلك، ففي "الصحيحين من حديث أبي أيوب -رضي الله عنه- أن رجلا قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أخبرني بعمل يدخلني الجنة. . . ." الحديث، ولفظ مسلم: دُلني على عمل أعمله يدنيني من الجنة، ويباعدني من النار، قال: "تعبد الله، لا تشرك به شيئًا. . . ." الحديث. وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة الكثيرة. وبالجملة: إن هذه العبارة فشت في المتأخرين من المتصوفة، وأتباعهم، بل رأيتها في كلام النوويّ في "شرح أربعينه"، بل يقول بعضهم الإخلاص أن لا تعبده خوفًا من النار، ولا طمعًا في الجنة، وهذا منابذة للنصوص الصريحة، فينبغي لك أيها المسلم الحريص على دينه أن لا تتفوّه بهذا الكلام البذيّ الوقح، وعليك أن تُنزّه لسانك من مثله، من الألفاظ البشعة التي تنافي الكتاب والسنة، ألهمني الله وإياك الرشد والصواب، وجنينا من الزيغ والارتياب، إنه سميع قريب مجيب الدعوات، وقابل التوب والحسنات. (وَالنُّصْحُ) قال ابن الأثير -رحمه الله-: النصيحة: كلمة يُعبّر بها عن جملة، هي إرادة الخير للمنصوح له، وليس يُمكن أن يُعبّر هذا المعنى بكلمة واحدة تجمع معناه غيرِها، وأصل النصح في اللغة: الْخُلُوص، يقال: نَصَحته، ونصحتُ له، ومعنى نصية الله صحّةُ الاعتقاد في وحدانيته، وإخلاص النيّة في عبادته، والنصيحة لكتاب الله هو التصديق به، والعمل بما فيه، ونصيحة رسوله -صلى الله عليه وسلم- هو التصديق بنبوته ورسالته، والانقياد لما أَمَر

به، ونَهَى عنه، ونصحية الأئمة أن يُطيعهم في الحقّ، ولا يَرى الخروج عليهم إذا جاروا، ونصيحة عامّة المسلمين إرشادهم إلى مصالحهم. انتهى (¬1) (لِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ) أي طاعتهم في الحقّ، وعدم الخروج عليهم (وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ) أي موافقتهم في الاعتقاد، والعمل الصالح، من صلاة الجمعة، والجماعة، وغير ذلك. زاد في رواية أحمد والترمذيّ: "فإن دعوتهم تحيط من ورائهم". والمعنى أن دعوة المسلمين محيطةٌ بهم، فتحرسهم عن كيد الشياطين، وعن الضلالة، وفيه تنبيه على أن من خرج من جماعتهم لم يَنَل بركتهم، وبركة دعائهم؛ لأنه خارج عما أحاطت بهم من ورائهم، وفيه إيماء إلى تفضيل الْخُلْطة على العزلة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه- هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده ليث بن أبي سُليم، وهو متروك؟. [قلت]: إنما صحّ؛ لأنه جاء بسند صحيح، فقد أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله- في "مسنده" مطوّلًا، فقال: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا شعبة، حدثنا عمر بن سليمان، من ولد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، عن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان، عن أبيه، أن زيد بن ثابت، خرج من عند مروان نحوًا من نصف النهار، فقلنا: ما بَعَثَ إليه الساعةَ إلا لشيءٍ سأله عنه، فقمت إليه، فسألته، فقال: أَجَلْ سَأَلنا عن أشياء، سمعتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "نضر الله امرأً، سمع مِنّا حديثًا، فَحَفِظَهُ، حتى يبلغه غيره، فإنه رُبَّ حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث خصال: لا يغلّ ¬

_ (¬1) "النهاية" 5/ 62 - 63.

عليهن قلبُ مسلم أبدًا: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم"، وقال: "من كان همه الآخرةَ جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا، وهي راغمة، ومن كانت نيته الدنيا، فَرَّقَ الله عليه ضَيْعَته، وجَعَل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له"، وسألنا عن الصلاة الوسطى، وهي الظهر. والجزء الأخير منه (من كان همه الآخرةَ) سيأتي للمصنف في "كتاب الزهد" برقم (4105). وهذا إسناد صحيح، فيحيى هو القطان، وعمر بن سليمان بن عاصم بن عمر بن الخطاب متّفقٌ على ثقته، وعبد الرحمن بن أبان ثقة عابد قليل الرواية، وأبوه مجمع على ثقته. والحاصل أن الحديث صحيح، بهذا السند وله شواهد ستأتي بعده -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (40/ 230) بهذا السند فقط، ولم يُخرجه من حديث زيد ابن ثابت -رضي الله عنه- من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (20608) والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان فضل من بلّغ علمًا، وهو واضح. 2 - (ومنها): أن فيه الإخبار بأن رواة الأحاديث في وجوههم نضرة بسبب دعوة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لهم بذلك. 3 - (ومنها): أن الشرط في رواية الحديث كونه حافظًا له، لا كونه فقيهًا، عالمًا بمعناه. 4 - (ومنها): بيان تفاوت العلماء في الأفهام، فإنه ربما يكون الشيخ أقلّ علمًا وفهمًا

من تلميذه. 5 - (ومنها): بيان فائدة تبليغ الحديث، وذلك أن السامع ربما لا يستطيع أن يستنبط منه العلوم، فإذا بلغه من هو أفهم له منه استنبط منه فوائد كثيرة، تنتفع بها الأمة. (ومنها): الحثّ على هذه الأشياء المذكورة في الحديث، وأنه ينبغي للمسلم أن يتحلّى بها، فمنها: إخلاص العمل، وهو الركن الأساسيّ لقبوله، فإنه إذا لم يوجد كان العمل هباء منثورًا، ومنها: مناصحة ولاة الأمور، فإن فيه مصالح عظيمة؛ إذ يستلزم ذلك مناصحة كل الأمة؛ لكونهم القادة، فإذ لم ينصلح لهم فقد أساء إليهم وإلى الرعيّة جميعًا، ويؤخذ من هذا أن الرئيس الأعلى للأمة هو النبي -صلى الله عليه وسلم-، فنصيحته مطلوبة بالدرجة الأولى؛ إذ نصيحته تتضمن نصيحة أمته جميعًا، فمن نصيحته نشر سنته بين الأمة، والذبّ عنها، وقمع البدعة، ومقاطعة أهلها. 6 - (ومنها): أن فيه بيان فضل لزوم الجماعة؛ إذ فيه الانتظام في سلكهم، ونيل بركتهم؛ إذ دعواتهم تحيط بهم، فمن خرج عنهم خرج عن السُّورِ المحيط بهم، وصار عُرْضة للشيطان؛ لأنه ذئب الإنسان، فيحبّ المنفرد عن الجماعة، كما يحب الذئب الشاة القاصية من الغنم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه -رحمه الله- في أول الكتاب قال: 231 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْخَيْفِ مِنْ مِنًى، فَقَالَ: "نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَبَلَّغَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ". رجال هذا الإسناد: سبعة: 1 - (مُحَمَّد بْنُ عبدِ اللَّه بْنِ نُمَيرٍ) المذكور في السند الماضي. 2 - (أبوه) عبد الله بن نمير، أبو هشام الكوفي، ثقة ثبت، من كبار [9] 8/ 52.

3 - (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ) بن يسار المطّلبيّ مولاهم، أبو بكر المدنيّ، ثم البغداديّ، إمام المغازي، صدوق يدلّس، ورمي بالتشيّع والقدر، من صغار [5] 4/ 35. 4 - (عَبْدُ السَّلَامِ) بن أبي الجَنُوب -بفتح الجيم، وتخفيف النون المضمومة، آخره موحّدة- المدنيّ، ضعيف [8]. رَوَى عن الحسن البصري، والزهري، وعمرو بن عُبيد. ورَوَى عنه ابن إسحاق، وأبو معشر، والدَّراوردي، وأبو حمزة، وعيسى بن يونس، وغيرهم. قال ابن المديني: منكر الحديث. وقال أبو زرعة: ضعيف. وقال أبو حاتم: شيخ متروك. وقال ابن أبي حاتم: لم يقرأ علينا أبو زرعة حديثه. وقال أبو بكر البزار: لين الحديث. وقال ابن حبان: يروي عن الثقات ما لا يُشبه حديث الأثبات، ثم غَفَل فذكره في "الثقات"، ولم ينسبه، وقال: عبد السلام يَروي عن الزهري، وعنه ابن إسحاق، وهو هذا بلا ريب. وقال الدارقطني: منكر الحديث. تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم 231 و 2684 و 3056. 5 - (الزُهْرِيُّ) محمد بن مسلم الإمام الحجة المشهور [4] 2/ 15. 6 - (مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ) النوفليّ، أبو سعيد المدنيّ، ثقة عارف بالنسب [3]. رَوَى عن أبيه، وعمر، وابن عباس، ومعاوية، وعبد الله بن عَدي بن الحمراء. ورَوَى عنه أولاده: عمر، وجَبْر، وسعيد، وإبراهيم، وسعد بن إبراهيم، والزهري، وعمرو بن دينار، وغيرهم. ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من تابعي أهل المدينة. وقال قال محمد بن عمر: تُوُفي في خلافة سليمان بن عبد الملك، وكان ثقة، قليل الحديث. وقال العجلي: مدني تابعي ثقة. وقال ابن خِرَاش: ثقة. وقال البخاري: نسبه لي ابنُ أبي أويس، عن ابن إسحاق، قال: وكان أعلم قريش بأحاديثها، وقد كان أبوه من أنسب قريش لقريش،

وللعرب قاطبةً. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال خليفة بن خياط وغيره: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وذكر ابن سعد أنّ أبا مالك الحِمْيري قال: رأيت نافع بن جبير يوم مات أخوه قد أَلْقَى رداءه وهو يمشي، وهذا يدل على أن محمدًا لم يبق إلى خلافة عمر بن عبد العزيز، فإن نافعًا بقي بعده، ولم يدركها. ولا يصح سماعه من عمر بن الخطاب، فإن الدارقطني نَصَّ على أن حديثه عن عثمان مرسل. وقال له عبد الملك بن مروان: إني لأعرفك بالصدق. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم 231 و 832 و 3056. 7 - (أبوهُ) جبير بن مطعِم بن عديّ بن نوفل بن عبد مناف القرشيّ النوفليّ الصحابيّ، قَدِمَ على النبي -صلى الله عليه وسلم- في فداء أُسارى بدر، ثم أسلم بعد ذلك عام خيبر، وقيل: يوم الفتح، رَوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعنه سليمان بن صُرَد، وأبو سِرْوَعَة، وابناه محمد ونافع ابنا جبير، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن باباه، وغيرهم. قال الزبير: كان يؤخذ عنه النسب، وكان أخذ النسب عن أبي بكر، وسَلَّحَ عمرُ ابن الخطاب جُبيرًا سيفَ النعمان بن المنذر. وقال ابن الْبَرْقيّ وخليفة: تُوفي سنة (59) بالمدينة، وقال المدائني سنة (58). وحَكَى ابنُ عبد البر أنه أوّلُ من لَبِسَ الطيلسان بالمدينة. وقال العسكري: كان جبير بن معطم أحدَ من يُتحاكم إليه، وقد تَحاكم إليه عثمان وطلحة في قضية، ومات سنة (56). أخرج له الجماعة، وله من الأحاديث (60) حديثًا، اتفق الشيخان على ستة، وانفرد البخاريّ بحديث واحد، ومسلم بحديث آخر، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث برقم 231 و 575 و 807 و 832 و 1254 و 2881 و 3056. وقوله: "بالخيف من منى" "الْخيف" بفتح الخاء المعجمة، وسكون الياء التحتانيّة:

الموضع المرتفع عن مجرى السيل المنحدر عن غِلظِ الجبل، ومسجدُ منًى يُسمّى مسجد الخيف؛ لأنه في سفح جبلها (¬1)، وتمام شرح الحديث، وفوائده تقدّمت قريبًا. قال الجامع -عفا الله عنه-: هذا الإسناد ضعيف؛ لضعف عبد السلام بن أبي الجنوب، ولكن الحديث صحيح بالسند التالي، وصحّ أيضًا فيما سبق من حديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه-. أخرجه (المصنّف) هنا (40/ 231) بهذا السند، والسند التالي، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (4/ 80 و 82) و (الدارمي) في "سننه" (233) و (الطبرانيّ) (1541) و (الحاكم) في "المستدرك" (1/ 87) و (الطحاوي) في (1601) و (ابن عبد البر) في "جامع العلم" (1/ 41) و (الخطيب) في "شرف أصحاب الحديث" (25)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه -رحمه الله- في أول الكتاب قال: 231 - (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا خَالِي يَعْلَى (ح) وَحَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِنَحْوِهِ. رجال هذا الإسناد هم المذكورون في السند الماضي، غير: 1 - (عليّ بن محمد) الطنافسيّ المذكور قبل حديث. 2 - (هشام بن عمّار) المذكور في الباب الماضي. 3 - (خاله يعلى) بن عبيد بن أبي أمية الطنافسيّ، أبو يوسف الكوفيّ، ثقة إلا في حديثه عن الثوري، ففيه لين، من كبار [9] 10/ 89. 4 - (سعيد بن يحيى) بن صالح اللَّخْمي، أبو يحيى الكوفيّ، نزيل دِمَشق، لقبه سَعْدان، صدوق وَسَط [9]. ¬

_ (¬1) "النهاية" 2/ 93.

روى عن أبيه، وإسماعيل بن أبي خالد، وهشام بن عروة، والأعمش، وموسى ابن عُبيدة الرَّبَذيّ، وإسرائيل، وزكرياء بن أبي زائدة، وجعفر بن بُرْقان، وغيرهم. ورَوَى عنه أبو النضر الفراديسي، وسليمان بن عبد الرحمن، وعلي بن حجر، وهشام بن عمار، وغيرهم. وقال عثمان الدارمي عن دُحيم: ما هو عندي ممن يُتَّهَم بالكذب. وقال أبو حاتم: محله الصدق. وقال ابن حبان: ثقة مأمون مستقيم الأمر في الحديث. وقال الدارقطني: ليس بذاك. أخرج له البخاريّ حديثًا واحدًا في غزوة الفتح، والنسائيّ، المصنّف، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم 231 و 1747 و 2597 و 3904. قال الجامع -عفا الله عنه-: قد سبق شرح الحديث، وهذا الإسناد صحيح، رجاله رجال الصحيح، غير شيخه عليّ، وهو ثقة، وبه يصح الحديث الماضي. وقوله: "بنحوه" أي بنحو الحديث الماضي، والفرق بين قولهم: "بنحوه"، وقولهم: "بمثله" أن "نحوه" يكون بالمعنى، بخلاف "مثله" فإنه يكون باللفظ، وقد سبق تمام البحث في ذلك. وأخرج الإمام أحمد في "مسنده" لفظ حديث يعلى، فقال: حدثنا يعلى بن عبيد، قال: حدثنا محمد -يعني ابن إسحاق- عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالخيف من مِنَى، فقال: "نضر الله امرأ سمع مقالتي، فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها، فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغلّ عليهم قلب المؤمن: إخلاص العمل، والنصيحة لولي الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تكون من ورائهم"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلي الإمام ابن ماجه -رحمه الله- في أول الكتاب قال: 232 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، أنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَحْفَظُ مِنْ سَامِعٍ"). رجال هذا الإسناد: سبعة: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بندار البصريّ، ثقة حافظ تقدّم قبل باب. 2 - (مُحَمدُ بْنُ الْوَليدِ) بن عبد الحميد القرشيّ الْبُسريّ -بضمّ الموحّدة، وسكون المهملة- من ولد بُسْر من أرطاة العامريّ، يُلَقّب حَمْدان، البصريّ، قَدِمَ بغداد، يُكنى أبا عبد الله، ثقة [10]. رَوَى عن مروان بن معاوية، وغندر، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى، وعبد الوهاب الثقفي، وابن مهدي، والقطان، ووكيع، وأبي زُكَير المدني، وغيرهم. ورَوى عنه البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، وابن أبي عاصم، وزكرياء الساجي، وابن خزيمة، وغيرهم. قال ابن أبي حاتم: سَمِع منه أبي بالبصرة في الرحلة الثالثة، وسئل عنه، فقال: صدوق. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". قيل: إنه مات بعد سنة خمسين ومائتين. وفي "الزهرة": روى عنه البخاريّ سبعة أحاديث، ومسلم خمسة أحاديث. وله في هذا الكتاب (11) حديثًا. 3 - (مُحَمدُ بْنُ جَعْفَر) غندر، أبو عبد الله البصريّ، ثقة، صحيح الكتاب [9] 1/ 6. 4 - (شُعْبةُ) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت المشهور [7] 1/ 6. 5 - (سِمَاكٌ) بن حرب، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوق وروايته عن عكرمة خاصّةً مضطربةٌ، وتغير بآخره، وربما تلقّن [4] 4/ 30.

6 - (عَبْدُ الرحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّه) بن مسعود الْهُذليّ الكوفيّ، ثقة، وقد سمع من أبيه شيئًا يسيرًا، من صغار [2] 4/ 30. 7 - (أبوهُ) عبد الله بن مسعود الصحابيّ الشهير -رضي الله عنه- 2/ 19. وقوله: "سمع منا حديثًا" أي سمع بلا واسطة، أو بواسطة، وهو معنى قوله: "سمع مقالتي"، ولا يتقيّد بالسماع من فيه -صلى الله عليه وسلم-، وعلى هذا العلماء، قاله السنديّ (¬1). ووقع في رواية: "سمع منا شيئًا"، فقال الطيبيّ: يعم الأقوال، والأفعال الصادرة من النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم-، يدلّ عليه صيغة الجمع في "مِنّا". وتُعُقّب قوله: "يعم الأقوال والأفعال" بأنه غفلة عن كونه معمولا لـ"سمع" الذي لا يكون إلا في القول. وأجاب القاري بأنه لما قيل بعموم "منّا" وقد يسمع من الصحابي أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يفعل كذا صحّ أن يتعلّق السمع بالفعل بهذا المعنى، وهو وجيه (¬2). وقوله: أحفظ من "سامع"، أي أفطن، وأفهم، أو أكثر مراعاةً لمعناه، وعملًا بمقتضاه، وليس المراد الحفظ اللسانيّ. وتمام شرح الحديث، وفوائده تقدمت قريبا. قال الجامع -عفا الله عنه-: هذا الإسناد ذكروا له علّتين: [إحداهما]: الكلام في سماك بن حرب، كما سبق قريبًا. [وثانيهما]: عبد الرحمن لم يسمع من أبيه إلا يسيرًا، وهذا ليس منه، ففيه انقطاع. [وأجيب]: بأن الحديث له طرق، فقد أخرجه أبو نعيم في "تاريخ أصبهان" 2/ 90 من طريق محمد بن طلحة بن مصرّف الياميّ، عن زبيد الياميّ، عن مرّة بن شَراحيل، عن ابن مسعود -رضي الله عنه-، وهذا إسناد صحيح، رجاله رجال الشيخين. وأخرجه ابن عبد البرّ في "جامع بيان العلم" 1/ 181 رقم (190) من طريق ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 153. (¬2) راجع "المرقاة" 1/ 487 - 488.

عُبيدة بن الأسود، عن القاسم بن الوليد، عن الحارث الْعُكليّ، عن إبراهيم النخعيّ، عن الأسود، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، وهذا إسناد حسن، وله طرق أخرى. والحاصل أن الحديث صحيح، بهذه الطرق، فلا يضرّه سند المصنّف، وأيضًا تشهد له أحاديث الباب، فتنبّه (¬1). والحديث أخرجه (المصنّف) هنا (40/ 232) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (الشافعيّ) في "مسنده" (1/ 14) و (الحميدي) في "مسنده" (88) و (أحمد) في "مسنده" 1/ 436 و (الترمذيّ) (2657 و 2658) و (ابن حبان) في "صحيحه" (66 و 68 و 69) و (الحاكم) في "معرفة العلوم" (322) و (أبو نعيم) في "الحلية" 7/ 331 و (البيهقي) في "دلائل النبوة" (1/ 23 و 6/ 540) وفي "المعرفة" (1/ 15) و (الخطيب) في "الكفاية" (29 و 173) و (ابن عبد البرّ) في "جامع بيان العلم" (1/ 45) و (البغويّ) في "شرح السنة" (112). وأخرجه (الخطيب) في "شرف أصحاب الحديث" (26) و (ابن عبد البر) في "جامع بيان العلم" (45 و 46) من طريق الأسود، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-. وأخرجه (أبو نعيم) في "أخبار أصفهان" (2/ 90) من طريق مُرّة بن شَراحيل، عن ابن مسعود -رضي الله عنه-، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه -رحمه الله- في أول الكتاب قال: 233 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، أَمْلَاهُ عَلَيْنَا، حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ رَجُلٍ آخَرَ، هُوَ أَفْضَلُ في نَفْسِي مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَالَ: "لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَإِنَّهُ رُبَّ مُبَلَّغٍ يَبْلُغُهُ أَوْعَى لَهُ مِنْ سَامِعٍ"). ¬

_ (¬1) راجع ما كتبه محقق "جامع بيان العلم" 1/ 178 - 181.

رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) المذكور في السند الماضي. 2 - (يَحْيى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ) أبو سعيد البصريّ الإمام الحجة الثبت [9] 2/ 19. 3 - (قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ) السدوسيّ، أبو خالد، ويقال: أبو محمد البصريّ، ثقة ضابطٌ [6]. رَوَى عن أبي رجاء العطاردي، وحميد بن هلال، ومحمد بن سيرين، والحسن، وعمرو بن دينار، وعبد الملك بن عُمير، وغيرهم ورَوَى عنه شعبة، وهو من أقرانه، ويحيى بن سعيد القطان، وابن مهدي، وخالد ابن الحارث، وأبو داود الطيالسي، وأبو عامر العقدي، وغيرهم. قال صالح بن أحمد عن علي بن المديني، عن يحيى بن سعيد: كان قُرّة عندنا من أثبت شيوخنا. وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن قرة وعمران بن حُدير؟، فقال: ما فيهما إلا ثقة، قال: وسئل أبي عن قرة وأبي خَلْدة؟، فقال. قرّة فوقه، وهو دون حبيب ابن الشهيد، قيل له: قرة والقاسم بن الفضل؟، قال: ما أقربه منه، وقال مرة: ثقة. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وقال ابن أبي حاتم: قرة أحب إليّ من جرير بن حازم، ومن أبي خَلْدة، وقره ثبت عندي. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو مسعود الرازي: قرة أثبت عندك أو حسين المعلم؟ فقال: قرة. وقال الآجري. ذَكَر أبو داود قرة، فَرَفَع من شأنه، وقال أيضًا: سألت أبا داود عنه، وعن الصَّعْق بن حَزْن؟، فقال: قُرّة فوقه. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". قال أبو نعيم: مات سنة نيف وسبعين ومائة، وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة أربع وخمسين ومائة، وكان متقنًا، وكذا أَرّخه خليفة في "تاريخه"، وقال في "الطبقات": مات سنة خمس وخمسين. وقال ابن سعد: كان ثقة. وقال الطحاوي: ثبت متقن ضابط. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (233) وحديث

(4188) "إن فيك خصلتين. . . .". 4 - (مُحَمَّدُ بْنُ سِيرينَ) أبو بكر الأنصاريّ البصريّ، ثقة ثبت فقيه عابد [3] 3/ 24. 5 - (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ) نُفيع بن الحارث الثقفيّ، أبو بَحْر، ويقال: أبو حاتم البصريّ، وهو أول مولود، وُلِد في الإسلام بالبصرة، ثقة [2]. رَوَى عن أبيه، وعلي، وعبد الله بن عمرو بن الأسود بن سَرِيع، والأشجّ الْعَصَري. ورَوَى عنه ابن أخيه ثابت بن عبيد الله بن أبي بكرة، وابن ابنه بحر بن مَرّار بن عبد الرحمن، وخالد الحذاء، ومحمد بن سيرين، وعلي بن زيد، وقتادة، وجماعة. ذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سعد: هو أول مولود وُلد بالبصرة، فَأَطعَم أبوه أهلَ البصرة جَزُورًا، فكفتهم، وكان ثقةً، وله أحاديث ورواية. وقال ابن خلفون في "الثقات": يقال: وُلد سنة (14) ومات سنة (96) وكذا أَرَّخ وفاته إسحاق القَرّاب. وقال خليفة: تُوُفّي بعد الثمانين. وقال العجلي: بصري تابعي ثقة. وقال البلاذريّ: حدثني أبو الحسن البلاذري، حدثني أبو الحسن المدائني، قال: كان عبد الرحمن بن أبي بكرة فَرّاسًا، وشارف التسعين، ووقع في بعض النسخ من "مختصر السنن" للمنذري بتقديم السين على الباء، وهو خطأ، وقال أبو هلال: كان زياد وَلَّى عبدَ الرحمن بيوتَ الأموال، وَوَلَّى عبدَ الله سجستان، وقال أبو اليقظان: ولاه عَلِيّ بيت المال ثم ولاه ذاك زياد. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط برقم 233 و 556 و 1659 و 2316 و 3744. 6 - (أبوه) نفيع بن الحارث بن كَلَدة بن عمرو بن عِلاج بن أبي سلمة، واسمه عبد الْعُزّى بن غِيَرَة بن عوف بن قيس، وهو ثقيف، أبو بكرة الثقفي، وقيل: اسمه مَسْرُوح، وقيل: كان أبوه عبدًا للحارث بن كَلدَة، يقال له: مسروح فاستلحق الحارث

أبا بكرة، وهو أخو زياد ابن سُمَيّة لأمه، وكانت سُمَيّة أَمَةً للحارث بن كَلَدة، وإنما قيل له: أبو بكرة؛ لأنه تَدَلَّى من حصن الطائف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأعتقه يومئذ، روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعنه أولاده: عبيد الله، وعبد الرحمن، وعبد العزيز، ومسلم، وأبو عثمان النَّهْديّ، ورِبْعِيّ بن حِرَاش، وحميد بن عبد الرحمن الحميري، وغيرهم. وقال العجلي: كان من خيار الصحابة. وقال محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: جَلَدَ عمرُ بن الخطاب أبا بكرة، ونافع بن الحارث، وشِبْلَ بنَ مَعْبَد، ثم استتاب نافعًا، وشبلًا، فتابا فقبل شهادتهما، واستتاب أبا بكرة فأبى، وأقام، فلم يقبل شهادته، وكان أفضل القوم. وقال يعقوب بن سفيان: نفيع ونافع وزياد، وهم إخوة لأم، أمهم سُمَيّة. وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: ثنا هَوْذَة بن خليفة، ثنا هشام بن حسان، عن الحسن، قال: مَرّ بي أنس بن مالك، وقد بعثه زياد إلى أبي بكرة يعاتبه، فانطلقت معه، فدخلنا على الشيخ، وهو مريض، فأبلغه عنه، فقال: إنه يقول: ألم أستعمل عبيد الله على فارس، ورَوادًا على دار الرزق، وعبد الرحمن على الديوان؟ فقال أبو بكرة: هل زاد على أن أدخلهم النار، فقال له أنس: إني لا أعلمه إلا مجتهدًا، فقال الشيخ: أقعدوني، إني لا أعلمه إلا مجتهدًا، وأهل حروراء قد اجتهدوا، فأصابوا أم أخطئوا؟ قال أنس: فرجعنا مخصومين. قال ابن سعد: مات بالبصرة في ولاية زياد. وقال المدائني: مات سنة خمسين. وقال البخاري: قال مسدد: مات أبو بكرة، والحسن بن علي في سنة واحدة. قال: وقال غيره: مات بعد الحسن سنة إحدى وخمسين. وقال خليفة: مات سنة ثنتين وخمسين، وصَلّى عليه أبو بَرْزة الأسلمي، زاد غيره: وكان أوصى بذلك. وقال أبو نعيم: آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهما. أخرج له الجماعة، وروى من الأحاديث (232) حديثًا، اتفق الشيخان على ثمانية، وانفرد البخاريّ بخمسة، ومسلم بحديث، وله عند المصنّف في هذا الكتاب (13) حديثًا، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سُداسيّات المصنف. 2 - (ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الصحيح. 3 - (ومنها): أن شيخه أحد المشايخ التسعة الذين اتفق الجماعة بالرواية عنهم بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة. 4 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين. 3 - (ومنها): أن فيه رواية الراوي عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ. 6 - (ومنها): أن فيه من لُقّب بصورة الكنية، وهو أبو بكرة -رضي الله عنه-، فإنه لقبٌ، كما سبق آنفا، وكنيته أبو عبد الرحمن. 7 - (ومنها): أن قُرّة، وعبد الرحمن بن أبي بكرة، وأباه هذا أول محلّ ذكرهم في هذا الكتاب، وقد ذكرت آنفًا ما لكلّ واحد من الأحاديث في هذا الكتاب. 8 - (ومنها): أن عبد الرحمن أول مولود في الإسلام بالبصرة، كما سبق آنفًا. 9 - (ومنها): أن فيه قوله: "وعن رجل آخر إلخ"، وسنتكلم عليه قريبا -إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ) -رضي الله عنه- (وَعَنْ رَجُلٍ آخَرَ، هُوَ أَفْضَلُ في نَفْسِي مِن عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هذا القول لمحمد بن سيرين -رحمه الله-، والرجل الآخر هو حُميد بن عبد الرحمن الحِمْيَريّ البصريّ، جاء مفسّرًا في رواية أبي عامر العقديّ، عن قُرّة، ولفظ الإمام أحمد في "مسنده": قال: حدثنا أبو عامر، حدثنا قرة بن خالد، عن محمد بن سيرين، قال: حدثني عبد الرحمن ابن أبي بكرة، عن أبيه، ورجلٌ في نفسي أفضل من عبد الرحمن، حميدُ بنُ عبد الرحمن، عن أبي بكرة، قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. . . ." الحديث. وكان ابن سيرين يثني على حميد هذا، فقد ذكر العجليّ قال: كان ابن سيرين

يقول: هو أفقه أهل البصرة، وقال حجاج بن محمد، عن شعبة، عن منصور بن زاذان، عن ابن سيرين: كان حُميد بن عبد الرحمن أفقه أهل البصرة قبل أن يموت بعشر سنين. (¬1). (عَنْ أَبي بَكْرَةَ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: خَطَبَ رَسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ النَّحْرِ) هذا الحديث أورده المصنّف -رحمه الله- هنا مختصرًا، وهو حديث طويلٌ، ساقه الشيخان في "صحيحيهما" مطوّلا، قال البخاريّ -رحمه الله-: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، حدثنا قرة بن خالد، حدثنا ابن سيرين، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبي بكرة، وعن رجل آخر، هو أفضل في نفسي من عبد الرحمن ابن أبي بكرة، عن أبي بكرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطب الناس، فقال: "ألا تدرون أيُّ يوم هذا؟ "، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: "أليس بيوم النحر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: "أي بلد هذا؟، أليست بالبلدة الحرام؟ " قلنا: بلى يا رسول الله، قال: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ " قلنا: نعم، قال: "اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فإنه رب مُبَلغ يُبَلِّغُه لمن هو أوعى له"، فكان كذلك، قال: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض"، فلما كان يوم حَرْق ابن الحضرميّ حين حَرَّقه جارية بن قدَامة، قال: أشرفوا على أبي بكرة، فقالوا: هذا أبو بكرة يراك، قال عبد الرحمن: فحدثتني أمي عن أبي بكرة، أنه قال: لو دخلوا عليّ ما بهشت بقصبة (¬2). (فَقَالَ) (لِيُبَلِّغِ) بسكون الغين؛ لأنه أمرٌ، ولكنه لمّا وُصل بما بعده حُرّك بالكسرة؛ لالتقاء الساكنين، لأن الأصل في التخلّص من التقاء الساكنين أن يُحرّك بالكسرة، وهو أمر من التبليغ، كما هو المشهور، ويحتمل أن يكون من الإبلاغ (الشَّاهِدُ) بالرفع على ¬

_ (¬1) راجع "تهذيب الكمال" 7/ 382 - 383. (¬2) أي ما تحرّكتُ مسرعًا لأدفع عن نفسي.

الفاعلية لـ"يبلغ"، وهو اسم فاعل من شَهِدَ: إذا حضر، أي الحاضر في المجلس (الْغَائِبَ) بالنصب على أنه المفعول الأول، والمفعول الثاني محذوفٌ، أي العلم، والمعنى ليبلِّغ الحاضر مجلس إسماع العلم العلم الذي حضر سماعه الذي غاب عن المجلس؛ حتى يعمّ البلاغ الكلَّ، كما هو مقتضى عموم الرسالة إلى الكلّ. وهل المراد تبليغ القول المذكور، أو تبليغ جميع الأحكام، فيه احتمالان، والأظهر الثاني (فَإِنَّهُ) الفاء للتعليل، والضمير للشأن، أي لأن الأمر والشأن (رُبَّ مُبَلَّغٍ) بفتح اللام وحذف صلته، أي إليه، و"ربّ" للتقليل، وترد للتكثير، وهو الكثير في استعمالها، وهي حرف خلافًا للكوفيين في دعوى أسميّتها (يَبْلُغُهُ) بالبناء للمفعول من أحد البناءين، ونائب الفاعل ضمير "مُبلغ"، والضمير المنصوب للعلم (أوْعَى) أي أحفظ، وأضبط، وأفهم، وأتقن. [فإن قلت]: كيف إعراب هذا الكلام؟. [قلت]: هو على مذهب الكوفيين أن "ربّ مبلغ" كلام إضافيّ مبتدأ، وقوله: "أوعى إلخ" خبره، والمعنى: رب مبلغ إليه عنّي أفهم وأضبط لما أقول من سامع مني، ولا بد من هذا القيد؛ لأن المقصود ذلك، وقد صرّح بذلك ابن منده في روايته من طريق هَوْذَة، عن ابن عون، عن ابن سيرين، ولفظه: "فإنه عسى أن يكون بعض من لم يشهد أوعى لما أقول من بعض من شهِد"، وأما على مذهب البصريين، فإن قوله: مبلغ وإن كان مجرورًا بـ "ربّ" إلا أنه مرفوع بالابتداء محلا، وقوله: "أوعى" صفة له، والخبر محذوف، تقديره: يكون، أو يوجد، أو نحو ذلك. وقال النحاة في نحو "ربّ رجل صالحٍ عندي" محلّ مجرور "ربّ" رفع بالابتداء، وفي نحو "ربّ رجل صالح لقيتُ" نصبٌ على المفعولية، وفي نحو "ربّ رجل صالح لقيته" رفع، أو نصب على الاشتغال، كما في قولك: "هذا لقيته" (¬1). والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) راجع "عمدة القاري" 2/ 35.

(لَهُ) أي للحديث (مِنْ سَامِعٍ) أي ممن سمعه أوّلًا، ثم بلغه ثانيًا، وهو صلة لأفعل التفضيل، وجاز الفصل بينهما؛ لأن في الظرف سعةً، وليس الفاصل أيضًا أجنبيّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي بكرة -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (40/ 233) بهذا السند فقط، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (5/ 37 و 39 و 40 و 44 و 45 و 49) و (الدارميّ) في "سننه" (1922) و (البخاريّ) (1/ 26 و 37 و 2/ 216 و 4/ 130 و 5/ 244 و 6/ 83 و 9/ 163) وفي "خلق أفعال العباد" (51) و (مسلم) (5/ 107 و 108 و 109) و (أبو داود) (1947 و 1948) و (الترمذي) (1520) و (النسائي) (7/ 127 و 220) و (ابن خزيمة) في "صحيحه" (2952) و (ابن حبان) في "صحيحه" (3848) و (البيهقيّ) في "الكبرى" (3/ 298 و 5/ 140 و 165 و 166) و (البغوي) في "شرح السنة" (165)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان فضل من بلّغ علمًا، ووجه ذلك أنه -صلى الله عليه وسلم- لمّا أمر بتبليغ العلم، وحثّ عليه عُلم أنه من أفضل الأعمال؛ لأنه لا يأمر أمته إلا بما فيه الخير والصلاح. 2 - (ومنها): أن العالم يجب عليه تبليغ علمه لمن لم يبلغه، وتبيينه لمن لا يفهمه، وهذا هو الميثاق الذي أخذه الله على العلماء بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} الآية [آل عمران: 187]. 3 - (ومنها): أن فيه بيان أنه يأتي في آخر الزمان من يكون له من الفهم في العلم

ما ليس لمن تقدّمه، لكنه يكون قليلًا؛ لأن "ربّ" موضوعة للتقليل. 4 - (ومنها): أن حامل الحديث يجوز أن يؤخذ عنه، وإن كان جاهلًا بمعناه؛ إذ الشرط حفظ لفظه، لا فهم معناه. 5 - (ومنها): أن من كان حافظًا للعلم، غير عالم بمعناه محسوب في زمرة أهل العلم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه -رحمه الله- في أول الكتاب قال: 234 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَنْبَأَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَلَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ"). رجال هذا الإسناد: سبعة: 1 - (أبو بَكر بنُ أَبي شَيْبةَ) المذكور قريبًا. 2 - (إِسْحَاق بْنُ مَنْصُورٍ) الْكَوْسَج، أبو يعقوب المروزيّ، ثقة ثبت [11] 34/ 173. 3 - (أبو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة الكوفيّ، ثقة ثبت ربما دلّس، من كبار [9] 12/ 102. 4 - (النَّضْرُ بنُ شُمَيْلٍ) المازنيّ، أبو الحسن النحويّ البصريّ، نزيل مروَ، وشُميل هو ابن خَرَشة بن زيد بن كُلثوم بن عَنَزة بن زُهير بن عَمْرو بن حجر بن خزاعي بن مازن بن عمرو بن تميم، وقيل في نسبه غير ذلك، ثقة ثبت، من كبار [9]. رَوَى عن حميد الطويل، وابن عون، وهشام بن عروة، وهشام بن حسان، ويونس بن أبي إسحاق، وابن جريج، وبهز بن حكيم، وإسرائيل، وشعبة، وغيرهم. ورَوَى عنه يحيى بن يحيى النيسابوري، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، ومحمود بن غيلان، وأحمد بن سعيد الدارمي، وإسحاق بن منصور الكوسج، وبيان بن عمرو البخاري، وأبو قدامة السرخسي، وغيرهم.

قال أبو حاتم عن ابن المديني: من الثقات، وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقهّ، وكذا قال النسائي. وقال أبو حاتم: ثقة، صاحب سنة. وقال حمدويه بن محمد: سمعت محمد بن خاقان يقول: سئل ابن المبارك عن النضر بن شميل، فقال: دُرّة بين مَرْوين ضائعة. وقال العباس بن مصعب المروزي: بلغني أن ابن المبارك سئل عن النضر بن شميل، فقال: ذاك أحد الآخذين، لم يكن أحد من أصحاب الخليل يدانيه. وقال العباس: كان النضر إمامًا في العربية والحديث، وهو أول من أظهر السنة بمروَ وجميع خُرَاسان، وكان أروى الناس عن شعبة، وأخرج كُتُبًا كثيرة لم يسبقه إليها أحد، وكان وَلي قضاء مرو. وقال أحمد بن سعيد الدارمي عنه: خرج بي أبي من مَرو الرُّوذ إلى البصرة سنة ثمان وعشرين ومائة، وأنا ابن خمس أو ست سنين. وقال: مات في أول سنة أربع ومائتين. وقال محمد بن عبد الله بن قُهزاد: مات في آخر يوم من ذي الحجة سنة ثلاث، وفيها أَرَّخه الترمذي. وقال البخاري: مات سنة ثلاث أو نحوها. وقال ابن منجويه: كان من فصحاء الناس، وعلمائهم بالأدب، وأيام الناس. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (10) أحاديث. 3 - (بهزُ بْنُ حَكِيم) بن معاوية القُشيريّ، أبو عبد الملك البصريّ، صدوقٌ [6]. روَى عن أبيه، عن جده، وعن زُرارة بن أوفى، وهشام بن عروة، إن كان محفوظا. ورَوَى عنه سليمان التيمي، وابن عون، وجرير بن حازم، وغيرهم من أقرانه، والحمادان، ومعمر بن راشد، ومعاذ بن معاذ، وأبو أسامة، وابن علية، وغيرهم. قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: ثقة. وقال أيضًا: إسناد صحيح، إذا كان دون بهز ثقة. وقال ابن البراء عن ابن المديني: ثقة. وقال أبو زرعة: صالح، ولكنه ليس بالمشهور. وقال أبو حاتم: هو شيخ يُكتب حديثه، ولا يحتج به، وقال أيضًا: عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، أحب إلي. وقال النسائي: ثقة. وقال صالح جزرة: إسناد أعرابي. وقال الحاكم: كان من

الثقات، ممن يُجمع حديثه، وإنما أُسقط من الصحيح روايته عن أبيه عن جده؛ لأنها شاذّة، لا متابع له عليها. وقال ابن عدي: قد رَوَى عنه ثقات الناس، وقد روى عنه الزهري، وأرجو أنه لا بأس به، ولم أر له حديثًا منكرًا. وإذا حدث عنه ثقة فلا بأس به. وقال الآجري عن أبي داود: هو عندي حجة. وعند الشافعي ليس بحجة، ولم يحدث شعبة عنه. وقال له: من أنت، ومن أبوك؟ وقال ابن حبان: كان يُخطىء كثيرًا، فأما أحمد وإسحاق فهما يحتجان به، وتركه جماعة من أئمتنا، ولولا حديثه: "إنا آخذوها وشطرَ ماله" لأدخلناه في "الثقات"، وهو ممن أستخير الله فيه. وقال الترمذي: وقد تكلم شعبة في بهز، وهو ثقة عند أهل الحديث. وقال أبو جعفر محمد بن الحسين البغدادي في كتاب "التمييز": قلت لأحمد -يعني ابن حنبل-: ما تقول في بهز بن حكيم؟ قال: سألت غُنْدَرًا عنه، فقال: قد كان شعبة مَسَّه، ثم تَبيَّن معناه فكتبت عنه، قال: وسألت ابن معين: هل رَوَى شعبة عن بهز؟ قال: نعم، حديث: "أترعون عن ذكر الفاجر"، وقد كان شعبة متوقفًا عنه. وقال أبو جعفر السبتي: بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده صحيح. وقال ابن قتيبة: كان من خيار الناس. وقال أحمد بن بشير: أتيت البصرة في طلب الحديث، فأتيت بهزًا، فوجدته يلعب بالشطرنج مع قوم، فتركته، ولم أسمع منه. علّق له البخاريّ، وأخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم 234 و 1920 و 2536 و 4287 و 4288. 6 - (أبوهُ) حكيم بن معاوية بن حيدة القشيريّ البصريّ، صدوقٌ [3]. رَوَى عن أبيه، وعنه بنوه: بهز، وسعيد، ومِهْرَان، وسعيد بن إياس الجريري، وأبو قزعَة سُوَيد بن حُجير. قال العجلي: ثقة. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وزاد في الرُّواة عنه قتادة. وذكره أبو الفضائل الصَّغَاني فيمن اختُلف في صحبته، وهو وَهَمٌ منه، فإنه تابعي قطعًا.

علّق له البخاريّ، وأخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، برقم 234 و 1850 و 1920 و 2536 و 4287 و 4288. 7 - (جَدُّهُ، مُعَاوِيَةُ الْقُشَيْرِيُّ) هو: معاوية بن حَيْدة بن معاوية بن قُشير بن كعب ابن ربيعة بن عامر بن صعصعة القشيريّ، نزل البصرة، الصحابيّ -رضي الله عنه-، روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعنه ابنه حكيم، وعروة بن رُوَيم اللَّخْمي، وحُميد المُزَني، قال ابن سعد: وَفَدَ على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصَحِبَه، وقال ابن الكلبيّ: أخبرني أبي أنه أدركه بخراسان، ومات بها. وذكر الحاكم أبو عبد الله، وتبعه ابن الصلاح أنه تفرد عنه بالرواية ابنه. علّق له البخاريّ، وأخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب الأحاديث الستة المذكورة في ترجمة ابنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث معاوية القشيريّ -رضي الله عنه- هذا صحيح، وإن كان الإسناد حسنًا، على ما سأرجّحه قريبًا؛ لأن أحاديث الباب الصحاح تشهد له، فتنبّه، والله تعالى أعلم. [تنبيه]: اختُلف في هذا الإسناد، إسنادِ بهز بن حكيم بن معاوية، عن أبيه، عن جدّه: قال في "التقريب"، وشرحه "التدريب": لبهز بن حكيم عن أبيه، عن جدّه نسخة حسنة، صحّحها ابن معين، واستشهد بها البخاريّ في "الصحيح"، وقال الحاكم: إنما أُسقط من الصحيح روايته عن أبيه، عن جدّه؛ لأنها شاذّة لا متابع له فيها، ورجّحها بعضهم على نسخة عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدّه؛ لأن البخاريّ استشهد بها في "الصحيح" دونها، ومنهم من عكس، كأبي حاتم؛ لأن البخاريّ صحّح نسخة عمرو، وهو أقوى من استشهاده بنسخة بهز. انتهى ما في "التدريب" (¬1). ¬

_ (¬1) "تدريب الراوي" 2/ 259.

قال الجامع -عفا الله عنه-: الأرجح عندي أن هذا الإسناد إسناد حسن، مثل ما سبق الترجيح بذلك في عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، فراجع المسألة الثالثة في شرح الحديث رقم (85) تستفد، وبالله تعالى التوفيق. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنف) هنا (40/ 234) بالإسنادين المذكورين، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (4/ 446 و 5/ 3 و 4) و (البخاريّ) في "خلق أفعال العباد" (52) و (النسائيّ) (5/ 4 و 82). وفوائد الحديث تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه -رحمه الله- في أول الكتاب قال: 235 - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ، حَدَّثَنِي قُدَامَةُ بْنُ مُوسَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُصَيْنِ التَّمِيمِيِّ، عَنْ أَبِي عَلْقَمَةَ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ يَسَارٍ، مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لِيُبَلِّغْ شَاهِدُكُمْ غَائِبَكُمْ"). 236 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا مُبَشِّرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْحَلَبِيُّ، عَنْ مُعَانِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ بُخْتٍ الْمَكِّيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي، فَوَعَاهَا ثُمَّ بَلَّغَهَا عَنِّي، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ"). رجال هذا الإسناد: سبعة: 1 - (أَحْمدُ بْنُ عَبْدة) الضبّيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقة، رُمي بالنصب [10] 3/ 28. 2 - (عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ بنِ عُبَيْدِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ الدرَاوَرْدِيُّ) أبو محمد الجُهنيّ مولاهم المدنيّ، صدوق، كان يُحدّث من كتب غيره، فَيُخطئ [8]. وقال ابن سعد: درَاوَرْد قرية بخراسان، وقال أبو حاتم، عن داود الجَعْفَريّ: كان

أصله من قرية من قُرَى فارس يقال لها: دَرَاوَرْد، وقال البخاري: دَرَابجرد بفارس، كان جدّه منها، وقال أحمد بن صالح: كان من أهل أصبهان، نزل المدينة، وكان يقول للرجل إذا أراد أن يدخل: أَنْدَرُون، فلقبه أهل المدينة الدَّرَاورديّ. رَوَى عن زيد بن أسلم، وشريك بن عبد الله بن أبي نَمِر، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، وعمرو بن أبي عمرو، وثور بن زيد الديلي، وغيرهم. ورَوَى عنه شعبة، والثوري، وهما أكبر منه، وابن إسحاق، وهو من شيوخه والشافعي، وابن مهدي، وابن وهب، ووكيع، وداود بن عبد الله الجعفري، وعبد الله ابن جعفر الرَّقّي، والقعنبي، وأصبغ بن الفرج، وبشر بن الحكم، وأحمد بن عبدة الضبيِّ، وغيرهم. قال مصعب الزبيري: كان مالك يوثق الدراوردي. وقال أحمد بن حنبل: كان معروفًا بالطلب، وإذا حدث من كتابه فهو صحيح، وإذا حدث من كتب الناس وَهِم، وكان يقرأ من كتبهم فيخطئ، وربما قَلَب حديث عبد الله بن عمر، يرويها عن عبيد الله ابن عمر. وقال الدُّوري عن ابن معين: الدراوردي أثبت من فُليح، وابن أبي الزناد، وأبي أويس. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ليس به بأس. وقال أحمد بن أبي مريم عن ابن معين: ثقة حجة. وقال أبو زرعة: سيء الحفظ، ربما حَدّث من حفظه الشيء فيخطيء. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي عن يوسف بن الماجشون، والدراوردي، فقال: عبد العزيز محدث، ويوسف شيخ. وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال في موضع آخر: ليس به بأس، وحديثه عن عبيد الله بن عمر منكر. وقال العجلي: هذا ثقة. وقال الساجي: كان من أهل الصدق والأمانة، إلا أنه كثير الوهم. قال: وقال أحمد: حاتم بن إسماعيل أحب إلي منه. وقال عمرو بن علي: حدث عنه ابن مهدي حديثًا واحدًا. وقال الزبير: حدثني عياش بن المغيرة بن عبد الرحمن، جاء الدراوردي إلى أبي يَعرِض عليه الحديث، فجعل يَلْحَن لحنًا منكرًا، فقال له أبي:

ويحك، إنك كنت إلى لسانك أحوج منك إلى هذا. وقال ابن سعد: وُلد بالمدينة، ونشأ بها، وسمع بها العلم والأحاديث، ولم يزل بها حتى توفي سنة (187)، وكان ثقةً كثير الحديث، يَغْلَط، وحَكَى البخاري أنه مات سنة (89) وجزم به ابن قانع، والْقَرّاب. وقال ابن حبان في "الثقات": مات في صفر سنة (86)، وكان يخطئ، وكان أبوه من درابجرد مدينة بفارس، فاستثقلوا أن يقولوا: درابجردي، فقالوا: دراوردي، وقد قيل: إنه من اندرانه، وقد قيل: إنه تُوُفّي سنة (82) انتهى كلامه. ووقع في "سنن أبي داود" في "الجهاد" حدثنا النُّفَيلي، ثنا عبد العزيز الأندراوردي، وقال أبو حاتم السجستاني، عن الأصمعي: نسبوا إلى درابجرد الدراوردي، فَغَلِطُوا، قال أبو حاتم: والصواب دَرَابِيّ، أو جردي، ودَرَابيّ أجود. أخرج له البخاريّ مقرونًا بغيره، والباقون، وله في هذا الكتاب (45) حديثًا. 3 - (قُدَامَةُ بْنُ مُوسَى) بن عمر بن قُدامة بن مَظْعُون الجُمَحيّ المكيّ، إمام المسجد النبوي، ثقة [5]. رَوَى عن ابن عمر، وأنس، وأبيه موسى، وأيوب، ويقال: محمد بن الحصين، وأبي صالح السمان، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعمرو بن ميمون بن مهران، وغيرهم. ورَوى عنه أخوه عمر، وابنه إبراهيم، وابن جريج، وسليمان بن بلال، ووهيب، ويحيى بن أيوب المصري، والداروردي، وجعفر بن عون، وغيرهم. قال ابن معين، وأبو زرعة: ثقة. وقال الزبير بن بكار: عُمِّرَ قدامة بن موسى، وكان ثبتًا. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان إمام مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مات سنة ثلاث وخمسين ومائة، وفيها أَرّخه ابن أبي عاصم. علق له البخاريّ، وأخرج له الباقون، سوى النسائيّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. [تنبيه]: قال الحافظ -رحمه الله-: في صحة سماعه من ابن عمر نظر، فقد أخرج له

الترمذي حديثًا، فأدخل بينه وبين ابن عمر ثلاثة أنفس، انتهى (¬1). 4 - (مُحَمَّدُ بْنُ الحصَيْنِ التمِيمِيِّ) ثم الحنظلي، وقال بعضهم: أيوب بن الحصين، قال أبو حاتم: ومحمد أصحّ. رَوَى عن أبي علقمة، مولى ابن عباس، وروى عنه سليمان بن بلال، وقُدامة بن موسى الجمحي، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، وعمر بن علي بن مقدم. ذكره ابن حبان في "الثقات". قال الجامع -عفا الله عنه-: هكذا ذكر الحافظ المزيّ -رحمه الله- جماعة الرواة عنه. وتعقّبه الحافظ، فقال: وقد رأيت رواية سليمان بن بلال عنه بواسطة قُدامة بن موسى، وكذلك الدَّراورديّ، وكلاهما في "كتاب قيام الليل" لمحمد بن نصر المروزي، ورواية الدراوردي في الترمذي، فليس له راو إلا قُدامة، ولهذا قال الدارقطني: مجهول، واتفق وهيب وسليمان على أنه أيوب، وقال الدراوردي: محمد. وروى يحيى بن أيوب المصري، عن عبيد الله بن زَحْر، عن محمد بن أبي أيوب المخزومي، عن أبي علقمة، فإن كان هو فيستفاد، رواية عبيد الله بن زَحْر عنه، ويرجح أن اسمه محمد، وأما أبوه فهو حصين، وكنيته أبو أيوب، فلعل من سماه أيوب، وقع مسمى، فسماه بكنية أبيه. انتهى كلام الحافظ (¬2). فتحصل بما ذُكر أنه مجهول، كما قال الدارقطنيّ، وأما رواية عبيد الله بن زَحْر، فلا عبرة بها؛ لأنه ضعيف عند الأكثرين، فتبصّر. والله تعالى أعلم. أخرج له أبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 5 - (أَبو عَلْقَمَةَ، مَوْلَى ابْنِ عَباسٍ) وهو: أبو علقمة الفارسيّ المصريّ، مولى بني هاشم، ويقال: حليفهم، ويقال: حليف الأنصار، ثقة، وكان قاضي إفريقية، من كبار [3]. ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" 3/ 435. (¬2) "تهذيب التهذيب" 3/ 544.

روى عن عثمان بن عفان، وابن مسعود، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وابن عمر، ويسار بن نمير، مولى ابن عمر، وغيرهم. وعنه أبو الزبير المكي، وأبو الخليل، مُفلح بن أبي مريم، وعطاء العامري، ويعلى ابن عطاء العامري، وأيوب، ويقال: محمد بن حصين، وآخرون. قال أبو حاتم: أحاديثه صحاح. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن يونس: أبو علقمة الفارسيّ، مولى ابن عباس، كان على قضاء إفريقية، وكان أحد الفقهاء الموالي الذين ذكرهم يزيد بن أبي حبيب. وقال العجلي: مصري تابعي ثقة. أخرج له البخاري في "جزء القراءة"، والباقون، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 6 - (يَسَارٌ، مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ) هو: يسار المدنيّ، مولى ابن عمر، قال: بعضهم هو ابن نمير، ثقة [4]. رَوَى عن مولاه عبد الله بن عمر، وعنه أبو علقمة، مولى ابن عباس، قال أبو زوعة: مدني ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". أخرج له أبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 7 - (ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما 1/ 4. قال الجامع عفا الله عنه: حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا إسناده ضعيف؛ لجهالة محمد بن حصين، كما سبق في ترجمته، وأما المتن فصحيح؛ للشواهد المذكورة في الباب. أخرجه (المصنّف) هنا (40/ 235) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (أحمد) (2/ 23 و 104) و (أبو داود) (1278) و (الترمذيّ) (419)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 236 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا مُبَشِّرُ بْنُ إِسماعيلَ الحلَبِيُّ، عَنْ مُعَانِ ابْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ بُخْتٍ المكِّيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "نَضَّرَ الله عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي، فَوعَاهَا، ثُمَّ بَلَّغَهَا عَنِّي، فَرُبَّ حَامِلِ فِقهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقهٍ إِلَى مَن هُوَ أَفقَهُ مِنْهُ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (مُحَمَّدُ بن إبْرَاهِيمَ الدِّمَشقِيُّ) هو: محمد بن إبراهيم بن العلاء الدمشقيّ، أبو عبد الله الزاهد السائح، مولى نبيط، نزيل عَبّادان، منكر الحديث [10] (¬1). رَوَى عن الوليد بن مسلم، ومبشر بن إسماعيل، وبقية، وعبد المجيد بن أبي رَوّاد، وغيرهم. وروى عنه ابن ماجه، وأبو بكر بن عليّ المروزي، وأسلم بن سهل الواسطي، وبقي بن مَخْلَد، وعبد العزيز بن معاوية، ومحمد بن عبد الله الحضرمي، وغيرهم. قال ابن أبي حاتم: سمع منه أبي بمكة، وقال ابن عدي: منكر الحديث، وعامة أحاديثه غير محفوظة. وقال الدارقطني: كذاب. وقال أبو نعيم: روى عن الوليد بن مسلم، وشعيب بن إسحاق، وبقية، وسُويد بن عبد العزيز موضوعات، وقال ابن حبان: يضع الحديث، لا تحل الرواية عنه إلا عند الاعتبار. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالمتين عندهم. وقال الحاكم، والنقاش: رَوَى أحاديث موضوعة. تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (236) وحديث (746) عن ابن عمر رضي الله عنهما في النهي عن الصلاة في سبعة مواطن. . .". ¬

_ (¬1) جعله في "التقريب" من التاسعة، والظاهر أنه غلط؛ لأنه من شيوخ ابن ماجه مباشرة، فعندي أنه من العاشرة، فليتأمل.

2 - (مُبَشِّرُ (¬1) بْنُ إِسْمَاعِيلَ الحلَبِيُّ) أبو إسماعيل الكلبيّ مولاهم، صدوقٌ [9]. رَوَى عن حَرِيز بن عثمان، وحسان بن نوح، وتَمّام بن نَجِيح، وجعفر بن بُرْقان، والأوزاعي، ومعان بن رفاعة، وغيرهم. وروى عنه إبراهيم بن موسى الرازي، وأحمد بن حنبل، ومحمد بن مهران الجمّال، وموسى بن عبد الرحمن الأنطاكي، ومحمد بن إبراهيم بن العلاء، وغيرهم. قال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن سعد: كان ثقةً مأمونًا، ومات بحلب سنة مائتين. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة، وكذا قال أحمد بن حنبل. وقال ابن قانع: ضعيف، وقال الذهبي: تُكُلِّم فيه بلا حجة. وذكره ابن حبان في "الثقات". أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 3 - (مُعَانُ بْنُ رِفَاعَةَ) -بضم الميم، وتخفيف العين المهملة- السّلاميّ -بتخفيف اللام- أبو محمد الدمشقي، ويقال: الحمصيّ، لَيِّنُ الحديث، كثير الإرسال [7]. روى عن إبراهيم بن عبد الرحمن العُذْري، وعبد الوهاب بن بُخْت، وعطاء الخراساني، وعلي بن يزيد الألهاني، وغيرهم. وروى عنه إسماعيل بن عياش، ومبشر بن إسماعيل، ومحمد بن شعيب بن شابور، وغيرهم. قال محمد بن عوف عن أحمد: لم يكن به بأس. وقال مُهَنّا عن أحمد: لا بأس به. وقال علي بن المديني: ثقة، قد رَوَى عنه الناس. وقال عثمان الدارمي عن دُحيم: ثقة. وقال محمد بن عوف: لا بأس به. وقال أبو حاتم: شيخ حمصيّ، يُكتب حديثه، ولا يحتج به. وقال أبو زرعة الدمشقي: شيخان معناهما واحد: عثمان بن أبي العاتكة، ومُعَان بن رِفَاعة، أخبرني دُحيم أن مُعانًا أرفعهما وأرجحهما. وقال الآجري عن أبي داود: ليس به بأس. وقال الدُّوري عن ابن معين: ضعيف. ¬

_ (¬1) بصيغة اسم الفاعل.

وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: سئل ابن معين عن عثمان بن عطاء، ومعان بن رفاعة، وسعيد بن بَشِير، فقال: كل هؤلاء ضعفاء. وقال الجوزجاني: ليس بحجة. وقال يعقوب بن سفيان: لين الحديث. وقال ابن حبان: منكر الحديث، يروي مراسيل كثيرة، ويحدث عن أقوام مجاهيل، لا يشبه حديثه حديث الأثبات، فلَمّا صار الغالب في روايته ما يُنكره القلب، استَحَقَّ ترك الاحتجاج به. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يُتابَع عليه. قال الحافظ: قرأت بخط الذهبي: مات مع الأوزاعي تقريبًا، وهو صاحب حديث، ليس بمتقن، وقال أبو الفتح الأزدي: لا يحتج به. تفرّد به المصنّف، وله عنده في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا (236) و (245) و (3950). 4 - (عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ بُخْتٍ المكِّيُّ) -بضم الموحّدة، وسكون الخاء المعجمة، بعدها مثناة- الأمويّ، مولى آل مروان، أبو عبيدة، ويقال: أبو بكر المكيّ، سكن الشام، ثم المدينة، ثقة [5]. رَوَى عن أنس، وأبي هريرة، يقال: مرسل، وابن عمر، وأبي إدريس الخولاني، وعمر بن عبد العزيز، وزر بن حبيش، وعبد الواحد البصري، وغيرهم. وروى عنه أيوب، وعبيد الله بن عمر، ومالك، وابن عجلان، وزيد بن أبي أنيسة، وشعيب بن أبي حمزة، ومُعان بن رِفَاعة، وغيرهم. وقال ابن معين: قد سمع منه مالك، وكان ثقة، وليس بينه وبين سلمة بن بُخْت قرابة، وسلمة أيضًا ثقة. وقال أبو زرعة، ويعقوب بن سفيان، والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح، لا بأس به. وقال مالك: كان كثير الحج والعمرة والغزو، حتى استُشهِد. وقال ابن جرير: ذَكر محمد بن عمر عن عبد الله بن عمر غزا عبد الوهاب بن بُخْت مع البَطّال، فانكشفوا، فجعل عبد الوهاب يَكُرّ فرسه، ثم ألقى بيضته عن رأسه، وصاح أنا عبد الوهاب بن بُخت من الجنة تَفِرّون، ثم تقدم في نحر العدوّ، فخَلَط القوم، فقُتِل

وقُتِل فرسه. وقال عمرو بن علي وغير واحد: قُتل مع البَطّال سنة (113)، وكذا أرّخه غير واحد. وقال علي بن عبد الله التميمي: قُتل مع البطال سنة (111). أخرج له أبو داود، والنسائيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 5 - (أَنَسُ بن مَالِكٍ) -رضي الله عنه- 3/ 24. مسألتان تتعلقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- هذا إسناده ضعيف جدّا؛ لأن شيخ المصنّف منكر الحديث، بل كذّبه بعضهم، واتهمه بعضهم بالوضع، كما سبق في ترجمته، لكن المتن صحيح، كما سبق في الأحاديث الماضية. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (40/ 236) بهذا الإسناد فقط، ولم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (3/ 225)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

41 - باب من كان مفتاحا للخير

41 - (بَابُ مَنْ كَانَ مِفْتاحًا لِلْخَيْرِ) وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 237 - (حَدَّثَنَا الحُسَينُ بْنُ الحسَنِ الْمرْوَزِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بن أَبِي عَدِيٍّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ أَبِي حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُبَيْدِ الله بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ، مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ، مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لمِنْ جَعَلَ الله مَفَاتِيحَ الخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لمِن جَعَلَ الله مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (الحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْمرْوَزِيُّ) نزيل مكة، صدوقٌ [10] 11/ 101. 2 - (محَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، نُسب لجدّه، أبو عمرو البصريّ، ثقة [9] 18/ 134. 3 - (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ) واسمه إبراهيم الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إبراهيم المدنيّ، لقبه حمّاد، ضعيفٌ [7]. رَوَى عن زيد بن أسلم، ونافع مولى ابن عمر، وسعيد المقبري، وحفص بن عبيد الله بن أنس بن مالك، وإسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، وغيرهم. ورَوَى عنه سعيد بن أبي هلال، وأبن أبي فُديك، ومحمد بن أبي عدي، والدراوردي، ورَوح بن عُبادة، وأبو داود الطيالسي، والقعنبي، وآخرون. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: أحاديثه مناكير. وقال الدُّوري عن ابن معين: ضعيف، ليس حديثه بشيء. وقال الجوزجاني: واهي الحديث، ضعيف. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال أبو زرعة. ضعيف الحديث. وقال أبو حاتم: كان رجلا ضريرًا، وهو منكر الحديث، ضعيف الحديث، مثل ابن أبي سَبْرة، ويزيد بن عياض، يَروي عن الثقات المناكير. وقال ابن عدي: ضعفه بَيِّنٌ على ما يرويه، وحديثه مقارب، وهو مع ضعفه يكتب حديثه. وقال ابن أبي مريم عن ابن

معين: منكر الحديث، وكذا قال الساجي. وقال أبو داود، والدارقطني: ضعيف. وقال ابن حبان: لا يحتج به. وذكره يعقوب بن سفيان في "باب من يُرغب عن الرواية عنهم"، وذكره ابن الْبَرْقيّ فيمن كان الغالب على روايته الضعف. ونقل ابن شاهين في "الثقات" توثيقه عن أحمد بن صالح المصري، وهو غير مقبول؛ لأنه مجمع على تضعيفه، فلا التفات إلى قوله، فتنبه (¬1). تفرد به الترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (237) وحديث (4197) "ما من عبد مؤمن يَخرُج من عينيه دموع. . .". [تنبيه]: صرح محمد بن أبي حميد في سند المصنّف هنا بأنه حدّثه حفص بن عبيد الله، لكن رواه إسماعيل بن عيّاش، عنه عن موسى بن وَرْدان، عن حفص، فأدخل بينه وبين حفص موسى بن وردان، نبّه على ذلك الحافظ المزيّ، في "تحفة الأشراف" 1/ 170، فراجعه، والله تعالى أعلم. 4 - (حَفْصُ بْنُ عُبَيْدِ الله بْنِ أَنَسٍ) بن مالك، ويقال فيه: عبيد الله بن حفص، ولا يصحّ، صدوقٌ [3]. رَوَى عن جده، وجابر، وابن عمر، وأبي هريرة. وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، ويحيى بن أبي كثير، وابن إسحاق، وموسى بن ربيعة، وأسامة بن زيد الليثيّ، وغيرهم. قال أبو حاتم: لا يثبت له السماع إلا من جدّه. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: هو أحب إلي من حفص بن عمر، ولا ندري أسمع من جابر وأبي هريرة أم لا؟. وقال البخاري: وقال بعضهم: عبيد الله بن حفص، ولا يصح عبيد الله. أخرج له الجماعة، سوى أبي داود، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا ¬

_ (¬1) راجع "تهذيب التهذيب" 3/ 549.

(237) وحديث (3469) "لا تسبها، فإنها تنفي الذنوب. . .". 5 - (أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) -رضي الله عنه- 3/ 24، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ) بالفتح: جمع مِفتاح، وهو -بكسر الميم- آلة لفتح الباب ونحوه، ويقال فيه: المِفْتَح، بحذف الألف بعد التاء، وكأنه مقصور منه، ويُجمع هذا على مفاتح، بغير ياء، أفاده في "المصباح" (¬1) (لِلْخَيْرِ) أي لجنس الخير (مَغَالِيقَ) بالفتح: جمع مِغلاق -بكسر الميم، وسكون الغين المعجمة-، وهو ما يُغْلَق به، ويقال فيه: مِغْلَق أيضًا، ويُجمع على مَغَالق بغير ياء، كما سبق في "المفاتح"، أفاده أيضًا في "المصباح" (¬2) (لِلشَّرِّ) أي لجنس الشرّ، ثم إنه لا بدّ من التقدير، أي ذوي مفاتيح للخير إلخ، أي إن الله تعالى أجرى على أيديهم فتح أبواب الخير، كالعلم، والصلاح على الناس، حتى كأنه ملّكهم مفاتيح الخير، ووضعها في أيديهم، ولذلك قال: "جعل الله مفاتيح الخير على يديه"، وتعدية "جَعَلَ" بـ "على" لتضمّنه معنى الوضع. قال الراغب الأصفهانيّ: الخير ما يَرْغَبُ فيه الكلّ، كالعقل مثلًا، والعدل، والفضل، والشيء النافع، والشرُّ ضدّه، والخير والشرّ قد يتّحدان، وهو أن يكون خيرًا لواحد، وشرًّا لآخر، كالمال الذي ربما كان خيرًا لزيد، وشرًّا لعمر، ولذلك وصفه الله تعالى بالأمرين، فقال في موضع: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180] أي مالًا، وقال في موضع آخر: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ في الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون: 55 - 56] انتهى. وكذا العلم بالنسبة إلى بعضهم حجاب، وسبب للعذاب، وبالنسبة إلى بعض ¬

_ (¬1) راجع "المصباح المنير" 2/ 461. (¬2) "المصباح المنير" 2/ 451.

آخر سبب اقتراب إلى ربّ الأرباب، وقس على هذا العبادة، فإن منها ما يورث العجب والغرور، ومنها ما يورث النور والسرور والحبور، كالسيف والخيل ونحوهما، قد تجعل آلةً للجهاد مع الكفّار، ويُتوصّل بها إلى القرار في دار الأبرار، وقد يُتوصّل بها إلى قتل الأنبياء والأولياء، ويُنتهى بها إلى الدرك الأسفل من النار، بحسب ما قُسم لأهله قسمةً أزليّةً أبديّةً، مبنيّةً على جعل بعضهم مرائي الجمال، وبعضهم مظاهر الجلال، كما قال: {فَرِيقٌ في الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ في السَّعِيرِ} [الشورى: 7]، وقال: "خلقت هؤلاء للجنة ولا أبالي، وخلقت هؤلاء للنار ولا أبالي"، مشيرًا إلى قوله: {لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون}، فبحر القضاء والقدر عريض عميق، لا يغوص فيه إلا من له تحقيق بتوفيق، يتحيّر فيه أرباب السواحل، ويَمضي منه أصحاب سفُن الشرائع الكوامل. قاله القاري (¬1). (وَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ، مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى) بالضمّ فُعْلَى من الطيب، كما تقدّم (لمِنْ جَعَلَ الله مَفَاتِيحَ الخيْرِ عَلَى يَدَيْهِ) بأن جاد على الناس من علمه، وعمله، وحاله، وماله (وَوَيْلٌ) أي هلاك (لمَنْ جَعَلَ الله مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ) أي بأن كان سببًا للكفر، والعصيان، والبطر، والطغيان، والبخل، وسوء العشرة مع الإخوان. وذلك لأن الأول يشارك العاملين بالخير في الأجر، فثبتت له الجنة، والثاني يشارك العاملين بالشرّ الوزر، فثبت له الهلاك، قال السنديّ رحمه الله: وبما ذكرنا في المعنى ظهر لك ذكر هذا الباب في مسائل العلم. انتهى (¬2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، ونعم الوكيل. قال الجامع عفا الله عنه: حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- هذا إسناده ضعيف؛ لاتفاق الأكثرين على تضعيف محمد بن أبي حميد الأنصاريّ، كما تقدّم في ترجمته. ¬

_ (¬1) "المرقاة" 1/ 62 - 63. (¬2) "شرح السنديّ" 1/ 155 - 156.

وحسّنه الشيخ الألبانيّ بمجموع طرقه (¬1)، وهو محلّ نظر؛ إذ كل طرقه ضعيفة، فسند المصنّف هذا فيه محمد بن أبي حميد ضعيف جدّا، بل قال فيه البخاريّ وغيره: منكر الحديث، والسند التالي فيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف جدّا، وقد تابعه راو آخر عند ابن أبي عاصم في "السنة" (250) لا يُعرف، وله شاهد أخر مرسل ضعيف. وبالجملة فتحسين مثل هذا بعيد، والله تعالى أعلم بالصواب. وهو من أفراد المصنّف، لم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده" (2195) و (ابن أبي عاصم) في "السنة" (2299) و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان" (697)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلي الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 238 - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، أَبُو جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ، عَن أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ رَسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ هَذَا الخيْرَ خَزَائِنُ، وَلِتِلْكَ الْخَزَائِنِ مَفَاتِيحُ، فَطُوبَى لِعَبْدٍ جَعَلَهُ الله مِفْتَاحًا لِلْخَيْرِ، مِغْلَاقًا لِلشَّرِّ، وَوَيْلٌ لِعَبْدٍ جَعَلَهُ الله مِفْتَاحًا لَلشَّرِّ، مِغْلَاقًا لِلْخَيْرِ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (هَارُونُ بْنُ سعِيدٍ الْأَيْلِيُّ أَبُو جَعْفَرٍ): هارون بن سعيد بن الْهَيْثَم بن محمد بن الْهَيْثَم بن فَيْروز التميمي الْأَيْلِيُّ السَّعْدي مولاهم، نزيل مصر، ثقة فاضل [10]. رَوَى عن ابن عيينة، وابن وهب، وأبي ضَمْرة، وخالد بن نِزَار، ومؤمل بن إسماعيل، وبشر بن بكر. ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأبو حاتم، ومحمد بن وَضَّاح، وبَقِيّ بن مَخْلَد، والمعمريّ، وزكرياء الساجيّ، وغيرهم. ¬

_ (¬1) "السلسلة الصحيحة" 3/ 320 - 321 رقم (1332).

قال أبو حاتم: شيخ. وقال النسائي: لا بأس به، وقال في موضع آخر: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن يونس: تُوُفّي في ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين ومائتين، وكان مولده سنة سبعين ومائة، وكان ثقةً، وكان قد ضَعُفَ ولزم بيته. وقال أبو عمر الْكِنديّ: كان فقيهًا، من أصحاب ابن وهب. وقال مسلمة بن قاسم: كان مُقَدَّمًا في الحديث فاضلًا. وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط برقم (238) و 1306) و (1591) و (1817) و (3014) و (3052). 2 - (عَبْدُ الله بْنُ وَهْبٍ) بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ الفقيه، ثقة حافظ عابدٌ [9] 35/ 192. 3 - (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) العدويّ مولاهم المدنيّ، ضعيف [8]. رَوَى عن أبيه، وابن المنكدر، وصفوان بن سليم، وأبي حازم سلمة بن دينار، وغيرهم. ورَوى عنه ابن وهب، وعبد الرزاق، ووكيع، والوليد بن مسلم، وابن عيينة، وغيرهم. قال أبو طالب عن أحمد: ضعيف. وقال أبو حاتم: سألت أحمد عن أولاد زيد، أيُّهُم أحب إليك؟ قال: أسامة، قلت: ثم من؟ قال: عبد الله، ثم ذكر عبد الرحمن، وضَجَّعَ في عبد الرحمن. وقال الميموني عن أحمد: عبد الله أثبت من عبد الرحمن، قلت فعبد الرحمن؟ قال: كذا ليس مثله، وضَعَّف أمره قليلًا. وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يضعف عبد الرحمن، وقال: رَوَى حديثا منكرًا: "أُحِلَّت لنا ميتتان ودمان". وقال عمرو بن علي: لم أسمع عبد الرحمن يحدث عنه. وقال الدُّوري عن ابن معين: ليس حديثه بشيء. وقال البخاري، وأبو حاتم: ضعفه علي بن المديني جدّا. وقال أبو داود: أولاد زيد بن أسلم كلهم ضُعَفاء، وأمثلهم عبد الله. وقال أيضًا: أنا لا أحدث عن عبد

الرحمن، وعبد الله أمثل منه. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: ذَكَرَ رجل لمالك حديثًا منقطعًا، فقال: اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد يُحدّثك عن أبيه، عن نوح. وقال خالد بن خِدَاش: قال لي الدَّراورديّ، ومَعْنٌ، وعامةُ أهل المدينة: لا نُريد عبد الرحمن، إنه كان لا يدري ما يقول، ولكن عليك بعبد الله. وقال أبو زرعة: ضعيف. وقال أبو حاتم: ليس بقوي في الحديث، كان في نفسه صالحًا، وفي الحديث واهيًا، وقال في موضع آخر: هو أحب إلي من ابن أبي الرجال. وقال ابن عديّ: له أحاديث حسان، وهو ممن احتمله الناس، وصدقه بعضهم، وهو ممن يُكتب حديثه. وقال ابن حبان: كان يَقْلِب الأخبار، وهو لا يَعْلَم، حتى كثر ذلك في روايته، مِن رَفْعِ المراسيل، وإسناد الموقوف، فاستحق الترك. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، ضعيفًا جدًّا. وقال ابن خزيمة: ليس هو ممن يَحتجّ أهلُ العلم بحديثه؛ لسوء حفظه، هو رجل صناعته العبادة والتقشف، ليس من أحلاس الحديث. وقال الساجي: ثنا الربيع، ثنا الشافعي، قال: قيل لعبد الرحمن بن زيد: حدثك أبوك، عن جدك، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن سفينة نوح طافت بالبيت، وصلَّت خلف المقام ركعتين"؟ قال: نعم، قال الساجي: وهو منكر الحديث. وقال الطحاويّ: حديثه عند أهل العلم بالحديث في النهاية من الضعف. وقال الحربي: غيره أوثق منه. وقال الجوزجاني: أولاد زيد ضعفاء. وقال الحاكم، وأبو نعيم: رَوَى عن أبيه أحاديث موضوعة. وقال ابن الجوزيّ: أجمعوا على ضعفه. قال البخاري: قال لي إبراهيم ابن حمزة: مات سنة اثنتين وثمانين ومائة. تفرّد به الترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط برقم (238) و (519) و (1188) و (2443) و (2766) و (3218) و (3314) و (4060). 4 - (أَبُو حَازِمٍ) سلمة بن دينار الأعرج المدنيّ القاصّ، ثقة عابد [5] 35/ 198. 5 - (سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ) بن مالك بن خالد الأنصاريّ الخزرجيّ الساعديّ، أبو

العباس الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما 32/ 164. وقوله: "إن هذا الخير خزائن إلخ" قال الطيبيّ رحمه الله: المعنى الذي يحتوي على خير المال، وعلى كونه شرّا هو المشبّه بالخزائن، فمن توسّل بفتح ذلك المعنى، وأخرج المال منها، ينفقه في سبيل الله، ولا ينفقه في سبيل الشيطان، فهو مِفتاح الخير، مِغلاق الشرّ، ومن توسّل بإغلاق ذلك الباب بإنفاقه في سبيل الله، وفتحه في سبيل الشيطان، فهو مِغلاق الخير، مفتاح الشرّ، وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن للشيطان لِمَّةً بابن آدم، وللمك لمّةً" (¬1)، وقرأ قوله عز وجل: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268] إشارةً إلى هذا المعنى. انتهى (¬2). قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه- هذا ضعيف الإسناد؛ لضعف عبد الرحمن بن زيد جدّا، كما سبق في ترجممّه آنفًا، وحسنه الشيخ الألبانيّ رحمه الله، وقد سبق أن تحسينه محلّ نظر، فتفطّن. وهو من أفراد المصنّف، لم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه أبو يعلى الموصليّ في "مسنده"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. ¬

_ (¬1) حديث أخرجه الترمذيّ، من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن للشيطان لِمَّةً بابن آدم، وللملك لِمّةً، فأما لِمّة الشيطان فإيعاد بالشر، وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير، وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله. ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم قرأ: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء} الآية، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، وهو حديث أبي الأحوص، لا نعلمه مرفوعا إلا من حديث أبي الأحوص. انتهى. وفي تحسين الترمذيّ له نظر؛ لأن فيه عطاء بن السائب، وقد اختلط، وأبو الأحوص ممن روى عنه بعد الاختلاط، فالحديث ضعيف، فتنبّه. والله تعالى أعلم. (¬2) "الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3300.

42 - باب ثواب معلم الناس الخير

42 - (بَابُ ثوابِ مُعلِّمِ النَّاسِ الْخَيْر) وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 239 - (حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا حَفصُ بْنُ عُمَرَ، عَن عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّهُ لَيَسْتَغْفرُ لِلْعَالِمِ مَنْ في السَّمَاوَاتِ، وَمَنْ في الْأَرْضِ، حَتَّى الحِيتَانِ في الْبَحْرِ"). رجال هذا الإسناد: خمسة. 1 - (هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ) المذكور قبل باب. 2 - (حَفْصُ بْنُ عُمَرَ) البزّاز الشاميّ، مجهول [8]. رَوَى عن عثمان بن عطاء الخراساني، وكثير بن شِنْظِير، وعنه هشام بن عمار، قال أبو حاتم: مجهول. قال الحافظ: قرأت بخط الذهبيّ: يقال: إنه أدرك عبد الملك بن مروان. تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط. 3 - (عُثْمانُ بْنُ عَطَاءٍ) بن أبي مسلم الخراسانيّ، أبو مسعود المقدسيّ، أصله من بلخ، ضعيفٌ [7]. رَوَى عن أبيه، وأبي عمران، مولى أم الدرداء، وإسحاق بن قبيصة بن ذؤيب، وغيرهم. ورَوى عنه ابنه محمد، وحجاج بن محمد، وحفص بن عمر البزاز، وغيرهم. قال ابن معين: ضعيف الحديث، وقال مرة: عثمان بن عطاء، وخَليل بن دعلج، وسعيد بن بشير يضعفون، وقال مرة. يعقوب بن عطاء بن أبي رباح أصلح حديثًا من عثمان بن عطاء الخراساني. وقال عمرو بن علي: منكر الحديث، وقال مرة: متروك الحديث. وقال الجوزجاني: ليس بالقوي في الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال ابن خزيمة: لا أحتج بحديثه. وقال أبو حاتم: سألت دُحيمًا عنه، فقال: لا بأس به، فقلت: إن أصحابنا يضعفونه، قال وأيَّ شيء

حدث عثمان من الحديث؟ واستحسن حديثه. قال أبو حاتم: يكتب حديثه، ولا يحتج به. وقال علي بن الجنيد: متروك. وقال الحاكم، أبو عبد الله: يروي عن أبيه أحاديث موضوعة. وقال الساجي: ضعيفٌ جدّا. وقال ابن الْبَرْقِيّ: ليس بثقة. وقال أبو أحمد الحاكم: حديثه ليس بالقائم. وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج بروايته. وقال أبو نعيم الأصبهاني: رَوَى عن أبيه أحاديث منكرة. وقال ابن عديّ: هو ممن يكتب حديثه. قال ضمرة: مات سنة (155)، وسمعته يقول: مولدي سنة (88)، وفيها أَرَّخه غير واحد، وقال ابن يونس: مات سنة (51). أخرج له أبو داود في "الناسخ"، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب خمسة أحاديث، برقم (239) و (1428) و (2071) و (2905) و (3338). 4 - (أَبُوهُ) عطاء بن أبي مسلم، أبو أيوب، ويقال: أبو عثمان، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو صالح البلخيّ: نزيل الشام، مولى المُهَلَّب بن أبي صُفْرَة الأزديّ، اسم أبيه عبد الله، ويقال: ميسرة، صدوقٌ يَهِم كثيرًا، ويُرسل، ويدلّس [5]. رَوَى عن الصحابة مرسلًا، كابن عباس، وعدي بن عدي الكنديّ، والمغيرة بن شعبة، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وأنس، وكعب بن عجرة، ومعاذ بن جبل، وغيرهم. ورَوَى عنه عثمان ابنه، وشعبة، وإبراهيم بن طهمان، وأبو عبد الرحمن إسحاق بن أسيد الخراساني، وداود بن أبي هند، ومعمر، وابن جريج، والأوزاعي، وغيرهم. قال ابن معين: ثقة. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: ثقة صدوق، قلت: يحتج به؟ قال: نعم. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال الدارقطني: ثقة في نفسه، إلا أنه لم يَلْقَ ابن عباس. وقال أبو داود: ولم يدرك ابن عباس، ولم يره. وقال حجاج بن محمد عن شعبة: ثنا عطاء الخراسانيّ، وكان نسيّا. وقال ابن حبان: كان رديء الحفظ، يخطىء، ولا يَعْلَم، فبطل الاحتجاج به. قال ابن القطان: اسم أبيه عبد الله، كذا جزم به، وهذا قول مالك، وكان إبراهيم الصائغ

يكنيه، وأما الأكثر فقالوا: ابن ميسرة، منهم أحمد، ويحيى بن معين، وقد ترجم البخاري لعطاء الخراساني ترجمتين: أحدهما عطاء بن عبد الله، قال: وهو ابن أبي مسلم، والثاني عطاء بن ميسرة، وقال الخطيب في: الموضح: هما واحد. وقال ابن سعد: كان ثقة، روى عنه مالك. وقال الطبراني: لم يسمع من أحد من الصحابة إلا من أنس. وقال عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: كان يُحيي الليل. وعن عطاء: قال: أوثق أعمالي في نفسي نشر العلم. قال ابنه عثمان بن عطاء: مات سنة خمس وثلاثين ومائة، وقال أبو نعيم الحافظ: كان مولده سنة (50). أخرج له الجماعة، سوى البخاريّ، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث، برقم (239) و (332) و (548) و (1428) و (2071) و (2905) و (3136) و (3338). 5 - (أَبُو الدَّرْدَاءِ) عويمر بن زيد بن قيس، وقيل: غيره الصحابيّ الشهير -رضي الله عنه- 1/ 5. قال الجامع عفا الله عنه: قد سبق شرح هذا الحديث في شرح حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- برقم (223)، فإنه جزء منه، وقد سبق هناك بلفظ "وإن طالب العلم يستغفر له"، ولا تخالف بينهما، فقد وقع عند أبي داود والترمذيّ بلفظ "وإن العالم ليستغفر له"، كما وقع هنا، فتنبّه. وهو من أفراد المصنّف، وهو بهذا السند ضعيف، لجهالة حفص بن عمر، وضعف عثمان بن عطاء، كما سبق في ترجمتهما، وأما المتن فصحيح، وقد تقدّم تمام البحث فيه في الحديث المذكور، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 240 - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى المصْرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ وَهْبٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، فَلَهُ أَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهِ، لَا ينقص مِنْ أَجْرِ الْعَامِلِ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى المصْرِيُّ) هو: أحمد بن عيسى بن حسان المصري، أبو عبد الله العسكري، المعروف بالتَّسْتُري، صدوقٌ [10]. رَوَى عن ابن وهب، والمفضل بن فَضَالة، وضِمام بن إسماعيل، وغيرهم. وروى عنه البخاريّ، ومسلم، والنسائيّ، وابن ماجه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وعبد الله بن أحمد، وحنبل بن إسحاق، وإبراهيم الحربي، وإسماعيل القاضي، وغيرهم. قال أبو داود: كان ابن معين: يحلف أنه كذاب. وقال أبو حاتم: تكلم الناس فيه، قيل لي بمصر: إنه قَدِمها، واشترى كتب ابن وهب، وكتاب المُفَضَّل بن فَضالة، ثم قَدِمت بغداد، فسألت هل يحدث عن المفضل؟ فقالوا: نعم، فأنكرت ذلك، وذلك أن الرواية عن ابن وهب، والرواية عن المفضل لا يستويان. وقال سعيد بن عمرو البردعي: أنكر أبو زرعة على مسلم روايته عن أحمد بن عيسى في "الصحيح"، قال سعيد: قال لي: ما رأيت أهل مصر يشكون في أنه، وأشار إلى لسانه، كأنه يقول الكذب. وقال النسائي: أحمد بن عيسى كان بالعسكر، ليس به بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال البغوي، وابن قانع، وابن يونس: مات سنة (243). وقال الخطيب: ما رأيت لمن تكلم فيه حجة، توجب ترك الاحتجاج بحديثه، قال الحافظ: إنما أنكروا عليه ادّعاء السماع، ولم يُتَّهَم بالوضع، وليس في حديثه شيء من المناكير، والله أعلم. وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، برقم (240) و (605) و (1126) و (2184) و (2215) و (2797) و (3225). 2 - (عَبْدُ الله بْنُ وَهْبٍ) المذكور في الباب الماضي.

3 - (يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) الغافقيّ -بمعجمة، وفاء، وقاف- أبو العبّاس المصريّ، صدوقٌ، ربّما أخطأ [7]. رَوَى عن حميد الطويل، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم، وعبد الله بن دينار، وربيعة بن جعفر بن ربيعة، وسهل بن معاذ، وغيرهم. ورَوَى عنه شيخه ابن جريج، والليث، وهو من أقرانه، وجرير بن حازم، وابن وهب، وابن المبارك، وأشهب، وزيد بن الحباب، والمقبري، وغيرهم. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: سيء الحفظ، وهو دون حَيْوَة، وسعيد بن أيوب، وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: صالح، وقال مرة: ثقة. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي يحيى بن أيوب أحب إليك، أو ابن أبي الموال؟ فقال: يحيى بن أيوب أحب إليّ، ومحل يحيى الصدق، يكتب حديثه، ولا يحتج به. وقال الآجري: قلت لأبي داود: ابن أيوب ثقة؟ فقال: هو صالح. وقال النسائي: ليس به بأس، وقال مرة: ليس بالقوي. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن يونس: كان أحد طلاب العلم بالآفاق، وحَدّث عنه الغرباء أحاديث ليست عند أهل مصر، قال: أحاديثُ جرير بن حازم، عن يحيى بن أيوب ليس عند المصريين منها حديث، وهي تشبه عندي أن تكون من حديث ابن لهيعة، تُوُفّي سنة ثمان وستين ومائة. وقال ابن سعد: منكر الحديث. وقال الدارقطني: في بعض حديثه اضطراب، ومن مناكيره عن ابن جريج، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه مرفوعًا: "وإن كان مائعًا فانتفعوا به". وقال الترمذي عن البخاري: ثقة. وقال يعقوب بن سفيان: كان ثقةً حافظًا. وقال الإسماعيلي: لا يحتج به. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن صالح: له أشياء يخالف فيها. وقال إبراهيم الحربي: ثقة. وقال الساجيّ: صدوق يَهِم، كان أحمد يقول: يحيى بن أيوب يخطىء خطأً كثيرًا. وقال الحاكم أبو أحمد: إذا حدّث من حفظه بخطىء، وما حدث من كتاب فليس به بأس وذكره العقيليّ في "الضعفاء"، وحَكَى عن

أحمد أنه أنكر حديثه، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة في القراءة في الوتر. وكذا نقل ابن عدي، ثم قال: ولا أرى في حديثه إذا رَوَى عن ثقة حديثًا منكرًا، وهو عندي صدوق، لا بأس به. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا. 4 - (سَهْلِ بْنُ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ) الجُهنيّ الشاميّ، نزيل مصر، لا بأس به إلا في روايات زَبّان عنه [4]. رَوَى عن أبيه، وعنه يزيد بن أبي حبيب، وأبو مرحوم، عبد الرحيم بن ميمون، وفَرْوة بن مجاهد، وإسماعيل بن يحيى المعافري، وزَبّان بن فائد، والليث بن سعد، ويحيى ابن أيوب، وغيرهم. قال أبو بكر بن أبي خيثمة عن ابن معين: ضعيف. وذكره ابن حبان في "الثقات"، لكن قال: لا يُعتبر حديثه، ما كان من رواية زَبّان بن فائد عنه. وذكره في "الضعفاء"، وقال منكر الحديث جدّا، فلست أدري أوقع التخليط في حديثه منه، أو من زَبّان، فإن كان من أحدهما، فالأخبار التي رواها ساقطة، وإنما اشتبه هذا؛ لأن راويها عن سهلٍ زَبّانُ إلا الشيء بعد الشيء، وزَبّان ليس بشيء. وقال العجلي: مصري تابعي ثقة. أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائي، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (240) و (1116) و (2824) و (3285) و (4186). 5 - (أَبُوهُ) معاذ بن أنس الْجُهَنيّ الأنصاري، صحابيّ نَزَلَ مصر، رَوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن أبي الدرداء، وكعب الأحبار، وعنه ابنه سهل بن معاذ، ولم يرو عنه غيره، وهو لَيِّنُ الحديث (¬1)، إلا أن أحاديثه حسان في الفضائل والرغائب، وقال ابن يونس: صحابي كان بمصر والشام، وذكر العسكري: ما يدل على أنه بقي إلى خلافة عبد الملك ¬

_ (¬1) الظاهر أن هذا الوصف لسهل، لا لمعاذ، فإنه صحابيّ، فتأمل.

ابن مروان، وفي "معجم البغوي" من طريق فَرْوَة بن مجاهد، عن سهل بن معاذ: غزوت مع أبي الصائفة في زمان عبد الملك، وعلينا عبد الله بن عبد الملك، فقام أبي في الناس، فذكر حديثًا: فيه أنه غزا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-. أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، وهي المذكورة في الترجمة السابقة. والله تعالى أعلم بالصواب. شرح الحديث: (عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ، عَن أَبِيهِ) -رضي الله عنه- (أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: مَنْ) شرطيّة، ويحتمل أن تكون موصولة (عَلَّمَ) بتشديد اللام، من التعليم، وقال السنديّ، ويحتمل أنه من العلم انتهى، لكن الظاهر الأول (عِلْمًا) نكّره؛ ليعم قليله وكثيره، أي سواء علم كثيرًا أو قليلًا، وقد سبق أن المراد بالعلم هو العلم الشرعيّ، علم الكتاب والسنة، فلا يتناول العلم الدنيويّ، فتنبّه لذلك (فَلَهُ أَجْرُ) أي مثلُ أجر (مَن عَمِلَ بِهِ) أي بذلك العلم؛ لأن مَنْ سنّ سنّة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها، كما سبق (لَا ينقص) علي بناء الفاعل، وضيمره للأجر، أي لا ينقُصُ ذلك الأجرُ (مِنْ أَجْرِ الْعَامِلِ) "من" زائدة، أي أجرَهَ، ويحتمل أن يكون مفعول "ينقص" محذوفًا، أي لا ينقص شيئًا من أجر العامل، ويحتمل أن يكون بالبناء للمفعول، و"من" زائدة، و"أجر" نائب الفعل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. قال الجامع عفا الله عنه: حديث معاذ بن أنس -رضي الله عنه- هذا من أفراد المصنّف، وإسناده ضعيف؛ للانقطاع بين يحيى ابن أيوب، وبين سهل بن معاذ، قال في "تحفة الأشراف": يحيى بن أيوب لم يُدرك سهل بن معاذ بن أنس، قال: وقد رواه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن ابن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن زبّان بن فائد، عن

سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه به. انتهى (¬1). فتبيّن بهذا أنه من رواية زبّان، عن سهل، وقد تقدّم أَن رواية سهل إذا كانت عن طريق زبّان عنه، فإنها ضعيفة ساقطة، كما بينه ابن حبان في كلامه السابق. وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله، وقال فيما كتبه على "صحيح الترغيب والترهيب" 1/ 143: وسنده محتملٌ للتحسين، ويشهد له حديث: "من سنّ في الإسلام سنّةً حسنةً. . . ." الحديث، وما في معناه. قال الجامع: أما ظاهر إسناد المصنّف، فنعم، ولكنه العلّة المذكورة، وهي الانقطاع، تمنع من التحسين، ولا سيما وقد عُرِف الواسطة، وهو زبان بن فائد، وقد عرفت أن روايته عن سهل واهية، وأما أن يشهد له الحديث المذكور، فنعم. والحاصل أن تحسينه لشواهده ليس ببعيد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 241 - (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي كَرِيمَةَ الحرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَني زَيْدُ بْنُ أَبِي أُنيْسَةَ، عَنْ زيْدِ بْنِ أَسلَمَ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "خَيْرُ مَا يُخْلِّفُ الرَّجُلُ مِنْ بَعْدِهِ ثَلَاثٌ: وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ، وَصَدَقَةٌ تَجرِي يَبْلُغُهُ أَجْرُهَا، وَعِلْمٌ يُعْمَلُ بِهِ مِنْ بَعْدِهِ"). رجال هذا الإسناد: سبعة: 1 - (إِسَماعِيلُ بْنُ أَبِي كَرِيمَةَ الحرَّانِيُّ) هو: إسماعيل بن عُبيد بن عُمر بن أبي كريمة، الأمويّ مولاهم، أبو أحمد الحرّانيّ، نُسب في رواية المصنّف لجدّه، ثقةٌ، يُغرب [11]. رَوى عن محمد بن سلمة الحراني، ويزيد بن هارون، وشبابة بن سَوّار، وغيرهم. ورَوى عنه النسائي في "اليوم والليلة"، وابن ماجه، وروى النسائي في "السنن" ¬

_ (¬1) "تحفة الأشراف" 8/ 395 - 396.

عن زكريا السَّجْزي، وابن وَارَة عنه، ورَوَى عنه عبد الله بن أحمد، وبَقِيّ بن مَخْلد، وغيرهم. قال الدارقطني: ثقة. وقال أبو بكر الجِعَابي: يُحَدِّث عن محمد بن سلمة بعجائب. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال مات سنة (240). وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (241) و (990) "إني لأسمع بكاء الصبيّ. . .". 2 - (مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ) بن عبد الله الباهليّ مولاهم، أبو عبد الله الحرّانيّ، ثقة [9]. رَوى عن خاله أبي عبد الرحيم خالد، ومحمد بن إسحاق، وخُصيف، وابن عجلان، وهشام بن حسان، والزبير بن خِرِّيت، وغيرهم. ورَوى عنه أحمد بن حنبل، وعبد الله بن محمد، أبو جعفر النُّفَيلي، وأحمد بن أبي شعيب الحَرّانيّ، وعمرو بن خالد، والعلاء بن هلال، وغيرهم. قال النسائي: ثقة. وقال أبو عروبة: أدركنا الناسَ لا يَختلفون في فضله وحفظه. وقال العجليّ: ثقةٌ أرفع من عَتَّاب بن بشير. وقال ابن سعد: كان ثقةً فاضلًا عالِمًا له فضلٌ، وروايةٌ وفتوى، مات في آخر سنة (191)، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة إحدى أو اثنتين وتسعين ومائة، وقال العقيليّ: مات سنة اثنتين، وقال أبو موسى: مات سنة ثلاث وتسعين. أخرج له البخاري في "جزء القراءة"، ومسلم (¬1)، والأربعة، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا. 3 - (أَبُو عَبْدِ الرَّحِيمِ) هو: خالد بن يزيد، ويقال: ابن أبي يزيد -وهو المشهور- ابن سِمَاك بن رُسْتُم، قاله أبو عَرُوبة، وقال الدارقطنيّ: ابن سَمّاك -بفتح السين، ¬

_ (¬1) ونقل في "تهذيب التهذيب" 3/ 576: ما نصّه: وفي "الزهرة" روى عن مسلم اثني عشر حديثًا.

وتشديد الميم، وباللام- الأمويّ مولاهم الْحَرَّانيّ، ثقة [6]. روى عن زيد بن أبي أنيسة، وعبد الوهاب بن بُخْت، ومكحول الشامي، وعِدّة. وروى عنه ابن أخته محمد بن سلمة الحراني، وموسى بن أعين، ووكيع، وغيرهم. قال أحمد، وأبو حاتم: لا بأس به. وقال ابن الجنيد عن ابن معين: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: حَسَنُ الحديث، متقن فيه. وقال أبو القاسم البغوي: كان ثقةً. قال محمد بن سلمة: مات سنة (144). أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. [تنبيه]: لم يرمز لابن ماجه في ترجمة أبي عبد الرحيم هذا في "تهذيب الكمال"، وفي "تهذيب التهذيب"، ولا في "التقريب"، ولا في "الخلاصة"، وهذا من غريب ما اتفقوا عليه، مع أن الحافظ المزيّ ذكره في "تحفة الأشراف" 9/ 248 فتنبّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. 4 - (زيدُ بْنُ أَبِي أُنيْسَةَ) واسمه زيد الْغَنَويّ مولاهم الْجَزريّ، أبو أُسامة، أصله من الكوفة، ثم سَكَنَ الرُّهَا، ثقة له أفراد [6]. روى عن أبي إسحاق السبيعي، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء بن السائب، وأبي الزبير، وأبي الزناد، والحكم بن عتيبة، وسعيد بن أبي بردة، وزيد بن أسلم، وغيرهم. وروى عنه مالك، ومِسْعَر، ومعقل بن عبيد الله، وأبو عبد الرحيم الحراني، وعبيد الله بن عَمْرو الرَّقِيّ، وهو راويته، وغيرهم. قال ابن معين: ثقة. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال عَمْرو بن عبد الله الأودي: ثنا وكيع، وجعفر بن بُرْقان، عن زيد بن أبي أنيسة، وكان ثقة. وقال ابن سعد: كان يسكن الرُّهَا، ومات بها، وكان ثقةً كثير الحديث، فقيهًا، راويةً للعلم. وقال عُبيد الله بن عمرو: أتيت الأعمش، فحدثني عشرة أحاديث فاستزدته فأبى، فقيل له: إنه

صاحب زيد بن أبي أنيسة، قال: فحدثني بنحو خمسين حديثًا. وقال العجلي: ثقة. وقال الآجري عن أبي داود: ثقة. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة. وحكى العقيليّ عن أحمد أنه قال: حديثه حسن مقارب، وإن فيها لبعضَ النُّكْرة، وهو على ذلك حسن الحديث. وقال المرُّوذيّ: سألته عنه، فحَرَّك يده، وقال: صالحٌ، وليس هو بذاك. وذكر ابن خلفون أنّ الذُّهْليّ، وابن نمير، والْبَرْقيّ وَثَّقُوه. قال ابن سعد: سمعت رجلًا من أهل حَرّان يقول: مات سنة تسع عشرة ومائة، وقال محمد بن عمر: مات سنة خمس وعشرين ومائة، وقال غيره: سنة أربع وعشرين ومائة، وذكر ابن زَبْر أنه وُلد سنة إحدى وتسعين. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (125)، وهو ابن (36) سنة، وكان فقيهًا وَرِعًا. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (241) وحديث (1375) "أما صلاة الرجل في بيته. . .". 5 - (زيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) / 13. 6 - (عَبْدُ الله بْنُ أَبِي قَتَادَةَ) الأنصاريّ السَّلَميّ، أبو إبراهيم، ويقال: أبو يحيى المدنيّ، ثقة [3]. روى عن أبيه، وجابر، وعنه ابنه ثابت، ويحيى بن أبي كثير، وزيد بن أسلم، وحصين بن عبد الرحمن، وسعيد بن أبي سعيد المقبري، وعبد العزيز بن رفيع، وغيرهم. قال النسائي: ثقة. وقال الهيثم بن عديّ: توفي في خلافة الوليد بن عبد الملك. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة تسع وتسعين، وقال غيره: وسبعين بتقديم السين، وهو وَهَمٌ ظاهر. وفي كتاب ابن سعد: تُوُفّي في خلافة الوليد، وكان ثقةً، قليل الحديث، وقال البخاري: روى عنه ابنه قتادة بن عبد الله وكذا ذكر البخاري في "التاريخ". أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث، برقم (241) و (310) و (819) و (829) و (991) و (1126) و (2407) و (3093) و (3397).

7 - (أَبُوهُ) أبو قتادة الحارث بن رِبْعيّ، وقيل في اسمه غير ذلك الصحابي المشهور، فارس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- 4/ 35، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سباعيّات المصنّف. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، فمن أفراده، وأخرج له النسائيّ في "عمل اليوم والليلة"، وهو ثقة. 3 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه. 4 - (ومنها): أن صحابيَّه -رضي الله عنه- يُلقّب بأنه فارس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "خير فرساننا أبو قتادة"، وذلك في قصّة طويلة ساقها الشيخان، وغيرهما من حديث سلمة ابن الأكوع حينما أغير على لقاح النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وهي قصّة مشهور، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ الله بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ) -رضي الله عنه- أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "خَيْرُ مَا) موصولة، أي الذي (يُخَلِّفُ) بتشديد اللام، من التخليف، أي أخّره، وتركه (الرَّجُلُ مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد موته (ثَلَاثٌ) ذكره باعتبار خصال، أي ثلاث خصال (وَلَدٌ) بدل تفصيل من "ثلاث"، أو خبر لمحذوف، أي أحدها، ويحتمل أن يكون منصوبًا بفعل مقدّر، أي أعني، على لغة ربيعة (صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ) أي فيصل إليه آثار دعائه، كما يصل إليه صلاحه (وَصَدَقَةٌ) بإعراب ما قبله (تَجْرِي) أي يستمرّ نفعلها، ولا تنقطع، كالوقف في وجوه الخير، وما أوصى به من الصدقة المستمرّ نفعها (يَبْلُغُهُ) بفتح أوله، وضم ثالثه، من باب قعد، أي يصل إليه (أَجْرُهَا) أي أجر انتفاع الفقراء بها (وَعِلْمٌ) تقدّم أن المراد بالعلم في مثل هذا المقام هو علم الشريعة، علم الكتاب والسنة، وما يوصل إليهما، فلا تدخل فيه علوم الدنيا؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يُبعث بها، فقد قال -صلى الله عليه وسلم- في شأن تأبير النخل: "أنتم أعلم بأمر دنياكم"، كما في "صحيح مسلم". وفي رواية المصنّف (2471) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمع أصواتا، فقال: "ما هذا الصوت؟ "

قالوا: النخل يؤبرونها، فقال: "لو لم يفعلوا لصلح"، فلم يؤبروا عامئذ، فصار شِيصًا، فذكروا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "إن كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإن كان من أمور دينكم فإليّ"، فدلّ على أن مهمة رسالته -صلى الله عليه وسلم- هي بيان علم الشريعة (يُعْمَلُ بِهِ) بالبناء للمفعول، أي يعمل به الناس (مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد موته، كأن يترك مصنفًا أو يُعلّم الناس، ثم يقوم هؤلاء بنشر علمه، وقال التاج السبكي رحمه الله: حمل العلم المذكور على التأليف أقوى؛ لأنه أطول مدّةً، وأبقى على ممرّ الزمان، ورأيت من تكلّم على هذا الحديث في كُرّاسة، قال الأخنائيّ في "كتاب البُشرى بما يَلحَق الميت من الثواب في الأخرى": قوله: "وعلم يُنتفَع بّه"، هو ما خلّفه من تعليم، أو تصنيف، ورواية، وربّما دخل في ذلك نَسْخُ الكتب، وتسطيرها، وضبطها، ومقابلتها، وتحريرها، والإتقان لها بالسماع، وكتابة الطبقات، وشراء الكتب المشتملة على ذلك، ولكن شرطه أن يكون يكون منتفعًا به، انتهى (¬1)، وهو تحقيق نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي قتادة -رضي الله عنه- هذا صحيح. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (42/ 241) بهذا الإسناد فقط، ولم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (ابن خزيمة) في "صحيحه" (2495) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (93)، وذكر في "تحفة الأشراف" (9/ 248) أن النسائيّ أخرجه في "عمل اليوم والليلة"، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: ¬

_ (¬1) راجع "زهر الربى في شرح المجتبي" للسيوطيّ 6/ 251 - 252.

1 - (منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان فضل معلّم الناس الخير، وهو واضح. 2 - (ومنها): أن أعمال العبد تنقطع بعد موته، كما ثبت في الحديث الآخر: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة. . ." الحديث، أخرجه مسلم. 3 - (ومنها): أن هذه الخصال الثلاث إنما جرى عملها بعد الموت على من نُسِبت إليه؛ لأنه تسبّب فيها، وحَرَصَ عليها، ونواها، ثم إن فوائدها متجدّدة بعده، دائمة، فصار كأنه باشرها بالفعل، وكذلك حكم كلّ ما سنّه الإنسان من الخير، فتكرّر بعده، بدليل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من سنّ في الإسلام سنّة حسنة، كان له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة"، رواه مسلم. 4 - (ومنها): أنه إنما خصّ هذه الثلاث بالذكر في هذا الحديث؛ لأنها أصول الخير، وأغلب ما يَقصِدُ أهلُ الفضل بقاءها. 5 - (ومنها): أن الصدقة الجارية هي الْحُبُس، أي الوقف، وفيه حجة على من يُنكر الْحُبُس. 6 - (ومنها): أن فيه ما يدلّ على الحضّ على تخليد العلوم الدينيّة بالتعليم، والتصنيف. 7 - (ومنها): أن فيه الترغيب في الزواج؛ لرجاء الولد الصالح الذي يقوم بالدعاء لوالديه بعد موتهما. 8 - (ومنها): الحضّ على الاجتهاد في تربية الأولاد تربية حسنة، والاجتهاد في حملهم على طريق الخير والصلاح، ووصيّتهم بالدعاء له عند موته. 9 - (ومنها): أن الدعاء يصل إلى الميت، وكذلك الصدقة، وهما مما أجمعوا عليه، وكذلك قضاء ديونه، واختُلف في الحجّ، والصواب أنه يصل إليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. [تنبيه]: لمّا وجد أبو الحسن القطّان سندًا أعلى من سند المصنّف، وذلك أنه كان

يصل إلى زيد بن أبي أُنيسة من طريق المصنّف بأربع وسائط: المصنّف، وإسماعيل، ومحمد بن سلمة، وأبو عبد الرحيم، فوصل إليه من طريق أبي حاتم بثلاث وسائط: أبو حاتم، ومحمد بن يزيد، وأبوه، ذكر ذلك بقوله: (قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: وَحَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ الرَّهَاوِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ ابْنُ سِنَانٍ -يَعْنِي أَبَاهُ- حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَبِي أُنيْسَةَ، عَنْ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَذَكَرَ نَحْوَهُ). رجال هذا الإسناد تقدّموا في السند الماضي، غير خمسة: 1 - (أَبُو الْحسَنِ) هو علي بن إبراهيم بن سلمة بن بحر الحافظ الْقَزوينيّ، تلميذ المصنّف، تقدّمت ترجمته في مقدّمة هذا الشرح. 2 - (أَبُو حَاتِمٍ) هو: محمد بن إدريس بن المنذر الإمام الحافظ الحجة النيسابوريّ، إمام الجرح والتعديل [11] 9/ 70. 3 - (مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ الرُّهَاوِيُّ) أبو عبد الله ابن أبي فَرْوة الجْزَريّ، مولى بني طُهَيَّة، من بني تميم، ليس بالقويّ [9]. روى عن أبيه، وجده، ومعقل بن عبيد الله، وابن أبي ذئب، وغيرهم. وروى عنه أبو فروة يزيد، وأبو حاتم، وابن وارة، والمغيرة بن عبد الرحمن الحراني، وغيرهم. قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: ليس بشيء، هو أشد غفلةً من أبيه، مع أنه كان رجلًا صالحًا، لم يكن من أحلاس الحديث، صدوق، وكان يرجع إلى سِترٍ وصلاح، وكان النُّفَيليُّ يرضاه. وقال البخاري: أبو فروة مقارب الحديث، إلا أن ابنه محمدًا يروي عنه مناكير. وقال الآجري عن أبي داود: أبو فروة الجزري ليس بشيء، وابنه ليس بشيء. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال الترمذي: لا يتابع على روايته، وهو ضعيف. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال مسلمة: ثقة، وكذا الحاكم وَثَّقه، فيما رواه عنه مسعود.

وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مولده سنة اثنتين وثلاثين ومائة، ومات سنة عشرين ومائتين. أخرج له النسائيّ في "مسند عليّ"، والمصنّف في "التفسير"، وليس له في هذا الكتاب إلا في رواية أبي الحسن تلميذ المصنّف. [تنبيه]: وقع في النسخ الهنديّة، والمصريّة هنا غلط، حيث كُتب فيها: "وحدثنا أبو حاتم محمد بن يزيد إلخ"، والصواب ما هنا "وحدثنا أبو حاتم، قال: حدّثنا محمد بن يزيد"، كما في "مصباح الزجاجة" 1/ 104 و"تحفة الأشراف" 9/ 248، فتنبّه، والله تعالى أعلم. 4 - (يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ) بن يزيد التميميّ الْجَزَريّ، أبو فَرْوة الرُّهاويّ، ضعيفٌ، من كبار [7]. روى عن الأعمش وسليم بن عامر، والزهري، وزيد بن أبي أنيسة، وغيرهم. وروى عنه ابنه محمد، وشعبة، ومروان بن معاوية، وأبو خالد الأحمر، وغيرهم. قال أحمد بن أبي يحيى عن أحمد بن حنبل: ضعيف. وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء، وقال ابن المديني: ضعيف الحديث. وقال ابن أبي خيثمة عن يحيى بن أيوب المقابري: كان مروان بن معاوية يُثَبِّته. وقال أبو حاتم: محله الصدق، وكان الغالب عليه الغفلة، يكتب حديثه، ولا يحتج به. وقال البخاري: مقارب الحديث، إلا أن ابنه محمدًا يَروي عنه مناكير. وقال الآجريّ عن أبي داود: ليس بشيء، وابنه ليس بشيء. وقال النسائي: ضعيف، متروك الحديث، وقال مرة: ليس بثقة. وقال ابن أبي داود: لم يرو شعبة عنه غير حديث واحد، وفي حديثه لين. وقال ابن عديّ: ولأبي فروة هذ حديث صالح، ورَوَى عن زيد بن أبي أنيسة نسخة تفرد بها عنه بأحاديث، وله عن غير زيد أحاديث مسروقة عن الشيوخ، وعامة حديثه غير محفوظ. وقال الدارقطني: ضعيف. وذكره يعقوب بن سفيان في "باب من يُرغَب عن الرواية عنهم". وقال الجوزجاني: فيه لين وضعف.

وقال أبو زرعة: ليس بقوي. وقال محمد بن عبد الله بن عَمّار الأزدي: منكر الحديث. وقال الحاكم: روى عن الزهري، ويحيى بن أبي كثير، وهشام بن عروة المناكير الكثيرة. وقال العقيليّ: لا يتابع على حديثه. وقال أبو عروبة: حدثني أبو فروة -يعني يزيد بن محمد بن يزيد بن سنان، سمعت أبي يقول: مات يزيد بن سنان سنة خمس وخمسين ومائة، وكان مولده سنة تسع وستين. 5 - (فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ) بن أبي المغيرة، واسمه رافع، ويقال: نافع بن حُنَين الْخُزاعيّ، أو الأسلمي، أبو يحيى المدنيّ، مولى آل زيد بن الخطاب، ويقال: فُلَيح لقبٌ غَلَب عليه، واسمه عبد الملك، صدوق، كثير الخطأ [7]. رَوَى عن أبي طُوالة والزهري، ونافع مولى ابن عمر، وهشام بن عروة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ونُعيم بن عبد الله المُجمر، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وغيرهم. ورَوَى عنه زياد بن سعد، وهو أكبر منه، وزيد بن أبي أنيسة، ومات قبله، وابنه محمد بن فُليح، وابن المبارك، وابن وهب، وأبو عامر العقدي، وغيرهم. قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ضعيفٌ، ما أقربه من أبي أويس. وقال الدوري عن ابن معين: ليس بالقوي، ولا يُحتجّ بحديثه، وهو دون الدراوردي. وقال أبو حاتم: ليس بقوي. وقال الآجري: قلت لأبي داود: أبلغك أن يحيى بن سعيد كان يَقْشَعِرُّ من أحاديث فليح؟ قال: بلغني عن يحيى بن معين قال: كان أبو كامل مُظَفَّر بن مُدْرِك يتكلم في فليح، قال أبو كامل: كانوا يرون أنه يتناول رجال الزهري، قال أبو داود: وهذا خطأ عسى يتناول رجال مالك. وقال الآجري: قلت لأبي داود: قال ابن معين: عاصم بن عبيد الله، وابن عَقِيل، وفُلَيح لا يُحتَجُّ بحديثهم، قال: صدق. وقال النسائي: ضعيف، وقال مرّةً: ليس بالقوي. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالمتين عندهم. وقال الدارقطني: يختلفون فيه، وليس به بأس. وقال ابن أبي شيبة: قال علي بن المديني: كان فُليح وأخوه عبد الحميد

ضعيفين. وقال الْبَرْقيّ عن ابن معين: ضعيفٌ، وهم يَكتبون حديثه، ويشتهونه. وقال الساجي: هو من أهل الصدق، ويَهِمُ. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الحاكم أبو عبد الله: اتفاق الشيخين عليه يُقَوِّي أمره. وقال الرَّمْلِيّ عن أبي داود: ليس بشيء. وقال الطبري: ولاه المنصور على الصدقات؛ لأنه كان أشار عليهم بحبس بني حسن لمّا طلب محمد بن عبد الله بن الحسن. وقال ابن عديّ: لفليح أحاديث صالحة، يروي عن الشيوخ من أهل المدينة أحاديث مستقيمة وغرائب، وقد اعتمده البخاري في "صحيحه"، وروى عنه الكثير، وهو عندي لا بأس به. قال البخاري: قال سعيد بن منصور: مات سنة ثمان وستين ومائة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث، برقم (2241) و (252) و (863) و (1130) و (1518) و (3432) و (3442). وقوله: (فَذَكَرَ نَحْوَهُ) الظاهر أن الضمير ليزيد بن سنان، أي ذكر يزيد نحو رواية أبي عبد الرحيم السابقة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه وحمه الله في أول الكتاب قال: 242 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَهْب بْنِ عَطِيَّةَ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا مَرْزُوقُ بْنُ أَبِي الهُذَيْلِ، حَدَّثَني الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَني أَبُو عَبْدِ الله الْأَغَرُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ المُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ، في صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ"). رجال هذا الإسناد: سبعة: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى) الذهليّ الإمام المشهور المذكور قبل بابين. 2 - (مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبِ بْنِ عَطِيَّةَ) ويقال: محمد بن وهب بن سعيد بن عطيّة بن معبد

السُّلَميّ، أبو عبد الله الدمشقيّ، صدوق [10]. روى عن الوليد بن مسلم، وبقيّة، وضَمْرة بن ربيعة، ومحمد بن حرب، وغيرهم. وروى عنه الجوزجانيّ، ومحمد بن يحيى الذهليّ، وأبو حاتم الرازيّ، وغيرهم. قال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال الدارقطنيّ: ثقة. وقال ابن عديّ: له غير حديث منكر، ولم أر للمتقدّمين فيه كلامًا، وقد تكلّموا فيمن هو خير منه. وأورد الدارقطنيّ الحديث الذي أنكره ابن عدي في "غرائب مالك"، ثم قال: ومحمد بن وهب، ومن دونه ليس بهم بأس، وأخاف أن يكون دخل لبعضهم حديث في حديث. وقال في "الزهرة": روى عنه البخاريّ حديثين. تفرد به البخاريّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 3 - (الْوَليدُ بْنُ مُسْلِمٍ) القرشيّ مولاهم، أبو العباس الدمشقيّ، ثقة، لكنه كثير التدليس والتسوية [8] 6/ 42. 4 - (مَرْزُوقُ بْنُ أَبِي الهُذَيْلِ) الثقفيّ، أبو بكر الدمشقيّ، صدوقٌ في حديثه لين (¬1) [7]. رَوَى عن الزهري، وعنه الوليد بن مسلم، قال أبو حاتم: سمعت دُحيمًا يقول: هو صحيح الحديث عن الزهري. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: حديثه صالح. وقال أبو بكر بن خزيمة: ثقة. وقال البخاري: تَعْرِف وتُنْكِر. وقال ابن عديّ: ما أعلم رَوَى عنه غير الوليد بن مسلم، وأحاديثه يَحمِل بعضُها بعضًا، ويُكتَب حديثه. وقال ابن حبان: يتفرد عن الزهري بالمناكير التي لا أصول لها، فكَثُر وَهْمُهُ، فسَقَط الاحتجاج بما انفرد به. وذكره ¬

_ (¬1) هكذا قلت، وهذا هو الأولى من قوله في "التقريب": "ليّن الحديث"؛ لأن الأكثرين على توثيقه، فتأمل ترجمته.

الْعُقَيلي في "الضعفاء"، وذَكَر حديثًا خولف في سنده. وقال الآجري: سألت أبا داود عنه، فكره الجواب فيه. أخرج له أبو داود في "الناسخ والمنسوخ"، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 5 - (الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم الإمام الحجة المجتهد المشهور [4] 2/ 15. 6 - (أَبُو عَبْدِ الله الْأَغَرُّ) هو: سلمان مولى جهينة، أصله من أصبهان، ثقة، من كبار [3]. روى عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي الدرداء، وعمار، وأبي أيوب، وأبي سعيد الخدري، وأبي لبابة بن عبد المنذر، وعبد الله بن إبراهيم بن قارظ. وروى عنه بنوه: عبد الله، وعبيد الله، وعبيد، وزيد بن رَبَاح، والزهري، وبكير ابن الأشجّ، وعمران بن أبي أنس، وأبو بكر بن حزم، وغيرهم. قال حجاج عن شعبة: كان الأغر قاصّا من أهل المدينة، وكان رضًا. وقال الواقدي: سمعت ولده يقولون: لَقِي عمر بن الخطاب، ولا أُثبت ذلك عن أحد غيرهم، وكان ثقةً، قليل الحديث. وقال عبد الغني بن سعيد في "الإيضاح": سلمان الأغر مولى جهينة هو أبو عبد الله الأغر الذي رَوَى عنه الزهريّ، وهو أبو عبد الله المدني، مولى جهينة، وهو أبو عبد الله الأصبهاني الأغر، وهو مسلم المديني الذي يُحدّث عنه الشعبي، وقال قوم: هو الأغر، أبو مسلم الذي يَروِي عنه أهل الكوفة. وقال ابن أبجر: هو الأغر بن سُليك، ولا يصح ذلك، الأغر بن سُليك آخر. انتهى. ومسلم المديني الذي يروي عنه الشعبي آخر، وكذا الأغر أبو مسلم الذي يروي عنه أهل الكوفة، وأن حديثه عند أهلها، دون أهل المدينة، وهو مولى أبي هريرة وأبي سعيد، وهذا مولى جهينة، والله أعلم. وممن فرق بينهما البخاري، ومسلم، وابن المديني، والنسائي، وأبو أحمد الحاكم،

وغيرهم، والأغر أبو عبد الله هذا ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن عبد البر: هو من ثقات تابعي أهل الكوفة، قال ابن خلفون: وثقه الذُّهْلِيّ. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (242) و (1335) و (1366) و (1404). 7 - (أَبُو هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- 1/ 1. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ مِمَّا) الجارّ والمجرور خبر مقدّم لـ"إنّ"، و"ما" موصولة، أي من الذي (يَلْحَقُ) بفتح أوله، وثالثه، من باب عَلِمَ (المُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ، وَحَسَنَاتِهِ) من عطف الخاصّ على العامّ، عطفه عليه؛ ليبيّن أن المراد أعماله الحسنة؛ إذ المراد بلحوقها إياه انتفاعه بثوابها، وأما الأعمال السيّئة، وإن لحقته، لكنه لا ينتفع بها (بَعْدَ مَوْتِهِ، عِلْمًا) بالنصب على أنه اسم "إنّ " مؤخّرًا (عَلَّمَهُ) بتدريسه للناس (وَنَشَرَهُ) بالتصنيف، والكتابة، ونحو ذلك (وَوَلَدًا) عَدُّ الولد من العمل صحيح؛ لأن الوالد سبب في وجوده، وسبب في صلاحه بإرشاده إلى الهدى، كما جُعل نفس العمل في قوله تعالى: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46]، ولأنه -صلى الله عليه وسلم- جعله من كسب الرجل، كما سيأتي للمصنّف بسند صحيح من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أطيب ما أكلَ الرجلُ من كسبه، وإن ولده من كسبه"، فسماه كسبًا (صَالِحًا) قيّده به؛ لأن الصالح هو الذي تستجاب دعوته، وتقبل أعماله، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]. وقَال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] (تَرَكَهُ) أي بقي حيّا بعد موته (وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ) من التوريث، أي تركه إرثًا لمن بعده، وهذا مع ما بعده من قبيل الصدقة الجارية حقيقةً، أو حكمًا، فهذا الحديث كالتفصيل لحديث: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث. . ." (أَوْ) للتنويع والتفصيل، وليست للشك من

الراوي (مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ) أي للمسافر، سمّي به؛ لملازمته للسبيل (بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا) بفتح الهاء، وسكونها لغتان (أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ، في صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ) أي أخرجها في زمان كمال حاله، ووفور افتقاره إلى ماله، وتمكّنه من الانتفاع به، وهذا على سبيل الأفضليّة، وإلا فكون الصدقة جارية لا يتوقّف على ذلك. وقوله: (يَلْحَقُهُ) الضمير للأشياء السابقة، باعتبار المذكور (مِنْ بَعْدِ مَوْتهِ) أي يلحقه ثواب هذه الأشياء بعد موته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا أخرجه مسلم. قال البوصيريّ: هذا إسناد مختلف فيه (¬1)، وقد رواه ابن خزيمة في "صحيحه" عن محمد بن يحيى الذهليّ به. ورواه مسلم في "صحيحه"، وأبو داود، في "سننه"، والترمذيّ في "جامعه"، والنسائيّ في "الصغرى" من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه به مرفوعًا بلفظ: "إذا مات الإنسان، انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له". وقال الترمذيّ: حديث حسنٌ صحيح. وله شاهد من حديث أنس بن مالك، رواه البزار في "مسنده"، وأبو نُعيم في "الحلية"، والبيهقيّ، ورواه أيضًا من حديث أبي أيوب الأنصاريّ. انتهى كلام البوصيريّ (¬2). والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) أي للكلام في مرزوق بن أبي الهذيل، لكن الأكثرون على توثيقه، كما سبق في ترجمته، فأقل أحواله أن يكون حسن الحديث، ثم إن حديثه هذا أخرجه مسلم في "صحيحه" بنحوه، فهو صحيح. (¬2) "مصباح الزجاجة" 1/ 105.

(المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (42/ 242) بهذا السند فقط، وأخرجه (مسلم) (5/ 73) و (أبو داود) (2880) و (الترمذيّ) (1376) و (النسائيّ) (6/ 251) من طريق العلاء بن عبد الرحمن، كما سبق آنفًا و (ابن خزيمة) في "صحيحه" (2490) من طريق المصنّف، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان ثواب معلّم الناس الخير، وهو واضح. 2 - (ومنها): بيان فضل الله على عباده المؤمنين، حيث جعل بعض أعمالهم لا تنقطع بعد الموت، بل جعلها جارية ما دام أثَرَهَا قائمًا. 3 - (ومنها): الترغيب إلى الصدقة في الحياة والصحّة؛ لكونه أفضل أنواع الصدقة، فقد أخرج الشيخان في "صحيحيهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رجل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله أَيُّ الصدقة أفضل؟ قال: "أَنْ تَصَدَّقَ وأنت صحيح حَرِيصٌ، تَأْمُل الغنى، وتَخْشَى الفقر، ولا تُمْهِل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان". 4 - (ومنها): أن فيه أن الكتب الموروثة من الشخص تكون من حسناته التي تبقى بعد موته، وإن انتقل ملكه إلى الورثة، فلا يشترط كونها موقوفة، فقد صرّح في هذا الحديث بقوله: "ومصحفًا ورّثه"، وهذا من فضل الله العظيم. [تنبيه]: تتبّع السيوطيّ رحمه الله الأشياء التي ورد في الأحاديث أنها مما يبقى بعد الموت، ونظمها، فقال [من الوافر]: إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ لَيْسَ يَجْرِي ... عَلَيْهِ مِنْ خِصَالٍ غَيْرُ عَشْرِ عُلُومٌ بَثَّهَا وَدُعَاءُ نَجْلٍ ... وَغَرْسُ النَّخْلِ وَالصَّدَقَاتُ تَجْرِي وِرَاثَةُ مُصْحَفٍ وَرِبَاطُ ثَغْرٍ ... وَحَفْرُ الْبِئْرِ أَوْ إِجْرَاءُ نَهْرِ وَبَيْتٌ لِلْغَرِيبِ بَنَاهُ يَأْوِي ... إِلَيْهِ أَوْ بِنَاءُ مَحَلِّ ذِكْر

وتَعْليمٌ لِقُرْآنٍ كَرِيمِ ... فَخُذْهَا مِنْ أَحَادِيثَ بِحَصْرٍ ولبعضهم من [الطويل]: خِصَالٌ عَلَيْهَا الْمرْءُ مِنْ بَعْدِ مَوْتهِ ... يُثَابُ فَلاَزِمْهَا إِذَا كُنْتَ ذَا ذِكرِ رِبَاطٌ بِثَغْرٍ ثُمَّ تَوْرِيثُ مُصْحَفٍ ... وَنَشرٌ لِعِلْمِ غَرْسُ نَخلٍ بِلاَ نُكْرِ وَحَفْرٌ لِبئْرٍ ثُمَّ إِجْراءُ نَهْرِ مَا ... وَبَيْتُ غَرِيبٍ وَالتَّصَدُّقُ إِذْ يَجْرِي وَتَعْلِيمُ قُرْآنٍ وَتَشْيِيدُ مَنْزِلٍ ... لِذِكْرٍ وَنَجْلٌ مُسْلمٌ طّيِّبُ الذِّكْرِ والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 243 - (حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ كاسِبٍ الْمَدّنيُّ، حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ صَفْوانَ بْنِ سُلَيْم عَنْ عُبَيدِ الله بْنِ طَلْحَةَ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْريِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْمُسْلِمُ عِلْمًا، ثمَّ يُعَلِّمَهُ أَخَاهُ المُسْلِمِ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ كَاسِبٍ الْمَدَنِيُّ) ليّن الحديث (¬1) [10] 1/ 9. 2 - (إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن سعيد الصوّاف المدنيّ، مولى مزينة، ليّن الحديث [8]. رَوَى عن صفوان بن سليم، وعبد الله بن ماهان الأزدي، وغيرهما. ورَوى عنه إبراهيم بن المنذر الخزامي، ويعقوب بن حميد بن كاسب، وغيرهما قال أبو زرعة: منكر الحديث، ليس بقوى. وقال أبو حاتم: لين الحديث وذكره ابن حبان في الطبقة الرابعة من "الثقات". وقال الباغندي: عنده مناكير. تفرد به المصنّف (¬2)، وله عنده في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (234) ¬

_ (¬1) هذا أولى من قوله في "التقريب": صدوق ربما وهم؛ لأن الأكثرين على تضعيفه. (¬2) قال الحافظ: وذكر في "النَّبل" أن النسائي رَوَى عنه، ولم أقف عليه. انتهى "تهذيب التهذيب" 1/ 110.

و (2233) و (4136). 3 - (صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ) المدنيّ، أبو عبد الله، وقيل: أبو الحارث القرشي الزهريّ مولاهم الفقيه، ثقة مُفتٍ عابدٌ، رُمي بالقدر [4]. رَوى عن ابن عمر، وأنس، وأبي بُسْرة الغفاري، وعبد الرحمن بن غنم، وأبي أمامة بن سهل، وابن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وغيرهم. وروى عنه زيد بن أسلم، وابن المنكدر، وموسى بن عقبة، وهم من أقرانه، وابن جريج، ويزيد بن أبي حبيب، ومالك، والليث، وإسحاق بن إبراهيم المدني، وغيرهم. قال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث، عابدًا. وقال علي بن المديني عن سفيان: حدثني صفوان بن سليم، وكان ثقة. وقال علي: سمعت يحيى بن سعيد يقول: هو أحب إلي من زيد بن أسلم. وذكر أبو بكر بن أبي الْخَصِيب ذُكر صفونُ بن سُليم عند أحمد، فقال: هذا رجلٌ يُستسقَى بحديثه، ويَنزل القطر من السماء لذكره (¬1). وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقةٌ، من خيار عباد الله الصالحين. وقال العجلي، وأبو حاتم، والنسائي: ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة ثبت مشهور بالعبادة. وقال مالك: كان صفوان يُصَلِّي في الشتاء في السطح، وفي الصيف في بطن البيت، يتيقظ بالحر وبالبرد حتى يُصْبِح. وقال أنس بن عياض: رأيت صفوان، ولو قيل له: غدًا القيامة ما كان عنده مزيد. وقال أبو غسان النَّهْديّ: سمعت ابن عيينة قال: حَلَفَ صفوان أن لا يضَع جنبه بالأرض حتى يَلْقَى الله، فمكث على ذلك أكثر من ثلاثين سنة (¬2). وقال ¬

_ (¬1) قلت: في ثبوت هذا الكلام عن الإمام أحمد نظر؛ لأنه نم يُنقل عنه مثله في خيار الصحابة -رضي الله عنهم-، كأبي بكر الصديق، وعمر، وبقية الخلفاء -رضي الله عنهم-، فكيف يقوله في رجل مطعون بالقدر، فهيهات هيهات أن يثبت مثله عن هذا الإمام السنّيّ المشهور. (¬2) قلت: في عدّ مثل هذا من المفاخر نظر لا يخفى، فإن خير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وكان -صلى الله عليه وسلم- ينام، ويصليّ، فتفطّن.

المفضل الغلابي: كان يَرَى القدر. وقال العجليّ: مدني رجلٌ صالحٌ. وقال ابنُ حبان في "الثقات" كان من عُبّاد أهل المدينة، وزُهّادهم. وقال الكناني: قلت لأبي حاتم: هل رأى صفوان أنسًا؟ قال: لا، ولا تصح روايته عن أنس. وقال أبو داود السجستاني: لم يَرَ أحدًا من الصحابة، إلا أبا أُمامة، وعبد الله بن بُسْر. وقال يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه، عن محمد بن إسحاق: حدثني صفوان بن سليم سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وفيها أَرّخَ وفاته الواقديّ، وابنُ سعد، وخليفة، وأبو عبيد، وابن نمير، وغير واحد، منهم أبو حسان الزيادي، وزاد: وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. وقال أبو عيسى الترمذي: مات سنة (24). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، برقم (234) و (265) و (386) و (1089) و (2233) و (3246) و (4136). 4 - (عُبَيْدُ الله بْنُ طَلْحَةَ) بن عبيد الله بن كَرِيز -بفتح الكاف، وآخره زاي- أبو المطرّف، مقبول [6]. رَوى عن الحسن، ومحمد بن علي الهاشمي، والزهري، وعنه صفوان بن سُليم، ومحمد بن إسحاق، وهارون بن موسى، وحماد بن زيد، وحِبّان بن يسار الكلابي، وعمران القطان. ذكره ابن حبان في "الثقات"، له عند أبي داود حديث في الصلاة عليه -صلى الله عليه وسلم- من رواية حِبّان بن يسار عنه، واختلف فيه على حِبّان، وعند المصنّف هذا الحديث فقط. 5 - (الْحسَنُ الْبَصْرِيُّ) ابن أبي الحسن يسار الأنصاريّ مولاهم، ثقة فقيه فاضل مشهور، يرسل ويدلّس [3] 9/ 71. 6 - (أَبُو هُرَيرَةَ) -رضي الله عنه- 1/ 1. قال الجامع عفا الله عنه: شرح الحديث واضحٌ، وهو من أفراد المصنّف، أخرجه هنا 42/ 243 بهذا السند فقط، وهو ضعيف الإسناد، قال البوصيريّ رحمه الله: هذا إسناد

ضعيف؛ لضعف إسحاق بن إبراهيم (¬1)، والحسن لم يسمع من أبي هريرة -رضي الله عنه-. انتهى (¬2). قال الجامع عفا الله عنه: أما سماع الحسن من أبي هريرة -رضي الله عنه-، فقد سبق الخلاف فيه، وأن الراجح أنه سمع منه قليلًا، فراجع ترجمته 9/ 71، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. ¬

_ (¬1) وأيضًا شيخ المصنف متكلّم فيه. (¬2) "مصباح الزجاجة" 1/ 105 - 106.

43 - باب من كره أن يوطأ عقباه

43 - (بَابُ مَنْ كَرِهَ أنْ يُوطَأْ عَقِبَاهُ) مناسبة هذا الباب لأبواب العلم أنه جرى من عادة المشايخ أن يتقدّموا على تلاميذهم في المشي، فأراد تنبيههم بأن هذا مخلّ بالتواضع، وهدي النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فالأولى تركه، والله تعالى أعلم. وأشار السنديّ إلى أنه وقع في بعض النسخ "أن يوطأ عقبيه" بالياء، فيكون من حذف المضاف، وإبقاء المضاف إليه على حاله، والتقدير "محلّ عقبيه"، هكذا وجهه السنديّ، وفيه نظرٌ؛ لأن شرط ذلك أن يكون المحذوف مماثلًا لما عليه قد عُطف، كقول الشاعر: أَكُلَّ امْرِىٍ تَحسَبِينَ امْرَأً ... وَنَارٍ تَوَقَّدُ بِاللَّيْلِ نَارَا أي "وكلّ نار"، ولا يوجد هذا هنا، فالظاهر أنه من تصحيفات النسّاخ، وإلى هذه القاعدة أشار ابن مالك في "الخلاصة" بقوله: وَرُبَّمَا جَرُّوا الَّذِي أَبْقَوْا كَمَا ... لَوْ كَانَ قَبْلَ حَذْفِ مَا تَقَدَّمَا لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَا حُذِفْ ... مُمَاثِلًا لِمَا عَلَيْهِ قَدْ عُطِفْ والله تعالى أعلم بالصواب. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله تعالى أول الكتاب قال: 244 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُويدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَا رُئيَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يَأْكُلُ مُتَكِئًا قَطُّ، وَلَا يَطَأُ عَقِبَيْهِ رَجُلَانِ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الحافظ الثبت [10] 1/ 1. 2 - (سُويدُ بْنُ عَمْرٍو) الكلبيّ، أبو الوليد الكوفيّ العابد، ثقة، من كبار [10]. رَوَى عن حماد بن سلمة، وزهير بن معاوية الحمصي، وأنس بن حَيّ، وأبي

عوانة، وغيرهم. وروى عنه أحمد بن حنبل، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب، وابن نمير، وسفيان بن وكيع، وعلي بن حرب الطائي، وعِدّة. قال النسائي، وابن مع: ثقة. وقال العجلي: كوفي ثقة ثبتٌ في الحديث، وكان رجلًا صالحًا متعبدًا، ونقل ابن خلفون عن العجلي أنه قال: مات سُويد سنة ثلاث أو أربع ومائتين، قال: ولم يكن بالكوفة أروى عن زهير بن معاوية منه. وقال ابن حبان: كان يقلب الأسانيد، ويضع على الأسانيد الصحاح المتون الواهية. قال الجامع عفا الله عنه: هكذا نقل الحافظ في "التهذيب" 2/ 136كلام ابن حبّان هذا، وسكت عليه، وما كان له أن يسكت، فإن سويدًا وثقه الأئمة: ابن معين، والنسائيّ، والعجليّ، وأخرج له مسلم في "صحيحه"، فكيف يقبل كلام ابن حبان هذا؟. أخرج له مسلم، والترمذيّ، والنسائيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 3 - (حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) أبو سلمة البصريّ، ثقة عابد، من كبار [8] 14/ 116. 4 - (ثَابِتٌ) بن أسلم الْبُنَانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقة عابدٌ [4] 24/ 151. 5 - (شُعَيْبُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو) هو: شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو، نُسب لجدّه هنا الطائفيّ، صدوق [3] 1/ 9. 6 - (أَبُوهُ) هو جدّه عبد الله بن عمرو بن العاص الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما 8/ 52. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سُداسيّات المصنّف. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شعيب، وهو ثقة. 3 - (ومنها): أن حماد بن سلمة أثبت الناس في ثابت البنانيّ، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث: (عَنْ شُعَيْبِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو) تقدّم أنه منسوب إلى جدّه، وأبوه محمد بن عبد الله (عَنْ أَبِيهِ) المراد به جدّه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: مَا رُئِيَ) بالبناء للمفعول (رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَأْكُلُ مُتكِئًا) قال في "الفتح": اختُلِف في صفة الاتكاء، فقيل: أن يتمكن في الجلوس للأكل على أيِّ صفة كان، وقيل: أن يميل على أحد شقيه، وقيل: أن يعتمد على يده اليسرى من الأرض، قال الخطابي: تَحْسَب العامة أن المتكيء هو الآكل على أحد شقيه، وليس كذلك، بل هو المُعْتَمِد على الوطاء الذي تحته، قال: ومعنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إني لا آكل متكئًا": إني لا أقعد مُتكِئًا على الْوِطاء عند الأكل فِعْلَ مَن يستكثر من الطعام، فإني لا آكل إلا الْبُلْغَة من الزاد، فلذلك أَقْعُد مُسْتَوْفِزًا، وفي حديث أنس -رضي الله عنه- "أنه -صلى الله عليه وسلم- أكل تمرًا، وهو مُقْعٍ"، وفي رواية: "وهو محُتْفِزٌ"، والمراد الجلوس على وَرِكَيه غير متمكن، وأخرج ابن عدي بسند ضعيف: "زَجَرَ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يَعْتَمِد الرجل على يده اليسرى عند الأكل". قال مالك: هو نوع من الاتكاء، وفي هذا إشارة من مالك إلى كراهة كُلّ ما يُعَدُّ الأكل فيه متكئًا، ولا يختص بصفة بعينها. وجزم ابن الجوزي في تفسير الاتكاء بأنه الميل على أحد الشقين، ولم يلتفت لإنكار الخطابي ذلك. وحكى ابن الأثير في "النهاية" أن فسّر الاتكاء بالميل على أحد الشقين تأوله على مذهب الطبّ بأنه لا ينحدر في مجاري الطعام سَهْلًا، ولا يُسيغه هنيئًا، وربما تَأَذَّى به. واختلف السَّلَف في حكم الأكل متكئًا، فزعم ابن القاصّ أن ذلك من الخصائص النبوية، وتعقّبه البيهقي، فقال: قد يكره لغيره أيضًا؛ لأنه من فعل المتعظمين، وأصله مأخوذ من ملوك العجم، قال: فإن كان بالمرء مانع لا يتمكن معه من الأكل إلا متكئًا لم يكن في ذلك كراهة، ثم ساق عن جماعة من السلف أنهم أكلوا كذلك، وأشار إلى حمل ذلك عنهم على الضرورة، وفي الحمل نظر.

وقد أخرج ابن أبي شيبة، عن ابن عباس، وخالد بن الوليد، وعَبيدة السَّلْماني، ومحمد بن سيرين، وعطاء بن يسار، والزهري جواز ذلك مُطلقًا. وإذا ثبت كونه مكروهًا، أو خلاف الأولى، فالمستحب في صفة الجلوس للأكل أن يكون جاثيًا على ركبتيه، وظهور قدميه، أو ينصب الرَّجْل اليمني، ويجلس على اليسرى، واستثنى الغزالي من كراهة الأكل مضطجعًا أكل البقل (¬1). واختُلِف في علة الكراهة، وأقوى ما ورد في ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق إبراهيم النخعي، قال: كانوا يكرهون أن يأكلوا اتكاءةً مخافةَ أن تَعْظُم بطونهم، وإلى ذلك يُشير بقية ما ورد فيه من الأخبار، فهو المُعْتَمَدُ، ووجه الكراهة فيه ظاهر، وكذلك ما أشار إليه ابن الأثير من جهة الطبّ. والله أعلم. انتهى ما في "الفتح" (¬2). (قَطُّ) بفتح القاف، وتشديد الطاء المهملة، ظرف مستغرق للزمان الماضي، ملازم للنفي، كما أن "عَوْضُ" ظرف مستغرق للزمان المستقبل، كما في قول الشاعر [من الطويل]: أَعُوذُ بِرَبِّ الْعَرْشِ مِنْ فِئَةٍ بَغَتْ ... عَلَيَّ فَمَا لِي عَوْضُ إِلَّاهُ نَاصِرُ قال في "القاموس": وما رأيته قَطُّ، ويُضمُّ، ويُخَفّفان، وقَطٍّ مشدّدة مجرورة، بمعنى الدهر، مخصوص بالماضي، أي فيما مضى من الزمان، أو فيما انقطع من عمري، وإذا كانت بمعنى "حَسْبُ" "فقط" كـ "عَنْ"، و"قَطٍ" منونًا مجرورًا، و"قَطِي"، وإذا كان اسم فعل بمعنى "يكفي"، فتزاد نون الوقاية، ويقال: "قَطْني". انتهى (¬3). وإلى لغات "قط" الظرفية أشار شيخنا عبد الباسط المِنَاسيّ رحمه الله تعالى بقوله: وَخَمْسَةً جَعَلَ مَنْ "قَطُّ" ضَبَطْ ... قَطُّ وَقُطُّ قَطُ ثُمَّ قُطُ قَطْ ¬

_ (¬1) هذا الاستثناء يحتاج إلى دليل، فأين هو؟. (¬2) "الفتح" 9/ 452. (¬3) "القاموس المحيط" ص 614 - 615.

(وَلَا يَطَأُ عَقِبَيْهِ رَجُلَانِ) أي لا يمشي رجلان خلفه فضلًا عن الزيادة، يعني أنه من غاية تواضعه -صلى الله عليه وسلم- لا يتقدّم أصحابه -رضي الله عنهم- في المشي، بل إما أن يمشي خلفهم، كما جاء "ويسوق أصحابه"، أو يمشي فيهم. وحاصل معنى الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن على طريقة الملوك والجبابرة في الأكل والمشي، بل يسلك مسلك التواضع، فيمشي مشي المتواضعين -صلى الله عليه وسلم-. قال السنديّ رحمه الله: "والرجلان" بفتح الراء، وضمّ الجيم هو المشهور، ويحتمل كسر الراء، وسكون الجيم: أي القدمان، والمعنى لا يمشي خلفه أحدٌ ذو رجلين، بل هو أقرب بتثنية عاقبيه، كما هو رواية المصنّف، وقد ضُبط كذلك في بعض النسخ. انتهى (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما هذا صحيح. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (43/ 244): بهذا السند فقط، وأخرجه (أحمد) (2/ 165 و167) و (أبو داود) (3770)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان كراهة وطإ العقب، وقد سبق وجه مناسبة ذكره في أبواب العلم، فلا تغفل. 2 - (ومنها): أن من آداب الأكل أن لا يكون الآكلُ متكئًا على اختلاف معناه؛ لأنه ينافي التواضع، وسيأتي تمام البحث فيه في "كتاب الأطعمة" إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 159 - 160.

3 - (ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من غاية التواضع، ممتثلًا أمر الله له بذلك، فقد أخرج مسلم في "صحيحه" من حديث عياض بن حِمار المجاشعيّ -رضي الله عنه- الطويل، وفيه: "وإن الله أوحى إليّ أَن تواضعوا، حتى لا يَفْخَر أحدٌ على أحد، ولا يَبْغِي أحدٌ على أحد". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. [تنبيه]: لمّا علا أبو الحسن القطان على المصنّف برجل، حيث وصل إلى حماد بن سلمة بواسطتين، بينما هو يصل إليه من طريق المصنّف بثلاث وسائط ذكر ذلك بقوله: (قَالَ أَبُو الحسَنِ، وَحَدَّثَنَا خَازِمُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الحجَّاجِ السَّامِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ. . . .) 1 - (خازم بن يحيى) بالخاء المعجمة، والزاى، هو أبو الحسن الحلواني، حافظ عارف بهذا الشأن، ارتحل إلى الشام وخراسان، وتوفي سنة (275 هـ) وتقدمت ترجمته برقم (84)، فراجعه تستفد. 2 - (إبراهيم بن الحجاج) بن زيد السّاميّ -بالمهملة- الناجيّ، أبو إسحاق البصريّ، ثقة يَهِم قليلًا [10]. روى عن حماد بن سلمة، ووهيب بن خالد، وأبان بن يزيد، وغيرهم، وروى عنه أبو بكر بن علي المروزي، وأبو زرعة، وموسى بن هارون الحمال، وعبد الله بن أحمد، وأبو يعلى، والحسن بن سفيان. قال الدارقطني في "الجرح والتعديل": ثقة. وقال ابن قانع: صالح. وقال موسى: مات سنة (233)، وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة (31) أو سنة اثنتين. قال الجامع عفا الله عنه: إبراهيم بن الحجاج هذا ليس من رجال ابن ماجه، بل هو من رجال النسائيّ، وإنما زاده أبو الحسن القطان هنا طلبًا للعلوّ، كما أسلفته آنفًا. والله تعالى أعلم. ولمّا وجد أبو الحسن أيضًا علوًا آخر برجلين ذكره أيضًا فقال:

(قَالَ أَبُو الحُسَنِ: وَحَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَصْرٍ الْهمْدَانِيُّ، صَاحِبُ الْقَفِيزِ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ. . . .). 1 - (إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَصْرٍ الْهمْدَانِيُّ، صَاحِبُ الْقَفِيزِ) الظاهر أنه إبراهيم بن نصر بن عبد العزيز الحافظ الإمام المْجُوِّد، أبو إسحاق الرازي، مُحَدِّث نَهَاوَنْد، يروي عن أبي نعيم، وعمرو ابن مرزوق، وعبد الله بن رَجَاء، وحجاج بن منهال، وأبي الوليد، وأبي حذيفة، والتَّبُوذكي (¬1) وخلق، وروى عنه أحمد بن محمد بن أوس، والقاسم بن أبي صالح، وعبد الرحمن بن حمدان، قال جعفر بن أحمد: سألت أبا حاتم عن إبراهيم بن نصر، فقال: كان معنا عند أبي سلمة (¬2) بالبصرة، وكان يُوَرِّق. وقيل: ان إبراهيم بن نصر لطول مقامه بالبصرة فتح بها دُكّانًا، وقد صنف "المسند"، وقَدِمَ هَمَذاَنَ، وحَدَّث بها، وكان كبير الشأن، عالي الإسناد، تُوُفي في حدود الثمانين ومئتين. قال الخليلي: مسنده نيف وثلاثون جزءا، وهو صدوق، سمع منه أبو الحسن القطان، وعلي ابن مَهْرَوَيْه، وسليمان بن يزيد الْفَاميّ، وجدي أحمد بن إبراهيم، وغيرهم. ذكره في "سير أعلام النبلاء" (¬3). 2 - (موسى بن إسماعيل) المِنْقَريّ، أبو سلمة التبوذكيّ، ثقة ثبت، من صغار [9] ستأتي ترجمته مطوّلةً في "كتاب الطبّ " برقم (3443) لأن أول ما يُخرج له المصنّف هناك، وإنما ذكره هنا أبو الحسن طلبًا للعلوّ، كما أسلفناه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ¬

_ (¬1) هو موسى بن إسماعيل المذكور في سند أبي الحسن القطّان هنا. (¬2) هو موسى بن إسماعيل التبوذكيّ المذكور. (¬3) "سير أعلام النبلاء" 13/ 355 - 356.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 245 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو المُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا مُعَانُ بْنُ رِفَاعَةَ، حَدَّثَني عَليُّ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- في يَوْمٍ شَدِيدِ الحرِّ، نَحْوَ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، وَكَانَ النَّاسُ يَمْشُونَ خَلْفَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ صَوْتَ النِّعَالِ، وَقَرَ ذَلِكَ في نَفْسِهِ، فَجَلَسَ حَتَّى قَدَّمَهُمْ أَمَامَهُ؛ لِئَلَّا يَقَعَ في نَفْسِهِ شَيْءٌ مِنْ الْكِبْرِ). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى) الذهليّ المذكور قريبًا. 2 - (أَبُو المُغِيرَةِ) عبد القدّوس بن الحجاج الْخَوْلانيّ الحِمصيّ، ثقة [9]. رَوَى عن حَرِيز بن عثمان، وصفوان بن عمرو، والمسعودي، وأبي بكر بن أبي مريم، وسعيد بن عبد العزيز، وعُفير بن مَعْبد، وغيرهم. ورَوى عنه البخاري، وروى هو والباقون له بواسطة إسحاق بن منصور الكَوْسَج، وأحمد، ومحمد بن مصفى، وعبد الوهاب بن نَجْدة، وسلمة بن شبيب، والدارمي، ويحيى بن معين، وأبو بكر بن زنجويه، وأحمد بن أبي الحواري، وغيرهم. قال أبو حاتم: كان صدوقًا. وقال العجليّ، والدارقطني: ثقة. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات". قال البخاريّ: مات سنة اثنتي عشرة ومائتين، وصلى عليه أحمد بن حنبل. وفي "الزهرة": رَوَى عنه البخاري ثلاثة أحاديث. أخرج له البخاري، والترمذيّ، والنسائيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (245) و (626) و (4148). 3 - (مُعَانُ بْنُ رِفَاعَةَ) السُّلاميّ الشاميّ، ليّن الحديث، كثير الإرسال [10] 40/ 236. 4 - (عَليُّ بْنُ يَزِيدَ) الألهانيّ، أبو عبد الملك الدمشقيّ، ضعيف [6] 39/ 228.

5 - (الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أبو عبد الرحمن الدمشقيّ، صاحب أبي أمامة، صدوق، كثير الإرسال [3] 39/ 228. 6 - (أبو أُمامة) صُديّ بن عَجْلان الصحابيّ الشهير -رضي الله عنه- 7/ 48، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ) صُدَيّ بن عَجْلان -رضي الله عنه- أنه (قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- في يَوْمٍ شَدِيدِ الْحرِّ، نَحْوَ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ) اسم مقبرة المدينة النبويّة، قال في "المصباح": البقيع: المكان المتّسع، ويقال: الموضع الذي فيه شَجَر، وبقيع الغَرْقد بميدنة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كان ذا شجر، وزال، وبقي الاسم، وهو الآن مقبرة، وبالمدينة أيضًا موضع يقال له: بَقِيع الزبير. انتهى (¬1). وفي "القاموس": الْغَرْقَدُ: شجر عِظام، أو هي الْعَوْسَج إذا عَظُم، واحده غَرْقَدةٌ، وبها سَمَّوْا، وبقيع الغرقد مقبرةُ المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام؛ لأنه كان منبته. انتهى (¬2). وقال ابن الأثير رحمه الله: الْغَرْقَدُ: ضرب من شجر العضاه، وشجر الشوك، والغَرْقدة واحدته، ومنه قيل لمقبرة المدينة: بقيع الغرقد؛ لأنه كان فيه غرْقدٌ وقُطِع. انتهى (¬3). (وَكَانَ النَّاسُ يَمْشُونَ خَلْفَهُ، فَلمّا سَمِعَ صَوْتَ النِّعَالِ، وَقَرَ) بفتح القاف، وكسرها: أي ثَقُل، يقال: وَقَرَت الأُذنُ تَقِر، ووقِرَتْ تَوقَرُ، من بابي وَعَدَ، وتَعِبَ: ثَقُل سمعها (¬4). (ذَلِكَ) أي مشيهم خلفه (في نَفْسِهِ) متعلّق بـ "وقر" (فَجَلَسَ حَتَّى قَدَّمَهُمْ أَمَامَهُ) أي جعلهم يمشون قدّامه (لِئَلَّا يَقَعَ في نَفْسِهِ شَيْءٌ مِنْ الْكِبْرِ) قال السنديّ هذا على حسب ظنّ الراوي، فقد لا يكون السبب ذلك، بل غيره -كما سيجيء في الحديث ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" 1/ 57. (¬2) "القاموس المحيط" ص 276. (¬3) "النهاية" 3/ 362. (¬4) راجع "المصباح" 2/ 668.

الآتي- وعلى تقدير أن الراوي أخذ ذلك من جهته، فيُمكن أنه قال ذلك للتنبيه على ضعف حالة البشر، وأنه محلّ للآفات كلِّها لولا عصمة الله تعالى الكريم، فلا ينبغي له الاغترار، بل ينبغي له دوام الخوف، والأخذ بالأحوط، والتجنب عن الأسباب المؤدّية إلى الآفات النفسانيّة. انتهى (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي أُمامة -رضي الله عنه- هذا ضعيف؛ لضعف إسناده، قال البوصيريّ رحمه الله: هذا إسناد ضعيف؛ لضعف رواته، قال ابن معين: عليّ بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة -رضي الله عنه- هي ضعاف كلها. انتهى (¬2). وقد تقدّم الكلام على هذا الإسناد في الحديث رقم (228) فراجعه تستفد. وهو من أفراد (المصنّف) أخرجه هنا (43/ 245) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (5/ 266)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 246 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَكيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ نُبَيْحٍ الْعَنَزِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا مَشَى مَشَى أَصْحَابُهُ أَمَامَهُ، وَترَكُوا ظَهْرَهُ لِلْمَلَائِكَةِ). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطنافسيّ الكوفيّ، ثقة عابدٌ [10] 9/ 51. 2 - (وَكيعٌ) بن الجَرّاح الكوفيّ الحافظ الثبت العابد [9] 1/ 3. 3 - (سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ الكوفيّ الإمام الحجة الفقيه [7] 5/ 41. ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 160. (¬2) "مصباح الزجاجة" 1/ 107.

4 - (الْأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ) الْعَبديّ، وقيل: البجليّ، أبو قيس الكوفيّ، ثقة [4]. رَوى عن أبيه، وثعلبة بن عباد، وجندب بن عبد الله البجلي، وسعيد بن عمرو ابن سعيد بن العاص، وشقيق بن عقبة، ونُبيح العَنَزي، وغيرهم. وروى عنه شعبة، والثوري، وشريك، والحسن بن صالح، وزهير بن معاوية، وأبو عوانة، وابن عيينة، وجماعة. قال ابن معين، والنسائي: ثقة. وقال العجلي: ثقةٌ، حسن الحديث. وقال ابن البراء عن ابن المديني: روى عن عشرة مجهولين لا يعرفون، سَمَّى مسلم منهم في "الوحدان" أربعة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، فجعله اثنين، فالذي يَروي عن جندب ذكره في التابعين، والذي يروي عن نُبيح ذكره في أتباع التابعين، قال الحافظ: كذا قال، والظاهر أنه وَهَمٌ. وقال الفسوي في "تاريخه": كوفي ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة. وقال شريك بن عبد الله النخعي: أما والله إن كان لصدوق الحديث، عظيم الأمانة، مُكرِمًا للضيف. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (246) و (1264) و (1516) و (3152). 5 - (نُبيْحٌ -بالحاء المهملة، مصغّرًا- الْعَنَزِيُّ) -بفتح العين المهملة والنون، ثم زاي- ابن عبد الله، أبو عمرو الكوفيّ، ثقة (¬1) [3]. رَوى عن ابن عباس، وابن عمر، وأبي سعيد، وجابر، وروى عنه الأسود بن قيس، وأبو خالد الدالاني. قال أبو زرعة: ثقة، لم يرو عنه غير الأسود بن قيس. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة. وذكره علي بن المديني في جملة ¬

_ (¬1) هذا هو الظاهر، وأما قوله في "التقريب": مقبول، فغير مقبول؛ لأنه وثقه أبو زرعة وغيره، كما ستراه في ترجمته، فتنبّه.

المجهولين الذين يَروي عنهم الأسود بن قيس. وصحح الترمذي حديثه، وكذلك ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم. أخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (246) و (1516). 6 - (جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله) بن عمرو بن حَرَام الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما 1/ 11. والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من سداسيات المصنّف. 2 - (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. 3 - (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين، غير الصحابيّ -رضي الله عنه-، فإنه مدنيّ. 4 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. 5 - (ومنها): أن جابرًا -رضي الله عنه- أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا مَشَى مَشَى أَصْحَابُهُ) -رضي الله عنهم- (أَمَامَهُ) أي قُدّاَمه (وَتَرَكُوا ظَهْرَهُ لِلْمَلَائِكَةِ) أي تعظيمًا للملائكة الماشين خلفه، لا لدفع التضييق عنهم، وهؤلاء الملائكة غير الحفظة، ورواه أحمد بن منيع في "مسنده": بلفظ: "مَشَوا خلف النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فقال: امشوا أمامي، وخلّفوا ظهري للملائكة". وفي رواية الإمام أحمد في "مسنده": قال: "كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يمشون أمامه إذا خرج، ويَدَعُون ظهره للملائكة"، وفي لفظ قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج من بيته مشينا قُدَامه، وتركنا ظهره للملائكة". وفيه إكرام الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- غاية الإكرام، حيث جعل الملائكة تمشي وراءه تعظيمًا له -صلى الله عليه وسلم-، {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا صحيح، قال البوصيريّ رحمه الله تعالى: هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، ورواه أحمد بن منيع في "مسنده": ثنا قبيصة، ثنا سفيان به بلفظ: "مشوا خلف النبي -صلى الله عليه وسلم-. . ." الحديث المذكور انتهى كلامه (¬1). وهو من أفراد (المصنّف)، أخرجه هنا (43/ 246) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (أحمد) في "مسنده " (3/ 302 و 332) و (ابن حبان) في "صحيحه" (6312) و (الحاكم) في "مستدركه" (4/ 281)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. ¬

_ (¬1) "مصباح الزجاجة" 1/ 107 - 108.

44 - باب الوصاة بطلبة العلم

44 - (بَابُ الْوِصَاةِ بطلبةِ الْعِلمِ) " الْوَصَاة": بكسر الواو، وفتحها: اسم من أوصاه، ووصّاه، قال الفيّوميّ رحمه الله: وَصَيْتُ الشيءَ بالشيء أَصِيهِ، من باب وَعَدَ: وصَلْته، ووَصَّيْتُ إلى فلان توصيةً، وأوصيتُ إليه إيصاءً، وفي السبعة: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ} [البقرة: 182] بالتخفيف، والتثقيل، والاسم: الْوِصَايةُ بالكسر، والفتحُ لغةٌ، وهو وَصِيٌّ، فَعِيل بمعنى مفعول، والجمع الأوصياء، وأوصيتُ إليه بمال: جعلتُهُ له، وأوصيته بولده: استعطفتُهُ عليه، وهذا لمعنى لا يقتضي الإيجاب، وأوصيته بالصلاة: أمرته بها. انتهى (¬1). و"الطَّلَبَةُ" بفتحات: جمع طالب، ككامل وكملة، قال في "الخلاصة": في نَحْوِ "رَامِ" ذُو اطِّرَادٍ فُعَلَهْ ... وَشَاعَ نَحْوُ كَامِلٍ وَكَمَلَهْ والله تعالى أعلم بالصواب. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 247 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَارِثِ بْنِ رَاشِدٍ المصْرِيُّ، حَدَّثَنَا الحَكَمُ بْنُ عَبْدَةَ، عَنْ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، عَن رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "سَيَأتِيكُمْ أَقْوَامٌ يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَقُولُوا: لهُمْ مَرْحَبًا مَرْحَبًا بِوَصِيَّةِ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، وَاقْنُوهُمْ"، قُلْتُ لِلْحَكَمِ: مَا اقنُوهُمْ؟ قَالَ: عَلّمُوهُمْ). رجال هذا الإسناد: أربعة: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ الحارِثِ بْنِ رَاشِدٍ المصْرِيُّ) المؤذّن، صدوقٌ يُغْربُ [10] 12/ 107. من أفراد المصنّف. 2 - (الحكَمُ بْنُ عَبْدَةَ) الرُّعَينيّ، أو الشيبانيّ، أبو عَبْدةَ البصريّ، نزيل مصر، وقيل: إنه دمشقيّ، وقيل: هما اثنان، مستور [7]. روى عن أيوب، وابن أبي عروبة، ومالك، وأبي هارون العبديّ، وغيرهم. ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" 2/ 662.

وروى عنه ابن وهب، وعمرو بن أبي سلمة، ومحمد بن الحارث بن راشد، ويحيى ابن بكير، وغيرهم. قال ابن يونس أظن أنه الحكم بن عبدة البصري؛ لأني لم أجد له بيتًا في مصر، وذكره في المصريين يحيى بن عثمان بن صالح، وأراه أخطأ فيه. وقال ابن يونس أيضًا في "تاريخ الغرباء": الحكم بن عبدة البصريّ قَدِم مصر، آخرُ مَن حَدّث عنه الحارث بن مسكين. وقال الآجري عن أبي داود: الحكم بن عبدة الرُّعَينيّ الدمشقيّ ما عندي من علمه شيء. وقال أبو فتح الأزديّ: ضعيف. تفردّ به المصنّف بهذا الحديث فقط. 3 - (أَبُو هَارُونَ الْعَبْدِيُّ) عمارة بن جُوَين -بجيم مصغّرًا- مشهور بكنيته، متروك، ومنهم من كذّبه، شيعيّ [4]. روى عن أبي سعيد الخدري، وابن عمر، وعنه عبد الله بن عون، وعبد الله بن شَوْذَب، والثوري، والحمادان، والحكم بن عبدة، وخالد بن دينار، وغيرهم. قال ابن المديني عن يحيى بن سعيد: ضعفه شعبة، وما زال ابن عون يروي عنه حتى مات. وقال البخاري: تركه يحيى القطان. وقال أحمد: ليس بشيء. وقال الدُّوري عن ابن معين: كان عندهم لا يَصْدُق في حديثه، وكانت عنده صحيفة يقول: هذه صحيفة الوَصِيّ. وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث. وقال أبو حاتم: ضعيف أضعف من بشر بن حرب. وقال النسائي: متروك الحديث، وقال في موضع آخر: ليس بثقة، ولا يكتب حديثه. وقال شعيب بن حرب عن شعبة: لأن أُقَدَّم، فتضربَ عنقي أحب إلي من أن أُحَدِّث عنه. وقال خالد بن خِدَاش عن حماد بن زيد: كان كذابًا، بالغداة شيءٌ، وبالعشي شيءٌ. وقال الجوزجاني: كذابٌ مُفْتَرٍ. وقال الحاكم أبو أحمد: متروك. وقال الدارقطني: يتلوَّن خارجي، وشيعي، يُعتبر بما يرويه عنه الثوري. وقال ابن حبان: كان يروي عن أبي سعيد ما ليس من حديثه، لا يحل كَتْبُ

حديثه إلا على جهة التعجب. وقال إبراهيم بن الجنيد عن ابن معين: كان غير ثقة يَكْذِب. وقال ابن علية: كان يكذب، نقله الحاكم في "تاريخه". وقال ابن المثنى: ما سمعت يحيى ولا عبد الرحمن يحدثان عن سفيان عنه بشيء. وقال ابن شاهين: قال عثمان بن أبي شيبة: كان كذّابًا. وقال ابن سعد: كان ضعيفًا في الحديث. وعن شعبة قال: لو شئت لحدثني أبو هارون عن أبي سعيد بكل شيء رأى أهلَ واسط يفعلونه بالليل. رواه الساجيّ، وابن عدي. وقال ابن الْبَرْقي: أهل البصرة يضعفونه. وقال علي بن المديني: لست أروي عنه. وقال الساجي: ثنا عبد الله بن أحمد قال: قلت لأبي: يحيى يقول: بشر بن حرب أحب إلي من أبي هارون، فقال: صدق يحيى. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ضعيف الحديث، وقد تحامل بعضهم فنسبه إلى الكذب، رُوي ذلك عن حماد بن زيد، وكان فيه تشيع، وأهل البصرة يُفرطون فيمن يتشيع بين أظهرهم؛ لأنهم عثمانيون. قال الحافظ: كيف لا ينسبونه إلى الكذب، وقد رَوَى ابن عدي في "الكامل" عن الحسن بن سفيان، عن عبد العزيز بن سلام، عن علي بن مهران، عن بَهْز بن أسد قال: أتيت إلى أبي هارون العبدي، فقلت: أخرج إلي ما سمعت من أبي سعيد، فأخرج لي كتابًا، فإذا فيه حدثنا أبو سعيد، أن عثمان أدخل حُفْرَته، وإنه لكافر بالله، قال: قلت: تُقِرّ بهذا؟ قال: هو كما ترى، قال: فدفعت الكتاب في يده، وقمت، فهذا كذب ظاهر على أبي سعيد -رضي الله عنه-. انتهى كلام الحافظ (¬1). وقال ابن قانع: مات سنة أربع وثلاثين ومائة. أخرج له البخاري في "خلق أفعال العباد"، والترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (247) وأعاده برقم (249) و (4187). 4 - (أَبُو سَعِيد الخُدْريُّ) سعد مالك بن سنان رضي الله عنهما 4/ 37. ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" 3/ 207 - 208.

شرح الحديث: (عَنْ أَبِي سعِيدٍ الخُدْرِيِّ) -رضي الله عنه- (عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-) أنه (قَالَ: سَيَأْتِيكُمْ) الخطاب للصحابة -رضي الله عنهم-، ويُلحق بهم من بعدهم (أَقْوَامٌ يَطْلُبُون الْعِلْمَ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَقُولُوا: لهُمْ مَرْحَبًا مَرْحَبًا) بالتكرار للتوكيد، قيل في مثله: أي صادفتَ رُحْبًا، أو لقيتَ رحبًا وسَعَةً، وقيل: رحّب الله بك ترحيبًا، فوُضع مَرْحبًا موضعَ ترحيبًا، وقيل: التقدير: أتيتَ رحبًا، أو رَحبت بك الدار مرحبًا. انتهى. وقال ابن منظور: وقولهم في تحيّة الوارد: "مَرْحَبًا": أي صادفتَ أهلًا ومَرْحبًا، وقالوا: مَرْحَبك الله، ومَسْهَلَك، وقولهم: مَرْحبًا وأهلًا: أي أتيت سَعَةً، وأتيت أهلًا، فاستأنس، ولا تستوحِشْ، وقال الليث: معنى قول العرب: "مَرْحَبًا": انزل في الرحب والسَّعَة وأَقِمْ، فلك عندنا ذلك، وهو منصوب بفعل مضمر، كما قدرناه. انتهى بتصرّف (¬1). (بِوَصِيَّةِ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-) متعلّق بفعل مقدّر، أي نرحّب بمن أوصانا بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أي نقول لهم: مرحبًا يا من أوصى بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويحتمل أن تكون الباء للسببيّة، أي قلنا لكم: مرحبًا بسبب وصيّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكم، أي بسبب أمره بالترحيب بكم. (وَاقْنُوهُمْ) بالقاف، يقال: قناه الله، من باب رمى، وأقناه: أرضاه، أفاده في "القاموس" (¬2)، فيحتمل أن يكون "أَقْنُوهم" بهمزة القطع رباعيّا، ويحتمل أن يكون بهمزة الوصل، والنون مضمومة على كونه ثلاثيًّا كرمى، وأصله اقْنِيُوهم بكسر النون؛ لأنه من باب رمى، ثم نقلت ضمة الياء إلى النون بعد سلب حركتها، وحذفت الياء، فصار اقْنُوهم، كارْمُوهم، وفي بعض النسخ "وأفتوهم" بالفاء من الإفتاء رباعيّا، قال ¬

_ (¬1) "لسان العرب" 1/ 414. (¬2) "القاموس" ص 1194.

محمد بن الحارث (قُلْت لِلْحَكَمِ) بن عبدة (مَا اقْنُوهُمْ؟) وفي نسخة: "ما أفتوهم" من الإفتاء بالفاء، أي ما معنى قوله: "فاقنوهم" (قَالَ) الحارت: معناه (عَلِّمُوهُمْ) قال ابن الأثير: "فاقنوهم" عَلّموهم، واجعلوا لهم قُنْيَةً من العلم، يستغنون به إذا احتاجوا إليه (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه- هذا ضعيف الإسناد جدّا؛ لأن فيه أبا هارون العبديّ، متروك، بل كذّبه بعضهم، كما سبق في ترجمته قريبًا. وحسّن متنه الشيخ الألبانيّ في "السلسلة الصحيحة"، وذكر له طرقًا، وفي القلب من تحسينه شيء؛ لأن الإمام أحمد رحمه الله أعلّ الطريق التي حسنه الشيخ الألباني منها، وقال: هذا حديث أبي هارون عن أبي سعيد، فجعل الصواب رواية المصنّف هذه، وهذه قد عرفت حالها، وبالجملة فراجع كلام الشيخ الألباني في جـ 1 ص 503 - 507 وأمعن النظر فيه، والله تعالى أعلم بالصواب. والحديث أخرجه (المصنّف) هنا (44/ 247) بهذا الإسناد، وأعاده بعد حديث، وأخرجه (الترمذيّ) (2650) و (2651)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب؛ وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 248 - (حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ عَامِرِ بْنِ زُرَارَةَ، حَدَّثَنَا الْمُعَلَّى بْنُ هِلَالٍ، عَنْ إِسْماعِيلَ قَالَ: دَخَلنَا عَلَى الحَسَنِ نَعُودُهُ، حَتَى مَلَأْنَا الْبَيْتَ، فَقَبَضَ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ نَعُودُهُ، حَتَى مَلأْنا الْبَيْتَ، فَقَبَضَ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ. دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- مَلأْنَا الْبَيْتَ، وَهُوَ مُضْطَجعٌ لِجَنْبِهِ، فَلَّما رَآنَا قَبَضَ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّهُ سَيَأْتِيَكَمْ أَقوَامٌ مِنْ بَعْدِي، يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ، فَرَحِّبُوا بِهِمْ، وَحَيُّوهُمْ، وَعَلِّمُوهُمْ"، قَالَ: فأَدْرَكنَا وَالله أَقْوَامًا مَا رَحَّبُوا بِنَا، وَلَا حَيَّوْنَا، وَلَا عَلَّمُونَا، إِلا بَعْدَ أَنْ كنَّا نَذْهَبُ إِلَيْهِمْ فَيَجْفُونَا). ¬

_ (¬1) "النهاية" 4/ 117.

رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (عَبْدُ الله بْنُ عَامِرِ بْنِ زُرَارَةَ) الحَضْرميّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، صدوقٌ [10] 4/ 30. 2 - (المُعَلَّى بْنُ هِلَالٍ) بن سُويد الحضرميّ، ويقال: الجعفي، أبو عبد الله الطحّان الكوفيّ، اتفق النّقّاد على تكذيبه [8]. روى عن أبي إسحاق السبيعي، ومنصور، وسهيل بن أبي صالح، وسليمان التيمي، وغيرهم. وروى عنه عبد السلام بن حرب، وإسماعيل بن زكريا، وعبد الله بن عامر، وغيرهم. قال أبو طالب عن أحمد: متروك الحديث، حديثه موضوع كذبٌ. وقال عبد الله ابن أحمد: قال أبي: المعلى بن هلال كذاب. وقال أحمد بن أبي مريم عن ابن معين: هو من المعروفين بالكذب، ووضع الحديث. وقال عباس الدُّوري عن ابن معين: ليس بثقة كذاب. وقال البخاري: تركوه. وقال أبو عبيد الآجري عن أبي داود: غير ثقة ولا مأمون، حدثني أبو زرعة الدمشقي، ثنا أبو نعيم قال: كنت أمشي مع ابن عيينة، فمررنا بمعلى بن هلال، فقال لي سفيان: إنّ هذا من أكذب الناس، وقال في موضع آخر: كان كذابًا. وقال النسائي: كذاب، وقال مرة: يَضَعُ الحديث. وقال علي بن المديني عن أبي أحمد الزبيري: حَدَّثت ابن عيينة عن معلى الطحان، فقال: ما أحوج صاحب هذا إلى أن يُقْتَل. وقال علي أيضًا: ما رأيت يحيى بن سعيد يُصَرِّح في أحد بالكذب إلا معلى بن هلال، وإبراهيم بن أبي يحيى. وقال علي: سمعت وكيعًا يقول: أتينا معلى بن هلال، وإن كُتُبه لمِن أصحّ الكتب، ثم ظهرت منه أشياء ما نقدر أن نحدث عنه بشيء. وقال عمرو بن محمد الناقد: رأيت وكيعًا تُعرَض عليه أحاديث معلى بن هلال، فجعل وكيع يقول: قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: الكذب مجانب للإيمان. وقال أحمد بن محمد بن محمد البغدادي: سمعت أبا نعيم يقول:

كان معلّى بن هلال يَنْزِل بني دالان تمَرُّ بنا المراكب إليه، وكان الثوري وشريك يتكلمان فيه، فلا يلتفت إلى قولهما، فلما مات كأنه وقع في بئر. وقال زكريا بن يحيى الساجي عن أحمد بن العباس الجُنْدَيْسَابُوريّ: سمعت أبا نعيم يقول: كان سفيان الثوري لا يرمي أحدًا بالكذب إلا معلى بن هلال. وقال أبو الوليد الطيالسي: رأيت معلى ابن هلال يحدث بأحاديث قد وضعها، فقلت بيني وبينك السلطان، فكلموني فيه، فأتيت أبا الأحوص، فقال: ما لك ولذلك البائس؟، فقلت: هو كذاب، فقال: هو يؤذّن على منارة طويلة. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن المعلى بن هلال، ما كان تنقم عليه؟ فقال: الكذب. وقال أبو أحمد بن عدي: هو في عداد مَن يضع الحديث. وقال البخاري: قال ابن المبارك لوكيع: عندنا شيخ يقال له: أبو عصمة نوح ابن أبي مريم، يضع كما يضع المعلى. وقال الآجري عن أبي داود: روى أربعين حديثًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، كلها مُخْتلَقَة. وقال الأزدي: متروك. وقال الجوزجاني، والعجلي، وعلي بن الحسين بن الجنيد: كذاب. وقال الدارقطني: كان يضع الحديث. وقال ابن حبان: كان يروي الوضوعات عن قوم أثبات، لا تحل الرواية عنه بحال. وقال أبو أسامة: سَجّرت بكتابه التنور. وذكره ابن الْبَرْقيّ في "باب من رُمي بالكذب"، وقال: كان قدريّا. وقال ابن المبارك في "تاريخه": كان لا بأس به، ما لم يجيء بالحديث، فقال له بعض الصوفية: يا أبا عبد الرحمن أتغتاب الصالحين؟، فقال: اسكت إذا لم نُبيِّن الحقَّ، فمن يُبَيِّن؟. وقال الحاكم، وأبو نعيم: رَوَى عن يونس بن عبيد وغيره المناكير. وأما أبو حَرِيز فألانَ القول فيه، وقال: كان شيخًا حَدَّث عنه غير واحد، إلا أنه غير موثوق بحفظه. وقال ابن أبي حاتم في "العلل" عن أبيه، عن ابن نمير في حديث رواه يحيى الْحِمّاني عن علي بن سُويد، عن نُفَيع، في المؤذنين: عليُّ بن سُوَيد هذا هو معلى بن هلال بن سُويد، جُعل مُعَلَّى عَليّ، وحُذف هلال من الوسط، ونُسِب إلى جده سُوَيد. تفردّ به المصنّف بهذا الحديث فقط.

3 - (إِسْمَاعِيلُ) بن مسلم، أبو إسحاق البصريّ، سَكَن مكة، ولكثرة مجاورته قيل له: المكي، وكان فقيهًا مفتيًا، ضعيف الحديث [5]. رَوى عن "أبي الطفيل، عامر بن واثلة، والحسن البصري، والحكم بن عتيبة، وغيرهم. ورَوى عنه الأعمش، وابن المبارك، والأوزاعي، والسفيانان، ومعلى بن هلال، وغيرهم. قال عمرو بن علي: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عنه. وقال علي عن القطان: لم يزل مُخَلِّطًا، كان يحدثنا بالحديث الواحد على ثلاثة ضروب. وقال إسحاق بن أبي إسرائيل عن ابن عيينة: كان إسماعيل يخطىء، أسأله عن الحديث، فما كان يدري شيئًا. وقال أبو طالب عن أحمد: منكر الحديث. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال ابن المديني: لا يكتب حديثه. وقال الفلاس: كان ضعيفًا في الحديث، يَهِمُ فيه، وكان صدوقًا، يُكثر الغلط، يُحَدِّث عنه من لا ينظر في الرجال. وقال الجوزجاني: وَاهٍ جدّا. وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث مختلط. وقال ابن أبي حاتم: قلت لأبي: وهو أحب إليك أو عمرو بن عبيد؟ فقال: جميعًا ضعيفان، وإسماعيل ضعيف الحديث ليس بمتروك، يُكتب حديثه. وقال البخاري: تركه يحيى، وابن مهدي، وتركه ابن المبارك، وربما ذكره. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال مرة: ليس بثقة. وقال ابن عديّ: أحاديثه غير محفوظة، إلا أنه ممن يُكتب حديثه. وكناه الخطيب أبا ربيعة، وقال: بصري سكن مكة. وقال ابن حبان: كان فصيحًا، وهو ضعيف، يروي المناكير عن المشاهير، ويقلب الأسانيد. وقال الحربي: كان يفتي، وفي حديثه شيء. وقال الحاكم عن أبي علي الحافظ: ضعيف. وقال ابن خزيمة: أنا أبرأ من عُهدته. وقال البزار: ليس بالقوي. وذكره الفسوي في "باب من يُرغَب عن الرواية عنهم". وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم.

وذكره العقيليّ، والدولابي، والساجي، وابن الجارود، وغيرهم في "الضعفاء". وقال ابن سعد: قال محمد بن عبد الله الأنصاري: كان له رأي وفتوى وبَصَرٌ، وحفظ للحديث، فكنت أكتب عنه لنباهته. تفرّد به الترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب (11) حديثًا. 4 - (الحسَنُ) البصريّ المذكور قبل باب. 5 - (أَبُو هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- 1/ 1. شرح الحديث: (عَنْ إِسماعِيلَ) بن مسلم، أنه (قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى الحسَنِ) البصريّ (نَعُودُهُ) أي نزوره لمرضه (حَتَّى مَلَآْنَا الْبَيْتَ) أي كثر عدد العائدين بحيث امتلأ البيت منهم، وضاق بهم (فَقَبَض) الحسن (رِجْلَيْهِ) يحتمل أن قبضه من كثرة الزحام، ويحتمل أن يكون توقيرًا لهم (ثُمَّ قَالَ) الحسن (دَخَلْنَا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه-، هذا ظاهر في كونه الحسن لقي أبا هريرة -رضي الله عنه-، وسمع منه، لكن الحديث لا يصحّ، والخلاف تقدم مستوفى البحث في ترجمة الحسن برقم (9/ 71). (نَعُودُهُ، حَتَّى مَلَأْنَا الْبَيْتَ، فَقَبَضَ) أبو هريرة -رضي الله عنه- (رِجْلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ) أبو هريرة (دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى مَلَآْنَا الْبَيْتَ، وَهُوَ مُضْطَجعٌ لجِنْبِهِ) أي على جنبه (فَلَمَّا رَآنا قَبَضَ رِجْلَيْهِ) أي للاحتمالين السابقين (ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ) الضمير للشأن، أي إن الأمر والشأن (سَيَأْتِيكُمْ أَقْوَامٌ مِنْ بَعْدِي، يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ) جملة في محلّ نصب على الحال، أي حال كونهم طالبين للعلم (فَرَحِّبُوا بِهِمْ) أمر من الترحيب، أي قولوا لهم: مرحبًا بكم (وَحَيُّوهُمْ) من التحيّة، قال الفيّوميّ رحمه الله: حيّاه تحيّةً: أصله الدعاء بالحياة، ومنه "التحيّات لله"، أي البقاء، وقيل: الملك، ثم كثُر حتى استُعمل في مطلق الدعاء، ثم استعمله الشرع في دعاء مخصوص، وهو "سلامٌ عليك". انتهى (¬1) (وَعَلِّمُوهُمْ) أمر من ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" 1/ 160.

التعليم (قَالَ) أي الحسن (فَأَدْرَكْنَا وَالله) جملة قسم معترضة بين الفعل ومعموله للتوكيد (أَقْوَامًا) أي من المشايخ، لا التلامذة، قيل: هذا يُحمل على من أدركه الحسن من غير الصحابة -رضي الله عنهم-، فإن أكثر علمه إنما أخذه من غيرهم. والله تعالى أعلم (مَا رَحَّبُوا بِنَا، وَلَا حَيَّوْنَا، وَلَا عَلَّمُونَا، إِلَّا بَعْدَ أَنْ كُنَّا نَذْهَبُ إِلَيْهِمْ) أي نتردّد إليهم كثيرًا (فَيَجْفُونَا) من الجفاء، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا موضوعٌ؛ لأن المعلّى بن هلال كذّاب يضع الحديث، كما سبق تفصيل أقوال العلماء فيه في ترجمته قريبًا. وقال البوصيريّ رحمه الله: هذا إسناد ضعيفٌ، فيه المعلّى بن هلال، كذّبه أحمد، وابن معين، وغيرهما، ونسبه إلى وضع الحديث غير واحد، وإسماعيل هو ابن مسلم اتّفقوا على ضعفه، وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه-، رواه ابن ماجه، والحاكم، والترمذيّ في "الجامع" -يعني الحديث الذي قبله- قال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث أبي هارون عن أبي سعيد. قلت: أبو هارون العبديّ ضعيف باتّفاقهم. انتهى كلام البوصيريّ. والحديث من أفراد المصنّف أخرجه هنا 44/ 248 بهذا السند فقط، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 249 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَنْقَزِيُّ، أنبَأَنا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ، قَالَ: كُنَّا إِذَا أَتَيْنَا أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِوَصِيَّةِ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- إِن رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لنَا: "إِنَّ النَّاسَ لَكُمْ تَبَعٌ، وَإِنَّهُمْ سَيَأْتُونكُمْ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ، يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ، فَإِذَا جَاءُوكُمْ، فَاسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْرًا"). رجال هذا الإسناد، تقدّموا قريبًا غير: 1 - (عمرو بن محمد العَنْقَزِيُّ) بفتح العين المهملة، والقاف، بينهما نون ساكنة، وبالزاي، أبو سعيد الكوفي، ثقة [9].

قال ابن حبان: كان يبيع الْعَنْقَزَ، فنسب إليه، والعنقز: المرزنجوش. روى عن عيسى بن طهمان، وابن جريج، والثوري، وإسرائيل. وروى عنه ابناه: الحسين وقاسم، وقتيبة، وعلي بن محمد، والذهلي، وعلي بن المديني، وغيرهم. قال أحمد والنسائي: ثقة، وقال ابن معين: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في الثقات، ووثقه العجلي. مات سنة (199) (خت م 4). و (سفيان) هو الثوري، والحديث ضعيفٌ جدّا، كما سبق الكلام عليه قبل حديث. وقوله: "لكم تبع" بفتحتين: جمع تابع، كطَلَب: جمع طالب، وقيل: مصدر وُضع موضع الصفة مبالغة، نحو رجل عَدْلٍ. وقوله: "من أقطار الأرض، أي من جوانبها. وقوله: "يتفقّهون": أي يطلبون الفقه. وقوله: "فاستوصوا بهم خيرًا": أي اقبلوا وصيّتي لكم بهم، وقيل: معناه: اطلبوا الوصيّة، والنصيحة لهم من أنفسكم، وفيه مبالغة، حيث أُمروا بأن يُجرّدوا من أنفسهم شخصًا آخر يطلبون منه الوصيّة في حقّ طلبة العلم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

45 - باب الانتفاع بالعلم، والعمل به

45 - (بَابُ الانْتِفَاع بالْعِلْمِ، والْعَمَلِ بِهِ) وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 250 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدِ ابْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ، وَمنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد الكوفي الثقة الحافظ [10] 1/ 1. 2 - (أَبُو خالِدٍ الأَحْمَرُ) سليمان بن حيّان الأزديّ الكوفيّ، صدوقٌ يُخطىء [8] 1/ 11. 3 - (ابْنُ عَجْلَانَ) محمد مولى فاطمة ينت الوليد المدنيّ، صدوقٌ اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة -رضي الله عنه-[5] 2/ 19. 4 - (سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ) كيسان المقبريّ، أبو سَعْدٍ المدنيّ، ثقة، تغيّر قبل موته بأربع سنين [3] 38/ 217. 5 - (أَبُو هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه-! / 1، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- أنه (قَالَ: كَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-) وفي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عند الترمذيّ، والنسائيّ بسند صحيح: "أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كان يتعوذ من أربع. . ." (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ) أي أعتصم، وألتجىء إليك، يقال: استعذتُ بالله، وعُذت به مَعَاذًا، وعِياذًا: اعتصمت، وتعوّذتُ به، والاستعاذة استفعال من الْعَوْذ بفتح، فسكون-، وهو الالتجاء، كالعياذ، والمعاذ، والمعاذة، والتعوّذ. أفاده في "القاموس"، و"المصباح"- (مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ) بالبناء للفاعل، أي لا ينفع صاحبه، فإن من العلم ما لا ينفعه، بل يصير حجةً عليه، وذلك بأن لا يعمل به، ولا يعلمه للناس، ولا يهذّب به أخلاقه، ولا أقواله، ولا أفعاله، أو يكون لا يُحتاج إليه، أو لم يرِدْ إذن

شرعيّ في تعلّمه. قال بعضهم في بيان العلم غير النافع: إنه الذي لا يُهذّب الأخلاق الباطنة، فيسريَ منها إلى الأفعال الظاهرة، ويحصل بها الثواب الآجل، وأنشد [من الكامل]: يَا مَنْ تَقَاعَدَ عَنْ مَكَارِمِ خُلْقِهِ ... لَيْسَ افتِخَارٌ بَالْعُلُومِ الذَّاخِرَهْ مَنْ لَمْ يُهَذِّبْ عِلْمُهُ أَخْلاَقَه ... لم يَنتَفِعْ بِعُلُومِهِ في الآخِرَهْ (وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ) بالبناء للمفعول، أي لا يستجاب، فكأنه غير مسموع، حيث لم يترتّب عليه فائدة السماع المطلوبة منه (وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ) بالبناء للفاعل، أي لا يسكن، ولا يطمئنّ بذكر الله تعالى (وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ) أي لا تقنع بما آتاها الله تعالى من الرزق، ولا تفتُرُ عن جمع المال من حلّه ومن حُرْمه؛ لما فيها من شدّة الشَّرَه، أو المراد من نفس تأكلُ كثيرًا، قال ابن الملك: أي حريصة على جمع المال، وتحصيل المناصب، وقال السنديّ: أي حريصة على الدنيا، لا تشبع منها، وأما الحرص على العلم والخير، والخير، فمحمود مطلوب، قال الله عز وجل: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وسنده ضعيف؛ فقد قال النسائيّ: إن سعيدًا لم يسمعه من أبي هريرة -رضي الله عنه-، بل سمعه من أخيه عبّاد، عن أبي هريرة، وسيأتي للمصنّف في "كتاب الدعاء" برقم (3837) وأيضًا فإن محمد بن عجلان اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، كما سبق آنفًا، وأيضًا أبو خالد الأحمر متكلّم فيه؟. [قلت]: إنما صحّ بشواهده؛ فقد أخرجه مسلم من حديث زيد أرقم -رضي الله عنه-، ولفظه: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل والهرم، وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها

ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها". وأخرجه أحمد، والترمذيّ، والنسائي بسند صحيح من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتعوذ من أربع: من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ودعاء لا يسمع، ونفس لا تشبع". والحاصل أن الحديث صحيح، والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنف) هنا (45/ 250) بهذا السند، وسيعيده في "كتاب الدعاء" من طريق سعيد بن أبي سعيد، عن أخيه عباد، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- (3837)، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (2/ 340 و 356 و451) (وأبو داود) (1548) و (النسائيّ) (8/ 263 و 284) بالطريق الثاني، والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف، وهو الانتفاع بالعلم، والعمل به، ووجه ذلك أنه لما استعاذ -صلى الله عليه وسلم- من علم لا ينفع عُلم أنه لا ينبغي لطالب أن يطلب ما لا ينفعه من العلوم، وأيضًا ينبغي له أن يحذر من أن يكون له غرض دنيويّ في ذلك العلم، بل يكون همه الانتفاع به، بإزالة الجهل، ثم نفع عباد الله تعالى بتعليمهم. ثم إن استعاذته -صلى الله عليه وسلم- من علم لا ينفع موافقٌ لمعنى ما أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قول: "يُجاء بالرجل يوم القيامة، فيُلقَى في النار، فتنْدَلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيَجتَمِع أهل النار عليه، فيقولون: أَيْ فلانُ، ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه". 2 - (ومنها): استحباب الاستعاذة من هذه الأربع. قال الطيبيّ رحمه الله: (اعلم): أن في كلّ من القران الأربع ما يُشعر بأن وجوده

مبنيّ على غايته، وأن الغرض منه تلك الغاية، وذلك أن تحصيل العلم إنما هو للانتفاع به، فإذا لم ينتفع به لم يخلص منه كفافًا، بل يكون وبالًا، ولذلك استعاذ منه النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وأن القلب إنما خُلق لأن يتخشّع لباريه سبحانه وتعالى، وينشرح لذلك الصدر، ويُقذف النور فيه، فإذا لم يكن كذلك كان قاسيًا، فيجب أن يُستعاذ منه، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22]، وأن النفس يُعتدّ بها إذا تجافت عن دار الغرور، وأنابت إلى دار الخلود، وهي إذا كانت منهومة، لا تشبع، حريصةً على الدنيا كانت أعدى عدوّ المرء، فأولى الشيء الذي يستعاذ منه هي هذه النفس، وعدم استجابة الدعاء دليلٌ على أن الداعي لم ينتفع بعلمه وعمله، ولم يخشع قلبه، ولم تشبع نفسه، فيكون أولى ما يُستعاذ منه. انتهى (¬1). 3 - (ومنها): أن استعاذته -صلى الله عليه وسلم- من هذه الأمور إظهار للعبودية، وإعظام للربّ سبحانه وتعالى، وحثّ لأمته على ذلك، وتعليم لهم، وإلا فهو -صلى الله عليه وسلم- معصوم من هذه الأمور. 4 - (ومنها): أن ما ورد في المنع عن السجع في الدعاء هو ما يكون عن قصد إليه، وتكلّف في تحصيله، بحيث يمنع من حضور القلب، وخشوعه، أما إذا اتّفق، وحصل بسبب قوّة السليقة، وفصاحة اللسان، فليس بممنوع، كما اتّفق له -صلى الله عليه وسلم- في هذا الدعاء ونحوه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 251 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْد، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ. كَانَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُول: "اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَزِدْنِي عِلْمًا، وَالحمْدُ للهِ عَلَى كُل حَالٍ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (عَبْدُ الله بْنُ نُمَيْرٍ) أبو هشام الكوفيّ، ثقة سنّيّ، من كبار [9] 8/ 52. ¬

_ (¬1) راجع "تحفة الأحوذي" 9/ 363.

2 - (مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ) بن نَشيط -بفتح النون، وكسر المعجمة، بعدها تحتانيّة ساكنة، ثم مهملةٌ- الرَّبَذيّ -بفتح الراء، والموحّدة، ثم معجمة- أبو عبد العزيز المدنيّ، ضعيف، ولا سيّما في عبد الله بن دينار، وكان عابدًا، من صغار [6]. روى عن أخويه: عبد الله ومحمد، وعبد الله بن دينار، وإياس بن سلمة بن الأكوع، وغيرهم. قال علي بن المديني عن يحيى بن سعيد: كنا نتقي حديث موسى بن عُبيدة تلك الأيام، ثم كان بمكة، فلم نأته. وقال يحيى: أُحَدِّث عن شريك أحب إلي منه. وقال الجوزجاني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لا تحل الرواية عندي عنه، قلت: فإن شعبة رَوى عنه، فقال: حدثنا أبو عبد العزيز الرَّبَذيّ، فقال لو بان لشعبة ما بان لغيره ما روى عنه. وقال محمد بن إسحاق الصائغ عن أحمد: لا تحل الرواية عنه. وقال أحمد بن الحسن الترمذي عن أحمد: لا يكتب حديث أربعة: موسى بن عُبيدة، وإسحاق بن أبي فَرْوة، وجُويبر، وعبد الرحمن بن زياد. وقال البخاري: قال أحمد: منكر الحديث. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: اضرب على حديثه. وقال عباس عن ابن معين: لا يحتج بحديثه، قال: فقلت له: أيما أحب إليك هو أو ابن إسحاق؟ قال ابن إسحاق. وقال معاوية بن صالح وآخرون عن ابن معين: ضعيف، إلا أنه يُكتب من أحاديثه الرقاق. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: إنما ضعف حديثه لأنه روَى عن عبد الله بن دينار مناكير. وقال أبو يعلى عن ابن معين: ليس بشيء. وقال علي بن المديني: موسى بن عبيدة ضعيف الحديث، حَدّث بأحاديث مناكير. وقال أبو زرعة: ليس بقوي الأحاديث. وقال أبو حاتم: منكر الحديث. وقال الآجري عن أبي داود: أحاديثه مستويةٌ إلا عن عبد الله بن دينار. وقال الترمذي: يُضَعَّف. وقال النسائي: ضعيف، وقال مرة: ليس بثقة. وقال ابن سعد: كان ثقةً، كثير الحديث، وليس بحجة. وقال يعقوب بن شيبة: صدوق، ضعيف الحديث جدّا، ومن الناس من لا يَكتُب حديثه؛ لِوَهَائه

وضعفه، وكثره اختلاطه، وكان من أهل الصدق. وقال ابن عدي: وهذه الأحاديث التي ذكرتها لموسى غير محفوظة، والضعف على رواياته بَيِّنٌ. وقال الدُّوري عن زيد بن الحُبَاب شَمِمنا من قبره رائحة المسك لمّا مات، ولم يكن بالرَّبَذَة مسك ولا عنبر، قال زيد: وكان بيته ليس فيه إلا الْخِصَاف، وفي البيت رَملٌ وحَصًى، وقال أبو بكر البزار: موسى بن عُبيدة رجل مُفيد، وليس بالحافظ، وأحسب إنما قصر به عن حفظ الحديث شغله بالعبادة. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. وقال الساجي: منكر الحديث، وكان رجلًا صالحًا. قال الهيثم بن عَدِيّ: موسى بن عُبيدة كان يقال له: حِمْيَريّ، تُوفي سنة ثنتين وخمسين ومائة. وقال ابن سعد وغيره: مات سنة ثلاث وخمسين. تفرّد به الترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب (15) حديثًا. 3 - (مُحَمَّدُ بْنُ ثَابِتٍ) مجهول [6]. رَوَى عن أبي حكيم مولى الزبير، وأبي هريرة، وعنه موسى بن عُبيدة الرَّبَذيّ، قال الدُّوري عن ابن معين: لا أعرفه. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: لا نَفْهَم مَنْ محمدٌ هذا؟. وزعم يعقوب بن شيبة أنه محمد بن ثابت بن شُرَحبيل من بني عبد الدار (¬1). تفرّد به الترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث، وكرره ثلاث مرات، برقم (251) و (3804) و (3833)، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُول: "اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي) أي بالعمل بالعلم الذي علّمتنيه (وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُني) أي علمًا ينفعني هو، أو العمل به في ديني وآخرتي، والمعنى: اجعلني عاملًا بعلمي، وعلّمني علمًا أعمل به، ¬

_ (¬1) تكلم في "تهذيب التهذيب" في كلام يعقوب هذا، لكن أخيرًا ما رأيته طائلًا؛ لأن الرجل ما زال مجهولًا - فحذفته؛ لعدم جدواه. فتنبّه.

وفيه إشارة إلى معنى "من عَمِل بما عَلِم ورّثه الله علمَ ما لم يعلم" (وَزِدْنِي عِلْمًا) أي لَدُنيًّا، يتعلّق بذاتك، وأسمائك، وصفاتك، وفيه إشعار بفضيلة زيادة العلم على العمل، قاله القاري (¬1). وقوله: (وَالحمْدُ لله عَلَى كُلّ حَالٍ) أي بعد زيادة العلم، وقبل أن يُزاد، وظاهر العطف يقتضي أن الجملة إنشائيّة، فلذلك عطفت على إنشائيّة (¬2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا ضعيف الإسناد؛ لأن موسى بن عُبيدة مجمع على ضعفه، وشيخه محمد بن ثابت مجهول، لكن المتن صحيح دون جملة الحمد، فقد أخرجه النسائيّ في "الكبرى" (7819) و"الحاكم في "المستدرك" 1/ 510 من طريق عبد الله ابن وهب، عن أسامة بن زيد، عن سليمان بن موسى، عن مكحول، أنه دخل على أنس بن مالك -رضي الله عنه-، قال: فسمعته يذكر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "اللهم انفعني بما علّمتني، وعلّمني ما ينفعني، وارزقني علمًا تنفعني به". قال الحاكم هذا حديث صحيح، على شرط مسلم، ولم يُخرجاه، ووافقه الذهبيّ. والحاصل أن الحديث صحيح من هذا الوجه. والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (45/ 251) بهذا الإسناد، وسيأتي في "كتاب الدعاء" بنفس السند، بزيادة "وأعوذ بالله من حال أهل النار"، وأخرجه (عبد بن حميد) (1419) و (الترمذيّ) (3599)، وأخرجه النسائيّ، والحاكم من حديث أنسّ -رضي الله عنه-، كما ¬

_ (¬1) "المرقاة" 5/ 356. (¬2) "شرح السندي" 1/ 163.

أسلفته آنفًا، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان الانتفاع بالعلم، وأنه هو المقصود الأعظم، ووجه ذلك أنه -صلى الله عليه وسلم- ما طلب من الله تعالى أن ينفعه بعلمه، إلا لأنه المطلوب منه. 2 - (ومنها): استحباب طلب الزيادة من العلم؛ لأنه نور يوصل لمعرفة الله تعالى ومرضاته، فقد أمر الله سبحانه وتعالى نبيّه بطلب الزيادة منه بقوله عز وجل: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، وأما الدنيا فقد نهاه أن يمدّ عينيه إلى زخارفها، فضلًا عن أن يسأله المزيد منها، فقال الله عز وجل: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} الآية [سورة طه]. 3 - (ومنها): ما قاله الطيبيّ رحمه الله: طلب أولًا النفع بما رُزق من العلم، وهو العمل بمقتضاه، ثم توخّى علمًا زائدًا عليه ليترقّى منه إلى عمل زائد على ذلك، ثم قال "رب زدني علمًا" ليشير إلى طلب الزيادة في السير والسلوك إلى أن يوصله إلى مرضاته تعالى، وظهر من هذا أن العلم وسيلة العمل، وهما متلازمان، ومن ثمّ قيل: ما أمر الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم، وما أحسن موقع الحمد في هذا المقام، ومعنى المزيد فيه: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، وموقع الاستعاذة من الحال المضاف إلى النار -يعني في الرواية الآتية برقم (3833) حيث زاد فيها قولَهَ: "وأعوذ بالله من حال أهل النار"- تلميحٌ إلى الفظيعة والبعد، وهذا من جوامع الدعاء الذي لا مطمح وراءه. انتهى كلامه بتصرّف يسير (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ¬

_ (¬1) "الكاشف" 6/ 1929.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 252 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ، قَالا: حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمانَ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ، أَبِي طُوَالَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ الله، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلا لِيُصيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا، لَم يَجِدْ عَرْفَ الجنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" -يَعْني رِيحَهَا-). رجال هذا الإسناد: سبعة: 1 - (أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) المذكور في السند الماضي. 2 - (يُوُنسُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الحافظ البغدادي ثقة ثبت، من صغار [9] 9/ 73. 3 - (سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ) بن مَرْوان الجوهري اللُّؤْلُؤيّ، أبو الحسين، ويقال: أبو الحسن البغداديّ، أصله من خراسان، ثقة يَهِمُ قليلًا، من كبار [10]. رَوَى عن فُليح بن سليمان، والحمادين، ونافع بن عُمر الْجُمَحيّ، ومحمد بن مسلم الطائفي، والحكم بن عبد الملك، وابن أبي الزناد، وهشيم، وغيرهم. ورَوى عنه البخاري، وروى الأربعة له بواسطة محمد بن رافع، وابن أبي شيبة، وأحمد بن منيع، والفضل بن سهل الأعرج، ومحمد بن عامر المصيصي، وأبو خيثمة، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وأحمد بن حنبل، وغيرهم. قال المفضل الغلابي عن ابن معين: ثقة، وسريج بن يونس أفضل منه. وقال العجلي: ثقة. وقال أبو داود: ثقة، حدثنا عنه أحمد بن حنبل، غَلِطَ في أحاديث. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن سعد: كان ثقة. وقال الحاكم عن الدارقطنيّ: ثقة مأمون. وقال ابن حبان في "الثقات": يُكنى أبا الحارث. وقال حنبل بن إسحاق وغيره: مات يوم الأضحى سنة سبع عشرة ومائتين. أخرج له الجماعة، سوى مسلم، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

4 - (فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمانَ) المدنيّ، ليّن الحديث (¬1) [7] 42/ 241. 5 - (عَبْدُ الله بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ، أَبِي طُوَالَةَ) -بضم الطاء المهملة- هو: عبد الله ابن عبد الرحمن بن مَعْمَر بن حَزْم بن زيد بن لَوْذان بن عمرو بن عبد عوف بن غَنْم بن مالك بن النجار الأنصاري النَّجَاري، أبو طوالة المدنيّ، كان قاضي المدينة في زمن عمر ابن عبد العزيز، ثقة [5]. روى عن أنس، وعامر بن سعد، وأبي الحباب سعيد بن يسار، وأبي يونس مولى عائشة، ويحيى بن عمارة، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وعطاء بن يسار، وغيرهم. وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك، وسليمان بن بلال، والأوزاعي، وأبو إسحاق الفزاري، وزائدة، وفليح بن سلمان، وغيرهم. قال أحمد، وابن معين، وابن سعد، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، والدارقطني: ثقة، زاد محمد بن سعد: كثير الحديث، تُوفي في آخر سلطان بني أمية. وقال ابن وهب: حدثني مالك عنه، قال: وكان قاضيًا، وكان يسرد الصوم، وكان يحدث حديثًا حَسَنًا. وأَرّخ الدمياطي موته في كتاب "أنساب الخزرج" سنة أربع وثلاثين ومائة، ويدل عليه قول ابن حبان: مات في خلافة أبي العباس، وقال الدَّقّاق: لا يعرف في المحدثين مَنْ يُكنى أبا طوالة سواه. وقال ابن خِرَاش: كان صدوقًا. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (252) و (3281) و (4017). 6 - (سَعِيدُ بْنُ يَسَارٍ) أبو الحُبَاب المدنيّ، مولى ميمونة، وقيل: مولى شُقْران، أو مولى الحسن بن علي، وقيل: مولى بني النَّجّار، والصحيح أنه غير سعيد بن مُرْجانة، ثقة، متقنٌ [3]. ¬

_ (¬1) هذا أولى من قول "التقريب": صدوق كثير الخطإ؛ لأن الأكثرين على تضعيفه.

روى عن أبي هريرة، وعائشة، وابن عباس، وابن عمر، وزيد بن خالد الجهني. وروى عنه سعيد المقبري، وسهيل بن أبي صالح، وأبو طُوَالة، وربيعة، ويحيى بن سعيد، وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، ومحمد بن عمرو بن عطاء، وابن عجلان، وغيرهم. قال عباس الدُّوري: قال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائي: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقةً، كثير الحديث. وقال العجليّ: مدني ثقة. وقال ابن عبد البر: لا يختلفون في توثيقه. وقال الواقدي: مات سنة (16)، وقيل: سبع عشرة ومائة، وهو ابن ثمانين سنة، وقال ابن حبان: مات بالمدينة سنة سبع عشرة، كذا قال في "الثقات"، وفي نسخة أخرى سنة (12). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، برقم (252) و (800) و (1200) و (1842) و (4262) و (4268). 7 - (أَبُو هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- 1/ 1، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ" شرطيّة، أو موصولة (تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا) "من" للبيان (يُبْتَغَى) بالبناء للمفعول، أي من الذي يُطلب (بِهِ) أي بذلك العلم (وَجْهُ الله) سبحانه وتعالى، وهو العلم الديني، علم الكتاب والسنة، ووسائلهما، قال الطيبيّ رحمه الله ووصَفُ العلم بابتغاء وجه الله يجوز أن يكون إما للتفضلة والتمييز، فإن بعض العلوم مما يُستعاذ منه، كما ثبت من تعوّذه -صلى الله عليه وسلم- من علم لا ينفع، ويجوز أن يكون للمدح، كما ورد "العلوم ثلاثة. . ."، والوعيد من باب التغليظ والتهديد، سمعت بعض العلماء الزاهدين يقول: من طلب الدنيا بالعلوم الدنيويّة كان أهون عليه من أن يطلبها بغيرها من العلوم، فهو كمن جرّ جيفة بآلة من آلات الملاهي، وذاك كمن جرّها بأوراق تلك العلوم، ومثله ما روى الإمام أحمد في "كتاب الزهد" عن بعضهم "لأن

تطلب الدنيا بالدفّ والمزمار خير من أن تطلبها بدينك". انتهى (¬1). وقوله: (لَا يَتَعَلَّمُهُ) جملة في محلّ نصب على الحال، من فاعل "تعلم"، أو من مفعوله؛ لتخصّصه بالوصف، ويحتمل أن يكون صفة أخرى لـ "علمًا" (إِلَّا لِيُصِيبَ) أي ينال (بِهِ) أي بذلك العلم، والاستثناء من عموم الأحوال، أي لا يتعلّمه لغرض من الأغراض إلا ليصيب به (عَرَضًا) بفتح العين المهملة، والراء: أي حظًّا مالًا أو جاهًا (مِنْ الدُّنْيَا) بيان لـ "عرضًا"، يقال: الدنيا عَرَضُ حاضرٌ يأكل منه البرّ والفاجر، ونكّره ليتناول الأنواع، ويندرج فيه قليله وكثيره، وفي "الأزهار": "الْعَرَض" بفتح العين والراء: المال، وقيل: ما يُتمتّع به، وقيل: "الْعَرْض" بالسكون: أصناف المال غير الذهب والفضّة، وبحركة الراء: جميع المال، من الذهب والفضّة، والعُروض كلّها، كذا نقله الأبهريّ. (لَمْ يَجِدْ) حين يجد علماء الدين من مكان بعيد (عَرْفَ الْجنَّةِ) بفتح العين المهملة، وسكون الراء: أي ريحها الطيّبة المعروفة بأنها توجد من مسيرة خمسمائة عام على ما ورد في الحديث (يَوْمَ الْقِيَامَةِ -يَعْني رِيحَهَا-) هذا تفسير من بعض الرواة، وهو فُليح، كما بيّنه الحاكم في "المستدرك" 1/ 85. وهذا الوعيد محمول على من استحلّ ذلك؛ لأن تحريم طلب العلم بهذا القصد فقط مجمع عليه، ومعلوم من الدين بالضرورة، ويحتمل أن يكون الوعيد للتهديد والمبالغة، ويأتي تمام البحث فيه في الفوائد، إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا صحيح. ¬

_ (¬1) "الكاشف" 2/ 683.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي سنده فُليح بن سليمان متكلّم فيه؟. [قلت]: فُليح وإن تكلّم فيه الأكثرون، إلا أن البخاريّ ومسلمًا اعتمدا عليه، وأخرجا له، ولحديثه هذا شواهد، من حديث ابن عمر، وجابر، وأنس، وكعب بن مالك، وحُذيفة، وسيأتي معظمها في هذا الباب -إن شاء الله تعالى-، وهي وإن كان في معظم طرقها كلام، إلا أن مجموعها يتقوى بعضه ببعض، والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (45/ 252) بهذا السند، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (2/ 338) و (أبو داود) (3664) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (78) و (الحاكم) في "المستدرك" (1/ 85) وصححه على شرطهما، ووافقه الذهبي، و (الخطيب) في "التاريخ" (5/ 346 - 347 و 8/ 78) و (ابن عبد البرّ) في "جامع بيان العلم" (230)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف، وهو الانتفاع بالعلم والعمل به، ووجه ذلك أن من تعلم للدنيا لم ينتفع بعلمه، ولم يحصل له الغرض المطلوب منه. 2 - (ومنها): أن فيه دلالةً على الوعيد المذكور لمن لم يقصد بعلمه إلا الدنيا؛ لأنه عبّر بأداة الحصر، فقال: "إلا ليصيب عرضًا إلخ"، فأما من طلب بعلمه رضا الله تعالى، ومع ذلك له ميلٌ ما إلى الدنيا، فخارج عن هذا الوعيد، قال الطيبيّ رحمه الله: فيه أن من تعلّم لرضا الله تعالى مع إصابة العرض الدنيويّ لا يدخل تحت الوعيد؛ لأن ابتغاء وجه الله تعالى يأبى إلا أن يكون متبوعًا غالبًا، ويكون العرض تابعًا، قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النساء: 134]، ففيه تقريع وتوبيخ للمريد؛ لأن من تعلّم العلم، أو جاهد لينال عرضًا من أعراض الدنيا يجب أن يوبّخ، ويقال في حقّه: ما هذه الدناءة؟ أرضيت بالخسيس الفاني، وتركت الرفيع الباقي؟ ما لك لا تريد به وجه الله، وطلب مرضاته؛ ليمنحك ما تريده، ويتبعه

هذا الخسيس أيضًا راغمًا أنفه، ففي حديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه- مرفوعًا: "من كانت الدنيا هَمَّهُ فَرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة" (¬1). 3 - (ومنها): أن طلب الدنيا بعلم الفلسفة ونحوه، مما ليس بعلم شرعيّ لا يدخل في هذا الوعيد. 4 - (ومنها): ما قاله التوربشيّ رحمه الله تعالى: قد حُمِل هذا المعنى على المبالغة في تحريم الجنة على المختصّ بهذا الوعيد، كقولك: ما شممت قُتَار (¬2) قِدره للمبالغة في التبري عن تناول طعامه، أي ما شممت رائحتها، فكيف بالتناول عنها؟، وليس كذلك، فإن المختصّ بهذا الوعيد إن كان من أهل الإيمان فلا بدّ وأن يدخل الجنة، عُرِف ذلك بالنصوص الصحيحة، فتأويل هذا الحديث أن يكون تهديدًا وزجرًا عن طلب الدنيا بعمل الآخرة، وأيضًا يوم القيامة يوم موصوف، وذلك من حين يُحشر الناس إلى أن ينتهي بهم الأمر إما إلى الجنّة، وإما إلى النار، ولا يلزم من عدم وجدانها يوم القيامة فقط عدم وجدانها مطلقًا، وبيان ذلك أن الآمنين من الفزع الأكبر، وهي النفخة الأخيرة إذا وردوا القيامة يُمَدُّون برائحة الجنة تقويةً لقلوبهم وأبدانهم، وتسليةً لهمومهم وأشجانهم على مقدار حالهم في العرفة وإيقانهم، ومن تعلّم للأغراض الفانية، وكان من حقّه أن لا يتعلّمه إلا ابتغاء وجه الله يكون كمن حَدَثَ مرضٌ في دماغه يمنعه عن إدراك الروائح، فلا يجد رائحة الجنة، لما في قلبه من الأغراض المخِلّة بالقوى الإيمانيّة. انتهى (¬3). وقد سبق أن بعضهم حمله على من استحلّ ذلك، فيكون على ظاهره؛ لأن ¬

_ (¬1) حديث صحيح، سيأتي للمصنّف في "كتاب الزهد" برقم (4105). (¬2) "الْقُتَار: ريح القدر، وقد يكون من الشواء والعظم المحرق. "لسان العرب". (¬3) راجع "المرقاة" 1/ 484.

استحلال الحرام كفر. 5 - (ومنها): أن من أشدّ ما ورد من الوعيد في طلب العلم لغير وجه الله تعالى ما أخرجه مسلم في "صحيحه"، قال رحمه الله تعالى: حدثنا يحيى بن حبيب الحارثيّ، حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا ابن جريج، حدثني يونس بن يوسف، عن سليمان بن يسار، قال: تفرق الناس عن أبي هريرة، فقال له ناتل (¬1) أهل الشام، أيها الشيخ حَدِّثنا حديثًا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: نعم سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أولَ الناس يُقضَى يوم القيامة عليه رجلٌ استُشهِد، فأُتي به، فعَرَّفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدتُ، قال: كذبتَ، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أُمِر به، فسُحِب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجلٌ تَعَلَّم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأُتي به، فعَرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أُمِر يه فسُحِب على وجهه حتى أُلقي في النار، ورجلٌ وَسَّعَ اللهُ عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأُتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تُحِبُّ أن يُنفَقَ فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أُمر به، فسُحب على وجهه ثم ألقي في النار"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. [تنبيه]: لمّا وجد أبو الحسن القطان رحمه الله سندًا عاليا برجل على سند المصنّف في هذا الحديث، وذلك حيث وصل إلى فليح فيه بواسطتين، بدلًا من ثلاث وسائط في سند المصنف، أورده هنا، فقال: ¬

_ (¬1) أي مُقَدَّمُهُم.

(قَالَ أَبُو الحَسَنِ أَنْبَأَنا أَبُو حَاتِمٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمانَ فَذَكرَ نَحْوَهُ) (قَالَ أَبُو الحسَنِ) القطّان تلميذ المصنّف (حَدَّثَنَا) وفي نسخة "أَنْبَأَنا"، وفي أخرى: "أنا" (أَبُو حَاتِمٍ) محمد بن إدريس الرازيّ الإمام الحجة (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ) بن شُعبة، أبو عثمان الْخُراسانيّ، نزيل مكة، ثقة، مصنّفٌ، مات سنة (227) وقيل: بعدها، من الطبقة العاشرة، أخرج له الجماعة، وله عند المصنّف حديثان فقط، وستأتي ترجمته برقم (1612) حيث يخرج له هناك -إن شاء الله تعالى- (حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمانَ، فَذَكَرَ) الضمير لسعيد بن منصور (نَحْوَهُ) أي نحو حديث يونس وسُريج بن النعمان، ويحتمل أن يكون فاعل "ذكر" ضمير شيخه أبي حاتم، أي ذكر أبو حاتم في روايته عن شيخه سعيد نحو رواية ابن ماجه عن شيخه أبي بكر بن أبي شيبة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 253 - (حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا أَبُو كَرِبٍ الْأَزْدِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُمارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَماءَ، أَوْ لِيَصْرِفَ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَهُوَ في النَّارِ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ) الدمشقيّ المذكور 1/ 5. 2 - (حَمَّادُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الكلبيّ، أبو عبد الرحمن الْقِنِّسريّ، من أهل قِنِّسرِين، وقيل: كوفيّ، وقيل: حمصيّ، ضعيف [8]. روى عن إدريس بن صَبِيح الأودي، قال ابن عدي: إنما هو إدريس بن يزيد الأودي، وعن إسماعيل بن إبراهيم الأنصاري، وأبي إسحاق السبيعي، وأبي كَرِب الأزديّ، وغيرهم. قال أبو زرعة: يروي أحاديث مناكير. وقال أبو حاتم: شيخ مجهول، منكر

الحديث، ضعيف الحديث. وقال ابن عدي: قليل الرواية. تفرّد به المصنّف وله عنده في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (253) و (1553) و (3680). 3 - (أَبُو كَرِبٍ الْأَزْدِيُّ) -بفتح الكاف، وكسر الراء- عن نافع، عن ابن عمر، وعنه حماد بن عبد الرحمن الكلبيّ، قال أبو حاتم مجهول [7]. تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط. 4 - (نَافِعٌ) مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت مشهور [3] 11/ 99. 5 - (ابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما 1/ 4. شرح الحديث: (عَنْ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-) أنه (قَالَ: "مَنْ) شرطيّة، ويحتمل أن تكون موصولة، دخلت الفاء في خبرها؛ لشبهها للشرطية (طَلَبَ الْعِلْمَ) لا لله تعالى، بل (لِيُمارِيَ) أي يجادل (بِهِ السُّفَهَاءَ) جمع سفيه، وهو قليل العقل، والمراد به الجاهل، ضعيف العقل. قال الطيبيّ رحمه الله: "المماراة": المحاجّة والمجادلة، من المرية، وهو الشكّ، فإن كلّ واحد من المتحاجين يشكّ فيما يقوله صاحبه، أو يُشكّكه بما يورده على حجته، أو من المرى، وهو مسح الحالب الضرع ليستَنْزِل ما به من اللبن، فإن كلّا من المتناظرين يستخرج ما عند صاحبه. قال: هاهنا ألفاظ متقاربة: المجاراة (¬1)، والمماراة، والمجادلة، فالأول محظور مطلقًا؛ لأن المجاراة المقاومة، وجعل الرجل نفسه مثل غيره، يعني لا يطلب العلم لله، بل ليقول للعلماء: أنا عالم مثلكم، ويتكبّر، ويترفّع على الناس؛ لذلك فهو مذموم كلّه، والوعيد مترتّب عليه، ولا يُستثنى منه. ¬

_ (¬1) أي كما في الرواية الآتية برقم (260).

وأما المماراة، والمجادلة فقد يستثنى منهما، كما في قوله عز وجل: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف: 22]، أي لا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف إلا جدالًا ظاهرًا غير متعمّق فيه، ولا تجهّلهم، ولا تُعنّف بهم في الردّ عليهم، كما قال الله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، أي بالطريقة التي هي أحسن طرُق المجادلة، من الرفق واللين، من غير فظاظة، ولا تعنيف، والسفهاء خِفاف الأحلام، فلا تجادلهم، ولا تقل لهم: أنا أعلم، وأنتم سفهاء، فتثور الخصومة والشحناء. ويفهم منه أن بعضًا من المراء محمود، وهو أن يماري الأستاذ التلميذ، فينظر ما مقدار فهمه، أو تحصيله، من المراء، وهو مسح الحالب الضرع، ولعلّ منه سؤالَ جبريل عليه السلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حضور الصحابة -رضي الله عنهم- ليريهم الله تعالى أنه -صلى الله عليه وسلم- مليء من العلوم، وعلمه مأخوذ من الوحي، فيزيد رغبتهم، ونشاطهم فيه، وهو المعْنِيّ بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ليُعلّمكم دينكم"، كما سبق. انتهى كلام الطيبيّ (¬1). (أَوْ لِيُبَاهِيَ) أي يفاخر (بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ لِيَصْرِفَ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ) أي يطلب العلم على نيّة تحصيل المال والجاه، وصرف وجوه عوامّ الناس إليه، وجَعْلِهم كالخدَم له، أو جَعْلِهم ناظرين إليه إذا تكلّم، متعجّبين من كلامه، مجتمعين حوله إذا جلس (فَهُوَ في النَّارِ) معناه أنه يستحقّها بلا دوام، ثم فضل الله تعالى واسع، فإن شاء عفا عنه بلا دخولها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. قال الجامع عفا الله عنه: حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف، وهو ضعيف الإسناد، قال البوصيريّ رحمه الله: وإسناده ضعيف؛ لضعف حمّاد بن عبد ¬

_ (¬1) "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 681 - 682.

الرحمن، وأبي كَرِب، ورواه الترمذيّ في جامعه من حديث كعب بن مالك، وقال: حديث غريبٌ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. انتهى (¬1). لكن الحديث صحيح، لشواهده، فإنه روي من حديث كعب بن مالك عند الترمذيّ، وجابر بن عبد الله، في الحديث التالي، وحديث أبي هريرة، كما سيأتي برقم (260)، وكلها وإن كان في أسانيدها مقال، إلا أنه يتقوى بعضها ببعض (¬2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال: 254 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَنبَأَنا يَحْيَى بْنُ أَيُوبَ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَلَا لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ، وَلَا تخَيَّرُوَا بِهِ الْمجَالِسَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالنَّارُ النَّارُ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى) الذهليّ الإمام الحافظ [11] 2/ 16. 2 - (ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) هو: سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم بن أبي مريم الْجُمَحيّ بالولاء، أبو محمد المصريّ، ثقة ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [10]. رَوَى عن عبد الله بن عمر العمري، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، وسليمان بن بلال، وإبراهيم بن سويد، ومالك، والليث، وغيرهم. ورَوى عنه البخاري، وروى له هو والباقون بواسطة محمد بن يحيى الذهلي، والحسن بن علي الخلال، ومحمد بن سهل بن عسكر، ومحمد بن إسحاق الصغاني، وغيرهم. قال أبو داود: ابن أبي مريم عندي حجة. وقال الحسين بن الحسن الرازي: سألت ¬

_ (¬1) "مصباح الزجاجة" 1/ 111. (¬2) راجع "صحيح الترغيب والترهيب" للشيخ الألباني رحمه الله تعالى 1/ 153 - 155.

أحمد عمَّن أكتب بمصر؟ فقال: عن ابن أبي مريم. وقال العجلي: كان عاقلًا، لم أر بمصر أعقل منه، ومن عبد الله بن عبد الحكم. وقال أبو حاتم: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن معين: ثقة من الثقات. وقال الحاكم عن الدارقطني: قال النسائي: سعيد بن عُفير صالحٌ، وسعيد بن الحكم لا بأس به، وهو أحب إلي من ابن عُفير. وقال ابن يونس: كان فقيهًا، وُلد سنة (144)، ومات سنة أربع وعشرين ومائتين. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا. 2 - (يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) الغافقيّ، أبو العباس المصريّ، صدوقٌ، ربما أخطأ [7] 42/ 240. 3 - (ابْنُ جُرَيْج) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم، المكيّ، ثقة فقيه فاضلٌ، يدلّس ويرسل [6] 10/ 92. 4 - (أَبُو الزُّبَيْر) هو: محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، صدوقٌ يدلّس [4] 4/ 33. 5 - (جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله) بن عمرو بن حَرَام رضي الله عنهما 1/ 11. وقوله: "لا تعلّموا" أصله لا تتعلّموا، فحذف منه إحدى التاءين، كما قال في "الخلاصة": وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدِ يُقْتَصَرْ ... فِيهِ عَلَى تَا كتبَيَّنُ الْعِبَرْ وأما قول السنديّ: ويحتمل أنه من العلم، فغير صحيح، كما استبعده هو. وقوله: "ولا تخيّروا به المجالس" أي لا تختاروا به خيار المجالس، وصدورها. وقوله: "فالنار" أي فله النار، أو فيستحقّ النار، فـ "النّارُ" مرفوع على الأول، ومنصوب على الثاني، وتمام شرح الحديث سبق في الحديث الماضي. قال الجامع عفا الله عنه: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف، وهو صحيح، قال البوصيريّ: هذا إسناد رجاله ثقات، على شرط مسلم.

انتهى (¬1). وهو كما قال، لكن فيه عنعنة ابن جريج، وأبي الزبير، وهما مدلّسان، لكن الحديث صحيح بشواهده، كما أسلفنا الكلام فيه في الحديث الماضي. وأخرجه (ابن حبان) في "صحيحه" (77) و (الحاكم) في "المستدرك" (1/ 86) و (ابن عبد البرّ) في "جامع العلم" (226)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 255 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، أَنبَأَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَن يَحْيَىَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْكِنْدِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ الله بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَ أُناسًا مِنْ أُمَّتِي سيَتَفَقَّهُونَ في الدِّينِ، وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَيَقُولُونَ: نَأْتِي الْأُمَرَاءَ، فَنُصِيبُ مِن دُنْيَاهُمْ، وَنَعْتَزِلهُمْ بدِينِنَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ، كَما لَا يُجْتَنَى مِن الْقتادِ إِلا الشَّوْكُ، كَذَلِكَ لَا يُجْتَنَى مِنْ قُرْبِهِمْ، إِلَّا" -قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ-: كَأَنَّهُ يَعْنِي الخطَايَا). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ) بن سفيان الجَرْجرائيّ، صدوقٌ [10] 1/ 2. 2 - (الْوَليدُ بْنُ مُسْلِمٍ) أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقة كثير التدليس والتسوية [8] 6/ 42. 3 - (يَحْيَىَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْكِنْدِيُّ) أو الكنانيّ، أبو شيبة المصريّ، صدوقٌ [6]. رَوَى عن عمر بن عبد العزيز، وعبيد الله بن المغيرة بن أبي بردة، وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم، وحبان بن أبي جبلة، وزيد بن أبي أنيسة، وغيرهم. وروى عنه الوليد بن مسلم، وهشيم، وأبو صالح المصري، إلا أن هشيما قَلَبَ اسمه، فقال: عبد الرحمن يحيى، قال البخاري: وغلط فيه هُشيم، وقال أبو القاسم ¬

_ (¬1) "مصباح الزجاجة" 1/ 111.

الطبراني: ذِكْرُ ما انتهى إلينا من مسند أبي شيبة، يحيى بن عبد الرحمن الكنديّ، وكان ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط. 4 - (عُبَيْدُ الله بْنُ أَبِي بُرْدَةَ) هو: عبيد الله بن المغيرة بن أبي بردة الكناني، نُسب إلى جده، ويقال له: عبدَ الله مكبّرًا أيضًا، مقبول [4]. رَوَى عن ابن عباس، وعنه أبو شيبة يحيى بن عبد الرحمن الكنديّ. قال الحافظ: الذي في عدة نسخ من "سنن ابن ماجه" في الوجه الذي أخرجه منه ابن ماجه: "عن عبيد الله بن أبي بردة"، وقد رواه الطبراني من الوجه الذي أخرجه منه ابن ماجه، فقال: "عن عبيد الله بن المغيرة بن أبي بردة" به. أخرجه الضياء في "المختارة"، ومقتضاه أن يكون عبيد الله عنده ثقة. انتهى (¬1). تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط. 5 - (ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما 3/ 27، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-) أنه (قَالَ: "إِنَّ أُنَاسًا مِنْ أُمَّتِي سَيَتَفَقَّهُونَ في الدِّينِ) أي يدّعون الفقه في الدين (وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَيَقُولُونَ: نَأْتِي الْأُمَرَاءَ، فَنُصِيبُ مِنْ دُنْيَاهُمْ، وَنَعْتَزِلهُمْ بِدِينِنَا) أي نجانبهم في الدين بحيث لا يُصيب ديننا نقص من جهتهم (وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ) أي لا يتحقق لهم ذلك الذي أرادوه، وهو الإصابة من دنياهم، والابتعاد بدينهم عنهم (كَما لَا يُجْتَنَى) بالبناء للمفعول، من جَنَى الثمرة: إذا تناولها من الشجرة (مِنْ الْقَتَادِ) بفتح القاف، وتخفيف التاء الفوقيّة: شجرٌ له شوك، لا يكون له ثمرٌ، سوى الشوك، فنبه بهذا التمثيل على أن قرب الأمراء لا يفيد سوى المضرّة الدينيّة أصلًا، وهذا إما مبنيّ على أن ما قُدّر له من الدنيا ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" 3/ 27 - 28.

فهو آتٍ لا محالةَ، سواء أتى أبواب الأمراء، أم لا، فحينئذ ما بقي في إتيان أبوابهم فائدة إلا المضرّة المحضة، أو على أن النفع الدنيويّ الحاصل بصحبتهم بالنظر إلى الضرر الدينيّ كلا شيء، فما بقي إلا الضرر. وعن محمد بن أبي سلمة: الذباب على العذرات أحسن من قارىء على أبواب هؤلاء (¬1). (إِلَّا الشَّوْكُ) بالرفع على أنه نائب فاعل "يُجتنى" (كَذَلِكَ لَا يُجْتَنَى) بالبناء للمفعول أيضًا (مِنْ قُرْبِهِمْ، إِلَّا") بحذف المستثنى، والاكتفاء بأداته؛ لوضوحه (قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ) شيخ المصنّف مفسّرًا للمستثنى المحذوف (كَأَنَّهُ) أي كأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- (يَعْنِي) أي يقصد (الْخطَايَا) يعني أنه أراد إلا الخطايا. والله تعالى أعلم. قال الجامع عفا الله عنه: حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد (المصنّف)، أخرجه هنا (45/ 255) بهذا الإسناد، وهو ضعيف؛ قال البوصيريّ رحمه الله: هذا إسناد ضعيفٌ، عبيد الله بن أبي بردة لا يُعرف، لكن قال عبد العظيم المنذريّ في "كتاب الترغيب": إن جميع رواته ثقات. انتهى (¬2). وقول المنذريّ فيه نظر لا يخفى؛ لأن عبيد الله هذا لم يرو عنه سوى يحيى بن عبد الرحمن، فلا يزال مجهولًا، ولعله استند إلى ما سبق من أن الضياء أخرج له في "المختارة"، وفيه نظر أيضًا. والحاصل أن الحديث ضعيف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلي الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 256 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي مُعَاذِ الْبَصْرِيِّ. . . (ح) وحَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ سَيْفٍ، عَنْ ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 166. (¬2) "مصباح الزجاجة" 1/ 113.

أَبِي مُعَاذٍ الْبَصْرِيِّ، عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ جُبِّ الْحُزْنِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، وَمَا جُبُّ الْحُزْنِ؟ قَالَ: وَادٍ فِيَ جَهَنَّمَ، تَعَوَّذُ مِنْهُ جَهَنَّمُ كُلَّ يَوْمٍ أَرْبَعَ مِائَةِ مَرَّةٍ؟، قِيلَ: يَا رَسُولَ الله، مَنْ يَدْخُلُهُ؟ قَالَ: "أُعِدَّ لِلْقُرَّاءِ المُرَائِينَ بِأَعْمَالهِمْ، وَإِنَّ مِنْ أَبْغَضِ الْقُرَّاءِ إِلَى الله الَّذِينَ يَزُورُونَ الْأُمَرَاءَ -قَالَ المُحَارِبِيُّ-: الْجَوَرَةَ"). رجال هذا الإسناد: ثمانية: 1 - (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطنافسيّ الكوفيّ، ثقة عابد [10] 9/ 57. 2 - (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) بن سَمُرة الأحمسيّ، أبو جعفر السرّاج الكوفيّ، ثقة [10] 9/ 65. 3 - (إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) السَّلُوليّ -بفتح السين المهملة، ولامين- مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ، تُكُلّم فيه للتشيّع [9]. روى عن إسرائيل، وزهير بن معاوية، وإبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق السبيعي، والحسن بن صالح، وداود بن نصير الطائي، وهريم بن سفيان، وغيرهم. وروى عنه أبو نعيم، وهو من أقرانه، وابنا أبي شيبة، وعباس العنبري، وأبو كريب، وابن نمير، والقاسم بن زكريا بن دينار، وأحمد بن سعيد الرِّبَاطي، وعباس الدُّوري، ويعقوب بن شيبة السدوسي، وجماعة. قال ابن معين: ليس به بأس. وقال العجلي: كوفي ثقة، وكان فيه تشيع، وقد كتبت عنه. وذكره ابن حبان في "الثقات". قال البخاري: مات سنة (204)، وقال أبو داود وغيره: مات سنة (205). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث فقط، برقم (256) و (2532) و (2679) و (2779) و (3354) و (3627) و (3633) و (3752) و (4195). 4 - (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ بنِ زِيَادٍ المُحَارِبِيُّ) أبو محمد الكوفيّ، لا بأس به، وكان

يدلّس [9]. رَوَى عن إبراهيم بن مسلم الهجري، وإسماعيل بن أبي خالد، والحجاج بن أرطاة، وسلّام الطويل، والأعمش، وإسماعيل بن مسلم المكي، وعباد بن كثير، وغيرهم. وروى عنه أحمد بن حنبل، وهناد بن السري، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو سعيد الأشجّ، وأحمد بن حرب الموصلي، وعلي بن محمد الطنافسي، وغيرهم. قال ابن معين، والنسائي: ثقة، وقال النسائي أيضًا: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صدوق إذا حدث عن الثقات، ويروي عن المجهولين أحاديث منكرة، فيُفْسِد حديثه. وقال محمود بن غيلان: قيل لوكيع: مات عبد الرحمن المحاربي، فقال: رحمه الله ما كان أحفظه لهذه الأحاديث الطوال!. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال البخاري عن محمود بن غيلان: مات سنة خمس وتسعين ومائة، وكذا أَرّخه ابن سعد، وقال: كان ثقةً كثير الغلط. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: هو صدوق، ولكنه هو كذا ضعَفه. وقال البزار، والدارقطني: ثقة. وقال عثمان الدارمي: سألت ابن معين عنه، فقال: ليس به بأس، قال عثمان: وعبد الرحمن ليس بذاك. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: بلغنا أنه كان يُدَلِّس، ولا نعلمه سمع من معمر. وقال عبد الله بن محمد عن عاصم: حدثنا، فقال: لعله سمعه من سيف بن محمد عن عاصم -يعني فدلسه-. وقال العجلي: كان يُدَلِّس، أنكر أحمد حديثه عن معمر. وقال العجلي: لا بأس به. وقال الساجي: صدوق يَهِم. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (26) حديثًا. 5 - (عَمَّارُ بْنُ سَيْفٍ) الضَّبِّيِّ -بالمعجمة، ثم الموحدة- أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ضعيف الحديث، وكان عابدًا [9]. روى عن أبي معان البصير، وابن أبي ليلى، وهشام بن عروة، والأعمش، وعاصم الأحول، والثوري، وإليه كان الثوري أوصى.

وروى عنه ابنه محمد، وابن إدريس، وابن المبارك، والمحاربي، وإسحاق بن منصور السَّلُولي، وأبو غَسَّان النَّهْديّ، وأبو نعيم، وغيرهم. قال ابن أبي رِزْمة: أخبرني أبي عن ابن المبارك، عن عمار بن سيف، وأثنى عليه خيًرا وقال أبو أسامة الكلبيّ: ثنا عبيد بن إسحاق، ثنا عمار بن سيف، وقال: شيخ صدوق. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ليس حديثه بشيء. وقال أبو زرعة: ضعيف. وقال أبو حاتم: كان شيخًا صالحًا، وكان ضعيف الحديث، منكر الحديث. وقال أبو داود: كان مُغَفَّلًا. وقال العجلي. ثقة ثبت متعبد، وكان صاحب سنة، كان يقال: إنه لم يكن بالكوفة أحد أفضل منه، رَوَى عنه ابن إدريس، قديم الموت، ليس يُحَدِّث عنه إلا الشيوخ، وموته بعد موت سفيان بقليل. وقال عثمان الدارمي، والليث بن عَبدة عن يحيى ابن معين: ثقة. وقال أبو غَسَّان: ثنا عمار بن سيف، وكان من خيار الناس. وقال الدارقطني: كوفي متروك. وقال الحاكم: يروى عن إسماعيل بن أبي خالد، والثوري المناكير. وقال ابن الجارود عن البخاري: لا يتابع، منكر الحديث، ذاهب وقال البزار: ضعيف، وقال في موضع آخر: صالح -يعني في نفسه-. وقال أبو نعيم الأصبهاني. روى المناكير، لا شيء. وقال ابن عدي: رَوَى عاصم الأحول، عن أبي عثمان، عن جرير حديث "تُبْنَى مدينة بين دجلة ودجيل. . ." الحديث، قال: وهو منكر، لا يُروَى إلا عن عمار هذا، والضعف على حديثه بَيِّنٌ. وذكره العقيليّ في "الضعفاء"، وذكر له هذا الحديث، ثم أسند عن المُخَرِّمِيِّ، عن يحيى بن معين قال: سمعت يحيى بن آدم يقول لنا: إنما أصاب عمارٌ هذا على ظهر كتاب فرواه. تفرّد به الترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 6 - (أَبُو مُعَاذٍ الْبَصْرِيُّ) في أكثر النسخ بالذال المعجمة، وفي بعضها: "أبو معانٍ" بالنون بدل الذال، قال في "التقريب": أبو معاذ، ويقال: بالنون بدل الذال، وهو أرجح، مجهول [6].

وفي "تهذيب التهذيب": أبو معاذ، ويقال: أبو معانٍ، وهو أصحّ، بصريّ، عن أنس، ومحمد بن سيرين، وعنه عمّار بن سيف الضبّيّ، وفي ابن ماجه: عن عمّار بن سيف، عن أبي معاذ أيضًا، وقال عمّار الأزديّ: محمد، أو أنس -يعني ابن سيرين- أُبهم في روايته، فلا يُدرَى عَنى شيخه محمدًا أو أنسًا. انتهى (¬1). تفرّد به الترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 7 - (ابْنُ سِيرِينَ) هو محمد البصريّ الثقة الفقيه العابد [3] 3/ 24. 8 - (أَبُو هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- 1/ 1، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "تَعَوَّذُوا بِالله مِنْ جُبِّ الحُزْنِ) "الْجُبّ" بضم الجيم، وتشديد الباء الموحّدة: البئر التي لم تُطْوَ، و"الْحَزَن" بفتحتين، أو بضمّ، فسكون: ضدّ الفرح، أي من جُبّ فيها الحزن لا غير، قال الطيبيّ: "جُبّ الحزن" هو علم، والإضافة فيه كما في "دار السلام"، أي دار فيها السلام من كل حزن وآفة (قَالُوا) أي الصحابة الحاضرون عنده -صلى الله عليه وسلم- (يَا رَسُولَ الله، وَمَا جُبُّ الحُزْنِ؟ قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- (وَادٍ) أي هو واد عَميقٌ، من كمال عمقه يشبه البئر (في جَهَنَمَ، تَعَوَّذُ) بحذف إحدى التاءين، أي تتعوّذ (مِنْهُ) أي من عذابه الشديد (جَهَنَّمُ) مع اشتمالها عليه، قال الطيبيّ: التعوّذ من جهنم هنا كالنطق منها في قوله تعالى: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30]، وكالتميُّز والتغيّظ في قوله تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك:8]، والظاهر أن يُجرى ذلك على المتعارف؛ لأنه تعالى قادر على كل شيء. وقال في "الكشّاف": سؤال جهنّم، وجوابها، من باب التخييل الذي يُقصد به تصوير المعنى في القلب، وتبيينه، وتميّزها، وتغيّظها تشبيه لشدّة غليانها بالكفّار بغيظ المغتاظ، وتميزه، واضطرابه عند الغضب. انتهى. ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" 4/ 590.

قال الجامع عفا الله عنه: لقد صدق صاحب "الكشّاف" في قوله: "من باب التخييل"؛ إذ أن هذا من تخيّلاته الفاسدة، فإنه لا يثبت ما أثبت ظاهر القرآن من كلام جهنم، بل يجعله من باب الاستعارة المجازيّة، وهذا من ضلالاته وانحرافاته، والحقّ أن جهنم تتكلّم حقيقةً، وتقول: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30]، كما أخبرنا بذلك ربنا سبحانه وتعالى، وتتغيظ، ولها زفير، نسأل الله تعالى أن يعيذنا منها، إنه أرحم الراحمين. (كُلَّ يَوْمٍ) يحتمل النهار، والوقت، والثاني أظهر (أَرْبَعَ مِائَةِ مَرَّةٍ؟) وفي رواية الترمذيّ: "مائة مرّة"، قال القاري: لعلّ خصوص العدد باعتبار جهاتها الأربعة، يعني كلّ جهة مائة مرّة، ويحتمل التحديد والتكثير، ويمكن أن يقدّر مضاف، أي يتعوّذ زبانيتها، أو أهلها. انتهى. قال الجامع عفا الله عنه: لا داعي لمعرفة خصوص العدد، وأما تقدير المضاف، فظاهر البطلان، كما نَبَّهْتُ عليه في ردّ كلام صاحب الكشّاف، فتبصّر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. (قِيلَ: يَا رَسُولَ الله، مَنْ يَدْخُلُهُ؟) أي الجبّ المذكور، وفي نسخة: "ومن يدخلها"، أي تلك البقعةَ المسمّاة بجبّ الحزن التي ذكر شدّتها، وهو عَطْفٌ على محذوف، أي ذلك شيء عظيم هائلٌ، فمن الذي يستحق الدخول فيه؟ (قَالَ) -صلى الله عليه وسلم- ("أُعِدَّ لِلْقُرَّاءِ) بضم القاف، جمع قارىء، أي الذين يقرءون القرآن (المُرَائِينَ) أي الذي يراءون الناس (بِأَعْمَالهِمْ) الحسنة، من قراءة القرآن وغيرها (وَإِنَّ مِنْ) زائدة (أَبْغَضِ الْقُرَّاءِ إِلَى اللهِ) سبحانه وتعالى (الَّذِينَ يَزُورُونَ الْأُمَرَاءَ) أي من غير ضرورة تُلجئهم، بل طمعًا في مالهم وجاههم، ولذا قيل: بئس الفقير على باب الأمير، ونعم الأمير على باب الفقير؛ لأن الأوّل مشعرٌ بأنه متوجّه إلى الدنيا، والثاني مشعرٌ بأنه متوجّه إلى الآخرة (قَالَ) عبد الرحمن بن محمد (المُحَارِبِيُّ) في روايته (الجُوَرَةَ) بالنصب صفة لـ "الأمراءَ"، أي الظَّلَمَةَ، وهو بفتحتين: جمع جائر، ككامل وكملة، كما قال في "الخلاصة": في نَحْوِ رَامِ ذُو اطِّرَادٍ فُعَلَهْ ... وَشَاعَ نَحْوُ كَامِلٍ وَكمَلَه

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا ضعيف، لضعف إسناده، فإن عمار بن سيف الضبيّ، ضعيف، وأبو معاذ، أو أبو معانٍ البصريّ، مجهول، قال البوصيريّ رحمه الله: رواه الترمذيّ في "الجامع" (2383) عن أبي كريب، عن المحاربيّ به، دون قوله: "وإن من أبغض القراء" إلى آخره، وقال: "مائة مرّة" بدل "أربعمائة"، والباقي نحوه، وقال: حديث غريب (¬1). ورواه الطبرانيّ في "الأوسط" بنحوه، إلا أنه قال: "يُلقى فيه الغرّارون، قيل: يا رسول الله وما الغرّارون؟ قال: المراءون بأعمالهم في الدنيا". وله شاهد من حديث ابن عباس رواه الطبرانيّ في "الأوسط"، كما رواه ابن ماجه، قال الحافظ عبد العظيم في "الترغيب والترهيب": رفع حديث ابن عباس غريبٌ، ولعله موقوف. والله أعلم. انتهى (¬2). والحاصل أن الحديث ضعيف، والشاهد المذكور لا يصحّ، والله تعالى أعلم. [تنبيه]: وقع في بعض النسخ هنا ذكر قواله: قال أبو الحسن: حدثنا خازم بن يحيى، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة إلخ الآتي بعد الحديث التالي، وهو غلط، فإنه تابع للحديث الآتي، لا لهذا الحديث، فتنبّه. وإنما التابع لهذا الحديث هو قول أبي الحسن: (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي مُعَاذٍ، قَالَ مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ. قَالَ عَمَّارٌ: لَا أَدْرِي مُحَمَّدٌ، أَوْ أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ). وإنما زاده أبو الحسن لأنه وجد سندًا عاليًا على طريق المصنّف، حيث وصل إلى ¬

_ (¬1) الذي في النسخة الموجودة عندنا: "حديث حسن غريب"، فليُنظر. (¬2) "مصباح الزجاجة" 1/ 113.

عّمار بواسطتين، بدلًا من ثلاث وسائط. و1 - (إبراهيم بن نصر) هو أبو إسحاق الرازي، من شيوخ القطان، وليس من شيوخ ابن ماجه، وقد تقدّمت ترجمته في 43/ 244. و2 - (أبو غسّان مالك بن إسماعيل) النَّهْديّ الكوفيّ، ثقة متقنٌ، صحيح الكتاب، عابدٌ، من صغار [9] 10/ 84. وقوله: "لا أدري إلخ" أراد به أن قول أبي معاذ: "عن ابن سيرين" لم يتبيّن هل أراد محمدًا أو أخاه أنسًا، أما محمد، فقد تقدّمت ترجمته 3/ 24 وأما أنس فهو ثقة [3]، فستأتي ترجمه في "كتاب المساجد" 8/ 756 لأنه أول محلّ ذكر المصنّف له في هذا الكتاب -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 257 - (حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَالحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ النَّصْرِيِّ، عَنْ نَهْشَلٍ، عَنْ الضَّحَّاكِ، عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ الله ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوا الْعِلْمَ، وَوَضَعُوهُ عِنْدَ أَهْلِهِ، لَسَادُوا بِهِ أَهْلَ زَمَانِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ بَذَلُوهُ لِأَهْلِ الدُّنْيَا؛ لِيَنَالُوا بِهِ مِنْ دُنْيَاهُمْ، فَهَانُوا عَلَيْهِمْ، سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ جَعَلَ الهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا، هَمَّ آخِرَتِهِ، كَفَاهُ الله هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الهُمُومُ في أَحْوَالِ الدُّنْيَا، لَمْ يُبَالِ الله في أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ"). رجال هذا الإسناد: ثمانية: 1 - (عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) المذكور في السند الماضي. 2 - (الحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أبو علي الْجَرْجَرَائيّ -بجيمين مفتوحتين، وراءين الأولى ساكنة، مقبول [10]. روى عن الوليد بن مسلم، وطَلْق بن غَنّام، وابن نمير، وخَلَف بن تميم، وغيرهم.

وروى عنه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد بن علي الأَبّار، وغيرهم. ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: حدثنا عنه أهل واسط. وقال غيره: مات سنة (253). أخرح له أبو داود، والنسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (257) و (4106). 3 - (عَبْدُ الله بْنُ نُمَيْرٍ) الهمدانيّ الكوفيّ، ثقة سنّيّ، من كبار [9] 8/ 52. 4 - (مُعَاوِيَةُ النَّصْرِيُّ) -بالنون- هو: معاوية بن سَلَمة بن سليمان النَّصْري، أبو سلمة الكوفي، سكن دمشق، صدوقٌ (¬1) [8]. روى عن إسماعيل بن أبي خالد، ونهشل بن سعيد النيسابوري، وعبد العزيز بن رُفيع، والحكم بن عتيبه، والقاسم بن أبي بَزّة، وأبي حَصِين الأسدي، وجماعة. وروى عنه الأوزاعي، وهو من أقرانه، وأبو معاوية، وعبد الله بن نُمير، وغيرهم. قال البخاري: قال عبد الله بن نمير: كان ثقة. وقال إبراهيم بن الجنيد: سألت ابن معين عنه، فقال: هو معاوية أبو سلمة، قلت: كيف حديثه؟ فكأنه ضعفه. وقال أبو حاتم: مستقيم الحديث. وقال أيضًا: ثقة. وقال ابن أبي عاصم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا ابن نمير، عن معاوية النَّصري، وكان ثقة، وهكذا قال أبو الحسن بن القطان في زيادات "السنن" له: حدثنا خازم بن يحيى، حدثنا أبو بكر به. تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (257) و (4106). 5 - (نَهْشَلٌ) بن سعيد بن وَرْدان الورداني، أبو سعيد، ويقال: أبو عبد الله الخراساني النيسابوري، ويقال: الترمذيّ، بصري الأصل، متروك، وكذّبه إسحاق بن ¬

_ (¬1) وقوله في "التقريب": مقبول، غير مقبول؛ بل هو صدوقٌ، فقد روى عن جماعة، وروى عنه جماعة ووثقة أبو حاتم، وابن نمير، اقرأ ترجمته.

راهويه [7]. روى عن الضحاك بن مزاحم، وداود بن أبي هند، والربيع بن النعمان، وغيرهم. وروى عنه الثوري، وعبد الله بن نمير، ومعاوية بن سلمة النصري، وغيرهم. وقال أبو داود الطيالسي، وإسحاق بن راهويه: كَذّاب. وقال الدُّوري عن ابن معين: ليس بشيء، وقال مرة: ليس بثقة. وقال أبو داود: ليس بشيء. وقال أبو زرعة، والدارقطني: ضعيف. وقال أبو حاتم: ليس بقوي، متروك الحديث، ضعيف الحديث. وقال الْجُوزجانيّ: غير محمود في حديثه. وقال النسائي: متروك الحديث، وقال في موضع آخر: ليس بثقة، ولا يُكتب حديثه. وقال ابن حبان: يَروي عن الثقات ما ليس من أحاديثهم، لا يحل كَتْب حديثه، إلا على التعجب. وقال الحاكم: روى عن الضحاك المعضلات، وعن داود بن أبي هند حديثًا منكرًا. وقال البخاري: رَوى عنه معاوية النّصْري أحاديث مناكير. وقال أبو سعيد النقاش: روى عن الضحاك الموضوعات. تفرّد به المصنّف، وله عنده في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (257) و (3357) و (4106). 6 - (الضَّحَّاكُ) بن مُزَاحم الهلالي، أبو القاسم، ويقال: أبو محمد الخراسانيّ، صدوقٌ، كثير الإرسال [5]. روى عن ابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وزيد بن أرقم، وأنس ابن مالك، وقيل: لم يثبت له سماع من أحد من الصحابة، وعن الأسود بن يزيد النخعي، وعبد الرحمن بن عَوْسَجة، وغيرهم. وروى عنه جُويبر بن سعيد، والحسن بن يحيى البصري، وعبد الرحمن بن عَوْسجة، وعبد العزيز بن أبي رواد، وإسماعيل بن أبي خالد، ونهشل بن سعيد، وغيرهم. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة مأمون. وقال ابن معين، وأبو زرعة: ثقة. وقال

أبو قتيبة عن شعبة: قلت لِمُشاش: الضحاك سمع من ابن عباس؟ قال: ما رآه قط. وقال سَلْم بن قتيبة: قال أبو داود عن شعبة: حدثني عبد الملك بن ميسرة قال: الضحاك لم يَلْقَ ابن عباس، إنما لَقِيَ سعيد بن جبير بالرّيّ، فأخذ عنه التفسير. وقال أبو أسامة عن المعلى، عن شعبة، عن عبد الملك، قلت للضحاك: سمعت من ابن عباس؟ قال: لا، قلت: فهذا الذي تحدثه عمن أخذته؟ قال: عن ذا، وعن ذا. وقال ابن المديني، عن يحيى بن سعيد: كان شعبة لا يحدث عن الضحاك بن مزاحم، وكان ينكر أن يكون لَقِي ابن عباس قط. وقال علي، عن يحيى بن سعيد: كان الضحاك عندنا ضعيفًا. وقال البخاري: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن حكيم بن الدَّيْلم، عن الضحاك -يعني ابن مزاحم- قال: سمعت ابن عمر يقول: "ما طَهُرَت كَفّ فيها خاتم من حديد"، وقال: لا أعلم أحدًا قال: سمعت ابن عمر إلا أبو نعيم. وقال أبو جَنَاب الْكَلبيّ، عن الضحاك: جاورت ابن عباس سبع سنين. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: لقي جماعة من التابعين، ولم يشافه أحدًا من الصحابة، ومن زعم أنه لقي ابن عباس، فقد وَهِم، وكان مُعَلِّم كتاب، ورواية أبي إسحاق عن الضحاك، قلت لابن عباس: وهم من شَرِيك. وقال ابن عديّ: عُرِف بالتفسير، وأما روايته عن ابن عباس، وأبي هريرة، وجميع مَنْ رَوَى عنه، ففي ذلك كله نظر، وإنما اشتهر بالتفسير. وقال العجلي: ثقة، وليس بتابعي. وقال الدارقطني: ثقة. قال الحسين بن الوليد: مات سنة (106)، وقال أبو نعيم: مات سنة خمس ومائة، وقال ابن قانع: قال أحمد عن الحسين بن الوليد: مات الضحاك سنة (2)، وكذا قال يعقوب الفسوي. أخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (257) و (1862) و (2049) و (3357) و (4106). 7 - (الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ) بن قيس النَّخَعيّ، أبو عمرو، ويقال: أبو عبد الرحمن.

روى عن أبي بكر، وعمر، وعليّ، وابن مسعود، وحذيفة، وبلال، وعائشة، وغيرهم. وروى عنه ابنه عبد الرحمن، وأخوه عبد الرحمن، وابن أخته إبراهيم بن يزيد النخعي، وعمارة بن عُمير، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو بردة بن أبي موسى، ومحارب ابن دِثَار، وأشعث بن أبي الشَّعْثَاء، وجماعة. قال أبو طالب عن أحمد: ثقة من أهل الخير. وقال إسحاق عن يحيى: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث صالحة. وقال أبو إسحاق: تُوُفِّي الأسود بن يزيد بالكوفة سنة خمس وسبعين، وقال غيره: مات سنة (74) كدا قال ابن أبي شيبة في "تاريخه"، وذكر ابن أبي خيثمة أنه حج مع أبي بكر، وعمر، وعثمان. وقال الحكم: كان الأسود يصوم الدهر، وذهبت إحدى عينيه من الصوم. وذكره جماعة ممن صنف في الصحابة لإدراكه. وقال ابن سعد: سمع من معاذ ابن جبل باليمن قبل أن يهاجر، ولم يرو عن عثمان شيئًا. وقال العجلي: كوفي جاهليّ، ثقة، رجل صالح. وذكرد إبراهيم النخعي فيمن كان يُفتي من أصحاب ابن مسعود. وقال ابن حبان في "الثقات": كان فقيهًا زاهدًا. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (4) حديثًا. 8 - (عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ) -رضي الله عنه- 2/ 19. شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ) -رضي الله عنه- أنه (قَالَ: لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ) أي الشرعيّ (صَانُوا الْعِلْمَ) أي حفظوه عن المهانة بحفظ أنفسهم عن الذلّ بملازمة الظلَمَة، ومصاحبة أهل الدنيا طمعًا في مالهم، وجاههم (وَوَضَعُوهُ عِنْدَ أَهْلِهِ) أي الذين يعظّمونه، ويعملون به، ويعرفون قدره من أهل الآخرة (لَسَادُوا بِهِ أَهْلَ زَمَانِهِمْ) أي لصاروا أئمةً لأهل عصرهم؛ لكمالهم، وشرفهم؛ لأن من شأن العلم أن يكون الملوك، فمن دونهم تحت أقدامهم، وأقلامهم، وطوع آرائهم وأحكامهم، قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا

مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]. قال الطيبيّ: وذلك لأن العلم رفيع القدر، يرفع قدر من يصونه عن الابتذال، قال الزهريّ: العلم ذكرٌ لا يحبّه إلا ذكور الرجال، أي الذين يحبون معالي الأمور، ويتنزّهون عن سفسافها. انتهى (وَلَكِنَّهُمْ بَذَلُوهُ لِأَهْلِ الدُّنْيَا) أي بأن خصّوهم به، أو تردّدوا إليهم به (لِيَنَالُوا بِهِ) أي ليصيبوا بسببه (مِنْ دُنْيَاهُمْ، فَهَانُوا عَلَيْهِمْ) أي ذَلُّوا عند أهل الدنيا؛ لأنهم أهانوا رفيعًا، فأهانهم الله عند أذلاء الناس (سَمِعْتُ نَبِيكُّمْ -صلى الله عليه وسلم-) قال الطيبيّ: هذا الخطاب توبيخٌ للمخاطبين حيث خالفوا أمر نبيّهم -صلى الله عليه وسلم-، فخولف بين العبارتين افتنانًا (يَقُولُ: "مَنْ) شرطيّة، أو موصولة (جَعَلَ به الهُمُومَ) أي الهموم التي تطرقه من مِحَن الدنيا، وكَدَرها، ومُرّ عيشها (هَمًّا وَاحِدًا) أي من جعل همّه واحدًا موضع الهموم التي للناس، أو من كان له هموم متعدّدةٌ، فتركها، وجعل موضعها الهمّ الواحد (هَمَّ آخِرَتِهِ) بنصب "هَمَّ" بدلًا من "همًّا واحدًا" (كَفَاهُ الله هَمَّ دُنْيَاهُ) المشتمل على الهموم، يعني كفاه همّ دنياه أيضًا (وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الهُمُومُ) أي تفرّقت به الهموم، أو فرّقته الهموم، فالباء على الأول بمعنى "في"، وعلى الثاني للتعدية، وإن جُعلت للمصاحبة، أي مصحوبةً معه كان صحيحًا (في أَحْوَالِ الدُّنْيَا، لَمْ يُبَالِ الله في أَيِّ أَوْدِيَتَهَا) أي أودية الدنيا، أو أودية الهموم (هَلَكَ) كناية عن عدم الكفاية والعون مثل ما يحصل للأول، والمعنى: أنه لا يكفيه هم دنياه، ولا همّ أُخراه، فيكون ممن خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. قال الجامع عفا الله عنه: حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- هذا من أفراد (المصنّف)، أخرجه هنا (45/ 257) وسيعيده في "كتاب الزهد" برقم (4106)، وإسناده ضعيفٌ جدّا، فإن نَهْشْل بن سعيد متروك، بل كذّبه بعضهم، وقال النقّاش: رَوى عن الضحاك الموضوعات، كما سبق في ترجمته، وقال البوصيريّ: وله شاهد من حديث أنس -رضي الله عنه-،

رواه الترمذيّ في "الجامع". انتهى (¬1). قال الجامع: أما الموقوف، فضعيفٌ جدّا، وأما المرفوع فسيأتي من حديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه- في "كتاب الزهد" برقم (4105) بإسناد صحيح، فهو صحيح به، وأما تحسين بعضهم حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- هذا، فمما لا ينبغي؛ لأن الذي يقبل التصحيح، والتحسين ما لم يكن في سنده كذّاب، أو وضّاع، ونهشل قد عَرَفتَ حاله، فلا يتقوّى مرويّه لا بالمتابعة، ولا بالشواهد، فتفطّن لهذه الفائدة. وأما حديث أنس -رضي الله عنه- الذي أخرجه الترمذيّ، ففي سنده يزيد الرّقَاشِيّ ضعيف، بل قال النسائيّ: متروك الحديث. والحاصل أن المرفوع صحيح من حديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه-، وأما من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- فضعيف لا ينجبر، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ثم ذكر أبو الحسن القطّان سندًا آخر غير سند المصنّف، وإن لم يكن عاليًا، فقال: (قَالَ أَبُو الحسَنِ: حَدَّثَنَا خَازِمُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ النَّصْرِيّ، وَكَانَ ثِقَةً، ثُمَّ ذَكَرَ الْحدِيثَ نَحْوَهُ بِإِسْنَادِهِ). 1 - (خازم بن يحيى) بالخاء المعجمة، على الصواب، ووقع في نسخ ابن ماجه بالحاء المهملة، وهو غلطٌ فتنبّه، وهو من شيوخ القطّان، ولا يروي عنه ابن ماجه، وقد سبقت ترجمته 10/ 84. 2 - (أبو بكر بن أبي شيبة) الكوفيّ الحافظ الثقة [10] 1/ 1. 3 - (محمد بن عبد الله بن نمير) الكوفيّ، ثقة حافظ [1/ 4. 4 - (ابن نمير) هو والد محمد، عبد الله بن نمير الهمدانيّ الكوفيّ، ثقة سنّي، من ¬

_ (¬1) "مصباح الزجاجة" 1/ 115.

كبار [9] 8/ 52. وقوله: "وكان ثقة" من كلام ابن نمير، كما نقله عنه البخاريّ (¬1). وقوله: "ثم ذكر الحديث إلخ" الضمير لخازم بن يحيى، أي ذكر خازم الحديث بنحو ما ذكره علي بن محمد، والحسين بن عبد الرحمن بالإسناد السابق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 258 - (حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ، وَأَبُو بَدْرٍ، عَبَّادُ بْنُ الْوَليدِ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ الْهَنائِيُّ، حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ الْمُبَارَكِ الْهُنَائِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانيِّ، عَن خَالِدِ بْنِ دُرَيْكٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِغَيْر الله -أَوْ- أَرَادَ بِهِ غَيْرَ الله، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقعَدَهُ مِنْ النَّارِ"). رجال هذا الإسناد: سبعة: 1 - (زَيْدُ بْنُ أَخزَمَ) -بمعجمتين- الطائيّ النبهانيّ، أبو طالب البصريّ، ثقة حافظ [11]. روى عن أبي داود الطيالسي، ويحيى القطان، وابن مهدي، وأبي قتيبة، وغيرهم. وروى عنه الجماعة، سوى مسلم، وروى له النسائي أيضًا بواسطة زكريا السجزي، وأبو حاتم، وابن خزيمة، وابن أبي عاصم، وأبو بكر البزار، وغيرهم. قال أبو حاتم، والنسائي: ثقة. وقال إبراهيم بن محمد الكنديّ: ذبحه الزِّنْج سنة سبع وخمسين ومائتين. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مستقيم الحديث. وقال الدارقطني: ثقة. وقال صالح بن محمد: صدوق في الرواية. وقال مسلمة: ثنا عنه ابن المحامليّ، وهو ثقة. وله عند المصنّف في هذا الكتاب (11) حديثًا. ¬

_ (¬1) راجع "تهذيب التهذيب" 4/ 107.

2 - (أَبُو بَدْرٍ، عَبَّادُ بْنُ الْوَليدِ) بن خالد الغُبَريّ -بضم الغين المعجمة، وفتح الموحّدة، المخففة- المؤدّب، من كَرْخِ سُرَّ مَنْ رَأَى، سكن بغداد، صدوقٌ [11]. روى عن مُعَمَّر بن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، وبكر بن يحيى بن زَبّان، وحَبَّان بن هِلال، وأبي عَتّاب الدَّلال، ومحمد بن عَبّاد الْهُنَائي، وغيرهم. وروى عنه ابن ماجه، وأحمد بن عليّ الأَبّار، وزكرياء الساجي، وابن أبي الدنيا، وأبو حاتم، وابنه عبد الرحمن بن أبي حاتم، وابن صاعد، وغيرهم. قال ابن أبي حاتم: سمعت منه مع أبي، وهو صدوق، وسئل أبي عنه، فقال: شيخ. وذكره ابن حبان في "الثقات". قال ابن قانع: مات سنة (58)، وقال ابن مخلد: مات سنة اثنتين وستين ومائتين. تفرّد به المصنّف، وله عنده في هذا الكتاب تسعة أحاديث، برقم (258) و (270) و (362) و (732) و (1644) و (1806) و (1811) و (1980) و (2826). 3 - (مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ الْهُنَائِيُّ) -بضم الهاء، وتخفيف النون الممدودة- أبو عبّاد البصريّ، صدوقٌ [9]. روى عن علي بن المبارك الْهُنَائي، وشعبة، ويونس بن أبي إسحاق، وحُميد بن مِهْران الخياط، ومثنى بن موسى بن سلمة الْهُذَلي، ومُجَّاعة بن الزبير. وروى عنه ابن سعد، وعبدة بن عبد الله الصَّفّار، وزيد بن أخزم، وعلي بن نصر الجوهري، وأبو بدر، عباد بن الوليد الْغُبَرِيُّ، ومحمد بن مَعْمَر البحراني، وغيرهم. قال أبو حاتم: "صدوق، خلط صاحب "الكمال" ترجمته بترجمة محمد بن عَبّاد بن آدم، والصواب التفريق، فإن الْهُنَائي أقدم من ذلك، له عندهم حديث ابن عمر في الوعيد على التعلم لغير الله، قاله في "التهذيب" (¬1). أخرج له الترمذيّ، والنسائي، والمصنف، وله عندهم هذا الحديث فقط. ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" 3/ 601.

4 - (عَليُّ بْنُ المُبَارَكِ الْهُنَائِيُّ) -بضم الهاء، وتخفيف النون الممدودة- البصريّ، ثقة، في حديث الكوفيين عنه شيء، من كبار [7]. رَوَى عن عبد العزيز بن صهيب، وأيوب، وهشام بن عروة، ويحيى بن أبي كثير، وحسين المعلم، ومحمد بن واسع، والحسن بن مسلم العبدي، وغيرهم. وروى عنه وكيع، والقطان، وابن المبارك، وابن علية، ومسلم بن قتيبة، ويحيى ابن كثير العنبري، ومحمد بن عباد الهنائي، وهارون الخزاز، وغيرهم. قال صالح بن أحمد عن أبيه: ثقة، كانت عنده كتبٌ عن يحيى بن أبي كثير، بعضها سمعها، وبعضها عرض. وقال الدُّوري عن ابن معين: قال بعض البصريين: عَرَض علي بن المبارك على يحيى بن أبي كثير عَرْضًا، وهو ثقة، وليس أحد في يحيى مثل هشام الدستوائي، والأوزاعي، وهو بعدهما. وقال يعقوب بن شيبة: علي، والأوزاعي ثقتان، والأوزاعي أثبتهما، ورواية الأوزاعي عن الزهري خاصة فيها شيء، ورواية علي عن يحيى بن أبي كثير فيها وَهَاء. وقال ابن المديني: قال يحيى -يعني القطان-: كان عنده كتاب واحد سمعه من يحيى، والآخر تركه عنده، قيل له: فرواية يحيى بن سعيد عنه؟ قال: لم يسمع منه يحيى إلا ما سمعه من يحيى. قال يعقوب بن شيبة: وسمعت علي بن عبد الله يقول: علي بن المبارك أحب إلي من أبان. وقال الآجري عن أبي داود: ثقة، وقال أيضًا: كان عنده كتابان: كتاب سماع، وكتاب إرسال، قلت لعباس العنبري: كيف يُعْرَف كتاب الإرسال؟ قال: الذي عند وكيع عنه، عن عكرمة، من كتاب الإرسال، وكان الناس يكتبون كتاب السماع. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان ضابطًا متقنًا. وقال ابن عَمّار عن يحيى بن سعيد: أما ما رويناه نحن عنه فما سمع، وأما ما رَوَى الكوفيون عنه، فمن الكتاب الذي لم يسمعه. وقال ابن عديّ، ولعلي أحاديث، وهو ثَبْتٌ في يحيى، متقدم فيه، وهو عندي لا بأس به. ووثقه ابن المديني، وابن نمير، والعجلي.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (258) و (3898). 5 - (أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ) ابن أبي تميمة، أبو بكر البصريّ، ثقه ثبت فقيه عابد [5] 2/ 17. 5 - (خَالِدُ بْنُ دُرَيْكٍ) بالمهملة، والراء، مصغّرًا- الشاميّ، ثقة يُرسل [3]. رَوَى عن ابن عمر، وعائشة، ولم يدركهما، ويعلى بن منية مُرْسَلًا، وغيرهم. وروى عنه أيوب السختياني، وأبو بشر جعفر بن أبي وحشية، وابن عون، والأوزاعي، وقتادة، وغيرهم. قال ابن معين: مشهور، وقال مرة: ثقة. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات" في أتباع التابعين. وقال أبو داود: لم يُدرك عائشة. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي وذَكَر حديثًا، رواه أبو توبة، عن بشير بن عطية، عن خالد بن دُريك، قال: سمعت يعلى بن منية يقول: غزوت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: ما أدري ما هذا؟، ما أحسب خالد بن دريك لقي يعلى بن منية. وقال عبد الحق في "الأحكام": لم يسمع من عائشة. أخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 6 - (ابْنُ عُمَرَ) عبد الله رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ) يحتمل أن تكون شرطيّة، أو موصولة (طَلَبَ الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللهِ أَوْ) للشكّ من الراوي (أَرَادَ بهِ غَيْرَ الله، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ) الظاهر أن هذا إخبار بأنه يستحقّ ذلك، ويحتمل أَن يكون دعاء عليه بأن يُبَوِّئَهُ الله تعالى ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا إسناده ضعيف؛ للانقطاع؛ لأن خالد بن

دُريك، وإن كان ثقة، إلا أنه لم يُدرك ابن عمر رضي الله عنهما، فهو منقطع، كما تقدّم في ترجمته، وكذلك صرّح الحافظ المزيّ في "تحفة الأشراف" 5/ 342 والمنذريّ في "الترغيب والترهيب" 1/ 69، وحسّنه الترمذيّ، وفي تحسنه نظر؛ لما ذُكر، وكتب الحافظ في "النكت الظراف" 5/ 342 على قول الحافظ المزّيّ: "خالد بن دُريك لم يدرك ابن عمر": ما، نصّه: قلت: حكم ابن القطّان بصحّته، فكأنه عنده متّصلٌ، أو اكتفى بالمعاصرة. انتهى. قال الجامع عفا الله عنه: يمكن الجواب عن تحسين الترمذيّ، وتصحيح القطّان بأنه للشواهد، لا لخصوص هذا السند، فإن أحاديث الباب تشهد له، فلا يُستبعد في تحسينه، أو تصحيحه، فليُتأمّل. والله تعالى أعلم. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (45/ 258) بهذا الإسناد، وأخرجه (الترمذيّ) (2655) و (النسائيّ) في "الكبرى" 3/ 457 رقم (5910) و (الأصبهانيّ) في "الترغيب" (377/ 1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 259 - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ الْعَبَّادَانِيُّ، حَدَّثَنَا بَشِيرُ بْنُ مَيْمُونٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَشْعَثَ بْنَ سَوَّارٍ، عَنْ ابْنِ سِيرينَ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُوُل: "لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ؛ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ لِتَصْرِفُوا وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْكُمْ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ في النَّارِ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (أَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ بنِ عَنْبَسَةَ الْعَبَّادَانِيُّ)، أبو صالح، نزيل بغداد، صدوق [11]. روى عن بشير بن ميمون، أبي صيفي، وسعيد بن عامر الضبعي، والفضل بن العباس، وغيرهم.

وروى عنه ابن ماجه، والعباس بن أحمد الْبرْتيّ القاضي، وابن أبي الدنيا، وغيرهم. ذكره ابن حبان في "الثقات". تفرّد به المصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 2 - (بَشِيرُ بْنُ مَيْمُونٍ) أبو صيفيّ الواسطيّ، أصله خُراسانيّ، قدم بغداد، ثم صار إلى مكة، متروك، متّهَمٌ [8]. روى عن أشعث بن سوار الكوفي، وجعفر الصادق، وسعيد المقبري، وغيرهم. وعنه أحمد بن عاصم العباداني، وعلي بن حُجْر، والحسن بن عرفة، وغيرهم. كتب عنه أحمد بن حنبل، ولم يحدث عنه، وقال في رواية ابنه عبد الله: ليس بشيء. وقال ابن معين: أجمع الناس على طرح حديث هؤلاء النفر، فذكره فيهم. وقال البخاري: منكر الحديث، وقال في موضع آخر: يُتَّهَمُ بالوضع. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، وعامة رواياته مناكير، يكتب حديثه على الضعف وقال الجوزجاني: غير ثقة، والنسائيّ: ليس بثقة، ولا مأمون، وقال في موضع آخر: متروك الحديث، وكذا قال الدارقطني. وقال ابن عديّ: روى عن سعيد المقبري أحاديث غير محفوظة، وروى عن عطاء، وعكرمة، ومجاهد، وغيرهم أحاديث لا يتابعه عليها أحد، وهو ضعيف جدّا. وذكره البخاري في "الأوسط" في "فصل من مات بين الثمانين ومائة إلى التسعين ومائة". وقال أبو داود: ليس بشيء. وقال عبد الله بن المديني عن أبيه: ضعيف، كان يقول: حدثنا مجاهد. وقال عمرو بن علي: ضعيف في الحديث. وقال ابن حبان: يخطىء كثيرًا حتى خَرَج عن حد الاحتجاج به إذا انفرد. تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط. 3 - (أَشْعَثُ بْنُ سَوَّارٍ) الكنديّ النَّجَّار الكوفيّ، مولى ثقيف، ويقال له: أشعث النّجّار أشعث التابوتيّ، وأشعث الأفرق، ويقال: الأثرم صاحب التوابيت، وكان على

قضاء الأهواز، ضعيفٌ [6]. روى عن الحسن البصري، والشعبي، وعدي بن ثابت، وعكرمة، وأبي إسحاق، وغيرهم. وروى عنه شعبة، والثوري، وهشيم، وحفص بن غياث، وبشير بن ميمون، وغيرهم. قال الثوري: أشعث أثبت من مجالد. وقال يحيى بن سعيد: الحجاج بن أرطاة، ومحمد بن إسحاق عندي سواء، وأشعث دونهما. وقال عمرو بن عليّ: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عنه، ورأيت عبد الرحمن يَخُطُّ على حديثه. وقال أبو موسى: ما سمعت يحيى، ولا عبد الرحمن حَدّثا عن سفيان عنه بشيء قط. وقال الدُّوري عن ابن معين: أشعث بن سوّار أحب إلي من إسماعيل بن مسلم، وسمع من الشعبي، ولم يسمع من إبراهيم، وقال مرة: ضعيف. وقال ابن الدَّوْرقي عنه: ثقة. وقال أحمد: هو أمثل في الحديث من محمد بن سالم، ولكنه على ذلك ضعيف الحديث. وقال العجلي: أمثل من محمد بن سالم. وقال أبو زرعة: لين. وقال النسائي، والدارقطني: ضعيف. وقال ابن عدي: ولأشعث بن سوّار روايات عن مشايخه، وفي بعض ما ذكرت يخالفونه، وفي الجملة يُكتب حديثه، وأشعث ابن عبد الملك خير منه، ولم أجد له فيما يرويه متنًا منكرًا، إنما في الأحايين يَخْلِط في الإسناد، ويخالف. وقال الْبَرْقاني: قلت للدارقطني: أشعث عن الحسن؟ قال: هم ثلاثة، يحدثون جميعًا عن الحسن: الحمراني، وهو ابن عبد الملك، أبو هانئ، ثقة، وابن عبد الله بن جابر الْحُدّانيّ يُعتَبر به، وابن سَوّار يُعتَبر به، وهو أضعفهم، رَوَى عنه شعبةُ حديثًا واحدًا. وقال ابن حبان: فاحش الخطاء، كثير الوهم. وقال ابن سعد: كان ضعيفًا في حديثه. وقال العجلي: ضعيف يُكتب حديثه، وقال مرة: لا بأس به، وليس بالقوي. قال: وقال ابن مهدي: هو أرفع من مُجالد، قال:

والناس لا يتابعونه على هذا، مجالد أرفع منه. وقال ابن شاهين في "الثقات": عن عثمان بن أبي شيبة: صدوق، قيل: حجة؟ قال: لا. وقال بندار: ليس بثقة. وقال الآجري: قلت لأبي داود: أشعث، وإسماعيل بن مسلم، أيهما أعلى؟ قال: إسماعيل دون أشعث، وأشعث ضعيف. وقال البزار: لا نعلم أحدًا ترك حديثه، إلا من هو قليل المعرفة. واستنكر له العقيليّ روايته عن الحسن، عن أبي موسى: "حديث الأذنان من الرأس"، وقال لا يتابع عليه. قال عمرو بن علي: مات سنة (136). أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، ومسلم في المتابعات، والترمذيّ، والنسائيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط برقم (259) و (1757) و (2607) و (2973) و (3038). 4 - (ابْنُ سِيرِينَ) المذكور قبل حديثين. 5 - (حُذَيْفَةُ) بن اليمان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما 7/ 49. قال الجامع عفا الله عنه: شرح هذا الحديث، وفوائده تقدّمت في شرح حديث رقم (253) و (254)، وهو من أفراد المصنّف، وإسناده ضعيف جدّا؛ لأن بشير بن ميمون متروك، بل قال البخاريّ: يُتّهم بالوضع، وأشعث بن سوّار ضعيف. وأما متن الحديث فقد سبق أنه صحيح، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلي الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 260 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنبَأَنَا وَهْبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ سَعِيدٍ الْمقْبُرِيُّ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ؛ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَيُجَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، وَيَصرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسَ إِلَيْهِ، أَدْخَلَهُ الله جَهَنَّمَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ إِسماعِيلَ) الأحمسيّ، ثقة [10] تقدم قبل ثلاثة أحاديث. 2 - (وَهْبُ بْنُ إِسماعِيلَ الْأَسَدِيُّ) هو: وهب بن إسماعيل بن محمد بن قيس الأسديّ، أبو محمد الكوفيّ، صدوقٌ، من كبار [9]. رَوَى عن جده محمد بن قيس، وعبد الله بن سعيد المقبري، وعُمر بن ذَرّ، وغيرهم. وروى عنه قبيصة، وأحمد بن حنبل، وأبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير، ومحمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي، وأبو سعيد، وعثمان، وغيرهم. قال عبد الله بن أحمد: كتبنا عنه أحاديث، رَوَى عندنا مناكير عن وِقَاء بن إِيَاس. وقال إبراهيم بن الجنيد عن ابن معين: ليس بشيء. وقال أبو موسى، محمد بن المثنى: ثنا وهب بن إسماعيل الأسدي، وكان من الثقات. وقال الآجري عن أبي داود: ما سمعت إلا خيرًا. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطىء. وقال الساجي: قال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وله عنده هذا الحديث فقط. 3 - (عَبْدُ الله بْنُ سَعِيدٍ المُقْبُرِيُّ) المدنيّ، متروكٌ [7] 2/ 21. 4 - (جَدُّهُ) أَبو سعيد كيسان المقبريّ المدنيّ، ثقة ثبتٌ [2] 2/ 21. 5 - (أَبُو هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- 1/ 1. قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا من أفراد (المصنّف)، أخرجه هنا (45/ 260) فقط، وهو ضعيف الإسناد جدّا؛ لأن عبد الله بن سعيد المقبريّ متروك، كما أسلفناه، لكن متن الحديث تقدّم بأسانيد غير هذا، وهي وإن كان فيها كلام، إلا أنه بمجموعها صحيح، كما أسلفنا تحقيقه في الحديث (253)، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

46 - باب من سئل عن علم فكتمه

46 - (بَابُ مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ) وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 261 - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا عُمارَةُ (¬1) بْنُ زَاذَانَ، حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ الحكَم، حَدَّثَنَا عَطاَءٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "مَا مِنْ رَجُلٍ يَحْفَظُ عِلْمًا، فَيَكْتُمُهُ إِلَّا أُتِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِنْ النَّارِ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) الكوفيّ الحافظ [10] 1/ 1. 2 - (أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ) الشاميّ، نزيل بغداد، أبو عبد الرحمن، ويلقّب شاذان، ثقة [9]. رَوَى عن شعبة، والحمادين، والثوري، والحسن بن صالح، وجرير بن حازم، وجماعة. ورَوَى عنه أحمد بن حنبل، وابنا أبي شيبة، وعلي بن المديني، وأبو ثور، وعمرو الناقد، وأبو كريب، والصغاني، والدارمي، والحارث بن أبي أسامة، خاتمة أصحابه، وغيرهم. قال ابن معين: لا بأس به. وقال ابن المديني: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق صالح. وقال ابن سعد: صالح الحديث، مات سنة (208)، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات أول سنة ثمان. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث، برقم (261) و (599) و (1593) و (1991) و (2195) و (3476) و (3746) و (3765) و (4098). 3 - (عُمَارَةُ بْنُ زَاذَانَ) الصَّيْدَلانيّ، أبو سلمة البصريّ، صدوقٌ، كثير الخطإ [7]. روى عن مكحول، وثابت، والحسن البصري، وعلي بن الحكم البناني، وغيرهم. ¬

_ (¬1) بضمّ العين المهملة، فما وقع في نسخة بشّار من ضبطه بالكسر فمن التصحيفات، فتنبّه.

وروى عنه عبد الله بن نمير، وأسود بن عامر، وحَبّان بن هلال، وروح بن عبادة، وغيرهم. قال الأثرم عن أحمد: يروي عن ثابت عن أنس أحاديث مناكير. وقال مسلم، وعبد الله بن أحمد عن أحمد: شيخ ثقة، ما به بأس. وقال ابن معين: صالح. وقال البخاريّ: ربما يضطرب في حديثه. وقال الآجري عن أبي داود: ليس بذاك، وقال أيضًا: حج سبعا وخمسين حجة. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، ولا يُحتج به، ليس بالمتين. وقال ابن عديّ: وهو عندي لا بأس به، ممن يُكتب حديثه. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الدارقطني: ضعيف، وزاد الْبَرْقاني عنه: يعتبر به. وقال البخاري: مولى بني تيم الله بن ثعلبة. وقال ابن عمار الموصلي: ضعيف. وقال العجلي: بصري ثقة. وقال الساجي: فيه ضعف، ليس بشيء، ولا يقوى في الحديث. أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والترمذي، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 4 - (عَلِيُّ بْنُ الحكَمِ) الْبُنَاني -بضم الموحّدة، وبنونين، الأولى خفيفة- أبو الحكم البصريّ، ثقة، ضعّفه الأزديّ بلا حجة [5]. رَوَى عن أنس، وميمون بن مِهران، وأبي عثمان النَّهْدي، وعطاء بن أبي رباح، وغيرهم. وروى عنه جرير بن حازم، وسعيد بن أبي عروبة، وشعبة، وعبد الوارث بن سعيد، وجعفر بن سليمان، وعلي بن الفضل، وعمارة بن زاذان، وغيرهم. قال أبو طالب عن أحمد: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: لا بأس به، صالح الحديث. وقال أبو داود، والنسائيّ: ثقة. ووثقه العجليّ، وأبو بكر البزار، وابن نمير، وغيرهم. وقال الدارقطني: ثقة يُجمَع حديثه. وقال أبو الفتح الأزدي: زائغٌ عن

القصد، فيه لين (¬1). وقال ابن سعد: هو بُنَانيّ من أنفسهم، وكان ثقةً، وله أحاديث، تُوُفي سنة إحدى وثلاثين ومائة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (3) أو (31)، وقال البخاري في "التاريخ": مات سنة (35). أخرج له البخاريّ حديثين، والأربعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (261) و (309) و (3234). 5 - (عَطَاَءٌ) بن أبي رَبَاح -بفتح الراء، والموحّدة- واسم أبي رَيَاح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكي، ثقة فقيه فاضلٌ، لكنه كثير الإرسال [3]. رَوَى عن ابن عباس، وابن عَمْرو، وابن عُمَر، وابن الزبير، ومعاوية، وأسامة بن زيد، وجابر بن عبد الله، وزيد بن أرقم، وعبد الله بن السائب المخزومي، وعَقِيل بن أبي طالب، وغيرهم. ورَوَى عنه ابنه يعقوب، وأبو إسحاق السبيعي، ومجاهد، والزهري، وأيوب السختياني، وأبو الزبير، والحكم بن عتيبة، والأعمش، والأوزاعي، وابن جريج، وعبد الكريم الجزري، وخلق كثير. قال ابن المديني: هو مولى حَبِيبة بنت مَيْسرة بن أبي خُثَيم. وقال ابن سعد: كان من موَلَّدي الجْنَد، ونشأ بمكة، وهو مولى لبني فِهْر، أو الجُمَح، وانتهت إليه فتوى أهل مكة، وإلى مجاهد في زمانهما، وأكثر ذلك إلى عطاء، سمعت بعض أهل العلم يقول: كان عطاء أسود أعور أفطس أشلّ أعرج، ثم عَمِي بَعْدُ، وكان ثقةً فقيهًا عالِمًا، كثير الحديث. وقال الآجري عن أبي داود: كان أبو عطاء نُوْبِيّا، وكان يعمل المكاتل، وذَكَرَ فيه ما تقدم من العيوب، وزاد: وقُطعت يده مع ابن الزبير. وقال ضَمْرة بن ربيعة: سمعت رجلًا يقول: اسم أم عطاء بَرَكة. وقال ابن معين: كان معَلِّم كُتَّاب. وقال خالد بن أبي نَوْف عن عطاء: أدركت ¬

_ (¬1) قد عرفت أنه تحامل بدون حجة، فلا التفات إليه، فتنبّه.

مائتين من الصحابة. وعن ابن عباس أنه كان يقول: تجتمعون إلي يا أهل مكة، وعندكم عطاء. وكذا رُوي عن ابن عمر. وقال أبو عاصم الثقفي: سمعت أبا جعفر يقول للناس، وقد اجتمعوا عليه: عليكم بعطاء، هو والله خير مني. وعن أبي جعفر قال: ما بقي أحد أعلم بمناسك الحج من عطاء. وقال عبد العزيز بن أبي حاتم عن أبيه: ما أدركت أحدًا أعلم بالمناسك منه. وقال ابن أبي ليلى: كان عالِمًا بالحج، وكان يوم مات ابن مائة سنة، ورأيته يُفطِر في رمضان، ويقول: قال ابن عباس: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة: 184]: إني أطعم أكثر من مسكين. وقال عبد الله بن إبراهيم بن عُمر بن كَيْسان، عن أبيه: أذكر في زمن بني أمية صائحًا يصيح: لا يفتي الناس إلا عطاء. وقال ربيعة: فاق عطاءٌ أهلَ مكة في الْفُتُوَّة. وقال قتادة: قال لي سليمان بن هشام: هل بمكة أحدٌ؟ قلت: نعم أقدم رجل في جزيرة العرب عِلْمًا، قال: مَنْ؟ قلت: عطاء بن أبي رباح. وقال قتادة: إذا اجتمع لي أربعة، لم أُبال مَن خالفهم: الحسن، وسعيد، وإبراهيم، وعطاء، قال: هؤلاء أئمة الأمصار. وقال ابن عيينة عن عُمر بن قيس المكي عنه: أعقِلُ مَقْتَل عثمان وقال أبو حفص الباهلي، عن عمر بن قيس: سألت عطاء متى وُلدت؟ قال: لعامين خَلَوَا من خلافة عثمان. وذَكَر أحمد بن يونس الضبي أنه وُلد سنة (27). وقال أبو المليح الرَّقّيّ: مات سنة (114). وقال ميمون: ما خَلَّفَ بعده مثله. وقال يعقوب بن سفيان، والبخاري عن حيوة بن شُريح، عن عباس بن الفضل، عن حماد بن سلمة: قَدِمت مكة، وعطاء حي، فقلت: إذا أفطرت دخلت عليه، فمات في رمضان. وقال أحمد وغير واحد: مات سنة (14)، وقال القطان: مات سنة (14) أو (15)، وقال ابن جريج، وابن عيينة، وآخرون: مات سنة (15)، وقال خليفة: مات سنة (117). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (67) حديثًا. 6 - (أَبُو هرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- 1/ 1، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث: (عَن أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- (أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: مَا) نافية (مِنْ) زائدة بعد النفي (رَجُلٍ) مبتدأ خبره جملة الاستثناء (يَحْفَظُ عِلْمًا) قيّده بالحفظ؛ إذ لا كتمان بدونه (فَيَكْتُمُهُ) أي إذا سئل عنه، كما في الروايات الآتية، وكأنه ترك ذكره إذ لا يظهر الكتمان قبل ذلك (إِلَّا أُتِيَ بِهِ) بالبناء للمفعول (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) حال كونه (مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِن النَّارِ) أي مدخلًا اللجام في فمه؛ لأنه موضع خروج العلم والكلام. والظاهر أن المراد أنه يحضر المحشر كذلك، ثم أمرُهُ بعد ذلك إلى الله تعالى، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه؛ لأنه أمسك عن قول الحقّ وقتَ الحاجة والسؤال، فجوزي بمثله حيث أمسك الله فمه في وقت اشتداد الحاجة إلى الكلام، والجواب عند السؤال عن الأعمال، ثم لعلّ هذا مخصوص بما إذا كان السائل أهلًا لذلك العلم، ويكون العلم نافعًا، وقال الخطابيّ: هو في العلم الضروريّ، كما لو قال: علّمني الإسلام، والصلاة، وقد حضر وقتها، وهو لا يحسنها، لا في نوافل العلم التي لا ضرورة بالناس إلى معرفتها. ذكره السنديّ (¬1). وقال الطيبيّ: قوله: "بلجام" من باب التشبيه لبيانه بقوله: "من النار"، كقوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، شُبّه ما يوضع في فيه من النار بلجام في فم الدابّة، وهو إنما كان جزاء إمساكه عن قول الحقّ، وخصّ اللجام بالذكر تشبيهًا له بالحيوان الذي سخّر، ومُنع من قصد ما يريده، فإن العالم شأنه أن يدعو الناس إلى الحقّ، ويُرشدهم إلى الطريق المستقيم، قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]، لا سيّما وقد سئل عما يضطرّه إلى الجواب، فإذا امتنع منه جوزي بما امتنع عن الاعتذار، كما قال الله تعالى: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 170.

[المرسلات: 36]، ويدخل في زمرة مَن قال فهم: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65]، وهذا في العلم الذي يلزمه تعليمه إياه، ويتعيّن فرضه عليه، كمن رأى من يريد الإسلام، ويقول: علّمني ما الإسلام؟، وكمن يرى حديث عهد بالإسلام لا يُحسن الصلاة، وقد حضر وقتها، ويقول: علّمني كيف أصلي؟، وكمن جاء مستفتيًا في حلال أو حرام يقول: أفتوني، أرشدوني، فإنه يلزم في هذه الأمور أن لا يُمنع الجواب، فمن فعل كان آثمًا مستحقًّا للوعيد، وليس كذلك الأمر في نوافل الأمور التي لا ضررة بالناس إلى معرفتها، ومنهم من يقول هو علم الشهادة. انتهى كلام الطيبيّ (¬1). قال الجامع عفا الله عنه: ما ذكره الطيبيّ حسنٌ، غير قوله: "باب التشبيه إلخ"؛ إذ لا حاجة هنا لدعوى المجاز؛ لأن الحقيقة لا مانع يمنع منها، فإلجامه بلجام مصنوع من النار غير بعيد، فلماذا يدّعى المجاز؟ فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا صحيح، وإسناده حسنٌ، فإن عُمارة بن زاذان متكَلّم فيه، ولكنه لم ينفرد بهذا الحديث، فقد تابعه حماد بن سلمة، فرواه عن عليّ بن الحكم بإسناده ومتنه، كما هو عند الإمام أحمد في "مسنده"، وأبي داود في "سننه"، وابن حبّان في "صحيحه". والحاصل أن الحديث صحيح (¬2)، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 680 - 681. (¬2) أجاد محقق "جامع بيان العلم وفضله" في تخريج هذا الحديث، والكلام على طرقه، فراجعه 1/ 3 - 22.

(المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (46/ 261) بهذا السند، وسيعيده (266) من رواية محمد بن سيرين عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، وأخرجه (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده" (2534) و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" 9/ 55 و (أحمد) في في "مسنده" 2/ 263 و 305 - و 344 و353 و499 و508 و (أبو داود) (3658) و (الترمذيّ) (2649) و (ابن حبّان) في "صحيحه" (95) و (الطبرانيّ) في "الصغير" (1/ 60 وفي 114 و162) و (الحاكم) في "مستدركه" (1/ 101) و (البغويّ) في "شرح السنّة" (140)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده: 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان حكم من سئل عن علم، فكتمه، وهو أن له الوعيد المذكور. 2 - (ومنها): أن فيه بيان وجوب نشر العلم، وعدم كتمه، ويشمل ذلك عدم حبس الكتب عن الطلّاب، لا سيمّا عند عدم تعدد نسخ الكتب، وما أكثر الابتلاء بهذا، وخصوصًا إذا كانت الكتب موقوفة. 3 - (ومنها): أنه تقدّم أنهم حملوا الوعيد المذكور على ما إذا كان العلم ضروريّا، لا في نوافل العلوم، وهذا تأويلٌ حسنٌ؛ لأدلة كثيرة، كقصّة أبي بكر الصدّيق -رضي الله عنه- في تفسيره الرؤيا التي رآها بعض الناس، فقصّها على النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فطلب الصدّيق -رضي الله عنه- أن يعبّرها، فأذن له النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، فعبّرها، ثم سأل النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، هل أصاب أم لا؟ فقال له: "أصبتَ بعضًا، وأخطأت بعضًا"، فأقسم عليه أن يخبره بذلك، فأبى -صلى الله عليه وسلم-، وقال: "لا تُقسم" (¬1)، فقد كتمه النبيّ علم ما سأله لعدم الحاجة الضروريّة إليه، وغير هذا من ¬

_ (¬1) هو ما أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن رجلًا أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: إني رأيت الليلة في المنام ظُلّة تنطُفُ السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون منها، فالمستكثر والمستقل، وإذا سبب واصل من الأرض إلى السماء، فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل آخر، فعلا به، ثم أخذ به رجل =

الأدلة التي تدلّ على أن العلم الذي يستحقّ كاتمه أن يُلجَم بلجام من النار ما إذا كان السائل محتاجًا إليه الجواب، بأن كان من العلوم الدينيّة، كمعرفة أحكام الصلاة، والصوم، ونحو ذلك. وقد جاء ذمّ كتم العلم عن السلف رحمهم الله، فرُوي عن سفيان الثوريّ رحمه الله أنه قال: من بَخِل بالعلم ابتُلي بإحدى ثلاث: أن ينساه، أو يموت، ولا يُنتفع به، أو تذهب كتبه. وعن ابن المبارك رحمه الله أنه قال: من بَخِلَ بالعلم ابتُلي بثلاث: إما أن يموت، فيذهب علمه، أو يَنسى، أو يتّبع السلطان، وعن ابن معين رحمه الله قال: من بخل بالحديث، وكتم على الناس سماعهم لم يُفلح، وكذا قال إسحاق بن راهويه، قال الخطيب رحمه الله: ولا يحرم الكتم عمن ليس بأهل، أو لا يقبل الصواب إذا أرشد إليه، أو نحو ذلك، وعلى ذلك يُحمل ما نُقل عن الأئمة من الكتم، وقال بعضهم: ليس الظلم في إعطاء غير المستحقّ بأقلّ من الظلم في منع المستحقّ، ولله درّ القائل [من الطويل]: فَمَنَ مَنَحَ الجُهَّالَ عِلْمًا أَضَاعَهُ ... ومَن مَنَعَ المُسْتَوْجِبِينَ فَقَدْ ظَلَمْ وقد قال الخليل لأبي عُبيدة رحمهما الله: لا تردّنّ على مُعْجَبٍ خطأ، فيستفيدَ منك علمًا، ويَتّخذَك عدوّا (¬1). ¬

_ = آخر، فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر، فانقطع، ثم وُصِل، فقال أبو بكر: يا رسول الله بأبي أنت والله لَتَدَعَنَّي فأَعْبُرها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اعبُرها"، قال: أما الظُّلّة فالإسلام، وأما الذي ينطُف من العسل والسمن فالقرآن حلاوته تنطف، فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه تأخذ به، فيُعْليك الله، ثم يأخذ به رجل من بعدك فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذه رجل آخر فينقطع به، ثم يوصل له فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت أصبت أم أخطأت؟ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أصبت بعضًا وأخطأت بعضًا"، قال: فوالله يا رسول الله، لَتُحَدِّثَنِّي بالذي أخطأت، قال: "لا تقسم". (¬1) راجع "تدريب الراوي على تقريب النواوي" 2/ 146 - 147 و"شرحي على ألفيّة السيوطي" 2/ 152.

[تنبيه]: من كتم العلم كما أسلفناه كتم كتب العلم عن أهلها، فلا ينبغي أن تُمنع الكتب عن المحتاجين إليها، قال وكيع بن الجرّاح رحمه الله: أول بركة الحديث إعارة الكتب، وقال السيوطي رحمه الله: وقد ذمّ الله تعالى مانع العارية بقوله: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7]، وإعارة الكتب أهمّ الماعون. ثم إن على المستعير إذا أعير كتابًا أن يسرع بردّه إلى صاحبه، ولا يبطىء عليه به، فقد قال الزهريّ رحمه الله: إياك وغلولَ الكتب، قيل: وما غُلُولها؟ قال: حبسها عن أصحابها (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ولمّا وجد أبو الحسن القطان سندًا أعلى من سند المصنّف بدرجة، ذكره بقوله: (قَالَ أَبُو الحسَن: أَيِ الْقَطَّانُ: وَحَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ: حَدَّثَنَا عُمارَةُ ابْنُ زَاذَانَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ). 1 - (أبو حاتم) محمد بن إدريس الإمام الحافظ الحجة الرازيّ 8/ 70. 2 - (أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسيّ البصريّ، ثقة ثبتٌ [9] ستأتي ترجمته مطوّلة في (6/ 284) لأنه أول محل ذكر المصنّف له. وقوله: "فذكر نحوه" الضمير لأبي الوليد، أي ذكر أبو الوليد نحو حديث أسود ابن عامر، ويحتمل أن يكون الضمير لشيخه أبي حاتم، أي ذكر أبو حاتم نحو حديث ابن ماجه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ¬

_ (¬1) راجع "تدريب الراوي" 2/ 2/ 86 و"شرحي على ألفية السيوطي" 2/ 53 - 54.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 262 - (حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ الْعُثْمَانِيُّ، مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ الْأَعْرَجِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبُو هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: وَالله لَوْلَا آيَتَانِ في كِتَابِ اللهِ تَعَالَىَ، مَا حَدَّثْتُ عَنْهُ -يَعْنِي عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا أَبدًا، لَوْلَا قَوْلُ الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ [البقرة: 174]). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (أَبُو مَرْوَانَ الْعُثْمَانيُّ، مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ) بن خالد الأمويّ المدنيّ، نزيل مكة، صدوقٌ يُخطىء [10] 2/ 14. 2 - (إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة حجة [8] 2/ 14. 3 - (الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم الإمام الحجة الحافظ المشهور [4] 2/ 15. 4 - (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ الْأَعْرَجِ) المدنيّ، ثقة فقيه [3] 10/ 79. 5 - (أَبُو هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- 1/ 1، والله تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد: 1 - (منها): أنه من خماسيّات المصنّف. 2 - (ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، وهو ثقة، وقد تابعه موسى ابن إسماعيل في روايته عن إبراهيم بن سعد عند البخاريّ. 3 - (ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين. 4 - (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: الزهري عن الأعرج. 5 - (ومنها): أن فيه أبا هريرة -رضي الله عنه- أحفظ من روى الحديث في دهره، روىَ (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ عَبْدِ الْرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ الْأَعْرَجِ) رحمه الله تعالى (أنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه-

(يَقُولُ: وَالله لَوْلَا آيَتَانِ في كِتَابِ الله تَعَالى مَا حَدَّثْتُ) حذف اللام من جواب "لولا" جائز، والأصل: لولا آيتان موجودتان في كتاب الله لما حدّثتُ (عَنْهُ -يَعْني عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا أبدًا) وفي رواية البخاريّ "حديثًا". [تنبيه]: إنما قال أبو هريرة -رضي الله عنه- هذا؛ لأنه سمع الناس يقولون: أكثر علينا أبو هريرة، فأراد أن يزيل التُّهَم، والقصّة بطولها آخرجها الشيخان في "صحيحيهما"، فقال البخاريّ رحمه الله: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن الأعرج، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: يقولون: إن أبا هريرة يُكثر الحديث، والله الموعد، ويقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل أحاديثه، وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصَّفْقُ بالأسواق، وإن إخوتي من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم، وكنت امرأً مِسكينًا ألزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ملء بطني، فأحضر حين يغيبون، وأَعِي حين يَنْسَون، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا: "لن يبسط أحد منكم ثوبه، حتى أقضي مقالتي هذه، ثم يجمعه إلى صدره، فينسى من مقالتي شيئًا أبدًا"، فبسطت نَمِرَة ليس عليّ ثوب غيرها، حتى قضى النبي -صلى الله عليه وسلم- مقالته، ثم جمعتها إلى صدري، فوالذي بعثه بالحق ما نسيت من مقالته تلك إلى يومي هذا، والله لولا آيتان في كتاب الله ما حدثتكم شيئًا أبدًا: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ في الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 159 - 160]. (لَوْلَا قَوْلُ الله) تعالى، وهذا بدل من "لولا" الأول، وفي رواية الشيخين: "ثم يتلو" ({إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ [البقرة: 174 -

175]) والمعنى أنه لولا أن الله تعالى ذمّ الكاتمين للعلم لمَا حدّثتكم أصلًا، لكن لمّا كان الكتمان حرامًا، وجب الإظهار والتبليغ، فلهذا حصل مني الإكثار؛ لكثرة ما عندي مما سمعته منه -صلى الله عليه وسلم-، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. مسائل تتعلّق بهذا الحديث: (المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه. (المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا (46/ 262) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" (2/ 240 و 274) و (البخاريّ) (1/ 40 و 3/ 143 و 9/ 133) و (مسلم) (7/ 166)، والله تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده (¬1): 1 - (منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان ذمّ كتم العلم على من سئل عنه، فإن الآيتين اللتين قرأهما أبو هريرة -رضي الله عنه- نصّان في ذلك. 2 - (ومنها): أن فيه الحثّ على حفظ العلم، وأن التقلّل من الدنيا أمكن لحفظه. 3 - (ومنها): فضيلة التكسّب لمن له عيال، فإن المهاجرين والأنصار ما شغلهم عن إكثار السماع إلا التكسّب. 4 - (ومنها): جواز إخبار المرء بما فيه من فضيلة إذا اضطرّ إلى ذلك، وأَمِن من الإعجاب. 5 - (ومنها): أن فيه فضيلة ظاهرة لأبي هريرة -رضي الله عنه-، ومعجزة للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- وعَلَمًا من ¬

_ (¬1) المراد فوائد الحديث بطوله الذي أوردته من "الصحيحين"، لا خصوص سياق المصنف المختصر، فتنبّه.

أَعْلاَمِ النبوّة حيث زال بسبب دعوته نسيان أبي هريرة -رضي الله عنه-، مع أن النسيان من لوازم الإنسان، وقد اعترف أبو هريرة -رضي الله عنه- بأنه كان كثير النسيان، ثم زال عنه ببركة دعوة النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وقد أخرج الحاكم في "المستدرك" من حديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: كنت أنا وأبو هريرة، وآخر عند النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "ادعوا"، فدعوتُ أنا وصاحبي، وأَمّنَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، ثم دعا أبو هريرة، فقال: اللهم إني أسألك مثل ما سألك صاحباي، وأسألك علمًا لا يُنسى، فأَمَّن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فقلنا: ونحن كذلك يا رسول الله، فقال: "سبقكما الغلام الدوسي". 6 - (ومنها): ما كان عليه أبو هريرة -رضي الله عنه- من شدّة حرصه على تحصيل العلم، وقد شهد له النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قيل: يا رسول الله، مَنْ أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألُنِي عن هذا الحديث أحدٌ أولُ منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعدُ الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه، أو نفسه"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 263 - (حَدَّثَنَا الحُسَيْنُ بن أَبِي السَّرِيِّ الْعَسْقَلَانِيُّ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ تَميِمٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ السَّرِيِّ، عَن مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ، عَنْ جَابر، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا لَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَوَّلهَا، فَمَن كَتَمَ حَدِيثًا، فَقَدْ كتَمَ مَا أنزَلَ الله"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 9 - (الحُسَيْنُ بن أبِي السَّرِيِّ الْعَسْقَلَانِيُّ) هو: الحسين بن المتوكّل بن عبد الرحمن ابن حسّان الهاشمي مولاهم، أبو عبد الله بن أبي السَّرِيِّ -بفتح المهملة، وكسر الراء- ضعيف، بل كذّبه بعضهم [11]. روى عن وكيع، وضمرة بن ربيعة، وخلف بن تميم، وأبي داود الحَفَري،

وغيرهم. وروى عنه ابن ماجه، وابن سعد، والحسين بن إسحاق التُّسْتَري، وغيرهم. قال جعفر بن محمد القلانسي: سمعت محمد بن أبي السري يقول: لا تكتبوا عن أخي، فإنه كذّاب. وقال أبو داود: ضعيف. وقال أبو عروبة: كذّاب، هو خال أمي. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطىء، ويُغرِب. قال إسحاق بن إبراهيم الهروي: مات سنة (240). تفرّد به المصنّف وله عنده في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (262) و (353) و (2191) و (2691) و (3385). 2 - (خَلَفُ بْنُ تَميمٍ) بن أبي عَتّاب مالك التميميّ مولاهم، وقيل: غير ذلك، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، نزيل المِصِّيصة، صدوقٌ عابدٌ [9]. روى عن إسرائيل، وبشر بن أبي إسماعيل، وزائدة، والثوري، وزهير، وغيرهم. وروى عنه الحسين بن أبي السري العسقلاني، وعلي بن محمد بن علي المصيصي، وعمرو الناقد، وإبراهيم بن سعيد الجوهري، وغيرهم. قال عثمان الدارمي: سألت ابن معين عنه، فقال: هو المسكين صدوق. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صدوقٌ، أحدُ النُّسَّاك، صَحِبَ إبراهيم بن أَدْهَم، وقال أبو حاتم: ثقة صالح الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من العباد الْخُشْن، مات سنة (206)، وكذا قال أبو مسلم المستملي في تاريخ وفاته، وقال ابن سعد: مات بالمصيصة سنة (213)، وكان عالِمًا، وكذا قال الْقَرَّاب، وحَكَى ابن قانع القولين. وقال العجلي: كوفي لا بأس به. تفرّد به النسائيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. 3 - (عَبْدُ الله بْنُ السَّرِيِّ) الأنطاكيّ الزاهد، أصله من المدائن، ضعيفٌ (¬1)، روى ¬

_ (¬1) قال في "التقريب": صدوقٌ إلخ"، قلت: بل هو ضعيفٌ؛ كما سيظهر لك من أقوال العلماء في ترجمته، فتأمل. والله تعالى أعلم.

مناكير كثيرةً، تفرّد بها [9]. روى عن محمد بن المنكدر، ولم يدركه، وحفص بن سليمان الغاضري، وسعيد ابن زكريا المدائني، وشعيب بن حرب، وغيرهم. وروى عنه خلف بن تميم، وهو أسن منه، وأحمد بن أبي الْحَوَارِيّ، وأحمد بن نصر النيسابوري، ويعقوب بن إسحاق، وغيرهم. قال خلف بن تميم: كان من الصالحين. وقال ابن عدي: لا بأس به، وقال ابن أبي حاتم، عن عثمان الدارمي: سألت يحيى عنه، ققال: رجلٌ، قال ابن أبي حاتم: كان ابن السري رجلًا صالحًا، فأَحْسَبُ يحيى حَادَ عن ذكره لذلك. وقال العقيليّ: لا يتُابع. وقال أبو نعيم الأصبهاني: يروي المناكير، لا شيء. وقال ابن حبان في "الضعفاء": عبد الله بن السري المدائني، رَوَى عن أبي عمران العجائب التي لا يُشَكّ أنها موضوعة، ثم ساق له حديثًا في فضل أنطاكية موضوعًا. وقال أحمد بن الحسن الترمذي: كان رجلًا صالحًا. تفرّد عنه المصنّف بهذا الحديث فقط. 4 - (مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ) بن عبد الله بن الهُدير المدنيّ، ثقة فاضلٌ [3] 15/ 122. 5 - (جَابِر) بن عبد الله رضي الله عنهما المذكور في الباب الماضي، والله تعالى أعلم. شرح الحديث: (عَنْ جَابِرٍ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا لَعَنَ آخِرُ هَذهِ الأُمَّةِ أَوَّلهَا) أي إذا كثُر الجهل، وحصلت الحاجة إلى العلم، لأَن منشأ اللعن هو الجهل، أو المراد إذا جَهِلوا بفضائل الصحابة -رضي الله عنهم-، وحرمة اللعن، فسبّوهم، وعلى هذا فمعنى قوله: (فَمَنْ كَتَمَ حَدِيثًا) أي في فضائل الصحابة -رضي الله عنهم-، وحرمة اللعن، قاله السنديّ رحمه الله تعالى (¬1) (فَقَدْ كَتَم مَا أَنزَلَ اللهُ) هكذا النسخ عندنا، ووقع في "تحفة الأشراف" (2/ 368) بلفظ: ¬

_ (¬1) "شرح السنديّ" 1/ 171.

"فقد كفر بما أنزل الله". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث جابر -رضي الله عنه- هذا من أفراد المصنّف، وهو ضعيف جدّا، قال البوصيريّ رحمه الله: هذا إسناد فيه الحسين بن أبي السريّ كذّاب، وعبد الله بن السريّ ضعيف، وذكر المزّيّ في "الأطراف": أن عبد الله بن السريّ لم يُدرك محمد بن المنكدر، قال: وهكذا رواه محمد بن عبد الرحيم صاعقة، وغير واحد، عن خلف بن تميم، ورواه أحمد بن نصر النيسابوريّ، وأبو هارون موسى بن النعمان المصريّ، وأحمد بن خُليد الحلبيّ، وغير واحد، عن عبد الله بن السريّ، عن سعيد بن زكريّا المدائنيّ عن عنبسة بن عبد الرحمن القرشيّ، عن محمد بن زاذان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر -رضي الله عنه-، وكذا رواه محمد بن معاوية بن مالج الأنماطيّ، عن سعيد بن زكريّا، انتهى كلام الحافظ المزيّ (¬1). والحاصل أن الحديث ضعيف جدّا، وقد أجاد البحث فيه الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" 4/ 14 - 17 رقم (1506) و (1507) فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 264 - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْأَزْهَرِ، حَدَّثَنِي الهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ، حَدَّثَنِي عُمَرَ بْنُ سُلَيْمٍ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُول: سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ، أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (أَحْمَدُ بْنُ الْأَزْهَرِ) بن منيع، أبو الأزهر العبديّ النيسابوريّ، صدوقٌ، كان يحفظ، ثم كبر، فصار كتابه أثبت من حفظه [11] 9/ 71. ¬

_ (¬1) "تحفة الأشراف" 2/ 368 و "مصباح الزجاجة" 1/ 117.

2 - (الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ) -بفتح الجيم- أبو سهل البغداديّ، نزيل أنطاكية، ثقة من أصحاب الحديث، من صغار [9]. روى عن جرير بن حازم، وزهير بن معاوية، وحماد بن سلمة، وعبد الله بن عمر، وعبيد الله بن عَمْرو الرَّقِّي، وعُمَر بن سُليم الباهلي، وغيرهم. وروى عنه أحمد، وأبو موسى محمد بن المثنى، وحسين بن حسن المروزي، وأبو الأزهر أحمد بن الأزهر النيسابوري، وسعدان بن يزيد، وغيرهم. قال ابن سعد: سمعت موسى بن داود يقول: أفلس الهيثم بن جَميل في طلب الحديث مرتين، وكان ثقة. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: كان من أصحاب الحديث ببغداد، هو وأبو كامل، وأبو سلمة الخزاعي، وكان الهيثم أحفظ الثلاثة، وأبو كامل أتقنهم، وقال في موضع آخر: الهيثم ثقة. وقال العجلي: ثقة صاحب سنة. وقال إبراهيم الحربي: أما الصدق فلا يدفع عنه، وهو ثقة. وقال الدارقطني: ثقة حافظ. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن الْبَرَاء: ثنا سفيان بن محمد المصيصي، قال شهدت الهيثم ابن جميل، وهو يموت، وقد سُجِّيَ نحو القبلة، فقامت جاريته تَغْمِز رجليه، فقال: اغمزيهما، فالله يعلم أنه ما مشتا إلى حرام قط. قال ابن قانع: مات سنة ثلاث عشرة ومائتين، وأرخه ابن حبان: سنة أربع عشرة، وقال ابن عدي: ليس بالحافظ، يَغْلَط على الثقات، وأرجو أنه لا يتعمد الكذب. وقال أبو نعيم الأصبهاني: إنه متروك، ذكر ذلك في أماليه، ونقله الذهبي في "الميزان" في ترجمة أحمد بن يوسف المنبجي. قال الجامع عفا الله عنه: قول ابن عديّ، وأبي نعيم في الهيثم عندي محلّ نظر، فإن الأئمة اتّفقوا على مدحه، والثناء عليه وتوثيقه، كما سبق آنفا، فليُتأمّل. والله تعالى أعلم. أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو داود في "القدر"، والنسائيّ في "مسند عليّ"، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب ثمانية أحاديث، برقم (264) و (390) و (1136) و (1247) و (1293) و (1992) و (2150) و (3248).

3 - (عُمَرَ بْنُ سُلَيْمٍ) الباهليّ، أو المُزَنيّ البصريّ، صدوقٌ، له أوهامٌ [7]. روى عن الحسن، وقتادة، وأبي شيبة، يوسف بن إبراهيم الجوهري، وأبي غالب، صاحب أبي أمامة، وأبي الوليد، صاحب ابن عمر. وروى عنه عبد الوارث بن سعيد، وابنه عبد الصمد بن عبد الوارث، وسهل بن تَمّام بن بزيع، وزيد بن الحباب، وكثير بن هشام، وعُبيد بن عَقِيل، والهيثم بن جَميل، ومسلم بن إبراهيم. وقال أبو زرعة: صدوق. وقال أبو حاتم: شيخ. وقال العقيليّ: مشهور، يحدث بمناكير. وذكره ابن حبان في "الثقات". وروى له ابن خزيمة في "صحيحه"، ووقع في طريقه أنه كان يَنْزِل في بني قُشَير، ووقع عند بعضهم المُزَني بدل الباهلي. تفرّد به أبو داود، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. [تنبيه]: وقع في نسخ "سنن ابن ماجه" عَمْرو بن سُليم بفتح العين، وسكون الميم، وهو غلطٌ، والصواب "عُمَر" بضم العين، وفتح الميم، كما في "تحفة الأشراف" 1/ 440 و"المجرّد في أسماء رجال ابن ماجه" للإمام الذهبيّ ص 165 وقد ترجمه على الصواب ترجمة واضحة في "تهذيب الكمال" 21/ 379 - 380 - و"تهذيب التهذيب" 3/ 231 مبيّنًا أنه وقع له عند ابن ماجه حديث واحد في كتم العلم، بل أورد المزّيّ هذا الحديث الواحد بسنده بعلو، ثم قال: وليس لعمر بن سُليم عنده غيره، ومن الغريب ما تنبه المحقّقون لهذا الكتاب إلى هذا الغلط. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. 4 - (يُوسُفُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) التميميّ، أبو شيبة الجوهريّ اللآل الواسطيّ، ضعيفٌ [5]. روى عن أنس، وعنه أبو قتيبة، ومحمد بن الحسن المزني الواسطي، وعُمَر بن سُليم الباهلي، وعقبة بن خالد السَّكُوني، وغيرهم. قال البخاري: صاحب عجائب. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث، عنده عجائب. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالقوي عندهم. وقال ابن حبان:

يروي عن أنس ما ليس من حديثه، لا تحل الرواية عنه. وذكره العقيليّ في "الضعفاء". وقال ابن عدي: ليس بالمعروف، ولا له كثير حديث. تفرّد به الترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديثان، هذا (264) و (1475). 5 - (أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) -رضي الله عنه- 3/ 24. قال الجامع عفا الله عنه: حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- هذا ضعيف الإسناد جدّا، وأما المتن فصحيح، وقد تقدّم تمام البحث فيه 46/ 261، فراجعه تستفد. قال البوصيريّ رحمه الله: هذا إسناد ضعيفٌ، فيه يوسف بن إبراهيم، قال ابن حبّان: روى عن أنس ما ليس من حديثه، لا تحلّ الرواية عنه. وقال البخاريّ: صاحب عجائب. رواه ابن ماجه، والترمذيّ بهذا اللفظ من حديث أبي هريرة، وقال: حديثٌ حسنٌ. ورواه الحاكم أيضًا من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، ومن حديث عبد الله بن عمرو. انتهى (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 265 - (حَدَّثَنَا إِسماعِيلُ بْنُ حِبَّانَ بْن وَاقِدٍ الثَّقَفِيُّ، أَبُو إِسْحَقَ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دَابٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ، قَالَ: قَالَ رَسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "منْ كَتَمَ عِلمًا، مِمَّا يَنْفَعُ الله بِهِ، في أَمْرِ النَّاسِ، أَمْرِ الدِّينِ، أَلْجمَهُ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ النَّارِ"). رجال هذا الإسناد: ستة: 1 - (إِسْمَاعِيلُ بْنُ حِبَّانَ -بكسر الحاء المهملة، بعدها موحّدة- ابْنِ وَاقِدٍ الثَّقَفِيُّ، أَبُو إِسْحَقَ الوَاسِطيُّ) القطّان، صدوقٌ [11]. روى عن عبد الله بن عاصم الْحِمّاني، وزكرياء بن عدي، وغيرهم. وروى عنه ابن ¬

_ (¬1) "مصباح الزجاجة" 1/ 117.

ماجه، وابن أبي داود، وعلي بن عبد الله بن مبشر، وعِدَّةٌ، ضبط ابن ماكولا أباه بالكسر والموحدة، وذكره ابن عساكر بعد إسماعيل بن حفص، فهو عنده بالمثناة، وتبعه عبد الغني في "الكمال"، قال الحافظ المزّيّ: وهو وَهَمٌ فيما أظن. تفرّد عنه المصنّف بهذا الحديث فقط. 2 - (عَبْدُ الله بْنُ عَاصِمٍ) الْحِمّانيّ -بكسر المهملة، وتشديد الميم- أبو سعيد البصريّ، صدوقٌ [9]. روى عن محمد بن داب المديني، ومهدي بن ميمون، وعثمان بن مقسم البري، وغيرهم. وروى عنه أبو حاتم، وأبو زرعة، ومحمد بن أيوب بن الضريس، وإسماعيل ابن حبان بن واقد الثقفي، ومحمد بن غالب تمتام، وغيرهم. قال أبو زرعة، وأبو حاتم: صدوق. وقال محمد بن مسلم بن وَارَة: سمعت أبا الوليد الطيالسي، وذكر عبد الله بن عاصم، فقال: كان يجيئني، ولم أَرَهُ ذَكَرَه بسوء. وذكره ابن حبان في "الثقات". تفرّد عنه المصنف بهذا الحديث فقط. 3 - (مُحَمَّدُ بْنُ دَابٍ) بغير همز، كذّبه أبو زرعة [8]. روى عن صفوان بن سليم، وابن أبي ذئب، وعنه محمد بن سلام الْجُمَحي، وعبد الله بن عاصم الْحِمّاني، وغيره. قال أبو زرعة: ضعيف الحديث، كان يكذب. وقال الأصمعي: قال لي خلف الأحمر: ابنُ داب يَضَع الحديث بالمدينة، وابن شول يَضَعُ الحديث بالسِّند. وقيل: إن ابن داب الذي ذكره خلف، هو عيسى بن يزيد. قال الحافظ: عيسى بغداديّ، كان يُنادم المهديَّ، فلعل خَلَفًا إن كان قصده، عَنَى مدينة المنصور، وإلا فظاهر الإطلاق يدل على أنه أراد الأولَ، وفي عيسى يقول الشاعر [من الوافر]: خُذُوا عَنْ مَالِكٍ وَعَنِ ابْنِ عَوْنٍ ... ولاَ تَرْوُوا أَحَادِيث ابْنَ دَابٍ

تفرّد عنه المصنّف بهذا الحديث فقط. 4 - (صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْم) أبو عبد الله الزهريّ مولاهم المدنيّ، ثقهّ مُفْتٍ عابدٌ، رُمي بالقدر [4] 42/ 243. 5 - (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ) أبو حفص، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو جعفر الأنصاري الخزرجيّ المدنيّ، ثقة [3]. رَوى عن أبيه، وعمارة بن حارثة الضمري، وأبي حميد الساعدي، وروى عنه ابناه: رُبيح، وسعيد، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وهو من أقرانه، وسهيل بن أبي صالح، وصفوان بن سُليم، وشريك بن أبي نَمِر، وزيد بن أسلم، وعمرو بن سليم الزُّرَقي، وسعيد القبري، وعُمارة بن غزية، وعمران بن أبي أنس، وسليط بن أيوب، وغيرهم. قال النسائي: ثقة. وقال العجلي تابعي مدني ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة اثنتي عشرة ومائة، وهو ابن سبع وسبعين، وفيها أَرّخه ابنُ نمير، وعمرو بن علي. وقال ابن سعد مثل ما قال ابن حبان، وزاد: كان كثير الحديث، وليس هو بِثَبْتٍ، ويستضعفون روايته، ولا يحتجون به. أخرج له البخاري في التعاليق، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (265) و (397) و (661) و (954) و (4204). 6 - (أَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ) سعد بن مالك بن سنان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما 4/ 37. وقوله: "في أمر الناس، أمر الدين" هكذا في نسخ ابن ماجه، فيكون "أمر الدين" مجرورًا على البدليّة، ووقع في نسخة مصباح الزجاجة "في أمر الناس في الدين"، وهو واضح. قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه- هذا إسناده ضعيفٌ جدّا،

قال البوصيريّ رحمه الله: هذا إسناد ضعيفٌ، فيه محمد بن داب كذّبه أبو زرعة وغيره، ونُسِبَ إلى وضع الحديث (¬1). انتهى. قال الجامع: أما نسبته إلى الوضع، فهو منقول عن خلف الأحمر، وقد ترددوا فيه، كما تقدّم في ترجمته، فتأمله. وأما متن الحديث فقد سبق أنه صحيح، وقد سبق، فراجعه في 46/ 21، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجَه رحمه الله في أول الكتاب قال: 266 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ حَفْصِ بْنِ هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، حَدَّثَنَا أَبُو إبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيم الْكَرَابِيسِيُّ، عَنْ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سُئِلَ عَن عِلْمٍ فَكتَمَهُ، أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِن نَارٍ"). رجال هذا الإسناد: خمسة: 1 - (مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ حَفْصِ بْنِ هِشَامِ بْنِ زيدِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) الأنصاريّ البصريّ، صدوقٌ [11]. روى عن محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري، وعن إسماعيل بن إبراهيم الكرابيسي، ويحيى بن كثير أبي النضر، وأبي عاصم، وغيرهم. وروى عنه ابن ماجه، وأبو قريش الحافظ، ومحمد بن صالح النَّرْسي، وابن خزيمة، وسَلْم بن عصام الأصبهاني، وأبو عروبة، ويحيى بن صاعد، وذكره ابن حبان في "الثقات". ¬

_ (¬1) ذكره الدكتور بشار بلفظ "ونسبه إلى الوضع"، ثم تعقّب البوصيريّ بأن أبا زرعة لم ينسبه إلى الوضع، قلت: فيه أنه أساء نقل نصّ البوصيري، ثم تعقبه، ونصه ليس فيه "نسبه" بالضمير، وإنما هو "ونُسب"، فتأمل العبارتين، ترشد، والله الهادي إلى سواء السبيل.

تفرّد به المصنِّف وله عنده في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (266) و (431). 2 - (أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِسماعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْكَرَابِيسِيُّ) أبو إبراهيم البصريّ، صاحب الْقُوهِيّ -بضم القاف (¬1) - ليّن الحديث [8]. روى عن أبيه، وابن عون، وسُليم القاصّ، وروى عنه حفص بن عَمْرو الرَّبَالي، ومثنى بن معاذ، ومحمد بن عبد الله بن حفص الأنصاري، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في ربيع الأول سنة (194). تفرّد به المصنّف روى له هذا الحديث فقط، قال العقيليّ: ليس لحديثه أصل، يعني هذا، قال الحافظ: وقرأت بخط الذهبي: الصواب موقوف. 3 - (ابْنُ عَوْنٍ) هو عبد الله بن عون بن أرطبان، أبو عون البصريّ، ثقة ثبت فاضلٌ، من أقران أيوب السختياني في العلم والعمل [5] (¬2) 3/ 23. 4 - (مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ) المذكور في الباب الماضي. 5 - (أَبُو هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- 1/ 1. قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا في إسناده ضعفٌ؛ إذ فيه إسماعيلَ الكرابيسيّ، وقد تكلّم فيه العقيليّ، إلا أن الحديث يشهد له ما سبق من الروايات، فهو صحيح، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [خاتمة]: نختم بها أبواب العلم: وهو أن نذكر فصلين مهمّين لكلّ طالب علم. [الفصل الأول]: في ذكر رحلة أهل العلم في طلبه، ولا سيّما أصحاب الحديث، وما لاقوه من المشاقّ، والمحن في ذلك. ¬

_ (¬1) قال في "القاموس": القُوهيُّ بالضم: ثياب بيض اهـ. (¬2) جعله في "التقريب" من السادسة، ولكن الأرجح أنه من الخامسة؛ لأنه رأى أنسًا -رضي الله عنه-، فهو من صغار التابعين، كالأعمش، فتنبّه.

قال الإمام البخاريّ في "صحيحه": "باب الخروج في طلب العلم" ورَحَل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله ابن أنيس في حديث واحد، ثم أخرج بسنده قصّة موسى مع الخضر عليهما السلام المشهور في كتاب الله تعالى، في "سورة الكهف"، وفي "الصحيحين"، وغيرهما. ونصّ الحديث: عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نَوْفًا الْبِكَالي يزعُم أن موسى ليس بموسى بني إسرائيل، إنما هو موسى آخر، فقال: كذب عدو الله، حدثنا أبي بن كعب، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قام موسى النبي خطيبًا في بني إسرائيل، فسئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم، فعتب الله عليه، إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه أن عبدًا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال: يا رب وكيف به؟ فقيل له: احمِلْ حُوتا في مِكْتَل، فإذا فقدته فهو ثَمَّ، فانطلق، وانطلق بفتاه يوشع بن نون، وحملا حوتا في مكتل، حتى كانا عند الصخرة وضعا رءوسهما وناما، فانسل الحوت من المكتل، فاتخذ سبيله في البحر سربًا، وكان لموسى وفتاه عجبًا، فانطلقا بقيةَ ليلتهما ويومَهِما، فلما أصبح قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا، لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا، ولم يجد موسى مسّا من النصب حتى جاوز المكان الذي أُمر به، فقال له فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة، فإني نسيت الحوت، وما أنسانيه إلا الشيطان، قال موسى: ذلك ما كنا نبغي، فارتدا على آثارهما قصصًا، فلما انتهيا إلى الصخرة، إذا رجلٌ مُسَجًّى بثوب، أو قال: تسجى بثوبه، فسلم موسى، فقال الخضر: وأنَّى بأرضك السلام؟ فقال: أنا موسى، فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: هل أتبعك على أن تعلمني مما عُلمت رشدًا؟ قال: إنك لن تستطيع معي صبرًا، يا موسى إني على علم من علم الله، علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه لا أعلمه، قال: ستجدني -إن شاء الله- صابرًا، ولا أعصي لك أمرًا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، ليس لهما سفينة، فمرت بهما سفينة، فكلموهم أن يحملوهما، فعرف الخضر، فحملوهما بغير نَوْلٍ، فجاء عصفور، فوقع على حرف

السفينة، فنقر نقرةً أو نقرتين في البحر. فقال الخضر: يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله، إلا كنقرة هذا العصفور في البحر، فعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة، فنزعه، فقال موسى: قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم، فخرقتها لتغرق أهلها؟، قال: ألم أقل: إنك لن تستطيع معي صبرا؟ قال: لا تؤاخذني بما نسيت، ولا ترهقني من أمري عسرا، فكانت الأولى من موسى نسيانًا، فانطلقا، فإذا غلام يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر برأسه من أعلاه، فاقتلع رأسه بيده، فقال موسى: أقتلت نفسا زكية بغير نفس؟ قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا؟ قال: ابن عيينة: وهذا أوكد، فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها، فأبوا أن يضيفوهما، فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه، قال: الخضر بيده فأقامه، فقال له موسى: لو شئت لاتخذت عليه أجرًا، قال: هذا فراق بيني وبينك، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: يرحم الله موسى، لوددنا لو صبر حتى يُقَصَّ علينا من أمرهما". قال بعض أهل العلم: إن فيما عاناه موسى من الدأب والسفر، وصبر عليه من التواضع، والخضوع للخضر، بعد معاناة قصده، مع محلّ موسى من الله، وموضعه من كرامته، وشرف نبوته، دلالةً على ارتفاع قدر العلم، وعلوّ منزلة أهله، وحسن التواضع لمن يُلْتَمس منه، ويؤخذ عنه، ولو ارتفع عن التواضع لمخلوق أحدٌ بارتفاع درجةٍ، وسُمُوّ منزلةٍ لسبق إلى ذلك موسى عليه السلام، فلما أظهر الجدّ والاجتهاد، والانتزاع عن الوطن، والحرصَ عن الاستفادة، مع الاعتراف بالحاجة إلى أن يصل من العلم إلى ما هو غائبٌ عنه دلّ على أنه ليس في الخلق من يعلو على هذه الحال، ولا يكبر عنها (¬1). وقد رحل غير واحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث إلى البلاد البعيدة، وعددٌ من التابعين بعدهم: فممن رحل في حديث واحد جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، فقد أخرج الإمام ¬

_ (¬1) "الرحلة في طلب الحديث" ص 106 - 107.

أحمد في "مسنده" من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل، أنه سمع جابر بن عبد الله، يقول: بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاشتريت بعيرًا، ثم شددت عليه رحلي، فسرت إليه شهرًا، حتى قَدِمُت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أُنيس، فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله؟ قلت: نعم، فخرج يطأ ثوبه، فاعتنقني، واعتنقته، فقلت: حديثًا بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في القصاص، فخشيت أن تموت، أو أموت قبل أن أسمعه، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يُحشر الناس يوم القيامة، أو قال: العباد عُراةً غُرْلًا بُهْمًا"، قال: قلنا: وما بُهمًا؟ قال: "ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه مَن قَرُب: أنا الملك، أنا الديّان، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، وله عند أحد من أهل الجنة حَقٌّ، حتى أَقُصَّه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، ولأحد من أهل النار عنده حقّ، حتى أقصه منه، حتى اللطمة"، قال: قلنا: كيف وإنا إنما نأتي الله عز وجل عُراةً غُرْلًا بُهْمًا؟ قال: "بالحسنات والسيئات". وهذا الحديث، وإن كان في سنده عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو ضعيف في حفظه، إلا أن له شواهد، فهو حسن، وقد أروده البخاريّ في "صحيحه" معلّقًا بصيغة الجزم (¬1). وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، قال: سمعت أبا سعد الأعمى، يحدث عطاء، قال: رحل أبو أيوب إلى عقبة بن عامر، فأتى مَسْلَمَةَ بن مُخَلَّد، فخرج إليه، قال دلوني، فأَتَى عقبة، فقال: حَدِّثْنا ما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يبق أحدٌ سمعه، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من ستر على مؤمن في الدنيا، ستره الله يوم القيامة، فأتى راحلته، فركب ورجع". وقال الإمام الدارميّ: أخبرنا يزيد بن هارون، حدثنا الجريري، عن عبد الله بن ¬

_ (¬1) راجع "صحيح الأدب المفرد" للشيخ الألباني ص 371.

بريدة، أن رجلًا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- رَحَلَ إلى فَضَالة بن عُبيد، وهو بمصر، فقدم عليه، وهو يَمُدُّ لناقة له، فقال: مرحبًا، قال: أما إني لم آتك زائرًا، ولكن سمعت أنا وأنت حديثًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رَجَوْتُ أن يكون عندك منه علم، قال: ما هو؟ قال كذا وكذا. وأسند الخطيب من طريق نصر بن مرزوق، أبي الفتح المصريّ قال: سمعت عمرو بن أبي سلمة يقول: قلت للأوزاعيّ: أنا ألزمك منذ أربعة أيّام، ولم أسمع منك إلا ثلاثين حديثًا؟ قال: وتستقل ثلاثين حديثًا في أربعة أيام؟ لقد سار جابر بن عبد الله إلى مصر، واشترى راحلةً، وركبها حتى سأل عقبة بن عامر عن حديث واحد، وانصرف، وأنت تستقلّ ثلاثين حديثًا في أربعة أيام. وممن ذُكر عنه الرحلة من التابعين ومن بعدهم ما أخرجه الخطيب بسنده عن مالك قال: قال سعيد بن المسيّب: إن كنت لأسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد. قال مالك: وكان سعيد بن المسيّب يختلف إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- بالشجرة، وهو ذو الحليفة. وأخرج أحمد من طريق علي بن زيد، عن أبي عثمان، قال: بلغني عن أبي هريرة، أنه قال: إن الله عز وجل يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة، قال: فقضي أني انطلقت حاجًّا أو معتمرًا، فلقيته، فقلت: بلغني عنك حديث أنك تقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن الله عز وجل يعطي عبده المؤمن الحسنة ألف ألف حسنة، قال أبو هريرة: لا، بل سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن الله عز وجل يعطيه ألفي ألف حسنة، ثم تلا: {يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40]، فقال: إذا قال: أجرًا عظيمًا، فمن يقدر قدره؟ (¬1). ¬

_ (¬1) في سنده علي بن زيد بن جدعان، وهو متكلّم فيه، لكن لم ينفرد به، بل تابعه زياد الجصّاص عند ابن أبي حاتم في تفسيره، وهو وإن تُكلم فيه إلا أنه يصلح للمتابعة، =

وأخرجه الخطيب أيضًا، وفيه: عن أبي عثمان قال: بلغني عن أبي هريرة. . . . فحججت ذلك العام، ولم أكن أريد الحجّ إلا للقائه، في هذا الحديث، فأتيت أبا هريرة، فقلت: يا أبا هريرة بلغني عنك حديث، فحججتُ العام، ولم أكن أريد الحج إلا لألقاك. . . فذكره (¬1). وأخرج الدارميّ بسند صحيح عن أبي قلابة، قال: لقد أقمت في المدينة ثلاثًا، ما لي حاجة إلا وقد فرغت منها، إلا أن رجلًا كانوا يتوقعونه، كان يروي حديثًا، فأقمت حتى قدم، فسألته. وأخرج الخطيب عن عروة بن رُويم، عن عبد الله بن الديلميّ الذي كان يسكن بيت المقدس أنه ركب في طلب عبد الله بن عمرو بن العاص إلى المدينة، فسأل عنه، فقالوا: قد سار إلى مكة، فاتبعه، فوجده في زرعه الذي يُسمّى الْوَهْطَ (¬2)، قال ابن الديلميّ: فدخلت عليه، فقلت: يا عبد الله ما هذا الحديث الذي بلغني عنك؟ قال: ما هو؟ قلت: إنك تقول: "صلاة في بيت المقدس خير من ألف صلاة في غيرها إلا الكعبة" قال: اللهم إني لا أُحِلُّ لهم أن يقولوا عليّ ما لم أقُل: "إن سليمان حين فرغ من بيت المقدس قرّب قربانًا، فتُقبّل منه، فدعا الله بدعوات، منهنّ: اللهم أيما عبد مؤمن زارك في هذا البيت تائبًا إليك إنما جاء يتنصّل عن خطاياه وذنوبه أن تتقبّل منه، وتتركه من خطاياه كيوم ولدته أمه" (¬3). وأخرج الرامهرمزيّ في "المحدّث الفاصل" ص 313 - 315 - عن نصر بن حماد، ¬

_ = ولذا صحح الحديث العلامة أحمد محمد شاكر فيما كتبه على "المسند" 15/ 90 - 991 فراجعه تستفد. (¬1) راجع "الرحلة في طلب الحديث" ص 132 - 133. (¬2) "الوَهْط" بفتح الواو، وسكون الهاء: قرية زراعيّة صغيرة تقع قرب مكة. (¬3) "الرحلة" ص 137 - 138.

قال: كنا بباب شعبة نتذاكر الحديث، فقلت: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر، قال: كنا في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نتناوب رعاية الإبل، فرُحت ذات يوم، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس، وحوله أصحابه، فسمعته يقول: "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم دخل المسجد، فصلى ركعتين، واستغفر الله غَفَر الله له"، قال: فما ملكت نفسي أن قلتُ: بَخٍ بَخٍ، قال: فجذبني رجل من خلفي، فالتفتُّ فإذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: يا ابن عامر الذي قال قبلَ أن تجيء أحسن، قلت: ما قال فداك أبي وأمي؟ قال: قال: "من شهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فُتِحت له ثمانية أبواب من الجنة، من أيها شاء دخل، قال: فسمعني شعبة، فخرج إليّ فلطمني لطمةً، ثم دخل ثم خرج فقال: ما له يَبكِي؟ فقال عبد الله بن إدريس: لقد أسأت إليه، فقال: أما تسمع ما يحدث عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر، وأنا قلت لأبي إسحاق: أسمع عبد الله بن عطاء من عقبة بن عامر؟ قال: لا، وغَضِب، وكان مسعر بن كدام حاضرًا، فقال لي مسعر: أغضبت الشيخ، فقلت: ما له؟ ليصححن لي هذا الحديث، أو لأُسقطن حديثه، فقال مسعر: عبد الله بن عطاء بمكة، فرحلت إليه لم أُرد الحج، إنما أردت الحديث، فلقيت عبد الله بن عطاء، فسألته، فقال: سعد بن إبراهيم حدثني، فقال لي مالك بن أنس: سعد بن إبراهيم بالمدينة، لم يحج العام، فدخلتا المدينة، فلقيت سعد بن إبراهيم، فسألته، فقال: الحديث من عندكم، زياد بن مِخْرَاق حدثني، فقلت: أيُّ شيء هذا الحديث؟ بينا هو كوفي، صار مكيا، صار مدنيا، صار بصريا، فدخلت البصرة، فلقيت زياد بن مخراق، فسألته، فقال: ليس هذا من بابتك، قلت: بلى، قال: لا تريده، قلت: أريده، قال: شهر بن حَوْشب حدثني، عن أبي ريحانة، عن عقبة بن عامر، قال: فلما ذكر لي شهرًا، قلت: دَمَّرَ عليَّ هذا الحديثَ، لو صحّ لي هذا الحديث، كان أحب إلي من أهلي ومن مالي، ومن

الدنيا كلها (¬1). وأخرج الخطيب عن عبد الحميد بن بيان، قال: سمعت هُشيمًا يقول: كنت أكون بأحد المصرين (¬2)، فيبلغني أن بالمصر الآخر حديثًا، فأرحل فيه حتى أسمعه، وأرجع. وأخرج الرامهرمزيّ عن عامر الشعبيّ أنه خرج إلى مكة في ثلاثة أحاديث ذُكرت له، فقال: لعلي ألقى رجلًا لقي النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، أو من أصحاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. وعن عليّ بن المدينيّ قال: قيل للشعبيّ: من أين لك هذا العلم كله؟ قال: بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الجماد، وبُكور كبكور الغراب (¬3). وعن أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قيل له: أيرحل الرجل في طلب العلوّ؟ فقال: بلى والله شديدًا، لقد كان علقمة، والأسود يبلغهما الحديث عن عمر -رضي الله عنه-، فلا يُقنعهما حتى يخرجا إلى عمر -رضي الله عنه-، فيسمعانه منه (¬4). وأخرج الإمام أبو داود في "سننه" بسنده عن يحيى بن حمزة قال: سمعت أبا وهب يقول: سمعت مكحولًا يقول: كنت عبدًا بمصر لامرأة من بني هُذيل، فأعتقتني، فما خرجت من مصر وبها علم، إلا حَوَيت عليه فيما أَرَى، ثم أتيت الحجاز، فما خرجت منها، وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت العراق، فما خرجت منها، وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الشام، فغربلتها، كل ذلك أسأل عن النَّفَل، فلم أجد أحدًا يخبرني فيه بشيء، حتى لقيت شيخًا يقال له: زياد بن جارية التميمي، فقلت له: هل سمعت في النَّفَل شيئا؟ قال: نعم، سمعت حبيب بن مَسْلَمة الْفِهْرَّي يقول: "شهدت النبي -صلى الله عليه وسلم- نَفَّلَ الربع في البدأة، والثلث في الرجعة" (¬5). ¬

_ (¬1) أصل الحديث المرفوع دون قصّة شعبة صحيح، أخرجه مسلم في "صحيحه" 1/ 144. (¬2) أي الكوفة والبصرة، وبينهما مسافة تزيد على 350 كيلو مترًا. (¬3) "تذكرة الحفاظ" ص 81. (¬4) "علوم الحديث" لابن الصلاح ص 223. (¬5) حديث صحيح، أخرجه أبو داود برقم (2750).

وعن ابن إسحاق قال: سمعت مكحولًا يقول: طُفت الأرض في طلب العلم (¬1). وعن عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سمعت أبي رحمه الله يقول: قلت على باب أبي الوليد الطيالسي: مَن أغرب عليّ حديثًا غريبًا مسندًا صحيحًا، لم أسمع به، فله عليّ درهم يتصدق به، وقد حضر على باب أبي الوليد خلقٌ من الخلق، أبو زرعة فمن دونه، وإنما كان مرادي أن يُلْقَى عليّ ما لم أسمع به، فيقولون: هو عند فلان، فأذهب فأسمع، وكان مرادي أن أستخرج منهم ما ليس عندي، فما تهيأ لأحد منهم أن يُغْرِب عليّ حديثًا (¬2). وأخرج الخطيب في "الكفاية" بسنده عن محمود بن غيلان قال: سمعت المؤمل ذُكر عنده الحديث الذي يُرْوَى عن أُبَيّ -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في فضل القرآن، فقال: لقد حدثني رجل ثقة سماه، قال: حدثني رجل ثقة سماه، قال: أتيت المدائن، فلقيت الرجل الذي يروي هذا الحديث، فقلت له: حدثني فإني أريد أن آتي البصرة، فقال: هذا الرجل الذي سمعناه منه هو بواسط، في أصحاب القصب، قال: فأتيت واسطًا، فلقيت الشيخ، فقلت: إني كنت بالمدائن، فدَلَّني عليك الشيخ، وإني أريد آتي البصرة، قال: إن هذا الذي سمعتُ منه هو بالكلاء، فأتيت البصرة، فلقيت الشيخ بالكلاء، فقلت له: حدثني فإني أريد أن آتي عبادان، فقال: إن الشيخ الذي سمعناه منه هو بعبادان، فأتيت عبادان، فلقيت الشيخ، فقلت له: اتق الله ما حال هذا الحديث؟ أتيت المدائن فقصصت عليه، ثم واسطًا، ثم البصرة، فدُللت عليك، وما ظننت إلا أن هؤلاء كلهم قد ماتوا، فأَخْبِرني بقصة هذا الحديث، فقال: إنّا اجتمعنا هنا، فرأينا الناس قد رَغِبوا عن القرآن، وزهدوا فيه، وأخذوا في هذه الأحاديث، فقعدنا، فوضعنا لهم هذه الفضائل حتى ¬

_ (¬1) راجع: تذكرة الحفاظ ص 108. (¬2) "تقدمة الجرح والتعديل" ص 355.

يرغبوا فيه (¬1). ومن طرائف ما تحمّلوه من المشاقّ في طلب الحديث: ما ذكره في "تهذيب التهذيب" في ترجمة يعقوب بن سفيان الحافظ الجوّال رحمه الله كان ممن جَمَع وصنَّف، مع الورع والنسك والصلابة في السنة، قال الحاكم: فأما سماعه ورحلته وأفراد حديثه فأكثر من أن يمكن ذكرها، وقال محمد بن يزيد العطار: سمعت يعقوب بن سفيان يقول: كنت في رحلتي، فقلت نفقتي، فكنت أدمن الكتابة ليلًا، وأقرأ نهارًا، فلما كان ذات ليلة كنت جالسًا أنسخ في السراج، وكان شتاء، فنزل الماء في عيني، فلم أُبصر شيئًا، فبكيت على نفسي لانقطاعي عن بلدي، وعلى ما فاتني من العلم، فغلبتني عيناي، فنمت فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم، فناداني: يا يعقوب لم أنت بكيت؟ فقلت: يا رسول الله ذهب بصري، فتحسرت على ما فاتني، فقال لي: ادْنُ مني، فدنوت منه، فَأَمَرَّ يده على عيني، كأنه يقرأ عليهما، ثم استيقظت فأبصرت، فأخذت نسخي، وقعدت أكتب (¬2). ومما نُقل عن الإمام يحيى بن معين رحمه الله ما ذكره ابن عديّ أن والد يحيى خلّف له ألف ألف درهم وخمسين ألف درهم، فأنفق ذلك كله على الحديث، وقال يحيى: قد كتبت بيدي ألف ألف حديث، وقال صالح جزرة: ذُكر لي أن يحيى بن معين خلّف من الكتب لمّا مات ثلاثين قِمَطْرًا، وعشرين حُبّا (¬3). وعن عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سمعت أبي يقول: بقيتُ بالبصرة في سنة أربع عشرة ومائتين ثمانية أشهر، وكان في نفسي أن أقيم سنة، فانقطع نفقتي، فجعلت أبيع ثياب بدني شيئًا بعد شيء، حتى بقيتُ بلا نفقة، ومضيت أطوف مع صديق لي إلى ¬

_ (¬1) راجع "الكفاية" ص 401. (¬2) راجع "تهذيب التهذيب" 11/ 338 - 339. (¬3) راجع "تهذيب التهذيب" 11/ 280.

المشيخة، وأسمع منهم إلى المساء، فانصرف رفيقي، ورجعت إلى بيتٍ خالٍ، فجعلت أشرب الماء من الجوع، ثم أصبحت من الغد، وغدا عليّ رفيقي، فجعلت أطوف معه في سماع الحديث على جوع شديد، فانصرف عني، وانصرفت جائعًا، فلما كان من الغد غدا عليّ، فقال: مُرّ بنا إلى المشايخ، قلت: أنا ضعيف، لا يمكنني، قال: ما ضعفك؟ قلت: لا أكتمك أمري، قد مضى يومان ما طَعِمتُ فيهما شيئًا فقال لي: قد بقي معي دينار، فأنا أواسيك بنصفه، ونجعل النصف الآخر في الكراء، فخرجنا من البصرة، وقبضت منه النصف دينار (¬1). قال أبو عبد الله الحاكم في ترجمة الحافظ البارع الجوّال القدوة أبي عبد الله محمد ابن المسيب بن إسحاق بن عبد الله النيسابوريّ: ما نصّه: كان من العُبّاد المجتهدين وأحد من مشايخنا يذكرون عنه أنه قال: ما أعلم منبرًا من منابر الإسلام بقي عليّ، لم أدخله لسماع الحديث، وسمعت أبا إسحاق المزكي يقول: سمعت محمد بن المسيب يقول: كنت أمشي في مصر، وفي كمي مائة جزء في كل جزء ألف حديث، وسمعت أبا علي الحافظ يقول: كان محمد بن المسيب يمشي بمصر، وفي كمه مائة ألف حديث، كان دقيق الخط، وصار هذا كالمشهور من شأنه (¬2). وكان محدث أصبهان الإمام الرحال الحافظ الثقة، أبو بكر محمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم بن زاذان الأصبهاني الخازن المشهور بابن المقرئ، صاحب المعجم الكبير، والأربعين حديثا المتوفّى سنة (381 هـ) يقول: طفت الشرق والغرب أربع مرات، ورُوي عنه أنه قال: مشيت بسبب نسخةِ مُفَضَّل بن فَضالة سبعين مرحلةً، ولو عُرضت علي خَبّاز برغيف لم يقبلها، وكان يقول: دخلت بيت المقدس عشر مرات (¬3). ¬

_ (¬1) "تقدمة الجرح والتعديل" 1/ 363 - 364. (¬2) "تذكرة الحفّاظ" 3/ 789 - 790. (¬3) المصدر السابق 3/ 973 - 974.

وكان الإمام الحافظ الجوّال أبو عبد الله، محمد بن إسحاق يحيى بن منده من أئمة هذا الشأن، وثقاتهم، وُلد سنة (310 هـ) طوّف الأقاليم، وبقي في الرحلة نحوًا من أربعين سنة، وكتب بيده عدّة أحمال، وعدة شيوخه الذين سمع، وأخذ عنهم ألف وسبع مائة شيخ، ولمّا رجع من الرحلة الطويلة، كانت كتبه عدة أحمال، حتى قيل: إنها كانت أربعين حِمْلًا من الكتب والأجزاء، وما سُمع أن أحدًا من هذه الأمة سَمِعَ ما سَمِعَ، ولا جَمَعَ ما جَمَعَ، وكان ختام الرحالين، وفرد المكثرين، مع الحفظ والمعرفة والصدق، وكثرة التصانيف. وقال جعفر المستغفريّ: ما رأيت أحدًا أحفظ من أبي عبد الله بن منده، سألته يومًا كم يكون سماعات الشيخ؟ قال: تكون خمسة آلاف منّ، قلت: المنّ يجيء عشرة أجزاء كبار. وقال الباطرقانيّ: سمعت أبا عبد الله يقول: طفتُ الشرق والغرب مرّتين. توفّي ابن منده في سلخ ذي القعدة (395 هـ). (¬1). وكان محمد بن طاهر بن علي الحافظ العالم المكثر الجوال، أبو الفضل المقدسي المتوفّى سنة (507 هـ) ما كان على وجه الأرض له نظير في عصره، قال السلفي: سمعت ابن طاهر يقول: كتبت "الصحيحين"، و"سنن أبي داود" سبع مرات بالأجرة، و"سنن ابن ماجه" عشر مرات بالري. قال أبو مسعود عبد الرحيم الحاجيّ: سمعت ابن طاهر يقول: بُلْتُ الدم في طلب الحديث مرتين: مرة ببغداد، ومرة بمكة، كنت أمشي حافيًا في الحرّ، فلحقني ذلك، وما ركبت دابةً قط في طلب الحديث، وكنت أحمل كتبي على ظهري، وما سألت في حال الطلب أحدًا، كنت أعيش على ما يأتي، وقيل: كان يمشي دائمًا في اليوم والليلة عشرين فرسخًا، وكان قادرًا على ذلك (¬2). وذكر الحافظ أبو إسحاق الْحَبّال قال: كنت يومًا عند أبي نصر السجزي (¬3)، فَدُقّ ¬

_ (¬1) المصدر السابق 3/ 1031 - 10 - 36. (¬2) المصدر السابق 4/ 1242 - 1243. (¬3) هو الحافظ الإمام علم السنة، عبيد الله بن سعيد بن حاتم بن أحمد أبو نصر الوائلي =

الباب، فقمت ففتحته، فدخلت امرأة، وأخرجت كيسا فيه ألف دينار، فوضعته بين يدي الشيخ، وقالت أنفقها كما ترى، قال: ما المقصود؟ قالت: تتزوجني، ولا حاجة لي في الزوج، ولكن لأخدمك، فأمرها بأخذ الكيس، وأن تنصرف، فلما انصرفت قال: خرجت من سجستان بنية طلب العلم، ومتى تزوجت سقط عني هذا الاسم، وما أوثر على ثواب طلب العلم شيئًا (¬1). وذكر الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سمعت أبي يقول: أول سنة خرجت في طلب الحديث أقمت سبع سنين أحصيتُ ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ، لم أزل أُحصي حتى لمّا زاد على ألف فرسخ تركته، أما ما كنت سرت أنا من الكوفة إلى بغداد ففي لا أُحصى كم مرة، ومن مكة إلى المدينة مرات كثيرة، وخرجت من البحرين من قرب مدينة صلا إلى مصر ماشيًا، ومن مصر إلى الرملة ماشيًا، ومن الرملة إلى بيت المقدس، ومن الرملة إلى عسقلان، ومن الرملة إلى طبرية، ومن طبرية إلى دمشق، ومن دمشق إلى حمص، ومن حمص إلى أنطاكية، ومن أنطاكية إلى طَرَسُوس، ثم رجعت من طَرَسوس إلى حمص، وكان بقي عليّ شيء من حديث أبي اليمان، فسمعت، ثم خرجت من حمص إلى بيسان، ومن بيسان إلى الرَّقَّة، ومن الرقة ركبت الفرات إلى بغداد، وخرجت قبل خروجي إلى الشام من واسط إلى النيل، ومن النيل إلى الكوفة، كل ذلك ماشيًا، كلُّ هذا في سفري الأول، وأنا ابن عشرين سنة، أجول سبع سنين، خرجت من الرَّيِّ سنة ثلاث عشرة ومائتين، قَدِمنا الكوفة في شهر رمضان سنة ثلاث عشرة، والمقرئ حيّ بمكة، وجاءنا نعيه، ونحن بالكوفة، ورجعت سنة إحدى ¬

_ = البكري نزيل الحرم ومصر وصاحب "الإبانة الكبرى في مسألة القرآن"، المتوفّى سنة (4444 هـ) من أحفظ أهل زمانه للحديث، طوّف الآفاق في طلب الحديث. "تذكرة الحفاظ" 3/ 1118 - 1119. (¬1) المصدر السابق.

وعشرين ومائتين، وخرجت المرة الثانية سنة اثنتين وأربعين، ورجعت سنة خمس وأربعين، أقمت ثلاث سنين، وقَدِمت طَرَسوس سنة سبع عشرة، أو ثماني عشرة. وقال عبد الرحمن: سمعت أبي يقول: كنا في البحر، فاحتلمت، فأصبحت، وأخبرت أصحابي به، فقالوا لي: اغمس نفسك في البحر، قلت: إني لا أحسن أن أَسْبَح، فقالوا: إنا نَشُدّ فيك حبلًا، ونُعَلِّقُك من الماء، فشَدُّوا فيّ حبلًا وأرسلوني في الماء، وأنا في الهواء أريد إسباغ الوضوء، فلما توضأت، قلت لهم: أرسلوني قليلًا، فأرسلوني، فغمست نفسي في الماء، قلت: ارفعوني، فرفعوني. وقال عبد الرحمن أيضًا: سمعت أبي يقول: لمّا خرجنا من المدينة من عند داود الجعفري، صرنا إلى الجار، وركبنا البحر، وكنا ثلاثة أنفس: أبو زهير الْمرْوَرُّوذِيّ شيخ، وآخر نيسابوري، فركبنا البحر، وكانت الريح في وجوهنا، فبقينا في البحر ثلاثة أشهر، وضاقت صدورنا، وفني ما معنا من الزاد، وبقيت بقية، فخرجنا إلى البر، فجعلنا نمشي أيامًا على البر، حتى فني ما معنا من الزاد والماء، فمشينا يومًا وليلةً لم يأكل أحد منا شيئًا، ولا شربنا، واليوم الثاني كمثله، واليوم الثالث، كل يوم نمشي إلى الليل، فإذا جاء المساء صلينا، وألقينا بأنفسنا حيث كنا، وقد ضَعُفت أبداننا من الجوع والعطش والعياء، فلما أصبحنا اليوم الثالث، جعلنا نمشي على قدر طاقتنا، فسقط الشيخ مغشيا عليه، فجئنا نحركه، وهو لا يعقل، فتركناه ومشينا أنا وصاحبي النيسايوري قدر فرسخ أو فرسخين، فضعفت، وسقطت مغشيا عليّ، ومضى صاحبي وتركني، فلم يزل هو يمشي إذ بَصُرَ من بعيد قومًا، قد قربوا سفينتهم من البر، ونزلوا على بئر موسى صلى الله عليه وسلم، فلما عاينهم لَوَّح بثوبه إليهم. فجاءوه معهم الماء في إداوة، فسَقَوه، وأخذوا بيده، فقال لهم: الحقوا رفيقين لي قد القوا بأنفسهم مغشيّا عليهم، فما شَعَرت إلا برجل يصب الماء على وجهي، ففتحت عيني، فقلت: اسقني، فصب من الماء في ركوة، أو مشربة شيئًا يسيرًا، فشربت،

ورجعت إلي نفسي، ولم يروني ذلك القدر، فقلت: اسقني فسقاني شيئًا يسيرًا، وأخذ بيدي، فقلت: ورائي شيخ مُلْقًى. قال: قد ذهب إلى ذاك جماعة، فأخذ بيدي، وأنا أمشي أجُرّ رجلي، ويسقيني شيئًا بعد شيء، حتى إذا بلغت إلى عند سفينتهم، وأتوا برفيقي الثالث الشيخ، وأحسنوا إلينا، فبقينا أيامًا حتى رجعت إلينا أنفسنا، ثم كتبوا لنا كتابا إلى مدينة، يقال لها: راية إلى واليهم، وزوّدونا من الكعك والسويق والماء، فلم نزل نمشي حتى نَفِدَ ما معنا من الماء والسويق والكعك، فجعلنا نمشي جياعًا عطاشًا على شط البحر، حتى وقعنا إلى سُلَحْفاة قد رَمَى به البحر مثل الترس، فعمدنا إلى حجر كبير، فضربنا على ظهر السلحفاة، فانفلق ظهره، وإذا فيها مثل صفرة البيض، فأخذنا من بعضَ الأصداف الملقى على شط البحر. فجعلنا نغترف من ذلك الأصفر، فنتحساه حتى سكن الجوع والعطش، ثم مررنا وتحملنا حتى دخلنا مدينة الراية، وأوصلنا الكتاب إلى عاملهم، فأنزلنا في داره، وأحسن إلينا، وكان يُقَدِّم إلينا كل يوم القرع، ويقول لخادمه هاتي لهم باليقطين المبارك، فيقدم إلينا من ذاك اليقطين مع الخبز أيامًا، فقال واحد منا بالفارسية: لا تدعو باللحم المشؤوم، وجعل يسمع الرجل صاحب الدار، فقال أنا أحسن بالفارسية، فإن جدتي كانت هروية، فأتانا بعد ذلك باللحم، ثم خرجنا هناك، وزوّدنا إلى أن بلغنا مصر. انتهى (¬1). ومما كتبه الإمام الحافظ أبو عبد الله الحاكم النيسابورّي رحمه الله المتوفّي (405 هـ) في كتابه "معرفة علوم الحديث" جـ: 1 ص: 2: أما بعد: فإني لمّا رأيت الْبِدع في زماننا كثُرَت، ومعرفة الناس بأصول السنن قد قَلَّت مع إمعانهم في كتابة الأخبار، وكثرة طلبها على الإهمال والإغفال، دعاني ذلك إلى تصنيف كتاب خفيف، يشتمل على ذكر ¬

_ (¬1) "تقدمة الجرح والتعديل" 1/ 363 - 366.

أنواع علم الحديث، مما يحتاج إليه طلبة الأخبار، المواظبون على كتابة الآثار، وأَعمِد في ذلك سلوك الاختصار، دون الإطناب في الإكثار. ثم أخرج بسنده من طريق شعبة، عن معاوية بن قرة، قال: سمعت أبي، يحدث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " لا يزال ناسٌ من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم، حتى تقوم الساعة" (¬1) قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن علي بن عبد الحميد الأدمي بمكة، يقول: سمعت موسى بن هارون يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول -وسئل عن معنى هذا الحديث-: فقال: إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة أصحابَ الحديث، فلا أدري من هم؟. قال الحاكم: وفي مثل هذا قيل: مَن أَمَّر السنة على نفسه قولًا وفعلًا نطق بالحقّ، فلقد أحسن أحمد بن حنبل في تفسير هذا الخبر أن الطائفة المنصورة التي يُرْفَع الخذلان عنهم إلى قيام الساعة هم أصحاب الحديث، ومن أحقّ بهذا التأويل من قوم، سلكوا مَحَجَّة الصالحين، واتبعوا آثار السلف من الماضين، ودَمَغُوا أهل البِدَع والمخالفين بسنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى الله عليه وعلى آله أجمعين، ومن قوم آثروا قَطْعَ المفاوز والقفار، على التنعم في الدِّمَنِ والأوطار وتَنَعَّمُوا بالبؤس في الأسفار، مع مُساكنة العلم والأخبار، وقَنِعُوا عند جمع الأحاديث والآثار، بوجود الكِسَر والأَطْمار، قد رَفَضُوا الإلحاد الذي تَتُوق إليه النفوس الشهوانية، وتوابعَ ذلك من البدع والأهواء، والمقاييسَ والآراء والزيغ، جعلوا المساجد بيوتهم، وأساطينها تُكَاهم، وبَوَاريها فُرُشهم. ثم أخرج بسنده عن عمر بن حفص بن غياث، قال: سمعت أبي، وقيل له: ألا تنظر إلى أصحاب الحديث، وما هم فيه؟ قال: هم خير أهل الدنيا. وأخرج أيضًا عن علي بن خَشْرَم يقول: سمعت أبا بكر بن عياش يقول: إني ¬

_ (¬1) حديث صحيح، أخرجه الترمذيّ (2192) ونقل عن البخاريّ، عن ابن المدينيّ قال: هم أهل الحديث، ورواه ابن ماجه، وتقدّم برقم (6).

لأرجو أن يكون أصحاب الحديث خير الناس، يقيم أحدهم ببابي، وقد كتب عني، فلو شاء أن يرجع، ويقول: حدثني أبو بكر جميع حديثه فَعَل، إلا أنهم لا يكذبون. قال الحاكم: ولقد صدقا جميعًا إن أصحاب الحديث خير الناس، وكيف لا يكونون كذلك، وقد نبذوا الدنيا بأسرها وراءهم، وجعلوا غذاؤهم الكتابة، وسَمَرَهم المعارضة، واسترواحهم المذاكرة، وخَلُوقَهم المداد، ونومهم السُّهَاد، واصطلاءهم الضياء، وتوسدهم الحصى، فالشدائد مع وجود الأسانيد العالية عندهم رخاء، ووجود الرخاء مع فقد ما طلبوه عندهم بؤس، فعقولهم بلذاذة السنة غامرة، وقلوبهم بالرضاء في الأحوال عامرة، تَعَلُّم السنن سرورهم، ومجالس العلم حُبُورهم، وأهل السنة قاطبةً إخوانهم، وأهل الإلحاد والبدع بأسرها أعداؤهم. قال الحاكم: سمعت أبا الحسين، محمد بن أحمد الحنظلي ببغداد يقول: سمعت أبا إسماعيل، محمد بن إسماعيل الترمذي يقول: كنت أنا وأحمد بن الحسن الترمذي عند أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، فقال له أحمد بن الحسن: يا أبا عبد الله، ذَكَروا لابن أبي قتيلة (¬1) بمكة أصحاب الحديث، فقال: أصحاب الحديث قوم سوء، فقام أبو عبد الله، وهو ينفض ثوبه، فقال: زنديق زنديق زنديق، ودخل البيت. قال الحاكم: سمعت أبا علي الحسين بن علي الحافظ يقول: سمعت جعفر بن محمد بن سنان الواسطي يقول: سمعت أحمد بن سنان القطان يقول: ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث، وإذا ابتدع الرجل نُزع حلاوة الحديث من قلبه. قال الحاكم: سمعت أبا نصر أحمد بن سهل الفقيه ببخارا يقول: سمعت أبا نصر أحمد بن سلام الفقيه يقول: ليس شيء أثقل على أهل الإلحاد والبدع، ولا أبغض إليهم من سماع الحديث، وروايته بإسناده. ¬

_ (¬1) قال ابن الصلاح: هو يحيى بن إبراهيم بن أبي قتيلة، بصريّ ليس بذاك، يروي عن مالك، وعبد الصمد بن محمد.

قال الحاكم: وعلى هذا عَهِدنا في أسفارنا وأوطاننا كُلَّ من يُنسَب إلى نوع من الإلحاد والبدع لا ينظر إلى الطائفة المنصورة إلا بعين الحقارة، ويسميها الْحَشْوِيَّة. قال الحاكم: سمعت الشيخ أبا بكر أحمد بن إسحاق الفقيه، وهو يناظر رجلًا، فقال الشيخ: حدثنا فلان، فقال له الرجل: دَعْنَا من حدثنا، إلى متى حدثنا؟ فقال له الشيخ: قم يا كافر، ولا يحل لك أن تدخل داري بعد هذا، ثم التفت إلينا، فقال: ما قلت قط لأحد لا تدخل داري إلا لهذا. انتهى كلام الحاكم رحمه الله تعالى (¬1). ومما كتبه الحافظ أبو بكر الخطيب في مدح أهل الحديث في كتابه "شرف أصحاب الحديث": قال: وقد جعل الله تعالى أهله -يعني أهل الحديث- أركان الشريعة، وهَدَم بهم كل بدعة شنيعة، فهم أمناء الله من خليقته، والواسطة بين النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وأمته، والمجتهدون في حفظ ملّته، أنوارهم زاهرة، وفضائلهم سائرة، وآياتهم باهرة، ومذاهبهم ظاهرة، وحُججهم قاهرة، وكلُّ فئة تتحيّز إلى هوى ترجع إليه، أو تستحسن رأيًا تعكُف عليه، سوى أصحاب الحديث، فإن الكتاب عُدّتهم، والسنّة حجتهم، والرسول فئتهم، وإليه نسبتهم، لا يعرّجون على الأهواء، ولا يلتفتون إلى الآراء، يُقبَل منهم ما رووا عن الرسول، وهم المأمونون عليه والعدول، حَفَظة الدين وخَزَنته، وأوعية العلم وحملته، إذا اختُلِف في حديث كان إليهم الرجوع، فما حكموا به فهو المقبول المسموع، ومنهم كلُّ عالم فقيه، وإمام رفيع نبيه، وزاهد في قبيلة، ومخصوص بفضيلة، وقارىء متقن، وخطيب محسن، وهم الجمهور العظيم، وسبيلهم السبيل المستقيم، وكلُّ مبتدع باعتقادهم يتظاهر، وعلى الإفصاح بغير مذاهبهم لا يتجاسر، من كادهم قصمه الله، ومن عاندهم خذله الله، لا يضرّهم من خذلهم، ولا يُفلح من اعتزلهم، المحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير، وبصر الناظر بالسوء إليهم حسير، وإن الله على نصرهم لقدير. ¬

_ (¬1) "معرفة علوم الحديث" ص 1 - 6 - 110.

ثم قال: قال عليّ بن المدينيّ في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خالفهم. . .": هم أهل الحديث، والذين يتعاهدون مذاهب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ويذبّون عن العلم، لولاهم لم تجد عند المعتزلة، والرافضة، والجهميّة شيئًا من السنن. قال الخطيب رحمه الله: وقد جعل ربّ العالمين الطائفة المنصورة حُرّاس الدين، وصَرَف عنهم كيد المعاندين؛ لتمسكهم بالشرع المتين، واقتفائهم آثار الصحابة والتابعين، فشأنهم حفظ الآئار، وقطع المفاوز والقفار، وركوب البراري والبحار في اقتباس ما شرع الرسول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، لا يعرّجون عنه إلى رأي ولا هوى، قبلوا شريعته قولًا وفعلًا، وحَرَسوا سنته حفظًا ونقلًا، حتى ثبّتوا بذلك أصلها، وكانوا أحقّ بها، وأهلها، وكم من ملحد يروم أن يخلط بالشريعة ما ليس منها، والله تعالى يذبّ بأصحاب الحديث عنها، فهم الحفّاظ لأركانها، والقوّامون بأمرها وشأنها، إذا صُدِف عن الدفاع عنها فهم دونها يناضلون، أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون. انتهى المقصود من كلام الخطيب رحمه الله تعالى (¬1). ومما كتبه العلامة الكبير الحافظ المفسّر الواعظ المشهور عبد الرحمن بن علي بن محمد المشهور بابن الجوزيّ المتوفّى سنة (597 هـ) في مدح العلم في كتابه "صيد الخاطر" قوله: تأملتُ أحوال الناس في حالة علوّ شأنهم، فرأيت أكثر الخلق تبين خسارتهم حينئذ، فمنهم من بالغ في المعاصي من الشباب، ومنهم من فرّط في اكتساب العلم، ومنهم من أكثر من الاستمتاع باللذّات، فكلهم نادم في حالة الكبر حين فوات الاستدراك لذنوب سلفت، أو قوى ضعُفت، أو فضيلة فاتت، فيُمضي زمان الكبر في حسرات، فإن كانت للشيخ إفاقة من ذنوب قد سلفت قال: وأسفاه على ما جنيت، ¬

_ (¬1) "شرف أصحاب الحديث" ص 8 - 11.

وإن لم يكن له إفاقة صار متأسّفًا على فوات ما كان يلتذّ به، فأما من أنفق عصر الشباب في العلم، فإنه في زمن الشيخوخة يَحْمَدُ جنى ما غَرَس، ويلتذّ بتصنيف ما جَمَع، ولا يرى ما يفقد من لذّات البدن شيئًا بالإضافة إلى ما يناله من لذات العلم، هذا مع وجود لذّاته في الطلب الذي كان تأمل به إدراك المطلوب، وربّما كانت تلك الأعمال أطيب مما نيل منها، كما قال الشاعر: أَهْتَزُّ عِنْدَ تَمنِّي وَصْلِهَا طَرَبًا ... وَرُبَّ أُمْنِيَّةٍ أَحْلَى مِنَ الظَّفَرِ ولقد تأمّلت نفسي بالإضافة إلى عشيرتي الذين أنفقوا أعمارهم في اكتساب الدنيا، وأنفقت زمن الصفوة والشباب في طلب العلم، فرأيتني لم يفتني مما نالوه إلا ما لو حصل لي ندِمتُ عليه، ثم تأملت حالي، فإذا عيشي في الدنيا أجود من عيشهم، وجاهي بين الناس أعلى من جاههم، وما نلته من معرفة العلم لا يقاوم، فقال لي إبليس: ونسيتَ تعبك وسهَرَك؟ فقلتُ له: أيها الجاهل تقطيع الأيدي لا وقع له عند رؤية يوسف، وما طالت طريق أدّت إلى صديق: جَزَى اللهُ الْمسِيرَ إِلَيْهِ خَيْرًا ... وَإِنْ تَرَكَ الْمطَايَا كَالْمزَادِ ولقد كنت في حلاوة طلبي العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل؛ لأجل ما أطلب وأرجو، كنت في زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة، فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى، فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذّة تحصيل العلم، فأثمر ذلك عندي أني عُرِفت بكثرة سماعي لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأحواله، وآدابه، وأحوال الصحابة، وتابعيهم، فصرت في معرفة طريقه كابن أجود (¬1). انتهى كلام ابن الجوزيّ رحمه الله تعالى (¬2). ¬

_ (¬1) هكذا النسخة، ولينظر. (¬2) "صيد الخاطر" 234 - 235.

(الفصل الثاني): في ذكر قصائد في مدح أهل الحديث: (فمنها): ما قاله السيّد المرتضى الحسينيّ رحمه الله تعالى في أماليه الشيخونيّة [من الطويل]: عَلَيْكَ بأَصْحَاب الحدِيثِ فَإنَّهُمْ ... خَيَارُ عِبَادِ الله في كُلِّ مَحْفَل وَلاَ تَعْدُوَنْ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ فَإنَّهُمْ ... نُجُومُ الهُدَى في أَعْيُنِ المُتأَمِّل جَهَابِذَةٌ شُمٌّ سَرَاةٌ فَمَنْ أَتَى ... إِلَى حَيِّهِمْ يَومًا فَبِالنُّورِ يَمْتَلِي لَقَدْ شَرَقَتْ شَمْسُ الهُدَى في وُجُوهِهِمْ ... وَقَدْرُهُمُ في النَّاسِ مَا زَالَ يَعْتَلِي فَلِلَّهِ مَحْيَاهُمْ مَعًا وَمَمَاتُهُمْ ... لَقَدْ ظَفِرُوا إِدْرَاكَ مَجْدٍ مُؤَثَّلِ وَقَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ مَقَالَةً ... غَدَتْ مِنْهُمُ فَخْرًا لِكُل مُحَصِّلِ أَرَى الْمرْءَ مِنْ أَهْلِ الحدِيثِ كَأَنَّهُ ... رَأَى الْمرْءَ مِنْ صَحْبِ النَّبِيِّ المُفَضَّلِ عَلَيْهِ صَلاَةُ اللهِ مَا ذَرَّ شَارِقٌ ... وَآلٍ لَهُ وَالصَّحْبِ أَهْلِ التَّفَضُّلِ (ومنها): ما قاله السيّد المرتضى الواسطيّ [من البسيط]: عِلْمُ الْحدِيثِ شَريفٌ لَيْسَ يُدْرِكُهُ ... إلَّا الَّذِي فَارَقَ الأَوْطَانَ مُغْتَرِبَا وَجَاهَدَ النَّفْسَ في تَحْصِيلِهِ فَغَدَا ... يَجْتَابُ بَحْرًا وَفي الأَوْطَارِ مُضْطَربَا يَلْقَى الشُّيُوخَ وَيَرْوِي عَنْهُمُ سَنَدًا ... وَحَافِظٌ مَا رَوَى عَنْهُمْ وَمَا كَتبَا ذَاكَ الَّذِي فَازَ بِالحُسْنَى وَتَمَّ لَهُ ... حَظُّ السَّعَادَةِ مَوْهُوبًا وَمُكْتَسَبَا طُوبَى لمَنْ كَانَ هَذَا الْعِلْمُ صَاحِبَهُ ... لَقَدْ نَفَى اللهُ عَنْهُ الهمَّ وَالْوَصَبَا (ومنها): ما قاله بعضهم [من البسيط]: أَصَحُّ مَا قِيلَ بَعْدَ الذِّكْرِ في الْخبَرِ ... حَدِيثُ خَيْرِ الْبَرَايَا سَيِّدِ الْبَشَر أَعْظِمْ بهِ هَادِيًا زَكَّاهُ خَالِقُهُ ... بالْعَدْلِ وَالْفَضْل وَالآيَاتِ وَالسُّوَرِ فَلَوْ تَمَسَّكَ خَلْقُ الله أَجْمَعُهُمْ ... بِلَفْظَةٍ مِنْهُ نَالُوا أَشْرَفَ الْوَطَرِ هَذَا هُوَ الْعِلْمُ وَالْبَحْرُ الَّذِي سَعِدَتْ ... غُوَّاصُهُ بِأَعَالِي جَوْهَرِ الدُّرَرِ

تُشْفَى الصُّدُورُ بِهِ حَقًّا وَخَادِمُهُ ... يَوْمَ الْوُرُودِ تَرَاهُ فَازَ بِالصَّدَرِ تُلْقِي مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَنِ أَجْنِحَةً ... لَهُ إِذَا سَارَ هَذا أَفْخَرُ الْبُشَرَ يَسْتَغْفِرُ الله حِيتَانُ الْبِحَارِ لمَنْ ... يَرْعَاهُ بِالْفَهْمِ لَوْ وَقَتًا مِنَ الْعُمُرِ الْفَضْلُ لله هَذَا نُورُ من شَرَقَتْ ... لَهُ الْبَشَائِرُ في الآفَاقِ بِالْبُشَرِ صَلَّى عَلَيْهِ إِلاهُ الْعَرْشِ مَا صَدَحَتْ ... وُرْقٌ عَلَى فَنَنِ الأَغْصَانِ وَالشَّجَرِ (ومنها): ما قاله العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعانيّ رحمه الله تعالى [من الطويل]: سَلاَمٌ عَلَى أَهْلِ الْحدِيثِ فَإنَّني ... نَشَأْتُ عَلَى حُبِّ الأَحَادِيثِ مِنَ مَهْدِي هُمُ بَذَلُوا في حِفْظِ سُنَّةِ أَحْمَدِ ... وَتَنْقِيحِهَا مِنْ جُهْدِهِمْ غَايَةَ الجُهْدِ وَأَعْنِي بِهِمْ أَسْلاَفَ أُمَّةِ أَحْمَد ... أُولَئِكَ في بَيْتِ الْقَصِيدِ هُمُ قَصدِي أُولَئِكَ أَمْثَالُ الْبُخَارِي وَمُسْلِمِ ... وَأَحْمَدَ أَهْلِ الجدِّ في الْعِلْمِ وَالجدِّ بُحُورٌ وَحَاشَاهُمْ عَنِ الجزْرِ إِنَّمَا ... لهُمْ مَدَدٌ يَأْتِي مِنَ الله بِالمدِّ رَوَوْا وَارْتَوَوْا مِنْ بَحْرِ عِلْمِ مُحَمَّدٍ ... وَلَيْسَتْ لهُمْ تِلْكَ الْمذَاهِبُ مِنْ وِرْدِ كفَاهُمْ كتَابُ اللهِ وَالسُّنّةُ الَّتِي ... كفَتْ قَبْلَهُمْ صَحْبَ الرَّسُولِ ذَوِي الْمجْدِ أَأَنْتُمُ أَهْدَى أَمْ صَحَابَةُ أَحْمَدِ ... وَأَهْلُ الْكِسَا هَيْهَاتَ مَا الشَّوْكُ كَالْوَرْدِ أُولَئِكَ أَهْدَى في الطَرِيقَةِ مِنْكُمُ ... فَهُمْ قُدْوَتِي حَتَّى أُوَسَّدَ في لحْدِي وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْمُقَلِّدِ في الهُدَى ... وَمَنْ يَقْتَدِي وَالضِّدُّ يُعْرَفُ بِالضِّدِّ فَمَنْ قَلَّدَ النُّعْمَانَ أَصْبَحَ شَارِبًا ... نَبِيذًا وَفِيهِ الْقَوْلُ لِلْبَعْض بِالحدِّ وَمَنْ يَقتَدي أَضْحَى إِمَامَ مَعَارِفٍ ... وَكَانَ أُوَيْسًا في الْعبادةِ والزهدِ فَمُقتَدِيًا في الحَقِّ كُنْ لا مُقَلِّدًا ... وَخَلِّ أَخَا التَّقْلِيدِ في الأَشْرِ بِالقدِّ (ومنها): ما قاله أبو محمد هبة الله بن الحسن الشيرازيّ رحمه الله تعالى [من الطويل أيضًا]:

عَلَيْكَ بأَصْحَاب الحدِيث فَإِنَّهمْ ... عَلَى مَنْهَج لِلدِّين مَا زَالَ مُعْلمَا وَمَا النُّورُ إلَّا في الْحدِيثِ وَأَهْلِه ... إذَا مَا دَجَى اللَيلُ الْبَهِيمُ وَأَظْلَمَا فَأَعْلَى الْبَرَايَا مَنْ إِلَى السُّنَنِ اعْتَزَى ... وَأَعْمى الْبَرَايَا مَنْ إِلَى الْبِدَعِ انْتَمَى وَمَنْ تَرَك الآثَارَ ضَلَّلَ سَعْيَهُ ... وَهَلْ يَترُكُ الآثَارَ مَن كَان مُسْلِمَا (ومنها): ما قاله أبو بكر بن أبي داود السجستاني رحمه الله [من الطويل أيضًا]: تَمَسَّكْ بِحَبْلِ اللهِ وَاتَّبِع الهُدَى ... وَلاَ تَكُ بِدْعِيًّا لعَلَك تُفْلِحُ وَلُذْ بِكِتَابِ الله وَالْسُّنَنِ الَّتِي ... أَتَت عَنْ رَسُولِ الله تَنْجُو وَتَرْبَحُ وَدَعْ عَنْكَ آرَاءَ الرِّجَالِ وَقَوْلهمْ ... فَقَوُل رَسُولِ الله أَزْكَى وَأَشْرَحُ وَلاَ تَكُ في قَوْمٍ تَلَهَّوْا بِدِينِهِمْ ... فَتَطْعَنُ في أَهْلِ الْحدِيثِ وَتجْرَحُ إِذَا مَا اعْتَقَدْتَ الدَّهْرَ يَا صَاح هَذِهِ ... فَأَنْتَ عَلى خَيْرٍ تَبِيتُ وتُصْبِحُ (ومنها): ما قاله أبو بكر حميد القرطبيّ رحمه الله تعالى [من البسيط]: نُورُ الحدِيثِ مُبِينٌ فَادْنُ وَاقْتَبِسِ ... وَاحْدُو الرِّكَابَ لَهُ نَحْو الرِّضَى النَّدُسِ وَاطْلُبْهُ بِالصِّينِ فَهْوَ الْعِلْمُ إِنْ رُفِعَتْ ... أَعْلاَمُهُ بِرُبَاهَا يَا ابْنَ أَنْدَلُسِ فَلاَ تُضِعْ في سِوَى تَقْيِيدِ شارِدِهِ ... عُمْرًا يَفُوتُكَ بَيْنَ اللَّحْظِ وَالنَّفَسِ وَخلِّ سَمْعَكَ عَنْ بَلْوَى أَخِي جَدَلٍ ... شُغْلُ اللَّبِيبِ بِهَا ضَرْبٌ مِنَ الْهوَسِ مَا إِنْ سَمَتْ بِأَبِي بَكْرٍ وَلاَ عُمَرٍ ... وَلاَ أَتَتْ عَنْ أَبِي هِرٍّ وَلاَ أَنَسِ إِلَّا هَوَى وَخُصُومَاتٍ مُلَفَّقَةً ... لَيْسَتْ بِرَطْبٍ إِذَا عُدَّتْ وَلاَ يَبَسِ فَلاَ يَغُرُّكَ مِنْ أَرْبَابِهَا هَذَرٌ ... أَجْدَى وَجِدُّكَ مِنْهَا نَغْمَةُ الْجرَسِ أَعِرْهُمُ أذَنًا صُمًّا إِذا نَطَقُوا ... وَكُنْ إِذَا سَألُوا تُعْزَى إِلَى خَرَسِ مَا الْعِلْمُ إِلَّا كتَابُ الله أَوْ أثرٌ .... يَجْلُو بِنُورِ هُدَاهُ كُلَّ مُلْتَبِسِ

نُورٌ لمُقْتَبِسٍ خَيرٌ لِمُلْتَمِسٍ ... حِمًى لمُحْتَرِسٍ نُعْمَى لمُبْتَئِسِ فَاعْكُفْ بِبَابِهِما عَلَى اطِّلاَبِهِمَا ... تَمْحُو الْعَمَى بِهِمَا عَنْ كُلِّ مُلْتَمِسِ وَرِدْ بِقَلْبِكَ عَذْبًا مِنْ حِيَاضِهِمَا ... تَغْسِلْ بِمَاءِ الهُدَى مَا فِيهِ مِنْ دَنَسِ وَاقْفُ النَّبيَّ وَأَتْبَاعَ النَّبِيِّ وَكُنْ ... مِنْ هَدْيِهِمْ أَبدًا تَدْنُوا إِلَى قَبَسِ وَالْزَمْ مَجَالِسَهُمْ وَاحْفَظْ مُجَالِسَهُمْ ... وَانْدُبْ مَدَارِسَهُمْ بِالأَرْبُع الدُّرُسِ وَاسلُكْ طَرِيقَهُمُ وَالْزَمْ فَرِيقَهُمُ ... تَكُنْ رَفِيقَهُمُ في حَضْرَةِ الْقُدُسِ تِلْكَ السَّعَادَةِ إِنْ تُلْمِمْ بِسَاحَتِها ... فَحُطَّ رَحْلَك قَدْ عْوِفيتَ مِنْ تَعَسِ وقال بعض علماء الهند في ذمّ من يشتغل بعلم الكلام والمنطق، مُعْرِضًا عن علم الحديث [من الطويل]: أَيَا عُلَمَاءَ الهنْدِ طَالَ بَقَاؤُكُمْ ... وَزَالَ بِفَضْلِ الله عَنْكُمْ بَلاَؤُكُمْ رَجَوْتُمْ بِعِلْمِ الْعَقْلِ فَوْزَ سَعَادَةٍ ... وَأَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ يَخِيبَ رَجَاؤُكُمْ فَلاَ في تَصَانِيفِ الأَثِيرِ هِدَايَةٌ ... وَلاَ في إِشَارَاتِ ابْنِ سِينَا شِفَاؤُكُمْ وَلاَ طَلَعَتْ شَمْسُ الهُدَى مِنْ مَطَالِعِ ... فَأَوْرَاقُهَا دَيْجُورُكُمْ لاَ ضِيَاؤُكُمْ وَلاَ كَانَ شَرْحُ الصَّدْرِ لِلصَّدْرِ شَارِحًا ... بَلِ ازْدَادَ مِنْهُ في الصُّدُورِ صَدَاؤُكُمْ وَبَازِغَةٌ لاَ ضَوْءَ فِيهَا إِذَا بَدَتْ ... وَأَظْلَمَ مِنْهَا كَاللَّيَالِي ذَكَاؤُكُمْ وَسُلَّمُكُمْ مِمَّا يَزِيدُ تَسَفُّلًا ... وَلَيْسَ بِهِ نَحْوَ الْعِليِّ ارْتِقَاؤُكُمْ فَمَا عِلْمُكُمْ يَوْمَ الْمعَادِ بِنَافِع ... فَيَا وَيْلَتِي مَاذَا يَكُونُ جَزَاؤُكُمْ أَخَذْتُمْ عُلُومَ الْكُفْرِ شَرْعًا كَأَنَّمَا ... فَلَاسِفَةُ الْيُونَانِ هُمْ أَنْبِيَاؤُكُمْ مَرِضْتُمْ فَزِدْتُمْ عِلَّةً فَوْقَ عِلَّةٍ ... تَدَاوَوْا بِعِلْمِ الشَّرْع فَهْوَ دَوَاؤُكُمْ صِحَاحُ حَدِيثِ المُصْطَفَى وَحِسَانُهُ ... شِفَاءٌ عَجِيبٌ فَلْيَزُلْ مِنْهُ دَاؤُكُمْ (ومنها): ما قاله العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن مسعود الإِلْبِيريّ الأندلسيّ

المتوفّى في نحو (460 هـ) (¬1) يحثّ فيها ولده المدعُوّ أبا بكر على طلب العلم الشريف، والعمل به، والزهد في الدنيا، وترك الخيلاء، وغير ذلك من الأخلاق الكريمة التي ينبغي أن يَتَخَلَّق، ويَتَحَلَّى بها طالب العلم، قال رحمه الله تعالى [من بحر الوافر]: تَفُتُ فُؤَاكَ الأَيَّامُ فَتًّا (¬2) ... وَتَنْحِتُ جِسْمَكَ السَّاعَاتُ نَحْتَا وَتَدْعُوكَ المنُونُ (¬3) دُعَاءَ صِدْقٍ ... أَلاَ يَا صَاح أَنْتَ أُرِيدُ أَنْتَا أَرَاكَ تُحِبُّ عِرْسًا ذَاتَ خِدْرٍ ... أَبَتَّ طَلاَقَهَا الأَكيَاسُ بَتَّا تَنَامُ الدَّهْرَ وَيْحكَ في غَطِيطٍ ... بِهَا حَتَى إِذَا مُتَّ انْتبَهْتَا فَكَمْ ذَا أَنْتَ مَخْدُوعٌ وَحَتَّى ... مَتَى لاَ تَرْعَوِي عَنْهَا وَحَتَّى أَبَا بَكْرٍ دَعَوْتُكَ لَوْ أَجَبْتَا ... إِلَى مَا فِيهِ حَظُّكَ لَوْ عَقَلْتَا إِلَى علمِ تَكُونُ بِهِ إِمَامًا ... مُطَاعًا إِنْ نَهَيْتَ وَإِنْ أَمْرْتَا وَيَجْلُو مَا بِعَيْنِكَ مِنْ غِشَاهَا ... وَيَهْدِيكَ الطَّرِيقَ إِذَا ضَلَلْتَا وَتَحْمِلُ مِنْهُ في نَاديكَ تَاجَا ... وَيَكْسُوكَ الجمَالُ إِذَا عَرِيتَا يَنَالُكَ نَفْعُهُ مَاَ دُمْتَ حَيًّا ... وَيَبْقَى ذِكْرُهُ لك إذ ذَهْبْتَا هُوَ الْعَضْبُ المُهَنَّدُ لَيْسَ يَنْبُو ... تُصِيبُ بِهِ مَقَاتِلَ مَنْ أَرَدْتَا وَكَنْزٌ لاَ تخَافُ عَلَيْهِ لِصًّا ... خَفِيفُ الْحمْلِ يُوجَدُ حَيْثُ كُنْتَا يَزِيدُ بِكَثْرَةِ الإِنْفَاقِ مِنْهُ ... وَيَنْقُصُ إِنْ بِهِ كَفًّا شَدَدْتَا ¬

_ (¬1) هو إبراهيم بن مسعود بن سعيد، أبو إسحاق التُّجيبيّي الإِلْبِيريّ المتوفى في نحو (460 هـ) شاعر أندلسيّ. انتهى "معجم الأعلام" ص 23. وقال العلامة ابن الأبّار في "التكملة لكتاب الصلة": كان الناظم أبو إسحاق رحمه الله تعالى من أهل العلم والعمل، شاعرًا مجيدًا، وشعره مدوّن كله في الحكم والمواعظ. (¬2) أي تكسره كسرًا. (¬3) "الْمَنُون" بفتح فضم: الموت.

فَلَوْ قد ذُقْتَ مِنْ حَلْوَاهُ طَمْعًا ... لآثَرْتَ التَعَلُّمَ وَاجْتَهَدْتَا وَلَمْ يَشْغَلْكَ عَنْهُ هَوًى مُطَاعٌ ... وَلاَ دُنْيَا بِزُخْرُفِهَا فُتِنْتَا وَلاَ أَلهاكَ عَنْهَ أَنِيقُ رَوْضٍ ... وَلاَ خِدْرٌ بِزِينَتِهَا كَلِفْتَا فَقُوتُ الرُّوحِ أَروَاحُ الْمعَانِي ... وَلَيْسَ بِأَنْ طَعِمْتَ وَلاَ شَرْبْتَا فَوَاظِبْهُ وَخُذْ بِالحدِّ فِيهِ ... فَإِنْ أَعْطَاكَهُ اللهُ انْتَفَعْتَا وَإِنْ أُعطِيتَ فِيهِ طُولَ بَاعِ ... وقَالَ النَّاسُ إِنَّكَ قَدْ عَلِمْتَا فَلاَ تَأْمَنْ سُؤَالَ الله عَنْه ... بِتَوْبيخ عَلِمْتَ فَهَلْ عَمِلْتَا فَرَأْسُ الْعِلْم تَقْوَى الله حَقًّا ... وَلَيْسَ بِأَنْ يُقَالَ لَقَدْ رَئسْتَا وَاَفْضَلُ ثَوْبِكَ الإِحْسَانُ لَكِنْ ... تُرَى ثَوْبَ الإِسَاءَةِ قَدْ لَبِسْتَا إذَا مَا لم يُفِدْكَ الْعِلْمُ خيْرًا ... فَخَيرٌ مِنْه أَنْ لَوْ قَدْ جهِلْتَا فَإِن أَلْقَاكَ فَهْمُكَ في مَهَاوٍ ... فَلَيْتَكَ ثُمَ لَيتَكَ مَا فَهِمْتَا سَتَجْنِي مِن ثِمارِ الْعَجْزِ جَهْلًا ... وَتَصغُرُ في الْعُيُونِ إِذَا كَبرْتَا وَتفْقَدُ إِن جَهِلَتَ وَأَنْتَ بَاقٍ ... وَتُوجَدُ إِنْ عَلِمْتَ وَلَوْ فُقِدْتَا وَتَذْكُرُ قَوْلَتِي لَكَ بَعْدَ حِينٍ ... إِذَا حَقًّا بِهَا يَوْمًا عَمِلْتَا وَإِنْ أَهْمَلْتَهَا وَنَبَذْتَ نُصْحًا ... وَمِلْتَ إِلَى حُطَامٍ قَدْ جَمَعْتَا فَسَوْفَ تَعَضُّ مِنْ نَدَم عَلَيْهَا ... وَمَا تُغْنِي النَّدَامَةُ إِنْ نَدِمْتَا إذَا أَبْصَرْتَ صَحْبَكَ في سَمَاءٍ ... قَدْ ارْتَفَعُوا عَلَيْكَ وَقَدْ سَفَلْتَا فَرَاجِعْهَا وَدَع عَنْكَ الهُوَيْنَا ... فَمَا بِالْبُطْىءِ تُدْرِكُ مَا طَلَبْتَا فَلاَ تختَلْ بِمالِك وَالْهَ عَنْه ... فَلَيْسَ الْمالُ إِلَّا مَا عَمِلْتَا فَلَيسَ لجِاهِلٍ في النَّاسِ مُغْنٍ ... وَلَوْ مُلْكُ الْعِرَاقِ لَهُ تَأَتَّى سَيَنْطِقُ عَنْكَ عِلْمُكَ في مَلإٍ ... وَيَكْتُبُ عَنْكَ يَوْمًا إِنْ كَتَبْتَا وَمَا يُغنِيكَ تَشْيِيدُ الْمَبانِي ... إِذَا بِالجهْلِ نَفْسَكَ قَدْ هَدَمْتَا

جَعَلْتَ الْمَالَ فَوْقَ الْعِلْمِ جَهْلًا ... لَعَمْرِي في الْقَضِيَّةِ مَا عَدَلْتَا وَبَينَهُمَا بِنَصِّ الْوَحْي بَونٌ ... سَتعْلَمُهُ إِذَا طهَ قَرَأْتَا لإِنْ رَفَعَ الْغَنيُّ لِوَاءَ مَالٍ ... لأَنْتَ لِوَاءَ عِلْمِكَ قَدْ رَفَعْتَا لإِنْ جَلَسَ الْغَنِيُّ عَلَى الْحشَايَا ... لأَنْتَ عَلَى الْكَوَاكِبِ قَدْ جَلَسْتَا وَإِن رَكِبَ الجْيَادَ مُسَوَمَّاتٍ ... لأَنْتَ مَنَاهِجَ التَّقْوَى رَكِبْتَا وَمَهْمَا افتَضَّ أَبْكَارَ الْغَوَانِي ... فَكَمْ بِكْرٍ مِن الحِكَم افْتَضَضْتَا وَلَيْسَ يَضُرُّكَ الإِقْتَارُ شَيْئًا ... إِذَا مَا أَنْتَ رَبَّكَ قَدْ عَرَفْتَا فَمَاذَا عِنْدَهُ لَكَ منْ جَمِيلٍ ... إِذَا بِفِنَاءِ طَاعَتِه أَنَخْتَا فَقَابِلْ بِالْقَبُولِ لِنُضح قَوْلِي ... فَإِنْ أَعْرَضْتَ عَنْهُ فَقَدْ خَسِرْتَا وَإِنْ رَاعَيْتَهُ قَوْلًا وَفِعْلًا ... وَتَاجَرْتَ الإِلهَ بِهِ رَبْحْتَا فَلَيسَتْ هَذِ الدُّنْيَا بِشَيْءٍ ... تَسُوءُكَ حِقْبَةً وَتَسُرُّ وَقْتَا وَغَايَتُهَا إِذَا فَكَّرْتَ فِيهَا ... كَفَيْئِكَ أَوْ كَحُلْمِكَ إِذْ حَلَمْتَا سُجِنْتَ بِهَا وَأَنْتَ لهَا مُحِبُّ ... فَكَيْفَ تُحِبُّ مَا فِيهِ سُجِنْتَا وَتُطْعِمُكَ الطَّعَامَ وَعَنْ قَرِيبٍ ... سَتَطْعَمُ مِنْكَ مَا فِيهَا طَعِمْتَا وَتعْرَى إِنْ لَبِسْتَ بِهَا ثِيَابًا ... وَتُكْسَى إِن مَلاَبِسَهَا خَلَعْتَا وَتَشْهَدُ كُلَّ يَوْم دَفْنَ خِلٍّ ... كَأَنَّكَ لاَ تُرَادُ لِمَا شَهِدْتَا وَلم تُخْلَقْ لِتَعْمُرَهَا وَلَكِن ... لتَعْبُرَهَا فَجِدَّ لِمَا خُلِقْتَا وَإِنْ هُدِمَتْ فَزِدْهَا أَنْتَ هَدْمًا ... وَحَصِّنْ أَمْرَ دِينِكَ مَا اسْتَطَعْتَا وَلاَ تَحْزَنْ عَلَى مَا فَاتَ مِنْهَا ... إِذَا مَا أَنْتَ في أُخْرَاكَ فُزْتَا فَلَيْسَ بِنَافِع مَا نِلْتَ مِنْهَا ... مِنَ الْفَانِي إِذَا الْبَاقِي حُرِمْتَا وَلاَ تَضْحَكْ مَعَ السُّفَهَاءِ يَوْمًا ... فَإِنَّكَ سَوْفَ تَبْكِي إِنْ ضَحِكْتَا وَمَنْ لَكَ بِالسُّرُورِ وَأَنْتَ رَهْنٌ ... وَمَا تَدْرِي أَتُفْدَى أَمْ غُلِلْتَا

وَسَلْ مِنْ رَبِّكَ التَّوْفِيقَ فِيهَا ... وَأَخْلِصْ في السُّؤَالِ إِذَا سَألْتَا وَنَادِ إِذَا سَجَدْتَ لَهُ اعْتِرَافًا ... بِمَا نَادَاهُ ذُو النُّونِ ابْنُ مَتَّى وَلاَزِمْ بَابَهُ قَرْعًا عَسَاهُ ... سَيَفْتَحُ بَابَهُ لَكَ إِنْ قَرَعْتَا وَأَكْثِرْ ذِكْرَهُ في الأَرْضِ دَأْبًا ... لِتُذْكَرَ في السَّمَاءِ إِذَا ذَكْرْتَا وَلاَ تَقُلِ الصِّبَا فِيهِ امْتِهَالٌ ... وَفَكِّرْ كَمْ صَغِير قَدْ دَفَنْتَا وَقُلْ يَا نَاصِحِي بَلْ أَنْتَ أَوْلَى ... بِنُصْحِكَ لَوْ لِفِعْلِكَ قَدْ نَظَرْتَا تُقَطِّعُنِي عَلَى التَّفْرِيطِ لَوْمًا ... وَبِالتَّفْرِيطِ دَهْرَكَ قَدْ قَطَعْتَا وَفي صِغَرِي تُخَوِّفُنِي الْمنَايَا ... وَمَا تَدْرِي بِحَالِكَ حَيْثُ شِخْتَا وَكُنْتَ مَعَ الصِّبَا أَهْدَى سَبِيلًا ... فَمَا لَكَ بَعْدَ شَيْبِكَ قَدْ نَكَثْتَا وَهَا أَنَا لَمْ أَخُضْ بَحْرَ الْخطَايَا ... كَمَا قَدْ خُضْتَهُ حَتَّى غَرِقْتَا وَلَمْ أَشْرَبْ حُمَيَّا أُمِّ دَفْرٍ (¬1) ... وَأنتَ شَرِبْتَهَا حَتَّى سَكِرْتَا وَلَمْ أَنْشَأْ بِعَصْرٍ فِيهِ نَفْعٌ ... وَأَنْتَ نَشَأْتَ فِيهِ وَمَا انْتَفَعْتَا وَلَمْ أَحْلُلْ بِوَادٍ فِيهِ ظُلْمٌ ... وَأَنْتَ حَلَلْتَ فِيهِ وَانْتَهَكْتَا لَقَدْ صَاحَبْتَ أَعْلامًا كبَارًا ... وَلَمْ أَرَكَ اقْتَدَيْتَ بِمَنْ صَحِبْتَا وَنَادَاكَ الْكِتَابُ فَلَمْ تُجِبْهُ ... وَنَبَّهَكَ الْمشِيبُ فَمَا انْتبَهْتَا وَيَقْبُحُ بِالْفَتَى فِعْلُ التَّصَابِي ... وَأَقْبَحُ مِنْهُ شَيْخٌ قَدْ تَفَتَّى وَنَفْسَكَ ذُمَّ لاَ تَذْمُمْ سِوَاهَا ... لِعَيْبٍ فَهْيَ أَجْدَرُ مَنْ ذَمَمْتَا وَأَنْتَ أَحَقُّ بِالتَّفْنِيدِ مِنِّي ... وَلَوْ كُنْتَ اللَّبِيبَ لمَا نَطَقْتَا وَلَوْ بَكَتِ الدِّمَا عَيْنَاكَ خَوْفًا ... لِذَنْبِكَ لَمْ أقلْ لَكَ قَدْ أَمِنْتَا وَمَنْ لَكَ بِالأَمَانِ وَأنتَ عَبْدٌ ... أُمِرْتَ فَمَا ائْتَمَرْتَ وَلاَ أَطَعْتَا ¬

_ (¬1) "الحميّا": الخمر، والدفر: النتن، ومنه قيل للدنيا: أم دفر.

ثَقُلْتَ مِنَ الذُّنُوبِ وَلَسْتَ تَخْشَى ... لجِهْلِكَ أَنْ تَخِفَّ إِذَا وُزِنْتَا وَتُشْفِقُ لِلْمُصِرِّ عَلَى الْمعَاصِي ... وَتَرْحَمُهُ وَنَفْسَكَ مَا رَحِمْتَا رَجَعْتَ الْقَهْقَرَى وَخَبَطْتَ عَشْوَى ... لَعَمْرُكَ لَوْ وَصَلْتَ لمَا رَجَعْتَا وَلَوْ وَافَيْتَ رَبَّكَ دُونَ ذَنْبٍ ... وَنُوقِشْتَ الحسَابَ إِذَنْ هَلَكْتَا وَلَمْ يَظْلِمْكَ في عَمَلٍ وَلَكِنْ ... عَسِيرٌ أَنْ تَقُومَ بَما حُمِّلْتَا وَلَوْ قَدْ جِئْتَ يَوْمَ الحشْرِ فَرْدًا ... وَأَبْصَرْتَ المنازِلَ فِيهِ شَتَّى لأَعْظَمْتَ النَّدَامَةَ فِيهِ لهفًا ... عَلَى مَا في حَيَاتِكَ قَدْ أَضَعْتَا تَفِرُّ مِنَ الْهجِيرِ وَتَتَّقِيهِ ... فَهَلَّا مِنْ جَهَنَمَ قَدْ فَرَرْتَا وَلَسْتَ تُطِيقُ أَهْوَنَهَا عَذَابًا ... وَلَوْ كُنْتَ الْحدِيدَ بِهَا لَذُبْتَا وَلاَ تُنْكِرْ فَإِنَّ الأَمْرَ جِدٌّ ... وَلَيْسَ كَمَا حَسِبْتَ وَلاَ ظَنَنْتَا أَبَا بَكْرٍ كَشَفْتَ أقَلَّ عَيْبِي ... وَأَكْثَرَهُ وَمُعْظَمَهُ سَتَرْتَا فَقُلْ مَا شِئْتَ فِيَّ مِنَ الْمخَازِي ... وَضَاعِفْهَا فَإِنَّكَ قَدْ صَدَقْتَا وَمَهْمَا عِبْتَنِي فِلِفَرْطِ عِلْمِي ... بِبَاطِنِهِ كَأَنَّكَ قَدْ مَدَحْتَا فَلاَ تَرْضَ الْمعَايِبَ فَهْوَ عَارٌ ... عَظِيمٌ يُورِثُ الْمحْبُوبَ مَقْتَا وَيَهْوِي بِالْوَجِيهِ مِنَ الثُّرَيَّا ... وَيُبْدِلُهُ مَكَانَ الْفَوْقِ تَحْتَا كَمَا الطَّاعَاتُ تُبْدِلُكَ الدَّرَارِي ... وَتَجْعَلُكَ الْقَرِيبَ وَإِنْ بَعُدْتَا وَتَنْشُرُ عَنْكَ في الدُّنْيَا جَمِيلًا ... وَتَلْقَى الْبِرَّ فِيهَا حَيْثُ شِئْتَا وَتْمْشِي في مَنَاكِبِهَا عَزِيزًا ... وَتَجْنِي الْحمْدَ فِيمَا قَدْ غَرَسْتَا وَأَنْتَ الآنَ لَمْ تُعْرَفْ بِعَيْبٍ ... وَلاَ دَنَّسْتَ ثَوْبَكَ مُذْ نَشَأْتَا وَلاَ سَابَقْتَ في مَيْدَانِ زُورٍ ... وَلاَ أَوْضَعْتَ فِيهِ وَلاَ خَبَبْتَا (¬1) ¬

_ (¬1) الخبب: نوع من العدْوِ، أي الإسراع.

فَإِن لَمْ تَنْأَ عَنْهُ نَشِبْتَ فِيهِ ... وَمَنْ لَكَ بِالْخلاَصِ إِذَا نَشِبْتَا تُدَنِّسُ مَا تَطَهَّرَ مِنْكَ حَتَّى ... كَأَنَّكَ قَبْلَ ذَلِكَ مَا طَهَرْتَا وَصِرْتَ أَسِيرَ ذَنْبِكَ في وَثَاقٍ ... وَكَيْفَ لَكَ الْفَكَاكُ وَقَدْ أُسِرْتَا فَخَفْ أَبْنَاءَ جِنْسِكَ وَاخْشَ مِنْهُمْ ... كَمَا تَخْشَ الضَّرَاغِمَ وَالسَّبَنْتَى (¬1) وَخَالِطْهُمْ وَزَائِلْهُمْ حِذَارًا ... وَكُنْ كَالسَّامِرِيِّ إِذَا لُمِسْتَا وَإِنْ جَهِلُوا عَلَيكَ فَقُلْ سَلاَمٌ ... لَعَلَّكَ سَوْفَ تَسْلَمُ إِنْ فَعْلْتَا وَمَنْ لَكَ بِالسَّلاَمَةِ في زَمَانٍ ... تَنَالُ الْعِصْمَ إِلَّا إِنْ عُصِمْتَا وَلاَ تلْبَثْ بِحَيٍّ فِيهِ ضَيْمٌ ... يُمِتُّ الْقَلْبَ إِلَّا إِنْ كُبِلْتَا وَغَرِّبْ فَالتَّغَرُّبُ فِيهِ خَيْرٌ ... وَشَرِّقْ إِنْ بِرِيقِكَ قَدْ شَرِقْتَا فَلَيْسَ الزُّهْدُ في الدُّنْيَا خُمُولًا ... لأَنْتَ بِهَا الأَمِيرُ إِذَا زَهِدْتَا وَلَوْ فَوْقَ الأَمِيرِ تَكُونُ فِيهَا ... سُمُوًّا وَارْتفَاعًا كُنْتَ أَنْتَا فَإِنْ فَارَقْتَهَا وَخَرَجْتَ مِنْهَا ... إِلَى دَارِ السَّلاَمِ فَقَدْ سَلِمْتَا وَإِنْ أَكْرَمْتَهَا وَنَظَرْتَ فِيهَا ... لإِكْرَامِ فَنَفْسَكَ قَدْ اهَنْتَا جَمَعْتُ لَكَ النَّصَائِحَ فَامْتَثِلْهَا ... حَيَاتَكَ فَهْيَ أَفْضَلُ مَا امْتَثَلْتَا وَطَوَّلْتُ الْعِتَابَ وَزِدْتُ فِيهِ ... لأَنَّكَ في الْبَطَالَةِ قَدْ أَطَلْتَا وَلاَ يَغْرُرْكَ تَقْصِيرِي وَسَهْوِي ... وَخُذْ بِوَصِيَّتِي لَكَ إِنْ رَشَدْتَا وَقَدْ أَرْدَفْتَهَا تِسْعًا حِسَانًا ... وَكَانَتْ قَبْلَ ذَا مِائَةً وِسِتَّا وَصَلِّ عَلَى تَمَامِ الرُّسْلِ رَبِّي ... وَعِتْرَيهِ الْكَرِيمَةِ مَا ذُكِرْتَا انتهت القصيدة بحمد الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. ¬

_ (¬1) "الضراغم" بالفتح: جمع ضِرْغام بالكسر، وهو الأسد، و"السبنتى" بفتح السين: الجريء والنمر، يُجمع على سَبَانِت.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. قال الجامع الفقير إلى رحمة ربه القدير: محمد ابن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الإتيوبيّ عفا الله تعالى عنه، وعن والديه آمين: انتهى الجزء الرابع: من شرح "سنن الإمام الحافظ الحجة محمد بن يزيد ابن ماجه رحمه الله تعالى المسمّى "مشارق الأنوار الوهّاجة، ومطالع الأسرار البهّاجة، في شرح سنن الإمام ابن ماجه". وذلك يوم الاثنين المبارك عصرًا قُبيل صلاة المغرب بتاريخ 20/ 6/ 1424 هـ الموافق 18 (أغسطس) 2003 م. وآخر دعوانا {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}. {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد". "السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته". ويليه الجزء الخامس مفتتحًا: بـ (2) (كِتَابُ الطَّهَارةِ، وَسُنَّتِهَا) رقم الحديث (267). أسأل الله تعالى أن يوفّقني لإكمال شرح الكتاب كلّه كما وفّقني لهذا، إنه جواد كريم رؤوف رحيم. "سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، أستغفرك، وأتوب إليك".

§1/1